الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134253 / تحميل: 6194
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

فحكمت فينا سيرة الكنيسة و استتبع ذلك أن تفرّقت القلوب و ظهر الفتور و تشتّت المذاهب و المسالك يغفر الله لنا و يوفّقنا لمرضاته و يهدينا إلى صراطه المستقيم.

١٥- الدين الحقّ هو الغالب على الدنيا بالآخرة: و العاقبة للتقوى فإنّ النوع الإنسانيّ بالفطرة المودوعة فيه تطلب سعادته الحقيقيّة و هو استواؤه على عرش حياته الروحيّة و الجسميّة معاً حياة اجتماعيّة بإعطاء نفسه حظّه من السلوك الدنيويّ و الاُخرويّ و قد عرفت أنّ هذا هو الإسلام و دين التوحيد.

و أمّا الانحرافات الواقعة في سير الإنسانيّة نحو غايته و في ارتقائه إلى أوج كماله فإنّما هو من جهة الخطأ في التطبيق لا من جهة بطلان حكم الفطرة، و الغاية الّتي يعقّبها الصنع و الإيجاد لا بدّ أن تقع يوماً معجّلاً أو على مهل، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (يريد أنّهم لا يعلمون ذلك علماً تفصيليّاً و إن علمته فطرتهم إجمالاً)، - إلى أن قال -لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتمتّعوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - إلى أن قال -ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الروم: ٣٠-٤١ ، و قال تعالى:( فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذلّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعزّة عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) المائدة: ٥٤، و قال تعالى:( وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء: ١٠٥، و قال تعالى:( وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى‏ ) طه: ١٣٢، فهذه و أمثالها آيات تخبرنا أنّ الإسلام سيظهر ظهوره التامّ فيحكم على الدنيا قاطبة.

و لا تصغ إلى قول من يقول: إنّ الإسلام و إن ظهر ظهوراً مّا و كانت أيّامه حلقة من سلسلة التاريخ فأثّرت أثرها العامّ في الحلقات التالية و اعتمدت عليها المدنيّة الحاضرة شاعرة بها أو غير شاعرة لكنّ ظهوره التامّ أعني حكومة ما في فرضيّة الدين بجميع موادّها و صورها و غاياتها ممّا لا يقبله طبع النوع الإنسانيّ و لن يقبله أبداً و لم يقع عليه بهذه الصفة تجربة حتّى يوثق بصحّة وقوعه خارجاً و حكومته على النوع تامّة.

و ذلك أنّك عرفت أنّ الإسلام بالمعنى الّذي نبحث فيه غاية النوع الإنسانيّ

١٤١

و كماله الّذي هو بغريزته متوجّه إليه شعر به تفصيلاً أو لم يشعر و التجارب القطعيّة الحاصلة في أنواع المكوّنات يدلّ على أنّها متوجّهة إلى غايات مناسبة لوجوداتها يسوقها إليها نظام الخلقة، و الإنسان غير مستثنى من هذه الكلّيّة.

على أنّ شيئاً من السنن و الطرائق الدائرة في الدنيا الجارية بين المجتمعات الإنسانيّة لم يتّك في حدوثه و بقائه و حكومته على سبق تجربة قاطعة فهذه شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ظهرت حينما ظهرت ثمّ جرت بين الناس، و كذا ما أتى به برهما و بوذا و ماني و غيرهم، و تلك سنن المدنيّة المادّيّة كالديمقراطيّة و الكمونيسم و غيرهما كلّ ذلك جرى في المجتمعات الإنسانيّة المختلفة بجرياناتها المختلفة من غير سبق تجربة.

و إنّما تحتاج السنن الاجتماعيّة في ظهورها و رسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة و همم عالية من نفوس قويّة لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مآربها عيّ و لا نصب، و لا تذعن بأنّ الدهر قد لا يسمح بالمراد و المسعى قد يخيب، و لا فرق في ذلك بين الغايات و المآرب الرحمانيّة و الشيطانيّة.

( بحث روائي‏)

في المعاني، عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا ) الآية: اصبروا على المصائب، و صابروهم على الفتنة. و رابطوا على من تقتدون به.

و في تفسير العيّاشيّ، عنهعليه‌السلام : اصبروا على دينكم، و صابروا عدوّكم، و رابطوا إمامكم.

أقول: و روي ما يقرب منه من طرق أهل السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الكافي، عنهعليه‌السلام : اصبروا على الفرائض، و صابروا على المصائب و رابطوا على الأئمّة.

و في المجمع، عن عليّعليه‌السلام : رابطوا الصلوات قال أي انتظروها لأنّ المرابطة لم تكن حينئذ.

١٤٢

أقول: اختلاف الروايات مستند إلى ما تقدّم من إطلاق الأوامر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن حيّان عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أ لا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا، و يكفّر به الذنوب؟ قلنا بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره، و كثرة الخطى إلى المساجد، و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط.

أقول: و رواه بطرق اُخرى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأخبار في فضيلة المرابطة أكثر من أن تحصى‏.

١٤٣

( سورة النساء مدنيّة و هي مائة و ست و سبعون آية)

( سورة النساء آية ١)

( بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏) يَاأَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَ( ١)

( بيان)

غرض السورة كما يلوّح إليه هذا الصدر بيان أحكام الزواج كعدد الزوجات و محرّمات النكاح و غير ذلك، و أحكام المواريث، و فيها اُمور اُخرى من أحكام الصلاة و الجهاد و الشهادات و التجارة و غيرها، و تعرّض لحال أهل الكتاب.

و مضامين آياتها تشهد أنّها مدنيّة نزلت بعد الهجرة، و ظاهرها أنّها نزلت نجوماً لا دفعة واحدة و إن كانت أغلب آياتها غير فاقدة للارتباط فيما بينها.

و أمّا هذه الآية في نفسها فهي و عدّة من الآيات التالية لها المتعرّضة لحال اليتامى و النساء كالتوطئة لما سيبيّن من أمر المواريث و المحارم و أمّا عدد الزوجات الواقعة في الآية الثالثة فإنّه و إن كان من مهمّات السورة إلّا أنّه ذكر في صورة التطفّل بالاستفادة من الكلام المقدّمي الّذي وقع في الآية كما سيجي‏ء بيانه.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتّقوا ربّكمُ ) إلى قوله:( وَ نِساءً ) يريد دعوتهم إلى تقوى ربّهم في أمر أنفسهم و هم ناس متّحدون في الحقيقة الإنسانيّة من غير اختلاف فيها بين الرجل منهم و المرأة و الصغير و الكبير و العاجز و القويّ حتّى لا يجحف الرجل منهم بالمرأة و لا يظلم كبيرهم الصغير في مجتمعهم الّذي هداهم الله إليه لتتميم سعادتهم و الأحكام و القوانين المعمولة بينهم الّتي ألهمهم إيّاها لتسهيل طريق حياتهم، و حفظ وجودهم و بقائهم فرادى و مجتمعين.

و من هناك تظهر نكتة توجيه الخطاب إلى الناس دون المؤمنين خاصّة و كذا تعليق التقوى بربّهم دون أن يقال: اتّقوا الله و نحوه فإنّ الوصف الّذي ذكّروا به أعني

١٤٤

قوله:( الّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) إلخ يعمّ جميع الناس من غير أن يختصّ بالمؤمنين، و هو من أوصاف الربوبيّة الّتي تتكفّل أمر التدبير و التكميل لا من شؤون الألوهيّة.

و أمّا قوله تعالى:( الّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) إلخ فالنفس على ما يستفاد من اللّغة عين الشي‏ء يقال: جاءني فلان نفسه و عينه و إن كان منشأ تعيّن الكلمتين - النفس و العين - لهذا المعنى (ما به الشي‏ء شي‏ء) مختلفاً، و نفس الإنسان هو ما به الإنسان إنسان، و هو مجموع روح الإنسان و جسمه في هذه الحياة الدنيا و الروح وحدها في الحياة البرزخيّة على ما تحقّق فيما تقدّم من البحث في قوله تعالى:( وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ الله أَمْواتٌ ) الآية: البقرة: ١٥٤.

و ظاهر السياق أنّ المراد بالنفس الواحدة آدمعليه‌السلام ، و من زوجها زوجته، و هما أبوا هذا النسل الموجود الّذي نحن منه و إليهما ننتهي جميعاً على ما هو ظاهر القرآن الكريم كما في قوله تعالى:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثمّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ) الزمر: ٦، و قوله تعالى:( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجنّة ) الأعراف:٢٧، و قوله تعالى: حكاية عن إبليس:( لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلّا قَلِيلًا ) إسراء: ٦٢.

و أمّا ما احتمله بعض المفسّرين أنّ المراد بالنفس الواحدة و زوجها في الآية مطلق الذكور و الإناث من الإنسان الزوجين اللّذين عليهما مدار النسل فيؤول المعنى إلى نحو قولنا: خلق كلّ واحد منكم من أب و اُمّ بشرين من غير فرق في ذلك بينكم فيناظر قوله تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣، حيث إنّ ظاهره نفي الفرق بين الأفراد من جهة تولّد كلّ واحد منهم من زوجين من نوعه: ذكر و اُنثى.

ففيه فساد ظاهر و قد فاته أنّ بين الآيتين أعني آية النساء و آية الحجرات فرقاً بيّناً فإنّ آية الحجرات في مقام بيان اتّحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة الإنسانيّة، و نفي الفرق بينهم من جهة انتهاء تكوّن كلّ واحد منهم إلى أب و اُمّ إنسانين فلا ينبغي أن يتكبّر أحدهم على الآخرين و لا يتكرّم إلّا بالتقوى، و أمّا آية النساء فهي في مقام

١٤٥

بيان اتّحاد أفراد الإنسان من حيث الحقيقة، و أنّهم على كثرتهم رجالاً و نساء إنّما اشتقّوا من أصل واحد و تشعّبوا من منشأ واحد فصاروا كثيراً على ما هو ظاهر قوله:( وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً ) ، و هذا المعنى كما ترى لا يناسب كون المراد من النفس الواحدة و زوجها مطلق الذكر و الاُنثى الناسلين من الإنسان على أنّه لا يناسب غرض السورة أيضاً كما تقدّم بيانه.

و أمّا قوله:( وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها ) فقد قال الراغب: يقال لكلّ واحد من القرينين من الذكر و الاُنثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج، و لكلّ قرينين فيها و في غيرها: زوج كالخفّ و النعل، و لكلّ ما يقترن بآخر مماثلاً له أو مضادّاً: زوج، إلى أن قال: و زوجه لغة رديئة، انتهى.

و ظاهر الجملة أعني قوله:( وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها ) أنّها بيان لكون زوجها من نوعها بالتماثل و أنّ هؤلاء الأفراد المبثوثين مرجعهم جميعاً إلى فردين متماثلين متشابهين فلفظة من نشوئيّة و الآية في مساق قوله تعالى:( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً ) الروم: ٢١، و قوله تعالى:( وَ الله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً ) النحل: ٧٢، و قوله تعالى:( فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) الشورى: ١١، و نظيرها قوله:( وَ مِنْ كلّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ) الذاريات: ٤٩، فما في بعض التفاسير: أنّ المراد بالآية كون زوج هذه النفس مشتقّة منها و خلقها من بعضها وفاقاً لما في بعض الأخبار: أنّ الله خلق زوجة آدم من ضلع من أضلاعه ممّا لا دليل عليه من الآية.

و أمّا قوله:( وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً ) ، البثّ هو التفريق بالإثارة و نحوها قال تعالى:( فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) الواقعة: ٦، و منه بثّ الغمّ و لذلك ربّما يطلق البثّ و يراد به الغمّ لأنّه مبثوث يبثّه الإنسان بالطبع، قال تعالى:( قالَ إنّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى الله‏ ) يوسف: ٨٦، أي غمّي و حزني.

و ظاهر الآية أنّ النسل الموجود من الإنسان ينتهي إلى آدم و زوجته من غير

١٤٦

أن يشاركهما فيه غيرهما حيث قال: و بثّ منهما رجالاً كثيراً و نساءً، و لم يقل: منهما و من غيرهما، و يتفرّع عليه أمران:

أحدهما: أنّ المراد بقوله:( رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً ) أفراد البشر من ذرّيّتهما بلا واسطة أو مع واسطة فكأنّه قيل: و بثّكم منهما أيّها الناس.

و ثانيهما: أنّ الازدواج في الطبقة الاُولى بعد آدم و زوجته أعني في أولادهما بلا واسطة إنّما وقع بين الإخوة و الأخوات (ازدواج البنين بالبنات) إذ الذكور و الإناث كانا منحصرين فيهم يومئذ، و لا ضير فيه فإنّه حكم تشريعيّ راجع إلى الله سبحانه فله أن يبيحه يوماً و يحرّمه آخر، قال تعالى:( وَ الله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١، و قال:( إِنِ الْحُكْمُ إلّا لله ) يوسف: ٤٠، و قال:( وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) الكهف: ٢٦، و قال:( وَ هُوَ الله لا إِلهَ إلّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى‏ وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص: ٧٠.

قوله تعالى: ( وَ اتّقوا الله الّذي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ ) المراد بالتساؤل سؤال بعض الناس بعضاً بالله، يقول أحدهم لصاحبه: أسألك بالله أن تفعل كذا و كذا هو إقسام به تعالى، و التساؤل بالله كناية عن كونه تعالى معظّماً عندهم محبوباً لديهم فإنّ الإنسان إنّما يقسم بشي‏ء يعظّمه و يحبّه.

و أمّا قوله: وَ الْأَرْحامَ فظاهره أنّه معطوف على لفظ الجلالة، و المعنى: و اتّقوا الأرحام، و ربّما قيل: إنّه معطوف على محلّ الضمير في قوله: به و هو النصب يقال: مررت بزيد و عمراً، و ربّما أيدته قراءة حمزة: و الأرحام بالجرّ عطفاً على الضمير المتّصل المجرور - و إن ضعّفه النحاة - فيصير المعنى: و اتّقوا الله الّذي تساءلون به و بالأرحام يقول أحدكم لصاحبه: أسألك بالله و أسألك بالرحم، هذا ما قيل، لكنّ السياق و دأب القرآن في بياناته لا يلائمانه فإنّ قوله: وَ الْأَرْحامَ إن جعل صلة مستقلّة للّذي، و كان تقدير الكلام: و اتّقوا الله الّذي تساءلون بالأرحام كان خالياً من الضمير و هو غير جائز، و إن كان المجموع منه و ممّا قبله صلة واحدة للّذي كان فيه تسوية بين الله عزّ اسمه و بين الأرحام في أمر العظمة و العزّة و هي تنافي أدب القرآن.

١٤٧

و أمّا نسبة التقوى إلى الأرحام كنسبته إليه تعالى فلا ضير فيها بعد انتهاء الأرحام إلى صنعه و خلقه تعالى، و قد نسب التقوى في كلامه تعالى إلى غيره كما في قوله:( وَ اتّقوا يوماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ) البقرة: ٢٨١، و قوله:( وَ اتّقوا النَّارَ الّتي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ) آل عمران: ١٣١، و قوله:( وَ اتّقوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الّذينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصّةً ) الأنفال: ٢٥.

و كيف كان فهذا الشطر من الكلام بمنزلة التقييد بعد الإطلاق و التضييق بعد التوسعة بالنسبة إلى الشطر السابق عليه أعني قوله:( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتّقوا - إلى قوله -وَ نِساءً ) ، فإنّ محصّل معنى الشطر الأوّل: أن اتّقوا الله من جهة ربوبيّته لكم، و من جهة خلقه و جعله إيّاكم - معاشر أفراد الإنسان - من سنخ واحد محفوظ فيكم و مادّة محفوظة متكثّرة بتكثّركم، و ذلك هو النوعيّة الجوهريّة الإنسانيّة، و محصّل معنى هذا الشطر: أن اتّقوا الله من جهة عظمته و عزّته عندكم (و ذلك من شؤون الربوبيّة و فروعها) و اتّقوا الوحدة الرحميّة الّتي خلقها بينكم (و الرحم شعبة من شعب الوحدة و السنخيّة السارية بين أفراد الإنسان).

و من هنا يظهر وجه تكرار الأمر بالتقوى و إعادته ثانياً في الجملة الثانية فإنّ الجملة الثانية في الحقيقة تكرار للجملة الاُولى مع زيادة فائدة و هي إفادة الاهتمام التامّ بأمر الأرحام.

و الرحم في الأصل رحم المرأة و هي العضو الداخليّ منها المعبّأ لتربية النطفة وليداً، ثمّ أستعير للقرابة بعلاقة الظرف و المظروف لكون الأقرباء مشتركين في الخروج من رحم واحدة، فالرحم هو القريب و الأرحام الأقرباء، و قد اعتنى القرآن الشريف بأمر الرحم كما اعتنى بأمر القوم و الاُمّة، فإنّ الرحم مجتمع صغير كما أنّ القوم مجتمع كبير، و قد اعتنى القرآن بأمر المجتمع و عدّه حقيقة ذات خواصّ و آثار كما اعتنى بأمر الفرد من الإنسان و عدّه حقيقة ذات خواصّ و آثار تستمدّ من الوجود، قال تعالى:( وَ هُوَ الّذي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ هُوَ الّذي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ ربّك قَدِيراً ) الفرقان:٥٤،

١٤٨

و قال تعالى:( وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا ) الحجرات: ١٣، و قال تعالى:( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله ) الأحزاب: ٦، و قال تعالى:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تولّيتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) سورة محمّد: ٢٢، و قال تعالى:( وَ لْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) الآية: النساء: ٩، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) الرقيب الحفيظ و المراقبة المحافظة، و كأنّه مأخوذ من الرقبة بعناية أنّهم كانوا يحفظون رقاب عبيدهم، أو أنّ الرقيب كان يتطّلع على من كان يرقبه برفع رقبته و مدّ عنقه، و ليس الرقوب مطلق الحفظ بل هو الحفظ على أعمال المرقوب من حركاته و سكناته لإصلاح موارد الخلل و الفساد أو ضبطها، فكأنّه حفظ الشي‏ء مع العناية به علماً و شهوداً و لذا يستعمل بمعنى الحراسة و الانتظار و المحاذرة و الرصد، و الله سبحانه رقيب لأنّه يحفظ على العباد أعمالهم ليجزيهم بها، قال تعالى:( وَ ربّك عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ ) سبأ: ٢١، و قال:( الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) الشورى: ٦، و قال:( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ ربّك سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ ربّك لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر: ١٤.

و في تعليل الأمر بالتقوى في الوحدة الإنسانيّة السارية بين أفراده و حفظ آثارها اللّازمة لها، بكونه تعالى رقيباً أعظم التحذير و التخويف بالمخالفة، و بالتدبّر فيه يظهر ارتباط الآيات المتعرّضة لأمر البغي و الظلم و الفساد في الأرض و الطغيان و غير ذلك، و ما وقع فيها من التهديد و الإنذار، بهذا الغرض الإلهيّ و هو وقاية الوحدة الإنسانيّة من الفساد و السقوط.

( كلام في عمر النوع الإنسانيّ و الإنسان الأولي)

يذكر تاريخ اليهود أنّ عمر هذا النوع لا يزيد على ما يقرب من سبعة آلاف سنة و الاعتبار يساعده فإنّا لو فرضنا ذكراً و اُنثى (زوجين اثنين) من هذا النوع و فرضناهما عائشين زماناً متوسّطاً من العمر في مزاج متوسّط في وضع متوسّط من الأمن و الخصب

١٤٩

و الرفاهية و مساعدة سائر العوامل و الشرائط المؤثّرة في حياة الإنسان ثمّ فرضناهما و قد تزوّجا و تناسلا و توالدا في أوضاع متوسّطة متناسبة ثمّ جعلنا الفرض بعينه مطّرداً فيما أولدا من البنين و البنات على ما يعطيه متوسّط الحال في جميع ذلك وجدنا ما فرضناه من العدد أوّلاً و هو اثنان فقط يتجاوز في قرن واحد (رأس المائة) الألف أي إنّ كلّ نسمة يولّد في المائة سنة ما يقرب من خمس مائة نسمة.

ثمّ إذا اعتبرنا ما يتصدّم به الإنسان من العوامل المضادّة له في الوجود و البلايا العامّة لنوعه من الحرّ و البرد و الطوفان و الزلزلة و الجدب و الوباء و الطاعون و الخسف و الهدم و المقاتل الذريعة و المصائب الاُخرى غير العامّة، و أعطيناها حظّها من هذا النوع أوفر حظّ، و بالغنا في ذلك حتّى أخذنا الفناء يعمّ الأفراد بنسبة تسعمائة و تسعة و تسعين إلى الألف، و أنّه لا يبقى في كلّ مائة سنة من الألف إلّا واحد أي إنّ عامل التناسل في كلّ مائة سنة يزيد على كلّ اثنين بواحد و هو واحد من ألف.

ثمّ إذا صعدنا بالعدد المفروض أوّلاً بهذا الميزان إلى مدّة سبعة آلاف سنة (٧٠ قرناً) وجدناه تجاوز بليونين و نصفاً، و هو عدد النفوس الإنسانيّة اليوم على ما يذكره الإحصاء العالميّ.

فهذه الاعتبار يؤيّد ما ذكر من عمر نوع الإنسان في الدنيا لكن علماء الجيولوجي (علم طبقات الأرض) ذكروا أنّ عمر هذا النوع يزيد على مليونات من السنين، و قد وجدوا من الفسيلات الإنسانيّة و الأجساد و الآثار ما يتقدّم عهده على خمس مائة ألف سنة على ما استظهروه، فهذا ما عندهم، غير أنّه لا دليل معهم يقنع الإنسان و يرضي النفس باتّصال النسل بين هذه الأعقاب الخالية و الاُمم الماضية من غير انقطاع، فمن الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الأرض ثمّ كثر و نما و عاش ثمّ انقرض ثمّ تكرّر الظهور و الانقراض و دار الأمر على ذلك عدّة أدوار، على أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الأدوار.

و أمّا القرآن الكريم فإنّه لم يتعرّض تصريحاً لبيان أنّ ظهور هذا النوع هل ينحصر في هذه الدورة الّتي نحن فيها أو أنّ له أدواراً متعدّدة نحن في آخرها؟ و إن

١٥٠

كان ربّما يستشمّ من قوله تعالى:( وَ إِذْ قالَ ربّك لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ ) الآية: البقرة: ٣٠، سبق دورة إنسانيّة اُخرى على هذه الدورة الحاضرة، و قد تقدّمت الإشارة إليه في تفسير الآية.

نعم في بعض الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ما يثبت للإنسانيّة أدواراً كثيرة قبل هذه الدورة و سيجي‏ء في البحث الروائيّ.

( كلام في أنّ النسل الحاضر ينتهي إلى آدم و زوجته)

ربّما قيل: إنّ اختلاف الألوان في أفراد الإنسان و عمدتها البياض كلون أهل النقاط المعتدلة من آسيا و اُوربا، و السواد كلون أهل إفريقيا الجنوبيّة، و الصفرة كلون أهل الصين و اليابان، و الحمرة كلون الهنود الأمريكيّين يقضي بانتهاء النسل في كلّ لون إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللّون الآخر لما في اختلاف الألوان من اختلاف طبيعة الدماء و على هذا فالمبادي الاُول لمجموع الأفراد لا ينقصون من أربعة أزواج للألوان الأربعة.

و ربّما يستدلّ عليه بأنّ قارّة أمريكا انكشفت و لها أهل و هم منقطعون عن الإنسان القاطن في نصف الكرة الشرقيّ بالبعد الشاسع الّذي بينهما انقطاعاً لا يرجى و لا يحتمل معه أنّ النسلين يتّصلان بانتهائهما إلى أب واحد و اُم واحدة، و الدليلان - كما ترى - مدخولان:

أمّا مسألة اختلاف الدماء باختلاف الألوان فلأنّ الأبحاث الطبيعيّة اليوم مبنيّة على فرضيّة التطوّر في الأنواع، و مع هذا البناء كيف يطمأنّ بعدم استناد اختلاف الدماء فاختلاف الألوان إلى وقوع التطوّر في هذا النوع و قد جزموا بوقوع تطوّرات في كثير من الأنواع الحيوانيّة كالفرس و الغنم و الفيل و غيرها، و قد ظفر البحث و الفحص بآثار أرضيّة كثيرة يكشف عن ذلك؟ على أنّ العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف ذاك الاعتناء(١) .

____________________

(١) و قد ورد في الجرائد في هذه الأيّام: أنّ جمعاً من الأطباء قد اكتشفوا فورمول طبّيّ يغيّر به لون بشرة الإنسان كالسواد إلى البياض مثلاً.

١٥١

و أمّا مسألة وجود الإنسان في ما وراء البحار فإنّ العهد الإنسانيّ على ما يذكره علماء الطبيعة يزهو إلى ملايين من السنين، و الّذي يضبطه التاريخ النقليّ لا يزيد على ستّة آلاف سنة، و إذا كان كذلك فما المانع من حدوث حوادث فيما قبل التاريخ تجزّي قارة أمريكا عن سائر القارات، و هناك آثار أرضيّة كثيرة تدلّ على تغييرات هامّة في سطح الأرض بمرور الدهور من تبدّل بحر إلى برّ و بالعكس، و سهل إلى جبل و بالعكس، و ما هو أعظم من ذلك كتبدّل القطبين و المنطقة على ما يشرحه علوم‏ طبقات الأرض و إلهيئة و الجغرافيا فلا يبقى لهذا المستدلّ إلّا الاستبعاد فقط هذا.

و أمّا القرآن فظاهره القريب من النصّ أنّ هذا النسل الحاضر المشهود من الإنسان ينتهي بالارتقاء إلى ذكر و اُنثى هما الأب و الاُمّ لجميع الأفراد أمّا الأب فقد سمّاه الله تعالى في كتابه بآدم، و أمّا زوجته فلم يسمّها في كتابه و لكنّ الروايات تسمّيها حوّاء كما في التوراة الموجودة، قال تعالى:( وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) الم السجدة: ٨، و قال تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثمّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: ٥٩، و قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ ربّك لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ) الآية: البقرة: ٣١، و قال تعالى:( إِذْ قالَ ربّك لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) الآيات: ص: ٧٢، فإنّ الآيات - كما ترى - تشهد بأنّ سنّة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبّب إليه بالنطفة لكنّه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب، و أنّ آدم خلق من تراب و أنّ الناس بنوه، فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم و زوجته ممّا لا ريب فيه و إن لم تمتنع من التأويل.

و ربّما قيل: أنّ المراد بآدم في آيات الخلقة و السجدة آدم النوعيّ دون الشخصيّ كأنّ مطلق الإنسان من حيث انتهاء خلقه إلى الأرض و من حيث قيامه بأمر النسل و الإيلاد سمّي بآدم، و ربّما استظهر ذلك من قوله تعالى:( وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثمّ صَوَّرْناكُمْ

١٥٢

ثمّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) الأعراف: ١١، فإنّه لا يخلو عن إشعار بأنّ الملائكة إنّما اُمروا بالسجدة لمن هيّأه الله لها بالخلق و التصوير و قد ذكرت الآية أنّه جميع الأفراد لا شخص إنسانيّ واحد معيّن حيث قال:( وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثمّ صَوَّرْناكُمْ ) ، و هكذا قوله تعالى:( قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ - إلى أن قال -قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ - إلى أن قال -قالَ فَبِعزّتكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ص: ٨٣، حيث أبدل ما ذكره مفرداً أوّلاً من الجمع ثانياً.

و يردّه مضافاً إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلناه من الآيات ظاهر قوله تعالى - بعد سرد قصّة آدم و سجدة الملائكة و إباء إبليس - في سورة الأعراف:( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجنّة يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما ) الأعراف: ٢٧، فظهور الآية في شخصيّة آدم ممّا لا ينبغي أن يرتاب فيه.

و كذا قوله تعالى:( وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلّا إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الّذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إلّا قَلِيلًا ) إسراء: ٦٢، و كذا الآية المبحوث عنها:( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتّقوا ربّكمُ الّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً ) الآية، بالتقريب الّذي مرّ بيانه.

فالآيات - كما ترى - تأبى أن يسمّى الإنسان آدم باعتبار و ابن آدم باعتبار آخر، و كذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار و إلى النطفة باعتبار آخر و خاصّة في مثل قوله تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثمّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) الآية، و إلّا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقة عيسى خلقة استثنائيّة ناقضة للعادة الجارية. فالقول بآدم النوعيّ في حدّ التفريط، و الإفراط الّذي يقابله قول بعضهم: إنّ القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر. ذهب إليه زين العرب من علماء أهل السنّة.

١٥٣

( كلام في أنّ الإنسان نوع مستقلّ)

( غير متحوّل من نوع آخر)

الآيات السابقة تكفي مؤنة هذا البحث فإنّها تنهي هذا النسل الجاري بالنطفة إلى آدم و زوجته و تبيّن أنّهما خلقا من تراب فالإنسانيّة تنتهي إليهما و هما لا يتّصلان بآخر يماثلهما أو يجانسهما و إنّما حدثا حدوثاً.

و الشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الإنسان أنّ الإنسان الأوّل فرد تكامل إنساناً و هذه الفرضيّة بخصوصها و إن لم يتسلّمها الجميع تسلّماً يقطع الكلام و اعترضوا عليه باُمور كثيرة مذكورة في الكتب لكنّ أصل الفرضيّة و هي( أنّ الإنسان حيوان تحوّل إنساناً ) ممّا تسلّموه و بنوا عليه البحث عن طبيعة الإنسان.

فإنّهم فرضوا أنّ الأرض - و هي أحد الكواكب السيّارة - قطعة من الشمس مشتقّة منها و قد كانت في حال الاشتعال و الذوبان ثمّ أخذت في التبرّد من تسلّط عوامل البرودة، و كانت تنزل عليها أمطار غزيرة و تجري عليها السيول و تتكوّن فيها البحار ثمّ حدثت تراكيب مائيّة و أرضيّة فحدثت النباتات المائيّة ثمّ حدثت بتكامل النبات و اشتمالها على جراثيم الحياة السمك و سائر الحيوان المائيّ ثمّ السمك الطائر ذو الحياتين ثمّ الحيوان البرّيّ ثمّ الإنسان، كلّ ذلك بتكامل عارض للتركيب الأرضيّ الموجود في المرتبة السابقة يتحوّل به التركيب في صورته إلى المرتبة اللّاحقة فالنبات ثمّ الحيوان المائيّ ثمّ الحيوان ذو الحياتين ثمّ الحيوان البرّيّ ثمّ الإنسان على الترتيب هذا.

كلّ ذلك لما يشاهد من الكمال المنظّم في بنيها نظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال و لما يعطيه التجريب في موارد جزئيّة التطوّر.

و هذه فرضيّة افترضت لتوجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواصّ و الآثار من

١٥٤

غير قيام دليل عليها بالخصوص و نفي ما عداها مع إمكان فرض هذه الأنواع متباينة من غير اتّصال بينها بالتطوّر و قصر التطوّر على حالات هذه الأنواع دون ذواتها و هي الّتي جرى فيها التجارب فإنّ التجارب لم يتناول فرداً من أفراد هذه الأنواع تحوّل إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان و إنّما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصّها و لوازمها و أعراضها.

و استقصاء هذا البحث يطلب من غير هذا الموضع، و إنّما المقصود الإشارة إلى أنّه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط به من المسائل من غير أن يقوم عليه دليل قاطع فالحقيقة الّتي يشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعاً مفصولاً عن سائر الأنواع غير معارضة بشي‏ء علميّ.

( كلام في تناسل الطبقة الثانية من الإنسان)

الطبقة الاُولى من الإنسان و هي آدم و زوجته تناسلت بالازدواج فأولدت بنين و بنات (إخوة و أخوات) فهل نسل هؤلاء بالازدواج بينهم و هم إخوة و أخوات أو بطريق غير ذلك؟ ظاهر إطلاق قوله تعالى:( وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً ) الآية على ما تقدّم من التقريب أنّ النسل الموجود من الإنسان إنّما ينتهي إلى آدم و زوجته من غير أن يشاركهما في ذلك غيرهما من ذكر أو اُنثى و لم يذكر القرآن للبثّ إلّا إيّاهما، و لو كان لغيرهما شركة في ذلك لقال: وَ بَثَّ مِنْهُما و من غيرهما، أو ذكر ذلك بما يناسبه من اللّفظ، و من المعلوم أنّ انحصار مبدإ النسل في آدم و زوجته يقضي بازدواج بنيهما من بناتهما.

و أمّا الحكم بحرمته في الإسلام و كذا في الشرائع السابقة عليه على ما يحكى فإنّما هو حكم تشريعيّ يتبع المصالح و المفاسد لا تكوينيّ غير قابل للتغيير، و زمامه بيدالله سبحانه يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد فمن الجائز أن يبيحه يوماً لاستدعاء الضرورة ذلك ثمّ يحرّمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة و استيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع.

١٥٥

و القول بأنّه على خلاف الفطرة و ما شرعه الله لأنبيائه دين فطريّ، قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠، فاسد فإنّ الفطرة لا تنفيه و لا تدعو إلى خلافه من جهة تنفّرها عن هذا النوع من المباشرة (مباشرة الأخ الاُخت) و إنّما تبغضه و تنفيه من جهة تأديته إلى شيوع الفحشاء و المنكر و بطلان غريزة العفّة بذلك و ارتفاعها عن المجتمع الإنسانيّ، و من المعلوم أنّ هذا النوع من التماسّ و المباشرة إنّما ينطبق عليه عنوان الفجور و الفحشاء في المجتمع العالميّ اليوم، و أمّا المجتمع العالميّ يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه إلّا الإخوة و الأخوات و المشيّة الإلهيّة متعلّقه بتكثّرهم و انبثاثهم فلا ينطبق عليه هذا العنوان.

و الدليل على أنّ الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزيّة تداوله بين المجوس أعصاراً طويلة (على ما يقصّه التاريخ) و شيوعه قانونيّاً في روسيا (على ما يحكى) و كذا شيوعه سفاحاً من غير طريق الازدواج القانونيّ في اُوربه(١) .

و ربّما يقال: إنّه مخالف للقوانين الطبيعيّة و هي الّتي تجري في الإنسان قبل عقده‏ المجتمع الصالح لإسعاده فإنّ الاختلاط و الاستيناس في المجتمع المنزليّ يبطل غريزة التعشّق و الميل الغريزيّ بين الإخوة و الأخوات كما ذكره بعض علماء الحقوق(٢) .

و فيه أنّه ممنوع كما تقدّم أوّلاً، و مقصور في صورة عدم الحاجة الضروريّة ثانياً، و مخصوص بما لا تكون القوانين الوضعيّة غير الطبيعيّة حافظة للصلاح الواجب الحفظ في المجتمع، و متكفّلة لسعادة المجتمعين و إلّا فمعظم القوانين المعمولة و الاُصول الدائرة في الحياة اليوم غير طبيعيّة.

____________________

(١) من العادات الرائجة في هذه الأزمنة في الملل المتمدّنة من أوربا و أمريكا: أن الفتيات يزلن بكارتهنّ قبل الازدواج القانونيّ و البلوغ إلى سنّه و قد أنتج الإحصاء أن بعضها إنّما هو من ناحية آبائهن أو إخوانهن.

(٢) مونتسكيو في كتابه روح القوانين.

١٥٦

( بحث روائي‏)

في التوحيد، عن الصادقعليه‌السلام في حديث قال: لعلّك ترى أنّ الله لم يخلق بشراً غيركم؟ بلى و الله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر اُولئك الآدميّين.

أقول: و نقل ابن ميثمّ في شرح نهج البلاغة عن الباقرعليه‌السلام ما في معناه، و رواه الصدوق في الخصال أيضاً.

و في الخصال، عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ الله تعالى خلق اثني عشر ألف عالم كلّ عالم منهم أكبر من سبع سماوات و سبع أرضين ما يرى عالم منهم أنّ الله عزّوجلّ عالماً غيرهم.

و فيه، عن أبي جعفرعليه‌السلام : لقد خلق الله عزّوجلّ في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحداً بعد واحد مع عالمه ثمّ خلق الله عزّوجلّ آدم أبا البشر و خلق ذرّيّته منه، الحديث.

و في نهج البيان، للشيبانيّ عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام : من أيّ شي‏ء خلق الله حوّاء؟ فقالعليه‌السلام : أيّ شي‏ء يقولون هذا الخلق؟ قلت يقولون: إنّ الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم. فقال: كذبوا أ كان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟ فقلت: جعلت فداك من أيّ شي‏ء خلقها؟ فقال: أخبرني أبي عن آبائه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله تبارك و تعالى قبض قبضة من طين فخلطها بيمينه - و كلتا يديه يمين - فخلق منها آدم، و فضلت فضلة من الطين فخلق منها حوّاء.

أقول: و رواه الصدوق عن عمرو مثله‏، و هناك روايات اُخر تدلّ على أنّها خلقت من خلف آدم و هو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر، و كذا ورد في التوراة في الفصل الثاني من سفر التكوين، و هذا المعنى و إن لم يستلزم في نفسه محالاً إلّا أنّ الآيات القرآنيّة خالية عن الدلالة عليها كما تقدّم.

و في الإحتجاج، عن السجّادعليه‌السلام في حديث له مع قرشيّ يصف فيه تزويج هابيل

١٥٧

بلوزا اُخت قابيل و تزويج قابيل بإقليما اُخت هابيل، قال: فقال له القرشيّ: فأولداهما؟ قال: نعم، فقال له القرشيّ: فهذا فعل المجوس اليوم، قال: فقال: إنّ المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله، ثمّ قال له: لا تنكر هذا إنّما هي شرائع الله جرت، أ ليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثمّ أحلّها له؟ فكان ذلك شريعة من شرائعهم ثمّ أنزل الله التحريم بعد ذلك، الحديث.

أقول: و هذا الّذي ورد في الحديث هو الموافق لظاهر الكتاب و الاعتبار، و هناك روايات اُخر تعارضها و هي تدلّ على أنّهم تزوّجوا بمن نزل إليهم من الحور و الجانّ و قد عرفت الحقّ في ذلك.

و في المجمع، في قوله تعالى:( وَ اتّقوا الله الّذي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ ) ، عن الباقرعليه‌السلام : و اتّقوا الأرحام أن تقطعوها.

أقول: و بناؤه على قراءة النصب.

و في الكافي، و تفسير العيّاشيّ،: هي أرحام الناس إنّ الله عزّوجلّ أمر بصلتها و عظّمها، أ لا ترى أنّه جعلها معه؟

أقول: قوله: أ لا ترى إلخ بيان لوجه التعظيم، و المراد بجعلها معه الاقتران الواقع في قوله تعالى:( وَ اتّقوا الله الّذي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله:( الّذي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ ) قال: قال ابن عبّاس: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يقول الله تعالى: صلوا أرحامكم فإنّه أبقى لكم في الحياة الدنيا و خير لكم في آخرتكم.

أقول: قوله: فإنّه أبقى لكم إلخ، إشارة إلى ما ورد مستفيضاً: أنّ صلة الرحم تزيد في العمر و قطعها بالعكس من ذلك، و يمكن أن يستأنس لوجهه بما سيأتي في تفسير قوله تعالى:( وَ لْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) الآية: النساء: ٩.

و يمكن أن يكون المراد بكونه أبقى كون الصلة أبقى للحياة من حيث أثرها فإنّ الصلة تحكّم الوحدة السارية بين الأقارب فيتقوّى بذلك الإنسان قبال العوامل

١٥٨

المخالفة لحياته المضادّة لرفاهية عيشه من البلايا و المصائب و الأعداء.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أميرالمؤمنينعليه‌السلام يقول: إنّ أحدكم ليغضب فما يرضى حتّى يدخل النار، فأيّما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه فإنّ الرحم إذا مسّتها الرحم استقرّت، و إنّها متعلّقة بالعرش تنقضّه انتقاض الحديد فتنادي: اللّهمّ صل من وصلني و اقطع من قطعني و ذلك قول الله في كتابه:( وَ اتّقوا الله الّذي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ الله كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) ، و أيّما رجل غضب و هو قائم فليلزم الأرض من فوره فإنّه يذهب رجز الشيطان.

أقول: و الرحم كما عرفت هي جهة الوحدة الموجودة بين أشخاص الإنسان من حيث اتّصال مادّة وجودهم في الولادة من أب و اُمّ أو أحدهما، و هي جهة حقيقيّة سائرة بين اُولي الأرحام لها آثار حقيقيّة خلقيّة و خلقيّة، و روحيّة و جسميّة غير قابلة الإنكار و إن كان ربّما توجد معها عوامل مخالفة تضعّف أثرها أو تبطله بعض الإبطال حتّى يلحق بالعدم و لن يبطل من رأس.

و كيف كان فالرحم من أقوى أسباب الالتيام الطبيعيّ بين أفراد العشيرة، مستعدّة للتأثير أقوى الاستعداد، و لذلك كان ما ينتجه المعروف بين الأرحام أقوى و أشدّ ممّا ينتجه ذلك بين الأجانب، و كذلك الإساءة في مورد الأقارب أشدّ أثراً منها في مورد الأجانب.

و بذلك يظهر معنى قولهعليه‌السلام : فأيّما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه إلخ، فإنّ الدنوّ من ذي الرحم رعاية لحكمها و تقويّة لجانبها فتتنبّه بسببه و تحرّك لحكمها و يتجدّد أثرها بظهور الرأفة و المحبّة.

و كذلك قولهعليه‌السلام في ذيل الرواية: و أيّما رجل غضب و هو قائم فليلزم الأرض إلخ، فإنّ الغضب إذا كان عن طيش النفس و نزقها كان في ظهوره و غليانه مستنداً إلى هواها و إغفال الشيطان إيّاها و صرفها إلى أسباب واهية وهميّة، و في تغيير الحال من القيام إلى القعود صرف النفس عن شأن إلى شأن جديد يمكنها بذلك أن تشتغل بالسبب الجديد فتنصرف عن الغضب بذلك لأنّ نفس الإنسان بحسب الفطرة أميل إلى الرحمة

١٥٩

منها إلى الغضب و لذلك بعينه ورد في بعض الروايات مطلق تغيير الحال في حال الغضب‏ كما في المجالس، عن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام : أنّه ذكر الغضب فقال: إنّ الرجل ليغضب حتّى ما يرضى أبداً، و يدخل بذلك النار، فأيّما رجل غضب و هو قائم فليجلس فإنّه سيذهب عنه رجز الشيطان، و إن كان جالساً فليقم، و أيّما رجل غضب على ذي رحم فليقم إليه و ليدن منه و ليمسّه فإنّ الرحم إذا مسّت الرحم سكنت‏، أقول: و تأثيره محسوس مجرّب.

قولهعليه‌السلام : و إنّها متعلّقة بالعرش تنقضه انتقاض الحديد إلخ أي تحدث فيه صوتاً مثل ما يحدث في الحديد بالنقر، و في الصحاح: الإنقاض صويت مثل النقر، و قد تقدّم في الكلام على الكرسيّ إشارة إجماليّة سيأتي تفصيلها في الكلام على العرش: أنّ المراد بالعرش مقام العلم الإجماليّ الفعليّ بالحوادث و هو من الوجود المرحلة الّتي تجتمع عندها شتات أزمّة الحوادث و متفرّقات الأسباب و العلل الكونيّة فهي تحرّك وحدها سلاسل العلل و الأسباب المختلفة المتفرّقة أي تتعلّق بروحها الساريّ فيها المحرّك لها كما أنّ أزمّة المملكة على اختلاف جهاتها و شؤونها و أشكالها تجتمع في عرش الملك و الكلمة الواحدة الصادرة منه تحرّك سلاسل القوى و المقامات الفعّالة في المملكة و تظهر في كلّ مورد بما يناسبه من الشكل و الأثر.

و الرحم كما عرفت حقيقة هي كالروح السالب في قوالب الأشخاص الّذين يجمعهم جامع القرابة فهي من متعلّقات العرش فإذا ظلمت و اضطهدت لاذت بما تعلّقت به و استنصرت، و هو قولهعليه‌السلام : تنقضه انتقاض الحديد، و هو من أبدع التمثيلات شبّه فيه ما يحدث في هذا الحال بالنقر الواقع على الحديد الّذي يحدث فيه رنيناً يستوعب بالارتعاش و الاهتزاز جميع جسامة الحديد كما في نقر الأجراس و الجامات و غيرها.

قولهعليه‌السلام : فتنادي اللّهمّ صل من وصلني و اقطع من قطعني، حكاية لفحوى التجائها و استنصارها، و في الروايات الكثيرة أنّ صلة الرحم تزيد في العمر و أنّ قطعها يقطعه و قد مرّ في البحث عن ارتباط الأعمال و الحوادث الخارجيّة من أحكام الأعمال

١٦٠

في الجزء الثاني من الكتاب أنّ مدير هذا النظام الكونيّ يسوقه نحو الأغراض و الغايات الصالحة، و لن يهمل في ذلك، و إذا فسد جزء أو أجزاء منه عالج ذلك أمّا بإصلاح أو بالحذف و الإزالة، و قاطع الرحم يحارب الله في تكوينه فإن لم يصلح بالاستصلاح بتّر الله عمره و قطع دابره، و أمّا أنّ الإنسان اليوم لا يحسّ بهذه الحقيقة و أمثالها فلا غرو لأنّ الأدواء قد أحاطت بجثمان الإنسانيّة فاختلطت و تشابهت و أزمنت فالحسّ لا يجد فراغاً يقوى به على إدراك الألم و العذاب.

١٦١

( سورة النساء الآيات ٢ - ٦)

وَآتُوا الْيَتَامَى‏ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدّلُوا الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى‏ أَمْوَالِكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوباً كَبِير( ٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى‏ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النّسَاءِ مَثْنَى‏ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى‏ أَلّا تَعُولُو( ٣) وَآتُوا النّسَاءَ صَدُقَاتِهِنّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئ( ٤) وَلاَ تُؤْتُوا السّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوف( ٥) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى‏ حَتّى‏ إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى‏ بِاللّهِ حَسِيب( ٦)

( بيان)

الآيات تتمّة التمهيد و التوطئة الّتي وضعت في أوّل السورة لبيان أحكام المواريث و عمدة أحكام التزويج كعدد النساء و تعيين المحارم و هذان البابان من أكبر أبواب القوانين الحاكمة في المجتمع الإنسانيّ و أعظمها، و لهما أعظم التأثير في تكوّن المجتمع و بقائه فإنّ النكاح يتعيّن به وضع المواليد من الإنسان الّذين هم أجزاء المجتمع و العوامل الّتي تكوّنه، و الإرث يتعلّق بتقسيم الثروة الموجودة في الدنيا الّتي يبتني عليها بنية المجتمع في عيشته و بقائه.

و قد تعرّضت الآيات في ضمن بيانها للنهي عن الزنى و السفاح و النهي عن أكل المال بالباطل إلّا أن تكون تجارة عن تراض و عند ذلك تأسّس أساسان قيّمان لأمر المجتمع في أهمّ ما يشكّله و هو أمر المواليد و أمر المال.

١٦٢

و من هنا يظهر وجه العناية بالتمهيد المسوق لبيان هذه الأحكام الّتي تعلّقت بالاجتماع الإنسانيّ و نشبت في اُصوله و جذوره. و صرف الناس عمّا اعتادت عليه جماعتهم، و التحمت عليه أفكارهم، و نبتت عليه لحومهم، و مات عليه أسلافهم، و نشأ عليه أخلافهم عسير كلّ العسر.

و هذا شأن ما شرّع في صدر هذه السورة من الأحكام المذكورة، يتّضح ذلك بتأمّل إجماليّ في وضع العالم الإنسانيّ يومئذ بالعموم و في وضع العالم العربيّ (ودارهم دار نزول القرآن و ظهور الإسلام) بالخصوص، و في كيفيّة تدرّج القرآن في نزوله و ظهور الأحكام الإسلاميّة في تشريعها.

( كلام في الجاهليّة الأولى)

القرآن يسمّي عهد العرب المتّصل بظهور الإسلام بالجاهليّة، و ليس إلّا إشارة منه إلى أنّ الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم، و المسيطر عليهم في كلّ شي‏ء الباطل و سفر الرأي دون الحقّ، و كذلك كانوا على ما يقصّه القرآن من شؤونهم، قال تعالى:( يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الحقّ ظَنَّ الْجاهليّة ) آل عمران: ١٥٤، و قال:( أَ فَحُكْمَ الْجاهليّة يَبْغُونَ ) المائدة: ٥٠، و قال:( إِذْ جَعَلَ الّذينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهليّة ) الفتح: ٢٦، و قال:( وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهليّة الْأُولى ) الأحزاب: ٣٣.

كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة و هي نصرانيّة، و في مغربها إمبراطوريّة الروم و هي نصرانيّة، و في شمالها الفرس و هم مجوس، و في غير ذلك الهند و مصر و هما وثنيّتان و في أرضهم طوائف من اليهود، و هم أعني العرب مع ذلك وثنيّون يعيش أغلبهم عيشة القبائل، و هذا كلّه هو الّذي أوجد لهم اجتماعاً همجيّاً بدويّاً فيه أخلاط من رسوم اليهوديّة و النصرانيّة و المجوسيّة و هم سكارى جهالتهم، قال تعالى:( وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ الله إِنْ يتّبعونَ إلّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إلّا يَخْرُصُونَ ) الأنعام: ١١٦.

و قد كانت العشائر و هم البدو على ما لهم من خساسة العيش و دناءته يعيشون

١٦٣

بالغزوات و شنّ الغارات و اختطاف كلّ ما في أيدي آخرين من متاع أو عرض فلا أمن بينهم و لا أمانة، و لا سلم و لا سلامة، و الأمر إلى من غلب و الملك لمن وضع عليه يده.

أمّا الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء و الحميّة الجاهليّة و الكبر و الغرور و اتّباع الظالمين و هضم حقوق المظلومين و التعادي و التنافس و القمار و شرب الخمر و الزنا و أكل الميتة و الدم و حشف التمر.

و أمّا النساء فقد كنّ محرومات من مزايا المجتمع الإنسانيّ لا يملكن من أنفسهن إرادة و لا من أعمالهنّ عملاً و لا يملكن ميراثاً و يتزوّج بهنّ الرجال من غير تحديد بحدّ كما عند اليهود و بعض الوثنيّة و مع ذلك فقد كنّ يتبرّجن بالزينة و يدعون من أحببن إلى أنفسهنّ و فشا فيهنّ الزنا و السفاح حتّى في المحصنات المزوّجات منهنّ، و من عجيب بروزهنّ أنّهنّ ربّما كنّ يأتين بالحجّ عاريات.

و أمّا الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنّهم لا يورّثون صغاراً و يذهب الكبار بالميراث و من الميراث زوجة المتوفّى، و يحرّم الصغار ذكوراً و إناثاً و النساء.

غير أنّ المتوفّى لو ترك صغيراً ورثه لكنّ الأقوياء يتولّون أمر اليتيم و يأكلون ماله، و لو كان اليتيم بنتاً تزوّجوها و أكلوا مالها ثمّ طلّقوها و خلّوا سبيلها فلا مال تقتات به و لا راغب في نكاحها ينفق عليها و الابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى بها بينهم لمكان دوام الحروب و الغزوات و الغارات فبالطبع كان القتل شائعاً بينهم.

و كان من شقاء أولادهم أنّ بلادهم الخربة و أراضيهم القفر البائرة كان يسرع الجدب و القحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق( الأنعام آية ١٥١) ، و كانوا يئدون البنات( التكوير آية ٨) ، و كان من أبغض الأشياء عند الرجل أن يبشّر بالاُنثى( الزخرف آية ١٧) .

و أمّا وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة و إن كانت ربّما ملك فيها ملوك تحت حماية أقوى الجيران و أقربها كإيران لنواحي الشمال و الروم لنواحي الغرب و الحبشة لنواحي الشرق إلّا أنّ قرى الأوساط كمكّة و يثرب و الطائف و غيرها كانت تعيش في وضع أشبه بالجمهوريّة و ليس بها، و العشائر في البدو بل حتّى في داخل

١٦٤

القرى كانت تدار بحكومة رؤسائها و شيوخها و ربّما تبدّل الوضع بالسلطنة.

فهذا هو الهرج العجيب الّذي كان يبرز في كلّ عدّة معدودة منهم بلون، و يظهر في كلّ ناحية من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة و الاعتقادات الخرافيّة الدائرة بينهم، و أضف إلى ذلك بلاء الاُمّيّة و فقدان التعليم و التعلّم في بلادهم فضلاً عن العشائر و القبائل.

و جميع ما ذكرناه من أحوالهم و أعمالهم و العادات و الرسوم الدائرة بينهم ممّا يستفاد من سياق الآيات القرآنيّة و الخطابات الّتي تخاطبهم بها أوضح استفادة، فتدبّر في المقاصد الّتي ترومها الآيات و البيانات الّتي تلقيها إليهم بمكّة أوّلاً ثمّ بعد ظهور الإسلام و قوّته بالمدينة ثانياً، و في الأوصاف الّتي تصفهم بها، و الاُمور الّتي تذمّها منهم و تلومهم عليها، و النواهي المتوجّهة إليهم في شدّتها و ضعفها، إذا تأمّلت كلّ ذلك تجد صحّة ما تلوناه عليك. على أنّ التاريخ يذكر جميع ذلك و يتعرّض من تفاصيلها ما لم نذكره لإجمال الآيات الكريمة و إيجازها القول فيه. و أوجز كلمة و أوفاها لإفادة جمل هذه المعاني ما سمّى القرآن هذا العهد بعهد الجاهليّة فقد اُجمل في معناها جميع هذه التفاصيل. هذا حال عالم العرب ذلك اليوم.

و أمّا العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الروم و الفرس و الحبشة و الهند و غيرهم فالقرآن يجمل القول فيه. أمّا أهل الكتاب منهم أعني اليهود و النصارى و من يلحق بهم فقد كانت مجتمعاتهم تدار بالأهواء الاستبداديّة و التحكّمات الفرديّة من الملوك و الرؤساء و الحكّام و العمّال فكانت مقتسمة طبعاً إلى طبقتين طبقة حاكمة فعّالة لما تشاء تعبث بالنفس و العرض و المال، و طبقة محكومة مستعبدة مستذلّة لا أمن لها في مال و عرض و نفس، و لا حرّيّة إرادة إلّا ما وافق من يفوقها، و قد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين و حملة الشرع و أتلفت بهم، و أخذت مجامع قلوب العامّة و أفكارهم بأيديهم فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس و دنياهم تحكم في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء و أقلامهم و في دنياهم بالسوط و السيف.

و قد اقتسمت الطبقة المحكومة أيضاً على حسب قوّتها في السطوة و الجدة فيما بينهم

١٦٥

نظير الاقتسام الأوّل (و الناس على دين ملوكهم) إلى طبقتي الأغنياء المترفين و الضعفاء و العجزة و العبيد، و كذا إلى ربّ البيت و مربوبيّه من النساء و الأولاد، و كذا إلى الرجال المالكين لحرّيّة الإرادة و العمل في جميع شؤون الحياة و النساء المحرومات من جميع ذلك التابعات للرجال محضاً الخادمات لهم في ما أرادوه منهنّ من غير استقلال و لو يسيراً.

و جوامع هذه الحقائق التاريخيّة ظاهرة من قوله تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إلّا نَعْبُدَ إلّا الله وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تولّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: ٦٤، و قد أدرجها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتابه إلى هرقل عظيم الروم، و قد قيل إنّه كتب بها أيضاً إلى عظيم مصر و عظيم الحبشة و ملك الفرس و إلى نجران.

و كذا قوله تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣، و قوله في ما وصّى به التزوّج بالإماء و الفتيات:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) النساء: ٢٥، و قوله في النساء:( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥، إلى غير ذلك من الآيات.

و أمّا غير أهل الكتاب و هم يومئذ الوثنيّة و من يلحق بهم فقد كان الوضع فيهم أردأ و أشأم من وضع أهل الكتاب، و الآيات النازلة في الاحتجاج عليهم تكشف عن خيبة سعيهم و خسران صفقتهم في جميع شؤون الحياة و ضروب السعادة، قال تعالى:( وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالمين قُلْ إنّما يُوحى‏ إِلَيَّ إنّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تولّوا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى‏ سَواءٍ ) الأنبياء: ١٠٩، و قال تعالى:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: ١٩.

١٦٦

( كيف ظهرت الدعوة الإسلاميّة؟)

كان وضع المجتمع الإنسانيّ يومئذ (عهد الجاهليّة) ما سمعته من إكباب الناس على الباطل و سلطة الفساد و الظلم عليهم في جميع شؤون الحياة، و هو ذا دين التوحيد و هو الدين الحقّ يريد أن يؤمّر الحقّ و يولّيه عليهم تولية مطلقة، و يطهّر قلوبهم من ألواث الشرك، و يزكّي أعمالهم و يصلح مجتمعهم بعد ما تعرّق الفساد في جذوره و أغصانه و باطنه و ظاهره.

و بالجملة يريد الله ليهديهم إلى الحقّ الصريح، و ما يريد ليجعل عليهم من حرج ولكن يريد ليطهّرهم و ليتمّ نعمته عليهم، فما هم عليه من الباطل و ما يريد منهم كلمة الحقّ في نقطتين متقابلتين و قطبين متخالفين، فهل كان يجب أن يستمال منهم البعض و يصلح بهم الباقين من أهل الباطل، ثمّ بالبعض البعض حرصاً على ظهور الحقّ مهما كان و بأيّ وسيلة تيسّر كما قيل: إنّ أهمّيّة الغاية تبيح المقدّمة و لو كانت محظورة، و هذا هو السلوك السياسيّ الّذي يستعمله أهل السياسة.

و هذا النحو من السلوك إلى الغرض قلّما يتخلّف عن الإيصال إلى المقاصد في أيّ باب جرى غير أنّه لا يجري في باب الحقّ الصريح و هو الّذي تؤمّه الدعوة الإسلاميّة فإنّ الغاية وليدة مقدّماتها و وسائلها و كيف يمكن أن يلد الباطل حقّاً و ينتج السقيم صحيحاً و الوليد مجموعة مأخوذة من اللّذين يلدانه؟.

و بغية السياسة و هواها أن تبلغ السلطة و السيطرة، و تحوز السبق و التصدّر و التعيّن و التمتّع بأيّ نحو اتّفق، و على أيّ وصف من أوصاف الخير و الشرّ و الحقّ و الباطل انطبق، و لا هوى لها في الحقّ، ولكنّ الدعوة الحقّة لا تبتغي إلّا الغرض الحقّ، و لو توسّلت إليه بباطل لكان ذلك منها إمضاءً و إنفاذاً للباطل فتصير دعوة باطلة لا دعوة حقّة.

و لهذه الحقيقة ظهورات بارزة في سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الطاهرين من آلهعليهم‌السلام .

١٦٧

و بذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه و نزل به القرآن في مواطن راودوه فيها للمساهلة أو المداهنة (و لو يسيراً) في أمر الدين، قال تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ) سورة الكافرون: ٦١، و قال تعالى و فيه لحن التهديد:( وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ) الإسراء: ٧٥، و قال تعالى:( وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) الكهف: ٥١، و قال تعالى و هو مثل وسيع المعنى:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ ربّه وَ الّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلّا نَكِداً ) الأعراف: ٥٨.

و إذا كان الحقّ لا يمازج الباطل و لا يلتئم به فقد أمره الله سبحانه حينما أعباه ثقل الدعوة بالرفق و التدرّج في أمرها بالنظر إلى نفس الدعوة و المدعوّ و المدعوّ إليه من ثلاث جهات.

الأولى: من جهة ما اشتمل عليه الدين من المعارف الحقّة و القوانين المشرّعة الّتي من شأنها إصلاح شؤون المجتمع الإنسانيّ، و قطع منابت الفساد فإنّ من الصعب المستصعب تبديل عقائد الناس و لا سيّما إذا كانت ناشبة في الأخلاق و الأعمال و قد استقرّت عليها العادات، و دارت عليها القرون، و سارت عليها الأسلاف، و نشأت عليها الأخلاف و لا سيّما إذا عمّت كلمة الدين و دعوته جميع شؤون الحياة، و استوعبت جميع الحركات الإنسانيّة و سكناتها في ظاهرها و باطنها في جميع أزمنتها و لجميع أشخاصها و أفرادها و مجتمعاتها من غير استثناء (كما أنّه شأن الإسلام) فإنّ ذلك ممّا يدهش الفكرة تصوّره أو هو محال عاديّ.

و صعوبة هذا الأمر و مشقّته في الأعمال أزيد منها في الاعتقادات فإنّ استيناس الإنسان و اعتياده و مساسه بالعمل أقدم منه بالاعتقاد، و هو أظهر لحسّه و آثر عند شهواته و أهوائه، و لذلك أظهرت الدعوة الاعتقادات الحقّة في أوّل أمرها جملة لكنّ القوانين و الشرائع الإلهيّة ظهرت بالتدريج حكماً فحكماً.

و بالجملة تدرّجت الدعوة في إلقاء مضمراتها إلى الناس لئلّا يشمس عن تلقّيها الطباع و لا تتزلزل النفوس في نضد بعض أجزاء الدعوة على بعض، و هذا الّذي ذكرناه

١٦٨

ظاهر للمتدبّر الباحث في هذه الحقائق فإنّه يجد الآيات القرآنيّة مختلفة في إلقاء المعارف الإلهيّة و القوانين المشرّعة في مكّيّتها و مدنيّتها. الآيات المكّيّة تدعو إلى كلّيّات اُجمل فيها القول، و المدنيّة - و نعني بها ما نزلت بعد الهجرة أينما نزلت - تفصّل القول و تأتي بالتفاصيل من الأحكام الّتي سبقت في المكّيّة كلّيّاتها و مجملاتها، قال تعالى:( كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى‏ إِنَّ إِلى‏ ربّك الرُّجْعى‏ أَ رَأَيْتَ الّذي يَنْهى‏ عَبْداً إِذا صَلَّى أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى‏ أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏ ) العلق: ١٤، و الآيات نازلة في أوّل الرسالة بعد النبوّة على ما مرّت إليه الإشارة في آيات الصوم من الجزء الثاني، و فيها إجمال التوحيد و المعاد، و إجمال أمر التقوى و العبادة.

و قال تعالى:( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَ ربّك فَكَبِّرْ ) المدّثّر: ٣، و هي أيضاً من الآيات النازلة في أوّل البعثة، و قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) الشمس: ١٠، و قال تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ ربّه فَصَلَّى ) الأعلى: ١٥، و قوله تعالى:( قُلْ إنّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ إنّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الّذينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) حم السجدة: ٨، و هذه الآيات أيضاً من الآيات النازلة في أوائل البعثة.

و قال تعالى:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ ربّكمْ عَلَيْكُمْ إلّا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إحساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إيّاهمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الّتي حَرَّمَ الله إلّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تعقّلونَ وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هِيَ أَحسن حتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إلّا وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ وَ بِعَهْدِ الله أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَ أنّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تتّبعوا السُّبُلَ فَتفرّق بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) الأنعام: ١٥٣، فانظر إلى سياق الآيات الشريفة كيف اُجمل القول فيها في النواهي الشرعيّة أوّلاً، و

١٦٩

في الأوامر الشرعيّة ثانياً، و إنّما اُجمل بجمع الجميع تحت وصف لا يستنكف حتّى العقل العامّيّ من قبوله فإنّ الفواحش لا يتوقّف في شناعتها و لزوم اجتنابها و الكفّ عنها ذو مسكة، و كذا الاجتماع على صراط مستقيم يؤمن به التفرّق و الضعف و الوقوع في الهلكة و الردى لا يرتاب فيه أحد بحكم الغريزة فقد استمدّ في هذه الدعوة من غرائز المدعوّين، و لذلك بعينه ذكر ما ذكر من المحرّمات بعنوان التفصيل كعقوق الوالدين و الإساءة إليهما، و قتل الأولاد من إملاق، و قتل النفس المحترمة، و أكل ما اليتيم إلى آخر ما ذكر فإنّ العواطف الغريزيّة من الإنسان تؤيّد الدعوة في أمرها لاشمئزازها في حالها العاديّ عن ارتكاب هذه الجرائم و المعاصي، و هناك آيات اُخر يعثر عليها المتدبّر و يرى أنّ الحال فيها نظير ما ذكرناه فيما نقلنا من الآيات.

و كيف كان فالآيات المكّيّة شأنها الدعوة إلى مجملات فصّلتها بعد ذلك الآيات المدنيّة، و مع ذلك فالآيات المدنيّة نفسها لا تخلو عن مثل هذا التدرّج فما جميع الأحكام و القوانين الدينيّة نزلت في المدينة دفعة واحدة بل تدريجاً و نجوماً.

و يكفيك التدبّر في اُنموذج منها قد تقدّمت الإشارة إليها و هي آيات حرمة الخمر فقد قال تعالى:( وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حسناً ) النحل: ٦٧، و الآية مكّيّة ذكر فيها أمر الخمر و سكت عنه إلّا ما في قوله: وَ رِزْقاً حسناً من الإيماء إلى أنّ السكر ليس من الرزق الحسن ثمّ قال:( قُلْ إنّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ ) الأعراف: ٣٣، و الآية أيضاً مكّيّة تحرّم الإثم صريحاً لكن لم تبيّن أنّ شرب الخمر إثم إرفاقاً في الدعوة إلى ترك عادة سيّئة اجتذبتهم إليها شهواتهم و نبتت عليها لحومهم و شدّت عظامهم، ثمّ قال:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثمّ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، و الآية مدنيّة تبيّن أنّ شرب الخمر من الإثم الّذي حرّمته آية الأعراف، و لسان الآية - كما ترى - لسان رفق و نصح، ثمّ قال تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إنّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إنّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَ

١٧٠

عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) المائدة: ٩١، و الآية مدنيّة ختم بها أمر التحريم.

و نظيرها الإرث فقد آخى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلاً بين أصحابه و ورّث أحد الأخوين الآخر في أوّل الأمر إعداداً لهم لما سيشرّعه الله في أمر الوراثة، ثمّ نزل قوله تعالى:( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ ) الأحزاب: ٦، و على هذا النحو غالب الأحكام المنسوخة و الناسخة.

ففي جميع هذه الموارد و أشباهها تدرّجت الدعوة في إظهار الأحكام و إجرائها أخذاً بالإرفاق لحكمة الحفظ لسهولة التحميل و حسن التلقّي بالقبول، قال تعالى:( وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى‏ مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ) الإسراء: ١٠٦، و لو كان القرآن نزل عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة واحدة ثمّ بيّن الرسول تفاصيل شرائعه على ما يوظّفه عليه قوله تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتبيّن لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤، فأتى ببيان جميع معارفه الاعتقاديّة و الأخلاقيّة و كلّيّات الأحكام العباديّة و القوانين الجارية في المعاملات و السياسات و هكذا لم تستطع الأفهام عندئذ تصوّرها و حملها فضلاً عن قبول الناس لها و عملهم بها و حكومتها على قلوبهم في إرادتها، و على جوارحهم و أبدانهم في فعلها فتنزيله على مكث هو الّذي هيّأ للدين إمكان القبول و الوقوع في القلوب و قال تعالى:( وَ قالَ الّذينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا ) الفرقان: ٣٢، و في الآية دلالة على أنّ الله سبحانه كان يرفق برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إنزال القرآن نجوماً كما أرفق باُمّته فتدبّر في ذلك و تأمّله و في ذيل الآية قوله: و رتّلناه ترتيلاً.

و من الواجب أن يتذكّر أنّ السلوك من الإجمال إلى التفصيل و التدرّج في إلقاء الأحكام إلى الناس من باب الإرفاق و حسن التربية و رعاية المصلحة غير المداهنة و المساهلة و هو ظاهر.

الثانية: السلوك التدريجيّ من حيث انتخاب المدعوّين و أخذ الترتيب فيهم فمن المعلوم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مبعوثاً إلى كافّة البشر من غير اختصاص دعوته بقوم دون قوم، و لا بمكان دون مكان، و لا بزمان دون زمان (و مرجع الأخيرين إلى الأوّل في الحقيقة)

١٧١

البتّة قال تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جميعاً الّذي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الأعراف: ١٥٨، و قال تعالى:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: ١٩، و قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالمين ) الأنبياء: ١٠٧.

على أنّ التاريخ يحكي دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود و هم من بني إسرائيل، و الروم و العجم و الحبشة و مصر و ليسوا من العرب، و قد آمن به من المشاهير سلمان و هو من العجم و مؤذّنه بلال و هو من الحبشة و صهيب و هو من الروم، فعموم نبوّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمانه لا ريب فيه، و الآيات السابقة تشمل بعمومها الأزمان و الأمكنة أيضاً.

على أنّ قوله تعالى:( وَ أنّه لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢، و قوله تعالى:( وَ لكِنْ رَسُولَ الله وَ خاتَمَ النبيّينَ ) الأحزاب: ٤٠، تدلّان على عموم النبوّة و شمولها للأمكنة و الأزمنة أيضاً، و البحث التفصيليّ عن هذه الآيات يطلب من تفسيرها في مواردها.

و كيف كان فالنبوّة عامّة، و المتأمّل في سعة المعارف و القوانين الإسلاميّة و ما كان عليه الدنيا يوم ظهر الإسلام من ظلمة الجهل و قذارة الفساد و البغي لا يرتاب في عدم إمكان مواجهة الدنيا و مكافحة الشرك و الفساد حينئذ دفعة.

بل كان من الواجب في الحكمة أن تبدأ الدعوة بالبعض و أن يكون ذلك البعض هو قوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ يظهر بركوز الدين فيهم على غيرهم و هكذا كان، قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيبيّن لَهُمْ ) إبراهيم: ٤، و قال:( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) الشعراء: ١٩٩، و الآيات الّتي تدلّ على ارتباط الدعوة و الإنذار بالعرب لا تدلّ على أزيد من كونهم بعض من تعلّقت بهم الدعوة و الإنذار، و كذا الآيات النازلة في التحدّي بالقرآن لو كان فيها ما ينحصر تحدّيه بالبلاغة فحسب إنّما هي لكون البلاغة إحدى جهات التحدّي بالإعجاز، و لا دليل في ذلك على كون الاُمّة العربيّة هي المقصودة بالدعوة فقط نعم اللّسان مقصود بالاستقلال للبيان كما مرّ من قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيبيّن لَهُمْ ) الآية، و قوله:( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحسن الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ) يوسف: ٣، و قوله:( وَ إنّه

١٧٢

لَتَنْزِيلُ ربّ الْعالمين نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) الشعراء: ١٩٥، فاللسان العربيّ هو المظهر للمعاني و المقاصد الذهنيّة أتمّ إظهار، و لذلك اختاره الله سبحانه لكتابه العزيز من بين الألسن و قال:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تعقّلونَ ) الزخرف: ٣.

و بالجملة أمره الله تعالى بعد القيام بأصل الدعوة أن يبدأ بعشيرته فقال:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ‏ ) الشعراء: ٢١٤، فامتثل أمره و جمع عشيرته و دعاهم إلى ما بعث له و وعدهم أنّ أوّل من لبّاه فهو خليفته من بعده فأجابه إلى ذلك عليّعليه‌السلام فشكر له ذلك و استهزأ به الباقون على ما في صحاح الروايات(١) و كتب التاريخ و السير، ثمّ لحق به اُناس من أهله كخديجة زوجته و عمّه حمزة بن عبدالمطّلب و عبيد و عمّه أبي طالب على ما روته الشيعة و في أشعاره تصريحات و تلويحات بذلك(٢) (و إنّما لم يتظاهر بالإيمان ليتمكّن من حمايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ).

ثمّ أمره الله سبحانه أن يوسّع الدعوة لقومه على ما يظهر من قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَ مَنْ حَوْلَها ) الشورى: ٧، و قوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) الم السجدة: ٣، و قوله:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) ، و هذه الآية من الشواهد على أنّ الدعوة غير مقصورة عليهم، و إنّما بدأ بهم حكمة و مصلحة.

ثمّ أمره الله سبحانه بتوسعة الدعوة للدنيا من جميع الملّيّين و غيرهم كما يدلّ عليه الآيات السابقة كقوله تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جميعاً ) و قوله:( وَ لكِنْ رَسُولَ الله وَ خاتَمَ النبيّينَ ) و غيرهما ممّا تقدّم.

الثالثة: الأخذ بالمراتب من حيث الدعوة و الإرشاد و الإجراء، و هي الدعوة بالقول و الدعوة السلبيّة و الجهاد.

أمّا الدعوة بالقول فهي ممّا يستفاد من جميع القرآن بالبداهة، و قد أمره الله

____________________

(١) راجع سادس البحار، و سيرة ابن هشام و غيرهما.

(٢) راجع ديوان أبي طالب.

١٧٣

سبحانه برعاية الكرامات الإنسانيّة و الأخلاق الحسنة في ذلك قال تعالى:( قُلْ إنّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ ) الكهف: ١١٠، و قال:( وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الحجر: ٨٨، و قال:( وَ لا تَسْتَوِي الْحسنةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحسن فَإِذَا الّذي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) حم السجدة: ٣٤، و قال:( وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) المدثر: ٦، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستعمل جميع فنون البيان على حسب اختلاف الأفهام و استعدادات الأشخاص، قال تعالى:( ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ ربّك بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحسنةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحسن ) النحل: ١٢٥.

و أمّا الدعوة السلبيّة فهو اعتزال المؤمنين الكافرين في دينهم و أعمالهم و تكوين مجتمع إسلاميّ لا يمازجه دين غيرهم ممّن لا يوحّد الله سبحانه و لا أعمال غير المسلمين من المعاصي و سائر الرذائل الأخلاقية إلّا ما أوجبته ضرورة الحياة من المخالطة، قال تعالى:( لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ) الكافرون: ٦، و قال:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا أنّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ أَوْلِياءَ ثمّ لا تُنْصَرُونَ ) هود: ١١٣، و قال:( فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تتّبع أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ الله مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله ربّنا وَ ربّكمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) الشورى: ١٥، و قال تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الحقّ - إلى أن قال -لا يَنْهاكُمُ الله عَنِ الّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحبّ الْمُقْسِطِينَ إنّما يَنْهاكُمُ الله عَنِ الّذينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى‏ إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) الممتحنة: ٩، و الآيات في معنى التبرّي و الاعتزال عن أعداء الدين كثيرة، و هي - كما ترى - تشرح معنى هذا التبرّي و كيفيّته و خصوصيّته.

و أمّا الجهاد فقد تقدّم الكلام فيه في ذيل آيات الجهاد من سورة البقرة و هذه

١٧٤

المراتب الثلاث من مزايا الدين الإسلاميّ و مفاخره و المرتبة الاُولى لازمة في الأخيرتين و كذا الثانية في الثالثة، فقد كانت من سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدعوة و الموعظة في غزواته قبل الشروع فيها على ما أمره به ربّه سبحانه فقال:( فَإِنْ تولّوا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى‏ سَواءٍ ) .

و من أخنى القول ما نبذوا به الإسلام: أنّه دين السيف دون الدعوة مع أنّ الكتاب و السيرة و التاريخ تشهد به و تنوّره و لكن من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

و هؤلاء المنتقدون بعضهم من أهل الكنيسة الّتي كانت عقدت منذ قرون فيها محكمة دينيّة تقضي على المنحرفين عن الدين بالنار تشبّهاً بالمحكمة الإلهيّة يوم القيامة فكان عمّالها يجولون في البلاد فيجلبون إليها من الناس من اتّهموه بالردّة و لو بالأقوال الحديثة في الطبيعيّات و الرياضيّات ممّا لم يقل به الفلسفة الإسكولاستيكيّة الّتي كانت الكنيسة تروّجها.

فليت شعري هل بسط التوحيد و قطع منابت الوثنيّة و تطهير الدنيا من قذارة الفساد أهمّ عند العقل السليم أو تخنيق من قال بمثل حركة الأرض أو نفي الفلك البطلميوسي و ردّ أنفاسه إلى صدره، و الكنيسة هي الّتي أثارت العالم المسيحي على المسلمين باسم الجهاد مع الوثنيّة فأقامت الحروب الصليبيّة على ساقها مائتي سنة تقريباً و خرّبت البلاد و أفنت الملايين من النفوس و أباحت الأعراض.

و بعضهم من غير أهل الكنيسة من المدّعين للتمدّن و الحرّيّة!! و هؤلاء هم الّذين يوقدون نار الحروب العالميّة و يقلّبون الدنيا ظهر البطن كلّما هتفت بهم مزاعمهم توجّه خطر يسير على بعض منافعهم المادّيّة فهل استقرار الشرك في الدنيا و انحطاط الأخلاق و موت الفضائل و إحاطة الشؤم و الفساد على الأرض و من فيها أضرّ أم زوال السلطة على أشبار من الأرض أو الخسارة في دريهمات يسيرة؟! نعم إنّ الإنسان لربّه لكنود.

و يعجبني نقل ما ذكره بعض المحقّقين الأعاظم(١) في هذا الباب في بعض رسائله قال رحمه الله: الوسائل المتبعة للإصلاح الاجتماعيّ و تحقيق العدل و تمزيق الظلم و مقاومة الشرّ و الفساد تكاد تنحصر في ثلاثة أنواع:

____________________

(١) الشيخ محمّد الحسّين كاشف الغطاء في رسالة: المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون.

١٧٥

١- وسائل الدعوة و الإرشاد بالخطب و المقالات و المؤلّفات و النشرات، و هذه هي الخطّة الشريفة الّتي أشار إليها الحقّ جلّ شأنه بقوله:( ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ ربّك بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحسنةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحسن ) ، و قوله:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحسن فَإِذَا الّذي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) و هذه هي الطريقة الّتي استعملها الإسلام في أوّل البعثة، إلى أن قال:

٢- وسائل المقاومة السلميّة و السلبيّة كالمظاهرات و الإضرابات و المقاطعة الاقتصاديّة و عدم التعاون مع الظالمين، و عدم الاشتراك في أعمالهم و حكومتهم، و أصحاب هذه الطريقة لا يبيحون اتّخاذ طريق الحرب و القتل و العنف، و هي المشار إليها بقوله تعالى:( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، و لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) و في القرآن الكريم كثير من الآيات الّتي تشير إلى هذه الطريقة، و أشهر من دعا إلى هذه الطريقة و أكدّ عليها النبيّ الهنديّ بوذا، و المسيحعليه‌السلام ، و الأديب الروسيّ( تولستوي) و الزعيم الهنديّ الروحيّ( غاندي) .

٣- الحرب و الثورة و القتال.

و الإسلام يتدرّج في هذه الأساليب الثلاثة:( الاُولى) الموعظة الحسنة و الدعوة السليمة فإن لم ينجح في دفع الظالمين و درء فسادهم و استبدادهم( فالثانية) المقاطعة السلميّة أو السلبيّة و عدم التعاون و المشاركة معهم فإن لم تُجد و تنفع( فالثالثة) الثورة المسلّحة فإنّ الله لا يرضى بالظلم أبداً بل و الراضي الساكت شريك الظالم.

الإسلام عقيدة، و قد غلط و ركب الشطط من قال: إنّ الإسلام نشر دعوته بالسيف و القتال فإنّ الإسلام إيمان و عقيدة، و العقيدة لا تحصل بالجبر و الإكراه و إنّما تخضع للحجّة و البرهان، و القرآن المجيد ينادي بذلك في عدّة آيات منها( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تبيّن الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) .

و الإسلام إنّما استعمل السيف و شهر السلاح على الظالمين الّذين لم يقتنعوا بالآيات و البراهين استعمل القوّة في سبيل من وقف حجر عثرة في سبيل الدعوة إلى الحقّ، أجهز السلاح لدفع شرّ المعاندين لا إلى إدخالهم في حظيرة الإسلام يقول جلّ

١٧٦

شأنه: قاتِلُوهُمْ حتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فالقتال إنّما هو لدفع الفتنة لا لاعتناق الدين و العقيدة.

فالإسلام لا يقاتل عبطة و اختياراً و إنّما يحرجه الأعداء فيلتجئ إليه اضطراراً و لا يأخذ منه إلّا بالوسائل الشريفة فيحرّم في الحرب و السلم التخريب و الإحراق و السمّ و قطع الماء عن الأعداء كما يحرّم قتل النساء و الأطفال و قتل الأسرى و يوصي بالرفق بهم و الإحسان إليهم مهما كانوا من العداء و البغضاء للمسلمين و يحرّم الاغتيال في الحرب و السلم و يحرّم قتل الشيوخ و العجزة و من لم يبدأ بالحرب و يحرّم الهجوم على العدوّ ليلاً( وانبذ إليهم على سواء) و يحرّم القتل على الظنّة و التهمة و العقاب قبل ارتكاب الجريمة إلى أمثال ذلك من الأعمال الّتي يأباها الشرف و المروءة و الّتي تنبعث من الخسّة و القسوة و الدناءة و الوحشيّة.

كلّ تلك الأعمال الّتي أبى شرف الإسلام ارتكاب شي‏ء منها مع الأعداء في كلّ ما كان له من المعارك و الحروب قد ارتكبتها بأفظع صورها و أهول أنواعها الدول المتمدّنة في هذا العصر الّذي يسمّونه عصر النور نعم أباح عصر النور قتل النساء و الأطفال و الشيوخ و المرضى و التبييت ليلاً و الهجوم ليلاً بالسلاح و القنابل على العزل و المدنيّين الآمنين، و أباح القتل بالجملة.

أ لم يرسل الآلمان في الحرب العالميّة الثانية القنابل الصاروخيّة إلى لندن فهدمت المباني و قتلت النساء و الأطفال و السكّان الآمنين؟! أ لم يقتل الألمان اُلوف الأسرى؟! أ لم يرسل الحلفاء في الحرب الماضية اُلوف الطائرات إلى آلمانيا لتخريب مدنها؟! أ لم يرم الأمريكان القنابل الذرّيّة على المدن اليابانيّة؟!.

و بعد اختراع وسائل الدمار الحديثة كالصواريخ و القنابل الذرّيّة و إلهدروجينيّة لا يعلم إلّا الله ما ذا يحلّ بالأرض من عذاب و خراب و مآسي و آلام إذا حدثت حرب عالميّة ثالثة و لجأت الدول المتحاربة إلى استعمال تلك الوسائل، أرشد الله الإنسان إلى طريق الصواب و هداه الصراط المستقيم، انتهى.

قوله تعالى: ( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ ) إلى آخر الآية، أمر بإيتاء اليتامى أموالهم و هو توطئة للجملتين اللّاحقتين: وَ لا تَتَبَدَّلُوا إلخ أو الجملتان كالمفسّر لهذه الجملة غير

١٧٧

أنّ التعليل الّذي في آخر الآية لكونه راجعاً إلى الجملتين أو الجملة الأخيرة يؤيّد أنّ الجملة الاُولى موضوعة في الكلام تمهيداً للنهي الّذي في الجملتين اللّاحقتين.

و أصل النهي عن التصرّف المضار في أموال اليتامى كما تقدّم بيانه توطئة و تمهيد لما سيذكر من أحكام الإرث، و لما سيذكر في الآية التالية من حكم التزوّج.

و أمّا قوله تعالى:( وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) أي لا تتبدّلوا الخبيث من أموالكم من الطيّب من أموالهم بأن يكون لهم عندكم مال طيّب فتعزلوه لأنفسكم و تردّوا إليهم ما يعادله من رديّ أموالكم. و يمكن أن يكون المراد: لا تتبدّلوا أكل الحرام من أكل الحلال - كما قيل - لكنّ المعنى الأوّل أظهر فإنّ الظاهر أنّ كلّاً من الجملتين أعني قوله: وَ لا تَتَبَدَّلُوا إلخ و قوله: وَ لا تَأْكُلُوا إلخ بيان لنوع خاصّ من التصرّف غير الجائز و قوله: وَ آتُوا الْيَتامى‏ إلخ تمهيد لبيانهما معاً، و أمّا قوله: أنّه كانَ حُوباً كَبِيراً الحوب الإثم مصدر و اسم مصدر.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) قد مرّت الإشارة فيما مرّ إلى أنّ أهل الجاهليّة من العرب - و كانوا لا يخلون في غالب الأوقات عن الحروب و المقاتل و الغيلة و الغارة و كان يكثر فيهم حوادث القتل - كان يكثر فيهم الأيتام، و كانت الصناديد و الأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء و أموالهنّ فيتزوّجون بهنّ و يأكلون أموالهنّ إلى أموالهم ثمّ لا يقسطون فيهنّ و ربّما أخرجوهنّ بعد أكل مالهنّ فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهنّ يرتزقن به و لا راغب فيهنّ فيتزوّج بهن و ينفق عليهنّ، و قد شدّد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث و الظلم الفاحش، و أكّد النهي عن ظلم اليتامى و أكل أموالهم كقوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً إنّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) النساء: ١٠، و قوله تعالى:( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى‏ أَمْوالِكُمْ أنّه كانَ حُوباً كَبِيراً ) الآية: النساء: ٢، فأعقب ذلك أنّ المسلمين أشفقوا على أنفسهم - كما قيل - و خافوا خوفاً شديداً حتّى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفاً من الابتلاء بأموالهم و التفريط في حقّهم، و من أمسك يتيماً

١٧٨

عنده أفرز حظّه من الطعام و الشراب و كان إذا فضل من غذائهم شي‏ء لم يدنوا منه حتّى يبقى و يفسد فأصبحوا متحرّجين من ذلك و سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك و شكوا إليه فنزل:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى‏ قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ الله يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ الله لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) البقرة: ٢٢٠، فأجاز لهم أن يؤووهم و يمسكوهم إصلاحاً لشأنهم و أن يخالطوهم فإنّهم إخوانهم فجلّى عنهم و فرّج همّهم.

إذا تأمّلت في ذلك ثمّ رجعت إلى قوله تعالى:( وَ إِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ) إلخ و هو واقع عقيب قوله:( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ ) الآية اتّضح لك أنّ الآية واقعة موقع الترقّي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة و المعنى - و الله أعلم -: اتّقوا أمر اليتامى، و لا تتبدّلوا خبيث أموالكم من طيّب أموالهم، و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتّى أنّكم إن خفتم إلّا تقسطوا في اليتيمات منهم و لم تطب نفوسكم أن تنكحوهنّ و تتزوّجوا بهنّ فدعوهنّ و انكحوا نساءً غيرهنّ ما طاب لكم مثنى و ثلاث و رباع.

فالشرطيّة أعني قوله:( إِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ، في معنى قولنا إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهنّ و انكحوا نساءً غيرهنّ فقوله: فانكحوا سادّ مسدّ الجزاء الحقيقيّ، و قوله: ما طابَ لَكُمْ، يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهنّ، و قد قيل: ما طابَ لَكُمْ و لم يقل: من طاب لكم إشارة إلى العدد الّذي سيفصّله بقوله: مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ إلخ و وضع قوله: إِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا موضع عدم طيب النفس من وضع السبّب موضع المسبّب مع الإشعار بالمسبّب في الجزاء بقوله: ما طابَ لَكُمْ، هذا.

و قد قيل في معنى الآية اُمور اُخر غير ما مرّ على ما ذكر في مطوّلات التفاسير و هي كثيرة، منها: أنّه كان الرجل منهم يتزوّج بالأربع و الخمس و أكثر و يقول: ما يمنعني أن أتزوّج كما تزوّج فلان، فإذا فني ماله مال إلى مال اليتيم الّذي في حجره فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلّا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلماً.

١٧٩

و منها: أنّهم كانوا يشدّدون في أمر اليتامى و لا يشدّدون في أمر النساء فيتزوّجون منهنّ عدداً كثيراً و لا يعدلون بينهنّ، فقال تعالى: إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا منهنّ واحدة إلى أربع.

و منها: أنّهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى و أكل أموالهم فقال سبحانه: إن كنتم تحرّجتم من ذلك فكذلك تحرّجوا من الزنا فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.

و منها: أنّ المعنى إن خفتم إلّا تقسطوا في اليتيمة المربّاة في حجوركم فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ممّا اُحلّ لكم من يتامى قرباتكم مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ.

و منها: أنّ المعنى إن كنتم تتحرّجون عن مواكلة اليتامى فتحرّجوا من الجمع بين النساء و أن لا تعدلوا بينهنّ و لا تتزوّجوا منهنّ إلّا من تأمنون معه الجور، فهذه وجوه ذكروها لكنّك بصير بأنّ شيئاً منها لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) بناء مفعل و فعال في الأعداد تدلّان على تكرار المادّة فمعنى مثنى و ثلاث و رباع اثنتين اثنتين و ثلاثاً ثلاثاً و أربعاً أربعاً، و لمّا كان الخطاب متوجّهاً إلى أفراد الناس و قد جي‏ء بواو التفصيل بين مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ الدالّ على التخيير أفاد الكلام أنّ لكلّ واحد من المؤمنين أن يتّخذ لنفسه زوجتين أو ثلاثاً أو أربعاً فيصرن بالإضافة إلى الجميع مثنى و ثلاث و رباع.

و بذلك و بقرينة قوله بعده:( فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) و كذا آية المحصنات بجميع ذلك يدفع أن يكون المراد بالآية أن تنكح الاثنتان بعقد واحد أو الثلاث بعقد واحد مثلاً، أو يكون المراد أن تنكح الاثنتان معاً ثمّ الاثنتان معاً و هكذا، و كذا في الثلاث و الأربع، أو يكون المراد اشتراك أزيد من رجل واحد في الزوجة الواحدة مثلاً فهذه محتملات لا تحتملها الآية.

على أنّ الضرورة قاضية أنّ الإسلام لا ينفذ الجمع بين أزيد من أربع نسوة أو اشتراك أزيد من رجل في زوجة واحدة.

و كذا يدفع بذلك احتمال أن يكون الواو للجمع فيكون في الكلام تجويز

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458