الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 129111
تحميل: 5416


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129111 / تحميل: 5416
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في الجزء الثاني من الكتاب أنّ مدير هذا النظام الكونيّ يسوقه نحو الأغراض و الغايات الصالحة، و لن يهمل في ذلك، و إذا فسد جزء أو أجزاء منه عالج ذلك أمّا بإصلاح أو بالحذف و الإزالة، و قاطع الرحم يحارب الله في تكوينه فإن لم يصلح بالاستصلاح بتّر الله عمره و قطع دابره، و أمّا أنّ الإنسان اليوم لا يحسّ بهذه الحقيقة و أمثالها فلا غرو لأنّ الأدواء قد أحاطت بجثمان الإنسانيّة فاختلطت و تشابهت و أزمنت فالحسّ لا يجد فراغاً يقوى به على إدراك الألم و العذاب.

١٦١

( سورة النساء الآيات ٢ - ٦)

وَآتُوا الْيَتَامَى‏ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدّلُوا الْخَبِيثَ بِالطّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى‏ أَمْوَالِكُمْ إِنّهُ كَانَ حُوباً كَبِير( ٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى‏ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النّسَاءِ مَثْنَى‏ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى‏ أَلّا تَعُولُو( ٣) وَآتُوا النّسَاءَ صَدُقَاتِهِنّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئ( ٤) وَلاَ تُؤْتُوا السّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوف( ٥) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى‏ حَتّى‏ إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى‏ بِاللّهِ حَسِيب( ٦)

( بيان)

الآيات تتمّة التمهيد و التوطئة الّتي وضعت في أوّل السورة لبيان أحكام المواريث و عمدة أحكام التزويج كعدد النساء و تعيين المحارم و هذان البابان من أكبر أبواب القوانين الحاكمة في المجتمع الإنسانيّ و أعظمها، و لهما أعظم التأثير في تكوّن المجتمع و بقائه فإنّ النكاح يتعيّن به وضع المواليد من الإنسان الّذين هم أجزاء المجتمع و العوامل الّتي تكوّنه، و الإرث يتعلّق بتقسيم الثروة الموجودة في الدنيا الّتي يبتني عليها بنية المجتمع في عيشته و بقائه.

و قد تعرّضت الآيات في ضمن بيانها للنهي عن الزنى و السفاح و النهي عن أكل المال بالباطل إلّا أن تكون تجارة عن تراض و عند ذلك تأسّس أساسان قيّمان لأمر المجتمع في أهمّ ما يشكّله و هو أمر المواليد و أمر المال.

١٦٢

و من هنا يظهر وجه العناية بالتمهيد المسوق لبيان هذه الأحكام الّتي تعلّقت بالاجتماع الإنسانيّ و نشبت في اُصوله و جذوره. و صرف الناس عمّا اعتادت عليه جماعتهم، و التحمت عليه أفكارهم، و نبتت عليه لحومهم، و مات عليه أسلافهم، و نشأ عليه أخلافهم عسير كلّ العسر.

و هذا شأن ما شرّع في صدر هذه السورة من الأحكام المذكورة، يتّضح ذلك بتأمّل إجماليّ في وضع العالم الإنسانيّ يومئذ بالعموم و في وضع العالم العربيّ (ودارهم دار نزول القرآن و ظهور الإسلام) بالخصوص، و في كيفيّة تدرّج القرآن في نزوله و ظهور الأحكام الإسلاميّة في تشريعها.

( كلام في الجاهليّة الأولى)

القرآن يسمّي عهد العرب المتّصل بظهور الإسلام بالجاهليّة، و ليس إلّا إشارة منه إلى أنّ الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم، و المسيطر عليهم في كلّ شي‏ء الباطل و سفر الرأي دون الحقّ، و كذلك كانوا على ما يقصّه القرآن من شؤونهم، قال تعالى:( يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الحقّ ظَنَّ الْجاهليّة ) آل عمران: ١٥٤، و قال:( أَ فَحُكْمَ الْجاهليّة يَبْغُونَ ) المائدة: ٥٠، و قال:( إِذْ جَعَلَ الّذينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهليّة ) الفتح: ٢٦، و قال:( وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهليّة الْأُولى ) الأحزاب: ٣٣.

كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة و هي نصرانيّة، و في مغربها إمبراطوريّة الروم و هي نصرانيّة، و في شمالها الفرس و هم مجوس، و في غير ذلك الهند و مصر و هما وثنيّتان و في أرضهم طوائف من اليهود، و هم أعني العرب مع ذلك وثنيّون يعيش أغلبهم عيشة القبائل، و هذا كلّه هو الّذي أوجد لهم اجتماعاً همجيّاً بدويّاً فيه أخلاط من رسوم اليهوديّة و النصرانيّة و المجوسيّة و هم سكارى جهالتهم، قال تعالى:( وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ الله إِنْ يتّبعونَ إلّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إلّا يَخْرُصُونَ ) الأنعام: ١١٦.

و قد كانت العشائر و هم البدو على ما لهم من خساسة العيش و دناءته يعيشون

١٦٣

بالغزوات و شنّ الغارات و اختطاف كلّ ما في أيدي آخرين من متاع أو عرض فلا أمن بينهم و لا أمانة، و لا سلم و لا سلامة، و الأمر إلى من غلب و الملك لمن وضع عليه يده.

أمّا الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء و الحميّة الجاهليّة و الكبر و الغرور و اتّباع الظالمين و هضم حقوق المظلومين و التعادي و التنافس و القمار و شرب الخمر و الزنا و أكل الميتة و الدم و حشف التمر.

و أمّا النساء فقد كنّ محرومات من مزايا المجتمع الإنسانيّ لا يملكن من أنفسهن إرادة و لا من أعمالهنّ عملاً و لا يملكن ميراثاً و يتزوّج بهنّ الرجال من غير تحديد بحدّ كما عند اليهود و بعض الوثنيّة و مع ذلك فقد كنّ يتبرّجن بالزينة و يدعون من أحببن إلى أنفسهنّ و فشا فيهنّ الزنا و السفاح حتّى في المحصنات المزوّجات منهنّ، و من عجيب بروزهنّ أنّهنّ ربّما كنّ يأتين بالحجّ عاريات.

و أمّا الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنّهم لا يورّثون صغاراً و يذهب الكبار بالميراث و من الميراث زوجة المتوفّى، و يحرّم الصغار ذكوراً و إناثاً و النساء.

غير أنّ المتوفّى لو ترك صغيراً ورثه لكنّ الأقوياء يتولّون أمر اليتيم و يأكلون ماله، و لو كان اليتيم بنتاً تزوّجوها و أكلوا مالها ثمّ طلّقوها و خلّوا سبيلها فلا مال تقتات به و لا راغب في نكاحها ينفق عليها و الابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى بها بينهم لمكان دوام الحروب و الغزوات و الغارات فبالطبع كان القتل شائعاً بينهم.

و كان من شقاء أولادهم أنّ بلادهم الخربة و أراضيهم القفر البائرة كان يسرع الجدب و القحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق( الأنعام آية ١٥١) ، و كانوا يئدون البنات( التكوير آية ٨) ، و كان من أبغض الأشياء عند الرجل أن يبشّر بالاُنثى( الزخرف آية ١٧) .

و أمّا وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة و إن كانت ربّما ملك فيها ملوك تحت حماية أقوى الجيران و أقربها كإيران لنواحي الشمال و الروم لنواحي الغرب و الحبشة لنواحي الشرق إلّا أنّ قرى الأوساط كمكّة و يثرب و الطائف و غيرها كانت تعيش في وضع أشبه بالجمهوريّة و ليس بها، و العشائر في البدو بل حتّى في داخل

١٦٤

القرى كانت تدار بحكومة رؤسائها و شيوخها و ربّما تبدّل الوضع بالسلطنة.

فهذا هو الهرج العجيب الّذي كان يبرز في كلّ عدّة معدودة منهم بلون، و يظهر في كلّ ناحية من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة و الاعتقادات الخرافيّة الدائرة بينهم، و أضف إلى ذلك بلاء الاُمّيّة و فقدان التعليم و التعلّم في بلادهم فضلاً عن العشائر و القبائل.

و جميع ما ذكرناه من أحوالهم و أعمالهم و العادات و الرسوم الدائرة بينهم ممّا يستفاد من سياق الآيات القرآنيّة و الخطابات الّتي تخاطبهم بها أوضح استفادة، فتدبّر في المقاصد الّتي ترومها الآيات و البيانات الّتي تلقيها إليهم بمكّة أوّلاً ثمّ بعد ظهور الإسلام و قوّته بالمدينة ثانياً، و في الأوصاف الّتي تصفهم بها، و الاُمور الّتي تذمّها منهم و تلومهم عليها، و النواهي المتوجّهة إليهم في شدّتها و ضعفها، إذا تأمّلت كلّ ذلك تجد صحّة ما تلوناه عليك. على أنّ التاريخ يذكر جميع ذلك و يتعرّض من تفاصيلها ما لم نذكره لإجمال الآيات الكريمة و إيجازها القول فيه. و أوجز كلمة و أوفاها لإفادة جمل هذه المعاني ما سمّى القرآن هذا العهد بعهد الجاهليّة فقد اُجمل في معناها جميع هذه التفاصيل. هذا حال عالم العرب ذلك اليوم.

و أمّا العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الروم و الفرس و الحبشة و الهند و غيرهم فالقرآن يجمل القول فيه. أمّا أهل الكتاب منهم أعني اليهود و النصارى و من يلحق بهم فقد كانت مجتمعاتهم تدار بالأهواء الاستبداديّة و التحكّمات الفرديّة من الملوك و الرؤساء و الحكّام و العمّال فكانت مقتسمة طبعاً إلى طبقتين طبقة حاكمة فعّالة لما تشاء تعبث بالنفس و العرض و المال، و طبقة محكومة مستعبدة مستذلّة لا أمن لها في مال و عرض و نفس، و لا حرّيّة إرادة إلّا ما وافق من يفوقها، و قد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين و حملة الشرع و أتلفت بهم، و أخذت مجامع قلوب العامّة و أفكارهم بأيديهم فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس و دنياهم تحكم في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء و أقلامهم و في دنياهم بالسوط و السيف.

و قد اقتسمت الطبقة المحكومة أيضاً على حسب قوّتها في السطوة و الجدة فيما بينهم

١٦٥

نظير الاقتسام الأوّل (و الناس على دين ملوكهم) إلى طبقتي الأغنياء المترفين و الضعفاء و العجزة و العبيد، و كذا إلى ربّ البيت و مربوبيّه من النساء و الأولاد، و كذا إلى الرجال المالكين لحرّيّة الإرادة و العمل في جميع شؤون الحياة و النساء المحرومات من جميع ذلك التابعات للرجال محضاً الخادمات لهم في ما أرادوه منهنّ من غير استقلال و لو يسيراً.

و جوامع هذه الحقائق التاريخيّة ظاهرة من قوله تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إلّا نَعْبُدَ إلّا الله وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تولّوا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: ٦٤، و قد أدرجها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتابه إلى هرقل عظيم الروم، و قد قيل إنّه كتب بها أيضاً إلى عظيم مصر و عظيم الحبشة و ملك الفرس و إلى نجران.

و كذا قوله تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣، و قوله في ما وصّى به التزوّج بالإماء و الفتيات:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) النساء: ٢٥، و قوله في النساء:( أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥، إلى غير ذلك من الآيات.

و أمّا غير أهل الكتاب و هم يومئذ الوثنيّة و من يلحق بهم فقد كان الوضع فيهم أردأ و أشأم من وضع أهل الكتاب، و الآيات النازلة في الاحتجاج عليهم تكشف عن خيبة سعيهم و خسران صفقتهم في جميع شؤون الحياة و ضروب السعادة، قال تعالى:( وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالمين قُلْ إنّما يُوحى‏ إِلَيَّ إنّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تولّوا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى‏ سَواءٍ ) الأنبياء: ١٠٩، و قال تعالى:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: ١٩.

١٦٦

( كيف ظهرت الدعوة الإسلاميّة؟)

كان وضع المجتمع الإنسانيّ يومئذ (عهد الجاهليّة) ما سمعته من إكباب الناس على الباطل و سلطة الفساد و الظلم عليهم في جميع شؤون الحياة، و هو ذا دين التوحيد و هو الدين الحقّ يريد أن يؤمّر الحقّ و يولّيه عليهم تولية مطلقة، و يطهّر قلوبهم من ألواث الشرك، و يزكّي أعمالهم و يصلح مجتمعهم بعد ما تعرّق الفساد في جذوره و أغصانه و باطنه و ظاهره.

و بالجملة يريد الله ليهديهم إلى الحقّ الصريح، و ما يريد ليجعل عليهم من حرج ولكن يريد ليطهّرهم و ليتمّ نعمته عليهم، فما هم عليه من الباطل و ما يريد منهم كلمة الحقّ في نقطتين متقابلتين و قطبين متخالفين، فهل كان يجب أن يستمال منهم البعض و يصلح بهم الباقين من أهل الباطل، ثمّ بالبعض البعض حرصاً على ظهور الحقّ مهما كان و بأيّ وسيلة تيسّر كما قيل: إنّ أهمّيّة الغاية تبيح المقدّمة و لو كانت محظورة، و هذا هو السلوك السياسيّ الّذي يستعمله أهل السياسة.

و هذا النحو من السلوك إلى الغرض قلّما يتخلّف عن الإيصال إلى المقاصد في أيّ باب جرى غير أنّه لا يجري في باب الحقّ الصريح و هو الّذي تؤمّه الدعوة الإسلاميّة فإنّ الغاية وليدة مقدّماتها و وسائلها و كيف يمكن أن يلد الباطل حقّاً و ينتج السقيم صحيحاً و الوليد مجموعة مأخوذة من اللّذين يلدانه؟.

و بغية السياسة و هواها أن تبلغ السلطة و السيطرة، و تحوز السبق و التصدّر و التعيّن و التمتّع بأيّ نحو اتّفق، و على أيّ وصف من أوصاف الخير و الشرّ و الحقّ و الباطل انطبق، و لا هوى لها في الحقّ، ولكنّ الدعوة الحقّة لا تبتغي إلّا الغرض الحقّ، و لو توسّلت إليه بباطل لكان ذلك منها إمضاءً و إنفاذاً للباطل فتصير دعوة باطلة لا دعوة حقّة.

و لهذه الحقيقة ظهورات بارزة في سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الطاهرين من آلهعليهم‌السلام .

١٦٧

و بذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه و نزل به القرآن في مواطن راودوه فيها للمساهلة أو المداهنة (و لو يسيراً) في أمر الدين، قال تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ) سورة الكافرون: ٦١، و قال تعالى و فيه لحن التهديد:( وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ) الإسراء: ٧٥، و قال تعالى:( وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) الكهف: ٥١، و قال تعالى و هو مثل وسيع المعنى:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ ربّه وَ الّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلّا نَكِداً ) الأعراف: ٥٨.

و إذا كان الحقّ لا يمازج الباطل و لا يلتئم به فقد أمره الله سبحانه حينما أعباه ثقل الدعوة بالرفق و التدرّج في أمرها بالنظر إلى نفس الدعوة و المدعوّ و المدعوّ إليه من ثلاث جهات.

الأولى: من جهة ما اشتمل عليه الدين من المعارف الحقّة و القوانين المشرّعة الّتي من شأنها إصلاح شؤون المجتمع الإنسانيّ، و قطع منابت الفساد فإنّ من الصعب المستصعب تبديل عقائد الناس و لا سيّما إذا كانت ناشبة في الأخلاق و الأعمال و قد استقرّت عليها العادات، و دارت عليها القرون، و سارت عليها الأسلاف، و نشأت عليها الأخلاف و لا سيّما إذا عمّت كلمة الدين و دعوته جميع شؤون الحياة، و استوعبت جميع الحركات الإنسانيّة و سكناتها في ظاهرها و باطنها في جميع أزمنتها و لجميع أشخاصها و أفرادها و مجتمعاتها من غير استثناء (كما أنّه شأن الإسلام) فإنّ ذلك ممّا يدهش الفكرة تصوّره أو هو محال عاديّ.

و صعوبة هذا الأمر و مشقّته في الأعمال أزيد منها في الاعتقادات فإنّ استيناس الإنسان و اعتياده و مساسه بالعمل أقدم منه بالاعتقاد، و هو أظهر لحسّه و آثر عند شهواته و أهوائه، و لذلك أظهرت الدعوة الاعتقادات الحقّة في أوّل أمرها جملة لكنّ القوانين و الشرائع الإلهيّة ظهرت بالتدريج حكماً فحكماً.

و بالجملة تدرّجت الدعوة في إلقاء مضمراتها إلى الناس لئلّا يشمس عن تلقّيها الطباع و لا تتزلزل النفوس في نضد بعض أجزاء الدعوة على بعض، و هذا الّذي ذكرناه

١٦٨

ظاهر للمتدبّر الباحث في هذه الحقائق فإنّه يجد الآيات القرآنيّة مختلفة في إلقاء المعارف الإلهيّة و القوانين المشرّعة في مكّيّتها و مدنيّتها. الآيات المكّيّة تدعو إلى كلّيّات اُجمل فيها القول، و المدنيّة - و نعني بها ما نزلت بعد الهجرة أينما نزلت - تفصّل القول و تأتي بالتفاصيل من الأحكام الّتي سبقت في المكّيّة كلّيّاتها و مجملاتها، قال تعالى:( كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى‏ إِنَّ إِلى‏ ربّك الرُّجْعى‏ أَ رَأَيْتَ الّذي يَنْهى‏ عَبْداً إِذا صَلَّى أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى‏ أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏ ) العلق: ١٤، و الآيات نازلة في أوّل الرسالة بعد النبوّة على ما مرّت إليه الإشارة في آيات الصوم من الجزء الثاني، و فيها إجمال التوحيد و المعاد، و إجمال أمر التقوى و العبادة.

و قال تعالى:( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَ ربّك فَكَبِّرْ ) المدّثّر: ٣، و هي أيضاً من الآيات النازلة في أوّل البعثة، و قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) الشمس: ١٠، و قال تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ ربّه فَصَلَّى ) الأعلى: ١٥، و قوله تعالى:( قُلْ إنّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ إنّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الّذينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) حم السجدة: ٨، و هذه الآيات أيضاً من الآيات النازلة في أوائل البعثة.

و قال تعالى:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ ربّكمْ عَلَيْكُمْ إلّا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إحساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إيّاهمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الّتي حَرَّمَ الله إلّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تعقّلونَ وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هِيَ أَحسن حتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إلّا وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ وَ بِعَهْدِ الله أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَ أنّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تتّبعوا السُّبُلَ فَتفرّق بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) الأنعام: ١٥٣، فانظر إلى سياق الآيات الشريفة كيف اُجمل القول فيها في النواهي الشرعيّة أوّلاً، و

١٦٩

في الأوامر الشرعيّة ثانياً، و إنّما اُجمل بجمع الجميع تحت وصف لا يستنكف حتّى العقل العامّيّ من قبوله فإنّ الفواحش لا يتوقّف في شناعتها و لزوم اجتنابها و الكفّ عنها ذو مسكة، و كذا الاجتماع على صراط مستقيم يؤمن به التفرّق و الضعف و الوقوع في الهلكة و الردى لا يرتاب فيه أحد بحكم الغريزة فقد استمدّ في هذه الدعوة من غرائز المدعوّين، و لذلك بعينه ذكر ما ذكر من المحرّمات بعنوان التفصيل كعقوق الوالدين و الإساءة إليهما، و قتل الأولاد من إملاق، و قتل النفس المحترمة، و أكل ما اليتيم إلى آخر ما ذكر فإنّ العواطف الغريزيّة من الإنسان تؤيّد الدعوة في أمرها لاشمئزازها في حالها العاديّ عن ارتكاب هذه الجرائم و المعاصي، و هناك آيات اُخر يعثر عليها المتدبّر و يرى أنّ الحال فيها نظير ما ذكرناه فيما نقلنا من الآيات.

و كيف كان فالآيات المكّيّة شأنها الدعوة إلى مجملات فصّلتها بعد ذلك الآيات المدنيّة، و مع ذلك فالآيات المدنيّة نفسها لا تخلو عن مثل هذا التدرّج فما جميع الأحكام و القوانين الدينيّة نزلت في المدينة دفعة واحدة بل تدريجاً و نجوماً.

و يكفيك التدبّر في اُنموذج منها قد تقدّمت الإشارة إليها و هي آيات حرمة الخمر فقد قال تعالى:( وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حسناً ) النحل: ٦٧، و الآية مكّيّة ذكر فيها أمر الخمر و سكت عنه إلّا ما في قوله: وَ رِزْقاً حسناً من الإيماء إلى أنّ السكر ليس من الرزق الحسن ثمّ قال:( قُلْ إنّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ ) الأعراف: ٣٣، و الآية أيضاً مكّيّة تحرّم الإثم صريحاً لكن لم تبيّن أنّ شرب الخمر إثم إرفاقاً في الدعوة إلى ترك عادة سيّئة اجتذبتهم إليها شهواتهم و نبتت عليها لحومهم و شدّت عظامهم، ثمّ قال:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثمّ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، و الآية مدنيّة تبيّن أنّ شرب الخمر من الإثم الّذي حرّمته آية الأعراف، و لسان الآية - كما ترى - لسان رفق و نصح، ثمّ قال تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إنّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إنّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ الله وَ

١٧٠

عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) المائدة: ٩١، و الآية مدنيّة ختم بها أمر التحريم.

و نظيرها الإرث فقد آخى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلاً بين أصحابه و ورّث أحد الأخوين الآخر في أوّل الأمر إعداداً لهم لما سيشرّعه الله في أمر الوراثة، ثمّ نزل قوله تعالى:( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ ) الأحزاب: ٦، و على هذا النحو غالب الأحكام المنسوخة و الناسخة.

ففي جميع هذه الموارد و أشباهها تدرّجت الدعوة في إظهار الأحكام و إجرائها أخذاً بالإرفاق لحكمة الحفظ لسهولة التحميل و حسن التلقّي بالقبول، قال تعالى:( وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى‏ مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ) الإسراء: ١٠٦، و لو كان القرآن نزل عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة واحدة ثمّ بيّن الرسول تفاصيل شرائعه على ما يوظّفه عليه قوله تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتبيّن لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤، فأتى ببيان جميع معارفه الاعتقاديّة و الأخلاقيّة و كلّيّات الأحكام العباديّة و القوانين الجارية في المعاملات و السياسات و هكذا لم تستطع الأفهام عندئذ تصوّرها و حملها فضلاً عن قبول الناس لها و عملهم بها و حكومتها على قلوبهم في إرادتها، و على جوارحهم و أبدانهم في فعلها فتنزيله على مكث هو الّذي هيّأ للدين إمكان القبول و الوقوع في القلوب و قال تعالى:( وَ قالَ الّذينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا ) الفرقان: ٣٢، و في الآية دلالة على أنّ الله سبحانه كان يرفق برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إنزال القرآن نجوماً كما أرفق باُمّته فتدبّر في ذلك و تأمّله و في ذيل الآية قوله: و رتّلناه ترتيلاً.

و من الواجب أن يتذكّر أنّ السلوك من الإجمال إلى التفصيل و التدرّج في إلقاء الأحكام إلى الناس من باب الإرفاق و حسن التربية و رعاية المصلحة غير المداهنة و المساهلة و هو ظاهر.

الثانية: السلوك التدريجيّ من حيث انتخاب المدعوّين و أخذ الترتيب فيهم فمن المعلوم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مبعوثاً إلى كافّة البشر من غير اختصاص دعوته بقوم دون قوم، و لا بمكان دون مكان، و لا بزمان دون زمان (و مرجع الأخيرين إلى الأوّل في الحقيقة)

١٧١

البتّة قال تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جميعاً الّذي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الأعراف: ١٥٨، و قال تعالى:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: ١٩، و قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالمين ) الأنبياء: ١٠٧.

على أنّ التاريخ يحكي دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليهود و هم من بني إسرائيل، و الروم و العجم و الحبشة و مصر و ليسوا من العرب، و قد آمن به من المشاهير سلمان و هو من العجم و مؤذّنه بلال و هو من الحبشة و صهيب و هو من الروم، فعموم نبوّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمانه لا ريب فيه، و الآيات السابقة تشمل بعمومها الأزمان و الأمكنة أيضاً.

على أنّ قوله تعالى:( وَ أنّه لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) حم السجدة: ٤٢، و قوله تعالى:( وَ لكِنْ رَسُولَ الله وَ خاتَمَ النبيّينَ ) الأحزاب: ٤٠، تدلّان على عموم النبوّة و شمولها للأمكنة و الأزمنة أيضاً، و البحث التفصيليّ عن هذه الآيات يطلب من تفسيرها في مواردها.

و كيف كان فالنبوّة عامّة، و المتأمّل في سعة المعارف و القوانين الإسلاميّة و ما كان عليه الدنيا يوم ظهر الإسلام من ظلمة الجهل و قذارة الفساد و البغي لا يرتاب في عدم إمكان مواجهة الدنيا و مكافحة الشرك و الفساد حينئذ دفعة.

بل كان من الواجب في الحكمة أن تبدأ الدعوة بالبعض و أن يكون ذلك البعض هو قوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ يظهر بركوز الدين فيهم على غيرهم و هكذا كان، قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيبيّن لَهُمْ ) إبراهيم: ٤، و قال:( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) الشعراء: ١٩٩، و الآيات الّتي تدلّ على ارتباط الدعوة و الإنذار بالعرب لا تدلّ على أزيد من كونهم بعض من تعلّقت بهم الدعوة و الإنذار، و كذا الآيات النازلة في التحدّي بالقرآن لو كان فيها ما ينحصر تحدّيه بالبلاغة فحسب إنّما هي لكون البلاغة إحدى جهات التحدّي بالإعجاز، و لا دليل في ذلك على كون الاُمّة العربيّة هي المقصودة بالدعوة فقط نعم اللّسان مقصود بالاستقلال للبيان كما مرّ من قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيبيّن لَهُمْ ) الآية، و قوله:( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحسن الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ) يوسف: ٣، و قوله:( وَ إنّه

١٧٢

لَتَنْزِيلُ ربّ الْعالمين نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) الشعراء: ١٩٥، فاللسان العربيّ هو المظهر للمعاني و المقاصد الذهنيّة أتمّ إظهار، و لذلك اختاره الله سبحانه لكتابه العزيز من بين الألسن و قال:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تعقّلونَ ) الزخرف: ٣.

و بالجملة أمره الله تعالى بعد القيام بأصل الدعوة أن يبدأ بعشيرته فقال:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ‏ ) الشعراء: ٢١٤، فامتثل أمره و جمع عشيرته و دعاهم إلى ما بعث له و وعدهم أنّ أوّل من لبّاه فهو خليفته من بعده فأجابه إلى ذلك عليّعليه‌السلام فشكر له ذلك و استهزأ به الباقون على ما في صحاح الروايات(١) و كتب التاريخ و السير، ثمّ لحق به اُناس من أهله كخديجة زوجته و عمّه حمزة بن عبدالمطّلب و عبيد و عمّه أبي طالب على ما روته الشيعة و في أشعاره تصريحات و تلويحات بذلك(٢) (و إنّما لم يتظاهر بالإيمان ليتمكّن من حمايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ).

ثمّ أمره الله سبحانه أن يوسّع الدعوة لقومه على ما يظهر من قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَ مَنْ حَوْلَها ) الشورى: ٧، و قوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) الم السجدة: ٣، و قوله:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) ، و هذه الآية من الشواهد على أنّ الدعوة غير مقصورة عليهم، و إنّما بدأ بهم حكمة و مصلحة.

ثمّ أمره الله سبحانه بتوسعة الدعوة للدنيا من جميع الملّيّين و غيرهم كما يدلّ عليه الآيات السابقة كقوله تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جميعاً ) و قوله:( وَ لكِنْ رَسُولَ الله وَ خاتَمَ النبيّينَ ) و غيرهما ممّا تقدّم.

الثالثة: الأخذ بالمراتب من حيث الدعوة و الإرشاد و الإجراء، و هي الدعوة بالقول و الدعوة السلبيّة و الجهاد.

أمّا الدعوة بالقول فهي ممّا يستفاد من جميع القرآن بالبداهة، و قد أمره الله

____________________

(١) راجع سادس البحار، و سيرة ابن هشام و غيرهما.

(٢) راجع ديوان أبي طالب.

١٧٣

سبحانه برعاية الكرامات الإنسانيّة و الأخلاق الحسنة في ذلك قال تعالى:( قُلْ إنّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ ) الكهف: ١١٠، و قال:( وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الحجر: ٨٨، و قال:( وَ لا تَسْتَوِي الْحسنةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحسن فَإِذَا الّذي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) حم السجدة: ٣٤، و قال:( وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) المدثر: ٦، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستعمل جميع فنون البيان على حسب اختلاف الأفهام و استعدادات الأشخاص، قال تعالى:( ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ ربّك بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحسنةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحسن ) النحل: ١٢٥.

و أمّا الدعوة السلبيّة فهو اعتزال المؤمنين الكافرين في دينهم و أعمالهم و تكوين مجتمع إسلاميّ لا يمازجه دين غيرهم ممّن لا يوحّد الله سبحانه و لا أعمال غير المسلمين من المعاصي و سائر الرذائل الأخلاقية إلّا ما أوجبته ضرورة الحياة من المخالطة، قال تعالى:( لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ ) الكافرون: ٦، و قال:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا أنّه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ الله مِنْ أَوْلِياءَ ثمّ لا تُنْصَرُونَ ) هود: ١١٣، و قال:( فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تتّبع أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ الله مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله ربّنا وَ ربّكمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) الشورى: ١٥، و قال تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الحقّ - إلى أن قال -لا يَنْهاكُمُ الله عَنِ الّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحبّ الْمُقْسِطِينَ إنّما يَنْهاكُمُ الله عَنِ الّذينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى‏ إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) الممتحنة: ٩، و الآيات في معنى التبرّي و الاعتزال عن أعداء الدين كثيرة، و هي - كما ترى - تشرح معنى هذا التبرّي و كيفيّته و خصوصيّته.

و أمّا الجهاد فقد تقدّم الكلام فيه في ذيل آيات الجهاد من سورة البقرة و هذه

١٧٤

المراتب الثلاث من مزايا الدين الإسلاميّ و مفاخره و المرتبة الاُولى لازمة في الأخيرتين و كذا الثانية في الثالثة، فقد كانت من سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدعوة و الموعظة في غزواته قبل الشروع فيها على ما أمره به ربّه سبحانه فقال:( فَإِنْ تولّوا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى‏ سَواءٍ ) .

و من أخنى القول ما نبذوا به الإسلام: أنّه دين السيف دون الدعوة مع أنّ الكتاب و السيرة و التاريخ تشهد به و تنوّره و لكن من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

و هؤلاء المنتقدون بعضهم من أهل الكنيسة الّتي كانت عقدت منذ قرون فيها محكمة دينيّة تقضي على المنحرفين عن الدين بالنار تشبّهاً بالمحكمة الإلهيّة يوم القيامة فكان عمّالها يجولون في البلاد فيجلبون إليها من الناس من اتّهموه بالردّة و لو بالأقوال الحديثة في الطبيعيّات و الرياضيّات ممّا لم يقل به الفلسفة الإسكولاستيكيّة الّتي كانت الكنيسة تروّجها.

فليت شعري هل بسط التوحيد و قطع منابت الوثنيّة و تطهير الدنيا من قذارة الفساد أهمّ عند العقل السليم أو تخنيق من قال بمثل حركة الأرض أو نفي الفلك البطلميوسي و ردّ أنفاسه إلى صدره، و الكنيسة هي الّتي أثارت العالم المسيحي على المسلمين باسم الجهاد مع الوثنيّة فأقامت الحروب الصليبيّة على ساقها مائتي سنة تقريباً و خرّبت البلاد و أفنت الملايين من النفوس و أباحت الأعراض.

و بعضهم من غير أهل الكنيسة من المدّعين للتمدّن و الحرّيّة!! و هؤلاء هم الّذين يوقدون نار الحروب العالميّة و يقلّبون الدنيا ظهر البطن كلّما هتفت بهم مزاعمهم توجّه خطر يسير على بعض منافعهم المادّيّة فهل استقرار الشرك في الدنيا و انحطاط الأخلاق و موت الفضائل و إحاطة الشؤم و الفساد على الأرض و من فيها أضرّ أم زوال السلطة على أشبار من الأرض أو الخسارة في دريهمات يسيرة؟! نعم إنّ الإنسان لربّه لكنود.

و يعجبني نقل ما ذكره بعض المحقّقين الأعاظم(١) في هذا الباب في بعض رسائله قال رحمه الله: الوسائل المتبعة للإصلاح الاجتماعيّ و تحقيق العدل و تمزيق الظلم و مقاومة الشرّ و الفساد تكاد تنحصر في ثلاثة أنواع:

____________________

(١) الشيخ محمّد الحسّين كاشف الغطاء في رسالة: المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون.

١٧٥

١- وسائل الدعوة و الإرشاد بالخطب و المقالات و المؤلّفات و النشرات، و هذه هي الخطّة الشريفة الّتي أشار إليها الحقّ جلّ شأنه بقوله:( ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ ربّك بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحسنةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحسن ) ، و قوله:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحسن فَإِذَا الّذي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) و هذه هي الطريقة الّتي استعملها الإسلام في أوّل البعثة، إلى أن قال:

٢- وسائل المقاومة السلميّة و السلبيّة كالمظاهرات و الإضرابات و المقاطعة الاقتصاديّة و عدم التعاون مع الظالمين، و عدم الاشتراك في أعمالهم و حكومتهم، و أصحاب هذه الطريقة لا يبيحون اتّخاذ طريق الحرب و القتل و العنف، و هي المشار إليها بقوله تعالى:( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، و لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) و في القرآن الكريم كثير من الآيات الّتي تشير إلى هذه الطريقة، و أشهر من دعا إلى هذه الطريقة و أكدّ عليها النبيّ الهنديّ بوذا، و المسيحعليه‌السلام ، و الأديب الروسيّ( تولستوي) و الزعيم الهنديّ الروحيّ( غاندي) .

٣- الحرب و الثورة و القتال.

و الإسلام يتدرّج في هذه الأساليب الثلاثة:( الاُولى) الموعظة الحسنة و الدعوة السليمة فإن لم ينجح في دفع الظالمين و درء فسادهم و استبدادهم( فالثانية) المقاطعة السلميّة أو السلبيّة و عدم التعاون و المشاركة معهم فإن لم تُجد و تنفع( فالثالثة) الثورة المسلّحة فإنّ الله لا يرضى بالظلم أبداً بل و الراضي الساكت شريك الظالم.

الإسلام عقيدة، و قد غلط و ركب الشطط من قال: إنّ الإسلام نشر دعوته بالسيف و القتال فإنّ الإسلام إيمان و عقيدة، و العقيدة لا تحصل بالجبر و الإكراه و إنّما تخضع للحجّة و البرهان، و القرآن المجيد ينادي بذلك في عدّة آيات منها( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تبيّن الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) .

و الإسلام إنّما استعمل السيف و شهر السلاح على الظالمين الّذين لم يقتنعوا بالآيات و البراهين استعمل القوّة في سبيل من وقف حجر عثرة في سبيل الدعوة إلى الحقّ، أجهز السلاح لدفع شرّ المعاندين لا إلى إدخالهم في حظيرة الإسلام يقول جلّ

١٧٦

شأنه: قاتِلُوهُمْ حتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فالقتال إنّما هو لدفع الفتنة لا لاعتناق الدين و العقيدة.

فالإسلام لا يقاتل عبطة و اختياراً و إنّما يحرجه الأعداء فيلتجئ إليه اضطراراً و لا يأخذ منه إلّا بالوسائل الشريفة فيحرّم في الحرب و السلم التخريب و الإحراق و السمّ و قطع الماء عن الأعداء كما يحرّم قتل النساء و الأطفال و قتل الأسرى و يوصي بالرفق بهم و الإحسان إليهم مهما كانوا من العداء و البغضاء للمسلمين و يحرّم الاغتيال في الحرب و السلم و يحرّم قتل الشيوخ و العجزة و من لم يبدأ بالحرب و يحرّم الهجوم على العدوّ ليلاً( وانبذ إليهم على سواء) و يحرّم القتل على الظنّة و التهمة و العقاب قبل ارتكاب الجريمة إلى أمثال ذلك من الأعمال الّتي يأباها الشرف و المروءة و الّتي تنبعث من الخسّة و القسوة و الدناءة و الوحشيّة.

كلّ تلك الأعمال الّتي أبى شرف الإسلام ارتكاب شي‏ء منها مع الأعداء في كلّ ما كان له من المعارك و الحروب قد ارتكبتها بأفظع صورها و أهول أنواعها الدول المتمدّنة في هذا العصر الّذي يسمّونه عصر النور نعم أباح عصر النور قتل النساء و الأطفال و الشيوخ و المرضى و التبييت ليلاً و الهجوم ليلاً بالسلاح و القنابل على العزل و المدنيّين الآمنين، و أباح القتل بالجملة.

أ لم يرسل الآلمان في الحرب العالميّة الثانية القنابل الصاروخيّة إلى لندن فهدمت المباني و قتلت النساء و الأطفال و السكّان الآمنين؟! أ لم يقتل الألمان اُلوف الأسرى؟! أ لم يرسل الحلفاء في الحرب الماضية اُلوف الطائرات إلى آلمانيا لتخريب مدنها؟! أ لم يرم الأمريكان القنابل الذرّيّة على المدن اليابانيّة؟!.

و بعد اختراع وسائل الدمار الحديثة كالصواريخ و القنابل الذرّيّة و إلهدروجينيّة لا يعلم إلّا الله ما ذا يحلّ بالأرض من عذاب و خراب و مآسي و آلام إذا حدثت حرب عالميّة ثالثة و لجأت الدول المتحاربة إلى استعمال تلك الوسائل، أرشد الله الإنسان إلى طريق الصواب و هداه الصراط المستقيم، انتهى.

قوله تعالى: ( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ ) إلى آخر الآية، أمر بإيتاء اليتامى أموالهم و هو توطئة للجملتين اللّاحقتين: وَ لا تَتَبَدَّلُوا إلخ أو الجملتان كالمفسّر لهذه الجملة غير

١٧٧

أنّ التعليل الّذي في آخر الآية لكونه راجعاً إلى الجملتين أو الجملة الأخيرة يؤيّد أنّ الجملة الاُولى موضوعة في الكلام تمهيداً للنهي الّذي في الجملتين اللّاحقتين.

و أصل النهي عن التصرّف المضار في أموال اليتامى كما تقدّم بيانه توطئة و تمهيد لما سيذكر من أحكام الإرث، و لما سيذكر في الآية التالية من حكم التزوّج.

و أمّا قوله تعالى:( وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) أي لا تتبدّلوا الخبيث من أموالكم من الطيّب من أموالهم بأن يكون لهم عندكم مال طيّب فتعزلوه لأنفسكم و تردّوا إليهم ما يعادله من رديّ أموالكم. و يمكن أن يكون المراد: لا تتبدّلوا أكل الحرام من أكل الحلال - كما قيل - لكنّ المعنى الأوّل أظهر فإنّ الظاهر أنّ كلّاً من الجملتين أعني قوله: وَ لا تَتَبَدَّلُوا إلخ و قوله: وَ لا تَأْكُلُوا إلخ بيان لنوع خاصّ من التصرّف غير الجائز و قوله: وَ آتُوا الْيَتامى‏ إلخ تمهيد لبيانهما معاً، و أمّا قوله: أنّه كانَ حُوباً كَبِيراً الحوب الإثم مصدر و اسم مصدر.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) قد مرّت الإشارة فيما مرّ إلى أنّ أهل الجاهليّة من العرب - و كانوا لا يخلون في غالب الأوقات عن الحروب و المقاتل و الغيلة و الغارة و كان يكثر فيهم حوادث القتل - كان يكثر فيهم الأيتام، و كانت الصناديد و الأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء و أموالهنّ فيتزوّجون بهنّ و يأكلون أموالهنّ إلى أموالهم ثمّ لا يقسطون فيهنّ و ربّما أخرجوهنّ بعد أكل مالهنّ فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهنّ يرتزقن به و لا راغب فيهنّ فيتزوّج بهن و ينفق عليهنّ، و قد شدّد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث و الظلم الفاحش، و أكّد النهي عن ظلم اليتامى و أكل أموالهم كقوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً إنّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) النساء: ١٠، و قوله تعالى:( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى‏ أَمْوالِكُمْ أنّه كانَ حُوباً كَبِيراً ) الآية: النساء: ٢، فأعقب ذلك أنّ المسلمين أشفقوا على أنفسهم - كما قيل - و خافوا خوفاً شديداً حتّى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفاً من الابتلاء بأموالهم و التفريط في حقّهم، و من أمسك يتيماً

١٧٨

عنده أفرز حظّه من الطعام و الشراب و كان إذا فضل من غذائهم شي‏ء لم يدنوا منه حتّى يبقى و يفسد فأصبحوا متحرّجين من ذلك و سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك و شكوا إليه فنزل:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى‏ قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ الله يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ الله لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) البقرة: ٢٢٠، فأجاز لهم أن يؤووهم و يمسكوهم إصلاحاً لشأنهم و أن يخالطوهم فإنّهم إخوانهم فجلّى عنهم و فرّج همّهم.

إذا تأمّلت في ذلك ثمّ رجعت إلى قوله تعالى:( وَ إِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ) إلخ و هو واقع عقيب قوله:( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ ) الآية اتّضح لك أنّ الآية واقعة موقع الترقّي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة و المعنى - و الله أعلم -: اتّقوا أمر اليتامى، و لا تتبدّلوا خبيث أموالكم من طيّب أموالهم، و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتّى أنّكم إن خفتم إلّا تقسطوا في اليتيمات منهم و لم تطب نفوسكم أن تنكحوهنّ و تتزوّجوا بهنّ فدعوهنّ و انكحوا نساءً غيرهنّ ما طاب لكم مثنى و ثلاث و رباع.

فالشرطيّة أعني قوله:( إِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى‏ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ، في معنى قولنا إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهنّ و انكحوا نساءً غيرهنّ فقوله: فانكحوا سادّ مسدّ الجزاء الحقيقيّ، و قوله: ما طابَ لَكُمْ، يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهنّ، و قد قيل: ما طابَ لَكُمْ و لم يقل: من طاب لكم إشارة إلى العدد الّذي سيفصّله بقوله: مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ إلخ و وضع قوله: إِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا موضع عدم طيب النفس من وضع السبّب موضع المسبّب مع الإشعار بالمسبّب في الجزاء بقوله: ما طابَ لَكُمْ، هذا.

و قد قيل في معنى الآية اُمور اُخر غير ما مرّ على ما ذكر في مطوّلات التفاسير و هي كثيرة، منها: أنّه كان الرجل منهم يتزوّج بالأربع و الخمس و أكثر و يقول: ما يمنعني أن أتزوّج كما تزوّج فلان، فإذا فني ماله مال إلى مال اليتيم الّذي في حجره فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلّا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلماً.

١٧٩

و منها: أنّهم كانوا يشدّدون في أمر اليتامى و لا يشدّدون في أمر النساء فيتزوّجون منهنّ عدداً كثيراً و لا يعدلون بينهنّ، فقال تعالى: إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا منهنّ واحدة إلى أربع.

و منها: أنّهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى و أكل أموالهم فقال سبحانه: إن كنتم تحرّجتم من ذلك فكذلك تحرّجوا من الزنا فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ.

و منها: أنّ المعنى إن خفتم إلّا تقسطوا في اليتيمة المربّاة في حجوركم فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ممّا اُحلّ لكم من يتامى قرباتكم مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ.

و منها: أنّ المعنى إن كنتم تتحرّجون عن مواكلة اليتامى فتحرّجوا من الجمع بين النساء و أن لا تعدلوا بينهنّ و لا تتزوّجوا منهنّ إلّا من تأمنون معه الجور، فهذه وجوه ذكروها لكنّك بصير بأنّ شيئاً منها لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) بناء مفعل و فعال في الأعداد تدلّان على تكرار المادّة فمعنى مثنى و ثلاث و رباع اثنتين اثنتين و ثلاثاً ثلاثاً و أربعاً أربعاً، و لمّا كان الخطاب متوجّهاً إلى أفراد الناس و قد جي‏ء بواو التفصيل بين مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ الدالّ على التخيير أفاد الكلام أنّ لكلّ واحد من المؤمنين أن يتّخذ لنفسه زوجتين أو ثلاثاً أو أربعاً فيصرن بالإضافة إلى الجميع مثنى و ثلاث و رباع.

و بذلك و بقرينة قوله بعده:( فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) و كذا آية المحصنات بجميع ذلك يدفع أن يكون المراد بالآية أن تنكح الاثنتان بعقد واحد أو الثلاث بعقد واحد مثلاً، أو يكون المراد أن تنكح الاثنتان معاً ثمّ الاثنتان معاً و هكذا، و كذا في الثلاث و الأربع، أو يكون المراد اشتراك أزيد من رجل واحد في الزوجة الواحدة مثلاً فهذه محتملات لا تحتملها الآية.

على أنّ الضرورة قاضية أنّ الإسلام لا ينفذ الجمع بين أزيد من أربع نسوة أو اشتراك أزيد من رجل في زوجة واحدة.

و كذا يدفع بذلك احتمال أن يكون الواو للجمع فيكون في الكلام تجويز

١٨٠