الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134561 / تحميل: 6222
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

في الجزء الثاني من الكتاب أنّ مدير هذا النظام الكونيّ يسوقه نحو الأغراض و الغايات الصالحة، و لن يهمل في ذلك، و إذا فسد جزء أو أجزاء منه عالج ذلك أمّا بإصلاح أو بالحذف و الإزالة، و قاطع الرحم يحارب الله في تكوينه فإن لم يصلح بالاستصلاح بتّر الله عمره و قطع دابره، و أمّا أنّ الإنسان اليوم لا يحسّ بهذه الحقيقة و أمثالها فلا غرو لأنّ الأدواء قد أحاطت بجثمان الإنسانيّة فاختلطت و تشابهت و أزمنت فالحسّ لا يجد فراغاً يقوى به على إدراك الألم و العذاب.

١٦١

( سورة النساء الآيات ٢ - ٦)

وَآتُوا الْيَتَامَى‏ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدّلُوا الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى‏ أَمْوَالِكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوباً كَبِير( ٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى‏ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النّسَاءِ مَثْنَى‏ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى‏ أَلّا تَعُولُو( ٣) وَآتُوا النّسَاءَ صَدُقَاتِهِنّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئ( ٤) وَلاَ تُؤْتُوا السّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوف( ٥) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى‏ حَتّى‏ إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى‏ بِاللّهِ حَسِيب( ٦)

( بيان)

الآيات تتمّة التمهيد و التوطئة الّتي وضعت في أوّل السورة لبيان أحكام المواريث و عمدة أحكام التزويج كعدد النساء و تعيين المحارم و هذان البابان من أكبر أبواب القوانين الحاكمة في المجتمع الإنسانيّ و أعظمها، و لهما أعظم التأثير في تكوّن المجتمع و بقائه فإنّ النكاح يتعيّن به وضع المواليد من الإنسان الّذين هم أجزاء المجتمع و العوامل الّتي تكوّنه، و الإرث يتعلّق بتقسيم الثروة الموجودة في الدنيا الّتي يبتني عليها بنية المجتمع في عيشته و بقائه.

و قد تعرّضت الآيات في ضمن بيانها للنهي عن الزنى و السفاح و النهي عن أكل المال بالباطل إلّا أن تكون تجارة عن تراض و عند ذلك تأسّس أساسان قيّمان لأمر المجتمع في أهمّ ما يشكّله و هو أمر المواليد و أمر المال.

١٦٢

و من هنا يظهر وجه العناية بالتمهيد المسوق لبيان هذه الأحكام الّتي تعلّقت بالاجتماع الإنسانيّ و نشبت في اُصوله و جذوره. و صرف الناس عمّا اعتادت عليه جماعتهم، و التحمت عليه أفكارهم، و نبتت عليه لحومهم، و مات عليه أسلافهم، و نشأ عليه أخلافهم عسير كلّ العسر.

و هذا شأن ما شرّع في صدر هذه السورة من الأحكام المذكورة، يتّضح ذلك بتأمّل إجماليّ في وضع العالم الإنسانيّ يومئذ بالعموم و في وضع العالم العربيّ (ودارهم دار نزول القرآن و ظهور الإسلام) بالخصوص، و في كيفيّة تدرّج القرآن في نزوله و ظهور الأحكام الإسلاميّة في تشريعها.

( كلام في الجاهليّة الأولى)

القرآن يسمّي عهد العرب المتّصل بظهور الإسلام بالجاهليّة، و ليس إلّا إشارة منه إلى أنّ الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم، و المسيطر عليهم في كلّ شي‏ء الباطل و سفر الرأي دون الحقّ، و كذلك كانوا على ما يقصّه القرآن من شؤونهم، قال تعالى:( يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الحقّ ظَنَّ الْجاهليّة ) آل عمران: ١٥٤، و قال:( أَ فَحُكْمَ الْجاهليّة يَبْغُونَ ) المائدة: ٥٠، و قال:( إِذْ جَعَلَ الّذينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهليّة ) الفتح: ٢٦، و قال:( وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهليّة الْأُولى ) الأحزاب: ٣٣.

كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة و هي نصرانيّة، و في مغربها إمبراطوريّة الروم و هي نصرانيّة، و في شمالها الفرس و هم مجوس، و في غير ذلك الهند و مصر و هما وثنيّتان و في أرضهم طوائف من اليهود، و هم أعني العرب مع ذلك وثنيّون يعيش أغلبهم عيشة القبائل، و هذا كلّه هو الّذي أوجد لهم اجتماعاً همجيّاً بدويّاً فيه أخلاط من رسوم اليهوديّة و النصرانيّة و المجوسيّة و هم سكارى جهالتهم، قال تعالى:( وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ الله إِنْ يتّبعونَ إلّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إلّا يَخْرُصُونَ ) الأنعام: ١١٦.

و قد كانت العشائر و هم البدو على ما لهم من خساسة العيش و دناءته يعيشون

١٦٣

بالغزوات و شنّ الغارات و اختطاف كلّ ما في أيدي آخرين من متاع أو عرض فلا أمن بينهم و لا أمانة، و لا سلم و لا سلامة، و الأمر إلى من غلب و الملك لمن وضع عليه يده.

أمّا الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء و الحميّة الجاهليّة و الكبر و الغرور و اتّباع الظالمين و هضم حقوق المظلومين و التعادي و التنافس و القمار و شرب الخمر و الزنا و أكل الميتة و الدم و حشف التمر.

و أمّا النساء فقد كنّ محرومات من مزايا المجتمع الإنسانيّ لا يملكن من أنفسهن إرادة و لا من أعمالهنّ عملاً و لا يملكن ميراثاً و يتزوّج بهنّ الرجال من غير تحديد بحدّ كما عند اليهود و بعض الوثنيّة و مع ذلك فقد كنّ يتبرّجن بالزينة و يدعون من أحببن إلى أنفسهنّ و فشا فيهنّ الزنا و السفاح حتّى في المحصنات المزوّجات منهنّ، و من عجيب بروزهنّ أنّهنّ ربّما كنّ يأتين بالحجّ عاريات.

و أمّا الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنّهم لا يورّثون صغاراً و يذهب الكبار بالميراث و من الميراث زوجة المتوفّى، و يحرّم الصغار ذكوراً و إناثاً و النساء.

غير أنّ المتوفّى لو ترك صغيراً ورثه لكنّ الأقوياء يتولّون أمر اليتيم و يأكلون ماله، و لو كان اليتيم بنتاً تزوّجوها و أكلوا مالها ثمّ طلّقوها و خلّوا سبيلها فلا مال تقتات به و لا راغب في نكاحها ينفق عليها و الابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى بها بينهم لمكان دوام الحروب و الغزوات و الغارات فبالطبع كان القتل شائعاً بينهم.

و كان من شقاء أولادهم أنّ بلادهم الخربة و أراضيهم القفر البائرة كان يسرع الجدب و القحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق( الأنعام آية ١٥١) ، و كانوا يئدون البنات( التكوير آية ٨) ، و كان من أبغض الأشياء عند الرجل أن يبشّر بالاُنثى( الزخرف آية ١٧) .

و أمّا وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة و إن كانت ربّما ملك فيها ملوك تحت حماية أقوى الجيران و أقربها كإيران لنواحي الشمال و الروم لنواحي الغرب و الحبشة لنواحي الشرق إلّا أنّ قرى الأوساط كمكّة و يثرب و الطائف و غيرها كانت تعيش في وضع أشبه بالجمهوريّة و ليس بها، و العشائر في البدو بل حتّى في داخل

١٦٤

القرى كانت تدار بحكومة رؤسائها و شيوخها و ربّما تبدّل الوضع بالسلطنة.

فهذا هو الهرج العجيب الّذي كان يبرز في كلّ عدّة معدودة منهم بلون، و يظهر في كلّ ناحية من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة و الاعتقادات الخرافيّة الدائرة بينهم، و أضف إلى ذلك بلاء الاُمّيّة و فقدان التعليم و التعلّم في بلادهم فضلاً عن العشائر و القبائل.

و جميع ما ذكرناه من أحوالهم و أعمالهم و العادات و الرسوم الدائرة بينهم ممّا يستفاد من سياق الآيات القرآنيّة و الخطابات الّتي تخاطبهم بها أوضح استفادة، فتدبّر في المقاصد الّتي ترومها الآيات و البيانات الّتي تلقيها إليهم بمكّة أوّلاً ثمّ بعد ظهور الإسلام و قوّته بالمدينة ثانياً، و في الأوصاف الّتي تصفهم بها، و الاُمور الّتي تذمّها منهم و تلومهم عليها، و النواهي المتوجّهة إليهم في شدّتها و ضعفها، إذا تأمّلت كلّ ذلك تجد صحّة ما تلوناه عليك. على أنّ التاريخ يذكر جميع ذلك و يتعرّض من تفاصيلها ما لم نذكره لإجمال الآيات الكريمة و إيجازها القول فيه. و أوجز كلمة و أوفاها لإفادة جمل هذه المعاني ما سمّى القرآن هذا العهد بعهد الجاهليّة فقد اُجمل في معناها جميع هذه التفاصيل. هذا حال عالم العرب ذلك اليوم.

و أمّا العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الروم و الفرس و الحبشة و الهند و غيرهم فالقرآن يجمل القول فيه. أمّا أهل الكتاب منهم أعني اليهود و النصارى و من يلحق بهم فقد كانت مجتمعاتهم تدار بالأهواء الاستبداديّة و التحكّمات الفرديّة من الملوك و الرؤساء و الحكّام و العمّال فكانت مقتسمة طبعاً إلى طبقتين طبقة حاكمة فعّالة لما تشاء تعبث بالنفس و العرض و المال، و طبقة محكومة مستعبدة مستذلّة لا أمن لها في مال و عرض و نفس، و لا حرّيّة إرادة إلّا ما وافق من يفوقها، و قد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين و حملة الشرع و أتلفت بهم، و أخذت مجامع قلوب العامّة و أفكارهم بأيديهم فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس و دنياهم تحكم في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء و أقلامهم و في دنياهم بالسوط و السيف.

و قد اقتسمت الطبقة المحكومة أيضاً على حسب قوّتها في السطوة و الجدة فيما بينهم

١٦٥

نظير الاقتسام الأوّل (و الناس على دين ملوكهم) إلى طبقتي الأغنياء المترفين و الضعفاء و العجزة و العبيد، و كذا إلى ربّ البيت و مربوبيّه من النساء و الأولاد، و كذا إلى الرجال المالكين لحرّيّة الإرادة و العمل في جميع شؤون الحياة و النساء المحرومات من جميع ذلك التابعات للرجال محضاً الخادمات لهم في ما أرادوه منهنّ من غير استقلال و لو يسيراً.

و جوامع هذه الحقائق التاريخيّة ظاهرة من قوله تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إلّا نَعْبُدَ إلّا الله وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تولّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: ٦٤، و قد أدرجها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتابه إلى هرقل عظيم الروم، و قد قيل إنّه كتب بها أيضاً إلى عظيم مصر و عظيم الحبشة و ملك الفرس و إلى نجران.

و كذا قوله تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣، و قوله في ما وصّى به التزوّج بالإماء و الفتيات:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) النساء: ٢٥، و قوله في النساء:( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥، إلى غير ذلك من الآيات.

و أمّا غير أهل الكتاب و هم يومئذ الوثنيّة و من يلحق بهم فقد كان الوضع فيهم أردأ و أشأم من وضع أهل الكتاب، و الآيات النازلة في الاحتجاج عليهم تكشف عن خيبة سعيهم و خسران صفقتهم في جميع شؤون الحياة و ضروب السعادة، قال تعالى:( وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالمين قُلْ إنّما يُوحى‏ إِلَيَّ إنّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تولّوا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى‏ سَواءٍ ) الأنبياء: ١٠٩، و قال تعالى:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: ١٩.

١٦٦

( كيف ظهرت الدعوة الإسلاميّة؟)

كان وضع المجتمع الإنسانيّ يومئذ (عهد الجاهليّة) ما سمعته من إكباب الناس على الباطل و سلطة الفساد و الظلم عليهم في جميع شؤون الحياة، و هو ذا دين التوحيد و هو الدين الحقّ يريد أن يؤمّر الحقّ و يولّيه عليهم تولية مطلقة، و يطهّر قلوبهم من ألواث الشرك، و يزكّي أعمالهم و يصلح مجتمعهم بعد ما تعرّق الفساد في جذوره و أغصانه و باطنه و ظاهره.

و بالجملة يريد الله ليهديهم إلى الحقّ الصريح، و ما يريد ليجعل عليهم من حرج ولكن يريد ليطهّرهم و ليتمّ نعمته عليهم، فما هم عليه من الباطل و ما يريد منهم كلمة الحقّ في نقطتين متقابلتين و قطبين متخالفين، فهل كان يجب أن يستمال منهم البعض و يصلح بهم الباقين من أهل الباطل، ثمّ بالبعض البعض حرصاً على ظهور الحقّ مهما كان و بأيّ وسيلة تيسّر كما قيل: إنّ أهمّيّة الغاية تبيح المقدّمة و لو كانت محظورة، و هذا هو السلوك السياسيّ الّذي يستعمله أهل السياسة.

و هذا النحو من السلوك إلى الغرض قلّما يتخلّف عن الإيصال إلى المقاصد في أيّ باب جرى غير أنّه لا يجري في باب الحقّ الصريح و هو الّذي تؤمّه الدعوة الإسلاميّة فإنّ الغاية وليدة مقدّماتها و وسائلها و كيف يمكن أن يلد الباطل حقّاً و ينتج السقيم صحيحاً و الوليد مجموعة مأخوذة من اللّذين يلدانه؟.

و بغية السياسة و هواها أن تبلغ السلطة و السيطرة، و تحوز السبق و التصدّر و التعيّن و التمتّع بأيّ نحو اتّفق، و على أيّ وصف من أوصاف الخير و الشرّ و الحقّ و الباطل انطبق، و لا هوى لها في الحقّ، ولكنّ الدعوة الحقّة لا تبتغي إلّا الغرض الحقّ، و لو توسّلت إليه بباطل لكان ذلك منها إمضاءً و إنفاذاً للباطل فتصير دعوة باطلة لا دعوة حقّة.

و لهذه الحقيقة ظهورات بارزة في سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الطاهرين من آلهعليهم‌السلام .

١٦٧

و بذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه و نزل به القرآن في مواطن راودوه فيها للمساهلة أو المداهنة (و لو يسيراً) في أمر الدين، قال تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ) سورة الكافرون: ٦١، و قال تعالى و فيه لحن التهديد:( وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ) الإسراء: ٧٥، و قال تعالى:( وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) الكهف: ٥١، و قال تعالى و هو مثل وسيع المعنى:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ ربّه وَ الّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلّا نَكِداً ) الأعراف: ٥٨.

و إذا كان الحقّ لا يمازج الباطل و لا يلتئم به فقد أمره الله سبحانه حينما أعباه ثقل الدعوة بالرفق و التدرّج في أمرها بالنظر إلى نفس الدعوة و المدعوّ و المدعوّ إليه من ثلاث جهات.

الأولى: من جهة ما اشتمل عليه الدين من المعارف الحقّة و القوانين المشرّعة الّتي من شأنها إصلاح شؤون المجتمع الإنسانيّ، و قطع منابت الفساد فإنّ من الصعب المستصعب تبديل عقائد الناس و لا سيّما إذا كانت ناشبة في الأخلاق و الأعمال و قد استقرّت عليها العادات، و دارت عليها القرون، و سارت عليها الأسلاف، و نشأت عليها الأخلاف و لا سيّما إذا عمّت كلمة الدين و دعوته جميع شؤون الحياة، و استوعبت جميع الحركات الإنسانيّة و سكناتها في ظاهرها و باطنها في جميع أزمنتها و لجميع أشخاصها و أفرادها و مجتمعاتها من غير استثناء (كما أنّه شأن الإسلام) فإنّ ذلك ممّا يدهش الفكرة تصوّره أو هو محال عاديّ.

و صعوبة هذا الأمر و مشقّته في الأعمال أزيد منها في الاعتقادات فإنّ استيناس الإنسان و اعتياده و مساسه بالعمل أقدم منه بالاعتقاد، و هو أظهر لحسّه و آثر عند شهواته و أهوائه، و لذلك أظهرت الدعوة الاعتقادات الحقّة في أوّل أمرها جملة لكنّ القوانين و الشرائع الإلهيّة ظهرت بالتدريج حكماً فحكماً.

و بالجملة تدرّجت الدعوة في إلقاء مضمراتها إلى الناس لئلّا يشمس عن تلقّيها الطباع و لا تتزلزل النفوس في نضد بعض أجزاء الدعوة على بعض، و هذا الّذي ذكرناه

١٦٨

ظاهر للمتدبّر الباحث في هذه الحقائق فإنّه يجد الآيات القرآنيّة مختلفة في إلقاء المعارف الإلهيّة و القوانين المشرّعة في مكّيّتها و مدنيّتها. الآيات المكّيّة تدعو إلى كلّيّات اُجمل فيها القول، و المدنيّة - و نعني بها ما نزلت بعد الهجرة أينما نزلت - تفصّل القول و تأتي بالتفاصيل من الأحكام الّتي سبقت في المكّيّة كلّيّاتها و مجملاتها، قال تعالى:( كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى‏ إِنَّ إِلى‏ ربّك الرُّجْعى‏ أَ رَأَيْتَ الّذي يَنْهى‏ عَبْداً إِذا صَلَّى أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى‏ أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏ ) العلق: ١٤، و الآيات نازلة في أوّل الرسالة بعد النبوّة على ما مرّت إليه الإشارة في آيات الصوم من الجزء الثاني، و فيها إجمال التوحيد و المعاد، و إجمال أمر التقوى و العبادة.

و قال تعالى:( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَ ربّك فَكَبِّرْ ) المدّثّر: ٣، و هي أيضاً من الآيات النازلة في أوّل البعثة، و قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) الشمس: ١٠، و قال تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ ربّه فَصَلَّى ) الأعلى: ١٥، و قوله تعالى:( قُلْ إنّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ إنّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الّذينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) حم السجدة: ٨، و هذه الآيات أيضاً من الآيات النازلة في أوائل البعثة.

و قال تعالى:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ ربّكمْ عَلَيْكُمْ إلّا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إحساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إيّاهمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الّتي حَرَّمَ الله إلّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تعقّلونَ وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هِيَ أَحسن حتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إلّا وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ وَ بِعَهْدِ الله أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَ أنّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تتّبعوا السُّبُلَ فَتفرّق بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) الأنعام: ١٥٣، فانظر إلى سياق الآيات الشريفة كيف اُجمل القول فيها في النواهي الشرعيّة أوّلاً، و

١٦٩

في الأوامر الشرعيّة ثانياً، و إنّما اُجمل بجمع الجميع تحت وصف لا يستنكف حتّى العقل العامّيّ من قبوله فإنّ الفواحش لا يتوقّف في شناعتها و لزوم اجتنابها و الكفّ عنها ذو مسكة، و كذا الاجتماع على صراط مستقيم يؤمن به التفرّق و الضعف و الوقوع في الهلكة و الردى لا يرتاب فيه أحد بحكم الغريزة فقد استمدّ في هذه الدعوة من غرائز المدعوّين، و لذلك بعينه ذكر ما ذكر من المحرّمات بعنوان التفصيل كعقوق الوالدين و الإساءة إليهما، و قتل الأولاد من إملاق، و قتل النفس المحترمة، و أكل ما اليتيم إلى آخر ما ذكر فإنّ العواطف الغريزيّة من الإنسان تؤيّد الدعوة في أمرها لاشمئزازها في حالها العاديّ عن ارتكاب هذه الجرائم و المعاصي، و هناك آيات اُخر يعثر عليها المتدبّر و يرى أنّ الحال فيها نظير ما ذكرناه فيما نقلنا من الآيات.

و كيف كان فالآيات المكّيّة شأنها الدعوة إلى مجملات فصّلتها بعد ذلك الآيات المدنيّة، و مع ذلك فالآيات المدنيّة نفسها لا تخلو عن مثل هذا التدرّج فما جميع الأحكام و القوانين الدينيّة نزلت في المدينة دفعة واحدة بل تدريجاً و نجوماً.

و يكفيك التدبّر في اُنموذج منها قد تقدّمت الإشارة إليها و هي آيات حرمة الخمر فقد قال تعالى:( وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حسناً ) النحل: ٦٧، و الآية مكّيّة ذكر فيها أمر الخمر و سكت عنه إلّا ما في قوله: وَ رِزْقاً حسناً من الإيماء إلى أنّ السكر ليس من الرزق الحسن ثمّ قال:( قُلْ إنّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ ) الأعراف: ٣٣، و الآية أيضاً مكّيّة تحرّم الإثم صريحاً لكن لم تبيّن أنّ شرب الخمر إثم إرفاقاً في الدعوة إلى ترك عادة سيّئة اجتذبتهم إليها شهواتهم و نبتت عليها لحومهم و شدّت عظامهم، ثمّ قال:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثمّ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، و الآية مدنيّة تبيّن أنّ شرب الخمر من الإثم الّذي حرّمته آية الأعراف، و لسان الآية - كما ترى - لسان رفق و نصح، ثمّ قال تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إنّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إنّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَ

١٧٠

عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) المائدة: ٩١، و الآية مدنيّة ختم بها أمر التحريم.

و نظيرها الإرث فقد آخى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلاً بين أصحابه و ورّث أحد الأخوين الآخر في أوّل الأمر إعداداً لهم لما سيشرّعه الله في أمر الوراثة، ثمّ نزل قوله تعالى:( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ ) الأحزاب: ٦، و على هذا النحو غالب الأحكام المنسوخة و الناسخة.

ففي جميع هذه الموارد و أشباهها تدرّجت الدعوة في إظهار الأحكام و إجرائها أخذاً بالإرفاق لحكمة الحفظ لسهولة التحميل و حسن التلقّي بالقبول، قال تعالى:( وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى‏ مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ) الإسراء: ١٠٦، و لو كان القرآن نزل عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة واحدة ثمّ بيّن الرسول تفاصيل شرائعه على ما يوظّفه عليه قوله تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتبيّن لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤، فأتى ببيان جميع معارفه الاعتقاديّة و الأخلاقيّة و كلّيّات الأحكام العباديّة و القوانين الجارية في المعاملات و السياسات و هكذا لم تستطع الأفهام عندئذ تصوّرها و حملها فضلاً عن قبول الناس لها و عملهم بها و حكومتها على قلوبهم في إرادتها، و على جوارحهم و أبدانهم في فعلها فتنزيله على مكث هو الّذي هيّأ للدين إمكان القبول و الوقوع في القلوب و قال تعالى:( وَ قالَ الّذينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا ) الفرقان: ٣٢، و في الآية دلالة على أنّ الله سبحانه كان يرفق برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إنزال القرآن نجوماً كما أرفق باُمّته فتدبّر في ذلك و تأمّله و في ذيل الآية قوله: و رتّلناه ترتيلاً.

و من الواجب أن يتذكّر أنّ السلوك من الإجمال إلى التفصيل و التدرّج في إلقاء الأحكام إلى الناس من باب الإرفاق و حسن التربية و رعاية المصلحة غير المداهنة و المساهلة و هو ظاهر.

الثانية: السلوك التدريجيّ من حيث انتخاب المدعوّين و أخذ الترتيب فيهم فمن المعلوم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مبعوثاً إلى كافّة البشر من غير اختصاص دعوته بقوم دون قوم، و لا بمكان دون مكان، و لا بزمان دون زمان (و مرجع الأخيرين إلى الأوّل في الحقيقة)

١٧١

البتّة قال تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جميعاً الّذي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الأعراف: ١٥٨، و قال تعالى:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: ١٩، و قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالمين ) الأنبياء: ١٠٧.

على أنّ التاريخ يحكي دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود و هم من بني إسرائيل، و الروم و العجم و الحبشة و مصر و ليسوا من العرب، و قد آمن به من المشاهير سلمان و هو من العجم و مؤذّنه بلال و هو من الحبشة و صهيب و هو من الروم، فعموم نبوّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمانه لا ريب فيه، و الآيات السابقة تشمل بعمومها الأزمان و الأمكنة أيضاً.

على أنّ قوله تعالى:( وَ أنّه لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢، و قوله تعالى:( وَ لكِنْ رَسُولَ الله وَ خاتَمَ النبيّينَ ) الأحزاب: ٤٠، تدلّان على عموم النبوّة و شمولها للأمكنة و الأزمنة أيضاً، و البحث التفصيليّ عن هذه الآيات يطلب من تفسيرها في مواردها.

و كيف كان فالنبوّة عامّة، و المتأمّل في سعة المعارف و القوانين الإسلاميّة و ما كان عليه الدنيا يوم ظهر الإسلام من ظلمة الجهل و قذارة الفساد و البغي لا يرتاب في عدم إمكان مواجهة الدنيا و مكافحة الشرك و الفساد حينئذ دفعة.

بل كان من الواجب في الحكمة أن تبدأ الدعوة بالبعض و أن يكون ذلك البعض هو قوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ يظهر بركوز الدين فيهم على غيرهم و هكذا كان، قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيبيّن لَهُمْ ) إبراهيم: ٤، و قال:( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) الشعراء: ١٩٩، و الآيات الّتي تدلّ على ارتباط الدعوة و الإنذار بالعرب لا تدلّ على أزيد من كونهم بعض من تعلّقت بهم الدعوة و الإنذار، و كذا الآيات النازلة في التحدّي بالقرآن لو كان فيها ما ينحصر تحدّيه بالبلاغة فحسب إنّما هي لكون البلاغة إحدى جهات التحدّي بالإعجاز، و لا دليل في ذلك على كون الاُمّة العربيّة هي المقصودة بالدعوة فقط نعم اللّسان مقصود بالاستقلال للبيان كما مرّ من قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيبيّن لَهُمْ ) الآية، و قوله:( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحسن الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ) يوسف: ٣، و قوله:( وَ إنّه

١٧٢

لَتَنْزِيلُ ربّ الْعالمين نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) الشعراء: ١٩٥، فاللسان العربيّ هو المظهر للمعاني و المقاصد الذهنيّة أتمّ إظهار، و لذلك اختاره الله سبحانه لكتابه العزيز من بين الألسن و قال:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تعقّلونَ ) الزخرف: ٣.

و بالجملة أمره الله تعالى بعد القيام بأصل الدعوة أن يبدأ بعشيرته فقال:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ‏ ) الشعراء: ٢١٤، فامتثل أمره و جمع عشيرته و دعاهم إلى ما بعث له و وعدهم أنّ أوّل من لبّاه فهو خليفته من بعده فأجابه إلى ذلك عليّعليه‌السلام فشكر له ذلك و استهزأ به الباقون على ما في صحاح الروايات(١) و كتب التاريخ و السير، ثمّ لحق به اُناس من أهله كخديجة زوجته و عمّه حمزة بن عبدالمطّلب و عبيد و عمّه أبي طالب على ما روته الشيعة و في أشعاره تصريحات و تلويحات بذلك(٢) (و إنّما لم يتظاهر بالإيمان ليتمكّن من حمايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ).

ثمّ أمره الله سبحانه أن يوسّع الدعوة لقومه على ما يظهر من قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَ مَنْ حَوْلَها ) الشورى: ٧، و قوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) الم السجدة: ٣، و قوله:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) ، و هذه الآية من الشواهد على أنّ الدعوة غير مقصورة عليهم، و إنّما بدأ بهم حكمة و مصلحة.

ثمّ أمره الله سبحانه بتوسعة الدعوة للدنيا من جميع الملّيّين و غيرهم كما يدلّ عليه الآيات السابقة كقوله تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جميعاً ) و قوله:( وَ لكِنْ رَسُولَ الله وَ خاتَمَ النبيّينَ ) و غيرهما ممّا تقدّم.

الثالثة: الأخذ بالمراتب من حيث الدعوة و الإرشاد و الإجراء، و هي الدعوة بالقول و الدعوة السلبيّة و الجهاد.

أمّا الدعوة بالقول فهي ممّا يستفاد من جميع القرآن بالبداهة، و قد أمره الله

____________________

(١) راجع سادس البحار، و سيرة ابن هشام و غيرهما.

(٢) راجع ديوان أبي طالب.

١٧٣

سبحانه برعاية الكرامات الإنسانيّة و الأخلاق الحسنة في ذلك قال تعالى:( قُلْ إنّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ ) الكهف: ١١٠، و قال:( وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الحجر: ٨٨، و قال:( وَ لا تَسْتَوِي الْحسنةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحسن فَإِذَا الّذي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) حم السجدة: ٣٤، و قال:( وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) المدثر: ٦، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستعمل جميع فنون البيان على حسب اختلاف الأفهام و استعدادات الأشخاص، قال تعالى:( ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ ربّك بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحسنةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحسن ) النحل: ١٢٥.

و أمّا الدعوة السلبيّة فهو اعتزال المؤمنين الكافرين في دينهم و أعمالهم و تكوين مجتمع إسلاميّ لا يمازجه دين غيرهم ممّن لا يوحّد الله سبحانه و لا أعمال غير المسلمين من المعاصي و سائر الرذائل الأخلاقية إلّا ما أوجبته ضرورة الحياة من المخالطة، قال تعالى:( لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ) الكافرون: ٦، و قال:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا أنّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ أَوْلِياءَ ثمّ لا تُنْصَرُونَ ) هود: ١١٣، و قال:( فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تتّبع أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ الله مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله ربّنا وَ ربّكمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) الشورى: ١٥، و قال تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الحقّ - إلى أن قال -لا يَنْهاكُمُ الله عَنِ الّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحبّ الْمُقْسِطِينَ إنّما يَنْهاكُمُ الله عَنِ الّذينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى‏ إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) الممتحنة: ٩، و الآيات في معنى التبرّي و الاعتزال عن أعداء الدين كثيرة، و هي - كما ترى - تشرح معنى هذا التبرّي و كيفيّته و خصوصيّته.

و أمّا الجهاد فقد تقدّم الكلام فيه في ذيل آيات الجهاد من سورة البقرة و هذه

١٧٤

المراتب الثلاث من مزايا الدين الإسلاميّ و مفاخره و المرتبة الاُولى لازمة في الأخيرتين و كذا الثانية في الثالثة، فقد كانت من سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدعوة و الموعظة في غزواته قبل الشروع فيها على ما أمره به ربّه سبحانه فقال:( فَإِنْ تولّوا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى‏ سَواءٍ ) .

و من أخنى القول ما نبذوا به الإسلام: أنّه دين السيف دون الدعوة مع أنّ الكتاب و السيرة و التاريخ تشهد به و تنوّره و لكن من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

و هؤلاء المنتقدون بعضهم من أهل الكنيسة الّتي كانت عقدت منذ قرون فيها محكمة دينيّة تقضي على المنحرفين عن الدين بالنار تشبّهاً بالمحكمة الإلهيّة يوم القيامة فكان عمّالها يجولون في البلاد فيجلبون إليها من الناس من اتّهموه بالردّة و لو بالأقوال الحديثة في الطبيعيّات و الرياضيّات ممّا لم يقل به الفلسفة الإسكولاستيكيّة الّتي كانت الكنيسة تروّجها.

فليت شعري هل بسط التوحيد و قطع منابت الوثنيّة و تطهير الدنيا من قذارة الفساد أهمّ عند العقل السليم أو تخنيق من قال بمثل حركة الأرض أو نفي الفلك البطلميوسي و ردّ أنفاسه إلى صدره، و الكنيسة هي الّتي أثارت العالم المسيحي على المسلمين باسم الجهاد مع الوثنيّة فأقامت الحروب الصليبيّة على ساقها مائتي سنة تقريباً و خرّبت البلاد و أفنت الملايين من النفوس و أباحت الأعراض.

و بعضهم من غير أهل الكنيسة من المدّعين للتمدّن و الحرّيّة!! و هؤلاء هم الّذين يوقدون نار الحروب العالميّة و يقلّبون الدنيا ظهر البطن كلّما هتفت بهم مزاعمهم توجّه خطر يسير على بعض منافعهم المادّيّة فهل استقرار الشرك في الدنيا و انحطاط الأخلاق و موت الفضائل و إحاطة الشؤم و الفساد على الأرض و من فيها أضرّ أم زوال السلطة على أشبار من الأرض أو الخسارة في دريهمات يسيرة؟! نعم إنّ الإنسان لربّه لكنود.

و يعجبني نقل ما ذكره بعض المحقّقين الأعاظم(١) في هذا الباب في بعض رسائله قال رحمه الله: الوسائل المتبعة للإصلاح الاجتماعيّ و تحقيق العدل و تمزيق الظلم و مقاومة الشرّ و الفساد تكاد تنحصر في ثلاثة أنواع:

____________________

(١) الشيخ محمّد الحسّين كاشف الغطاء في رسالة: المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون.

١٧٥

١- وسائل الدعوة و الإرشاد بالخطب و المقالات و المؤلّفات و النشرات، و هذه هي الخطّة الشريفة الّتي أشار إليها الحقّ جلّ شأنه بقوله:( ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ ربّك بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحسنةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحسن ) ، و قوله:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحسن فَإِذَا الّذي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) و هذه هي الطريقة الّتي استعملها الإسلام في أوّل البعثة، إلى أن قال:

٢- وسائل المقاومة السلميّة و السلبيّة كالمظاهرات و الإضرابات و المقاطعة الاقتصاديّة و عدم التعاون مع الظالمين، و عدم الاشتراك في أعمالهم و حكومتهم، و أصحاب هذه الطريقة لا يبيحون اتّخاذ طريق الحرب و القتل و العنف، و هي المشار إليها بقوله تعالى:( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، و لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) و في القرآن الكريم كثير من الآيات الّتي تشير إلى هذه الطريقة، و أشهر من دعا إلى هذه الطريقة و أكدّ عليها النبيّ الهنديّ بوذا، و المسيحعليه‌السلام ، و الأديب الروسيّ( تولستوي) و الزعيم الهنديّ الروحيّ( غاندي) .

٣- الحرب و الثورة و القتال.

و الإسلام يتدرّج في هذه الأساليب الثلاثة:( الاُولى) الموعظة الحسنة و الدعوة السليمة فإن لم ينجح في دفع الظالمين و درء فسادهم و استبدادهم( فالثانية) المقاطعة السلميّة أو السلبيّة و عدم التعاون و المشاركة معهم فإن لم تُجد و تنفع( فالثالثة) الثورة المسلّحة فإنّ الله لا يرضى بالظلم أبداً بل و الراضي الساكت شريك الظالم.

الإسلام عقيدة، و قد غلط و ركب الشطط من قال: إنّ الإسلام نشر دعوته بالسيف و القتال فإنّ الإسلام إيمان و عقيدة، و العقيدة لا تحصل بالجبر و الإكراه و إنّما تخضع للحجّة و البرهان، و القرآن المجيد ينادي بذلك في عدّة آيات منها( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تبيّن الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) .

و الإسلام إنّما استعمل السيف و شهر السلاح على الظالمين الّذين لم يقتنعوا بالآيات و البراهين استعمل القوّة في سبيل من وقف حجر عثرة في سبيل الدعوة إلى الحقّ، أجهز السلاح لدفع شرّ المعاندين لا إلى إدخالهم في حظيرة الإسلام يقول جلّ

١٧٦

شأنه: قاتِلُوهُمْ حتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فالقتال إنّما هو لدفع الفتنة لا لاعتناق الدين و العقيدة.

فالإسلام لا يقاتل عبطة و اختياراً و إنّما يحرجه الأعداء فيلتجئ إليه اضطراراً و لا يأخذ منه إلّا بالوسائل الشريفة فيحرّم في الحرب و السلم التخريب و الإحراق و السمّ و قطع الماء عن الأعداء كما يحرّم قتل النساء و الأطفال و قتل الأسرى و يوصي بالرفق بهم و الإحسان إليهم مهما كانوا من العداء و البغضاء للمسلمين و يحرّم الاغتيال في الحرب و السلم و يحرّم قتل الشيوخ و العجزة و من لم يبدأ بالحرب و يحرّم الهجوم على العدوّ ليلاً( وانبذ إليهم على سواء) و يحرّم القتل على الظنّة و التهمة و العقاب قبل ارتكاب الجريمة إلى أمثال ذلك من الأعمال الّتي يأباها الشرف و المروءة و الّتي تنبعث من الخسّة و القسوة و الدناءة و الوحشيّة.

كلّ تلك الأعمال الّتي أبى شرف الإسلام ارتكاب شي‏ء منها مع الأعداء في كلّ ما كان له من المعارك و الحروب قد ارتكبتها بأفظع صورها و أهول أنواعها الدول المتمدّنة في هذا العصر الّذي يسمّونه عصر النور نعم أباح عصر النور قتل النساء و الأطفال و الشيوخ و المرضى و التبييت ليلاً و الهجوم ليلاً بالسلاح و القنابل على العزل و المدنيّين الآمنين، و أباح القتل بالجملة.

أ لم يرسل الآلمان في الحرب العالميّة الثانية القنابل الصاروخيّة إلى لندن فهدمت المباني و قتلت النساء و الأطفال و السكّان الآمنين؟! أ لم يقتل الألمان اُلوف الأسرى؟! أ لم يرسل الحلفاء في الحرب الماضية اُلوف الطائرات إلى آلمانيا لتخريب مدنها؟! أ لم يرم الأمريكان القنابل الذرّيّة على المدن اليابانيّة؟!.

و بعد اختراع وسائل الدمار الحديثة كالصواريخ و القنابل الذرّيّة و إلهدروجينيّة لا يعلم إلّا الله ما ذا يحلّ بالأرض من عذاب و خراب و مآسي و آلام إذا حدثت حرب عالميّة ثالثة و لجأت الدول المتحاربة إلى استعمال تلك الوسائل، أرشد الله الإنسان إلى طريق الصواب و هداه الصراط المستقيم، انتهى.

قوله تعالى: ( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ ) إلى آخر الآية، أمر بإيتاء اليتامى أموالهم و هو توطئة للجملتين اللّاحقتين: وَ لا تَتَبَدَّلُوا إلخ أو الجملتان كالمفسّر لهذه الجملة غير

١٧٧

أنّ التعليل الّذي في آخر الآية لكونه راجعاً إلى الجملتين أو الجملة الأخيرة يؤيّد أنّ الجملة الاُولى موضوعة في الكلام تمهيداً للنهي الّذي في الجملتين اللّاحقتين.

و أصل النهي عن التصرّف المضار في أموال اليتامى كما تقدّم بيانه توطئة و تمهيد لما سيذكر من أحكام الإرث، و لما سيذكر في الآية التالية من حكم التزوّج.

و أمّا قوله تعالى:( وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) أي لا تتبدّلوا الخبيث من أموالكم من الطيّب من أموالهم بأن يكون لهم عندكم مال طيّب فتعزلوه لأنفسكم و تردّوا إليهم ما يعادله من رديّ أموالكم. و يمكن أن يكون المراد: لا تتبدّلوا أكل الحرام من أكل الحلال - كما قيل - لكنّ المعنى الأوّل أظهر فإنّ الظاهر أنّ كلّاً من الجملتين أعني قوله: وَ لا تَتَبَدَّلُوا إلخ و قوله: وَ لا تَأْكُلُوا إلخ بيان لنوع خاصّ من التصرّف غير الجائز و قوله: وَ آتُوا الْيَتامى‏ إلخ تمهيد لبيانهما معاً، و أمّا قوله: أنّه كانَ حُوباً كَبِيراً الحوب الإثم مصدر و اسم مصدر.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) قد مرّت الإشارة فيما مرّ إلى أنّ أهل الجاهليّة من العرب - و كانوا لا يخلون في غالب الأوقات عن الحروب و المقاتل و الغيلة و الغارة و كان يكثر فيهم حوادث القتل - كان يكثر فيهم الأيتام، و كانت الصناديد و الأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء و أموالهنّ فيتزوّجون بهنّ و يأكلون أموالهنّ إلى أموالهم ثمّ لا يقسطون فيهنّ و ربّما أخرجوهنّ بعد أكل مالهنّ فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهنّ يرتزقن به و لا راغب فيهنّ فيتزوّج بهن و ينفق عليهنّ، و قد شدّد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث و الظلم الفاحش، و أكّد النهي عن ظلم اليتامى و أكل أموالهم كقوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً إنّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) النساء: ١٠، و قوله تعالى:( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى‏ أَمْوالِكُمْ أنّه كانَ حُوباً كَبِيراً ) الآية: النساء: ٢، فأعقب ذلك أنّ المسلمين أشفقوا على أنفسهم - كما قيل - و خافوا خوفاً شديداً حتّى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفاً من الابتلاء بأموالهم و التفريط في حقّهم، و من أمسك يتيماً

١٧٨

عنده أفرز حظّه من الطعام و الشراب و كان إذا فضل من غذائهم شي‏ء لم يدنوا منه حتّى يبقى و يفسد فأصبحوا متحرّجين من ذلك و سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك و شكوا إليه فنزل:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى‏ قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ الله يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ الله لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) البقرة: ٢٢٠، فأجاز لهم أن يؤووهم و يمسكوهم إصلاحاً لشأنهم و أن يخالطوهم فإنّهم إخوانهم فجلّى عنهم و فرّج همّهم.

إذا تأمّلت في ذلك ثمّ رجعت إلى قوله تعالى:( وَ إِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ) إلخ و هو واقع عقيب قوله:( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ ) الآية اتّضح لك أنّ الآية واقعة موقع الترقّي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة و المعنى - و الله أعلم -: اتّقوا أمر اليتامى، و لا تتبدّلوا خبيث أموالكم من طيّب أموالهم، و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتّى أنّكم إن خفتم إلّا تقسطوا في اليتيمات منهم و لم تطب نفوسكم أن تنكحوهنّ و تتزوّجوا بهنّ فدعوهنّ و انكحوا نساءً غيرهنّ ما طاب لكم مثنى و ثلاث و رباع.

فالشرطيّة أعني قوله:( إِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ، في معنى قولنا إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهنّ و انكحوا نساءً غيرهنّ فقوله: فانكحوا سادّ مسدّ الجزاء الحقيقيّ، و قوله: ما طابَ لَكُمْ، يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهنّ، و قد قيل: ما طابَ لَكُمْ و لم يقل: من طاب لكم إشارة إلى العدد الّذي سيفصّله بقوله: مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ إلخ و وضع قوله: إِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا موضع عدم طيب النفس من وضع السبّب موضع المسبّب مع الإشعار بالمسبّب في الجزاء بقوله: ما طابَ لَكُمْ، هذا.

و قد قيل في معنى الآية اُمور اُخر غير ما مرّ على ما ذكر في مطوّلات التفاسير و هي كثيرة، منها: أنّه كان الرجل منهم يتزوّج بالأربع و الخمس و أكثر و يقول: ما يمنعني أن أتزوّج كما تزوّج فلان، فإذا فني ماله مال إلى مال اليتيم الّذي في حجره فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلّا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلماً.

١٧٩

و منها: أنّهم كانوا يشدّدون في أمر اليتامى و لا يشدّدون في أمر النساء فيتزوّجون منهنّ عدداً كثيراً و لا يعدلون بينهنّ، فقال تعالى: إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا منهنّ واحدة إلى أربع.

و منها: أنّهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى و أكل أموالهم فقال سبحانه: إن كنتم تحرّجتم من ذلك فكذلك تحرّجوا من الزنا فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.

و منها: أنّ المعنى إن خفتم إلّا تقسطوا في اليتيمة المربّاة في حجوركم فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ممّا اُحلّ لكم من يتامى قرباتكم مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ.

و منها: أنّ المعنى إن كنتم تتحرّجون عن مواكلة اليتامى فتحرّجوا من الجمع بين النساء و أن لا تعدلوا بينهنّ و لا تتزوّجوا منهنّ إلّا من تأمنون معه الجور، فهذه وجوه ذكروها لكنّك بصير بأنّ شيئاً منها لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) بناء مفعل و فعال في الأعداد تدلّان على تكرار المادّة فمعنى مثنى و ثلاث و رباع اثنتين اثنتين و ثلاثاً ثلاثاً و أربعاً أربعاً، و لمّا كان الخطاب متوجّهاً إلى أفراد الناس و قد جي‏ء بواو التفصيل بين مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ الدالّ على التخيير أفاد الكلام أنّ لكلّ واحد من المؤمنين أن يتّخذ لنفسه زوجتين أو ثلاثاً أو أربعاً فيصرن بالإضافة إلى الجميع مثنى و ثلاث و رباع.

و بذلك و بقرينة قوله بعده:( فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) و كذا آية المحصنات بجميع ذلك يدفع أن يكون المراد بالآية أن تنكح الاثنتان بعقد واحد أو الثلاث بعقد واحد مثلاً، أو يكون المراد أن تنكح الاثنتان معاً ثمّ الاثنتان معاً و هكذا، و كذا في الثلاث و الأربع، أو يكون المراد اشتراك أزيد من رجل واحد في الزوجة الواحدة مثلاً فهذه محتملات لا تحتملها الآية.

على أنّ الضرورة قاضية أنّ الإسلام لا ينفذ الجمع بين أزيد من أربع نسوة أو اشتراك أزيد من رجل في زوجة واحدة.

و كذا يدفع بذلك احتمال أن يكون الواو للجمع فيكون في الكلام تجويز

١٨٠

الجمع بين تسع نسوة لأنّ مجموع الاثنتين و الثلاث و الأربع تسع، و قد ذكر في المجمع: أنّ الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتّة فإنّ من قال: دخل القوم البلد مثنى و ثلاث و رباع لم يلزم منه اجتماع الأعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة، و لأنّ لهذا العدد لفظاً موضوعاً و هو تسع فالعدول عنه إلى مثنى و ثلاث و رباع نوع من العيّ - جلّ كلامه عن ذلك و تقدّس -.

قوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) أي فانكحوا واحدةً لا أزيد، و قد علّقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لأنّ العلم في هذه الاُمور - و لتسويل النفس فيها أثر بيّن - لا يحصل غالباً فتفوت المصلحة.

قوله تعالى: ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) و هي الإماء فمن خاف إلّا يقسط فيهنّ فعليه أن ينكح واحدة، و إن أحبّ أن يزيد في العدد فعليه بالإماء إذ لم يشرّع القسم في الإماء.

و من هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الإماء بتجويز الظلم و التعدّي عليهنّ فإنّ الله لا يحبّ الظالمين و ليس بظلّام للعبيد بل لمّا لم يشرع القسم فيهنّ فأمر العدل فيهنّ أسهل، و لهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتّخاذهنّ و إتيانهنّ بملك اليمين دون نكاحهنّ بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فإنّ مسألة نكاحهنّ سيتعرّض لها في ما سيجي‏ء من قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) الآية: النساء: ٢٥.

قوله تعالى: ( ذلِكَ أَدْنى‏ إلّا تَعُولُوا ) العول هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرّعت أقرب من إلّا تميلوا عن العدل و لا تتعدّوا عليهنّ في حقوقهنّ، و ربّما قيل: إنّ العول بمعنى الثقل و هو بعيد لفظاً و معنى.

و في ذكر هذه الجملة الّتي تتضمّن حكمة التشريع دلالة على أنّ أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط و نفي العول و الإجحاف في الحقوق.

قوله تعالى: ( وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) الصدقة بضمّ الدال و فتحها و الصداق هو المهر، و النحلة هي العطيّة من غير مثامنة.

١٨١

و في إضافة الصدقات إلى ضمير هنّ دلالة على أنّ الحكم بوجوب الإيتاء مبنيّ على المتداول بين الناس في سنن الازدواج من تخصيص شي‏ء من المال أو أيّ شي‏ء له قيمة مهراً لهنّ كأنّه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإنّ المتداول بين الناس أن يكون الطالب الداعي للازدواج هو الرجل على ما سيأتي في البحث العلميّ التالي، و هو الخطبة كما أنّ المشتري يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته، و كيف كان ففي الآية إمضاء هذه العادة الجارية عند الناس.

و لعلّ إمكان توهّم عدم جواز تصرّف الزوج في المهر أصلاً حتّى برضي من الزوجة هو الموجب للإتيان بالشرط في قوله:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) مع ما في اشتراط الأكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم، و الدلالة على أنّ الحكم وضعيّ لا تكليفيّ.

و الهناء سهولة الهضم و قبول الطبع و يستعمل في الطعام، و المري من الريّ و هو في الشراب كالهني‏ء في الطعام غير أنّ الهناء يستعمل في الطعام و الشراب معاً، فإذا قيل: هنيئاً مريئاً اختصّ الهناء بالطعام و الريّ بالشراب.

قوله تعالى: ( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الّتي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً ) السفه خفّة العقل، و كأنّ الأصل في معناه مطلق الخفّة فيما من شأنه أن لا يخفّ و منه الزمام السفيه أي كثير الاضطراب و ثوب سفيه أي ردي‏ء النسج ثمّ غلب في خفّة النفس و اختلف باختلاف الأغراض و المقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الاُمور الدنيويّة و سفيه للفاسق غير المبالي في أمر دينه و هكذا.

و ظاهر ما يتراءى من الآية أنّه نهي عن الإكثار في الإنفاق على السفهاء و إعطائهم من المال أزيد من حاجاتهم الضروريّة في الارتزاق، غير أنّ وقوع الآية في سياق الكلام في أموال اليتامى الّتي يتولّى أمر إدارتها و إنّمائها الأولياء قرينة معيّنة على كون المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى، و أنّ المراد بقوله: أَمْوالَكُمُ، في الحقيقة أموالهم اُضيف إلى الأولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضاً قوله بعد: وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ، و إن كان و لا بدّ من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى، فالمراد بالسفهاء ما يعمّ اليتيم و غير اليتيم لكنّ الأوّل أرجح.

١٨٢

و كيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى، فالمراد بقوله: أَمْوالَكُمُ، أموال اليتامى و إنّما اُضيفت إلى الأولياء المخاطبين بعناية أنّ مجموع المال و الثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها و إنّما اختصّ بعض أفراد المجتمع ببعض منه و آخر بآخر للصلاح العامّ الّذي يبتني عليه أصل الملك و الاختصاص فيجب أن يتحقّق الناس بهذه الحقيقة و يعلموا أنّهم مجتمع واحد و المال كلّه لمجتمعهم، و على كلّ واحد منهم أن يكلأه و يتحفّظ به و لا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة، و تدبير كلّ من لا يحسن التدبير كالصغير و المجنون، و هذا من حيث الإضافة كقوله تعالى:( وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ ) النساء: ٢٥، و من المعلوم أنّ المراد بالفتيات ليس الإماء اللّاتي يملكها من يريد النكاح.

ففي الآية دلالة على حكم عامّ موجّه إلى المجتمع و هو أنّ المجتمع ذو شخصيّة واحدة له كلّ المال الّذي أقام الله به صلبه و جعله له معاشاً فيلزم على المجتمع أن يدبّره و يصلحه و يعرضه معرض النماء و يرتزق به ارتزاقاً معتدلّاً مقتصداً و يحفظه عن الضيعة و الفساد، و من فروع هذا الأصل أنّه يجب على الأولياء أن يتولّوا أمر السفهاء فلا يؤتوهّم أموالهم فيضيّعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها عنهم و يصلحوا شأنها، و ينموها بالكسب و الاتّجار و الاسترباح و يرزقوا اُولئك السفهاء من فوائدها و نمائها دون أصلها حتّى لا ينفد رويداً رويداً و ينتهي إلى مسكنة صاحب المال و شقوته.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله: وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ، أن يرتزق السفيه في المال بأن يعيش من نمائه و نتاجه و أرباحه لا من المال بأن يشرع في الأكل من أصله على ركود منه من غير جريان و دوران فينفد عن آخره، و هذه هي النكتة في قوله:( فِيها ) دون أن يقول:( منها ) كما ذكره الزمخشريّ.

و لا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أنّ الله لا يرضى بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الإسلاميّ تولّي أمرهم فإن كان هناك واحد من الأولياء الأقربين كالأب و الجدّ فعليه التولّي و المباشرة، و إلّا فعلى الحكومة الشرعيّة أو على المؤمنين أن يقوموا بالأمر على التفصيل المذكور في الفقه.

١٨٣

( كلام في أنّ جميع المال لجميع الناس)

هذه حقيقة قرآنيّة هي أصل لأحكام و قوانين هامّة في الإسلام أعني ما تفيده هذه الآية: أنّ المال لله ملكاً حقيقيّاً جعله قياماً و معاشاً للمجتمع الإنسانيّ من غير أن يقفه على شخص دون شخص وقفاً لا يتغيّر و لا يتبدّل و هبة تنسلب معها قدرة التصرّف التشريعيّ ثمّ أذن في اختصاصهم بهذا الّذي خوّله الجميع على طبق نسب مشرّعة كالوراثة و الحيازة و التجارة و غير ذلك و شرط لتصرّفهم اُموراً كالعقل و البلوغ و نحو ذلك.

و الأصل الثابت الّذي يراعى حاله و يتقدّر به فروعه هو كون الجميع للجميع، فإنّما تراعى المصالح الخاصّة على تقدير انحفاظ المصلحة العامّة الّتي تعود إلى المجتمع و عدم المزاحمة، و أمّا مع المزاحمة و المفاوتة فالمقدّم هو صلاح المجتمع من غير تردّد.

و يتفرّع على هذا الأصل الأصيل في الإسلام فروع كثيرة هامّة كأحكام الإنفاق و معظم أحكام المعاملات و غير ذلك، و قد أيّده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله تعالى:( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جميعاً ) البقرة: ٢٩، و قد أوردنا بعض الكلام المتعلّق بهذا المقام في البحث عن آيات الإنفاق من سورة البقرة فليراجع هناك.

قوله تعالى: ( وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) قد تقدّم استيفاء الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى:( وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حساب ) آل عمران: ٢٧.

و قوله:( وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ ) ، كقوله:( وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ ) البقرة: ٢٣٣، فالمراد بالرزق هو الغذاء الّذي يغتذي به الإنسان و الكسوة ما يلبسه ممّا يقيه الحرّ و البرد (غير أنّ لفظ الرزق و الكسوة في عرف القرآن كالكسوة و النفقة في لساننا) كالكناية تكنّى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الإنسان المادّيّة الحيويّة فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الإنسان كالمسكن و نحوه كما أنّ الأكل ذو معنى خاصّ

١٨٤

بحسب أصله ثمّ يكنّى به عن مطلق التصرّفات كقوله:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) الآية.

و أمّا قوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) فإنّما هو كلمة أخلاقيّة يصلح بها أمر الولاية فإنّ هؤلاء و إن كانوا سفهاء محجورين عن التصرّف في أموالهم غير أنّهم ليسوا حيواناً أعجم و لا من الأنعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الإنسان فيكلّموا بما يكلّم به الإنسان لا بالمنكر من القول و يعاشروا بما يعاشر به الإنسان.

و من هنا يظهر أنّ من الممكن أن يكون قوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) . كناية عن المعاملة الحسنة و المعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى:( وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حسناً ) البقرة: ٨٣.

قوله تعالى: ( وَ ابْتَلُوا الْيَتامى‏ حتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ ) إلى قوله:( أَمْوالَهُمْ ) الابتلاء الامتحان و المراد من بلوغ النكاح بلوغ أوانه ففيه مجاز عقليّ و الإيناس المشاهدة و فيه شوب من معنى الاُلفة فإنّ مادّته الاُنس، و الرشد خلاف الغيّ و هو الاهتداء إلى مقاصد الحياة، و دفع مال اليتيم إليه كناية عن إعطائه إيّاه و إقباضه له كأنّ الوليّ يدفعه إليه و يبعّده من نفسه فهو على ابتذاله كناية لطيفة.

و قوله: حتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، متعلّق بقوله: وَ ابْتَلُوا، ففيه دلالة ما على الاستمرار بأن يشرع الوليّ في ابتلائه من أوّل ما يأخذ في التمييز و يصلح للابتلاء حتّى ينتهي إلى أوان النكاح و يبلغ مبلغ الرجال، و من طبع هذا الحكم ذلك فإنّ إيناس الرشد لا يحصل بابتلاء الصبيّ في واقعة أو واقعتين بل يجب تكراره إلى أن يحصل الإيناس و يتمشّى بالطبع في مدّة مديدة حتّى يبلغ الرهاق ثمّ النكاح.

و قوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ إلخ تفريع على قوله: وَ ابْتَلُوا و المعنى: و امتحنوهم فإن آنستم منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم و الكلام يؤذن بأنّ بلوغ النكاح بمنزلة المقتضي لدفع المال إلى اليتيم و استقلاله بالتصرّف في مال نفسه و الرشد شرط لنفوذ التصرّف، و قد فصّل الإسلام النظر في أمر البلوغ من الإنسان فاكتفى في أمر العبادات و أمثال الحدود و الديات بمجرّد السنّ الشرعيّ الّذي هو سنّ النكاح و اشترط في نفوذ التصرّفات الماليّة

١٨٥

و الأقارير و نحوها ممّا تفصيل بيانه في الفقه مع بلوغ النكاح الرشد، و ذلك من لطائف سلوكه في مرحلة التشريع فإنّ إهمال أمر الرشد و إلغاءه في التصرّفات الماليّة و نحوها ممّا يختلّ به نظام الحياة الاجتماعيّة في قبيل الأيتام و يكون نفوذ تصرّفاتهم و أقاريرهم مفضياً إلى غرور الأفراد الفاسدة إيّاهم و إخراج جميع وسائل الحياة من أيديهم بأدنى وسيلة بالكلمات المزيفة و المواعيد الكاذبة و المعاملات الغرريّة إلى ذلك فالرشد لا محيص من اشتراطه في هذا النوع من الاُمور، و أمّا أمثال العبادات فعدم الحاجة فيها إلى الاشتراط ظاهر، و كذا أمثال الحدود و الديات فإنّ إدراك قبح هذه الجنايات و المعاصي و فهم وجوب الكفّ عنها لا يحتاج فيه إلى الرشد بل الإنسان يقوى على تفهّم ذلك قبله و لا يختلف حاله في ذلك قبل الرشد و بعده.

قوله تعالى: ( وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ) اه الإسراف هو التعدّي عن الاعتدال في العمل، و البدار هو المبادرة إلى الشي‏ء و قوله: وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا في معنى حذر أن يكبروا فلا يدعوكم أن تأكلوا، و حذف النفي أو ما في معناه قبل أن و أنّ قياسيّ على ما ذكره النحاة قال تعالى:( يبيّن الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) النساء: ١٧٦، أي لئلّا تضلّوا أو حذر أن تضلّوا.

و التقابل الواقع بين الأكل إسرافاً و الأكل بداراً أن يكبروا يعطي أن الأكل إسرافاً هو التعدّي إلى أموالهم من غير حاجة و لا شائبة استحقاق بل إجحافاً من غير مبالاة و الأكل بداراً أن يأكل الوليّ منها مثل ما يعدّ اُجرة لعمله فيها عادة غير أنّ اليتيم لو كبر أمكن أن يمنعه عن مثل هذا الأكل فالجميع ممنوع إلّا أن يكون الوليّ فقيراً لا محيص له من أن يشتغل بالاكتساب لسدّ جوعة أو يعمل لليتيم و يسدّ حاجته الضروريّة من ماله و هذا بالحقيقة يرجع إلى ما يأخذ العامل للتجارة و البناية و نحوهما و هو الّذي ذكره بقوله: مَنْ كانَ غَنِيًّا أي لا يحتاج في معاشه إلى الأخذ من مال اليتيم فَلْيَسْتَعْفِفْ أي ليطلب طريق العفّة و ليلزمه فلا يأخذ من أموالهم وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ منها بِالْمَعْرُوفِ، و ذكر بعض المفسّرين أنّ المعنى: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ من مال نفسه لا من أموالهم و هو لا يلائم التفصيل بين الغنيّ و الفقير.

١٨٦

و أمّا قوله تعالى:( فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) فتشريع للاستشهاد عند الدفع تحكيماً للأمر و رفعاً لغائلة الخلاف و النزاع فمن الممكن أن يدّعي اليتيم بعد الرشد و أخذ المال من الوليّ عليه، ثمّ ذيل الجميع بقوله تعالى: وَ كَفى‏ بِالله حسيباً ربطاً للحكم بمنشأه الأصليّ الأوّليّ أعني محتد كلّ حكم من أسمائه و صفاته تعالى فإنّه تعالى لمّا كان حسيباً لم يكن ليخلّي أحكام عباده من غير حساب دقيق و هو تشريعه المحكم، و تتميماً للتربية الدينيّة الإسلاميّة فإنّ الإسلام يأخذ في تربية الناس على أساس التوحيد إذ الإشهاد و إن كان رافعاً غالباً للخلاف و النزاع لكن ربّما تخلّف عنه لانحراف من الشهود في عدالتهم أو غير ذلك من متفرّقات العوامل لكنّ السبب المعنويّ العالي القويّ هو تقوى الله الّذي كفى به حسيباً فلو جعل الوليّ و الشهود و اليتيم الّذي دفع إليه المال هذا المعنى نصب أعينهم لم يقع هناك اختلاف و لا نزاع البتّة.

فانظر إلى الآيتين كيف أبدعتا في البيان فقد بيّنتا أوّلاً رؤس مسائل الولاية على أموال اليتامى و المحجور عليهم و مهمّاتها: من كيفيّة الأخذ و الحفظ و الإنماء و التصرّف و الردّ و وقت الأخذ و الدفع و تحكيم مبناه ببيان وجه المصلحة العامّة في ذلك كلّه و هو أنّ المال لله جعله قياماً للإنسان على ما تقدّم بيانه.

و ثانياً الأصل الأخلاقيّ الّذي يربّي الإنسان على وفق هذه الشرائع و هو الّذي ذكره تعالى بقوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) .

و ثالثاً ببناء الجميع على أصل التوحيد الحاكم بوحدته في جميع الأحكام العمليّة و الأخلاقيّة و الباقي على حسن تأثيره في جميع الموارد لو فرض ضعف الأحكام العمليّة و الدستورات الأخلاقيّة من حيث الأثر، و هو الّذي ذكره بقوله: وَ كَفى‏ بِالله حسّيباً.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ ) الآية أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إنّ رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلمّا

١٨٧

بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه فخاصّمه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية: وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ‏، الحديث.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام : لا يحلّ لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر.

و في الكافي، عنهعليه‌السلام : إذا جمع الرجل أربعاً فطلق إحداهنّ فلا يتزوّج الخامسة حتّى تنقضي عدّة المرأة الّتي طلّق.

أقول: و الروايات في الباب كثيرة.

و في العلل، بإسناده عن محمّد بن سنان: أنّ الرضاعليه‌السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علّة تزويج الرجل أربع نسوة و تحريم أن تتزوّج المرأة أكثر من واحد لأنّ الرجل إذا تزوّج أربع نسوة كان الولد منسوباً إليه، و المرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو؟ إذ هم مشتركون في نكاحها و في ذلك فساد الأنساب و المواريث و المعارف، قال محمّد بن سنان: و من علل النساء الحرائر(١) و تحليل أربع نسوة لرجل واحد أنّهنّ أكثر من الرجال فلمّا نظر - و الله أعلم - يقول الله عزّوجلّ:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) ، فذلك تقدير قدّره الله تعالى ليتّسع فيه الغنيّ و الفقير فيتزوّج الرجل على قدر طاقته، الحديث.

و في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : في حديث قال: و الغيرة للرجال، و لذلك حرّم على المرأة إلّا زوجها و أحلّ للرجل أربعاً فإنّ الله أكرم من أن يبتليهنّ بالغيرة و يحلّ للرجل معها ثلاثاً.

أقول: و يوضح ذلك أنّ الغيرة هي إحدى الأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة و هي تغيّر الإنسان عن حاله المعتاد، و نزوعه إلى الدفاع و الانتقام عند تعدّي الغير إلى بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عرض أو جاه و يعتقد كرامته عليه، و هذه الصفة الغريزيّة لا يخلو عنها في الجملة إنسان أيّ إنسان فرض فهي من فطريّات الإنسان، و الإسلام دين مبنيّ على الفطرة تؤخذ فيه الاُمور الّتي تقضي بها فطرة الإنسان فتعدّل بقصرها فيما هو صلاح الإنسان في حياته، و يحذف عنها ما لا حاجة إليه فيها من وجوه الخلل

____________________

(١) كذا في النسخ.

١٨٨

و الفساد كما في اقتناء المال و المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و غير ذلك.

فإذا فرض أنّ الله سبحانه أحلّ للرجل مع المرأة الواحدة ثلاثاً اُخري - و الدين مبنيّ على رعاية حكم الفطرة - كان لازم ذلك أن يكون ما يتراءى من حال النساء و تغيّرهنّ على الرجال في أمر الضرائر حسداً منهنّ لا غيرة و سيتّضح مزيد اتّضاح في البحث الآتي عن تعدّد الزوجات أنّ هذا الحال حال عرضيّ طار عليهنّ لا غريزيّ فطريّ.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن الصادقعليه‌السلام قال: لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته، و لا المرأة فيما تهب لزوجها جيزت أو لم تجز أ ليس الله تبارك و تعالى يقول: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا ممّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئاً؟ و قال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً؟ و هذا يدخل في الصداق و الهبة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن القداح عن أبي عبدالله عن أبيهعليهما‌السلام قال: جاء رجل إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أميرالمؤمنين بي وجع في بطني فقال له أميرالمؤمنينعليه‌السلام أ لك زوجة؟ قال: نعم قال استوهب منها شيئاً طيّبة به نفسها من مالها ثمّ اشتر به عسلاً ثمّ اسكب عليه من ماء السماء ثمّ اشربه فإنّي سمعت الله يقول في كتابه:( وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ) ، و قال:( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ) ، و قال:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) ، شفيت إن شاء الله تعالى، قال: ففعل ذلك فشفي.

أقول: و رواه أيضاً في الدرّ المنثور عن عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنهعليه‌السلام و هو نوع من الاستفادة لطيف، و بناؤه على التوسعة في المعنى و يوجد له نظائر في الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام سنورد بعضها في الموارد المناسبة له.

و في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام : إذا حدّثتكم بشي‏ء فاسألوني من كتاب الله، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن القيل و القال، و فساد المال، و كثيرة السؤال، فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إنّ الله عزّوجلّ يقول:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ، و قال:( وَ لا

١٨٩

تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الّتي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً ) ، و قال:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) ، قال: من لا تثق به.

و فيه، عن إبراهيم بن عبد الحميد قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن هذه الآية( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال: كلّ من يشرب الخمر فهو سفيه.

و فيه، عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال: هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتّى تعرفوا منهم الرشد فقلت: فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ قال: إذا كنت أنت الوارث لهم.

و في تفسير القمّيّ، عن الباقرعليه‌السلام : في الآية: فالسفهاء النساء و الولد إذا علم الرجل أنّ امرأته سفيهة مفسدة و ولده سفيه مفسد لم ينبغ له أن يسلّط واحداً منهما على ماله الّذي جعل الله له قياماً يقول: معاشاً الحديث.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و هي تؤيّد ما قدّمناه أنّ للسفه معنى وسيع ذو مراتب كالسفيه المحجور عليه و الصبيّ قبل أن يرشد و المرأة المتلهّية المتهوّسة و شارب الخمر و مطلق من لا تثق به، و بحسب اختلاف هذه المصاديق يختلف معنى إيتاء المال، و كذا معنى إضافة( أموالكم) و عليك بالتطبيق و الاعتبار.

و قوله في رواية ابن أبي حمزة: إذا كنت أنت الوارث لهم إشارة إلى ما قدّمناه أنّ المال كلّه للمجتمع بحسب الأصل ثمّ لكلّ من الأشخاص ثانياً و للمصالح الخاصّة فإنّ اشتراك المجتمع في المال أوّلاً هو الموجب لانتقاله من واحد إلى آخر.

و في الفقيه، عن الصادقعليه‌السلام : انقطاع يتمّ اليتيم الاحتلام و هو أشدّه، و إن احتلم و لم يؤنس منه رشد و كان سفيهاً أو ضعيفاً فليمسك عنه ولّيه ماله.

و فيه، عنهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ ابْتَلُوا الْيَتامى) الآية قال: إيناس الرشد حفظ المال.

أقول: و قد تقدّم وجه دلالة الآية عليه.

و في التهذيب، عنهعليه‌السلام : في قول الله:( وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال: فذاك

١٩٠

رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فإن كان المال قليلاً فلا يأكل منه شيئاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و أبوداود و النسائيّ و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و النحّاس في ناسخه عن ابن عمر: أنّ رجلاً سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ليس لي مال و لي يتيم فقال: كلّ من مال يتيمك غير مسرف و لا مبذر و لا متأثّل مالاً و من غير أن تقي مالك بماله.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أهل البيتعليهم‌السلام و غيرهم، و هناك مباحث فقهيّة و أخبار ناظرة إليها من أرادها فعليه بجوامع الحديث و كتب الفقه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن رفاعة عنهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) ، قالعليه‌السلام : كان أبي يقول: إنّها منسوخة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوداود و النحّاس كلاهما في الناسخ و ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عبّاس:( وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال: نسختها:( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً ) الآية.

أقول: و كون الآية منسوخة لا يلائم ميزان النسخ إذ ليس بين الآيات الكريمة ما نسبتها إلى هذه الآية نسبة الناسخة إلى المنسوخة، و أمّا قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً) الآية فهو لا ينافي بمضمونه مضمون هذه الآية فإنّ الأكل في هذه الآية المجوّزة مقيّد بالمعروف، و في تلك الآية المحرّمة بالظلم و لا تنافي بين تجويز الأكل بالمعروف و تحريم الأكل ظلماً، فالحقّ أنّ الآية غير منسوخة، و الروايتان لا توافقان الكتاب على ما فيهما من الضعف.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن المغيرة عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام : في قول الله:( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) قال: فقال: إذا رأيتموهم يحبّون آل محمّد فارفعوهم درجة.

أقول: و هو من الجري من باطن التنزيل فإنّ أئمّة الدين آباء المؤمنين و المؤمنون

١٩١

أيتام المعارف عند انقطاعهم عنهم فإذا صحّ انتسابهم إليهم بالحبّ فليرفعوا درجة بتعليم المعارف الحقّة الّتي هي ميراث آبائهم.

( بحث علميّ في فصول ثلاثة)

١- النكاح من مقاصد الطبيعة: أصل التواصل بين الرجل و المرأة ممّا تبيّنه الطبيعة الإنسانيّة بل الحيوانيّة بأبلغ بيانها، و الإسلام دين الفطرة فهو مجوّزه لا محالة.

و أمر الإيلاد و الإفراخ الّذي هو بغية الطبيعة و غرض الخلقة في هذا الاجتماع هو السبب الوحيد و العامل الأصليّ في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج و إخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد و المقاربة إلى شكل النكاح و الملازمة و لهذا ترى أنّ الحيوان الّذي يشترك في تربيته الوالدان معاً كالطيور في حضانة بيضها و تغذية أفراخها و تربيتها و كالحيوان الّذي يحتاج في الولادة و التربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائه و حفظه إلى معاونة الذكور يختار لهذا الشأن الازدواج و هو نوع من الملازمة و الاختصاص بين الزوجين الذكور و الإناث منه فيتواصلان عندئذ و يتشاركان في حفظ بيض الإناث و تدبيرها و إخراج الأفراخ منها و هكذا إلى آخر مدّة تربية الأولاد ثمّ ينفصلان إن انفصلا ثمّ يتجدّد الازدواج و هكذا فعامل النكاح و الازدواج هو الإيلاد و تربية الأولاد و أمّا إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الأعمال الحيويّة كالكسب و جمع المال و تدبير الأكل و الشرب و الأثاث و إدارة البيت فاُمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة و الخلقة و إنّما هي اُمور مقدّمية أو فوائد مترتّبة.

و من هنا يظهر أنّ الحرّيّة و الاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كلّ من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد و مهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الّذي ينزو الذكور منه على الإناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنّة الجارية بين الملل المتمدّنة اليوم و كذا الزنا و خاصّة زنا المحصنة منه.

١٩٢

و كذا تثبيت الازدواج الواقع و تحريم الطلاق و الانفصال بين الزوجين، و ترك الزوج و اتّخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما.

و كذا إلغاء التوالد و تربية الأولاد و بناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزليّة على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية و نظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامّة المعدّة للرضاع و التربية كلّ ذلك على خلاف سنّة الطبيعة و قد جهّز الإنسان بما ينافي هذه السنن الحديثة على ما مرّت الإشارة إليه.

نعم الحيوان الّذي لا حاجة في ولادته و تربيته إلى أزيد من حمل الاُمّ إيّاه و إرضاعها له و تربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعيّة فيه إلى الازدواج و المصاحبة و الاختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرّيّة السفاد بمقدار ما لا يضرّ بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل.

و إيّاك أن تتوهّم أنّ الخروج عن سنّة الخلقة و ما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر و الرويّة مع ما فيه من لذائذ الحياة و التنعّم، فإنّ ذلك من أعظم الخبط فإنّ هذه البنيات الطبيعيّة الّتي منها البنية الإنسانيّة مركّبات مؤلّفة من أجزاء كثيرة تستوجب بوقوع كلّ في موقعه الخاصّ على شرائطه المخصوصة به وضعاً هو الملائم لغرض الطبيعة و الخلقة و هو المناسب لكمال النوع كالمعاجين و المركّبات من الأدوية الّتي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف و مقادير و أوزان و شرائط خاصّة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصّة أدنى خروج و انحراف سقط الأثر.

فالإنسان مثلاً موجود طبيعيّ تكوينيّ ذو أجزاء مركّبة تركيباً خاصّاً يستتبع أوصافاً داخليّة و خواصّ روحيّة تستعقب أفعالاً و أعمالاً فإذا حوّل بعض أفعاله و أعماله من مكانته الطبيعيّة إلى غيرها يستتّبع ذلك انحرافاً و تغيّراً في صفاته و خواصّه الروحيّة و انحرف بذلك جميع الخواصّ و الصفات عن مستوى الطبيعة و صراط الخلقة و بطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعيّ و الغاية الّتي يبتغيها بحسب الخلقة.

و إذا بحثنا في المصائب العامّة الّتي تستوعب اليوم الإنسانيّة و تحبط أعمال الناس و مساعيهم لنيل الراحة و الحياة السعيدة و تهدّد الإنسانيّة بالسقوط و الانهدام وجدنا

١٩٣

أنّ أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى و تمكّن الخرق و القسوة و الشدّة و الشره من نفوس الجوامع البشريّة و أعظم أسبابه و علله الحرّيّة و الاسترسال و الإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجيّة و تربية الأولاد فإنّ سنّة الاجتماع المنزليّ و تربية الأولاد اليوم تميت قرائح الرأفة و الرحمة و العفّة و الحياة و التواضع من الإنسان من أوّل حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش.

و أمّا تدارك هذه النواقص بالفكر و الرويّة فهيهات ذلك فإنّما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينيّة اتّخذتها الطبيعة وسيلة لردّ ما خرج و انحرف عن صراط الطبيعة و التكوين إليه لا لإبطال سعي الطبيعة و الخلقة و قتلها بنفس السيف الّذي أعطته للإنسان لدفع الشرّ عنها، و لو استعمل الفكر الّذي هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شؤون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضاً فاسدة منحرفة كسائر الوسائل، و لذلك ترى أنّ الإنسان اليوم كلّما أصلح بقوّة فكره واحداً من المفاسد العامّة الّتي تهدّد اجتماعه أنتج ذلك ما هو أمرّ و أدهى و زاد البلاء و المصيبة شيوعاً و شمولاً.

نعم ربّما قال القائل من هؤلاء: إنّ الصفات الروحيّة الّتي تسمّى فضائل نفسانيّة هي بقايا من عهد الأساطير و التوحّش لا تلائم حياة الإنسان الراقي اليوم كالعفّة و السخاء و الحياء و الرأفة و الصدق فإنّ العفّة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه، و السخاء إبطال لسعي الإنسان في جمعه المال و ما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنّه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب و بسط يده لذلّ السؤال، و الحياء لجام يلجم الإنسان عن مطالبة حقوقه و إظهار ما في ضميره، و الرأفة تضعّف القلب، و الصدق لا يلائم الحياة اليوميّة، و هذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الّذي ذكرناه.

و لم يدر هذا القائل أنّ هذه الفضائل في المجتمع الإنسانيّ من الواجبات الضروريّة الّتي لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع و لا ساعة.

فلو ارتفعت هذه الخصال و تعدّى كلّ فرد إلى ما لكلّ فرد من مختصّات الحقوق و الأموال و الأعراض، و لم يسخ أحد ببذل ما مسّت إليه حاجة المجتمع، و لم ينفعل

١٩٤

أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين و لم يرأف أحد بالعجزة الّذين لا ذنب لهم في عجزهم كالأطفال و من في تلوهم، و كذب كلّ أحد لكلّ أحد في جميع ما يخبر به و يعده و هكذا تلاشى المجتمع الإنسانيّ من حينه.

فينبغي لهذا القائل إن يعلم أنّ هذه الخصال لا ترتحل و لن ترتحل عن الدنيا، و أنّ الطبيعة الإنسانيّة مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للإنسان إلى الاجتماع، و إنّما الشأن كلّ الشأن في تنظيم هذه الصفات و تعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة و الخلقة في دعوتها الإنسان إلى سعادة الحياة، و لو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقّي اليوم فضائل للإنسانيّة معدّلة بما هو الحريّ من التعدّيل لما أوردت المجتمع مورد الفساد و الهلكة و لأقرّ الناس في مستقرّ أمن و راحة و سعادة.

و لنعد إلى ما كنّا فيه من البحث فنقول: الإسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعيّ فأحلّ النكاح و حرّم الزنا و السفاح، و وضع علقة الزوجيّة على أساس جواز المفارقة و هو الطلاق، و وضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما سنشرحه، و وضع عقد هذا الاجتماع على أساس التوالد و التربية، و من الأحاديث النبوّية المشهورة قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تناكحوا تناسلوا تكثروا الحديث.

٢- استيلاء الذكور على الإناث: ثمّ إن التأمّل في سفاد الحيوانات يعطي أنّ للذكور منها شائبة استيلاء على الإناث في هذا الباب فإنّا نرى أنّ الذكر منها كأنّه يرى نفسه مالكاً للبضع مسلّطاً على الاُنثى، و لذلك ما ترى أنّ الفحولة منها تتنازع و تتشاجر على الإناث من غير عكس فلا تثور الاُنثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس، و كذا ما يجري بينها مجرى الخطبة من الإنسان إنّما يبدأ من ناحية الذكران دون الإناث، و ليس إلّا أنّها ترى بالغريزة أنّ الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي و الإناث كالقابل الخاضع، و هذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها و يستلذّه طبعها فإنّ ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق و الشهوة و استزادة اللّذة، و أمّا نحو الاستيلاء و الاستعلاء المذكور فإنّه عائد إلى قوّة الفحولة و إجراء ما تأمر به الطبيعة.

١٩٥

و هذا المعنى أعني لزوم الشدّة و البأس لقبيل الذكور و اللّين و الانفعال لقبيل الإناث ممّا يوجد الاعتقاد به قليلاً أو كثيراً عند جميع الاُمم حتّى سرى إلى مختلف اللّغات فسمّي كلّ ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر و كلّ ليّن سهل الانفعال بالاُنثى يقال: حديد ذكر و سيف ذكر و نبت ذكر و مكان ذكر و هكذا.

و هذا الأمر جار في نوع الإنسان دائر بين المجتمعات المختلفة و الاُمم المتنوّعة في الجملة و إن كان ربّما لم يخل من الاختلاف زيادة و نقيصة.

و قد اعتبره الإسلام في تشريعه قال الله تعالى:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) النساء: ٣٤، فشرّع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها.

٣- تعدد الزوجات: و أمر الوحدة و التعدّد فيما نشاهده من أقسام الحيوان غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزليّ تتأحّد الإناث و تختصّ بالذكور لما أنّ الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل و حضانة الأفراخ و تربيتها و ربّما تغيّر الوضع الجاري بينها بالصناعة و التدبير و الكفالة أعني بالتأهيل و التربية كما يشاهد من أمر الديك و الدجاج و الحمام و نحوها.

و أمّا الإنسان فاتّخاذ الزوجات المتعدّدة كانت سنّة جارية في غالب الاُمم القديمة كمصر و الهند و الصين و الفرس بل و الروم و اليونان فإنّهم كانوا ربّما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدناً يصاحبونها بل و كان ذلك عند بعض الاُمم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود و العرب فكان الرجل منهم ربّما تزوّج العشرة و العشرين و أزيد و قد ذكروا أنّ سليمان الملك تزوّج مئات من النساء.

و أغلب ما كان يقع تعدّد الزوجات إنّما هو في القبائل و من يحذو حذوهم من سكّان القرى و الجبال فإنّ لربّ البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع و كثرة الأعضاء فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الّذي هو من لوازم عيشتهم و ليكون ذلك وسيلة يتوسّلون بها إلى الترؤّس و السودد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثّر الأقرباء بالمصاهرة.

١٩٦

و ما ذكره بعض العلماء أنّ العامل في تعدّد الزوجات في القبائل و أهل القرى إنّما هو كثرة المشاغل و الأعمال فيهم كأعمال الحمل و النقل و الرعي و الزراعة و السقاية و الصيد و الطبخ و النسج و غير ذلك فهو و إن كان حقّاً في الجملة إلّا أنّ التأمّل في صفاتهم الروحيّة يعطي أنّ هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهميّة عندهم، و ما ذكرناه هو الّذي يتعلّق به قصد الإنسان البدويّ أوّلاً و بالذات كما أنّ شيوع الادعاء و التبنّي أيضاً بينهم سابقاً كان من فروع هذا الغرض.

على أنّه كان في هذه الاُمم عامل أساسيّ آخر لتداول تعدّد الزوجات بينهم و هو زيادة عدّة النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإنّ هذه الاُمم السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب و الغزوات و قتل الفتك و الغيلة فكان القتل يفني الرجال، و يزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلّا بتعدّد الزوجات هذا.

و الإسلام شرّع الازدواج بواحدة، و أنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكّن من القسط بينهنّ مع إصلاح جميع المحاذير المتوجّهة إلى التعدّد على ما سنشير إليها قال الله تعالى:( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الّذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٢٨.

و قد استشكلوا على حكم تعدّد الزوجات:

أوّلاً: أنّه يضع آثاراً سيّئة في المجتمع فإنّه يقرح قلوب النساء في عواطفهنّ و يخيّب آمالهنّ و يسكن فورة الحبّ في قلوبهنّ فينعكس حسّ الحبّ إلى حسّ الانتقام فيهملن أمر البيت و يتثاقلن في تربية الأولاد و يقابلن الرجال بمثل ما أساؤا إليهنّ فيشيع الزنا و السفاح و الخيانة في المال و العرض فلا يلبث المجتمع دون أن ينحطّ في أقرب وقت.

و ثانياً: أنّ التعدّد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة فإنّ الإحصاء في الاُمم و الأجيال يفيد أنّ قبيلي الذكورة و الإناث متساويان عدداً تقريباً فالّذي هيّأته الطبيعة هو واحدة لواحد، و خلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة.

و ثالثاً: أنّ في تشريع تعدّد الزوجات ترغيباً للرجال إلى الشره و الشهوة، و تقوية لهذه القوّة في المجتمع.

و رابعاً: أنّ في ذلك حطّاً لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الأربع منهنّ

١٩٧

بواحد من الرجال و هو تقويم جائر حتّى بالنظر إلى مذاق الإسلام الّذي سوّى فيه بين مرأتين و رجل كما في الإرث و الشهادة و غيرهما، و لازمه تجويز التزوّج باثنتين منهنّ لا أزيد ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أيّ حال من غير وجه و هذه الإشكالات ممّا اعترض بها النصارى على الإسلام أو من يوافقهم من المدنيّين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال و النساء في المجتمع.

و الجواب عن الأوّل ما تقدّم غير مرّة في المباحث المتقدّمة أنّ الإسلام وضع بنية المجتمع الإنسانيّ على أساس الحياة التعقّليّة دون الحياة الإحساسيّة فالمتّبع عنده هو الصلاح العقليّ في السنن الاجتماعيّة دون ما تهواه الإحساسات و تنجذب إليه العواطف.

و ليس في ذلك إماتة العواطف و الإحساسات الرقيقة و إبطال حكم المواهب الإلهيّة و الغرائز الطبيعيّة فإنّ من المسلّم في الأبحاث النفسيّة أنّ الصفات الروحيّة و العواطف و الإحساسات الباطنة تختلف كمّاً و كيفاً باختلاف التربية و العادة، كما أنّ كثيراً من الآداب و الرسوم الممدوحة عند الشرقيّين مثلاً مذمومة عند الغربيّين و بالعكس، و كلّ اُمّة تختلف مع غيرها في بعضها.

و التربية الدينيّة في الإسلام تقيم المرأة الإسلاميّة مقاماً لا تتألّم بأمثال ذلك عواطفها. نعم المرأة الغربيّة حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة و لقّنت بذلك جيلاً بعد جيل استحكّم في روحها عاطفة نفسانيّة تضادّ التعدّد. و من الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الّذي شاعت بين الرجال و النساء في الاُمم المتمدّنة! اليوم.

أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كلّ من هووها و هوتهم من نسائهم من محارم و غيرها و من بكر أو ثيّب و من ذات بعل أو غيرها، حتّى أنّ الإنسان لا يقدر أن يقف في كلّ ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء في ذلك الرجال و النساء و لم يقنعوا بذلك حتّى وقعوا في الرجال وقوعاً قل ما يسلم منه فرد حتّى بلغ الأمر مبلغاً رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللّواط سنّة قانونيّة و ذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسميّة، و أمّا النساء و خاصّة الأبكار و غير ذوات البعل من الفتيات فالأمر فيهنّ أغرب و أفظع.

١٩٨

فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك و لا يتحرّجن و لا تنكسر قلوبهنّ و لا تتألّم عواطفهنّ حين يشاهدن كلّ هذه الفضائح من رجالهنّ؟ و كيف لا تتألّم عواطف الرجل و إحساساته حين يبني بفتاة ثمّ يجدها ثيّباً فقدت بكارتها و افترشت لا للواحد و الاثنين من الرجال ثمّ لا يلبث حتّى يباهي بين الأقران أنّ السيّدة ممّن توفّرت عليها رغبات الرجال و تنافس في القضاء منها العشرات و المئات!! و هل هذا إلّا أنّ هذه السيّئات تكرّرت بينهم و نزعة الحرّيّة تمكّنت من أنفسهم حتّى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف و الإحساسات و لا تستنكرها النفوس؟ فليس إلّا أنّ السنن الجارية تميل العواطف و الإحساسات إلى ما يوافقها و لا يخالفها.

و أمّا ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهنّ في تدبير البيت و تثاقلهنّ في تربية الأولاد و شيوع الزنا و الخيانة فالّذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإنّ هذا الحكم جرى في صدر الإسلام و ليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدّعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته بل كان الأمر بالعكس.

على أنّ هذه النساء اللّاتي يتزوّج بهنّ على الزوجة الاُولى في المجتمع الإسلاميّ و سائر المجتمعات الّتي ترى ذلك أعني الزوجة الثانية و الثالثة و الرابعة إنّما يتزوّج بهنّ عن رضاء و رغبة منهنّ و هنّ من نساء هذه المجتمعات، و لم يسترققهنّ الرجال من مجتمعات اُخرى، و لا جلبوهنّ للنكاح من غير هذه الدنيا و إنّما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعيّة، فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدّد الزوجات، و لا قلوبهنّ تتألّم منها بل لو كان شي‏ء من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجيّة الاُولى أعني أنّ المرأة إذا توحّدت للرجل لا تحبّ أن ترد عليها و على بيتها اُخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو تترأس عليها غيرها أو يختلف الأولاد و نحو ذلك فعدم الرضاء و التألّم فيما كان إنّما منشؤه حالة عرضيّة (التوحّد بالبعل) لا غريزة طبيعيّة.

و الجواب عن الثاني أنّ الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال و النساء في العدد مختلّ من وجوه.

منها أنّ أمر الازدواج لا يتّكي على هذا الّذي ذكروه فحسب بل هناك عوامل

١٩٩

و شرائط اُخرى لهذا الأمر فأوًلاً الرشد الفكريّ و التهيّؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال فالنساء و خاصّة في المناطق الحارّة إذا جزن التسع صلحن للنكاح، و الرجال لا يتهيّؤون لذلك غالباً قبل الستّ عشرة من السنين (و هو الّذي اعتبره الإسلام للنكاح).

و من الدليل على ذلك السنّة الجارية في فتيات الاُمم المتمدّنة فمن الشاذّ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سنّ البلوغ القانونيّ فليس إلّا أن الطبيعة هيّأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك.

و لازم هذه الخاصّة أن لو اعتبرنا مواليد ستّ عشرة سنة من قوم (و الفرض تساوي عدد الذكور و الإناث فيهم) كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال و هي سنة أوّل الصلوح مواليد سنة واحدة و هم مواليد السنة الاُولى المفروضة، و الصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين و هي مواليد السنة الاُولى إلى السابعة، و لو اعتبرنا مواليد خمسة و عشرين سنة و هي سنّ بلوغ الأشدّ من الرجال حصل في السنة الخامسة و العشرين على الصلوح من الرجال مواليد عشرة سنين و من النساء مواليد خمس عشرة سنة، و إذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكلّ واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة.

و ثانياً أنّ الإحصاء كما ذكروه يبيّن أنّ النساء أطول عمراً من الرجال و لازمه أن تهيّئ سنّة الوفاة و الموت عدداً من النساء ليس بحذائهنّ رجال(١) .

و ثالثاً: أنّ خاصّة النسل و التوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء فالأغلب

____________________

(١) و ممّا يؤيّد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الأيّام (جريدة الاطّلاعات المنتشرة في طهران المورخة بالثلاثاء ١١ ديماه سنة ١٣٣٥ شمسي) حكاية عن دائرة الإحصاء في فرنسا ما حاصله: قد تحصل بحسب الإحصاء أنّه يولد في فرنسا حذاء كلّ( ١٠٠) مولودة من البنات( ١٠٥) من البنين، و مع ذلك فإنّ الإناث يربو عدّتهم على عدّة الذكور بما يعادل( ١٧٦٥٠٠٠) نسمة، و نفوس المملكة( ٤٠ مليوناً تقريباً) و السبب فيه أنّ البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الأمراض و يهلك بها( ٥ در صد) الزائد منهم إلي سنة( ١٩) من الولادة.

ثمّ يأخذ عدّة الذكور في النقص ما بين ٢٥ - ٣٠ من السنين حتّى إذا بلغوا سني ٦٠ - ٦٥ لم يبق تجاه كلّ( ١٥٠٠٠٠٠) من الإناث إلى( ٧٥٠٠٠٠) من الذكور

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458