الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134554 / تحميل: 6222
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

٦٣ - سهل بن قيس بن أبي كعب.

٦٤ - ذكوان بن عبد قيس.

٦٥ - عبيد بن المعلّى.

٦٦ - مالك بن تميلة.

٦٧ - حارث بن عديّ بن خرشة.

٦٨ - مالك بن إياس.

٦٩ - إياس بن عديّ.

٧٠ - عمرو بن إياس.

فهؤلاء سبعون رجلاً على ما ذكره ابن هشام في سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .‏

٨١

( سورة آل عمران الآيات ١٧٦ - ١٨٠)

وَلاَ يَحْزُنْكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنّهُمْ لَن يَضُرّوا اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( ١٧٦) إِنّ الّذِينَ اشْتَرَوا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَن يَضُرّوا اللّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ١٧٧) وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُوا أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ( ١٧٨) مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى‏ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ( ١٧٩) وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ سَيُطَوّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللّهِ‏ِ مِيرَاثُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ( ١٨٠)

( بيان)

الآيات مرتبطة بما تقدّم من الآيات النازلة في غزوة اُحد فكأنّها و خاصّة الآيات الأربع الاُول منها تتمّة لها لأنّ أهمّ ما تتعرّض لها تلك الآيات قضيّة الابتلاء و الامتحان الإلهيّ لعباده، و على ذلك فهذه الآيات بمنزلة الفذلكة لآيات اُحد يبيّن الله سبحانه فيها أنّ سنّة الابتلاء و الامتحان سنّة جارية لا مناص عنها في كافر و لا مؤمن، فالله سبحانه مبتليهما ليخرج ما في باطن كلّ منهما إلى ساحة الظهور فيتمحّض الكافر للنار و يتميّز الخبيث من الطيّب في المؤمن.

قوله تعالى: ( وَ لا يَحْزُنْكَ الّذينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) إلى آخر الآية تسلية و رفع للحزن ببيان حقيقة الأمر فإنّ مسارعتهم في الكفر و تظاهرهم على إطفاء نور الله

٨٢

و غلبتهم الظاهرة أحياناً ربّما أوجبت أن يحزن المؤمن كأنّهم غلبوا الله سبحانه في إرادة إعلاء كلمة الحقّ لكنّه إذا تدبّر في قضيّة الامتحان العامّ استيقن أنّ الله هو الغالب و أنّهم جميعاً واقعون في سبيل الغايات يوجّهون إليها ليتمّ لهم الهداية التكوينيّة و التشريعيّة إلى غايات أمرهم فالكافر يوجّه به بواسطة إشباعه بالعافية و النعمة و القدرة - و هو الاستدراج و المكر الإلهيّ - إلى آخر ما يمكنه أن يركبه من الطغيان و المعصية، و المؤمن لا يزال يحكّ به محكّ الامتحان ليخلص ما في باطنه من الإيمان المشوب بغيره، فيخلص لله أو يخلص شركه فيهبط في مهبط غيره من أولياء الطاغوت و أئمّة الكفر.

فمعنى الآية: لا يحزنك الّذين يسرعون و لا يزال يشتدّ سرعتهم في الكفر فإنّك إن تحزن فإنّما تحزن لما تظنّ أنّهم يضرّون الله بذلك و ليس كذلك فهم لا يضرّون الله شيئاً لأنّهم مسخّرون لله يسلك بهم في سير حياتهم إلى حيث لا يبقى لهم حظّ في الآخرة (و هو آخر حدّهم في الكفر) و لهم عذاب أليم فقوله: لا يَحْزُنْكَ، أمر إرشاديّ، و قوله: إِنَّهُمْ إلخ تعليل للنهي، و قوله: يُرِيدُ الله إلخ تعليل و بيان لعدم ضررهم.

ثمّ ذكر تعالى نفي ضرر جميع الكافرين بالنسبة إليه أعمّ من المسارعين في الكفر و غيرهم، و هو كالبيان الكلّيّ بعد البيان الجزئيّ يصحّ أن يعلّل به النهي (لا يحزنك) و أن يعلّل به علّته (أنّهم لن يضرّوا إلخ) لأنّه أعمّ يعلّل به الأخصّ، و المعنى: و إنّما قلنا إنّ هؤلاء المسارعين لا يضرّون الله شيئاً لأنّ الكافرين جميعاً لا يضرّونه شيئاً.

قوله تعالى: ( وَ لا يَحسبنَّ الّذينَ كَفَرُوا ) ، لمّا طيّب نفس نبيّه في مسارعة الكفّار في كفرهم أنّ ذلك في الحقيقة تسخير إلهيّ لهم لينساقوا إلى حيث لا يبقى لهم حظّ في الآخرة عطف الكلام إلى الكفّار أنفسهم، فبيّن أنّه لا ينبغي لهم أن يفرحوا بما يجدونه من الإملاء و الإمهال الإلهيّ فإنّ ذلك سوق لهم بالاستدراج إلى زيادة الإثم، و وراء ذلك عذاب مهيمن ليس معه إلّا الهوان، كلّ ذلك بمقتضى سنّة التكميل.

قوله تعالى: ( ما كانَ الله لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ ) إلخ ثمّ عطف الكلام إلى المؤمنين فبيّن

٨٣

أنّ سنّة الابتلاء جارية فيهم ليتمّ تكميلهم أيضاً فيخلص المؤمن الخالص من غيره، و يتميّز الخبيث من الطيّب.

و لمّا أمكن أن يتوهّم أنّ هناك طريقاً آخر إلى تمييز الخبيث من الطيّب و هو أن يطلعهم على الخبثاء حتّى يتميّزوا منهم فلا يقاسوا جميع هذه المحن و البلايا الّتي يقاسونها بسبب اختلاط المنافقين و الّذين في قلوبهم مرض بهم فدفع هذا الوهم بأنّ علم الغيب ممّا استأثر الله به نفسه فلا يطلع عليه أحداً إلّا من اجتبى من رسله فإنّه ربّما أطلعه عليه بالوحي، و ذلك قوله تعالى:( وَ ما كانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ الله يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ ) .

ثمّ ذكر أنّه لمّا لم يكن من الابتلاء و التكميل محيد فآمنوا بالله و رسله حتّى تنسلكوا في سلك الطيّبين دون الخبثاء، غير أنّ الإيمان وحده لا يكفي في بقاء طيب الحياة حتّى يتمّ الأجر إلّا بعمل صالح يرفع الإيمان إلى الله و يحفظ طيبه، و لذلك قال أوّلاً: فَآمِنُوا بِالله وَ رُسُلِهِ ثمّ تمّمه ثانياً بقوله: وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ.

و قد ظهر من الآية أوّلاً: أنّ قضية تكميل النفوس و إيصالها إلى غايتها و مقصدها من السعادة و الشقاء ممّا لا محيص عنه.

و ثانياً: أنّ الطيب و الخباثة في عين أنّهما منسوبان إلى ذوات الأشخاصّ يدوران مدار الإيمان و الكفر اللّذين هما أمران اختياريّان لهم، و هذا من لطائف الحقائق القرآنيّة الّتي ينشعب منها كثير من أسرار التوحيد، و يدلّ عليها قوله تعالى:( لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ‏ ) البقرة: ١٤٨، إذا انضمّ إلى قوله:( وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) المائدة: ٤٨، و سيجي‏ء إشباع الكلام فيها في قوله تعالى:( لِيَمِيزَ الله الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى‏ بَعْضٍ ) الآية الأنفال: ٣٧.

و ثالثاً: أنّ الإيمان بالله و رسله مادّة لطيب الحياة و هو طيب الذات، و أمّا الأجر فيتوقّف على التقوى و العمل الصالح، و لذلك ذكر تعالى أوّلاً حديث الميز بين

٨٤

الطيّب و الخبيث ثمّ فرّع عليه قوله:( فَآمِنُوا بِالله وَ رُسُلِهِ ) ، ثمّ لمّا أراد ذكر الأجر أضاف التقوى إلى الإيمان فقال:( وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

و بذلك يتبيّن في قوله تعالى:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحسن ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل: ٩٧، أنّ الإحياء المذكور ثمرة الإيمان متفرّع عليه، و الجزاء بالأجر متفرّع على العمل الصالح فالإيمان روح الحياة الطيّبة، و أمّا بقاؤها حتّى يترتّب عليها آثارها فيحتاج إلى العمل الصالح كالحياة الطبيعيّة الّتي تحتاج في تكوّنها و تحقّقها إلى روح حيوانيّ، و بقاؤها يحتاج إلى استعمال القوى و الأعضاء، و لو سكنت الجميع بطلت و أبطلت الحياة.

و قد كرّر لفظ الجلالة مرّات في الآية، و الثلاثة الأواخر من وضع الظاهر موضع المضمر و ليس إلّا للدلالة على مصدر الجلال و الجمال في اُمور لا يتّصف بها إلّا هو باُلوهيّته و هو الامتحان، و الإطلاع على الغيب، و اجتباء الرسل، و أهليّة الإيمان به.

قوله تعالى: ( وَ لا يَحسبنَّ الّذينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ ) الآية، لمّا بيّن حال إملاء الكافرين و كان الحال في البخل بالمال و عدم إنفاقه في سبيل الله مثله، فإنّ البخيل فرح فخور بما يجمعه من المال عطف تعالى الكلام إليهم و بيّن أنّه شرّ لهم، و في التعبير عن المال بقوله: بِما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ إشعار بوجه لومهم و ذمّهم، و قوله: سَيُطَوَّقُونَ إلخ في مقام التعليل لكون البخل شرّاً لهم، و قوله: وَ لله مِيراثُ السَّماواتِ، الظاهر أنّه حال من يوم القيامة، و كذا قوله: وَ الله بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.

و يحتمل على بعد أن يكون قوله: وَ لله مِيراثُ حالاً من فاعل قوله يبخلون، و قوله: وَ الله بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ حالاً منه أيضاً أو جملة مستأنفة.

٨٥

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن الباقرعليه‌السلام أنّه سئل عن الكافر الموت خير له أم الحياة؟ فقال: الموت خير للمؤمن و الكافر لأنّ الله يقول:( وَ ما عِنْدَ الله خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ ) ، و يقول:( لا يَحسبنَّ الّذينَ كَفَرُوا إنّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ) ، الآية.

أقول: الاستدلال المذكور في الرواية لا يوافق مذاق أئمّة أهل البيت كلّ الموافقة فإنّ الأبرار طائفة خاصّة من المؤمنين لا جميعهم إلّا أن يقال: إنّ المراد بالأبرار جميع المؤمنين بما في كلّ منهم من شي‏ء من البرّ، و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور عن ابن مسعود.

٨٦

( سورة آل عمران الآيات ١٨١ - ١٨٩)

لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ( ١٨١) ذلِكَ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ( ١٨٢) الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى‏ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِن قَبْلِي بِالْبَيّنَاتِ وَبِالّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( ١٨٣) فَإِن كَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ( ١٨٤) كُلّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنّمَا تُوَفّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عِنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا مَتَاعُ الْغُرُورِ( ١٨٥) لَتُبْلَوُنّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا أَذَىً كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فَإِنّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ( ١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ( ١٨٧) لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنّهُم بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ١٨٨) وَللّهِ‏ِ مُلْكُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ( ١٨٩)

( بيان)

الآيات مرتبط بما قبلها، فقد كانت عامّة الآيات السابقة في استنهاض الناس و ترغيبهم على الجهاد في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم، و تحذيرهم عن الوهن و الفشل و البخل فيرتبط بها قول اليهود: إنّ الله فقير و نحن أغنياء، و تقليبهم الأمر على المسلمين، و تكذيبهم آيات الرسالة، و كتمانهم ما أخذ منهم الميثاق لبيانه، و هذه هي الّتي تتعرّض

٨٧

الآيات لبيانها مع ما فيها من تقوية قلوب المؤمنين على الاستقامة و الصبر و الثبات، و التحريض على الإنفاق في سبيل الله.

قوله تعالى: ( لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الّذينَ قالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ ) القائلون هم اليهود بقرينة ما في ذيل الكلام من حديث قتلهم الأنبياء و غير ذلك.

و إنّما قالوا ذلك لمّا سمعوا أمثال قوله تعالى:( مَنْ ذَا الّذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حسناً ) الآية البقرة: ٢٤٥ و يشهد بذلك بعض الشهادة اتّصاله بالآية السابقة:( وَ لا يَحسبنَّ الّذينَ يَبْخَلُونَ ) ، الآية.

أو أنّهم قالوا ذلك لمّا رأوا فقر عامّة المؤمنين و فاقتهم، فقالوا ذلك تعريضاً بأنّ ربّهم لو كان غنيّاً لغار لهم و أغناهم فليس إلّا فقيراً و نحن أغنياء.

قوله تعالى: ( سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حقّ ) الآية، المراد بالكتابة الحفظ و التثبيت أو الكتابة في صحائف أعمالهم، و المآل واحد، و المراد بقتل الأنبياء بغير حقّ القتل على العرفان و العمد دون السهو و الخطأ و الجهالة، و قد قارن الله قولهم هذا بقتلهم الأنبياء لكونه قولاً عظيماً، و قوله: عَذابَ الْحَرِيقِ، الحريق النار أو اللّهب و قيل: هو بمعنى المحرق.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) الآية، أي بما قدّمتم أمامكم من العمل و نسب إلى الأيدي لأنّها آلة التقديم غالباً، و قوله:( وَ أَنَّ الله لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) عطف على قوله: بِما قَدَّمَتْ، و تعليل للكتابة و العذاب، فلو لم يكن ذلك الحفظ و الجزاء لكان إهمالاً لأمر نظام الأعمال و في ذلك ظلم كثير بكثرة الأعمال فيكون ظلّاماً لعباده تعالى عن ذلك.

قوله تعالى: ( الّذينَ قالُوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنا ) الآية، نعت للّذين قبله و العهد هو الأمر، و القربان ما يتقرّب به من النعم و غيره، و أكل النار كناية عن إحراقها، و المراد بقوله:( قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي ) ، أمثال زكريّا و يحيى من أنبياء بني إسرائيل المقتولين بأيديهم.

قوله تعالى: ( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ ) الآية، تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تكذيبهم له،

٨٨

و الزبر جمع زبور و هو كتاب الحكم و المواعظ، و قد اُريد بالزبر و الكتاب المنير مثل كتاب نوح و صحف إبراهيم و التوراة و الإنجيل.

قوله تعالى: ( كلّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) ، الآية تتضمّن الوعد للمصدّق و الوعيد للمكذّب و قد بدأ فيها بالحكم العامّ المقضيّ في حقّ كلّ ذي نفس، و التوفية هو الإعطاء الكامل، و قد استدلّ بعضهم بالآية على ثبوت البرزخ لدلالتها على سبق بعض الإعطاء و أنّ الّذي في يوم القيامة هو الإعطاء الكامل، و هو استدلال حسن، و الزحزحة هو الإبعاد، و أصله تكرار الجذب بعجلة، و الفوز الظفر بالبغية، و الغرور مصدر غرّ أو هو جمع غارّ.

قوله تعالى: ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ) الآية، الإبلاء الاختبار، بعد ما ذكر سبحانه جريان البلاء و الإبلاء على المؤمنين، ثمّ ذكر قول اليهود و هو ممّا من شأنه أن يوهن عزم المؤمنين أخبرهم بأنّ هذا الإبلاء الإلهيّ و الأقاويل المؤذية من أهل الكتاب و المشركين ستتكرّر على المؤمنين، و يكثر استقبالها إيّاهم و قرعها سمعهم فعليهم أن يصبروا و يتّقوا حتّى يعصمهم ربّهم من الزلل و الفشل، و يكونوا أرباب عزم و إرادة، و هذا إخبار قبل الوقوع ليستعدّوا لذلك استعدادهم، و يوطّنوا عليه أنفسهم.

و قد وضع في قوله:( وَ لَتَسْمَعُنَّ - إلى قوله -أَذىً كَثِيراً ) ، الأذى الكثير موضع القول و هو من قبيل وضع الأثر موضع المؤثّر مجازاً.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ أَخَذَ الله مِيثاقَ ) ، النبذ الطرح، و نبذه وراء ظهره كالمثل يراد به الترك و عدم الاعتناء كما أنّ قولهم: جعله نصب عينيه كالمثل يراد به الأخذ و اللّزوم.

قوله تعالى: ( لا تَحسبنَّ الّذينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا ) إلى آخر الآيتين، أي بما أنعم عليهم من المال و لازمه حبّ المال و البخل به، و المفازة النجاة و إنّما هلك هؤلاء لأنّ قلوبهم تعلّقت بالباطل فلا ولاية للحقّ عليهم.

ثمّ ذكر تعالى حديث ملكه للسماوات و الأرض، و قدرته على كلّ شي‏ء، و هذان الوصفان يصلحان لتعليل مضامين جميع ما تقدّم من الآيات.

٨٩

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة في قوله: لَقَدْ سَمِعَ الله الآية، قال: ذكر لنا أنّها نزلت في حييّ بن أخطب لمّا نزل:( مَنْ ذَا الّذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حسناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ) ، قال: يستقرضنا ربّنا إنّما يستقرض الفقير الغنيّ.

و في تفسير العيّاشيّ في الآية عن الصادقعليه‌السلام قال: و الله ما رأوا الله حتّى يعلموا أنّه فقير، و لكنّهم رأوا أولياء الله فقراء فقالوا: لو كان غنيّاً لأغنى أولياءه ففخروا على الله بالغنى.

و في المناقب، عن الباقرعليه‌السلام : هم الّذين يزعمون أنّ الإمام يحتاج إلى ما يحملونه إليه.

أقول: أمّا الروايتان الأوليان فقد تقدّم انطباق مضمونهما على الآية، و أمّا الثالثة فهي من الجري.

و في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام قال: كان بين القائلين و القاتلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم بما فعلوا.

أقول: ما ذكر من السنين لا يوافق التاريخ الميلاديّ الموجود فارجع إلى ما تقدّم من البحث التاريخيّ.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( كلّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) الآية، أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب قال: لمّا توفّي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و جاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسّه و لا يرون شخصه فقال: السلام عليكم يا أهل البيت و رحمة الله و بركاته كلّ نفس ذائقة الموت و إنّما توفّون اُجوركم يوم القيامة إنّ في الله عزاءً من كلّ مصيبة و خلفاً من كلّ هالك، و دركاً من كلّ ما فات فبالله فثقوا، و إيّاه فارجوا فإنّ المصاب من حرم الثواب، فقال عليّ: هذا الخضر.

٩٠

و فيه أخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لموضع سوط أحدكم في الجنّة خير من الدنيا و ما فيها ثمّ تلا هذه الآية:( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجنّة فَقَدْ فازَ ) .

أقول: و رواه فيه ببعض طرق اُخر عن غيره، و اعلم أنّ هنا روايات كثيرة في أسباب نزول هذه الآيات تركنا إيرادها لظهور كونها من التطبيق النظريّ.

٩١

( سورة آل عمران الآيات ١٩٠ - ١٩٩)

إِنّ فِي خَلْقِ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ لآيَاتٍ لَأُوْلِي الْأَلْبَابِ( ١٩٠) الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى‏ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النّارِ( ١٩١) رَبّنَا إِنّكَ مَن تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلْظّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ( ١٩٢) رَبّنَا إِنّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنّا سَيّآتِنَا وَتَوَفّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ( ١٩٣) رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتّنَا عَلَى‏ رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ( ١٩٤) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهُمْ أَنّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُم مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى‏ بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ فَالّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفّرَنّ عَنْهُم سَيّآتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثّوَابِ( ١٩٥) لَا يَغُرّنّكَ تَقَلّبُ الّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ( ١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمّ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ( ١٩٧) لكِنِ الّذِينَ اتّقَوْا رَبّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ( ١٩٨) وَإِنّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للّهِ‏ِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنَاً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ١٩٩)

( بيان)

الآيات بمنزلة تلخيص ما تقدّم من بيان حال المؤمنين و المشركين و أهل الكتاب في هذه السورة، بيان أنّ حال أبرار المؤمنين هو ذكر الله سبحانه، و التفكّر

٩٢

في آياته و الاستجارة بالله من عذاب النار، و سؤال المغفرة و الجنّة، و أنّ الله استجاب لهم و سيرزقهم ما سألوه - هذه عامّة حالهم - و أنّ الّذين كفروا حالهم أنّهم يتقلّبون في متاع قليل ثمّ لهم مهاد النار فلا يقاس حال المؤمنين بحالهم، و قد استثنى منهم المتّبعين للحقّ من أهل الكتاب فهم مع المؤمنين.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) ، كأنّ المراد بالخلق كيفيّة وجودها و آثارها و أفعالها من حركة و سكون و تغيّر و تحوّل فيكون خلق السموات و الأرض و اختلاف اللّيل و النهار مشتملاً على معظم الآيات المحسّوسة و قد تقدّم بيانها في سورة البقرة(١) . و تقدّم أيضاً معنى اُولي الألباب(٢) .

قوله تعالى: ( الّذينَ يَذْكُرُونَ الله قِياماً وَ قُعُوداً ) إلخ أي يذكرون الله في جميع حالاتهم من القيام و القعود و الاضطجاع، و قد مرّ البحث في معنى الذكر و التفكّر، و محصّل معنى الآيتين أنّ النظر في آيات السماوات و الأرض و اختلاف اللّيل و النهار أورثهم ذكراً دائماً لله فلا ينسونه في حال، و تفكّراً في خلق السموات و الأرض يتذكّرون به أنّ الله سيبعثهم للجزاء فيسألون عندئذ رحمته و يستنجزون وعده.

قوله تعالى: ( رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ) ، إنّما قيل( هذا ) مع كون المشار إليه جمعاً و مؤنّثاً إذ الغرض لا يتعلّق بتمييز أشخاصّها و أسمائها، و الجميع في أنّها خلق واحد، و هذا نظير ما حكى الله تعالى من قول إبراهيم:( فلمّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ ) الأنعام: ٧٨، لعدم علمه بعد بحقيقتها و اسمها سوى أنّها شي‏ء.

و الباطل ما ليس له غاية يتعلّق به الغرض قال تعالى:( فأمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أمّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) الرعد: ١٧ و لذلك لمّا نفوا البطلان عن‏ الخلق لاح لهم أنّ الله سيحشر الناس للجزاء، و أنّه تعالى سيجزي هناك الظالمين جزاء خزي و هو النار، و لا رادّ يردّ مصلحة العقاب و إلّا لبطل الخلقة، و هذا معنى قولهم: فقنا عذاب النار ربّنا إنّك من تدخل النار فقد أخزيته و ما للظالمين من أنصار.

____________________

(١) تفسير آية: ١٦ من سورة البقرة

(٢) في تفسير الآية السابعة من هذه السورة.

٩٣

قوله تعالى: ( رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً ) ، المراد بالمنادي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قوله: أَنْ آمِنُوا. بيان للنداء و أن تفسيريّة، و لمّا ذكروا إيمانهم بالمنادي و هو الرسول و هو يخبرهم باُمور عن الله تعالى يحذّرهم من بعضها كالذنوب و السيّئات و الموت على الكفر و الذنب، و يرغّبهم في بعضها كالمغفرة و الرحمة و تفاصيل الجنّة الّتي وعدالله عباده المؤمنين الأبرار بها سألوا ربّهم أن يغفر لهم و يكفّر عن سيّئاتهم و يتوفّاهم مع الأبرار و سألوه أن ينجزهم ما وعدهم من الجنّة و الرحمة على ما ضمنه لهم الرسل بإذن الله فقالوا:( فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ) إلخ فقوله تعالى:( عَلى‏ رُسُلِكَ ) أي حمّلته على رسلك و ضمنه عليك الرسل، و قوله:( وَ لا تُخْزِنا ) ، أي بإخلاف الوعد، و لذا عقّبه بقوله:( إِنَّكَ لا تخلّف الْمِيعادَ ) .

و قد تبيّن من الآيات أنّهم إنّما حصّلوا الاعتقاد بالله و اليوم الآخر و بأنّ لله رسلاً بالنظر في الآيات و أمّا تفاصيل ما جاء به النبيّ فمن طريق الإيمان بالرسول فهم على الفطرة فيما يحكم به الفطرة، و على السمع و الطاعة فيما فيه ذلك.

قوله تعالى: ( فَاسْتَجابَ لَهُمْ ربّهم ) إلخ التعبير بالربّ و إضافته إليهم يدلّ على ثوران الرحمة الإلهيّة و يدلّ عليه أيضاً التعميم الّذي في قوله:( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ ) ، فلا فرق عنده تعالى بين عمل و عمل، و لا بين عامل و عامل.

و على هذا فقوله تعالى في مقام التفريع:( فَالّذينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا ) إلخ في مقام تفصيل صالحات الأعمال لتثبيت ثوابها، و الواو للتفصيل دون الجمع حتّى يكون لبيان ثواب المستشهدين من المهاجرين فقط.

و الآية مع ذلك لا تفصّل إلّا الأعمال الّتي تندب إليها هذه السورة و تبالغ في التحريض و الترغيب فيها، و هو إيثار الدين على الوطن و تحمّل الأذى في سبيل الله و الجهاد.

و الظاهر أنّ المراد بالمهاجرة ما يشمل المهاجرة عن الشرك و العشيرة و الوطن لإطلاق اللّفظ، و لمقابلته قوله:( وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ) ، و هو هجرة خاصّة، و لقوله بعده:( لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) ، فإنّ ظاهر السيّئات في القرآن صغائر المعاصي فهم هاجروا الكبائر بالاجتناب و التوبة، فالمهاجرة المذكورة أعمّ فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ) إلخ، هذا بمنزلة دفع الدخل و التقدير: هذا

٩٤

حال أبرار المؤمنين و هذا أجرهم، و أمّا ما ترى فيه الكفّار من رفاه الحال و ترف الحياة و درّ المعاش فلا يغرّنّك ذلك (الخطاب للنبيّ و المقصود به الناس) لأنّه متاع قليل لا دوام له.

قوله تعالى: ( لكِنِ الّذينَ اتّقوا ربّهم ) إلخ، النزل ما يعدّ للنازل من طعام و شراب و غيرهما، و المراد بهم الأبرار بدليل ما في آخر الآية، و هذا يؤيّد ما ذكرناه من أنّ الآية السابقة دفع دخل.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) إلخ، المراد أنّهم مشاركون للمؤمنين في حسن الثواب، و الغرض منه أنّ السعادة الاُخرويّة ليست جنسيّة حتّى يمنع منها أهل الكتاب و إن آمنوا بل الأمر دائر مدار الإيمان بالله و برسله فلو آمنوا كانوا هم و المؤمنون سواءً.

و قد نفي عن هؤلاء الممدوحين من أهل الكتاب ما ذمّهم الله به في سوابق الآيات و هو التفريق بين رسل الله، و كتمان ما اُخذ ميثاقهم لبيانه اشتراءً بآيات الله ثمناً قليلاً.

( بحث فلسفي و مقايسة)

المشاهدة و التجربة تقضيان أنّ الرجل و المرأة فردان من نوع جوهريّ واحد، و هو الإنسان فإنّ جميع الآثار المشهودة في صنف الرجل مشهودة في صنف المرأة من غير فرق، و بروز آثار النوع يوجب تحقّق موضوعه بلا شكّ، نعم يختلف الصنف بشدّة و ضعف في بعض الآثار المشتركة و هو لا يوجب بطلان وجود النوعيّة في الفرد، و بذلك يظهر أنّ الاستكمالات النوعيّة الميسورة لأحد الصنفين ميسورة في الآخر، و منها الاستكمالات المعنويّة الحاصلة بالإيمان و الطاعات و القربات، و بذلك يظهر عليك أنّ أحسن كلمة و أجمعها في إفادة هذا المعنى قوله سبحانه:( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) .

و إذا قايست ذلك إلى ما ورد في التوراة بان لك الفرق بين موقعي الكتابين ففي سفر الجامعة من التوراة:( درت أنا و قلبي لأعلم و لأبحث و لأطلب حكمة و عقلاً، و لأعرف الشرّ أنّه جهالة، و الحماقة أنّها جنون، فوجدت أمرّ من الموت المرأة الّتي

٩٥

هي شباك، و قلبها أشراك، و يداها قيود، إلى أن قال: رجلاً واحداً بين ألف وجدت أمّا امرأة فبين كلّ اُولئك لم أجد) و قد كانت أكثر الاُمم القديمة لا ترى قبول عملها عندالله سبحانه، و كانت تسمّى في اليونان رجساً من عمل الشيطان، و كانت ترى الروم و بعض اليونان أن ليس لها نفس مع كون الرجل ذا نفس مجرّدة إنسانيّة، و قرّر مجمع فرنسا سنة ٥٨٦ م بعد البحث الكثير في أمرها أنّها إنسان لكنّها مخلوقة لخدمة الرجل، و كانت في إنجلترا قبل مائة سنة تقريباً لا تعدّ جزء المجتمع الإنسانيّ، فارجع في ذلك إلى كتب الآراء و العقائد و آداب الملل تجد فيها عجائب من آرائهم.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج أبونعيم في الحلية عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تفكّروا في خلق الله و لا تفكّروا في الله.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً بطرق اُخرى عن عدّة من الصحابة كعبدالله بن سلام و ابن عمر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الرواية مرويّة من طرق الشيعة أيضاً و المراد بالتفكّر في الله أو في ذات الله على اختلاف الروايات التفكّر في كنهه و قد قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) طه: ١١٠، و أمّا صفاته تعالى فالقرآن أعدل شاهد على أنّه تعالى يعرف بها، و قد ندب إلى معرفته بها في آيات كثيرة.

و فيه، أخرج أبوالشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فكرة ساعة خير من عبادة ستّين سنة.

أقول: و في بعض الروايات: من عبادة ليلة، و في بعضها: من عبادة سنة، و هو مرويّ من طرق الشيعة أيضاً.

و قد ورد من طرق أهل السنّة: أنّ قوله تعالى:( فَاسْتَجابَ لَهُمْ ربّهم ) ، الآية نزلت في اُمّ سلمة لمّا قالت للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشي‏ء فأنزل الله:( فَاسْتَجابَ لَهُمْ ) ، الآية.

و ورد من طرق الشيعة: أنّ قوله:( فَالّذينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا ) الآية، نزلت في

٩٦

عليّعليه‌السلام لمّا هاجر و معه الفواطم: فاطمة بنت أسد، و فاطمة بنت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و فاطمة بنت الزبير، ثمّ لحق بهم في ضجنان اُمّ أيمن و نفر من ضعفاء المؤمنين فساروا و هم يذكرون الله في جميع أحوالهم حتّى لحقوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد نزلت الآيات.

و ورد من طرق أهل السنّة أنّها نزلت في المهاجرين‏، وورد أيضاً أنّ قوله:( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ) الآيات، نزل حين تمنّى بعض المؤمنين ما عليه الكفّار من حسن الحال‏ وورد أيضاً أنّ قوله:( وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) الآية، نزل في النجاشيّ و نفر من أصحابه لمّا مات هو فصلّى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو في المدينة فطعن فيه بعض المنافقين أنّه يصلّي على من ليس في دينه فأنزل الله:( وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) ، الآية.

فهذه جميعاً روايات تطبق الآيات على القصص، و ليست بأسباب للنزول حقيقة.

٩٧

( سورة آل عمران آية ٢٠٠)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ( ٢٠٠)

( بيان)

الآية بمنزلة الفذلكة لتفصيل البيان الوارد في السورة، و فيه تخلّص منه بأخذ النتيجة و إعطائها.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا ) إلخ، الأوامر مطلقة فالصبر يراد به الصبر على الشدائد، و الصبر في طاعة الله، و الصبر عن معصيته، و على أيّ حال هو الصبر من الفرد بقرينة ما يقابله.

و المصابرة هي التصبّر و تحمّل الأذى جماعة باعتماد صبر البعض على صبر آخرين فيتقوّى الحال و يشتدّ الوصف و يتضاعف تأثيره، و هذا أمر محسوس في تأثير الفرد إذا اعتبرت شخصيّته في حال الانفراد، و في حال الاجتماع و التعاون باتّصال القوى بعضها ببعض و سنبحث فيه إن شاء الله بحثاً مستوفى في محلّه.

قوله تعالى: ( وَ رابِطُوا ) أعمّ معنى من المصابرة و هي إيجاد الجماعة، الارتباط بين قواهم و أفعالهم في جميع شؤون حياتهم الدينيّة أعمّ من حال الشدّة و حال الرخاء و لمّا كان المراد بذلك نيل حقيقة السعادة المقصودة للدنيا و الآخرة - و إلّا فلا يتمّ بها إلّا بعض سعادة الدنيا و ليست بحقيقة السعادة - عقّب هذه الأوامر بقوله تعالى:( وَ اتّقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) يعني الفلاح التامّ الحقيقيّ.

( كلام في المرابطة في المجتمع الإسلامي)

١- الإنسان و الاجتماع: كون النوع الإنسانيّ نوعاً اجتماعيّاً لا يحتاج في إثباته إلى كثير بحث فكلّ فرد من هذا النوع مفطور على ذلك، و لم يزل الإنسان يعيش

٩٨

في حال الاجتماع على ما يحكيه التاريخ و الآثار المشهودة الحاكية لأقدم العهود الّتي كان هذا النوع يعيش فيها و يحكم على هذه الأرض.

و قد أنبأ عنه القرآن أحسن إنباء في آيات كثيرة كقوله تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا ) الآية: الحجرات: ١٣، و قال تعالى:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) الزخرف: ٣٢، و قال تعالى:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥، و قال تعالى:( وَ هُوَ الّذي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً ) الفرقان: ٥٤، إلى غير ذلك.(١)

٢- الإنسان و نموه في اجتماعه: الاجتماع الإنسانيّ كسائر الخواصّ الروحيّة الإنسانيّة و ما يرتبط بها لم يوجد حين وجد تامّاً كاملاً لا يقبل النماء و الزيادة بل هو كسائر الاُمور الروحيّة الإدراكيّة الإنسانيّة لم يزل يتكامل بتكامل الإنسان في كمالاته المادّيّة و المعنويّة و على الحقيقة لم يكن من المتوقّع أن يستثني هذه الخاصّة من بين جميع الخواصّ الإنسانيّة فتظهر أوّل ظهورها تامّة كاملة أتمّ ما يكون و أكمله بل هي كسائر الخواصّ الإنسانيّة الّتي لها ارتباط بقوّتي العلم و الإرادة تدريجيّة الكمال في الإنسان.

و الّذي يظهر من التأمّل في حال هذا النوع أنّ أوّل ما ظهر من الاجتماع فيه‏ الاجتماع المنزليّ بالازدواج لكون عامله الطبيعيّ و هو جهاز التناسل أقوى عوامل الاجتماع لعدم تحقّقه إلّا بأزيد من فرد واحد أصلاً بخلاف مثل التغذّي و غيره ثمّ ظهرت منه الخاصّة الّتي سمّيناها في المباحث المتقدّمة من هذا الكتاب بالاستخدام و هو توسيط الإنسان غيره في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته و تحميل إرادته عليه ثمّ برز ذلك في صورة الرئاسة كرئيس المنزل و رئيس العشيرة و رئيس القبيلة و رئيس الاُمّة و بالطبع كان المقدّم المتعيّن من بين العدّة أوّلاً أقواهم و أشجعهم ثمّ أشجعهم، و أكثرهم مالاً و ولداً و هكذا حتّى ينتهي إلى أعلمهم بفنون الحكومة و السياسة و هذا هو السبب

____________________

(١) و ليرجع في دلالة كلّ واحدة من الآيات إلى المحلّ المختصّ بها من هذا التفسير

٩٩

الابتدائيّ لظهور الوثنيّة و قيامها على ساقها حتّى اليوم و سنستوفي البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله العزيز.

و خاصّة الاجتماع بتمام أنواعها (المنزليّ و غيره) و إن لم تفارق الإنسانيّة في هذه الأدوار و لو برهة إلّا أنّها كانت غير مشعور بها للإنسان تفصيلاً بل كانت تعيش و تنمو بتبع الخواصّ الاُخرى المعني بها للإنسان كالاستخدام و الدفاع و نحو ذلك.

و القرآن الكريم يخبر أنّ أوّل ما نبّه الإنسان بالاجتماع تفصيلاً و اعتنى بحفظه استقلالاً نبّهته به النبوّة قال تعالى:( وَ ما كانَ النَّاسُ إلّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ) يونس: ١٩، و قال:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) البقرة: ٢١٣، حيث ينبئ أنّ الإنسان في أقدم عهوده كان اُمّة واحدة ساذجة لا اختلاف بينهم حتّى ظهرت الاختلافات و بانت المشاجرات فبعث الله الأنبياء و أنزل معهم الكتاب ليرفع به الاختلاف، و يردّهم إلى وحدة الاجتماع محفوظة بالقوانين المشرّعة.

و قال تعالى:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الّذي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتفرّقوا فِيهِ ) الشورى: ١٣، فأنبأ أنّ رفع الاختلاف من بين الناس و إيجاد الاتّحاد في كلمتهم إنّما كان في صورة الدعوة إلى إقامة الدين و عدم التفرّق فيه فالدين كان يضمن اجتماعهم الصالح.

و الآية - كما ترى - تحكي هذه الدعوة (دعوة الاجتماع و الاتّحاد) عن نوحعليه‌السلام و هو أقدم الأنبياء اُولي الشريعة و الكتاب ثمّ عن إبراهيم ثمّ عن موسى ثمّ عيسىعليهم‌السلام ، و قد كان في شريعة نوح و إبراهيم النزر اليسير من الأحكام، و أوسع هؤلاء الأربعة شريعة موسى و تتبعه شريعة عيسى على ما يخبر به القرآن و هو ظاهر الأناجيل و ليس في شريعة موسى - على ما قيل - إلّا ستّمائة حكم تقريباً.

فلم تبدأ الدعوة إلى الاجتماع دعوة مستقلّة صريحة إلّا من ناحية النبوّة في قالب الدين كما يصرّح به القرآن، و التاريخ يصدّقه على ما سيجي‏ء.

٣- الإسلام و عنايته بالاجتماع: لا ريب أنّ الإسلام هو الدين الوحيد الّذي

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

تزويجها أنه جائز لأنها تكون منكوحة بإذنها وظاهر الآية مقتض لجواز نكاحها بإذن مولاها فإذا وكل مولاها أو مولاتها امرأة بتزويجها وجب أن يجوز ذلك لأن ظاهر الآية قد أجازه ومن منع ذلك فإنما خص الآية بغير دلالة وأيضا فإن كانت هي لا تملك عقد النكاح عليها فغير جائز توكيلها غيرها به لأن توكيل الإنسان إنما يجوز فيما يملكه فأما ما لا يملكه فغير جائز توكيل غيره في العقود التي تتعلق أحكامها بالموكل دون الوكيل وقد يصح عندنا توكيل من لا يصح عقده إذا عقد في العقود التي تتعلق أحكامها بالوكيل دون الموكل وهي عقود البياعات والإجارات فأما عقد النكاح إذا وكل به فإنما يتعلق حكمه بالموكل دون الوكيل ألا ترى أن الوكيل بالنكاح لا يلزمه المهر ولا تسليمه البضع فلو لم تكن المرأة مالكة لعقد النكاح لما صح توكيلها به لغيرها إذ كانت أحكام العقود غير متعلقة بالوكيل فلما صح توكيلها به مع تعلق أحكامه بها دون الوكيل دل على أنها تملك العقد وهذا أيضا دليل على أن الحرة تملك عقد النكاح على نفسها كما جاز وتوكيلها على غيرها به وهو وليها وقوله تعالى( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) يدل على وجوب مهرها إذا نكحها سمى لها مهرا أو لم يسم لأنه لم يفرق بين من سمى وبين من لم يسم في إيجابه المهر ويدل على أنه قد أريد به مهر المثل قوله تعالى( بِالْمَعْرُوفِ ) وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن المعتاد والمتعارف كقوله تعالى( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) وقوله تعالى( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) يقتضى ظاهره وجوب دفع المهر إليها والمهر واجب للمولى دونها لأن المولى هو المالك للوطء الذي أباحه للزوج بعقد النكاح فهو المستحق لبدله كما لو آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجرة دونها كذلك المهر ومع ذلك فإن الأمة لا تملك شيئا فلا تستحق قبض المهر* ومعنى الآية على أحد وجهين إما أن يكون المراد إعطاؤهن المهر بشرط إذن المولى فيه فيكون الإذن المذكور بديا مضمرا في إعطائها المهر كما كان مشروطا في التزويج فيكون تقديره فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بإذنهم فيدل ذلك على أنه غير جائز إعطاؤهن المهر إلا بإذن المولى وهو كقوله تعالى( وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ) والمعنى والحافظات فروجهن وقوله تعالى( وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ ) ومعناه والذاكرات الله وتكون دلالة هذا الضمير ما في الآية من نفى ملكها لتزويجها نفسها

١٢١

وإن المولى أملك بذلك منها وقوله تعالى( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ) فنفى ملكه نفيا عاما وفيه الدلالة على أن الأمة لا تستحق مهرها ولا تملكه والوجه الآخر أن يكون أضاف الإعطاء إليهن والمراد المولى كما لو تزوج صبية صغيرة أو أمة صغيرة بإذن الأب والمولى جاز أن يقال أعطهما مهريهما ويكون المراد إعطاء الأب أو المولى ألا ترى أنه يصح أن يقال لمن عليه دين ليتيم قد مطله به أنه مانع لليتيم حقه وإن كان اليتيم لا يستحق قبضه ويقال أعط اليتيم حقه وقال تعالى( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) وقد انتظم ذلك الصغار والكبار من أهل هذه الأصناف وإعطاء الصغار إنما يكون بإعطاء أوليائهم فكذلك جائز أن يكون المراد بقوله( وَآتُوهُنَ ) إيتاء من يستحق ذلك من مواليهن* وزعم بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها وأن المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجر دونها واحتج للمهر بقوله تعالى( وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) وقد بينا وجه ذلك ومعناه وعلى أنه إن كان المهر يجب لها لأنه بدل بضعها فكذلك يجب أن تكون الاجرة لها لأنه بدل منافعها ومن حيث كان المولى هو المالك لمنافعها كما كان مالكا لبضعها فمن استحق الأجرة دونها فواجب أن يستحق قبض المهر دونها لأنه بدل ملك المولى لا ملكها لأنها لا تملك منافع بضعها ولا منافع بدنها والمولى هو العاقد في الحالين وبه تمت الإجارة والنكاح فلا فرق بينهما* وحكى هذا القائل أن بعض العراقيين أجاز أن يزوج المولى أمته عبده بغير صداق وهذا* خلاف الكتاب زعم* قال أبو بكر ما أشد إقدام مخالفينا على الدعاوى على الكتاب والسنة ومن راعى كلامه وتفقد ألفاظه قلت دعاويه بما لا سبيل له إلى إثباته فإن كان هذا القائل إنما أراد أنهم أجازوا أن يزوج أمته عبده بغير تسمية مهر فإن كتاب الله تعالى قد حكم بجواز ذلك في قوله( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) فحكم بصحة الطلاق في نكاح لا مهر فيه مسمى فدعواه أن ذلك خلاف الكتاب قد أكذبها الكتاب وإن كان مراده أنهم قالوا إنه لا يثبت مهر ويستبيح بضعها بغير بدل فهذا ما لا نعلم أحدا من العراقيين قاله فحصل هذا القائل على معنيين باطلين إحداهما دعواه على الكتاب وقد بينا أن الكتاب بخلاف ما قال والثاني دعواه على بعض العراقيين ولم يقل أحد منهم ذلك بل قولهم في ذلك أنه إذا تزوج أمته من عبده وجب لها

١٢٢

المهر بالعقد لامتناع استباحة البضع بغير بدل ثم يسقط في الثاني حين يستحقه المولى لأنها لا تمك والمولى هو الذي يملك مالها ولا يثبت للمولى على عبده دين فههنا حالان إحداهما حال العقد يثبت فيها المهر على العبد والحال الثانية هي حال انتقاله إلى المولى بعد العقد فيسقط كما أن رجلا لو كان له على آخر مال فقضاه كان قبضه حالان إحداهما حال قبضه فيملكه مضمونا بمثله ثم يصير قصاصا بماله عليه وكما نقول في الوكيل في الشرى أن المشترى انتقل إليه بالعقد ولا يملكه وينتقل في الثاني ملكه إلى الموكل ولذلك نظائر كثيرة لا يفهمها إلا من ارتاص بالمعاني الفقهية وجالس أهل فقه هذا الشأن وأخذ عنهم* قوله تعالى( مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ) يعنى والله أعلم فانكحوهن محصنات غير مسافحات وأمر بأن يكون العقد عليها بالنكاح صحيح وأن لا يكون وطؤها على وجه الزنا لأن الإحصان هاهنا بالنكاح والسفاح الزنا( وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ) يعنى لا يكون وطؤها على حسب ما كانت عليه عادة أهل الجاهلية في اتخاذ الأخذان قال ابن عباس كان قوم منهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفى منه والخدن هو الصديق للمرأة يزنى بها سرا فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وزجر عن الوطء إلا عن نكاح صحيح أو ملك يمين وسمى الله الإماء الفتيات بقوله( مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) والفتاة اسم للشابة والعجوز الحرة لا تسمى فتاة والأمة الشابة والعجوز كل واحدة منهما تسمى فتاة ويقال إنها سميت فتاة وإن كانت عجوزا لأنها إذا كانت أمة لا توقر توقير الكبيرة والفتوة حال الغرة والحداثة والله أعلم بالصواب.

باب حد الأمة والعبد

قال الله تعالى( فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) قال أبو بكر قرئ فإذا أحصن بفتح الألف وقرئ بضم الألف فروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة أن( أُحْصِنَ ) بالضم معناه تزوجن وعن عمر وابن مسعود والشعبي وإبراهيم( أُحْصِنَ ) بالفتح قالوا معناه أسلمن وقال الحسن يحصنها الزوج ويحصنها الإسلام* واختلف السلف في حد الأمة متى يجب فقال من تأول قوله( فَإِذا أُحْصِنَ ) بالضم على التزويج أن الأمة لا يجب عليها الحد وإن أسلمت ما لم تتزوج وهو مذهب ابن عباس والقائلين بقوله ومن تأول قوله( فَإِذا أُحْصِنَ ) بالفتح على

١٢٣

الإسلام جبل عليها الحد إذا أسلمت وزنت وإن لم تتزوج وهو قول ابن مسعود والقائلين بقوله* وقال بعضهم تأويل من تأوله على أسلمن بعيد لأن ذكر الإيمان قد تقدم لهن بقوله( مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) قال فيبعد أن يقال من فتياتكم المؤمنات فإذا آمن وليس هذا كما ظن لأن قوله( مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) إنما هو في شأن النكاح وقد استأنف ذكر حكم آخر غيره وهو الحد فجاز استيناف ذكر الإسلام فيكون تقديره فإذا كن مسلمات فأتين بفاحشة فعليهن هذا لا يدفعه أحد ولو كان ذلك غير سائغ لما تأوله عمرو ابن مسعود والجماعة الذين ذكرنا قولهم عليه وليس يمتنع أن يكون الأمر ان جميعا من الإسلام والنكاح مرادين باللفظ لاحتماله لهما وتأويل السلف الآية عليهما* وليس الإسلام والتزويج شرطا في إيجاب الحد عليها إذا لم تحصن لم يجب لما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبى هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير والضفير الحبل وفي حديث سعيد المقبري عن أبيه عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في كل مرة فليقم عليها كتاب الله تعالى فأخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بوجوب الحد عليها مع عدم الإحصان فإن قيل فما فائدة شرط الله الإحصان في قوله( فَإِذا أُحْصِنَ ) وهي محدودة في حال الإحصان وعدمه* قيل له لما كانت الحرة لا يجب عليها الرجم إلا أن تكون مسلمة متزوجة أخبر الله تعالى أنهن وإن أحصن بالإسلام وبالتزويج فليس عليهن أكثر من نصف حد الحرة ولو لا ذلك لكان يجوز أن يتوهم افتراق حالها في حكم وجود الإحصان وعدمه فإذا كانت محصنة يكون عليها الرجم وإذا كانت غير محصنة فنصف الحد فأزال الله تعالى توهم من يظن ذلك وأخبر أنه ليس عليها إلا نصف الحد في جميع الأحوال فهذه فائدة شرط الإحصان عند ذكر حدها ولما أوجب عليها نصف حد الحرة مع الإحصان علمنا أنه أراد الجلد إذ الرجم لا ينتصف وقوله تعالى( فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) أراد به الإحصان من جهة الحرية لا الإحصان الموجب للرجم لأنه لو أراد ذلك لم يصح أن يقال عليها نصف الرجم لأنه لا يتبعض* وخص الله الأمة بإيجاب نصف حد الحرة عليها إذا زنت

١٢٤

وعقلت الأمة من ذلك أن العبد بمثابتها إذ كان المعنى الموجب لنقصان الحد معقولا من الظاهر وهو الرق وهو موجود في العبد* وكذلك قوله تعالى( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) خص المحصنات بالذكر وعقلت الأمة حكم المحصنين أيضا في هذه الآية إذا قذفوا إذ كان المعنى في المحصنة العفة والحرية والإسلام فحكموا للرجل بحكم النساء بالمعنى* وهذا يدل على أن الأحكام إذا عقلت بمعان فحيثما وجدت فالحكم ثابت حتى تقوم الدلالة على الاقتصار على بعض المواضع دون بعض.

(فصل) قوله تعالى( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ ) يدل على جواز عطف الواجب على الندب لأن النكاح ندب ليس بفرض وإيتاء المهر واجب ونحوه قوله تعالى( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ثم قال( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) ويصح عطف الندب على الواجب أيضا كقوله تعالى( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) فالعدل واجب والإحسان ندب وقوله تعالى( ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وعطية العوفى هو الزنا وقال آخرون هو الضرر الشديد في دين أو دنيا من قوله تعالى( وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ) وقوله( لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ) راجع إلى قوله( فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) وهذا شرط إلى المندوب إليه من ترك نكاح الأمة والاقتصار على تزوج الحرة لئلا يكون ولده عبدا لغيره فإذا خشي العنت ولم يأمن مواقعة المحظور فهو مباح لا كراهة فيه لا في الفعل ولا في الترك ثم عقب ذلك بقوله تعالى( وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) فأبان عن موضع الندب والاختيار هو ترك نكاح الأمة رأسا فكانت دلالة الآية مقتضية لكراهية نكاح الأمة إذا لم يخض العنت ومتى خشي العنت فالنكاح مباح إذا لم تكن تحته حرة والاختيار أن يتركه رأسا وإن خشي العنت لقوله( وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) وإنما ندب الله تعالى إلى ترك نكاح الأمة رأسا مع خوف العنت لأن الولد المولود على فراش النكاح من الأمة يكون عبدا لسيدها ولم يكره استيلاد الأمة بملك اليمين لأن ولده منها يكون حرا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يوافق معنى الآية في كراهة نكاح الأمة حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن الفضل بن جابر السقطي قال حدثنا محمد بن عقبة بن هرم السدوسي قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم انكحوا

١٢٥

الأكفاء وانكحوهن واختاروا لنطفكم وإياكم والزنج فإنه خلق مشوه قوله انكحوا الأكفاء يدل على نكاح الأمة لأنها ليست بكفؤ للحر وقوله واختاروا لنطفكم يدل على ذلك أيضا لئلا يصير ولده عبدا مملوكا وماؤه حر فينتقل بتزويجه إلى الرق وروى في خبر آخر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال تخيروا لنطفكم فإن عرق السوء يدرك ولو بعد حين وقوله تعالى( يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) يعنى والله أعلم يريد ليبين لنا ما بنا الحاجة إلى معرفته والبيان من الله تعالى على وجهين أحدهما بالنص والآخر بالدلالة ولا تخلو حادثة صغيرة ولا كبيرة إلا ولله فيها حكم إما بنص وإما بدليل وهو نظير قوله( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) وقوله( هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ ) وقوله( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) وقوله( وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) من الناس من يقول إن هذا يدل على أن ما حرمه علينا وبين لنا تحريمه من النساء في الآيتين اللتين قبل هذه الآية كان محرما على الذين كانوا من قبلنا من أمم الأنبياء المتقدمين وقال آخرون لا دلالة فيه على اتفاق الشرائع وإنما معناه له يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان ما لكم فيه من المصلحة كما بينه لهم وإن كانت العبادات والشرائع مختلفة في أنفسها إلا أنها وإن كانت مختلفة في أنفسها فهي متفقة في باب المصالح وقال آخرون يبين لكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق وغيرهم لتجتنبوا الباطل وتحبوا الحق وقوله تعالى( وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) يدل على بطلان مذهب أهل الأخبار لأنه أخبر أنه يريد أن يتوب علينا وزعم هؤلاء أنه يريد من المصرين الإصرار ولا يريد منهم التوبة والاستغفار* قوله تعالى( يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ ) فقال قائلون المراد به كل مبطل لأنه يتبع شهوة نفسه فيما وافق الحق أو خالفه ولا يتبع الحق في مخالفة الشهوة وقال مجاهد أراد به الزنا وقال السدى اليهود والنصارى* وقوله( أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ) يعنى به العدول عن الاستقامة بالاستكثار من المعصية وتكون إرادتهم للميل على أحد وجهين إما لعداوتهم أو للأنس بهم والسكون إليهم في الإقامة على المعصية فأخبر الله تعالى أن إرادته لنا خلاف إرادة هؤلاء وقد دلت الآية على أن القصد في اتباع الشهوة مذموم إلا أن يوافق الحق فيكون حينئذ غير مذموم في اتباع شهوته إذ كان قصده اتباع الحق ولكن من كان هذا سبيله لا يطلق عليه أنه متبع لشهوته لأن قصده فيه اتباع الحق وافق شهوته أو خالفها* قوله تعالى

١٢٦

( يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ) التخفيف هو تسهيل التكليف وهو خلاف التثقيل وهو نظير قوله تعالى( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ) وقوله تعالى( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) وقوله تعالى( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) وقوله تعالى( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) فنفى الضيق والثقل والحرج عنا في الآيات ونظيره قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جئتكم بالحنيفة السمحة وذلك لأنه وإن حرم علينا ما ذكرنا تحريمه من النساء فقد أباح لنا غيرهن من سائر النساء تارة بنكاح وتارة بملك يمين وكذلك سائر المحرمات قد أباح لنا من جنسها أضعاف ما حظر فجعل لنا مندوحة عن الحرام بما أباح من الحلال وعلى هذا المعنى ما روى عن عبد الله بن مسعود إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم يعنى أنه لم يقتصر بالشفاء على المحرمات بل جعل لنا مندوحة وغنى عن المحرمات بما أباحه لنا من الأغذية والأدوية حتى لا يضرنا فقد ما حرم في أمور دنيانا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما * وهذه الآيات يحتج بها في المصير إلى التخفيف فيما اختلف فيه الفقهاء وسوغوا فيه الاجتهاد وفيه الدلالة على بطلان مذهب المجبرة في قولهم إن الله يكلف العباد ما لا يطيقون لأخباره بأنه يريد التخفيف عنا وتكليف ما لا يطاق غاية التثقيل والله أعلم بمعاني كتابه.

باب التجارات وخيار البيع

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) قال أبو بكر قد انتظم هذا العموم النهى عن أكل مال الغير ومال نفسه كقوله تعالى( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) قد اقتضى النهى عن قتل غيره وقتل نفسه فكذلك قوله تعالى( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) نهى لكل أحد عن أكل مال نفسه ومال غيره بالباطل وأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في معاصى الله وأكل مال الغير بالباطل قد قيل فيه وجهان أحدهما ما قال السدى وهو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم وقال ابن عباس والحسن أن يأكله بغير عوض فلما نزلت هذه الآية كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس إلى أن نسخ ذلك بالآية التي في النور( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ـ إلى قوله تعالى ـوَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ ) الآية قال أبو

١٢٧

بكر يشبه أن يكون مراد ابن عباس والحسن أن الناس تحرجوا بعد نزول الآية أن يأكلوا عند أحد لا على أن الآية أوجبت ذلك لأن الهبات والصدقات لم تكن محظورة قط بهذه الآية وكذلك الأكل عند غيره اللهم إلا أن يكون المراد الأكل عند غيره بغير إذنه فهذا لعمري قد تناولته الآية وقد روى الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال هي محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة وروى الربيع عن الحسن قال ما نسخها شيء من القرآن ونظير ما اقتضته الآية من النهى عن أكل مال الغير قوله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ ) وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وعلى أن النهى عن أكل مال الغير معقود بصفة وهو أن يأكله بالباطل وقد تضمن ذلك أكل أبدال العقود الفاسدة كأثمان البياعات الفاسدة وكمن اشترى شيئا من المأكول فوجده فاسدا لا ينتفع به نحو البيض والجوز فيكون أكل ثمنه أكل مال بالباطل وكذلك ثمن كل ما لا قيمة له ولا ينتفع به كالقرد والخنزير والذباب والزنابير وسائر ما لا منفعة فيه فالانتفاع بأثمان جميع ذلك أكل مال بالباطل وكذلك أجرة النائحة والمغنية وكذلك ثمن الميتة والخمر والخنزير وهذا يدل على أن من باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه أنه منهى عن أكل ثمنه وعليه رده إلى مشتريه وكذلك قال أصحابنا أنه إذا تصرف فيه فربح فيه وقد كان عقد عليه(1) بعينة وقبضه أن عليه أن يتصدق به لأنه ربح حصل له من وجه محظور وقوله تعالى( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) منتظم لهذه المعاني كلها ونظائرها من العقود المحرمة فإن قيل هل اقتضى ظاهر الآية تحريم أكل الهبات والصدقات والإباحة للمال من صاحبه قيل له كل ما أباحه الله تعالى من العقود وأطلقه من جواز أكل مال الغير بإباحته إياه فخارج عن حكم الآية لأن الحظر في أكل المال مقيد الشريطة وهي أن يكون أكل مال بالباطل وما أباحه الله تعالى وأحله فليس بباطل بل هو حق فنحتاج أن ننظر إلى السبب الذي يستبيح أكل هذا المال فإن كان مباحا فليس بباطل ولم تتناوله الآية وإن كان محظورا فقد اقتضته الآية وأما قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) اقتضى إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراض والتجارة اسم واقع على عقود المعاوضات

__________________

(1) قوله بعينة وذلك كما لو باع رجل سلعة من آخر ثمن معلوم إلى أجل معلوم ثم اشتراها بأقل من الثمن الذي باعها به لمصححه.

١٢٨

المقصود بها طلب الأرباح قال الله تعالى( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ) فسمى الإيمان تجارة على وجه المجاز تشبيها بالتجارات المقصود بها الأرباح وقال تعالى( يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ ) كما سمى بذل النفوس لجهاد أعداء الله تعالى شرى قال الله تعالى( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) فسمى بذل النفوس شراء على وجه المجاز وقال الله تعالى( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) فسمى ذلك بيعا وشراء على وجه المجاز تشبيها بعقود الأشرية والبياعات التي تحصل بها الأعواض كذلك سمى الإيمان بالله تعالى تجارة لما استحق به من الثواب الجزيل والأبدال الجسيمة فتدخل في قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) عقود البياعات والإجارات والهبات المشروطة فيها الأعواض لأن المبتغى في جميع ذلك في عادات الناس تحصيل الأعواض لا غير* ولا يسمى النكاح تجارة في العرف والعادة إذ ليس المبتغى منه في الأكثر الأعم تحصيل العوض الذي هو مهر وإنما المبتغى فيه أحوال الزوج من الصلاح والعقل والدين والشرف والجاه ونحو ذلك فلم يسم تجارة لهذا المعنى وكذلك الخلع والعتق على مال ليس يكاد يسمى شيء من ذلك تجارة ولما ذكرنا من اختصاص اسم التجارة بما وصفنا قال أبو حنيفة ومحمد إن المأذون له في التجارة لا يزوج أمته ولا عبده ولا يكاتب ولا يعتق على مال ولا يتزوج هو أيضا وإن كانت أمة لا تزوج نفسها لأن تصرفه مقصور على التجارة وليست هذه العقود من التجارة وقالوا إنه يؤاجر نفسه وعبيده وما في يده من أموال التجارة إذ كانت الإجارة من التجارة وكذلك قالوا في المضارب وشريك العنان لأن تصرفهما مقصور على التجارة دون غيرها ولم يختلف الناس أن البيوع من التجارات* واختلف أهل العلم في لفظ البيع كيف هو وقال أصحابنا إذا قال الرجل بعني عبدك هذا بألف درهم فقال قد بعتك لم يقع البيع حتى يقبل الأول ولا يصح عندهم إيجاب البيع ولا قبوله إلا بلفظ الماضي ولا يقع بلفظ الاستقبال لأن قوله بعني إنما هو سوم وأمر بالبيع وليس بإيقاع للعقد والأمر بالبيع ليس ببيع وكذلك قوله اشترى منك ليس بشرى وإنما هو إخبار بأنه يشتريه لأن الألف للاستقبال وكذلك قول البائع اشتر منى وقوله أبيك ليس ذلك بلفظ العقد وإنما هو أخبار بأنه سيعقد

«9 ـ أحكام لث»

١٢٩

أو أمر به وقالوا في النكاح القياس أن يكون مثله إلا أنهم استحسنوا فقالوا إذا قال زوجني بنتك فقال قد زوجتك أنه يكون نكاحا ولا يحتاج الزوج بعد ذلك إلى قبول لحديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقبلها فقال له رجل زوجنيها فراجعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يعطيها إلى أن قال له زوجتكها عقدا بما معك من القرآن فجعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله زوجنيها مع قوله زوجتكها عقدا واقعا ولأخبار أخر قد رويت في ذلك ولأنه ليس المقصد في النكاح الدخول فيه على وجه المساومة والعادة في مثله أنهم لا يفرقون فيه بين قوله زوجني وبين قوله قد زوجتك فلما جرت العادة في النكاح بما وصفنا كان قوله قد زوجتك وقوله زوجيني نفسك سواء* ولما كانت العادة في البيع دخولهم فيه على وجه السوم بديا كان ذلك سوما ولم يكن عقدا فحملوه على القياس وقد قال أصحابنا فيما جرت به العادة بأنهم يريدون به إيجاب التمليك وإيقاع العقد أنه يقع به العقد وهو أن يساومه على شيء ثم يزن له الدراهم ويأخذ للمبيع فجعلوا ذلك عقدا لوقوع تراضيهما به وتسليم كل واحد منهما إلى صاحبه ما طالبه منه وذلك لأن جريان العادة بالشيء كالنطق به إذ كان المقصد من القول الإخبار عن الضمير والاعتقاد فإذا علم ذلك بالعادة مع التسليم للمعقود عليه أجروا ذلك مجرى العقد وكما يهدى الإنسان لغيره فيقبضه فيكون للهبة ونحر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بدنات ثم قال من شاء فليقتطع فقام الاقتطاع في ذلك مقام القبول للهبة في إيجاب التمليك فهذه الوجوه التي ذكرناها هي طرق التراضي المشروط في قوله( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) وقال مالك بن أنس إذا قال بعني هذا بكذا فقال قد بعتك فقد تم البيع وقال الشافعى لا يصح النكاح حتى يقول قد زوجتكها ويقول الآخر قد قبلت تزويجها أو يقول الخاطب زوجنيها ويقول الولي قد زوجتكها فلا يحتاج في هذا إلى قول الزوج قد قبلت* فإن قيل على ما ذكرنا من قول أصحابنا في المتساومين إذا تساوما على السلعة ثم وزن المشترى الثمن وسلمه إليه وسلم البائع السلعة إليه أن ذلك بيع وهو تجارة عن تراض غير جائز أن يكون هذا بيعا لأن لعقد البيع صيغة وهي الإيجاب والقبول بالقول وذلك معدوم فيما وصفت وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى عن المنابذة والملامسة وبيع الحصاة وما ذكرتموه في معنى هذه البياعات التي أبطلها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لوقوعها بغير لفظ البيع قيل له ليس هذا كما ظننت وليس ما أجازه أصحابنا مما

١٣٠

نهى عنه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك لأن بيع الملامسة هو وقوع العقد باللمس والمنابذة وقوع العقد بنبذه إليه وكذلك بيع الحصاة هو أن يضع عليه حصاة فتكون هذه الأفعال عندهم موجبة لوقوع البيع فهذه بيوع معقودة على المخاطرة ولا تعلق لهذه الأسباب التي علقوا وقوع البيع بها بعقد البيع وأما ما جازه أصحابنا فهو أن يتساوما على ثمن يقف البيع ثم يزن له المشترى الثمن ويسلم البائع إليه المبيع وتسليم المبيع والثمن من حقوق البيع وأحكامه فلما فعلا موجب العقد من التسليم صار ذلك رضى منهما بما وقف عليه العقد من السوم ولمس الثوب ووضع الحصاة ونبذه ليس من موجبات العقد ولا من أحكامه فصار العقد معلقا على خطر فلا يجوز وصار ذلك أصلا في امتناع وقوع البياعات على الأخطار وذلك أن يقول بعتكه إذا قدم زيد وإذا جاء غد ونحو ذلك وقوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) عموم في إطلاق سائر التجارات وإباحتها وهو كقوله تعالى( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) في اقتضاء عمومه لإباحة سائر البيوع إلا ما خصه التحريم لأن اسم التجارة أعم من اسم البيع لأن اسم التجارة ينتظم عقود الإجارات والهبات الواقعة على الأعواض والبياعات فيضمن قوله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) معنيين أحدهما نهى معقود بشريطة محتاجة إلى بيان في إيجاب حكمه وهو قوله تعالى( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) لأنه يحتاج إلى أن يثبت أنه أكل مال باطل حتى يتناوله حكم اللفظ والمعنى الثاني إطلاق سائر التجارات وهو عموم في جميعها لا إجمال فيه ولا شريطة فلو خلينا وظاهره لأجزنا سائر ما يسمى تجارة إلا أن الله تعالى قد خص منها أشياء بنص الكتاب وأشياء بسنة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فالخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وسائر المحرمات في الكتاب لا يجوز بيعها لأن إطلاق لفظ التحريم يقتضى سائر وجوه الانتفاع وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وقال في الخمر إن الذي حرمها حرم بيعها وأكل ثمنها ولعن بائعها ومشتريها ونهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البيع الغرر وبيع العبد الآبق وبيع ما لم يقبض وبيع ما ليس عند الإنسان ونحوها من البياعات المجهولة والمعقود على غرر جميع ذلك مخصوص من ظاهر قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) وقد قرئ قوله( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) بالنصب والرفع فمن قرأها بالنصب كان تقديره إلا أن تكون الأموال تجارة عن تراض فتكون التجارة

١٣١

الواقعة عن تراض مستثناة من النهى عن أكل المال إذ كان أكل المال بالباطل قد يكون من جهة التجارة ومن غير جهة التجارة فاستثنى التجارة من الجملة وبين أنها ليست أكل المال بالباطل ومن قرأها بالرفع كان تقديره إلا أن تقع تجارة كقول الشاعر :

فدى لبنى شيبان رحلي وناقتي

إذا كان يوم ذو كواكب أشهب

يعنى إذا حدث يوم كذلك وإذا كان معناه على هذا كان النهى عن أكل المال بالباطل على إطلاقه لم يستثن منه شيء وكان ذلك استثناء منقطعا بمنزلة لكن إن وقعت تجارة عن تراض فهو مباح* وقد دلت هذه الآية على بطلان قول القائلين بتحريم المكاسب لإباحة الله التجارة الواقعة عن تراض ونحوه قوله تعالى( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) وقوله تعالى( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) وقوله تعالى( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) فذكر الضرب في الأرض للتجارة وطلب المعاش مع الجهاد في سبيل الله فدل ذلك على أنه مندوب إليه والله تعالى أعلم وبالله التوفيق.

باب خيار المتبايعين

اختلف أهل العلم في خيار المتبايعين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد ومالك بن أنس إذا عقد بيع بكلام فلا خيار لهما وإن لم يتفرقا وروى نحوه عن عمر بن الخطاب وقال الثوري والليث وعبيد الله بن الحسن والشافعى إذا عقدا فهما بالخيار ما لم يتفرقا وقال الأوزاعى هما بالخيار ما لم يتفرقا إلا في بيوع ثلاثة بيع مزايدة الغنائم والشركة في الميراث والشركة في التجارة فإذا صافقه فقد وجب وليسا فيه بالخيار* ووقت الفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه وقال الليث التفرق أن يقوم أحدهما وكل من أوجب الخيار يقول إذا خيره في المجلس فاختار فقد وجب البيع وروى خيار المجلس عن ابن عمر* قال أبو بكر قوله تعالى( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) يقتضى جواز الأكل بوقوع البيع عن تراض قبل الافتراق إذ كانت التجارة هي الإيجاب والقبول في عقد البيع وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شيء ولا يسمى ذلك تجارة في شرع ولا لغة فإذا كان الله قد أباح أكل ما اشترى بعد وقوع التجارة عن تراض فمانع ذلك بإيجاب الخيار خارج عن

١٣٢

ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد على نفسه وذلك عقد قد عقده كل واحد منهما على نفسه فيلزمه الوفاء به وفي إثبات الخيار نفى للزوم الوفاء به وذلك خلاف مقتضى الآية ويدل عليه أيضا قوله تعالى( إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) إلى قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) ثم أمر عند عدم الشهود بأخذ الرهن وثيقة بالثمن وذلك مأمور به عند عقده البيع قبل التفرق لأنه قال تعالى( إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) فأمر بالكتاب عند عقده المداينة قد أثبت الدين عليه بقوله تعالى( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ) فلو لم يكن عقد المداينة موجبا للحق عليه قبل الإفتراق لما قال( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ ) ولما وعظه بالبخس وهو لا شيء عليه لأن ثبوت الخيار له يمنع ثبوت الدين للبائع في ذمته وفي إيجاب الله تعالى الحق عليه بعقد المداينة في قوله تعالى( وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ ) دليل على نفى الخيار وإيجاب البتات ثم قال تعالى( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) تحصينا للمال واحتياطا للبائع من جحود المطلوب أو موته قبل أدائه ثم قال تعالى( وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا ) ولو كان لهما الخيار قبل الفرقة لم يكن في الإشهاد احتياط ولا كان أقوم للشهادة إذ لا يمكن للشاهد إقامة الشهادة بثبوت المال ثم قال( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) وإذا هي للوقت فاقتضى ذلك الأمر بالشهادة عند وقوع التبايع من غير ذكر الفرقة ثم أمر برهن مقبوض في السفر بدلا من الاحتياط بالإشهاد في الحضر وفي إثبات الخيار إبطال الرهن إذ غير جائز إعطاء الرهن بدين لم يجب بعد فدلت الآية بما تضمنته من الأمر بالإشهاد على عقد المداينة وعلى التبايع والاحتياط في تحصين المال تارة بالإشهاد وتارة بالرهن إن العقد قد أوجب ملك المبيع للمشتري وملك الثمن للبائع بغير خيار لهما إذ كان إثبات الخيار نافيا لمعانى الإشهاد والرهن ونافيا لصحة الإقرار بالدين فإن قيل الأمر بالإشهاد والرهن ينصرف إلى أحد المعنيين إما أن يكون الشهود حاضرين العقد

١٣٣

ويفترقان بحضرتهم فتصح حينئذ شهادتهم على صحة البيع ولزوم الثمن وإما أن يتعاقدا فيما بينهما عقد مداينة ثم يفترقان ويقران عند الشهود بعد ذلك فيشهد الشهود على إقرارهما به أو يرهنه بالدين رهنا فيصح قيل له أول ما في ذلك أن الوجهين جميعا خلاف الآية وفيهما إبطال ما تضمنته من الاحتياط بالإشهاد والرهن وذلك لأن الله تعالى قال( إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ـ إلى قوله تعالى ـوَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ ) فأمر بالإشهاد على عقد المداينة عند وقوعه بلا تراخ احتياطا لهما وزعمت أنت أنه يشهد بعد الإفتراق وجائز أن تهلك السلعة قبل الإفتراق فيبطل الدين أو يجحده إلى أن يفترقا ويشهد أو جائز أن يموت فلا يصل البائع إلى تحصين ماله بالإشهاد وقال الله تعالى( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) فندب إلى الإشهاد على التبايع عند وقوعه ولم يقل إذا تبايعتم وتفرقتم وموجب الخيار مثبت في الآية من التفرق ما ليس فيها وغير جائز أن يزاد في حكم الآية ما ليس فيها وإن تركا الإشهاد إلى بعد الافتراق كان في ذلك ترك الاحتياط الذي من أجله ندب إلى الإشهاد وعسى أن يموت المشترى قبل الإشهاد أو يجحده فيصير حينئذ إيجاب الخيار مسقطا لمعنى الاحتياط وتحصين المال بالإشهاد وفي ذلك دليل على وقوع البيع بالإيجاب والقبول بتاتا لا خيار فيه لواحد منهما فإن قيل فلو شرطا في البيع ثبوت الخيار لثلاث كان الإشهاد عليه صحيحا مع شرط الخيار ولم يكن ما تلوت من آية الدين وكتب الكتاب والإشهاد والرهن مانعا وقوعه على شرط الخيار وصحة الإشهاد عليه فكذلك إثبات خيار المجلس لا ينفى صحة الشهادة والرهن قيل له الآية بما فيها من الإشهاد لم تتضمن البيع المشروط فيه الخيار وإنما تضمنت بيعا باتا وإنما أجزنا شرط الخيار بدلالة خصصناه بها من جملة ما تضمنته الآية في المداينات واستعملنا حكمها في البياعات العارية من شرط الخيار فليس فيما أجزنا من البيع المعقود على شرط الخيار ما يمنع استعمال حكم الآية بما انتظمته من الاحتياط بالإشهاد والرهن وصحة إقرار العاقد في البياعات التي لم يشرط فيها خيار والبيع المعقود على شرط الخيار خارج عن حكم الآية غير مراد بها لما وصفنا حتى يسقط الخيار ويتم البيع فحينئذ يكونان مندوبين إلى الإشهاد على الإقرار دون التبايع ولو أثبتنا الخيار في كل بيع وتم البيع على حسب ما يذهب إليه مخالفونا لم يبق للآية موضع يستعمل فيه حكمها على حسب مقتضاها وموجبها وأيضا فإن إثبات الخيار إنما يكون مع

١٣٤

عدم الرضى بالبيع ليرتئ في إبرام البيع أو فسخه فإذا تعاقدا عقد البيع من غير شرط الخيار فكل واحد منهما راض بتمليك ما عقد عليه لصاحبه فلا معنى لإثبات الخيار فيه مع وجود الرضى به ووجود الرضى مانع من الخيار ألا ترى أنه لا خلاف بين المثبتين لخيار المجلس أنه إذا قال لصاحبه اختر فاختاره ورضى به أن ذلك مبطل لخيارهما وليس في ذلك أكثر من رضاهما بإمضاء البيع والرضى موجود منهما بنفس المعاقدة فلا يحتاجان إلى رضى ثان لأنه لو جاز أن يشترط بعد رضاهما به بديا بالعقد رضى آخر لجاز أن يشترط رضى ثان وثالث وكان لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار ثالث ورابع فلما بطل هذا صح أن رضاهما بالبيع هو إبطال للخيار وإتمام للبيع وإنما صح خيار الشرط في البيع لأنه لم يوجد من المشروط له الخيار رضى بإخراج شيئه من ملكه حين شرط لنفسه الخيار ومن أجل ذلك جاز إثبات الخيار فيه* فإن قيل فأنت قد أثبت خيار الرؤية وخيار العيب مع وجود الرضى بالبيع ولم يمنع رضاهما من إثبات الخيار على هذا الوجه فكذلك لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار المجلس* قيل له ليس خيار العيب من خيار المجلس في شيء وذلك لأن خيار الرؤية لا يمنع وقوع الملك لكل واحد منهما فيما عقد صاحبه من جهته لوجود الرضى من كل واحد منهما به فليس لهذا الخيار تأثير في نفى الملك بل الملك واقع مع وجود الخيار لأجل وجود الرضى من كل واحد منهما به وخيار المجلس على قول القائلين به مانع من وقوع الملك لكل واحد منهما فيما ملكه إياه صاحبه مع وجود الرضى من كل واحد منهما بتمليكه إياه ولا فرق بين الرضى به بديا بإيجابه له العقد وبينه إذا قال قد رضيت فاختر ورضى به صاحبه فلا فرق بين البيع فيما فيه خيار الرؤية وخيار العيب وبين ما ليس فيه واحد من الخيارين في باب وقوع الملك به وإنما يختلفان بعد ذلك في خيار غير ناف للملك وإنما هو لأجل جهالة صفات المبيع عنده أو لفوت جزء منه موجب له بالعقد ويدل على أن الرضى بالعقد هو الموجب للملك اتفاق الجميع على وقوع الملك لكل واحد منهما بعد الافتراق وبطلان الخيار به وقد علمنا أنه ليس في الفرقة دلالة على الرضى ولا على نفيه لأن حكم الفرقة والبقاء في المجلس سواء في نفى دلالته على الرضى فعلمنا أن الملك إنما وقع بالرضى بديا بالعقد لا بالفرقة وأيضا فإنه ليس في الأصول فرقة يتعلق بها تمليك وتصحيح العقد بل في الأصول أن الفرقة إنما تؤثر في فسخ كثير

١٣٥

من العقود من ذلك الفرقة عن عقد الصرف قبل القبض وعن السلم قبل القبض لرأس المال وعن الدين بالدين قبل تعيين أحدهما فلما وجدنا الفرقة في الأصول في كثير من العقود إنما تأثيرها في إبطال العقد دون جوازه ولم تجد في الأصول فرقة مؤثرة في تصحيح العقد وجوازه ثبت أن اعتبار خيار المجلس ووقوع الفرقة في تصحيح العقد خارج عن الأصول مع ما فيه من مخالفة ظاهر الكتاب وأيضا قد ثبت بالسنة واتفاق الأمة من شرط صحة عقد افتراقهما عن مجلس العقد عن قبض صحيح فإن كان خيار المجلس ثابتا في عقد الصرف مع التقابض والعقد لم يتم ما بقي الخيار فإذا افترقا لم يجز أن يصح بالافتراق ما من شأنه أن يبطله الافتراق قبل صحته فإذا كانا قد افترقا عنه ولما يصح بعد لم يجز أن يصح بالافتراق فيكون الموجب لصحته هو الموجب لبطلانه ويدل على نفى خيار المجلس قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه فأحل له المال بطيبة من نفسه وقد وجد ذلك بعقد البيع فوجب بمقتضى الخبر أن يحل له ودلالة الخبر على ذلك كدلالة قوله تعالى( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) ويدل عليه نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشترى فأباح بيعه إذا جرى فيه الصاعان ولم يشرط فيه الافتراق فوجب ذلك أن يجوز بيعه إذا اكتاله من بائعة في المجلس الذي تعاقدا فيه وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه فلما أجاز بيعه بعد القبض ولم يشرط فيه الافتراق فوجب بقضية الخبر أنه إذا قبضه في المجلس أن يجوز بيعه وذلك ينفى خيار البائع لأن ما للبائع فيه خيار لا يجوز تصرف المشترى فيه* ويدل عليه أيضا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع ومن باع نخلا وله ثمرة فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع فجعل الثمرة ومال العبد للمشتري بالشرط من غير ذكر التفريق ومحال أن يملكها المشترى قبل مالك الأصل المعقود عليه فدل ذلك على وقوع الملك للمشتري بنفس العقد* ويدل عليه أيضا قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبى هريرة لن يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه واتفق الفقهاء على أنه لا يحتاج إلى استئناف عتق بعد الشرى وأنه متى صح له الملك عتق عليه فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أوجب عتقه بالشرى من غير شرط الفرقة ويدل عليه من جهة النظر أن المجلس قد يطول ويقصر فلو عقلنا وقوع الملك على خيار المجلس لأوجب بطلانه

١٣٦

لجهالة مدة الخيار الذي علق عليه وقوع الملك ألا ترى أنه لو باعه بيعا باتا وشرطا الخيار لهما بمقدار قعود فلان في مجلسه كان البيع باطلا لجهالة مدة الخيار الذي تعلقت عليه صحة العقد واحتج القائلون بخيار المجلس بما روى عن ابن عمرو أبى برزة وحكيم بن حزام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا وروى عن نافع عن ابن عمر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال إذا تبايع المتبايعان بالبيع فكل واحد منهما بالخيار من بائعه ما لم يفترقا أو يكون بيعهما عن خيار فإذا كان عن خيار فقد وجب وكان ابن عمر إذا بايع الرجل ولم يخيره وأراد ألا يقيله قام فمشى هنيهة ثم رجع فاحتج القائلون بهذه المقالة بظاهر قوله المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا وابن عمر هو راوي الحديث وقد عقل من مراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فرقة الأبدان* قال أبو بكر فأما ما روى من فعل ابن عمر فلا دلالة فيه على أنه من مذهبه لأنه جائز أن يكون خاف أن يكون بائعه ممن يرى الخيار في المجلس فيحذر منه بذلك حذرا مما لحقه في البراءة من العيوب حتى خوصم إلى عثمان فحمله على خلاف رأيه ولم يجز البراءة إلا أن يبينه لمبتاعه وقد روى عن ابن عمر ما يدل على موافقته وهو ما روى ابن شهاب عن حمزة ابن عبد الله بن عمر عن أبيه قال ما أدركت الصفقة حيا فهو من مال المبتاع وهذا يدل على أنه كان يرى أن المبيع كان يدخل من ملك المشترى بالصفقة ويخرج من ملك البائع وذلك ينفى الخيار قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا وفي بعض الألفاظ البائعان بالخيار ما لم يفترقا فإن حقيقته تقتضي حال التبايع وهي حال السوم فإذا أبر ما البيع وتراضيا فقد وقع البيع فليسا متبايعين في هذه الحال في الحقيقة كما أن المتضاربين والمتقايلين إنما يلحقهما هذا الاسم في حال التضارب والتقايل وبعد انقضاء الفعل لا يسميان به على الإطلاق وإنما يقال كان متقايلين ومتضاربين وإذا كانت حقيقة معنى اللفظ ما وصفنا لم يصح الاستدلال في موضع الخلاف به فإن قيل هذا التأويل يؤدى إلى إسقاط فائدة الخبر لأنه غير مشكل على أحد أن المتساومين قبل وجود التراضي بالعقد على خيارهما في إيقاع العقد أو تركه* قيل له بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه قد كان جائزا أن يظن ظان أن البائع إذا قال للمشتري قد بعتك أن لا يكون له رجوع فيه قبل قبول المشترى كالعتق على مال والخلع على مال أنه ليس للمولى ولا للزوج الرجوع فيه قبل قبول العبد والمرأة فأبان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حكم البيع في إثبات الخيار لكل واحد منهما في الرجوع قبل قبول الآخر وأنه مفارق للعتق والخلع

١٣٧

فإن قيل كيف يجوز أن يسمى المتساومان متبايعين قبل وقوع العقد بينهما* قيل له ذلك جائز إذا قصدا إلى البيع بإظهار السوم فيه كما نسمى القاصدين إلى القتل متقاتلين وإن لم يقع منهما قتل بعد وكما قيل لولد إبراهيم عليه السلام المأمور بذبحه الذبيح لقربه من الذبح وإن لم يذبح قال تعالى( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) والمعنى فيه مقاربة البلوغ ألا ترى أنه قال في آية أخرى( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ ) وأراد به حقيقة البلوغ فجائز على هذا أن يسمى المتساومان متبايعين إذا قصدا إيقاع العقد على النحو الذي بينا والذي لا يختل على أحد أنهما بعد وقوع البيع منهما لا يسميان متبايعين على الحقيقة كسائر الأفعال إذا انقضت زال عن فاعليها الأسماء المشتقة لها من أفعالهم إلا في أسماء المدح والذم على ما بينا في صدر هذا الكتاب وإنما يقال كانا متبايعين وكانا متقابلين وكانا متضاربين* ويدل على أن هذا الاسم ليس بحقيقة لهما بعد إيقاع العقد أنه قد يصح منهما الإقالة والفسخ بعد العقد وهما في الحقيقة متقابلان في حال فعل الإقالة وغير جائز أن يكونا متقابلين متفاسخين ومتبايعين في حال واحدة فدل ذلك على أن إطلاق اسم المتبايعين عليهما إنما يتناول حال السوم وإيقاع العقد حقيقة وأن هذا الاسم إنما يلحقهما بعد انقضاء العقد على معنى أنهما كانا متبايعين وذلك مجاز وإذا كان كذلك وجب حمل اللفظ على الحقيقة وهي حال التبايع وهو أن يقول قد بعتك فأطلق اسم البيع من قبل نفسه قبل قبول الآخر فهذه هي الحال التي هما متبايعان فيها وهي حال ثبوت الخيار لكل واحد منهما فللبائع الخيار في الفسخ قبل قبول الآخر وللمشتري الخيار في القبول قبل الإفتراق ويدلك على أن المراد هذه الحال قوله المتبايعان وإنما البائع أحدهما وهو صاحب السلعة فكأنه قال إذا قال البائع قد بعت فهما بالخيار قبل الافتراق لأنه معلوم أن المشترى ليس ببائع فثبت أن المراد إذا باع البائع قبل قبول المشترى* وقد اختلف الفقهاء في تأويل قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا فروى عن محمد بن الحسن أن معناه إذا قال البائع قد بعتك فله أن يرجع ما لم يقل المشترى قبلت قال وهو قول أبى حنيفة وعن أبى يوسف هما المتساومان فإذا قال بعتك بعشرة فللمشترى خيار القبول في المجلس وللبائع خيار الرجوع فيه قبل قبول المشترى ومتى قام أحدهما قبل قبول البيع بطل الخيار الذي كان لهما ولم تكن لواحد منهما

١٣٨

إجازته فحمله محمد على الافتراق بالقول وذلك سائغ قال الله تعالى( وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) ويقال تشاور القوم في كذا فافترقوا عن كذا يراد به الاجتماع على قول والرضى به وإن كانوا مجتمعين في المجلس ويدل على أن المراد الافتراق بالقول ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقبله * وقوله المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا هو على الافتراق بالقول ألا ترى أنه قال ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله وهذا هو افتراق الأبدان بعد الافتراق بالقول وصحة وقوع العقد به والاستقالة هو مسألته الإقالة وهذا يدل من وجهين على نفى الخيار بعد وقوع العقد أحدهما أنه لو كان له خيار المجلس لما احتاج إلى أن يسأله الإقالة بل كان هو يفسخه بحق الخيار الذي له فيه والثاني أن الإقالة لا تكون إلا بعد صحة العقد وحصول ملك كل واحد منهما فيما عقد عليه من قبل صاحبه فهذا يدل على نفى الخيار وصحة البيع وقوله ولا يحل له أن يفارقه يدل على أنه مندوب إلى إقالته إذا سأله إياها ماداما في المجلس مكروه له أن لا يجيبه إليها وأن حكمه في ذلك بعد الافتراق مخالف له إذا لم يفارقه في أنه لا يكره له ترك إجابته إلى الإقالة بعد الفرقة ويكره له قبلها* ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا على بن أحمد الأزدى قال حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة قال حدثنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم البيعان لا بيع بينهما إلا أن يفترقا إلا بيع الخيار وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا القعنبي قال حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كل بيعين لا بيع بينهما حتى يفترقا فأخبرصلى‌الله‌عليه‌وسلم كل بيعين لا بيع بينهما إلا بعد الافتراق وهذا يدل على أنه أراد بنفيه البيع بينهما في حال السوم وذلك لأنهما لو كانا قد تبايعا لم ينف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم تبايعهما مع صحة العقد وقوعه فيما بينهما لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينفى ما قد أثبت فعلمنا أن المراد المتساومان اللذان قد قصدا إلى التبايع وأوجب البائع البيع للمشتري إلى شرائه منه بأن قال له بعني فنفى أن يكون بينهما بيع حتى يفترقا بالقول والقبول إذا لم يكن قوله بعني قبولا

١٣٩

للعقد ولا من ألفاظ البيع وإنما هو أمر به فإذا قال قد قبلت وقع البيع فهذا هو الافتراق الذي أراده النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على القول الذي قدمنا ذكر نظائره في إطلاق ذلك في اللسان* فإن قيل ما أنكرت أن يكون مراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفيه البيع حال إيقاع البيع بالإيجاب والقبول وإنما نفى أن يكون بينهما بيع لما لهما فيه من خيار المجلس قيل له هذا غلط من قبل أن ثبوت الخيار لا يوجب نفى اسم البيع عنه ألا ترى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أثبت بينهما البيع إذا شرطا فيه الخيار بعد الافتراق ولم يكن ثبوت الخيار فيه موجبا لنفى اسم البيع عنه لأنه قال كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا إلا بيع الخيار فجعل بيع الخيار بيعا فلو أراد بقوله كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا حال وقوع الإيجاب والقبول لما نفى البيع بينهما لأجل خيار المجلس كما لم ينفه إذا كان فيه خيار مشروط بل أثبته وجعله بيعا فدل ذلك على أن قوله كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا إنما أراد به المتساومين في البيع وأفاد ذلك أن قوله اشتر منى أو قول المشترى بعني ليس ببيع حتى يفترقا بأن يقول البائع قد بعت ويقول المشترى قد اشتريت فيكون قد افترقا وتم البيع ووجب أن لا يكون فيه خيار مشروط فيكون ذلك بيعا وإن لم يفترقا بأبدانهما بعد حصول الافتراق فيهما بالإيجاب والقبول وأكثر أحوال ما روى من قوله المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا احتماله لما وصفنا ولما قال مخالفنا وغير جائز الاعتراض على ظاهر القرآن بالاحتمال بل الواجب حمل الحديث على موافقة القرآن ولا يحمل على ما يخالفه ويدل من جهة النظر على ما وصفنا اتفاق الجميع على أن النكاح والخلع والعتق على مال والصلح من دم العمد إذا تعاقداه بينهما صح بالإيجاب والقبول من غير خيار يثبت لواحد منهما والمعنى فيه الإيجاب والقبول فيما يصح العقد عليه من غير خيار مشروط وقوله عز وجل( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) قال عطاء والسدى لا يقتل بعضكم بعضا قال أبو بكر هو نظير قوله تعالى( وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ) ومعناه يقتلوا بعضكم وتقول العرب قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم وقيل إنما حسن ذلك لأنهم أهل دين واحد فهم كالنفس الواحدة فلذلك قال( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) وأراد قتل بعضكم بعضا وقد روى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المؤمنين كالنفس الواحدة إذا ألم بعضه تداعى سائره بالحمى والسهر وقال المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا فكان تقديره ولا يقتل بعضكم بعضا في أكل أموالكم بالباطل ولا غيره مما هو محرم

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458