الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 129115
تحميل: 5417


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129115 / تحميل: 5417
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الجزء الرّابع

من كتاب

الميزان في تفسير القرآن

للمولفة

اللأستاذ العلّامة

السّيّد محمّد حسين الطّباطبائي

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( سورة آل‏ عمران الآيات ١٢١ - ١٢٩)

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ١٢١) إِذْ هَمّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ( ١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ فَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ( ١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةٍ مُنزَلِينَ( ١٢٤) بَلَى‏ إِن تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا وَيَأْتُوكُم مِن فَوْرِهِمْ هذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوّمِينَ( ١٢٥) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلّا بُشْرَى‏ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النّصْرُ إِلّا مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ( ١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ( ١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ( ١٢٨) وَللّهِ‏ِ مَا فِي السّماواتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ١٢٩)

( بيان)

رجوع إلى ما بدأت به السورة من تنبيه المؤمنين بما هم عليه من الموقف الصعب، و تذكيرهم بنعم الله عليهم من إيمان و نصر و كفاية، و تعليمهم ما يسبقون به إلى شريف مقصدهم، و هدايتهم إلى ما يسعدون به في حياتهم و بعد مماتهم.

و فيها قصّة غزوة اُحد، و أمّا الآيات المشيرة إلى غزوة بدر فإنّما هي من قبيل الضميمة المتمّمة و محلّها محلّ شاهد القصّة و ليست مقصودة بالأصالة على ما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ ) إذ ظرف متعلّق

٣

بمحذوف كاذكر و نحوه، و غدوت من الغدوّ و هو الخروج غداة، و التبوئة تهيئة المكان للغير أو إسكانه و إيطانه المكان، و المقاعد جمع، و أهل الرجل - كما ذكره الراغب - من يجمعه و إيّاهم نسب أو بيت أو غيرهما كدين أو بلد أو صناعة، يقال: أهل الرجل لزوجته و لمن في بيته من زوجة و ولد و خادم و غيرهم، و للمنتسبين إليه من عشيرته و عترته، و يقال: أهل بلد كذا لقاطنيه، و أهل دين كذا لمنتحليه، و أهل صناعة كذا لصنّاعها و أساتيدها. و يستوي فيه المذكّر و المؤنّث و المفرد و الجمع، و يختصّ استعماله بالإنسان فأهل الشي‏ء خاصّته من الإنسان.

و المراد بأهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّته و هم جمع، و ليس المراد به ههنا شخص واحد بدليل قوله:( غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ) إذ يجوز أن يقال: خرجت من خاصّتك و من جماعتك و لا يجوز أن يقال: خرجت من زوجتك و خرجت من اُمّك، و لذا التجأ بعض المفسّرين إلى تقدير في الآية فقال: إنّ التقدير: خرجت من بيت أهلك، لمّا فسّر الأهل بالمفرد، و لا دليل يدلّ عليه من الكلام.

و سياق الآيات مبنيّ على خطاب الجمع و هو خطاب المؤمنين على ما تدلّ عليه الآيات السابقة و اللّاحقة ففي قوله:( وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، التفات من خطابهم إلى خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كان الوجه فيه ما يلوح من آيات القصّة من لحن العتاب فإنّها لا تخلو من شائبة اللّوم و العتاب و الأسف على ما جرى و ظهر من المؤمنين من الفشل و الوهن في العزيمة و القتال، و لذلك أعرض عن مخاطبتهم في تضاعيف القصّة و عدل إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يخصّ به فقال:( وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ) ، و قال:( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ ) ، و قال:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ) ، و قال:( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله ) ، و قال:( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ ) ، و قال:( وَ لا تَحسّبَنَّ الّذينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْواتاً ) الآية.

فغيّر خطاب الجمع في هذه الموارد إلى خطاب المفرد، و هي موارد تحبس المتكلّم الجاري في كلامه عن الجري فيه لما تغيظه و تهيّج وجده، بخلاف مثل قوله في ضمن الآيات:( وَ ما محمّد إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ) ، و قوله:

٤

( وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) ، لأنّ العتاب فيهما بخطاب الجمع أوقع دون خطاب المفرد، و بخلاف مثل قوله في ضمن الآيات:( لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) الآية، لأنّ الامتنان ببعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أخذه غائباً أوقع و أشدّ تأثيراً في النفوس، و أبعد من الوهم و الخطور. فتدبّر في الآيات تجد صحّة ما ذكرناه.

و معنى الآية: و اذكر إذ خرجت بالغداة من أهلك تهيّئ للمؤمنين مقاعد للقتال أو تسكنهم و توقّفهم فيها و الله سميع لما قيل هناك، عليم بما أضمرته قلوبهم. و المستفاد من قوله:( وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ) ، قرب المعركة من دارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيتعيّن بذلك أنّ الآيتين ناظرتان إلى غزوة اُحد فتتّصل الآيتان بالآيات الآتية النازلة في شأن اُحد لانطباق المضامين على وقائع هذه الغزوة. و به يظهر ضعف ما قيل: إنّ الآيتين في غزوة بدر، و كذا ما قيل: إنّهما في غزوة الأحزاب، و الوجه ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) أي سميع يسمع ما قيل هناك، عليم يعلم ما كان مضمراً في قلوبكم، و فيه دلالة على كلام جرى هناك بينهم، و اُمور أضمروها في قلوبهم، و الظاهر أنّ قوله:( إِذْ هَمَّتْ ) ، متعلّق بالوصفين.

قوله تعالى: ( إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ الله وَلِيُّهُما ) الهمّ ما هممت به في نفسك و هو القصد، و الفشل ضعف مع الجبن.

و قوله:( وَ الله وَلِيُّهُما ) ، حال و العامل فيه قوله:( هَمَّتْ ) ، و الكلام مسوق للعتاب و اللّوم، و كذا قوله:( وَ عَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) ، و المعنى: أنّهما همّتا بالفشل مع أنّ الله وليّهما و لا ينبغي لمؤمن أن يفشل و هو يرى أنّ الله وليّه، و مع أنّ المؤمنين ينبغي أن يكلوا أمرهم إلى الله و من يتوكّل على الله فهو حسبه.

و من ذلك يظهر ضعف ما قيل: إنّ هذا الهمّ همّ خطرة لا همّ عزيمة لأنّ الله تعالى مدحهما، و أخبر أنّه وليّهما، و لو كان همّ عزيمة و قصد لكان ذمّهم أولى إلى مدحهم.

و ما أدري ما ذا يريد بقوله: إنّه همّ خطرة، أ مجرّد الخطور بالبال و تصوّر مفهوم الفشل؟ فجميع من هناك كان يخطر ببالهم ذلك، و لا معنى لذكر مثل ذلك في القصّة قطعاً، و لا يسمّى ذلك همّاً في اللّغة، أم تصوّراً معه شي‏ء من التصديق، و خطوراً فيه

٥

شوب قصد؟ كما يدلّ عليه ظهور حالهما عند غيرهما، و لو كان مجرّد خطور من غير أيّ أثر لم يظهر أنّهما همّتا بالفشل. على أنّ ذكر ولاية الله لهم و وجوب التوكّل على المؤمن إنّما يلائم هذا الهمّ دون مجرّد الخطور. على أنّ قوله:( وَ الله وَلِيُّهُما ) ، ليس مدحاً بل لوم و عظة على ما يعطيه السياق كما مرّ.

و لعلّ منشأ هذا الكلام‏ ما روي عن جابر بن عبدالله الأنصاريّ أنّه قال: فينا نزلت، و ما اُحبّ أنّها لم تكن، لقوله:( وَ الله وَلِيُّهُما ) ففهم من الرواية أنّ جابراً فهم من الآية المدح.

و لو صحّت الرواية فإنّما يريد جابر أنّ الله تعالى قبل إيمانهم و صدّق كونهم مؤمنين حيث عدّ نفسه وليّاً لهم، و الله وليّ الّذين آمنوا و الّذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، لا أنّ الجملة واقعة موقع المدح في هذا السياق الظاهر في العتاب.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) إلى آخر الآية ظاهر السياق أن تكون الآية مسوقة سوق الشاهد لتتميم العتاب و تأكيده فتكون تؤدّي معنى الحال كقوله:( وَ الله وَلِيُّهُما ) ، و المعنى: و ما كان ينبغي أن يظهر منكم الهمّ بالفشل و قد نصركم الله ببدر و أنتم أذلّة، و ليس من البعيد أن يكون كلاماً مستقلّاً سيق مساق الامتنان بذكر نصر عجيب من الله بإنزال الملائكة لإمدادهم و نصرهم يوم بدر.

و لمّا ذكر تعالى نصره إيّاهم يوم بدر و قابل ذلك بما هم عليه من الحال - و من المعلوم أنّ كلّ من اعتزّ فإنّما يعتزّ بنصر الله و عونه فليس للإنسان من قبل نفسه إلّا الفقر و الذلّة - لم يبق لهم من أنفسهم إلّا الذلّة، و لذلك قال:( وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) .

و من هنا يعلم أنّ قوله:( وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ) لا ينافي أمثال قوله تعالى:( وَ لله الْعزّة وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) المنافقون: ٨ فإنّ عزّتهم إنّما هي بعزّة الله، قال تعالى:( فَإِنَّ الْعزّة لله جميعاً ) النساء: ١٣٩ و ذلك بنصر الله المؤمنين كما قال تعالى:( لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى‏ قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الّذينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧ فإذا كان الحال هذا الحال فلو اعتبر حال المؤمنين من حيث أنفسهم لم يكن لهم إلّا الذلّة.

٦

على أنّ واجهة حال المؤمنين أيضاً يوم بدر كانت تقضي بكونهم أذلّة قبال ما كان عليه المشركون من القوّة و الشوكة و الزينة. و لا ضير في إضافة الذلّة النسبيّة إلى الأعزّة و قد أضافها الله سبحانه إلى قوم مدحهم كلّ المدح حيث قال:( فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعزّة عَلَى الْكافِرِينَ ) الآية المائدة: ٥٤.

قوله تعالى: ( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ ) ، الإمداد من المدّ و هو إيصال المدد على نعت الاتّصال.

قوله تعالى: ( بَلى‏ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا ) ، بلى كلمة تصديق و الفور و الفوران: الغليان يقال: فار القدر إذا غلا و جاش، ثمّ أستعير للسرعة و العجلة فاستعمل في الأمر الّذي لا ريث فيه و لا مهلة فمعنى من فورهم هذا من ساعتهم هذه.

و الظاهر أنّ مصداق الآية هو يوم بدر، و إنّما هو وعد على الشرط و هو ما يتضمّنه قوله:( إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا ) .

و أمّا ما يظهر من بعض المفسّرين أنّه وعد بإنزال الملائكة إن جاؤهم بعد فورهم هذا يعني يوم بدر بأن يكون المراد مِنْ فَوْرِهِمْ هذا هو يوم بدر لا في يوم بدر، و كذا ما يظهر من بعض آخر أنّه وعد بإنزالهم في سائر الغزوات بعد بدر كاُحُد و حنين و الأحزاب فممّا لا دليل عليه من لفظ الآية:

أمّا يوم اُحُد فلا محلّ لاستفادة نزول الملائكة فيه من الآيات و هو ظاهر، و أمّا يوم الأحزاب و يوم حنين فالقرآن و إن كان يصرّح بنزول الملائكة فيهما فقد قال في قصّة الأحزاب:( إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) الأحزاب: ٩ و قال:( وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ - إلى أن قال -وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) التوبة: ٢٦ إلّا أنّ لفظ هذه الآية:( بَلى‏ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا ) ، قاصر عن إفادة عموم الوعد.

و أمّا نزول ثلاثة آلاف يوم بدر فلا ينافي قوله تعالى في سورة الأنفال:( فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) الأنفال: ٩ لمكان قوله: مُرْدِفِينَ أي متبعين لآخرين و هم الألفان الباقيان المكملان للعدد على ما ذكر في هذه الآيات.

قوله تعالى: ( وَ ما جَعَلَهُ الله إلّا بُشْرى‏ لَكُمْ ) ، الضمير راجع إلى الإمداد، و لفظة

٧

عند ظرف يفيد معنى الحضور، و قد كان أوّلاً مستعملاً في القرب و الحضور المكانيّ المختصّ بالأجسام ثمّ توسّع فاستعمل في القرب الزمانيّ ثمّ في مطلق القرب و الحضور المعنويّ كيفما كان، و قد استعمل في القرآن في مختلف الفنون.

و الّذي يفيده في هذا المقام أعني قوله:( وَ مَا النَّصْرُ إلّا مِنْ عِنْدِ الله الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) بالنظر إلى ما سبقه من قوله:( وَ ما جَعَلَهُ الله إلّا بُشْرى‏ لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ ) هو المقام الربوبيّ الّذي ينتهي إليه كلّ أمر و حكم، و لا يكفي عنه و لا يستقلّ دونه شي‏ء من الأسباب، فالمعنى: أنّ الملائكة الممدّين ليس لهم من أمر النصر شي‏ء بل هم أسباب ظاهريّة يجلبون لكم البشرى و طمأنينة القلب، و إنّما حقيقة النصر من الله سبحانه لا يغني عنه شي‏ء، و هو الله الّذي ينتهي إليه كلّ أمر، العزيز الّذي لا يُغلب، الحكيم الّذي لا يجهل.

قوله تعالى: ( لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الّذينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ ) إلى آخر الآيات، اللّام متعلّق بقوله:( وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله ) ، و قطع الطرف كناية عن تقليل عدّتهم و تضعيف قوّتهم بالقتل و الأسر كما وقع يوم بدر فقتل من المشركين سبعون و اُسر سبعون، و الكبت هو الإخزاء و الإغاظة.

و قوله:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ) معترضة، و فائدتها بيان أنّ الأمر في القطع و الكبت لله، و ليس للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه صنع حتّى يمدحوه و يستحسنوا تدبيره إذا ظفروا على عدوّهم و نالوا منه، و يلوموه و يوبّخوه إذا دارت الدائرة عليهم و يهنوا و يحزنوا كما كان ذلك منهم يوم اُحد على ما حكاه الله تعالى.

و قوله:( أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) معطوف على قوله:( لِيَقْطَعَ ) ، و الكلام متّصل، و قوله:( وَ لله ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) ، بيان لرجوع أمر التوبة و المغفرة إلى الله تعالى، و المعنى: أنّ هذا التدبير المتقن منه تعالى إنّما هو ليقطع طرفاً من المشركين بالقتل و الأسر أو ليخزيهم و يخيّبهم في سعيهم أو ليتوب عليهم أو ليعذّبهم، أمّا القطع و الكبت فلأنّ الأمر إليه لا إليك حتّى تمدح أو تذمّ، و أمّا التوبة و العذاب فلأنّ الله هو المالك لكلّ شي‏ء فيغفر لمن يشاء، و يعذّب من يشاء، و مع ذلك فإنّ مغفرته و رحمته تسبقان عذابه و غضبه فهو الغفور الرحيم.

٨

و إنّما أخذنا قوله:( وَ لله ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) ، في موضع التعليل للفقرتين الأخيرتين أعني قوله:( أَوْ يَتُوبَ ) ، لمّا في ذيله من اختصّاص البيان بهما أعني قوله:( يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ) .

و قد ذكر المفسّرون وجوهاً اُخر في اتّصال قوله:( لِيَقْطَعَ طَرَفاً ) ، و في معنى العطف في قوله:( أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ) ، و كذا في ما يعلّله قوله:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ) ، و ما يعلّله قوله:( وَ لله ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) ، أغمضنا عن التعرّض لها و البحث عنها لقلّة الجدوى فيها لمخالفتها ما يفيده ظاهر الآيات بسياقها الجاري، فمن أراد الاطّلاع عليها فليراجع مطوّلات التفاسير.

( بحث روائي‏)

في المجمع: عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: كان سبب غزوة اُحد أنّ قريشاً لمّا رجعت من بدر إلى مكّة - و قد أصابهم ما أصابهم من القتل و الأسر، لأنّه قتل منهم سبعون و اُسر سبعون - قال أبوسفيان: يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم تبكين على قتلاكم فإنّ الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن و العداوة لمحمّد فلمّا غزوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم اُحد أذنوا لنسائهم في البكاء و النوح. و خرجوا من مكّة في ثلاثة آلاف فارس و ألفي راجل و أخرجوا معهم النساء.

فلمّا بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك جمع أصحابه و حثّهم على الجهاد فقال عبدالله بن اُبيّ بن سلول: يا رسول الله لا تخرج من المدينة حتّى نقاتل في أزقّتها فيقاتل الرجل الضعيف و المرأة و العبد و الأمة على أفواه السكك و على السطوح فما أرادنا قوم قطّ فظفروا بنا و نحن في حصوننا و دورنا، و ما خرجنا إلى عدوّ لنا قطّ إلّا كان الظفر لهم علينا.

فقام سعد بن معاذ و غيره من الأوس فقالوا: يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب و نحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يطمعون فينا و أنت فينا؟ لا حتّى نخرج إليهم فنقاتلهم فمن قتل منّا كان شهيداً، و من نجا منّا كان قد جاهد في سبيل الله.

٩

فقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيه، و خرج مع نفر من أصحابه يتبوّؤن موضع القتال كما قال تعالى:( وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ) الآية و قعد عنه عبدالله بن اُبيّ بن سلول، و جماعة

من الخزرج اتّبعوا رأيه.

و وافت قريش إلى اُحد و كان رسول الله عبّأ أصحابه - و كانوا سبعمائة رجل - و وضع عبدالله بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب، و أشفق أن يأتي كمينهم من ذلك المكان، فقال لعبدالله بن جبير و أصحابه: إن رأيتمونا قد هزمناهم حتّى أدخلناهم مكّة فلا تبرحوا من هذا المكان، و إن رأيتموهم هزمونا حتّى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا و ألزموا مراكزكم.

و وضع أبوسفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كميناً، و قال: إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتّى تكونوا وراءهم.

و عبّأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه، و دفع الراية إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام و حمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمةً قبيحةً، و وضع أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سوادهم و انحطّ خالد بن الوليد في مائتي فارس على عبدالله بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجع، و نظر أصحاب عبدالله بن جبير إلى أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينتهبون سواد القوم فقالوا لعبدالله بن جبير: قد غنم أصحابنا و نبقى نحن بلا غنيمة؟ فقال لهم عبدالله: اتّقوا الله فإنّ رسول الله قد تقدّم إلينا أن لا نبرح، فلم يقبلوا منه، و أقبلوا ينسلّ رجل فرجل حتّى أخلوا مراكزهم، و بقي عبدالله بن جبير في اثني عشر رجلاً.

و كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبديّ من بني عبد الدار فقتله عليّ، و أخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله عليّ و سقطت الراية فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله عليّ حتّى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار حتّى صار لواهم إلى عبد لهم أسود يقال له: صوّاب فانتهى إليه عليّ فقطع يده اليمنى فأخذ اللّواء باليسرى فضرب يسراه فقطعها فاعتنقها بالجذماوين إلى صدره، ثمّ التفت إلى أبي سفيان فقال: هل عذرت في بني عبد الدار؟ فضربه عليّ على رأسه فقتله، و سقط اللّواء فأخذتها غمرة بنت علقمة الكنانيّة فرفعتها.

١٠

و انحطّ خالد بن الوليد على عبدالله بن جبير - و قد فرّ أصحابه و بقي في نفر قليل - فقتلهم على باب الشعب ثمّ أتى المسلمين من أدبارهم، و نظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها، و انهزم أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هزيمةً عظيمةً، و أقبلوا يصعدون في الجبال و في كلّ وجه.

فلمّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهزيمة كشف البيضة عن رأسه و قال: إليّ أنا رسول الله إلى أين تفرّون عن الله و عن رسوله؟ و كانت هند بنت عتبة في وسط العسكر فكلّما انهزم رجل من قريش دفعت إليه ميلاً و مكحلة، و قالت: إنّما أنت امرأة فاكتحل بهذا.

و كان حمزة بن عبدالمطّلب يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا و لم يثبت له أحد، و كانت هند قد أعطت وحشيّاً عهداً لئن قتلت محمّداً أو عليّاً أو حمزة لاُعطينّك كذا و كذا، و كان وحشيّ عبداً لجبير بن مطعم حبشيّاً فقال وحشيّ: أمّا محمّد فلم أقدر عليه، و أمّا عليّ فرأيته حذراً كثير الالتفات فلا مطمع فيه، فكمنت لحمزة فرأيته يهدّ الناس هدّاً فمرّ بي فوطئ على جرف نهر فسقط، و أخذت حربتي فهززتها و رميته بها فوقعت في خاصرته و خرجت من ثنّته فسقط فأتيته فشققت بطنه، و أخذت كبده، و جئت به إلى هند فقلت هذه كبد حمزة، فأخذتها في فمها فلاكتها فجعله الله في فمها مثل الداعضة - و هي عظم رأس الركبة - فلفظتها و رمت بها، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فبعث الله ملكاً فحمله و ردّه إلى موضعه قال: فجاءت إليه فقطعت مذاكيره، و قطعت اُذنيه، و قطعت يده و رجله و لم يبق مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أبودجّانة سماك بن خرشة و عليّ، فكلّما حملت طائفة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استقبلهم عليّ فدفعهم عنه حتّى تقطّع سيفه فدفع إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيفه ذاالفقار، و انحاز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ناحية اُحد فوقف فلم يزل عليّعليه‌السلام يقاتلهم حتّى أصابه في رأسه و وجهه و بدنه و بطنه و رجليه سبعون جراحة. - كذا أورده عليّ بن إبراهيم في تفسيره - فقال جبرائيل: إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد، فقال محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه منّي و أنا منه فقال جبرائيل: و أنا منكما.

قال أبوعبدالله: نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جبرائيل بين السماء و الأرض على

١١

كرسيّ من ذهب و هو يقول: لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا عليّ.

و في رواية القمّيّ و بقيت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسيبة بنت كعب المازنيّة - و كانت تخرج مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزواته تداوي الجرحى - و كان ابنها معها فأراد أن ينهزم و يتراجع فحملت عليه و قالت: يا بنيّ إلى أين تفرّ عن الله و عن رسوله، فردّته فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بارك الله فيك يا نسيبة. و كانت تقي رسول الله بصدرها و ثدييها حتّى أصابتها جراحات كثيرة.

و حمل ابن قمئة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: أروني محمّداً لا نجوت إن نجا، فضربه على حبل عاتقه، و نادى: قتلت محمّداً و اللّات و العزّى.

أقول: و في القصّة روايات اُخر ربّما تخالف هذه الرواية في بعض فقراتها.

منها: ما في هذه الرواية أن عدّة المشركين كانت خمسة آلاف فإنّ غالب الروايات أنّهم كانوا ثلاثة آلاف رجلاً.

و منها: ما فيها أنّ عليّاًعليه‌السلام قتل حاملي الراية و هم تسعة و يوافقها فيه روايات اُخر، و رواه ابن الأثير في الكامل عن أبي رافع، و بقيّة الروايات تنسب قتل بعضهم إلى غيرهعليه‌السلام و التدبّر في القصّة يؤيّد ما في هذه الرواية.

و منها: ما فيها أنّ هنداً أعطت وحشيّاً عهداً في قتل حمزة فإنّ ما روته أهل السنّة أنّ الّذي أعطاه العهد مولاه جبير بن مطعم وعده تحريره على الشرط، و إتيانه بكبد حمزة إلى هند دون جبير يؤيّد ما في هذه الرواية.

و منها: ما فيها أنّ جميع المسلمين تفرّقوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا عليّ و أبودجّانة و هو الّذي اتّفقت عليه الروايات، و في بعضها ذكر لغيرهما حتّى اُنهي من ثبت مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ثلاثين رجلاً لكنّ هذه الروايات ينفي بعضها ما في بعض، و عليك بالتدبّر في أصل القصّة و القرائن الّتي تبيّن الأحوال حتّى يخلص لك الحقّ، فإنّ هذه القصص و الروايات شهدت مواقف موافقة و مخالفة و مرّت بأجواء نيّرة و مظلمة حتّى انتهت إلينا.

١٢

و منها: ما فيها أنّ الله بعث ملكاً فحمل كبد حمزة فردّه إلى موضعه، و ليس في غالب الروايات، و في بعضها كما في الدرّ المنثور عن ابن أبي شيبة و أحمد و ابن المنذر عن ابن مسعود في حديث قال: ثمّ قال أبوسفيان: قد كان في القوم مثلة و إن كانت لعن غير ملاء منّا ما أمرت و لا نهيت، و لا أحببت و لا كرهت، و لا ساءني و لا سرّني، قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، و أخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أأكلت شيئاً؟ قالوا: لا. قال: ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة النار، الحديث.

و في روايات أصحابنا و غيرهم: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُصيب يومئذ بشجّة في جبهته، و كسرت رباعيّته: و اشتكت ثنيّته رماه مغيرة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن إسحاق، و عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن المنذر عن ابن شهاب، و محمّد بن يحيى بن حيّان، و عاصم بن عمرو بن قتادة، و الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، و غيرهم كلّ قد حدّث بعض الحديث عن يوم اُحد.

قالوا: لمّا اُصيب قريش أو من ناله منهم يوم بدر من كفّار قريش و رجع فلّهم إلى مكّة، و رجع أبوسفيان بعيره مشى عبدالله بن أبي ربيعة و عكرمة بن أبي جهل و صفوان بن اُميّة في رجال من قريش ممّن اُصيب آباؤهم و أبناؤهم و إخوانهم ببدر فكلموا أباسفيان بن حرب و من كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا: يا معشر قريش إنّ محمّداً قد وتركم و قتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلّنا ندرك منه ثاراً بمن أصاب، ففعلوا فأجمعت قريش لحرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خرجت بجدتها و جديدها، و خرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة و لئلّا يفرّوا، و خرج أبوسفيان و هو قائد الناس فأقبلوا حتّى نزلوا بعينين جبل ببطن السنجة من قناة على شفير الوادي ممّا يلي المدينة.

فلمّا سمع بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمون بالمشركين قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي رأيت بقراً تنحر، و رأيت في ذباب سيفي ثلماً، و رأيت أنّي أدخلت يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا المدينة و تدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشرّ مقام، و إن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.

١٣

و نزلت قريش منزلها اُحداً يوم الأربعاء فأقاموا ذلك اليوم و يوم الخميس و يوم الجمعة، و راح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين صلّى الجمعة فأصبح بالشعب من اُحد فالتقوا يوم السبت للنصف من شوّال سنة ثلاث.

و كان رأي عبدالله بن اُبيّ مع رأي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم، و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكره الخروج من المدينة فقال رجال من المسلمين - ممّن أكرم الله بالشهادة يوم اُحد و غيرهم ممّن كان فاته يوم بدر و حضوره -: يا رسول الله أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنّا جبنّا عنهم و ضعفنا فقال عبدالله بن اُبيّ: يا رسول الله أقم بالمدينة فلا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قطّ إلّا أصاب منّا، و لا دخلها علينا إلّا أصبنا منهم فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشرّ، و إن دخلوا قاتلهم النساء و الصبيان و الرجال بالحجارة من فوقهم، و إن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا، و لم يزل الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين كان من أمرهم حبّ لقاء القوم حتّى دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلبس لأمته، و ذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثمّ خرج عليهم و قد ندم الناس، وقالوا: استكرهنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتّى يقاتل.

فخرج رسول الله في ألف رجل من أصحابه حتّى إذا كانوا بالشوط بين المدينة و اُحد تحوّل عنه عبدالله بن أبي بثلث الناس، و مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى سلك في حرّة بني حارثة فذبّ فرس بذنبه فأصاب ذباب سيفه فاستلّه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - و كان يحبّ الفال و لا يعتاف - لصاحب السيف: شم سيفك فإنّي أرى السيوف ستستلّ اليوم، و مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى نزل بالشعب من اُحد من عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره و عسكره إلى اُحد، و تعبّأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقتال و هو في سبعمائة رجل.

و أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الرماة عبدالله بن جبير - و الرماة خمسون رجلاً - فقال: انضح عنّا الجبل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فأنت مكانك لنؤتينّ من قبلك، و ظاهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين درعين.

١٤

و في الدرّ المنثور، أيضاً عن ابن جرير عن السدّيّ في حديث: و خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اُحد في ألف رجل، و قد وعدهم الفتح أن يصبروا فرجع عبدالله بن اُبيّ في ثلاثمائة فتبعهم أبوجابر السلميّ يدعوهم فأعيوه، و قالوا له: ما نعلم قتالاً و لئن أطعتنا لترجعنّ معنا.

و قال:( إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ) ، و هم بنو سلمة و بنو حارثة همّوا بالرجوع حين رجع عبدالله بن اُبيّ فعصمهم الله، و بقي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سبعمائة.

أقول: بنو سلمة و بنو حارثة حيّان من الأنصار فبنو سلمة من الخزرج و بنو حارثة من الأوس.

و في المجمع: روى ابن أبي إسحاق و السدّيّ و الواقديّ و ابن جرير و غيرهم و قالوا: كان المشركون نزلوا باُحد يوم الأربعاء في شوّال سنة ثلاث من الهجرة، و خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم يوم الجمعة، و كان القتال يوم السبت النصف من الشهر، و كسرت رباعيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و شجّ في وجهه ثمّ رجع المهاجرون و الأنصار بعد الهزيمة و قد قتل من المسلمين سبعون، و شدّ رسول الله بمن معه حتّى كشفهم، و كان المشركون مثلوا بجماعة، و كان حمزة أعظم مثلة.

أقول: الروايات في قصّة اُحد كثيرة جدّاً و لم نرو من بينها فيما تقدّم و يأتي إلّا النزر اليسير الّذي يتوقّف عليها فهم معاني الآيات النازلة فيها، فالآيات في شأن القصّة أقسام:

منها: ما تتعرّض لفشل من فشل من القوم و تنازع أو همّ أن يفشل يومئذ.

و منها: ما نزل و لحنه العتاب و اللّوم على من انهزم و انكشف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد كان الله حرّم عليهم ذلك.

و منها: ما يتضمّن الثناء على من استشهد قبل انهزام الناس، و من ثبت و لم ينهزم و قاتل حتّى قتل.

و منها: ما يشتمل على الثناء الجميل على من ثبت إلى آخر الغزوة و قاتل و لم يقتل.

١٥

( سورة آل‏ عمران الآيات ١٣٠ - ١٣٨)

يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ( ١٣٠) وَاتّقُوا النّارَ الّتِي أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ( ١٣١) وَأَطِيعُوا اللّهَ وَالرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ( ١٣٢) وَسَارِعُوا إِلَى‏ مَغْفِرَةٍ مِن رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّماوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ( ١٣٣) الّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ( ١٣٤) وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلّا اللّهُ وَلَمْ يُصِرّوا عَلَى‏ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ١٣٥) أُولئِكَ جَزَاؤُهُم مَغْفِرَةٌ مِن رَبّهِمْ وَجَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ( ١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ( ١٣٧) هذَا بَيَانٌ لِلنّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتّقِينَ( ١٣٨)

( بيان)

آيات داعية إلى الخير، زاجرة عن الشرّ و السوء، و هي مع ذلك لا تفقد الاتّصال بما قبلها و لا ما بعدها من الآيات الشارحة لقصّة غزوة اُحد، و بيان ما كان في المؤمنين يومئذ من مساوي الحالات و الخصال المذمومة الّتي لا يرتضيها الله سبحانه، و هي الموجبة لما دبّ فيهم من الوهن و الضعف و معصية الله و رسوله، فالآيات من تتمّة الآيات النازلة في غزوة اُحد.

ثمّ هدايتهم إلى ما يأمنون به الوقوع في هذه الورطات المهلكة، و العقبات المردية و دعوتهم إلى تقوى الله و الثقة به و الثبات على طاعة الرسول، فهذه الآيات التسع خاصّة فيها ترغيب و تحذير، فهي ترغّب المؤمنين على المسارعة إلى الخير و هي الإنفاق في سبيل

١٦

الله في السرّاء و الضرّاء، و كظم الغيظ و العفو عن الناس، و يجمعها بثّ الإحسان و الخير في المجتمع، و الصبر على تحمّل الأذى و السوء، و الصفح عن الإساءة قبالة الإساءة، فهذه هي الطريقة الوحيدة الّتي تستحفظ بها حياة المجتمع و يشدّ بها عظمه فيقوم على ساق. و من لوازم هذا الإنفاق و الإحسان ترك الربا و لذلك بدأ به، و هو كالتوطئة للدعوة إلى الإحسان و الإنفاق، فقد مرّ في آيات الإنفاق و الربا من سورة البقرة أنّ الإنفاق بجميع طرقه من أعظم ما يعتمد عليه بنية المجتمع، و أنّه الّذي ينفخ روح الوحدة في المجتمع الإنسانيّ فتتّحد به قواه المتفرّقة فتنال بذلك سعادته في الحياة، و يقوى به على دفع كلّ آفة مهلكة أو موذية تقصده، و أنّ الربا من أعظم ما يضادّ الإنفاق في خاصّته هذه.

فهذا ما يرغّبهم الله فيه ثمّ يرغّبهم في أن لا ينقطعوا عن ربّهم بقواطع الذنوب و المعاصي فإن أتوا بما لا يرضاه لهم ربّهم تداركوه بالتوبة و الرجوع إليه ثانياً و ثالثاً من غير أن يكسلوا أو يتوانوا، و بهذين الأمرين يستقيم سيرهم في صراط الحياة السعيدة فلا يضلّون و لا يقفون فيهلكوا.

و هذا البيان كما ترى أحسن طريق يهدي به الإنسان إلى تكميل نفسه بعد ظهور النقص و أجود سبيل في علاج الرذائل النفسانيّة الّتي ربّما دبّت في النفوس المحلّاة بالفضائل فأورثت السفال و السقوط و هدّدت بالهلكة و الردى.

( تعليم القرآن و قرانه العلم بالعمل)

و هذا من دأب القرآن في تعليمه الإلهيّ إذ لم يزل يجعل في مدّة نزولها - و هي ثلاث و عشرون سنة - لكلّيّات تعاليمه موادّ أوّليّة حتّى إذا عمل بشي‏ء منها أخذ صورة العمل الواقع مادّة لتعليمهم ثانياً فألقاها إليهم بعد إصلاح الفاسد من أجزائه و تركيبه بالصحيح الباقي، و ذمّ الفاسد، و الثناء على الصحيح المستقيم و الوعد الجميل و الشكر الجزيل لفاعله، فكتاب الله العزيز كتاب علم و عمل لا كتاب فرض و تقدير، و لا كتاب تعمية و تقليد.

١٧

فمثله مثل المعلّم يلقي إلى تلامذته الكلّيّات العلميّة في أوجز بيان و أقصر لفظ و يأمرهم بالعمل بها ثمّ يأخذ ما عملوه ثانياً و يحلّله إلى أوائل أجزائه من صحيح و فاسد فيبيّن لهم موارد النقص و القصور مشفّعة بالعظة و الوعيد، و يمدح موارد الاستقامة و الصحّة و يقارنها بالوعد و الشكر و يأمرهم بالعمل ثانياً، و هذا فعاله حتّى يكملوا في فنّهم و يسعدوا في جدّهم.

و هذا الّذي ذكرناه من الحقائق القرآنيّة اللّائحة للمتدبّر الدقيق في بادئ مرّة فتراه سبحانه ينزّل كلّيّات الجهاد مثلاً في آياته بادئ مرة:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ ) الآيات البقرة : ٢١٦ و يأمر المؤمنين به فيها ثمّ يأخذ قصّة بدر ثانياً و يأمرهم بما يبيّن لهم فيها ثمّ قصّة اُحد ثمّ قصّة اُخرى و هكذا، و تراه سبحانه يقصّ قصص السابقين من الأنبياء و اُممهم ثمّ يجعلها بعد إصلاحها و بيان وجه الحقّ فيها عبرة للّاحقين و دستوراً لعملهم و هكذا، و قد نزّل في هذه الآيات من هذا القبيل قوله:( فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ) الآية، و قوله:( وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ ) الآيات.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا ) إلى آخر الآيات الثلاث قد مرّ سابقاً وجه إطلاق الأكل و إرادة الأخذ، و قوله:( أَضْعافاً مُضاعَفَةً ) يشير إلى الوصف الغالب في الربا فإنّه بحسّب الطبع يتضاعف فيصيّر المال أضعافاً مضاعفةً بإنفاد مال الغير و ضمّه إلى رأس المال الربويّ.

و في قوله:( وَ اتَّقُوا النَّارَ الّتي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ) ، إشارة إلى كفر آكل الربا كما مرّ في سورة البقرة في آيات الربا:( وَ الله لا يُحبّ كلّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) البقرة: ٢٧٦.

قوله تعالى: ( وسارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ ربّكمْ وَ جنّة ) ، المسارعة هي الاشتداد في السرعة و هي ممدوحة في الخيرات، و مذمومة في الشرور.

و قد قورن في القرآن الكريم المغفرة بالجنّة في غالب الموارد، و ليس إلّا لأنّ الجنّة دار طهارة لا يدخل فيها قذارات المعاصي و الذنوب و أدرانها، و لا من تقذّر بها إلّا بعد المغفرة و الإزالة.

و المغفرة و الجنّة المذكورتان في هذه الآية تحاذيان ما في الآيتين التاليتين، أمّا

١٨

المغفرة فتحاذي ما في قوله:( وَ الّذينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ) ، و أمّا الجنّة فتحاذي ما في قوله:( الّذينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ ) .

و أمّا قوله:( جنّة عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) ، فالمراد بالعرض السعة و هو استعمال شائع، و كأنّ التعبير كناية عن بلوغها في السعة غايتها أو ما لا يحدّها الوهم البشريّ، و له معنىّ آخر سنشير إليه في البحث الروائيّ الآتي.

و قوله:( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) كالتوطئة لذكر ما يذكره بعد من أوصاف المتّقين، فإنّ الغرض هو بيان الأوصاف الّتي ترتبط بحال المؤمنين في المقام أعني عند نزول هذه الآيات و قد نزلت بعد غزوة اُحد و قد جرى عليهم و منهم ما جرى من الضعف و الوهن و المخالفة، و هم مع ذلك مشرفون على غزوات اُخر مثلها، و حوادث تشابهها، و بهم حاجة إلى الاتّحاد و الاتّفاق و التلاؤم.

قوله تعالى: ( الّذينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ ) إلى آخر الآية السرّاء و الضرّاء ما يسرّ الإنسان و ما يسوؤه أو اليسر و العسر، و الكظم في الأصل هو شدّ رأس القربة بعد ملئها فاستعير للإنسان إذا امتلأ حزناً أو غضباً، و الغيظ هيجان الطبع للانتقام بمشاهدة كثرة ما لا يرتضيه، بخلاف الغضب فهو إرادة الانتقام أو المجازاة، و لذلك يقال: غضب الله و لا يقال: اغتاظ.

و في قوله:( وَ الله يُحبّ الْمُحسنينَ ) ، إشارة إلى أنّ ما ذكره من الأوصاف معرّف لهم، و إنّما هو معرّف للمحسنين في جنب الناس بالإحسان إليهم، و أمّا في جنب الله فمعرّفهم ما في قوله تعالى:( وَ بُشْرى‏ لِلْمُحسنينَ إِنَّ الّذينَ قالُوا رَبُّنَا الله ثمّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) الآيات الأحقاف: ١٣ بل هذا الإحسان المذكور في هذه الآيات هو المحتد للمذكور في قوله:( الّذينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ ) ، الآية فإنّ الإنفاق و نحوه إذا لم يكن لوجه الله لم يكن له منزلة عند الله سبحانه على ما يدلّ عليه قوله تعالى فيما سبق من الآيات:( ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الآية و غيره.

و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى:( وَ الّذينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ

١٩

الله لَمَعَ الْمُحسنينَ ) العنكبوت: ٦٩، فإنّ هذا الجهاد هو بذل الجهد و لا يكون إلّا فيما يخالف هوى النفس و مقتضى الطبع، و لا يكون إلّا إذا كان عندهم إيمان باُمور يقتضي الجري على مقتضاها، و الثبات عليها مقاومة بإزاء ما يحبّه طبع الإنسان و يشتهيه نفسه، و لازمه بحسب القول و الاعتقاد أن يكونوا قائلين ربّنا الله و هم مستقيمون عليه، و بحسب العمل أن يقيموا هذا القول بالجهاد في عبادة الله فيما بينهم و بين الله، و بالإنفاق و حسن العشرة فيما بينهم و بين الناس، فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ الإحسان إتيان الأعمال على وجه الحسن من جهة الاستقامة و الثبات على الإيمان بالله سبحانه.

قوله تعالى: ( الّذينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) إلى قوله:( وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) الفاحشة ما تتضمّن الفحش و القبيح من الأفعال، و شاع استعماله في الزنا، فالمراد بالظلم بقرينة المقابلة سائر المعاصي الكبيرة و الصغيرة، أو خصوص الصغائر على تقدير أن يراد بالفاحشة المنكر من المعاصي و هي الكبائر، و في قوله:( ذَكَرُوا الله ) إلخ دلالة على أنّ الملاك في الاستغفار أن يدعو إليه ذكر الله تعالى دون مجرّد التلفّظ باعتياد و نحوه، و قوله: وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا الله تشويق و إيقاظ لقريحة اللّواذ و الالتجاء في الإنسان.

و قوله:( وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) ، إنّما قيّد به الاستغفار لأنّه يورث في النفس هيئةً لا ينفع معه ذكر مقام الربّ تعالى و هي الاستهانة بأمر الله، و عدم المبالاة بهتك حرماته، و الاستكبار عليه تعالى، و لا تبقى معه عبوديّة و لا ينفع معه ذكر، و لذلك بعينه قيده بقوله:( وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) ، و هذه قرينة على كون الظلم في صدر الآية يشمل الصغائر أيضاً، و ذلك أنّ الإصرار على الذنب يستوجب الاستهانة بأمر الله و التحقير لمقامه سواء كان الذنب المذكور من الصغائر أو الكبائر، فقوله: ما فَعَلُوا أعمّ من الكبيرة، و المراد بما فعلوا هو الّذي ذكر في صدر الآية، و إذ ليست الصغيرة فاحشة فهو ظلم النفس لا محالة.

و قوله:( أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ ) بيان لأجرهم الجزيل، و ما ذكره تعالى في هذه الآية هو عين ما أمر بالمسارعة إليه في قوله:( وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ ربّكمْ وَ جنّة ) إلخ

٢٠