• البداية
  • السابق
  • 197 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 14112 / تحميل: 6236
الحجم الحجم الحجم
تاريخ القرآن

تاريخ القرآن

مؤلف:
العربية

في الأميينَ رسولاً (٢) )(١) .

قال الصادق : « كانوا يكتبون ، ولكن لم يكن معهم كتاب من عند الله ولا بُعث إليهم رسول فنسبهم الله إلى الأميين »(٢) .

ومهما يكن من أمر فأمية من أسلم ، وقلة الكتبة ، وتضاؤل وسائل الكتابة ، لم تكن موانع تحول دون تدوين القرآن.

فلقد اتخذ النبي ٦ عددا من الكتاب للقرآن الكريم في كل من مكة والمدينة في طليعتهم الخلفاء الأربعة ، وزيد ، وأبي(٣) .

قال القاضي أبو بكر الباقلاني : « وما على جديد الأرض أجهل ممن يظن بالنبي ٦ أنه أهمل في القرآن أو ضيعه ، مع أن له كتاباً أفاضل معروفين بالانتصاب لذلك من المهاجرين والأنصار ، فممن كتب له من قريش من المهاجرين : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وزيد بن أرقم ، وخالد بن سعيد ، وذكر أهل التفسير أنه كان يملي على خالد بن سعيد ثم يأمره بطي ما كتب وختمه.. ومنهم الزبير بن العوام ، وحنظلة ، وخالد بن أسد ، وجهم بن الصلت ، وغير هؤلاء »(٤) .

ولا شك أن الكتابة كانت تخضع للإشراف المباشر من قبل رسول الله ٦ بالذات ، ليكون النص مطابقاً للوحي ، كما مر في حديث خالد بن سعيد ، وكما روى زيد بن ثابت : « كنت أكتب الوحي عند رسول الله ٦ وهو يملي عليّ ، فإذا فرغت ، قال : إقرأه ، فأقرأه ، فإن كان فيه سقط أقامه ، ثم أخرج به إلى الناس »(٥) .

ولقد كان العرب في جاهليتهم يهتمون اهتماما كبيرا في تقييد المأثور الديني ، ففي حديث سويد بن الصامت :

__________________

(١) الجمعة : ٢.

(٢) ظ : الطباطبائي ، الميزان : وانظر مصدره.

(٣) ظ : الجهشياري ، الوزراء والكتاب : ١٤.

(٤) الباقلاني ، نكت الانتصار : ١٠٠.

(٥) الصولي ، أدب الكتاب : ١٦٥.

٨١

أنه قال لرسول الله ٦ لعل الذي معك مثل الذي معي ، فقال : وما الذي معك ؟ قال سويد : مجلة لقمان ، فقال رسول الله ٦ إعرضها عليّ فعرضها عليه ، فقال له : إن هذا الكلام حسن ، والذي معي أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله تعالى ، هو هدى ونور(١) .

وإذا كان اهتمام العرب في الجاهلية ، بمثل هذا المستوى من الجمع والتدوين للموروث الثقافي أو الديني ، فكيف يكون اهتمامها بالقرآن الكريم ، والنبي ٦ بين ظهرانيهم يدعوهم إلى حفظه ومدارسته والقيام به. لكأنني بالآية حينما يتلوها الرسول الأعظم تتلاقفها الصدور لتدونها في السطور ، ولقد كان من سيرته متى ما أسلم أحد من العرب دفعه إلى الذين معه ، فعلموه القرآن. وإذا هاجر له أحد من أصحابه أوكله إلى من يعلمه القرآن : « فكان الرجل إذا هاجر دفعه النبي ٦ إلى رجل من الصحابة يعلمه القرآن ، وكان يسمع لمسجد رسول الله ٦ ضجة بتلاوة القرآن ، حتى أمرهم رسول الله ٦ أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا »(٢) .

إذن ، كيف كان يتم تعليم القرآن ؟ وكيف كانت تلاوته ؟ لا أشك أن ذلك كان في مدون ما ، ولا يمنع ذلك من الحفظ في الصدور.

يقول محمد عبد الله دراز : « إن النص المنزل لم يقتصر على كونه ( قرآناً ) أو مجموعة من الآيات تتلى أو تقرأ ، وتحفظ في الصدور ، وإنما كان أيضا ( كتاباً ) مدوناً بأعداد. فهاتان الصورتان تتضافران وتصحح كل منهما الأخرى. ولهذا كان الرسول كلما جاءه الوحي وتلاه على الحاضرين أملاه من فوره على كتبة الوحي »(٣) .

ومما يدل على تدوينه وكتابته مجموعاً في عهد رسول الله ٦ ـ مضافاً إلى ما سبق بيانه ـ ما يلي :

١ ـ كان ٦ إذا نزلت عليه الآية من السورة دعا من يكتب له فيقول : ضعها في موضع كذا وكذا من السورة. وهذا من أوضح الأدلة على أن

__________________

(١) ظ : ابن هشام ، السيرة النبوية : ٢ / ٦٨ + الزمخشري ، الفائق : ١ / ٢٠٦.

(٢) الزرقاني ، مناهل العرفان : ١ / ٢٣٤.

(٣) محمد عبد الله دراز ، مدخل إلى القرآن : الكريم : ٣٤.

٨٢

هذا الترتيب الذي رتبه الله عليه. ولأجله كان ٦ يدلهم على موضع السور من القرآن ، والآية من السورة ، ليكتب ويحفظ على نظمه وترتيبه(١) .

٢ ـ لقد ورد لفظ الكتاب في القرآن والسنة النبوية القطعية الصدور ، للدلالة على ماله كيان جمعي محفوظ ، والإشارة بل التصريح في ذلك الكتاب إلى القرآن الكريم ، فقد استعمل لفظ الكتاب في القرآن بهذا الملحظ في أكثر من مائة موضع ، ونضرب لذلك بعض النماذج :

أ ـ (ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيهِ هدىً للمتقينَ (٢) ) ـ البقرة / ٢.

ب ـ (نزَّلَ عليكَ الكتابَ بالحقِّ (٣) ) ـ آل عمران / ٣.

ج ـ (هوَ الذي أنزلَ عليكَ الكتابَ ) ـ آل عمران / ٧.

د ـ (إنّا أنزلنا إليكَ الكتابَ بالحقِّ ) ـ النساء / ١٠٥.

ه‍ ـ (وأنزلنا إليكَ الكتابَ بالحقِّ (١٠٥) ) ـ المائدة / ٤٨.

و ـ (وهذا كتابٌ أنزلناهُ مباركٌ (٩٢) ) ـ الأنعام / ٩٢.

ز ـ (كتابٌ أنزِلَ إليكَ (٢) ) ـ الأعراف / ٢.

ح ـ (الر تلكَ آياتُ أحكمَتْ ءاياتُهُ (١) ) ـ يونس / ١.

ط ـ (الر كتابٌ أحكمَتْ ءاياتُهُ ) ـ هود / ١.

ي ـ (الر كتابٌ أنزلناهُ إليك َ (١) ) إبراهيم / ١.

أفلا يدل هذا الحشد الهائل إلى أن القرآن كان كتاباً مجموعاً يشار إليه. ومما يعضده ما ورد في السنة الشريفة من التصريح بالكتاب في عدة مواضع أبرزها :

أ ـ قوله ٦ : « إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله

__________________

(١) مقدمتان في علوم القرآن : ٤١.

٨٣

وعترتي أهل بيتي »(١) .

ب ـ قوله ٦ : « إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي »(٢) .

فهل يعني استخلاف الكتاب أن يترك بين عسب ورقاع وألواح تارة ، أو بين أقتاب وأكتاف ولخاف تارة أخرى ، أم أن استخلافه له ينبغي أن يكون مجموعاً منظماً صالحا لمعنى الخلافة.

٣ ـ مما لا شك فيه أن الاسم البارز والأمثل لسورة الحمد هو ( فاتحة الكتاب ) ، ولو لم يكن القرآن مدوناً من قبل رسول الله ٦ بوحي من جبرئيل ٧ : « لما كان لتسميته هذه السورة فاتحة الكتاب معنى ، إذ قد ثبت بالإجماع أن هذه السورة ليست بفاتحة سور القرآن نزولاً ، فثبت أنها فاتحته نظما وترتيباً وتكلماً »(٣) .

٤ ـ قد يقال بأن جمع القرآن في عهد النبي ٦ هو حفظه في الصدور ، وهذا وإن كان دعوى لا دليل عليها ، فإن من أبسط لوازمها أن الحفظ في الصدور مما يستدعي توافر النص بين الأيدي وتداوله للمعارضة بين ما يحفظ وبين ما هو مثبت ، ولا دليل أنهم كانوا يحفظونه مباشرة عند تلاوة النبي ٦ له ، إذ هذه الميزة من مميزات الرسول الأعظم فبمعارضة جبرئيل ٧ له يحفظ النص القرآني ويستظهره وبتعهد من الله له كما دل على ذلك قوله تعالى :

(لا تحرِّكْ بِهِ لسانكَ لتجعلَ بِهِ (١٦)إنَّ علينَا جمعَهُ وقرءانَهُ (١٧) )(٤) .

والكثرة الكاثرة كانت تحفظ القرآن بمدارسته وتكرار تلاوته ، وأقل ما في ذلك أن تقارن الحفظ والإستظهار بما لديها من نصوص قرآنية ، وهذا هو المتعين من قبل المسلمين نظراً لورعهم واحتياطهم من جهة ، وتعبيراً

__________________

(١) ابن الأثير ، جامع الأصول : ١ / ١٨٧.

(٢) الطوسي ، التبيان : ١ / ٣.

(٣) مقدمتان في علوم القرآن : ٤١ وما بعدها.

(٤) القيامة : ١٦ ـ ١٧.

٨٤

عن شغفهم بالقرآن وحبهم لمتابعته من جهة أخرى ، فقد يظهر من كثير من الروايات كونهم يتحلقون لتلاوته ليلاً ، فقد رفع إليه :

« إني لأعرف أصوات الرفقة الأشعريين بالليل حين يدخلون وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار »(١) .

٥ ـ « ومن المعلوم الذي لا خفاء به أن النبي ٦ قد كان يؤم أصحابه في الصلوات الخمس لا يخل بذلك في سفر ولا حضر ، فقرأ في الركعتين من كل صلاة بسورة مع فاتحة الكتاب ، ويسمعهم ذلك في الغداة والعشي. فماذا كان يسمعهم ليت شعري ، إن كانت آيات القرآن متفرقة ولم تنظم السور حتى أنها نظمت في أيام أبي بكر وعثمان ، فبماذا كان يقرع العرب حيث يقول الله تعالى : (فأتوا بعشرِ سورٍ مثلِهِ مفترياتٍ )(٢) . وذلك مما نزل بمكة ، ثم قال تعالى : (فأتوا بسورةٍ من مثلِهِ )(٣) . ونزل ذلك بالمدينة ، ولو كان على ما خيلوا لم يكن العباس ابن عبد المطلب يهرب يوم حنين حيث انهزم القول فيقول : يا أصحاب سورة البقرة ، وسورة آل عمران ، هذا رسول الله ٦. يستدعيهم بذلك إليه »(٤) .

٦ ـ أورد ابن حجر ما أخرجه أحمد وأبو داود عن أوس بن أبي أوس ، وكان في الوفد الذين أسلموا على يد رسول الله ٦ قال : فسألنا أصحاب رسول الله ٦ قلنا : كيف تحزبون القرآن ؟ قالوا : نُحزّبه ثلاث سور ، وخمس سور ، وسبع سور ، وتسع سور ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل من ( ق ) حتى نختم ( يعني القرآن ).

قال ابن حجر : ( فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الآن كان على عهد رسول الله ٦ )(٥) .

__________________

(١) الزرقاني ، مناهل العرفان : ١ / ٣١٣.

(٢) هود : ١٣.

(٣) البقرة : ٢٣.

(٤) مقدمتان في علوم القرآن : ٢٧.

(٥) ابن حجر ، فتح الباري : ٩ / ٤٢.

٨٥

٧ ـ أورد السيوطي في مسألة القراءة في المصحف أفضل من القراءة من حفظه ، لأن النظر في المصحف عبادة مطلوبة ، أورد عدة روايات مرفوعة إلى النبي ٦ فيها ذكر المصحف ، مما يعني أن لفظ « المصحف » المجموع فيه القرآن ، كان شائعاً ومعروفاً ، وذا دلالة معينة منذ عهد النبي ٦ ، فما رفع إليه على سبيل المثال(١) :

أ ـ ما أخرجه الطبراني ، والبيهقي في الشعب من حديث أوس الثقفي مرفوعاً :

« قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة ، وقراءته في المصحف تضاعف ألفي درجة ».

ب ـ ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود مرفوعاً : « من سره أن يحب الله ورسوله ، فليقرأ في المصحف ».

ج ـ وأخرج بسند حسن مرفوعاً : « أديموا النظر في المصحف ».

د ـ وأخرج غير السيوطي ، عن أبي هريرة ، أن النبي ٦ قال : الغرباء في الدنيا أربعة ، وعد منها مصحفاً لا يقرأ فيه(٢) .

ه‍ ـ وروى ابن ماجة ، وغيره ، عن أنس مرفوعاً : « سبع يجري للعبد أجرهن بعد موته ، وهو في قبره ، وعدّ منهن : من ورث مصحفاً »(٣) .

و ـ وعن ابن عمر ، قال نهى رسول الله ٦ أن يسافر بالمصاحف إلى أرض العدو ، مخافة أن ينالوها ، وفي لفظ آخر : نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو(٤) .

فهذه الأحاديث وأمثالها ـ إن صحت ـ دليل صريح على وجود جمعي وكيان تأليفي للقرآن في مصحف ، بل في المصحف نفسه.

__________________

(١) الأحاديث أ ، ب ، ج ، في السيوطي : الاتقان : ١ / ٣٤ وما بعدها.

(٢) المناوي ، فيض القدير.

(٣) ظ : السيوطي ، الاتقان : ٤ / ١٦٦.

(٤) ابن أبي داود ، كتاب المصاحف : ١٨٠ ـ ١٨١.

٨٦

والزركشي مع قوله : إن القرآن كان على هذا التأليف والجمع في زمن النبي ٦ إلا أنه يعقب عليه بقوله : وإنما ترك جمعه في مصحف واحد ، لأن النسخ كان يرد على بعض ، فلو جمعه ثم رفعت تلاوة بعض ، لأدى إلى الاختلاف ، واختلاط الدين »(١) .

فيرده التصريح بالجمع فيما تقدم من روايات وأدلة وإمارات يقطع العقل بصحتها ، والتحقيق العلمي يقتضي أن يكون القرآن كله قد كتب وجمع في عهد النبي ٦ كما يرى ذلك إبن حجر(٢) .

أما تعليله عدم جمع القرآن في مصحف بنسخ التلاوة ، فمعارض ومطروح بمناقشة المسألة أصلاً وموضوعا ، إذ لا نسخ تلاوة في الكتاب الكريم ، والقول بنسخ التلاوة هو عين القول بالتحريف ، ولا تحريف بالكتاب إجماعاً ، فالآية حينما تنزل فهي قرآن سواء نسخت أو لم تنسخ ، ورفعها من القرآن يعني ما هو قرآن.

وعلى فرض وجود النسخ المدعى ، فالإشكال نفسه يرد بالنسبة للحفظ والاستظهار ، فحفاظ القرآن أكثر من أن يحصوا ، فإذا نزل الناسخ للتلاوة وقع ذات الإشكال ، وصعب إزالة ما هو محفوظ في الصدور ، بينما لو ثبت كتابة ، لكان الرفع والإزالة أيسر ذلك بالإشارة إلى مواضعها وهو أبرم للأمر كما هو ظاهر.

وفي ضوء ما تقدم ، لا نميل إلى الرأي القائل بأن القرآن لم يجمع في مصحف واحد ، لئلا يرد الناسخ فيؤدي إلى الاختلاف.

* * *

والذي يلفت النظر حقا من جراء الإعتقاد أوالتصور بأن أبا بكر (رض) قد جمع القرآن في مصحف ، هو مصير هذا القرآن المجموع ، فليس بين أيدينا رواية واحدة تتحدث عن هذا القرآن بأنه قد جمع للمسلمين ، أو

__________________

(١) الزركشي ، البرهان : ١ / ٢٣٥.

(٢) ابن حجر ، فتح الباري : ٩ / ١٢.

٨٧

جعل قيد الاستعمال ، أو استنسخ منه ولو نسخة واحدة إلى مكة مثلاً ، وهي حرم الله ، وقد بقي هذا الحرم فيما يزعم دون قرآن يقرأ أو يتعلم أو يستظهر فيه.

وأغلب الظن إذا صحت روايات الجمع المدعى ، فإن أبا بكر قد جمع لنفسه قرآناً في مصحف كما جمع غيره من الصحابة ، وإلا فلو جمعه للمسلمين ، وليس للمسلمين في قرآن مجموع لكان من الضرورة الملحة بمكان أن لا يغيب عن ظنه احتياج المسلمين لعدة نسخ منه على الأقل ، كما فعل عثمان فيما بعد ، أو لأوضح بأنه القرآن الرسمي للدولة التي يقوم على رأسها ، ولو اعتذر بأن حياته لم تطل ، لكان من الواجب على عمر تنفيذ ذلك.

والأغرب من هذا كله أنه لم يحدثنا التأريخ أن أحدا في عهد أبي بكر وعمر قد استنتسخ من هذا القرآن شيئاً ، مما اضطر فيه الدكتور دراز أن يعبر عن رأيه فيه بقوله : « ولكن رغم قيمة هذا المصحف العظيمة ، ورغم ما يستحقه من العناية التي بذلت في جمعه ، فإن مجرد بقائه محفوظاً بعناية عند الخليفتين الأولين أسبغ عليه الطابع الفردي أو الشخصي بعض الشيء ، ولم يصبح وثيقة للبشر كافة إلا من يوم نشره ، ولكن فرصة نشره لم تتح إلا في خلافة عثمان بعد معارك أرمينية وأذربيجان »(١) .

على أن ما صرح به الحاكم في المستدرك أن ذلك كان جمعا في المصحف لا في المصحف إذ قال : « فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ، ثم عند حفصة بنت عمر »(٢) .

وقد قطع ابن أبي داود بأنها صحف في عدة مواضع من كتابه(٣) .

ودراز وإن اعتبر ما جمعه أبو بكر بحسب الروايات التي ناقشناها ، مصحفاً إلا أنه أرجعه إلى عهد رسول الله ٦ بالطريقة التي عبر عنها بقوله :

__________________

(١) محمد عبد الله دراز ، مدخل إلى القرآن : الكريم : ٣٨.

(٢) السيوطي ، الاتقان : ١ / ١٦٥.

(٣) ابن أبي داود ، المصاحف : ١٩ ، ٢١ ، ٢٣ ، ٢٤ ، ٢٥... إلخ.

٨٨

« ولا يفوتنا أن ننبه هنا إلى أن آيات مصحف حفصة لا ترجع إلى الخليفة الأول ، وإنما ترجع بنصها الكامل إلى رسول الله ٦ »(١) .

ومهما يكن من أمر ، فقد أورد ابن حجر ، بناء على صحة بعض الروايات في شأن الكتابة قوله : « ولم يأمر أبو بكر إلا بكتابه ما كان مكتوبا »(٢) .

وهذا هو الاستنساخ بعينه ، ولا مانع أن يستنسخ أبو بكر لنفسه مصحفاً شأن بقية الصحابة. وقد أيد ذلك ابن شهاب بقوله : « إن أبا بكر الصديق كان جمع القرآن في قراطيس ، وقد سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل »(٣) .

فهذه الرواية تدل صراحة أن أبا بكر قد جمعه في قراطيس ، وقد طلب من زيد باعتباره من كتاب الوحي أن ينظر فيه لتقويمه ، ولا دلالة فيه على جمع مصحفي ، وإلى تصديه لذلك.

ولا يفوتنا التنبيه أن جملة من الرواة يعتبرون الجمع إنما تم في عهد عمر لا أبي بكر. ومنه ما أخرجه بن أبي داود عن طريق الحسين ، أن عمر سأل عن آية من كتاب الله ، فقيل : كانت مع فلان ، قتل يوم اليمامة ، فقال : « إنّا لله ثم أمر بالقرآن فجمع ، فكان أول من جمعه في المصحف »(٤) .

وفي رواية أخرى ، قال ابن اسحاق : لما جمع عمر بن الخطاب المصحف. وفي نص آخر : لما أراد عمر أن يكتب الإمام(٥) .

ولم يكتف هؤلاء بترك القرآن متناثرا في عهد رسول الله ٦ وأبي

__________________

(١) دراز ، مدخل إلى القرآن : الكريم ٤٦.

(٢) ابن حجر ، فتح الباري : ٩ / ١٣.

(٣) الخوئي ، البيان : ٢٤٢ وانظر مصدره.

(٤) المصاحف : ١٠ + السيوطي ، الإتقان : ١ / ١٦٦.

(٥) الخوئي : البيان : ٢٤٤ وانظر مصدره.

٨٩

بكر ، حتى قالوا بجمعه في عهد عمر ، مما فتح باب القول للمستشرقين في ذلك ، فقد أيد « شواللي » الشك في صحة الرواية القائلة : بأن أبابكر هو الذي أمر بجمع القرآن(١) .

وقال بروكلمان : « ومما يحتمل كثيراً من الشك ما ذكرته الرواية من أن معركة اليمامة الحاسمة مع مسيلمة سنة ١٢ ه‍ / ٦٦٣ م التي قتل فيها عدد كبير من قراء الصحابة ، هي التي قدمت الداعي إلى جمع القرآن على أن الخليفة عمر هو الذي أمر زيد بن ثابت ـ وكان شابا مدنيا كتب كثيراً للنبي ٦ ـ أن يقوم بجمع القرآن وكتابات الوحي. وبقي هذا المجموع في حوزة عمر ، ثم ورثته حفصة. ولعل هذا المجموع الأول كان صحفاً متناثرة »(٢) .

وأغرب مما تقدم ما أخرجه بن أشته ، قال : « مات أبو بكر ولم يجمع القرآن ، وقتل عمر ولم يجمع القرآن »(٣) .

وكل هذه الاعتبارات بما فيها ما أكد المستشرقون تتضمن تلويحاً خفياً بل تصريحاً جلياً بأن القرآن قد مرت عليه عهود وعصور وهو بعد لم يدون ، وإنما دون بعد ذلك اعتماداً على نصوص قد تكون ناقصة أو ممزقة ، وعلى روايات شفوية قابلة للخطأ والسهو والنسيان ، للقول من وراء هذا بالتحريف وهو ما نرفضه جملة وتفصيلاً.

وإذا سلمنا بأن جمع القرآن قد تم بعهد الصحابة ، وأنهم قد استشهدوا على إثباته بشاهدين(٤) وأن آيات لم يجدوها إلا مع معينين بالذات ، « فعن زيد قال : كتبت المصاحف فقدت آية كنت أسمعها من رسول الله ٦ فوجدتها عند خزيمة بن ثابت الأنصاري.

(مِنَ المؤمنينَ رجالٌ صدَقُوا ما عاهَدُوا الله عليهِ (٢٣) )(٥) وكذلك آية

__________________

(١) (٢) بروكلمان تأريخ الأدب العربي : ١ / ١٣٩ وما بعدها.

(٣) السيوطي : الاتقان : ١ / ٢٠٢.

(٤) المصدر نفسه : ١ / ١٦٧.

(٥) الأحزاب : ٢٣.

٩٠

(لقد جاءكُمْ رسولٌ من أنفسكُمْ (١٢٨) )(١) وغيرها وغيرها(٢) .

فلا يصح حينئذ عد آيات القرآن في أماكنها من السور ، ولا السور من المصحف توقيفياً ، وإنما هو باجتهاد من الصحابة ، كما تدل عليه تضافر روايات الجمع في ذلك ، وإذا قلنا بتوقيف الآيات في السور ، والسور من المصحف ، فلا بد أن نقول إن القرآن قد جمع على عهد رسول الله ٦ وهو ما نميل إليه ونرجحه في ضوء ما تقدم.

قال البيهقي : وأحسن ما يحتج به أن يقال : إن هذا التأليف لكتاب الله مأخوذ من جهة النبي ٦ وأخذه عن جبرائيل ٧(٣) .

وهناك ثلاثة مواقف تجلب الانتباه عند جملة من أرباب علوم القرآن ، فهي تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ، فلا تريد أن تقول إن القرآن لم يجمع بعهد رسول الله ٦ ، ولا تريد أن تقول إن أبا بكر قد جمع القرآن سابقاً إلى الموضوع.

الأول : عملية الاستنساخ التي صرح بها أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي ( ت : ٢٤٣ ه‍ ) بقوله : « كتابة القرآن ليست بمحدثة فإنه ٦ كان يأمر بكتابته ، ولكنه كان مفرقاً في الرقاع والأكتاف والعسب ، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان ، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله ٦ فيها القرآن منتشر ، فجمعها جامع ، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء »(٤) .

الثاني : ما ورد في المقدمة الأولى في علوم القرآن بإجمال على شكل فتوى تارة ، وتحذير تارة أخرى ، في قوله : « ومن زعم أن بعض القرآن سقط على المسلمين وقت جمع المصحف ، وأن السور ضم بعضها إلى بعض بالمشورة والرأي فقد أعظم على الله الفرية ، لأن الرسول الله ٦ كان يملي كلما نزل من القرآن على كتابه أولاً بأول ، ميلا إلى حفظه

__________________

(١) التوبة : ١٢٨.

(٢) ابن أبي داود ، المصاحف : ٣١.

(٣) السوطي ، الاتقان : ١ / ٣٠٩.

(٤) الزركشي ، البرهان : ١ / ٢٣٨.

٩١

وصيانته ، فحفظ القرآن من آوله إلى آخره على عهد رسول الله ٦ »(١) .

الثالث : موقف الزركشي المتردد بين السلب والإيجاب فيما رد به توهم بعض الناس أن القرآن لم يجمع بعهد رسول الله ٦ متبينا رأي الحارث المحاسبي بقوله : وفي قول زيد بن ثابت : فجمعته من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال ما أوهم بعض الناس أن أحدا لم يجمع القرآن في عهد رسول الله ٦ وأن من قال : إنه جمع القرآن أُبيّ بن كعب وزيد ليس بمحفوظ. وليس الأمر على ما أوهم ، وإنما طلب القرآن متفرقا ليعارض بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن ليشترك الجميع في علم ما جمع فلا نصيب أحد عنده منه شيء ، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف ، ولا يشكو في أنه جمع عن ملأ منهم »(٢) .

وفي ضوء ما تقدم يجب أن ندع التشريق والتغريب جانبا ، في قضية جمع القرآن ، وأن نخضع للواقع الموضوعي والجرأة العلمية فنقول إن القرآن جمع ودوّن كاملاً بكل حيثياته وجزئياته في عهد رسول الله ٦ ، وبأمر من الوحي ، وبإشارة من القرآن نفسه ، ما دام هناك أثر قطعي من كتاب أو سنة أو عقل أو جماع ، فلا نركن إلى روايات آحاد لا تبلغ حد الشهرة فضلاً عن التواتر الذي لا يثبت القرآن إلا به بإجماع المسلمين ، وأن نعتبر النبي ٦ مسؤولا أمام الوحي عن جمع القرآن وتدوينه ، كمسؤوليته عن نشره وتبليغه ، وفيما قدمناه من دلائل وبراهين وروايات إثبات لما نتبناه.

نعم لا شك أن عثمان قد جمع القرآن في زمانه ، لا بمعنى أنه جمع الآيات والسور في مصحف ، بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد ، وأحرق المصاحف الأخرى التي تخالف مصحفه ، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها ، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة(٣) .

__________________

(١) مقدمتان في علوم القرآن : ٥٨.

(٢) الزركشي ، البرهان : ١ / ٢٣٨.

(٣) ظ : الخوئي ، البيان : ٢٥٨.

٩٢

فقد أخرج ابن أشته قال : اختلفوا في القراءة على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون ، فبلغ ذلك عثمان بن عفان ، فقال : عندي تكذبون به وتلحنون فيه ، فمن نأى عني كان أشد تكذيبا ، وأكثر لحنا. يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماماً ، فاجتمعوا فكتبوا(١) .

هذا فيما شاهد عثمان في المدينة المنورة من الاختلاف في القراءات والوجوه واللغات ، فاقتصر من سائرها على لغة قريش لأن القرآن نزل بلغتهم.

وقد يبدو من رواية أخرى أكثر شيوعا أن الاختلاف امتد إلى الثغور بين الأجناد فطعن بعضهم البعض بقراءة البعض الآخر ، فهال هذا الأمر حذيفة بن اليمان ، وكان يغازي أهل الشام في أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأشار على عثمان أن يدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى ففزع عثمان لذلك وصمم على جمع الناس على إمام واحد(٢) .

وكان هذا الأمر غيرة من حذيفة على القرآن ، واستجابة من عثمان لصيانة القرآن.

وسأل عثمان : أي الناس أفصح ؟ قالوا : سعيد بن العاص ، قال : أي الناس أكتب ؟ قالوا زيد بن ثابت ، قال : فليكتب زيد ، وليمل سعيد ، فكتب مصاحف فقسمها في الأمصار(٣) .

ويستدل في كثير من الروايات أن هذا الترتيب والجمع على قراءة واحدة وفي مصحف واحد كان على ملأ من أصحاب رسول الله ٦ ، وبمشاورة من أهل القرآن(٤) .

__________________

(١) السيوطي ، الاتقان : ١ / ١٧٠.

(٢) ظ : ابن أبي داود ، المصاحف : ١٨ وما بعدها.

(٣) ظ : الطبري ، جامع البيان : ١ / ٦٢ + ابن أبي داود ، المصاحف : ٢٤ + أبو شامة ، المرشد الوجيز : ٥٨.

(٤) ظ : ابن أبي داود : المصاحف : ١٢ + المرشد الوجيز : ٦٤.

٩٣

وكان رسول الله ٦ يلقن أصحابه ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل ٧ إياه على ذلك ، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السورة التي يذكر فيها كذا ، وروي معنى هذا عن عثمان بالذات(١) .

قال الحارث بن أسد المحاسبي ( ت : ٢٤٣ ه‍ ) :

« والمشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان رضي الله منه ، وليس كذلك ، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات والقرآن. وأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن »(٢) .

وفي عقيدتي أن أهم الأعمال التي قام بها عثمان هو جمع الناس على حرف واحد ، فقد قطع به دابر الفتنة والخلاف ، وفيه جرأة كبيرة تحدى بها كثيراً من الصعوبات.

يقول الدكتور طه حسين :

« وليس من شك في أن ما أقدم عليه عثمان من توحيد المصحف وحسم هذا الاختلاف ، وحمل المسلمين على حرف واحد ، أو لغة واحدة يقرؤون بها القرآن ، عمل فيه كثير من الجراءة ، ولكن فيه من النصح للمسلمين أكثر مما فيه من الجراءة. فلو قد ترك عثمان الناس يقرؤون القرآن قراءات مختلفة بلغات متباينة في ألفاظها ، لكان هذا مصدر فرقة لا شك فيها ، ولكان من المحقق أن هذه الفرقة حول الألفاظ ستؤدي إلى فرقة شر منها حول المعاني بعد أن كان الفتح ، وبعد أن استعرب الأعاجم ، وبعد أن أخذ الأعراب يقرؤون القرآن »(٣) .

__________________

(١) أبو شامة ، المرشد الوجيز.

(٢) الزركشي ، البرهان : ٩ / ٢٣٩ + السيوطي ، الاتقان : ١ / ١٧١.

(٣) طه حسين ، الفتنة الكبرى : ١ / ١٨٢ وما بعدها.

٩٤

وحينما تم توحيد المصحف على الشكل المقرر استنسخ عثمان منه عدة مصاحف أرسل بها إلى الأمصار.

واختلف في عدة هذه المصاحف ، فقيل أربعة ، والمشهور أنها خمسة(١) وأخرج أبو داود عن أبي حاتم السجستاني : أنها سبعة مصاحف ، فأرسل إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة ، وحبس بالمدينة واحداً »(٢) .

وهذا العدد أوعى في توحيد القراءة لاستيعابه كبريات الآفاق الإسلامية آنذاك ، فيما دامت المهمة بهذا الاتجاه ، فالأنسب التوسع في استنساخ جملة من المصاحف تؤدي الهدف بعناية شمولية.

وأيا كان عدد هذه المصاحف ، فقد كانت الأساس لاستنساخ آلاف المصاحف في الديار المترامية الأطراف ، موحدة منظمة مؤصلة ، اشتملت على القرآن بجزئياته وحيثياته كافة ، دون زيادة أو نقصان ، أو تغيير أو تحريف ، بل هي من الوثوق بكونها عين القرآن الذي أنزل على الرسول الأعظم ٦ بجميع خصوصياته في التنزيل والترتيب والتوقيف.

وليس أدل على ذلك من شهادة أعلام المستشرقين في تأكيد هذه الحقيقة العلمية مع إبتعادهم عن كثير من ضروريات الإسلام ، ولكنه الحق الذي يفرض ذاتيته وموضوعيته في أغلب الأحيان.

قال السير وليم موير : « أن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف. ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر ، بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة »(٣) .

ولم يكن اختلاف المسلمين في الفروع والجزئيات مانعا من إجماعهم

__________________

(١) ظ : السيوطي ، الاتقان : ١ / ١٧٢.

(٢) ظ : ابن داود ، المصاحف : ٣٤.

(٣) محمد عبد الله دراز ، المدخل إلى القرآن : الكريم : ٤٠ وانظر مصدره.

٩٥

المنقطع النظير على توثيق كل تفاصيل القرآن من ألفه إلى يائه.

ولقد كان الأستاذ لوبلوا موضوعيا حينما أكد بقوله : « إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر »(١) .

وحينما تم إقرار المصحف الإمام ، واستنسخت المصاحف في ضوئه ، وسيرت إلى الآفاق ـ وكان ذلك في سنة خمس وعشرين من الهجرة النبوية(٢) . ـ أنس عثمان بصنيعه هذا ، وعمد إلى توثيقه وتفرده بصيغتين :

الأولى : إرساله من يثق المسلمون بحفظه وإقرائه مع مصحف كل إقليم بما يوافق قراءته وكان ذلك موضع اهتمام منه في أشهر الأقاليم ، فكان زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني ، وعبد الله بن السائب مقرئ المصحف المكي ، والمغيرة بن شهاب مقرئ المصحف الشامي ، وأبو عبد الرحمن السلمي مقرئ المصحف الكوفي ، وعامر بن عبد القيس مقرئ المصحف البصري(٣) .

الثانية : أمره بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق(٤) .

وكان هذا العمل مدعاة للنقد حيناً ، ومجالا للتشهير به حيناً آخر حتى قال الخوئي :

« ولكن الأمر الذي انتقد عليه هو إحراقه لبقية المصاحف ، وأمره أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف ، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين ، حتى سموه بحراق المصاحف »(٥) .

وقد عقب على ذلك الدكتور طه حسين بقوله : « وربما تحرج بعض المسلمين من تحريق ما حرّق عثمان من المصحف ، ولم يقبلوا اعتذاره

__________________

(١) المصدر نفسه : والصفحة.

(٢) السيوطي ، الاتقان : ١ / ١٧٠.

(٣) ظ : الزرقاني ، مناهل العرفان : ١ / ٣٩٦ وما بعدها.

(٤) السيوطي ، الاتقان : ١ / ١٦٩.

(٥) الخوئي ، البيان : ٢٥٨.

٩٦

بحسم الفتنة وقطع الخلاف. ولو قد كانت الحضارة تقدمت بالمسلمين شيئاً لكان من الممكن أن يحتفظ عثمان بهذه الصحف التي حرقها على أنها نصوص محفوظة لا تتاح للعامة ، بل لا تكاد تتاح للخاصة ، وإنما هي صحف تحفظ ضنا بها على الضياع. ولكن المسلمين لم يكونوا قد بلغوا في ذلك العصر من الحضارة ما يتيح لهم تنظيم المكتبات وحفظ المحفوظات ، وإذا لم يكن على عثمان جناح فيما فعل لا من جهة الدين ولا من جهة السياسة ، فقد يكون لنا أن نأسى لتحريق تلك الصحف ؛ لأنه إن لم يكن قد أضاع على المسلمين شيئاً من دينهم ، فقد أضاع على العلماء والباحثين كثيراً من العلم بلغات العرب ولهجاتها ، على أن الأمر أعظم خطرا وأرفع شأنا من علم العلماء ، وبحث الباحثين عن اللغات واللهجات »(١) .

ومهما يكن من رأي حول هذا الموضوع ، فإن من المقطوع به أن المصحف العثماني هو النص القرآني الوحيد الذي عليه عمل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وهو الكتاب المقدس الوحيد الذي أحيط بعناية ورعاية خاصة ، حتى نقل بالتواتر القطعي جيلا بعد جيل.

ويبدو أن بعض نسخ المصحف العثماني ، قد كانت معروفة في القرن الثامن الهجري ، فالحافظ ابن كثير ( ت : ٧٧٤ ه‍ ) يقول :

« أما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله ، وقد كان قديماً بمدينة طبرية ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ٥١٨ ه‍ ، وقد رأيته كتاباً عزيزاً جليلاً عظيماً ضخما بخط حسن مبين قوي ، بحبر محكم ، في رق أظنه من جلود الإبل »(٢) .

قال أبو عبد الله الزنجاني : « ومصحف الشام رآه ابن فضل الله العمري في أواسط القرن الثامن الهجري فهو يقول في وصف مسجد دمشق : ( وإلى جانبه الأيسر المصحف العثماني ) ويُظن قوياً أن هذا

__________________

(١) طه حسين ، الفتنة الكبرى : ١ / ١٨٣ وما بعدها.

(٢) ابن كثير ، فضائل القرآن : ٤٩ ، طبعة المنار ، القاهرة ١٣٤٨ ه‍.

٩٧

المصحف هو الذي كان موجوداً في دار الكتب في لينين غراد وانتقل إلى إنكلترا »(١) .

وقد تتبعت هذا الأمر في المتحف البريطاني فلم أظفره بحصيلة يطمئن إليها بوجود هذا المصحف.

نعم هناك عدة مصاحف في دار الكتب المصرية ، مكتوبة بالخط الكوفي ، ولكن الزخارف والنقوش توحي بأنها لا علاقة لها بأية نسخة من المصاحف العثمانية.

__________________

(١) الزنجاني ، تاريخ القرآن : ٦٧.

٩٨

الفصل الرابع

قراءات القرآن

٩٩

١٠٠