• البداية
  • السابق
  • 197 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14095 / تحميل: 6225
الحجم الحجم الحجم
تاريخ القرآن

تاريخ القرآن

مؤلف:
العربية

ما كان يبدو عل محمد في ساعات الوحي على هذا النحو الخاطئ من الناحية العلمية أفحش الخطأ. فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مر به أثناءها ، بل هو ينسى هذه الفترة من حياته بعد إفاقته من نوبته نسيانا تاما ، ولا يذكر شيئاً مما صنع أو حل به خلالها ، لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام العطل. هذه أعراض الصرع كما يثبتها العلم ، ولم يكن ذلك ما يصيب النبي ٦ العربي أثناء الوحي ، بل كانت تتنبه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبها لا عهد للناس به ، يذكر بدقة ـ غاية الدقة ـ ما يتلقاه ، وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه ، ثم نزول الوحي لم يكن يقترن حتماً بالغيبوبة الحسية مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه ، بل كثيراً ما يحدث والنبي ٦ في تمام يقظته العادية »(١) .

وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نرصد في ظاهرة الوحي عملية إرسال واستقبال بوقت واحد ، إرسال بوساطة الملك المؤتمن ، واستقبال من قبل النبي ٦ المصطفى ٦ ، يتم ذلك في حالة إدراك متماسكة ، يسيطر فيها الوعي والشعور والإحساس ، كما لو كان أمراً عادياً في يقظة حقيقية ، قبل الوحي ، وأثناء الوحي ، وبعد الوحي ، مهما صاحب عملية الوحي من شدة ووطأة ومفاجئة. فالوحي حقيقة خارجية مستقلة عن كيان النبي ٦ النفسي ، ولكنها لا تغير ذلك الواقع النفسي ، بل تزيده جلاء وفطنة وذاكرة ، ويمثل فيها النبي ٦ دور المتلقي الواعي من جهة ، ودور المبلغ الأمين من جهة أخرى ، لا يقدم ولا يؤخر ، ولا يغير ولا يقترح ، ولا يفتر ولا يتكاسل.

ولقد كان ذلك بحق :

« استقبالاً من النبي ٦ لحقيقة ذاتية مستقلة ، خارجة عن كيانه وشعوره الداخلي ، وبعيدة عن كسبه أو سلوكه الفكري أو العملي »(٢) .

وليس من الضروري أن تتوافق هذه الظاهرة مع رغبات النبي ٦ الآنية ، أو تطلعاته النفسية الملحة ، فقد ينقطع عنه الوحي ، وقد يتقاطر

__________________

(١) ظ : بكري أمين ، التعبير الفني في القرآن : ١٩.

(٢) المصدر السابق ، نفس الصفحة.

٢١

عليه ، ولكنه لا يعدو الوقت المناسب في تقدير الله عز وجل ، وما تحويل القبلة إلى الكعبة ، وإبطاء الوحي في حادثة الإفك ، وفترة الوحي حيناً ، والتلبث في قصة أهل الكهف ، إلا شواهد تطبيقية على ما نقول ، وأدلة مثبتة : أن الوحي خاج عن إرادته ، ومستقل عن ذاته.

ولا شك أن النبي ٦ آمن منذ اللحظة الأولى ـ بقناعة شخصية متوازنة ـ بأن ما يوحى إليه ليس من جنس الأحلام وأضغاثها ، ولا من سنخ الرياضيات ومسالكها ، ولا من باب الأحاسيس القائمة على أساس من الذكاء والفطنة ، ولا من قبيل التخيلات المستنبطة من الحدس والفراسة ، وإنما كان بإيمان نفسي محض بأنه نبي يوحى إليه من قبل الله تعالى ، وما الروايات والإسرائيليات القائلة بشكه في الظاهرة إلا ضرب من الأخيلة التي لا يدعمها دليل.

« والحق أن وحي النبوة والرسالة يلازم اليقين من النبي ٦ والرسول بكونه من الله تعالى على ما ورد عن أئمة أهل البيت : »(١) .

ويوحي الله عز وجل لملك الوحي ، ما يوحيه الملك إلى النبي ٦ عن الله ، ويتسلم النبي ٦ الوحي ، فالوحي واحد هنا مع تقاسم المسؤولية ، وهو عام بالنسبة لكل الأنبياء ، وخاص بالنسبة لوحي القرآن ايضا ، فالملك يؤدي عن الله لمحمد ، ومحمد يتلقى ذلك الوحي من الملك ، ويؤدي ما يوحي به إليه إلى الناس ، وكان ذلك طريق الوحي القرآني فحسب ، وقد صرح به القرآن الكريم بقوله تعالى :

(وإنّهُ لتنزيلُ ربِّ العالمينَ (١٩٢)نزلَ بهِ الرّوحُ الأمينُ (١٩٣)على قلبكَ لتكونَ من المنذرينَ (١٩٤) )(٢) .

والروح الأمين هو جبرائيل ٧ بإجماع الأمة والروايات ؛ قال طبرسي ( ت : ٥٤٨ ه‍ ) : « يعني جبرائيل ٧ ، وهو أمين الله لا يغيره ، ولا يبدله لأن الله تعالى يُسمِعه جبرائيل ٧ فيحفظه ، وينزل به على الرسول

__________________

(١) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : ٢٠ / ٣٢٨.

(٢) الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٤.

٢٢

ويقرأه عليه ، فيعيه ويحفظه بقلبه ، فكأنه نزل به على قلبه »(١) .

وهذا صريح بكيفية تلقي النبي ٦ للقرآن من جبرائيل ٧ ، على قلبه تثبيتاً وحفظاً ورعاية ، والقلب أشرف الأعضاء للتدبر والتفكر إن أريد به هذا الجهاز العضلي ، وإلا فهو الإدراكات النفسية الخاصة لدى النبي ٦ المستعدة للتلقي والصيانة والاستيعاب دون ريب.

وكان ما نزل به جبرائيل ٧ بإيحاء من الله تعالى هو النص الصريح من الوحي القرآني دون زيادة أو نقصان ، بألفاظه المدونة في المصحف من ألفه إلى يائه.

ولما كان الأمر كذلك ، فقد تحدث هذا النص المحفوظ بين الدفتين عن ظاهرة الوحي بوحي القرآن وسواه ، وطرقها ، وكيفيتها ، وأقسامها. ومن الضروري حقا استعراض مختلف أنشطة الموضوع من القرآن نفسه ، مع الاستعانة باللغة حيناً ، وبالتبادر العربي العام حيناً آخر ، لأن القرآن عربي ، والتبادر علامة الحقيقة.

صرّحت الآية التالية :

(ومَا كانَ لبشرٍ أن يكلّمهُ الله إلا وحياً أو من ورآئ حجابٍ أو يرسِلَ رسولاً فيوحِيَ بإذنِهِ مَا يشاءُ إنَّهُ عليٌّ حكيمٌ (٥١) )(٢) .

بطرق الوحي الإلهي ، وحددت كيفية هذا الوحي ، ومراتب إيصاله على النحو التالي :

١ ـ الوحي ، وأصل الوحي هو : الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض ، وما جرى مجرى الإيماء والتنبيه على الشيء من غير أن يفصح به(٣) .

وقد يكون أصل الوحي في اللغة كلها الإعلام في خفاء(٤) .

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان : ٤ / ٢٠٤.

(٢) الشورى : ٥١.

(٣) قارن في ذلك بين : الراغب ، المفردات : ٥١٥ + الطبرسي ، مجمع البيان : ٥ / ٣٧.

(٤) ظ : ابن منظور ، لسان العرب : ٢٠ / ٢٥٨.

٢٣

ومؤدى التعريفات واحد فيما يبدو ، إذ الإشارة السريعة ، إعلام عن طريق الرمز ، والرمز إيماء يستفيد منه المتلقي أمراً إعلاميا قد يخفى على الآخرين.

ومن ثم قيل « للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وحي »(١) باعتبار إسرارها إليهم من قبل ملك الوحي ، واختصاصها بهم دون سائر الناس.

قال ابن الأنباري : سمي الوحي وحيا لأن الملك أسرّه على الخلق وخص به النبي ٦(٢) .

ومن هنا يبدو أن التعريف الشرعي متحدر عن الأصل اللغوي في خصوصية الإسرار والإعلام السريع ، وما يصاحب ذلك من الإشارة والرمز اللذين يخفيان على الآخرين.

وقد عبر الأستاذ محمد عبده عن ذلك بما يقارب هذا المؤدى فقال : « بأنه عرفان يجده الشخص في نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة ، أو بغير واسطة ، والأول بصوت يتمثل لسمعه ، أو بغير صوت »(٣) .

ولعل المراد بما يتلقاه النبي ٦ من العرفان اليقيني بغير صوت هو الإلقاء في الروع ، وذلك بأن ينفث الله في روع النبي ٦ ما يشاء من أمر ، أو ينفث روح القدس ما أوحي إليه بتبليغه إياه ، فيكون ذلك من الوحي بوجه من الوجوه.

وقد يؤيد هذا الملحظ ما نسب إلى النبي ٦ أنه قال : « إن روح القدس نفث في روعي »(٤) .

٢ ـ سماع كلام الله تعالى مباشرة من وراء حجاب دون معاينة أو رؤية ، لامتناع ذلك عقلاً وشرعاً ، كما كلم الله موسى بن عمران ٧ : (وكلَّمَ اللهُ موسَى تكليماً )(٥) . وكان ذلك من وراء حجاب « وهو

__________________

(١) الراغب الأصبهاني ، المفردات : ٥١٥.

(٢) ابن منظور ، لسان العرب : ٢٠ / ٢٥٨.

(٣) ظ : محمد رشيد رضا ، الوحي المحمدي : ٢٨.

(٤) ظ : الحديث في الاتقان للسيوطي : ١ / ١٢٩ + المفردات للراغب : ٥١٥.

(٥) النساء : ١٦٤.

٢٤

أن يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه إلا من يريد أن يكلمه به نحو كلامه لموسى ٧ لأنه حجب ذلك عن جميع الخلق إلا عن موسى ٧ وحده ، لأن الحجاب لا يجوز إلا على الأجسام المحدودة »(١) .

٣ ـ أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء ، كما في تبليغ جبرائيل لرسول الله ٦ في صورة معينة ، أو صور متعددة ، وحي القرآن الكريم عن الله ، من غير أن يكلم الله نبيه على النحو الذي كلم به موسى ٧.

هذه الأصناف والمراتب في الإيحاء حددتها الآية الكريمة السابقة فيما يتعلق بوحي الأنبياء : كما يبدو ، إلا أننا من متابعة هذه الظاهرة في القرآن الكريم ، لاحظنا بعض الدلالات الإيحائية لهذا التعبير قد تختلف عما تقدم ، ويمكن الإشارة إلى أهمها بما يلي :

أ ـ الإلهام ، وهو أن يلقي الله تعالى في النفس أمراً يبعث على الفصل أو الترك ، وهو نوع من الوحي ، يخص به الله من يشاء من عباده ، غير قابل للتفكير به ، أو التخطيط له مسبقاً ، ليفرق بينه وبين الحالات اللاشعورية من جهة ، والسلوك الكسبي من جهة أخرى ، كما يدل على ذلك قوله تعالى : (وأوحينَا إلى أمِّ موسَى أنْ أرضعيهِ )(٢) . وقوله تعالى : (إذ أوحينَا إلى أمّكَ مَا يوحَى (٣٨) )(٣) .

ب ـ التسخير ، وهو أن يسخر الله تعالى بعض مخلوقاته إلى عمل ما ، بهديه وإشاءته وتسخيره ، بشكل من الأشكال التي لا تستوعبها بعض مداركنا احياناً ، ويستيقنها الذين آمنوا دون أدنى شبهة ، كما يدل على هذا النوع قوله تعالى :

(وأوحَى ربُّكَ إلى النَّحْلِ أنِ اتخذِى منَ الجبالِ بيوتاً (٦٨) )(٤) .

ج ـ الرؤيا الصادقة ، وهي وحي إلهي بالنسبة للأنبياء : خاصة ،

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان : ٥ / ٣٧.

(٢) القصص : ٧.

(٣) طه : ٣٨.

(٤) النحل : ٦٨.

٢٥

يتلقون فيها الأوامر ، ويتسلمون التعليمات من السماء ، كما دل على ذلك قوله تعالى ـ فيما اقتص الله من خبر إبراهيم ٧ مع ولده ـ :

(فلمّا بلغَ معهُ السّعيَ قال يا بنيَّ إني أرى في المنام أني أذبحكَ فانظُرْ ماذا تَرَى قال يا أبَتِ افعَلْ ما تؤمَرُ ستجدني إنْ شاءَ اللهُ من الصّابرينَ (١٠٢)فلمّا أسلَمَا وتلّهُ للجبينِ (١٠٣)وناديناهُ أن يا إبراهيمُ (١٠٤)قدْ صدّقْتَ الرُّؤيَا إنّا كذلِكَ نجزي المحسنينَ (١٠٥) )(١) .

فأشارت الآيات إلى الرؤيا الصادقة في المنام ، وإلى استفادة إبراهيم ٧ وولده ٨ ، الأمر الإلهي فيها ، للدلالة على أنها وحي يستلزم العمل به ، بدليل تعقيب ذلك من قبل الله في خطاب إبراهيم ٧ بتصديق الرؤيا وجزاء المحسنين.

وقد تكون الرؤيا في جزء من هذا الملحظ تمهيدا للوحي المباشر ، وقد يعبر عنها بالصادقة أو الصالحة ، كما حصل هذا المعنى بالنسبة لرسول الله ٦ أول بدء الوحي ، كما في رواية أم المؤمنين عائشة :

« أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة ( الصالحة ) في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح »(٢) .

وقد تكون الرؤيا نوعا من الوعد الحق الذي يقطعه الله لنبيه ٧ كما هو الحال في شأن فتح مكة ، قال تعالى :

(لقدْ صَدَقَ اللهُ رسولَهُ الرُّءيَا بالحقِّ لتدخلُنَّ المسجِدَ الحرامَ إن شآءَ اللهُ ءامنينَ (١٠٦) )(٣) .

وقد دل على جميع ما تقدم مضافاً لللالات القرآنية ما يروى عنه ٦ :

« انقطع الوحي ، وبقيت المبشرات : رؤيا المؤمن ، فالإلهام ، والتسخير والمنام »(٤) .

__________________

(١) الصافات : ١٠٢ ـ ١٠٥.

(٢) البخاري ، الجامع الصحيح : ١ / ٧.

(٣) الفتح : ٢٧.

(٤) الراغب ، المفردات : ٥١٦.

٢٦

وفيه ـ إذا صح ـ تفريق بين الوحي المباشر ، وهو جبرائيل ٧ ، وبين ما أشار إليه من المبشرات التي يبدو أنها غير الوحي الذي يريده الرسول الأعظم ٦ في الحديث.

وقد يكون الوحي بملحظ آخر عاماً بين جميع الأنبياء والرسل ، وقد يكون خاصاً بالنبي ٦ ، فما كان عاماً يكون مشتركاً بينه وبين الأنبياء والمرسلين لأنه أحدهم بل سيدهم ، وما كان خاصاً ينفرد به وحده.

فالأول : كقوله تعالى : (ومَا أرْسلنَا مِن قبلِكَ من رَّسُولٍ إلا نوحِي إليهِ أنّهُ لا إلهَ إلا أنا فاعبُدُونِ (٢٥) )(١) .

ويبدو أن هذا الوحي يشتمل على جميع أقسام الوحي وكيفياته ، ولا يختص بالايحاء بمعناه الدقيق ، لأن الإيمان بالوحدانية فطرة إنسانية تحتمها طبيعة العقل السوي ، والأنبياء بعامة يتمتعون بهذه الفطرة نفسياً وعقلياً.

قال الراغب الأصبهاني ( ت : ٥٠٢ ه‍ ) : « فهذا الوحي هو عام في جميع أنواعه ، وذلك أن معرفة وحدانية الله تعالى ، ومعرفة وجوب عبادته ليست مقصورة على الوحي المختص بأولي العزم من الرسل ، بل يعرف ذلك بالعقل والإلهام كما يعرف بالسمع ، فإذن المقصود من الآية تنبيه أنه من المحال أن يكون رسول لا يعرف وحدانية الله ، ووجوب عبادته »(٢) .

والثاني : ما هو مختص بالنبي ٦ وحده ، كالأمر له في قوله تعالى : (اتَّبِعْ ما أوحِيَ إليكَ مِن رَّبِّكَ لا إلهَ إلا هُوَ (١٠٦) )(٣) .

وكأخباره عن نفسه ، محكيا بقوله تعالى :

(إنْ أتّبِعُ إلا ما يُوحَى إليّ ومَا أنا إلا نذيرٌ مُّبينٌ (٩) )(٤) وكالطلب إليه بقوله تعالى :

__________________

(١) الأنبياء : ٢٥.

(٢) الراغب ، المفردات : ٥١٦.

(٣) الأنعام : ١٠٦.

(٤) الاحقاف : ٩.

٢٧

(قُلْ إنما أنا بشرٌ مثلُكُْم يُوحَى إليّ أنما إلهكُمُ إلَهٌ واحِدٌ (١١٠) )(١) .

وفي هذا الضوء ، فإن ما يوحى به إلى النبي ٦ لا يخلو : إما أن يكون تعليمات يؤمر بإشاعة مفاهيمها بين الناس بحال من الأحوال ، وإما أن يكون كلاماً يؤمر بتدوينه ، ويثبته الله في قلبه ، ويتلوه بلسانه ، فيكون كتاباً فيما بعد ، وإلى هذا أشار الزهري بقوله :

« ما يوحي الله به إلى نبي من الأنبياء فيثبته في قلبه ، فيتكلم به ويكتبه ، وهو كلام الله. ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد ، ولا يأمر بكتابته ، ولكنه يحدث الناس به حديثا ، ويبين لهم أن الله أمره ، أن يبينه للناس ويبلغهم إياه »(٢) .

والقرآن الكريم من النوع الذي ثبت في قلب النبي ٦ وتكلم به وأمر بكتابته وتدوينه ، بعد إنزاله وحيا من قبله.

وقد أورد الزركشي عن السمرقندي ثلاثة أقوال في المنزل من القرآن :

١ ـ أنه اللفظ والمعنى ، وأن جبرائيل ٧ حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به.

٢ ـ إن جبرائيل ٧ إنما نزل بالمعاني الخاصة ، وأن النبي ٦ علم تلك المعاني ، وعبّر عنه بلغة العرب.

٣ ـ إن جبرائيل ٧ ، إنما ألقي إليه المعنى ، وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب(٣) .

والأول هو الصحيح دون ريب ، لأن جبرائيل ٧ وصف بالروح الأمين لأمانته المتناهية ، فلا يضيف ولا يغير ، ولا يبدل ولا ينسى ، ولا يخوّل ولا يتجوز ، كيف لا وهو روح القدس بقوله تعالى : (قُلْ نزَّلَهُ روحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ (١٠٢) )(٤) .

__________________

(١) الكهف : ١١٠.

(٢) السيوطي ، الاتقان : ١ / ١٢٨.

(٣) الزركشي ، البرهان : ١ / ٢٢٩ + السيوطي ، الاتقان : ١ / ١٢٦.

(٤) النحل : ١٠٢.

٢٨

والقرآن نازل من عند الله بألفاظه نفسها ، وما مهمة جبرائيل ٧ إلا تبليغ الوحي كما تسلمه ، وهو آيات الكتاب الكريم بنصوصها خالصة بدلالة قوله تعالى : (تلكَ ءاياتُ اللهِ نتلوهَا عليكَ (١٠٨) )(١) .

وقد اختار السيوطي ذلك تعبدا بلفظ القرآن إعجازاً ، فلا يقدر أحد أن يأتي بلفظ يقوم مقامه ، وإن تحت كل حرف منه معاني لا يحاط بها كثرة ، فلا يقدر أحد أن يأتي بدله بما يشتمل عليه(٢) .

وخصوصية القرآن التعبد بتلاوته لأن ألفاظه نازلة من الله تعالى فلا تدانيها خصوصية أخرى ، لأن هناك ما هو نازل من السماء كالأحاديث القدسية ، ولكنها ليست بقرآن ، فلا خصوصية للتعبد بتلاوتها. وإن أخذنا بمضامينها حرفياً ، ولكنها لم تنزل بألفاظها المخصوصة لها كما هو شأن القرآن.

والحديث النبوي نتعبد به أمراً ونهيا ، وكان النبي ٦ يرسل الحديث ويقوله ، ويتبع ذلك أهله وأصحابه ، ثم يتلو القرآن ويقرؤه ، فما اتفق يوما أن تشاكل النصان ، أو تشابه القولان ، ولو كان معنى القرآن ينقل إلى النبي ٦ وحيا ، أو وحيه ينقل إليه معنى ، والنبي ٦ يصوغه بلفظه ، ويعبر عنه بكلامه ، لاشتبه القرآن بالحديث ، والحديث بالقرآن ، من وجهة نظر بلاغية على الأقل ، بينما العكس هو الصحيح ، فالخصائص الأسلوبية في القرآن تدل عليه ، وخصائص الحديث تدل عليه ، فكل له أسلوبه المتميز ، ومنهجه الخاص حتى عرف ذلك القاصي والداني ، ممن آمن بالنبي ٦ والقرآن وممن جحدهما ، فالقرآن كلام الله ، ومحمد ٦ ينقله كما سمعه ، بلفظه الدال على معناه ، وبمعناه الذي نطق به لفظه ، لا شيء من محمد ٦ إلا النقل الأمين ، والحديث كلام محمد ٦ يتفوه به فيشرع ويحكم ، لأنه المصدر الثاني بعد القرآن للشريعة الإسلامية ، قال تعالى : (ومَا ءاتاكُمُ الرَّسوُلُ فَخُذُوُهُ ومَا نهاكُمْ عنهُ فَانتَهُوا )(٣) .

__________________

(١) آل عمران : ١٠٨.

(٢) ظ : السيوطي ، الاتقان : ١ / ١٢٨.

(٣) الحشر : ٧.

٢٩

وثمت دليل قرآني آخر في توجيه الخطاب إلى النبي ٦ بعبارة « قل » في القرآن الكريم ، وتكرارها فيه أكثر من ثلاثمائة مرة ، تصريح وأي تصريح بأن النبي ٦ : « لا دخل له في الوحي ، فلا يصوغه بلفظه ، ولا يلقيه بكلامه ، وإنما يلقى إليه الخطاب إلقاء ، فهو مخاطب لا متكلم ، حاك لما يسمعه ، لا معبر عن شيء يجول في نفسه »(١) .

لهذا كان إذا نزلت عليه آية أو سورة ، بل وجزء من آية ، يدعو كتبته لتدوينها على الفور نصاً.

* * *

ولقد بهت العرب أمام ظاهرة الوحي القرآني ، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، وأئمة البيان والفن القولي ، وتذرعوا للتشكيك فيها بمختلف الوسائل ، فأثاروا الشبهات ، وتعلقوا بالأوهام ، فوصفوا النبي ٦ بالضلال ، والقرآن من ورائهم يناديهم بقوله : (والنَّجمِ إذا هَوَى (١)ما ضلَّ صاحِبُكُم وَمَا غَوَى (٢)وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوَى (٣)إنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى (٤) )(٢) .

وتداعوا مرة أخرى إلى افتراضات متناقضة ، فقالوا : أضغاث أحلام ، وقد أيقنوا بصحوة النبي ٦ ويقظته ، وردوه إلى الكذب والاختلاق ، وهم أنفسهم وصفوه من ذي قبل بالصادق الأمين ونسبوا النبي ٦ إلى الشعر ، وقد علموا بأن النبي ٦ أبعد ما يكون عن مزاج الشاعر وأخيلته ، وما ترك في هذا المجال أثراً يركن إليه بهذه السمة ، وقد عبر القرآن عن ذلك :

(بَلْ قالوا أضغاثُ أحلامِ بل افتراهُ بَل هوَ شاعرٌ (٥) )(٣) .

وما استقامت لهم الدعوى في شيء ، ووصموه بالجنون :

(وقالُوا يأيُّها الَّذي نزّلَ عليهِ الذِّكرُ إنّكَ لمجنونٌ (٦) )(٤) .

__________________

(١) صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : ٣٠.

(٢) النجم : ١ ـ ٤.

(٣) الأنبياء : ٥.

(٤) الحجر : ٦.

٣٠

(ثمَّ تولَّوْا عنهُ وقالُوا معلّمٌ مجنونٌ (١٤) )(١) .

وقد دلت الأحداث الاستقرائية ، والسيرة الذاتية للنبي ٦ على رجاحة عقله ، واتزانه في تصرفاته ، وتأكد لهم افتراؤهم بما شاهدوه من مجريات الأمور ، وقد لبث النبي ٦ بين ظهرانيهم حقبا طويلة قبل البعثة ، فما مسكوا زلة ، ولا أدركوا غفلة ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه النكتة الدقيقة بقوله :

(فقدْ لبثتُ فيكُمْ عُمُراً من قبلِهِ أفلا تعقلونَ )(٢) .

وترددوا بقول الكهانة من بعد الجنون ، فرد افتراءهم القرآن بما أمره به : (فذكِّرْ فما أنتَ بنعمتِ ربِّكَ بكاهنٍ ولا مجنونٍ (٤٢) )(٣) .

فما كان محمد ٦ إلا بشيرا ونذيرا ، وما كان الوحي إلا ذكراً للعالمين ، فأين هو من الكهانة (ولا بقولِ كاهنٍ قليلاً ما تذكّرون َ )(٤) .

وحينما أعيتهم الحيلة ، ووقف بهم المنطق السليم ، انطلقوا إلى القول : (إنْ هذا إلا سحرٌ يؤثَرُ )(٥) شأنهم في هذا شأن من تقدمهم من الأمم مع أنبيائهم ورسائلهم ، حذو القذة بالقذة ، من الادعاءات ، قال تعالى : (كذلكَ ما أتَى الّذينَ من قبلِهِم من رّسولٍ إلا قالوا ساحرٌ أو مجنونٌ (٥٢) )(٦) وقد علموا جدياً ، أن محمداً ٦ في أصالته العقلية ، أبعد ما يكون عن السحر والشعبذة والتمويه من قبل ومن بعد.

وتمسكوا بأوهن من بيت العنكبوت ، فأشاعوا بكل غباء أن لمحمد ٦ معلماً من البشر ، وهو غلام رومي يمتهن صناعة السيوف بمكة ، فألقمهم القرآن حجراً بردهم رداً فطرياً : (لسانُ الذي يُلحدونَ إليهِ

__________________

(١) الدخان : ١٤.

(٢) يونس : ١٦.

(٣) الطور : ٢٩.

(٤) الحاقة : ٤٢.

(٥) المدثر : ٢٤.

(٦) الذاريات : ٥٢.

٣١

أعجميٌّ وهذا لسانٌ عربيٌّ مبين ٌ )(١) .

وأغلقت السبل كافة في الوجوه والألسن والأقاويل ، فرجموا بالغيب ، وتشبثوا بالطحلب ، وحسبوا وجدان الضالة : فقالوا بما حكى الله عنهم (إنْ هذا إلا أساطيرُ الأوَّلينَ )(٢) .

وتمادى بهم القول ، ففصلوا بعد الإجمال ، وأبانوا بعد الإبهام : (وقالوا أساطيرُ الأوَّلينَ اكتتبهَا فهي تملى عليهِ بُكرةً وأصيلاً (٥) )(٣) .

وهكذا تبدو الحيرة مترددة بين عدة ادعاءات وافتراءات ، هم أنفسهم يعلمون بمجانبتها للواقع المشهود ، إذ لم يؤيدها نص إستقرائي واحد في حياة محمد ٦.

ويبقى الوحي وحيا رغم كل هذا الأراجيف : (وكذلك أوحينا إليك قرءاناً عربياً لتنذرَ أمَّ القرى ومن حولها (٧) )(٤) .

ويبقى القرآن قرآناً مقترنا بظاهرة الوحي الإلهي.

__________________

(١) النحل : ١٠٣.

(٢) الأنعام : ٢٥.

(٣) الفرقان : ٥.

(٤) الشورى : ٧.

٣٢

الفصل الثاني

نزول القرآن

٣٣

٣٤

نزل القرآن بأرقى صور الوحي ، وتأريخ نزوله يمثل تأريخ القرآن في حياة النبي ٦ ، وهو تأريخ يستغرق ثلاثة وعشرين عاماً(١) .

هذه الحقبة الذهبية هي تأريخ الرسالة المحمدية في عصر صاحب الرسالة ، والعناية بها منبثقة عن عناية الوحي بصاحبها ، وبتواجده معه ، يحمله العبء حيناً ، ويلقي له بالمسؤولية حيناً آخر ، ويتناول عليه بآيات الله بين هذا وذاك.

وكان نزول القرآن مدرجاً ، وتفريقه منجماً ، مما أجمعت عليه الأمة ، وصحت به الآثار الاستقرائية ، استجابة للضرورة الملحة ، واقتضاء للحكمة الفذة في تعاقب التعليمات الإلهية ، يسرا ومرونة واستيعاباً.

والذي يهمنا في هذه المرحلة ، عطاؤها الإنساني في ضبط النص القرآني ، ودقة أصوله ووصوله من ينابيعه الأولى ، وهو موضوع البحث.

يكاد أن يتوافر لنا اقتناع نطمئن إليه بأن أوائل سورة العلق : هو أول ما نزل من القرآن.

ومنشأ هذا الاقتناع تأريخي وعقلي ، أما التأريخي فمصدره إجماع

__________________

(١) هنالك عدة أقوال في مدة نزول القرآن ؛ فقيل : عشرون ، أو ثلاث وعشرون ، أو خمس وعشرون سنة. وهو مبني على الخلاف في مدة إقامته ٦ بمكة بعد النبوة ؛ فقيل عشر سنوات ، وقيل ثلاث عشرة ، وقيل خمس عشرة سنة. ولم يختلف في مدة إقامته بالمدينة إنها عشر. ( ظ : الزركشي : ١ / ٢٣٢ ) فإذا علمنا أنه ٦ أوحي إليه وهو ابن أربعين سنة ، وتوفي وعمره ثلاث وستون سنة ، ترجح أن تكون مدة الوحي ثلاثة وعشرين عاماً.

٣٥

المفسرين تقريباً ، ورواة الأثر ، وأساطين علوم القرآن(١) .

وأما العقلي ، فالقرآن أنزل على أمي لا عهد له بالقراءة ، ليبلغه إلى أميين لا عهد لهم بالتعلم ، فكان أول طوق يجب أن يكسر ، وأول حاجز يجب أن يتجاوز. هو الجمود الفكري ، والتقوقع على الأوهام ، وما سبيل ذلك إلا الافتتاح بما يتناسب مع هذه الثورة ، وقد كان ذلك بداية للرسالة بهذه الآيات (بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسمِ ربِّكَ الذي خَلَقَ (١)خلقَ الإنسانَ من علقٍ (٢)اقرأ وربُّكَ الأكرمُ (٣)الّذي عَلَّمَ بالقلمِ (٤)عَلَّمَ الإنسانَ مَا لم يعلمْ (٥) )(٢) .

إنها الدعوة الفطرية إلى العلم والإيمان بوقت واحد ، والبداية الطبيعة لملهم هذا العلم ، ورائد وسيلة التعلم ، فهو إرهاص بإيمان سيشع ، وإشعار بإفاضات ستنتشر ، مصدرها الخالق ، وأداتها القلم ، لارتياد المجهول ، واكتشاف المكنون ، والقرآن كتاب هداية وعلم.

فلا ضير أن تكون أوائل العلق أول ما نزل ، وسياقها القرآني لا يمنع من نزولها دفعة واحدة ، لا سيما إذا وجدنا نصاً في أثر ، أو رواية من ثقة.

وأما ما حكاه ابن النقيب في مقدمة تفسيره ، وأخرجه الواحدي عن عكرمة والحسن ، والضحاك عن ابن عباس : من أن أول ما نزل من القرآن ( بسم الله الرحمن الرحيم )(٣) فلا ريب فيه ، ولا غبار عليه : « فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها ، فهي أول آية نزلت على الإطلاق »(٤) .

وبدأت مسيرة الوحي تلقي بثقلها على عاتق الرسول الأعظم ٦ وفتح محمد ٦ للنداء السماوي ، (إنّا سنلقِي عليكَ قولاً ثقيلاً (٥) )(٥) ذراعاً وقلباً وتأريخاً. وهذا القول ثقيل بمبناه ومعناه ، فهبوطه من سماء العزة ، وساحة الكبرياء والعظمة يوحي بثقله في الميزان ، وتسييره للحياة العامة بشؤونها

__________________

(١) ظ : البخاري ، الصحيح : ١ / ٥ + الباقلاني ، نكت الانتصار : ٨٨ + الطبرسي ، مجمع البيان : ٥ / ٥١٤ + الزركشي ، البرهان : ١ / ٢٠٦ + السيوطي ، الاتقان : ١ / ٦٨ وما بعدها.

(٢) العلق : ١ ـ ٥.

(٣) السيوطي ، الاتقان : ١ / ٧١.

(٤) المصدر نفسه : ١ / ٧١.

(٥) المزمل : ٥.

٣٦

المتعددة يوحي بكونه عبئا ثقيلا في التشريع والتنفيذ وإدارة الكون والعالم.

إن تلقي النبي ٦ لهذا القول يعني النهوض بما تتطلبه الرسالة من جهد وعناء وصبر ، ونهوضه بذلك يعني تحمله لهذا الثقل في الإلقاء والإنزال والتبليغ والإعداد.

ونزل القرآن منجماً : الآية والآيتين والثلاث والأربع ، وورد نزول الآيات خمساً وعشراً وأكثر من ذلك وأقل ، كما صح نزول سور كاملة(١) .

ونزل القرآن في شهر رمضان المبارك : (شهرُ رمضانَ الذي أنزلَ فيه القرءانُ (١٨٥) )(٢) وفي ليلة مباركة فيه (إنّا أنزلناهُ في ليلةٍ مباركةٍ )(٣) وحملت الليلة المباركة على ليلة القدر : (إنّا أنزلناهُ في ليلةٍ القدرِ (١) )(٤) هكذا صرح القرآن.

واختلف في هذا الإنزال كلا أو جزءاً ، جملة أو نجوماً ، دفعة أو دفعات ، إلى السماء الدنيا تارة ، وعلى قلب النبي ٦ تارة أخرى(٥) .

وأورد الطبرسي جملة الأقوال في ذلك :

أ ـ إن الله أنزل جميع القرآن في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ، ثم أنزل على النبي ٦ بعد ذلك نجوما. وهو رأي ابن عباس.

ب ـ إنه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر ، ثم نزل بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة ، « وبه قال الشعبي »(٦) .

__________________

(١) ظ : السيوطي ، الاتقان : ١ / ١٢٤ وما بعدها.

(٢) البقرة : ١٨٥.

(٣) الدخان : ٣.

(٤) القدر : ١.

(٥) ظ : تفصيل هذه الآراء والروايات الكثيفة في : أبو شامه ، المرشد الوجيز : ١١ وما بعدها + الزركشي ، البرهان : ١ / ٢٣٠ وما بعدها + السيوطي ، الاتقان : ١ / ١١٨ + البيهقي ، الأسماء والصفات : ٢٣٦.

(٦) ظ : السيوطي ، الاتقان ١ / ١١٨.

٣٧

ج ـ إنه كان ينزل إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ما يحتاج إليه في تلك السنة جملة واحدة ، ثم ينزل على مواقع النجوم إرسالا في الشهور والأيام. وهو رأي إبن عباس(١) .

إلا أن ظاهر الآيات : أنزل القرآن جملة ، ويؤيده التعبير بالإنزال الظاهر في اعتبار الدفعة ، دون التنزيل الظاهر في التدرج ، فمدلول الآيات أن للقرآن نزولاً جملياً على النبي ٦ غير نزوله التدريجي الذي تم في ثلاث وعشرين سنة(٢) .

لقد أكد هذا المعنى من ذي قبل إبن عباس بقوله : « إنه أنزل في رمضان ، وفي ليلة القدر ، وفي ليلة مباركة ، جملة واحدة ، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام »(٣) .

ومهما يكن من أمر ، فلا ريب بنزوله مفرقاً أو منجماً ، ليثبت إعجازه في كل اللحظات ، ولينضح بتعليماته بشتى الظروف ، في حين يعترض فيه الكفرة على هذا النزول : (وقالَ الذينَ كفرُوا لولا نُزّلَ عليه القرءانُ جملةً واحدةً كذلك لنثبِّتَ به فؤادكَ ورتَّلناهُ ترتيلاً (٣٢) )(٤) .

ولكن الرد كان حاسماً ، لأن الوحي إذا تجدد في كل حادثة ، كان اقوى للعزم ، وأثبت للفؤاد ، وأدعى للحفظ والاستظهار ، وأشد عناية بالمرسل إليه فلا يغيب عنه إلا ويهبط عليه ، ولا يودعه حتى يستقبله ، وذلك يستلزم كثرة نزول الملك عليه وتجديد العهد به ، وبما معه من الرسالة ، وهو مضافاً إلى العطاء الروحي ، ذو عطاء نفسي تهذيبي بالنسبة للنبي ٦ « ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة نزول جبرئيل ٧ عليه فيه »(٥) .

__________________

(١) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : ١ / ٢٧٦.

(٢) ظ : الطباطبائي ، الميزان : ٢٠ / ٣٣٠.

(٣) البيهقي ، كتاب الأسماء والصفات : ٢٣٦.

(٤) الفرقان : ٣٢.

(٥) ظ : أبو شامة ، المرشد الوجيز : ٢٨.

٣٨

وناهيك في أسرار تعدد النزول حكمة ويقيناً واستمراراً لجدة القرآن ، وحضوره في زخمة الأحداث ، وتجدد الوقائع ، وطبيعة الرسالة المتدرجة في تعاليمها من الأسهل إلى السهل ، ومن السهل إلى الصعب ، ومن الكليات العامة إلى التفصيلات الجزئية.

والوحي ينظر إلى الناس باعتبارهم الهدف الرئيسي من تنزيل القرآن ، قصد هدايتهم ، ورجاء إثابتهم إلى الحق ، فاهتم بهذا العنصر في سبب النزول مفرقاً ، وصرح بذلك سبحانه وتعالى :

(وقرءاناً فرقناهُ لتقرأهُ على النّاسِ على مُكْثٍ ونزَّلناهُ تنزيلاً (١٠٦) )(١) .

١ ـ وقد أفاض القدامى من العلماء والمفسرين في أسرار التنجيم في النزول ، استفادوا قسما منها من القرآن ، واجتهدوا في القسم الآخر ، فمن الأول تيسير حفظ القرآن ، وتثبيت فؤاد النبي ٦ ، ومعرفة الناسخ من المنسوخ ، والإجابة عن أسئلة السائلين(٢) .

ومن الثاني كون القرآن أنزل وهو غير مكتوب على نبي أمي ، كما حكي ذلك عن أبي بكر بن فورك ( ت : ٤٠٦ ه‍ )(٣) .

وقد لاحظ باحث معاصر أن القدامى قد أدركوا حكمتين في ذلك هما : تجاوب الوحي مع الرسول ٦ ، وتجاوبه مع المؤمنين(٤) .

٢ ـ وإذا كان ما فهمه القدامى ـ كما يدعى ـ يقف عند هذا الحد ، فلا ينبغي عند الباحثين المحدثين أن يقف عند حدود معينة ، وعليهم الإمعان والإيغال في الاستنتاج. وإن كان كل ما تقدم هو الصحيح ، ولكن لا مانع أن يضاف إليه بأن القرآن الكريم ـ كما يبدو من منهجيته الاستقرائية ـ يريد كتابة التأريخ الإنساني ، بكل ما في هذا التأريخ من مفارقات وأحداث ونوازع وتطورات ، والتأريخ إنما يكتب في جزئياته ، ومن ضم

__________________

(١) الإسراء : ١٠٦.

(٢) ظ : السيوطي ، الاتقان : ١ / ٨٥ ـ ١٢١ + أبو شامة : ٢٨.

(٣) ظ : الزركشي : ١ / ٢٣١.

(٤) ظ : صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : ٥٢.

٣٩

هذه الجزئيات بعضها لبعض يتكون التأريخ بمظاهره الماضية وتطلعاته الحالية ، لإنارة المستقبل وإضاءة درب السالكين ، والتأريخ لا يتألف جملة واحدة ، وإنما ينجم موضوعات وصورا ومشاهد ، ومن مجموعها يتشكل الأثر البارز لسمة من السمات ، والقرآن إنما يعني بتأريخ الأمم والإيمان ، والشعوب والهداية ، فهما رمزان متلازمان ، تنحصر عليه ذكر أحدهما بالآخر ، حصراً عضوياً ترى فيه الكون وقضية التوحيد يشكلان خطوطاً رئيسية تنبثق منها حيثيات فرعية في النبوة والرسالة وعوالم الحياة.

٣ ـ والرسالة المحمدية إحدى سنن الكون البنائية ، وكما تقتضي سنن الكون التدرج ، فهي تقتضي التدرج كما اقتضتها ابتداء بخلق السماوات والأرض والأفلاك وما فيهن وما بينهن ، وانتهاء بخلق الإنسان وحياته وأطواره ونشوئه ومماته وتلاشيه وإعادته حيا ، وإثابته أو عقابه.

والسنن الطبيعية في الحياة تلتقي بالسنن الروحية في القرآن ، فمصدرهما واحد ، وهو تلك القوة الخلاقة المبدعة المدبرة ، وهي كما تستطيع أن تحكم الأمر فجأة كلمح البصر (وما أمرنا إلا واحدةٌ كلمحِ البصرِ (٥٠) )(١) فهي كذلك تستمهل وتتدرج وفقاً لمصالح الكون ، وتنظيما لشؤون الحياة ، وكان التدرج في نزول القرآن من هذا الباب.

٤ ـ وما التدرج في نزول القرآن ، إلا دليل من أدلة إعجازه البيانية ، فما نزل منه لم يكن بادئ الأمر إلا سورا قصيرة وآيات متناثرة تناثر النجوم ، وهو بهذا القدر الضئيل ينادي بالتحدي ، فدل على إعجازه في ذاته مع محاولة تقليده ومضاهاته ، سواء أكان جزءاً أم كلا. فقليله معجز ، وكثيره معجز ، ولقد وقع هذا التحدي في مكة على هذا القليل فما نالوه ، ووقع في المدينة وهو متكامل بنفس المنظور ، وبناء على هذا التأسيس فقد كان التدرج في النزول مصاحبا لعملية الإعجاز ، ودليلاً من أدلتها الناطقة ، وهو بعد مشعل هداية في السعي والعمل والمثابرة.

__________________

(١) القمر : ٥٠.

٤٠