الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134563 / تحميل: 6222
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الجمع بين تسع نسوة لأنّ مجموع الاثنتين و الثلاث و الأربع تسع، و قد ذكر في المجمع: أنّ الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتّة فإنّ من قال: دخل القوم البلد مثنى و ثلاث و رباع لم يلزم منه اجتماع الأعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة، و لأنّ لهذا العدد لفظاً موضوعاً و هو تسع فالعدول عنه إلى مثنى و ثلاث و رباع نوع من العيّ - جلّ كلامه عن ذلك و تقدّس -.

قوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) أي فانكحوا واحدةً لا أزيد، و قد علّقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لأنّ العلم في هذه الاُمور - و لتسويل النفس فيها أثر بيّن - لا يحصل غالباً فتفوت المصلحة.

قوله تعالى: ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) و هي الإماء فمن خاف إلّا يقسط فيهنّ فعليه أن ينكح واحدة، و إن أحبّ أن يزيد في العدد فعليه بالإماء إذ لم يشرّع القسم في الإماء.

و من هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الإماء بتجويز الظلم و التعدّي عليهنّ فإنّ الله لا يحبّ الظالمين و ليس بظلّام للعبيد بل لمّا لم يشرع القسم فيهنّ فأمر العدل فيهنّ أسهل، و لهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتّخاذهنّ و إتيانهنّ بملك اليمين دون نكاحهنّ بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فإنّ مسألة نكاحهنّ سيتعرّض لها في ما سيجي‏ء من قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) الآية: النساء: ٢٥.

قوله تعالى: ( ذلِكَ أَدْنى‏ إلّا تَعُولُوا ) العول هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرّعت أقرب من إلّا تميلوا عن العدل و لا تتعدّوا عليهنّ في حقوقهنّ، و ربّما قيل: إنّ العول بمعنى الثقل و هو بعيد لفظاً و معنى.

و في ذكر هذه الجملة الّتي تتضمّن حكمة التشريع دلالة على أنّ أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط و نفي العول و الإجحاف في الحقوق.

قوله تعالى: ( وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) الصدقة بضمّ الدال و فتحها و الصداق هو المهر، و النحلة هي العطيّة من غير مثامنة.

١٨١

و في إضافة الصدقات إلى ضمير هنّ دلالة على أنّ الحكم بوجوب الإيتاء مبنيّ على المتداول بين الناس في سنن الازدواج من تخصيص شي‏ء من المال أو أيّ شي‏ء له قيمة مهراً لهنّ كأنّه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإنّ المتداول بين الناس أن يكون الطالب الداعي للازدواج هو الرجل على ما سيأتي في البحث العلميّ التالي، و هو الخطبة كما أنّ المشتري يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته، و كيف كان ففي الآية إمضاء هذه العادة الجارية عند الناس.

و لعلّ إمكان توهّم عدم جواز تصرّف الزوج في المهر أصلاً حتّى برضي من الزوجة هو الموجب للإتيان بالشرط في قوله:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) مع ما في اشتراط الأكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم، و الدلالة على أنّ الحكم وضعيّ لا تكليفيّ.

و الهناء سهولة الهضم و قبول الطبع و يستعمل في الطعام، و المري من الريّ و هو في الشراب كالهني‏ء في الطعام غير أنّ الهناء يستعمل في الطعام و الشراب معاً، فإذا قيل: هنيئاً مريئاً اختصّ الهناء بالطعام و الريّ بالشراب.

قوله تعالى: ( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الّتي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً ) السفه خفّة العقل، و كأنّ الأصل في معناه مطلق الخفّة فيما من شأنه أن لا يخفّ و منه الزمام السفيه أي كثير الاضطراب و ثوب سفيه أي ردي‏ء النسج ثمّ غلب في خفّة النفس و اختلف باختلاف الأغراض و المقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الاُمور الدنيويّة و سفيه للفاسق غير المبالي في أمر دينه و هكذا.

و ظاهر ما يتراءى من الآية أنّه نهي عن الإكثار في الإنفاق على السفهاء و إعطائهم من المال أزيد من حاجاتهم الضروريّة في الارتزاق، غير أنّ وقوع الآية في سياق الكلام في أموال اليتامى الّتي يتولّى أمر إدارتها و إنّمائها الأولياء قرينة معيّنة على كون المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى، و أنّ المراد بقوله: أَمْوالَكُمُ، في الحقيقة أموالهم اُضيف إلى الأولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضاً قوله بعد: وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ، و إن كان و لا بدّ من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى، فالمراد بالسفهاء ما يعمّ اليتيم و غير اليتيم لكنّ الأوّل أرجح.

١٨٢

و كيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى، فالمراد بقوله: أَمْوالَكُمُ، أموال اليتامى و إنّما اُضيفت إلى الأولياء المخاطبين بعناية أنّ مجموع المال و الثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها و إنّما اختصّ بعض أفراد المجتمع ببعض منه و آخر بآخر للصلاح العامّ الّذي يبتني عليه أصل الملك و الاختصاص فيجب أن يتحقّق الناس بهذه الحقيقة و يعلموا أنّهم مجتمع واحد و المال كلّه لمجتمعهم، و على كلّ واحد منهم أن يكلأه و يتحفّظ به و لا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة، و تدبير كلّ من لا يحسن التدبير كالصغير و المجنون، و هذا من حيث الإضافة كقوله تعالى:( وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ ) النساء: ٢٥، و من المعلوم أنّ المراد بالفتيات ليس الإماء اللّاتي يملكها من يريد النكاح.

ففي الآية دلالة على حكم عامّ موجّه إلى المجتمع و هو أنّ المجتمع ذو شخصيّة واحدة له كلّ المال الّذي أقام الله به صلبه و جعله له معاشاً فيلزم على المجتمع أن يدبّره و يصلحه و يعرضه معرض النماء و يرتزق به ارتزاقاً معتدلّاً مقتصداً و يحفظه عن الضيعة و الفساد، و من فروع هذا الأصل أنّه يجب على الأولياء أن يتولّوا أمر السفهاء فلا يؤتوهّم أموالهم فيضيّعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها عنهم و يصلحوا شأنها، و ينموها بالكسب و الاتّجار و الاسترباح و يرزقوا اُولئك السفهاء من فوائدها و نمائها دون أصلها حتّى لا ينفد رويداً رويداً و ينتهي إلى مسكنة صاحب المال و شقوته.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله: وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ، أن يرتزق السفيه في المال بأن يعيش من نمائه و نتاجه و أرباحه لا من المال بأن يشرع في الأكل من أصله على ركود منه من غير جريان و دوران فينفد عن آخره، و هذه هي النكتة في قوله:( فِيها ) دون أن يقول:( منها ) كما ذكره الزمخشريّ.

و لا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أنّ الله لا يرضى بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الإسلاميّ تولّي أمرهم فإن كان هناك واحد من الأولياء الأقربين كالأب و الجدّ فعليه التولّي و المباشرة، و إلّا فعلى الحكومة الشرعيّة أو على المؤمنين أن يقوموا بالأمر على التفصيل المذكور في الفقه.

١٨٣

( كلام في أنّ جميع المال لجميع الناس)

هذه حقيقة قرآنيّة هي أصل لأحكام و قوانين هامّة في الإسلام أعني ما تفيده هذه الآية: أنّ المال لله ملكاً حقيقيّاً جعله قياماً و معاشاً للمجتمع الإنسانيّ من غير أن يقفه على شخص دون شخص وقفاً لا يتغيّر و لا يتبدّل و هبة تنسلب معها قدرة التصرّف التشريعيّ ثمّ أذن في اختصاصهم بهذا الّذي خوّله الجميع على طبق نسب مشرّعة كالوراثة و الحيازة و التجارة و غير ذلك و شرط لتصرّفهم اُموراً كالعقل و البلوغ و نحو ذلك.

و الأصل الثابت الّذي يراعى حاله و يتقدّر به فروعه هو كون الجميع للجميع، فإنّما تراعى المصالح الخاصّة على تقدير انحفاظ المصلحة العامّة الّتي تعود إلى المجتمع و عدم المزاحمة، و أمّا مع المزاحمة و المفاوتة فالمقدّم هو صلاح المجتمع من غير تردّد.

و يتفرّع على هذا الأصل الأصيل في الإسلام فروع كثيرة هامّة كأحكام الإنفاق و معظم أحكام المعاملات و غير ذلك، و قد أيّده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله تعالى:( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جميعاً ) البقرة: ٢٩، و قد أوردنا بعض الكلام المتعلّق بهذا المقام في البحث عن آيات الإنفاق من سورة البقرة فليراجع هناك.

قوله تعالى: ( وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) قد تقدّم استيفاء الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى:( وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حساب ) آل عمران: ٢٧.

و قوله:( وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ ) ، كقوله:( وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ ) البقرة: ٢٣٣، فالمراد بالرزق هو الغذاء الّذي يغتذي به الإنسان و الكسوة ما يلبسه ممّا يقيه الحرّ و البرد (غير أنّ لفظ الرزق و الكسوة في عرف القرآن كالكسوة و النفقة في لساننا) كالكناية تكنّى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الإنسان المادّيّة الحيويّة فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الإنسان كالمسكن و نحوه كما أنّ الأكل ذو معنى خاصّ

١٨٤

بحسب أصله ثمّ يكنّى به عن مطلق التصرّفات كقوله:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) الآية.

و أمّا قوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) فإنّما هو كلمة أخلاقيّة يصلح بها أمر الولاية فإنّ هؤلاء و إن كانوا سفهاء محجورين عن التصرّف في أموالهم غير أنّهم ليسوا حيواناً أعجم و لا من الأنعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الإنسان فيكلّموا بما يكلّم به الإنسان لا بالمنكر من القول و يعاشروا بما يعاشر به الإنسان.

و من هنا يظهر أنّ من الممكن أن يكون قوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) . كناية عن المعاملة الحسنة و المعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى:( وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حسناً ) البقرة: ٨٣.

قوله تعالى: ( وَ ابْتَلُوا الْيَتامى‏ حتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ ) إلى قوله:( أَمْوالَهُمْ ) الابتلاء الامتحان و المراد من بلوغ النكاح بلوغ أوانه ففيه مجاز عقليّ و الإيناس المشاهدة و فيه شوب من معنى الاُلفة فإنّ مادّته الاُنس، و الرشد خلاف الغيّ و هو الاهتداء إلى مقاصد الحياة، و دفع مال اليتيم إليه كناية عن إعطائه إيّاه و إقباضه له كأنّ الوليّ يدفعه إليه و يبعّده من نفسه فهو على ابتذاله كناية لطيفة.

و قوله: حتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، متعلّق بقوله: وَ ابْتَلُوا، ففيه دلالة ما على الاستمرار بأن يشرع الوليّ في ابتلائه من أوّل ما يأخذ في التمييز و يصلح للابتلاء حتّى ينتهي إلى أوان النكاح و يبلغ مبلغ الرجال، و من طبع هذا الحكم ذلك فإنّ إيناس الرشد لا يحصل بابتلاء الصبيّ في واقعة أو واقعتين بل يجب تكراره إلى أن يحصل الإيناس و يتمشّى بالطبع في مدّة مديدة حتّى يبلغ الرهاق ثمّ النكاح.

و قوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ إلخ تفريع على قوله: وَ ابْتَلُوا و المعنى: و امتحنوهم فإن آنستم منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم و الكلام يؤذن بأنّ بلوغ النكاح بمنزلة المقتضي لدفع المال إلى اليتيم و استقلاله بالتصرّف في مال نفسه و الرشد شرط لنفوذ التصرّف، و قد فصّل الإسلام النظر في أمر البلوغ من الإنسان فاكتفى في أمر العبادات و أمثال الحدود و الديات بمجرّد السنّ الشرعيّ الّذي هو سنّ النكاح و اشترط في نفوذ التصرّفات الماليّة

١٨٥

و الأقارير و نحوها ممّا تفصيل بيانه في الفقه مع بلوغ النكاح الرشد، و ذلك من لطائف سلوكه في مرحلة التشريع فإنّ إهمال أمر الرشد و إلغاءه في التصرّفات الماليّة و نحوها ممّا يختلّ به نظام الحياة الاجتماعيّة في قبيل الأيتام و يكون نفوذ تصرّفاتهم و أقاريرهم مفضياً إلى غرور الأفراد الفاسدة إيّاهم و إخراج جميع وسائل الحياة من أيديهم بأدنى وسيلة بالكلمات المزيفة و المواعيد الكاذبة و المعاملات الغرريّة إلى ذلك فالرشد لا محيص من اشتراطه في هذا النوع من الاُمور، و أمّا أمثال العبادات فعدم الحاجة فيها إلى الاشتراط ظاهر، و كذا أمثال الحدود و الديات فإنّ إدراك قبح هذه الجنايات و المعاصي و فهم وجوب الكفّ عنها لا يحتاج فيه إلى الرشد بل الإنسان يقوى على تفهّم ذلك قبله و لا يختلف حاله في ذلك قبل الرشد و بعده.

قوله تعالى: ( وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ) اه الإسراف هو التعدّي عن الاعتدال في العمل، و البدار هو المبادرة إلى الشي‏ء و قوله: وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا في معنى حذر أن يكبروا فلا يدعوكم أن تأكلوا، و حذف النفي أو ما في معناه قبل أن و أنّ قياسيّ على ما ذكره النحاة قال تعالى:( يبيّن الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) النساء: ١٧٦، أي لئلّا تضلّوا أو حذر أن تضلّوا.

و التقابل الواقع بين الأكل إسرافاً و الأكل بداراً أن يكبروا يعطي أن الأكل إسرافاً هو التعدّي إلى أموالهم من غير حاجة و لا شائبة استحقاق بل إجحافاً من غير مبالاة و الأكل بداراً أن يأكل الوليّ منها مثل ما يعدّ اُجرة لعمله فيها عادة غير أنّ اليتيم لو كبر أمكن أن يمنعه عن مثل هذا الأكل فالجميع ممنوع إلّا أن يكون الوليّ فقيراً لا محيص له من أن يشتغل بالاكتساب لسدّ جوعة أو يعمل لليتيم و يسدّ حاجته الضروريّة من ماله و هذا بالحقيقة يرجع إلى ما يأخذ العامل للتجارة و البناية و نحوهما و هو الّذي ذكره بقوله: مَنْ كانَ غَنِيًّا أي لا يحتاج في معاشه إلى الأخذ من مال اليتيم فَلْيَسْتَعْفِفْ أي ليطلب طريق العفّة و ليلزمه فلا يأخذ من أموالهم وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ منها بِالْمَعْرُوفِ، و ذكر بعض المفسّرين أنّ المعنى: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ من مال نفسه لا من أموالهم و هو لا يلائم التفصيل بين الغنيّ و الفقير.

١٨٦

و أمّا قوله تعالى:( فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) فتشريع للاستشهاد عند الدفع تحكيماً للأمر و رفعاً لغائلة الخلاف و النزاع فمن الممكن أن يدّعي اليتيم بعد الرشد و أخذ المال من الوليّ عليه، ثمّ ذيل الجميع بقوله تعالى: وَ كَفى‏ بِالله حسيباً ربطاً للحكم بمنشأه الأصليّ الأوّليّ أعني محتد كلّ حكم من أسمائه و صفاته تعالى فإنّه تعالى لمّا كان حسيباً لم يكن ليخلّي أحكام عباده من غير حساب دقيق و هو تشريعه المحكم، و تتميماً للتربية الدينيّة الإسلاميّة فإنّ الإسلام يأخذ في تربية الناس على أساس التوحيد إذ الإشهاد و إن كان رافعاً غالباً للخلاف و النزاع لكن ربّما تخلّف عنه لانحراف من الشهود في عدالتهم أو غير ذلك من متفرّقات العوامل لكنّ السبب المعنويّ العالي القويّ هو تقوى الله الّذي كفى به حسيباً فلو جعل الوليّ و الشهود و اليتيم الّذي دفع إليه المال هذا المعنى نصب أعينهم لم يقع هناك اختلاف و لا نزاع البتّة.

فانظر إلى الآيتين كيف أبدعتا في البيان فقد بيّنتا أوّلاً رؤس مسائل الولاية على أموال اليتامى و المحجور عليهم و مهمّاتها: من كيفيّة الأخذ و الحفظ و الإنماء و التصرّف و الردّ و وقت الأخذ و الدفع و تحكيم مبناه ببيان وجه المصلحة العامّة في ذلك كلّه و هو أنّ المال لله جعله قياماً للإنسان على ما تقدّم بيانه.

و ثانياً الأصل الأخلاقيّ الّذي يربّي الإنسان على وفق هذه الشرائع و هو الّذي ذكره تعالى بقوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) .

و ثالثاً ببناء الجميع على أصل التوحيد الحاكم بوحدته في جميع الأحكام العمليّة و الأخلاقيّة و الباقي على حسن تأثيره في جميع الموارد لو فرض ضعف الأحكام العمليّة و الدستورات الأخلاقيّة من حيث الأثر، و هو الّذي ذكره بقوله: وَ كَفى‏ بِالله حسّيباً.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ ) الآية أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إنّ رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلمّا

١٨٧

بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه فخاصّمه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية: وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ‏، الحديث.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام : لا يحلّ لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر.

و في الكافي، عنهعليه‌السلام : إذا جمع الرجل أربعاً فطلق إحداهنّ فلا يتزوّج الخامسة حتّى تنقضي عدّة المرأة الّتي طلّق.

أقول: و الروايات في الباب كثيرة.

و في العلل، بإسناده عن محمّد بن سنان: أنّ الرضاعليه‌السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علّة تزويج الرجل أربع نسوة و تحريم أن تتزوّج المرأة أكثر من واحد لأنّ الرجل إذا تزوّج أربع نسوة كان الولد منسوباً إليه، و المرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو؟ إذ هم مشتركون في نكاحها و في ذلك فساد الأنساب و المواريث و المعارف، قال محمّد بن سنان: و من علل النساء الحرائر(١) و تحليل أربع نسوة لرجل واحد أنّهنّ أكثر من الرجال فلمّا نظر - و الله أعلم - يقول الله عزّوجلّ:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) ، فذلك تقدير قدّره الله تعالى ليتّسع فيه الغنيّ و الفقير فيتزوّج الرجل على قدر طاقته، الحديث.

و في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : في حديث قال: و الغيرة للرجال، و لذلك حرّم على المرأة إلّا زوجها و أحلّ للرجل أربعاً فإنّ الله أكرم من أن يبتليهنّ بالغيرة و يحلّ للرجل معها ثلاثاً.

أقول: و يوضح ذلك أنّ الغيرة هي إحدى الأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة و هي تغيّر الإنسان عن حاله المعتاد، و نزوعه إلى الدفاع و الانتقام عند تعدّي الغير إلى بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عرض أو جاه و يعتقد كرامته عليه، و هذه الصفة الغريزيّة لا يخلو عنها في الجملة إنسان أيّ إنسان فرض فهي من فطريّات الإنسان، و الإسلام دين مبنيّ على الفطرة تؤخذ فيه الاُمور الّتي تقضي بها فطرة الإنسان فتعدّل بقصرها فيما هو صلاح الإنسان في حياته، و يحذف عنها ما لا حاجة إليه فيها من وجوه الخلل

____________________

(١) كذا في النسخ.

١٨٨

و الفساد كما في اقتناء المال و المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و غير ذلك.

فإذا فرض أنّ الله سبحانه أحلّ للرجل مع المرأة الواحدة ثلاثاً اُخري - و الدين مبنيّ على رعاية حكم الفطرة - كان لازم ذلك أن يكون ما يتراءى من حال النساء و تغيّرهنّ على الرجال في أمر الضرائر حسداً منهنّ لا غيرة و سيتّضح مزيد اتّضاح في البحث الآتي عن تعدّد الزوجات أنّ هذا الحال حال عرضيّ طار عليهنّ لا غريزيّ فطريّ.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن الصادقعليه‌السلام قال: لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته، و لا المرأة فيما تهب لزوجها جيزت أو لم تجز أ ليس الله تبارك و تعالى يقول: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا ممّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئاً؟ و قال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً؟ و هذا يدخل في الصداق و الهبة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن القداح عن أبي عبدالله عن أبيهعليهما‌السلام قال: جاء رجل إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أميرالمؤمنين بي وجع في بطني فقال له أميرالمؤمنينعليه‌السلام أ لك زوجة؟ قال: نعم قال استوهب منها شيئاً طيّبة به نفسها من مالها ثمّ اشتر به عسلاً ثمّ اسكب عليه من ماء السماء ثمّ اشربه فإنّي سمعت الله يقول في كتابه:( وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ) ، و قال:( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ) ، و قال:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) ، شفيت إن شاء الله تعالى، قال: ففعل ذلك فشفي.

أقول: و رواه أيضاً في الدرّ المنثور عن عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنهعليه‌السلام و هو نوع من الاستفادة لطيف، و بناؤه على التوسعة في المعنى و يوجد له نظائر في الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام سنورد بعضها في الموارد المناسبة له.

و في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام : إذا حدّثتكم بشي‏ء فاسألوني من كتاب الله، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن القيل و القال، و فساد المال، و كثيرة السؤال، فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إنّ الله عزّوجلّ يقول:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ، و قال:( وَ لا

١٨٩

تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الّتي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً ) ، و قال:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) ، قال: من لا تثق به.

و فيه، عن إبراهيم بن عبد الحميد قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن هذه الآية( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال: كلّ من يشرب الخمر فهو سفيه.

و فيه، عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال: هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتّى تعرفوا منهم الرشد فقلت: فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ قال: إذا كنت أنت الوارث لهم.

و في تفسير القمّيّ، عن الباقرعليه‌السلام : في الآية: فالسفهاء النساء و الولد إذا علم الرجل أنّ امرأته سفيهة مفسدة و ولده سفيه مفسد لم ينبغ له أن يسلّط واحداً منهما على ماله الّذي جعل الله له قياماً يقول: معاشاً الحديث.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و هي تؤيّد ما قدّمناه أنّ للسفه معنى وسيع ذو مراتب كالسفيه المحجور عليه و الصبيّ قبل أن يرشد و المرأة المتلهّية المتهوّسة و شارب الخمر و مطلق من لا تثق به، و بحسب اختلاف هذه المصاديق يختلف معنى إيتاء المال، و كذا معنى إضافة( أموالكم) و عليك بالتطبيق و الاعتبار.

و قوله في رواية ابن أبي حمزة: إذا كنت أنت الوارث لهم إشارة إلى ما قدّمناه أنّ المال كلّه للمجتمع بحسب الأصل ثمّ لكلّ من الأشخاص ثانياً و للمصالح الخاصّة فإنّ اشتراك المجتمع في المال أوّلاً هو الموجب لانتقاله من واحد إلى آخر.

و في الفقيه، عن الصادقعليه‌السلام : انقطاع يتمّ اليتيم الاحتلام و هو أشدّه، و إن احتلم و لم يؤنس منه رشد و كان سفيهاً أو ضعيفاً فليمسك عنه ولّيه ماله.

و فيه، عنهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ ابْتَلُوا الْيَتامى) الآية قال: إيناس الرشد حفظ المال.

أقول: و قد تقدّم وجه دلالة الآية عليه.

و في التهذيب، عنهعليه‌السلام : في قول الله:( وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال: فذاك

١٩٠

رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فإن كان المال قليلاً فلا يأكل منه شيئاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و أبوداود و النسائيّ و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و النحّاس في ناسخه عن ابن عمر: أنّ رجلاً سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ليس لي مال و لي يتيم فقال: كلّ من مال يتيمك غير مسرف و لا مبذر و لا متأثّل مالاً و من غير أن تقي مالك بماله.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أهل البيتعليهم‌السلام و غيرهم، و هناك مباحث فقهيّة و أخبار ناظرة إليها من أرادها فعليه بجوامع الحديث و كتب الفقه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن رفاعة عنهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) ، قالعليه‌السلام : كان أبي يقول: إنّها منسوخة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوداود و النحّاس كلاهما في الناسخ و ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عبّاس:( وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال: نسختها:( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً ) الآية.

أقول: و كون الآية منسوخة لا يلائم ميزان النسخ إذ ليس بين الآيات الكريمة ما نسبتها إلى هذه الآية نسبة الناسخة إلى المنسوخة، و أمّا قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً) الآية فهو لا ينافي بمضمونه مضمون هذه الآية فإنّ الأكل في هذه الآية المجوّزة مقيّد بالمعروف، و في تلك الآية المحرّمة بالظلم و لا تنافي بين تجويز الأكل بالمعروف و تحريم الأكل ظلماً، فالحقّ أنّ الآية غير منسوخة، و الروايتان لا توافقان الكتاب على ما فيهما من الضعف.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن المغيرة عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام : في قول الله:( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) قال: فقال: إذا رأيتموهم يحبّون آل محمّد فارفعوهم درجة.

أقول: و هو من الجري من باطن التنزيل فإنّ أئمّة الدين آباء المؤمنين و المؤمنون

١٩١

أيتام المعارف عند انقطاعهم عنهم فإذا صحّ انتسابهم إليهم بالحبّ فليرفعوا درجة بتعليم المعارف الحقّة الّتي هي ميراث آبائهم.

( بحث علميّ في فصول ثلاثة)

١- النكاح من مقاصد الطبيعة: أصل التواصل بين الرجل و المرأة ممّا تبيّنه الطبيعة الإنسانيّة بل الحيوانيّة بأبلغ بيانها، و الإسلام دين الفطرة فهو مجوّزه لا محالة.

و أمر الإيلاد و الإفراخ الّذي هو بغية الطبيعة و غرض الخلقة في هذا الاجتماع هو السبب الوحيد و العامل الأصليّ في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج و إخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد و المقاربة إلى شكل النكاح و الملازمة و لهذا ترى أنّ الحيوان الّذي يشترك في تربيته الوالدان معاً كالطيور في حضانة بيضها و تغذية أفراخها و تربيتها و كالحيوان الّذي يحتاج في الولادة و التربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائه و حفظه إلى معاونة الذكور يختار لهذا الشأن الازدواج و هو نوع من الملازمة و الاختصاص بين الزوجين الذكور و الإناث منه فيتواصلان عندئذ و يتشاركان في حفظ بيض الإناث و تدبيرها و إخراج الأفراخ منها و هكذا إلى آخر مدّة تربية الأولاد ثمّ ينفصلان إن انفصلا ثمّ يتجدّد الازدواج و هكذا فعامل النكاح و الازدواج هو الإيلاد و تربية الأولاد و أمّا إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الأعمال الحيويّة كالكسب و جمع المال و تدبير الأكل و الشرب و الأثاث و إدارة البيت فاُمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة و الخلقة و إنّما هي اُمور مقدّمية أو فوائد مترتّبة.

و من هنا يظهر أنّ الحرّيّة و الاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كلّ من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد و مهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الّذي ينزو الذكور منه على الإناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنّة الجارية بين الملل المتمدّنة اليوم و كذا الزنا و خاصّة زنا المحصنة منه.

١٩٢

و كذا تثبيت الازدواج الواقع و تحريم الطلاق و الانفصال بين الزوجين، و ترك الزوج و اتّخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما.

و كذا إلغاء التوالد و تربية الأولاد و بناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزليّة على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية و نظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامّة المعدّة للرضاع و التربية كلّ ذلك على خلاف سنّة الطبيعة و قد جهّز الإنسان بما ينافي هذه السنن الحديثة على ما مرّت الإشارة إليه.

نعم الحيوان الّذي لا حاجة في ولادته و تربيته إلى أزيد من حمل الاُمّ إيّاه و إرضاعها له و تربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعيّة فيه إلى الازدواج و المصاحبة و الاختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرّيّة السفاد بمقدار ما لا يضرّ بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل.

و إيّاك أن تتوهّم أنّ الخروج عن سنّة الخلقة و ما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر و الرويّة مع ما فيه من لذائذ الحياة و التنعّم، فإنّ ذلك من أعظم الخبط فإنّ هذه البنيات الطبيعيّة الّتي منها البنية الإنسانيّة مركّبات مؤلّفة من أجزاء كثيرة تستوجب بوقوع كلّ في موقعه الخاصّ على شرائطه المخصوصة به وضعاً هو الملائم لغرض الطبيعة و الخلقة و هو المناسب لكمال النوع كالمعاجين و المركّبات من الأدوية الّتي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف و مقادير و أوزان و شرائط خاصّة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصّة أدنى خروج و انحراف سقط الأثر.

فالإنسان مثلاً موجود طبيعيّ تكوينيّ ذو أجزاء مركّبة تركيباً خاصّاً يستتبع أوصافاً داخليّة و خواصّ روحيّة تستعقب أفعالاً و أعمالاً فإذا حوّل بعض أفعاله و أعماله من مكانته الطبيعيّة إلى غيرها يستتّبع ذلك انحرافاً و تغيّراً في صفاته و خواصّه الروحيّة و انحرف بذلك جميع الخواصّ و الصفات عن مستوى الطبيعة و صراط الخلقة و بطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعيّ و الغاية الّتي يبتغيها بحسب الخلقة.

و إذا بحثنا في المصائب العامّة الّتي تستوعب اليوم الإنسانيّة و تحبط أعمال الناس و مساعيهم لنيل الراحة و الحياة السعيدة و تهدّد الإنسانيّة بالسقوط و الانهدام وجدنا

١٩٣

أنّ أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى و تمكّن الخرق و القسوة و الشدّة و الشره من نفوس الجوامع البشريّة و أعظم أسبابه و علله الحرّيّة و الاسترسال و الإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجيّة و تربية الأولاد فإنّ سنّة الاجتماع المنزليّ و تربية الأولاد اليوم تميت قرائح الرأفة و الرحمة و العفّة و الحياة و التواضع من الإنسان من أوّل حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش.

و أمّا تدارك هذه النواقص بالفكر و الرويّة فهيهات ذلك فإنّما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينيّة اتّخذتها الطبيعة وسيلة لردّ ما خرج و انحرف عن صراط الطبيعة و التكوين إليه لا لإبطال سعي الطبيعة و الخلقة و قتلها بنفس السيف الّذي أعطته للإنسان لدفع الشرّ عنها، و لو استعمل الفكر الّذي هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شؤون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضاً فاسدة منحرفة كسائر الوسائل، و لذلك ترى أنّ الإنسان اليوم كلّما أصلح بقوّة فكره واحداً من المفاسد العامّة الّتي تهدّد اجتماعه أنتج ذلك ما هو أمرّ و أدهى و زاد البلاء و المصيبة شيوعاً و شمولاً.

نعم ربّما قال القائل من هؤلاء: إنّ الصفات الروحيّة الّتي تسمّى فضائل نفسانيّة هي بقايا من عهد الأساطير و التوحّش لا تلائم حياة الإنسان الراقي اليوم كالعفّة و السخاء و الحياء و الرأفة و الصدق فإنّ العفّة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه، و السخاء إبطال لسعي الإنسان في جمعه المال و ما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنّه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب و بسط يده لذلّ السؤال، و الحياء لجام يلجم الإنسان عن مطالبة حقوقه و إظهار ما في ضميره، و الرأفة تضعّف القلب، و الصدق لا يلائم الحياة اليوميّة، و هذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الّذي ذكرناه.

و لم يدر هذا القائل أنّ هذه الفضائل في المجتمع الإنسانيّ من الواجبات الضروريّة الّتي لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع و لا ساعة.

فلو ارتفعت هذه الخصال و تعدّى كلّ فرد إلى ما لكلّ فرد من مختصّات الحقوق و الأموال و الأعراض، و لم يسخ أحد ببذل ما مسّت إليه حاجة المجتمع، و لم ينفعل

١٩٤

أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين و لم يرأف أحد بالعجزة الّذين لا ذنب لهم في عجزهم كالأطفال و من في تلوهم، و كذب كلّ أحد لكلّ أحد في جميع ما يخبر به و يعده و هكذا تلاشى المجتمع الإنسانيّ من حينه.

فينبغي لهذا القائل إن يعلم أنّ هذه الخصال لا ترتحل و لن ترتحل عن الدنيا، و أنّ الطبيعة الإنسانيّة مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للإنسان إلى الاجتماع، و إنّما الشأن كلّ الشأن في تنظيم هذه الصفات و تعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة و الخلقة في دعوتها الإنسان إلى سعادة الحياة، و لو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقّي اليوم فضائل للإنسانيّة معدّلة بما هو الحريّ من التعدّيل لما أوردت المجتمع مورد الفساد و الهلكة و لأقرّ الناس في مستقرّ أمن و راحة و سعادة.

و لنعد إلى ما كنّا فيه من البحث فنقول: الإسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعيّ فأحلّ النكاح و حرّم الزنا و السفاح، و وضع علقة الزوجيّة على أساس جواز المفارقة و هو الطلاق، و وضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما سنشرحه، و وضع عقد هذا الاجتماع على أساس التوالد و التربية، و من الأحاديث النبوّية المشهورة قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تناكحوا تناسلوا تكثروا الحديث.

٢- استيلاء الذكور على الإناث: ثمّ إن التأمّل في سفاد الحيوانات يعطي أنّ للذكور منها شائبة استيلاء على الإناث في هذا الباب فإنّا نرى أنّ الذكر منها كأنّه يرى نفسه مالكاً للبضع مسلّطاً على الاُنثى، و لذلك ما ترى أنّ الفحولة منها تتنازع و تتشاجر على الإناث من غير عكس فلا تثور الاُنثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس، و كذا ما يجري بينها مجرى الخطبة من الإنسان إنّما يبدأ من ناحية الذكران دون الإناث، و ليس إلّا أنّها ترى بالغريزة أنّ الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي و الإناث كالقابل الخاضع، و هذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها و يستلذّه طبعها فإنّ ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق و الشهوة و استزادة اللّذة، و أمّا نحو الاستيلاء و الاستعلاء المذكور فإنّه عائد إلى قوّة الفحولة و إجراء ما تأمر به الطبيعة.

١٩٥

و هذا المعنى أعني لزوم الشدّة و البأس لقبيل الذكور و اللّين و الانفعال لقبيل الإناث ممّا يوجد الاعتقاد به قليلاً أو كثيراً عند جميع الاُمم حتّى سرى إلى مختلف اللّغات فسمّي كلّ ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر و كلّ ليّن سهل الانفعال بالاُنثى يقال: حديد ذكر و سيف ذكر و نبت ذكر و مكان ذكر و هكذا.

و هذا الأمر جار في نوع الإنسان دائر بين المجتمعات المختلفة و الاُمم المتنوّعة في الجملة و إن كان ربّما لم يخل من الاختلاف زيادة و نقيصة.

و قد اعتبره الإسلام في تشريعه قال الله تعالى:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) النساء: ٣٤، فشرّع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها.

٣- تعدد الزوجات: و أمر الوحدة و التعدّد فيما نشاهده من أقسام الحيوان غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزليّ تتأحّد الإناث و تختصّ بالذكور لما أنّ الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل و حضانة الأفراخ و تربيتها و ربّما تغيّر الوضع الجاري بينها بالصناعة و التدبير و الكفالة أعني بالتأهيل و التربية كما يشاهد من أمر الديك و الدجاج و الحمام و نحوها.

و أمّا الإنسان فاتّخاذ الزوجات المتعدّدة كانت سنّة جارية في غالب الاُمم القديمة كمصر و الهند و الصين و الفرس بل و الروم و اليونان فإنّهم كانوا ربّما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدناً يصاحبونها بل و كان ذلك عند بعض الاُمم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود و العرب فكان الرجل منهم ربّما تزوّج العشرة و العشرين و أزيد و قد ذكروا أنّ سليمان الملك تزوّج مئات من النساء.

و أغلب ما كان يقع تعدّد الزوجات إنّما هو في القبائل و من يحذو حذوهم من سكّان القرى و الجبال فإنّ لربّ البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع و كثرة الأعضاء فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الّذي هو من لوازم عيشتهم و ليكون ذلك وسيلة يتوسّلون بها إلى الترؤّس و السودد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثّر الأقرباء بالمصاهرة.

١٩٦

و ما ذكره بعض العلماء أنّ العامل في تعدّد الزوجات في القبائل و أهل القرى إنّما هو كثرة المشاغل و الأعمال فيهم كأعمال الحمل و النقل و الرعي و الزراعة و السقاية و الصيد و الطبخ و النسج و غير ذلك فهو و إن كان حقّاً في الجملة إلّا أنّ التأمّل في صفاتهم الروحيّة يعطي أنّ هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهميّة عندهم، و ما ذكرناه هو الّذي يتعلّق به قصد الإنسان البدويّ أوّلاً و بالذات كما أنّ شيوع الادعاء و التبنّي أيضاً بينهم سابقاً كان من فروع هذا الغرض.

على أنّه كان في هذه الاُمم عامل أساسيّ آخر لتداول تعدّد الزوجات بينهم و هو زيادة عدّة النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإنّ هذه الاُمم السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب و الغزوات و قتل الفتك و الغيلة فكان القتل يفني الرجال، و يزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلّا بتعدّد الزوجات هذا.

و الإسلام شرّع الازدواج بواحدة، و أنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكّن من القسط بينهنّ مع إصلاح جميع المحاذير المتوجّهة إلى التعدّد على ما سنشير إليها قال الله تعالى:( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الّذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٢٨.

و قد استشكلوا على حكم تعدّد الزوجات:

أوّلاً: أنّه يضع آثاراً سيّئة في المجتمع فإنّه يقرح قلوب النساء في عواطفهنّ و يخيّب آمالهنّ و يسكن فورة الحبّ في قلوبهنّ فينعكس حسّ الحبّ إلى حسّ الانتقام فيهملن أمر البيت و يتثاقلن في تربية الأولاد و يقابلن الرجال بمثل ما أساؤا إليهنّ فيشيع الزنا و السفاح و الخيانة في المال و العرض فلا يلبث المجتمع دون أن ينحطّ في أقرب وقت.

و ثانياً: أنّ التعدّد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة فإنّ الإحصاء في الاُمم و الأجيال يفيد أنّ قبيلي الذكورة و الإناث متساويان عدداً تقريباً فالّذي هيّأته الطبيعة هو واحدة لواحد، و خلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة.

و ثالثاً: أنّ في تشريع تعدّد الزوجات ترغيباً للرجال إلى الشره و الشهوة، و تقوية لهذه القوّة في المجتمع.

و رابعاً: أنّ في ذلك حطّاً لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الأربع منهنّ

١٩٧

بواحد من الرجال و هو تقويم جائر حتّى بالنظر إلى مذاق الإسلام الّذي سوّى فيه بين مرأتين و رجل كما في الإرث و الشهادة و غيرهما، و لازمه تجويز التزوّج باثنتين منهنّ لا أزيد ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أيّ حال من غير وجه و هذه الإشكالات ممّا اعترض بها النصارى على الإسلام أو من يوافقهم من المدنيّين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال و النساء في المجتمع.

و الجواب عن الأوّل ما تقدّم غير مرّة في المباحث المتقدّمة أنّ الإسلام وضع بنية المجتمع الإنسانيّ على أساس الحياة التعقّليّة دون الحياة الإحساسيّة فالمتّبع عنده هو الصلاح العقليّ في السنن الاجتماعيّة دون ما تهواه الإحساسات و تنجذب إليه العواطف.

و ليس في ذلك إماتة العواطف و الإحساسات الرقيقة و إبطال حكم المواهب الإلهيّة و الغرائز الطبيعيّة فإنّ من المسلّم في الأبحاث النفسيّة أنّ الصفات الروحيّة و العواطف و الإحساسات الباطنة تختلف كمّاً و كيفاً باختلاف التربية و العادة، كما أنّ كثيراً من الآداب و الرسوم الممدوحة عند الشرقيّين مثلاً مذمومة عند الغربيّين و بالعكس، و كلّ اُمّة تختلف مع غيرها في بعضها.

و التربية الدينيّة في الإسلام تقيم المرأة الإسلاميّة مقاماً لا تتألّم بأمثال ذلك عواطفها. نعم المرأة الغربيّة حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة و لقّنت بذلك جيلاً بعد جيل استحكّم في روحها عاطفة نفسانيّة تضادّ التعدّد. و من الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الّذي شاعت بين الرجال و النساء في الاُمم المتمدّنة! اليوم.

أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كلّ من هووها و هوتهم من نسائهم من محارم و غيرها و من بكر أو ثيّب و من ذات بعل أو غيرها، حتّى أنّ الإنسان لا يقدر أن يقف في كلّ ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء في ذلك الرجال و النساء و لم يقنعوا بذلك حتّى وقعوا في الرجال وقوعاً قل ما يسلم منه فرد حتّى بلغ الأمر مبلغاً رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللّواط سنّة قانونيّة و ذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسميّة، و أمّا النساء و خاصّة الأبكار و غير ذوات البعل من الفتيات فالأمر فيهنّ أغرب و أفظع.

١٩٨

فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك و لا يتحرّجن و لا تنكسر قلوبهنّ و لا تتألّم عواطفهنّ حين يشاهدن كلّ هذه الفضائح من رجالهنّ؟ و كيف لا تتألّم عواطف الرجل و إحساساته حين يبني بفتاة ثمّ يجدها ثيّباً فقدت بكارتها و افترشت لا للواحد و الاثنين من الرجال ثمّ لا يلبث حتّى يباهي بين الأقران أنّ السيّدة ممّن توفّرت عليها رغبات الرجال و تنافس في القضاء منها العشرات و المئات!! و هل هذا إلّا أنّ هذه السيّئات تكرّرت بينهم و نزعة الحرّيّة تمكّنت من أنفسهم حتّى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف و الإحساسات و لا تستنكرها النفوس؟ فليس إلّا أنّ السنن الجارية تميل العواطف و الإحساسات إلى ما يوافقها و لا يخالفها.

و أمّا ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهنّ في تدبير البيت و تثاقلهنّ في تربية الأولاد و شيوع الزنا و الخيانة فالّذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإنّ هذا الحكم جرى في صدر الإسلام و ليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدّعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته بل كان الأمر بالعكس.

على أنّ هذه النساء اللّاتي يتزوّج بهنّ على الزوجة الاُولى في المجتمع الإسلاميّ و سائر المجتمعات الّتي ترى ذلك أعني الزوجة الثانية و الثالثة و الرابعة إنّما يتزوّج بهنّ عن رضاء و رغبة منهنّ و هنّ من نساء هذه المجتمعات، و لم يسترققهنّ الرجال من مجتمعات اُخرى، و لا جلبوهنّ للنكاح من غير هذه الدنيا و إنّما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعيّة، فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدّد الزوجات، و لا قلوبهنّ تتألّم منها بل لو كان شي‏ء من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجيّة الاُولى أعني أنّ المرأة إذا توحّدت للرجل لا تحبّ أن ترد عليها و على بيتها اُخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو تترأس عليها غيرها أو يختلف الأولاد و نحو ذلك فعدم الرضاء و التألّم فيما كان إنّما منشؤه حالة عرضيّة (التوحّد بالبعل) لا غريزة طبيعيّة.

و الجواب عن الثاني أنّ الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال و النساء في العدد مختلّ من وجوه.

منها أنّ أمر الازدواج لا يتّكي على هذا الّذي ذكروه فحسب بل هناك عوامل

١٩٩

و شرائط اُخرى لهذا الأمر فأوًلاً الرشد الفكريّ و التهيّؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال فالنساء و خاصّة في المناطق الحارّة إذا جزن التسع صلحن للنكاح، و الرجال لا يتهيّؤون لذلك غالباً قبل الستّ عشرة من السنين (و هو الّذي اعتبره الإسلام للنكاح).

و من الدليل على ذلك السنّة الجارية في فتيات الاُمم المتمدّنة فمن الشاذّ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سنّ البلوغ القانونيّ فليس إلّا أن الطبيعة هيّأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك.

و لازم هذه الخاصّة أن لو اعتبرنا مواليد ستّ عشرة سنة من قوم (و الفرض تساوي عدد الذكور و الإناث فيهم) كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال و هي سنة أوّل الصلوح مواليد سنة واحدة و هم مواليد السنة الاُولى المفروضة، و الصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين و هي مواليد السنة الاُولى إلى السابعة، و لو اعتبرنا مواليد خمسة و عشرين سنة و هي سنّ بلوغ الأشدّ من الرجال حصل في السنة الخامسة و العشرين على الصلوح من الرجال مواليد عشرة سنين و من النساء مواليد خمس عشرة سنة، و إذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكلّ واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة.

و ثانياً أنّ الإحصاء كما ذكروه يبيّن أنّ النساء أطول عمراً من الرجال و لازمه أن تهيّئ سنّة الوفاة و الموت عدداً من النساء ليس بحذائهنّ رجال(١) .

و ثالثاً: أنّ خاصّة النسل و التوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء فالأغلب

____________________

(١) و ممّا يؤيّد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الأيّام (جريدة الاطّلاعات المنتشرة في طهران المورخة بالثلاثاء ١١ ديماه سنة ١٣٣٥ شمسي) حكاية عن دائرة الإحصاء في فرنسا ما حاصله: قد تحصل بحسب الإحصاء أنّه يولد في فرنسا حذاء كلّ( ١٠٠) مولودة من البنات( ١٠٥) من البنين، و مع ذلك فإنّ الإناث يربو عدّتهم على عدّة الذكور بما يعادل( ١٧٦٥٠٠٠) نسمة، و نفوس المملكة( ٤٠ مليوناً تقريباً) و السبب فيه أنّ البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الأمراض و يهلك بها( ٥ در صد) الزائد منهم إلي سنة( ١٩) من الولادة.

ثمّ يأخذ عدّة الذكور في النقص ما بين ٢٥ - ٣٠ من السنين حتّى إذا بلغوا سني ٦٠ - ٦٥ لم يبق تجاه كلّ( ١٥٠٠٠٠٠) من الإناث إلى( ٧٥٠٠٠٠) من الذكور

٢٠٠

على النساء أن يئسن من الحمل في سنّ الخمسين و يمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد ذلك، و ربّما بقي قابليّة التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعيّ و هي مائة سنة فيكون عمر صلاحية الرجال للتوليد و هو ثمانون سنة تقريباً ضعفه في المرأة و هو أربعون تقريباً، و إذا ضمّ هذا الوجه إلى الوجه السابق أنتج أنّ الطبيعة و الخلقة أباح للرجال التعدّي من الزوجة الواحدة إلى غيرها فلا معنى لتهيئة قوّة التوليد و المنع عن الاستيلاد من محلّ شأنه ذلك فإنّ ذلك ممّا تأباه سنّة العلل و الأسباب الجارية.

و رابعاً: أنّ الحوادث المبيدة لأفراد المجتمع من الحروب و المقاتل و غيرهما تحلّ بالرجال و تفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يقاس كما تقدّم أنّه كان أقوى العوامل لشيوع تعدّد الزوجات في القبائل فهذه الأرامل و النساء العزل لا محيص لهنّ عن قبول التعدّد أو الزنا أو خيبة القوّة المودعة في طبائعهنّ و بطلانها.

و ممّا يتأيّد به هذه الحقيقة ما وقع في الألمان الغربيّ قبل عدّة شهور من كتابة هذه الأوراق: أظهرت جمعيّة النساء العزل تحرّجها من فقدان البعولة و سألت الحكومة أن يسمح لهنّ بسنّة تعدّد الزوجات الإسلاميّة حتّى يتزوّج من شاء من الرجال بأزيد من واحدة و يرتفع بذلك غائلة الحرمان، غير أنّ الحكومة لم تجبهنّ في ذلك و امتنعت الكنيسة من قبوله و رضيت بفشوّ الزنا و شيوعه و فساد النسل به.

و منها أنّ الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعيّة بين الرجال و النساء في العدد مع‏ الغضّ عمّا تقدّم إنّما يستقيم فيما لو فرض أن يتزوّج كلّ رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة إلى أربع من النساء لكنّ الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك و لا يسع ذلك بالطبع إلّا لبعضهم دون جميعهم و الإسلام لم يشرّع تعدّد الزوجات بنحو الفرض و الوجوب على الرجال بل إنّما أباح ذلك لمن استطاع أن يقيم القسط منهم، و من أوضح الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجاً و لا فساداً أنّ سير هذه السنّة بين المسلمين و كذا بين سائر الاُمم الّذين يرون ذلك لم يستلزم حرجاً من قحط النساء و إعوازهنّ على الرجال. بل بالعكس من ذلك أعدّ تحريم التعدّد في البلاد الّتي فيها ذلك اُلوفاً من النساء حرمن الأزواج و الاجتماع المنزليّ و اكتفين بالزنا.

٢٠١

و منها أنّ الاستدلال المذكور مع الإغماض عن ما سبق إنّما يستقيم لو لم يصلح هذا الحكم و لم يعدّل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهّمة فقد شرط الإسلام على من يريد من الرجال التعدّد أن يقيم العدل في معاشرتهنّ بالمعروف و في القسم و الفراش و فرض عليهم نفقتهنّ ثمّ نفقة أولادهنّ و لا يتيسّر الإنفاق على أربع نسوة مثلاً و من يلدنه من الأولاد مع شريطة العدل في المعاشرة و غير ذلك إلّا لبعض اُولي الطول و السعة من الناس لا لجميعهم.

على أنّ هناك طرقاً دينيّة شرعيّة يمكن أن تستريح إليها المرأة فتلزم الزوج على الاقتصار عليها و الإغماض عن التكثير.

و الجواب عن الثالث: أنّه مبني على عدم التدبّر في نحو التربية الإسلاميّة و مقاصد هذه الشريعة فإنّ التربية الدينيّة للنساء في المجتمع الإسلاميّ الّذي يرتضيه الدين بالستر و العفاف و الحياء و عدم الخرق تنمي المرأة و شهوة النكاح فيها أقلّ منها في الرجل (على الرغم ممّا شاع أنّ شهوة النكاح فيها أزيد و أكثر و استدلّ عليه بتولّعها المفرط بالزينة و الجمال طبعاً) و هذا أمر لا يكاد يشكّ فيه رجال المسلمين ممّن تزوّج بالنساء الناشئات على التربية الدينيّة فشهوة النكاح في المتوسّط من الرجال تعادل ما في أكثر من امرأة واحدة بل و المرأتين و الثلاث.

و من جهة اُخرى من عناية هذا الدين أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات الطبع و مشتهيات النفس فاعتبر أن لا تختزن الشهوة في الرجل و لا يحرم منها فيدعوه ذلك إلى التعدّي إلى الفجور و الفحشاء و المرأة الواحدة ربّما اعتذرت فيما يقرب من ثلث أوقات المعاشرة و المصاحبة كأيّام العادة و بعض أيّام الحمل و الوضع و الرضاع و نحو ذلك و الإسراع في رفع هذه الحاجة الغريزيّة هو لازم ما تكرّر منّا في المباحث السابقة من هذا الكتاب أنّ الإسلام يبني المجتمع على أساس الحياة التعقّليّة دون الحياة الإحساسيّة فبقاء الإنسان على حالة الإحساس الداعية إلى الاسترسال في الأهواء و الخواطر السوء كحال التعزّب و نحوه من أعظم المخاطر في نظر الإسلام.

و من جهة اُخرى من أهمّ المقاصد عند شارع الإسلام تكثّر نسل المسلمين

٢٠٢

و عمارة الأرض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحة ترفع الشرك و الفساد.

فهذه الجهات و أمثالها هي الّتي اهتمّ بها الإسلام في تشريع تعدّد الزوجات دون ترويج أمر الشهوة و ترغيب الناس إلى الانكباب عليها و لو أنصف هؤلاء المستشكلون كان هذه السنن الاجتماعيّة المعروفة بين هؤلاء البانين للاجتماع على أساس التمتّع المادّيّ أولى بالرمي بترويج الفحشاء و الترغيب إلى الشره من الإسلام الباني للاجتماع على أساس السعادة الدينيّة.

على أنّ في تجويز تعدّد الزوجات تسكيناً لثورة الحرص الّتي هي من لوازم الحرمان فكلّ محروم حريص، و لا همّ للممنوع المحبوس إلّا أن يهتك حجاب المنع و الحبس، فالمسلم و إن كان ذا زوجة واحدة فإنّه على سكن و طيب نفس من أنّه ليس بممنوع عن التوسّع في قضاء شهوته لو تحرّجت نفسه يوماً إليه، و هذا نوع تسكين لطيش النفس، و إحصان لها عن الميل إلى الفحشاء و هتك الأعراض المحرّمة.

و قد أنصف بعض الباحثين من الغربيّين حيث قال: لم يعمل في إشاعة الزنا و الفحشاء بين الملل المسيحيّة عامل أقوى من تحريم الكنيسة تعدّد الزوجات(١) .

و الجواب عن الرابع أنّه ممنوع فقد بيّنا في بعض المباحث السابقة عند الكلام في حقوق(٢) المرأة في الإسلام: أنّه لم يحترم النساء و لم يراع حقوقهنّ كلّ المراعاة أيّ‏ سنّة من السنن الدينيّة أو الدنيويّة من قديمها و حديثها بمثل ما احترمهنّ الإسلام و سنزيد في ذلك وضوحاً.

و أمّا تجويز تعدّد الزوجات للرجل فليس بمبنيّ على ما ذكر من إبطال الوزن الاجتماعيّ و إماتة حقوقهنّ و الاستخفاف بموقفهنّ في الحياة و إنّما هو مبنيّ على جهات من المصالح تقدّم بيان بعضها.

و قد اعترف بحسن هذا التشريع الإسلاميّ و ما في منعه من المفاسد الاجتماعيّة و المحاذير الحيويّة جمع من باحثي الغرب من الرجال و النساء من أراده فليراجع إلى مظانّه.

____________________

(١) رسالة المسترجان ديون بورت الإنجليزي في الاعتذار إلى حضرة محمّد و القرآن ترجمة الفاضل: السعيدي بالفارسية.

(٢) البحث العلميّ من الجزء الثاني ص: ٢٧٣

٢٠٣

و أقوى ما تشبّث به مخالفوا سنّة التعدّد من علماء الغرب و زوّقوه في أعين الناظرين ما هو مشهود في بيوت المسلمين تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة: ضرّتان أو ضرائر فإنّ هذه البيوت لا تحتوي على حياة صالحة و لا عيشة هنيئة، لا تلبث الضرّتان من أوّل يوم حلّتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد حتّى أنّهم سمّوا الحسد بداء الضرائر، و عندئذ تنقلب جميع العواطف و الإحساسات الرقيقة الّتي جبلت عليها النساء من الحبّ و لين الجانب و الرقّة و الرأفة و الشفقة و النصح و حفظ الغيب و الوفاء و المودّة و الرحمة و الإخلاص بالنسبة إلى الزوج و أولاده من غير الزوجة و بيته و جميع ما يتعلّق به إلى أضدادها، فينقلب البيت الّذي هو سكن للإنسان يستريح فيه من تعب الحياة اليوميّ و تألّم الروح و الجسم من مشاقّ الأعمال و الجهد في المكسب معركة قتال يستباح فيها النفس و العرض و المال و الجاه، لا يؤمن فيه من شي‏ء لشي‏ء، و يتكدّر فيه صفو العيش و ترتحل لذّة الحياة، و يحلّ محلّها الضرب و الشتم و السبّ و اللّعن و السعاية و النميمة و الرقابة و المكر و المكيدة، و اختلاف الأولاد و تشاجرهم، و ربّما انجرّ الأمر إلى همّ الزوجة بإهلاك الزوج، و قتل بعض الأولاد بعضاً أو أباهم، و تتبدّل القرابة بينهم إلى الأوتار الّتي تسحب في الأعقاب سفك الدماء و هلاك النسل و فساد البيت، أضف إلى ذلك ما يسري من ذلك إلى المجتمع من الشقاء و فساد الأخلاق و القسوة و الظلم و البغي و الفحشاء و انسلاب الأمن و الوثوق و خاصّة إذا اُضيف إلى ذلك جواز الطلاق فإباحة تعدّد الزوجات و الطلاق ينشئان في المجتمع رجالاً ذوّاقين مترفين لا همّ لهم إلّا اتّباع الشهوات و الحرص و التولّع على أخذ هذه و ترك تلك، و رفع واحدة و وضع اُخرى، و ليس فيه إلّا تضييع نصف المجتمع و إشقاؤه و هو قبيل النساء، و بذلك يفسد النصف الآخر.

هذا محصل ما ذكروه، و هو حقّ غير أنّه إنّما يرد على المسلمين لا على الإسلام و تعاليمه، و متى عمل المسلمون بحقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الإسلام حتّى يؤخذ الإسلام بالمفاسد الّتي أعقبته أعمالهم؟ و قد فقدوا منذ قرون الحكومة الصالحة الّتي تربّي الناس بالتعاليم الدينيّة الشريفة بل كان أسبق الناس إلى هتك الأستار الّتي أسدلها

٢٠٤

الدين و نقض قوانينه و إبطال حدوده هي طبقة الحكّام و الولاة على المسلمين، و الناس على دين ملوكهم، و لو اشتغلنا بقصّ بعض السير الجارية في بيوت الملوك و الفضائح الّتي كان يأتي بها ملوك الإسلام و ولاته منذ أن تبدّلت الحكومة الدينيّة بالملك و السلطنة المستبدّة لجاء بحياله تأليفاً مستقلّاً، و بالجملة لو ورد الإشكال فهو وارد على المسلمين في اختيارهم لبيوتهم نوع اجتماع لا يتضمّن سعادة عيشتهم و نحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها بحيث لا تنحرف عن مستقيم الصراط، و الذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء و الأولاد و إن كان على كلّ نفس ما اكتسبت من إثم، و ذلك أنّ سيرة هؤلاء الرجال و تفديتهم سعادة أنفسهم و أهليهم و أولادهم و صفاء جوّ مجتمعهم في سبيل شرههم و جهالتهم هو الأصل لجميع هذه المفاسد و المنبت لكلّ هذه الشقوة المبيدة.

و أمّا الإسلام فلم يشرّع تعدّد الزوجات على نحو الإيجاب و الفرض على كلّ رجل، و إنّما نظر في طبيعة الأفراد و ما ربّما يعرضهم من العوارض الحادثة، و اعتبر الصلاح القاطع في ذلك (كما مرّ تفصيله) ثمّ استقصى مفاسد التكثير و محاذيره و أحصاها فأباح عند ذلك التعدّد حفظاً لمصلحة المجتمع الإنسانيّ، و قيّده بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد الشنيعة و هو وثوق الرجل بأنّه سيقسط بينهنّ و يعدل فمن وثق من نفسه بذلك و وفّق له فهو الّذي أباح له الدين تعدّد الزوجات، و أمّا هؤلاء الّذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم و أهليهم و أولادهم و لا كرامة عندهم إلّا ترضية بطونهم و فروجهم، و لا مفهوم للمرأة عندهم إلّا أنّها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل و لذّته فلا شأن للإسلام فيهم، و لا يجوز لهم إلّا الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك و الحال هذه.

على أنّ في أصل الإشكال خلطاً بين جهتين مفرّقتين في الإسلام، و هما جهتا التشريع و الولاية.

توضيح ذلك أنّ المدار في القضاء بالصلاح و الفساد في القوانين الموضوعة و السنن الجارية عند الباحثين اليوم هو الآثار و النتائج المرضيّة أو غير المرضيّة الحاصلة من جريانها في الجوامع و قبول الجوامع لها بفعليّتها الموجودة و عدم قبولها، و ما أظنّ أنّهم على غفلة من أنّ المجتمع ربّما اشتمل على بعض سنن و عادات و عوارض لا تلائم الحكم

٢٠٥

المبحوث عنه و أنّه يجب تجهيز المجتمع بما لا ينافي الحكم أو السنّة المذكورة حتّى يرى إلى ما يصير أمره؟ و ما ذا يبقى من الأثر خيراً أو شرّاً أو نفعاً أو ضرّاً؟ إلّا أنّهم يعتبرون في القوانين الموضوعة ما يريده و يستدعيه المجتمع بحاضر إرادته و ظاهر فكرته كيفما كان، فما وافق إرادتهم و مستدعياتهم فهو القانون الصالح و ما خالف ذلك فهو القانون غير الصالح.

و لذلك لمّا رأوا المسلمين تائهين في اُودية الغيّ فاسدين في معاشهم و معادهم نسبوا ما يشاهدونه منهم من الكذب و الخيانة و الخنا و هضم الحقوق و فشوّ البغي و فساد البيوت و اختلال الاجتماع إلى القوانين الدينيّة الدائرة بينهم زعماً منهم أنّ السنّة الإسلاميّة في جريانها بين الناس و تأثيرها أثرها كسائر السنن الاجتماعيّة الّتي تحمل على الناس عن إحساسات متراكمة بينهم، و يستنتجون من ذلك أنّ الإسلام هو المولّد لهذه المفاسد الاجتماعيّة و منه ينشأ هذا البغي و الفساد (و فيهم أبغى البغي و أخنى الخنا، و كلّ الصيد في جوف الفراء) و لو كان ديناً واقعيّاً و كانت القوانين الموضوعة فيه جيّدة متضمّنة لصلاح الناس و سعادتهم لأثّرت فيهم الآثار المسعدة الجميلة، و لم ينقلب وبالاً عليهم!.

و لكنّهم خلطوا بين طبيعة الحكم الصالحة المصلحة، و بين طبيعة الناس الفاسدة المفسدة، و الإسلام مجموع معارف أصليّة و أخلاقيّة و قوانين عمليّة متناسبة الأطراف مرتبطة الأجزاء إذا اُفسد بعض أجزائها أوجب ذلك فساد الجميع و انحرافها في التأثير كالأدوية و المعاجين المركّبة الّتي تحتاج في تأثيرها الصحّيّ إلى سلامة أجزائها و إلى محلّ معدّ مهيّأ لورودها و عملها، و لو اُفسد بعض أجزائها أو لم يعتبر في الإنسان المستعمل لها شرائط الاستعمال بطل عنها وصف التأثير، و ربّما أثّرت ما يضادّ أثرها المترقّب منها.

هب أنّ السنّة الإسلاميّة لم تقو على إصلاح الناس و محق الذمائم و الرذائل العامّة لضعف مبانيها التقنينيّة فما بال السنّة الديمقراطيّة لا تنجع في بلادنا الشرقيّة أثرها في البلاد الاُوربيّة؟ و ما بالنا كلّما أمعنّا في السير و الكدح بالغنا في الرجوع على أعقابنا القهقرى و لا يشكّ شاكّ أنّ الذمائم و الرذائل اليوم أشدّ تصلّباً و تعرّقاً فينا

٢٠٦

و نحن مدنيّون متنوّرون منها قبل نصف قرن و نحن همجيّون، و ليس لنا حظّ من العدل الاجتماعيّ و حياة الحقوق البشريّة و المعارف العامّة العالية و كلّ سعادة اجتماعيّة إلّا أسماءً نسمّيها و ألفاظاً نسمعها.

فهل يمكن لمعتذر عن ذلك إلّا بأنّ هذه السنن المرضيّة إنّما لم تؤثّر أثرها لأنّكم لا تعملون بها، و لا تهتمّون بإجرائها فما بال هذا العذر يجري فيها و ينجع و لا يجري في الإسلام و لا ينجع؟.

و هب أنّ الإسلام لوهن أساسها (و العياذ بالله) عجز عن التمكّن في قلوب الناس و النفوذ الكامل في أعماق المجتمع فلم تدم حكومته و لم يقدر على حفظ حياته في المجتمع الإسلاميّ فلم يلبث دون أن عاد مهجوراً فما بال السنّة الديمقراطيّة و كانت سنّة مرضيّة عالميّة ارتحلت بعد الحرب العالميّة الكبرى الاُولى عن روسيا و انمحت آثارها و خلفتها السنّة الشيوعيّة؟ و ما بالها انقلبت إلى السنّة الشيوعيّة بعد الحرب العالميّة الكبرى الثانية في ممالك الصين و لتوني و إستوني و ليتواني و رومانيا و المجر و يوغوسلاوي و غيرها، و هي تهدّد سائر الممالك و قد نفذت فيها نفوذاً؟.

و ما بال السنّة الشيوعيّة بعد ما عمّرت ما يقرب من أربعين سنة، و انبسطت و حكمت فيما يقرب من نصف المجتمع الإنسانيّ و لم يزل دعاتها و أولياؤها يتباهون في فضيلتها أنّها المشرعة الصافية الوحيدة الّتي لا يشوبها تحكّم الاستبداد و لا استثمار الديمقراطيّة و أنّ البلاد الّتي تعرّقت فيها هي الجنّة الموعودة ثمّ لم يلبث هؤلاء الدعاة و الأولياء أنفسهم دون أن انتهضوا قبل سنتين على تقبيح حكومة قائدها الوحيد (ستالين) الّذي كان يتولّى إمامتها و قيادتها منذ ثلاثين سنة، و أوضحوا أنّ حكومته كانت حكومة تحكّم و استبداد و استعباد في صورة الشيوعيّة، و لا محالة كان له التأثير العظيم في وضع القوانين الدائرة و إجرائها و سائر ما يتعلّق بذلك فلم ينتش شي‏ء من ذلك إلّا عن إرادة مستبدّة مستعبدة و حكومة فرديّة تحيي اُلوفاً و تميت اُلوفاً و تسعد أقواماً و تشقي آخرين. و الله يعلم من الّذي يأتي بعد هؤلاء و يقضي عليهم بمثل ما قضوا به على من كان قبلهم.

و السنن و الآداب و الرسوم الدائرة في المجتمعات (أعمّ من الصحيحة و الفاسدة)

٢٠٧

ثمّ المرتحلة عنها لعوامل متفرّقة أقواها خيانة أولياؤها و ضعف إرادة الأفراد المستنّين بها كثيرة يعثر عليها من راجع كتب التواريخ.

فليت شعري ما الفارق بين الإسلام من حيث إنّها سنّة اجتماعيّة و بين هذه السنن المتقلّبة المتبدّلة حيث يقبل العذر فيها و لا يقبل في الإسلام؟ نعم كلمة الحقّ اليوم واقعة بين قدرة هائلة غربيّة و جهالة تقليد شرقيّة فلا سماء تظلّها و لا أرض تقلّها و على أيّ حال يجب أن يتنبّه ممّا فصّلناه أنّ تأثير سنّة من السنن أثرها في الناس و عدمه و كذا بقاؤها بين الناس و ارتحالها لا يرتبط كلّ الارتباط بصحّتها و فسادها حتّى يستدلّ عليه بذلك بل لسائر العلل و الأسباب تأثير في ذلك فما من سنّة من السنن الدائرة بين الناس في جميع الأطوار و العهود إلّا و هي تنتج يوماً و تعقم آخر و تقيم بين الناس برهة من الزمان و ترتحل عنهم في اُخرى لعوامل مختلفة تعمل فيها، و تلك الأيّام نداولها بين الناس و ليعلم الله الّذين آمنوا و يتّخذ منكم شهداء.

و بالجملة القوانين الإسلاميّة و الأحكام الّتي فيها، تخالف بحسب المبنى و المشرب سائر القوانين الاجتماعيّة الدائرة بين الناس فإنّ القوانين الاجتماعيّة الّتي لهم تختلف باختلاف الأعصار و تتبدّل بتبدّل المصالح لكنّ القوانين الإسلاميّة لا تحتمل الاختلاف و التبدّل من واجب أو حرام أو مستحبّ أو مكروه أو مباح غير أنّ الأفعال الّتي للفرد من المجتمع أن يفعلها أو يتركها و كلّ تصرّف له أن يتصرّف به أو يدعه فلوالي الأمر أن يأمر الناس بها أو ينهاهم عنها و يتصرّف في ذلك كأنّ المجتمع فرد و الوالي نفسه المتفكّرة المريدة.

فلو كان للإسلام وال أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم الّتي يرتكبونها باسم تعدّد الزوجات و غير ذلك من غير أن يتغيّر الحكم الإلهيّ بإباحته، و إنّما هو عزيمة إجرائيّة عامّة لمصلحة نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدّد الزوجات لمصلحة يراها لا لتغيير في الحكم بل لأنّه حكم إباحيّ له أن يعزم على تركه.

٢٠٨

( بحث علميّ آخر ملحق به)

( في تعدّد أزواج النبيّ)

و ممّا اعترضوا عليه تعدّد زوجات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا: إنّ تعدّد الزوجات لا يخلو في نفسه عن الشره و الانقياد لداعي الشهوة: و هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقنع بما شرّعه لاُمّته من الأربع حتّى تعدّى إلى التسع من النسوة.

و المسألة ترتبط بآيات متفرّقة كثيرة في القرآن، و البحث من كلّ جهة من جهاتها يجب أن يستوفي عند الكلام على الآية المربوطة بها و لذلك أخّرنا تفصيل القول إلى محاله المناسبة له و إنّما نشير ههنا إلى ذلك إشارة إجماليّة.

فنقول: من الواجب أن يلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أنّ قصّة تعدّد زوجات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليست على هذه السذاجة (أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالغ في حبّ النساء حتّى أنهى عدّة أزواجه إلى تسع نسوة) بل كان اختياره لمن اختارها منهنّ على نهج خاصّ في مدى حياته فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان تزوّج - أوّل ما تزوّج - بخديجة رضي الله عنها و عاش معها مقتصراً عليها نيّفاً و عشرين سنة (و هي ثلثا عمره الشريف بعد الازدواج) منها ثلاث عشرة سنة بعد نبوّته قبل الهجرة من مكّة ثمّ هاجر إلى المدينة و شرع في نشر الدعوة و إعلاء كلمة الدين، و تزوّج بعدها من النساء منهنّ البكر و منهنّ الثيّب و منهنّ الشابّة و منهنّ العجوز و المكتهلة و كان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين ثمّ حرّم عليه النساء بعد ذلك إلّا من هي في حبالة نكاحه، و من المعلوم أنّ هذا الفعال على هذه الخصوصيّات لا يقبل التوجيه بمجرّد حبّ النساء و الولوع بهنّ و الوله بالقرب منهنّ فأوّل هذه السيرة و آخرها يناقضان ذلك.

على أنّا لا نشكّ بحسب ما نشاهده من العادة الجارية أنّ المتولّع بالنساء المغرم بحبّهنّ و الخلاء بهنّ و الصبوة إليهنّ مجذوب إلى الزينة عشيق للجمال مفتون بالغنج و الدلال حنين إلى الشباب و نضارة السنّ و طراوة الخلقة، و هذه الخواصّ أيضاً لا تنطبق على سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه بنى بالثيّب بعد البكر و بالعجوز بعد الفتاة الشابّة فقد بنى

٢٠٩

باُمّ سلمة و هي مسنّة، و بنى بزينب بنت جحش و سنّها يومئذ يربو على خمسين بعد ما تزوج بمثل عائشة و اُمّ حبيبة و هكذا.

و قد خيّرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءه بين التمتيع و السراح الجميل و هو الطلاق إن كنّ يردن الدنيا و زينتها و بين الزهد في الدنيا و ترك التزيّن و التجمّل إن كنّ يردن الله و رسوله و الدار الآخرة على ما يشهد به قوله تعالى في القصّة:

( يا أَيُّهَا النبيّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الله وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحسناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) الأحزاب: ٢٩، و هذا المعنى أيضاً - كما ترى - لا ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صاب إلى وصالهنّ.

فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمّق إذا أنصف إلّا أن يوجّه كثرة ازدواجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما بين أوّل أمره و آخر أمره بعوامل اُخر غير عامل الشره و الشبق و التلهّي.

فقد تزوّجصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض هؤلاء الأزواج اكتساباً للقوّة و ازدياداً للعضد و العشيرة، و ببعض هؤلاء استمالة للقلوب و توقّياً من بعض الشرور، و ببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالإنفاق و إدارة المعاش و ليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل و العجائز من المسكنة و الضيعة، و ببعضها لتثبيت حكم مشروع و إجرائه عملاً لكسر السنن المنحطّة و البدع الباطلة الجارية بين الناس كما في تزوّجه بزينب بنت جحش و قد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثمّ طلّقها زيد، و قد كان زيد هذا يدعى ابن رسول الله على نحو التبنّي و كانت زوجة المدعوّ ابناً عندهم كزوجة الابن الصلبيّ لا يتزوّج بها الأب فتزوّج بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نزل فيها الآيات.

و كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوّج لأوّل مرّة بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة و قد توفّي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، و كانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة و لو رجعت إلى أهلها و هم يومئذ كفّار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين و المؤمنات بالزجر و القتل و الإكراه على الكفر.

و تزوّج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبدالله بن جحش في اُحد و كانت

٢١٠

من السيّدات الفضليات في الجاهليّة تدعى اُمّ المساكين لكثرة برّها للفقراء و المساكين و عطوفتها بهم فصان بازدواجها ماء وجهها.

و تزوّج باُمّ سلمة و اسمها هند و كانت من قبل زوجة عبدالله أبي سلمة ابن عمّة النبيّ و أخيه من الرضاعة أوّل من هاجر إلى الحبشة و كانت زاهدة فاضلة ذات دين و رأي فلمّا توفّي عنها زوجها كانت مسنّة ذات أيتام فتزوّج بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و تزوّج بصفيّة بنت حييّ بن أخطب سيّد بني النضير قتل زوجها يوم خيبر و قتل أبوها مع بني قريظة، و كانت في سبي خيبر فاصطفاها و أعتقها و تزوّج بها فوقاها بذلك من الذلّ و وصل سببه ببني إسرائيل.

و تزوّج بجويرية و اسمها برّة بنت الحارث سيّد بني المصطلق بعد وقعة بني المصطلق و قد كان المسلمون أسروا منهم مائتي بيت بالنساء و الذراريّ، فتزوّجصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها فقال المسلمون هؤلاء أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم و أعتقوهم جميعاً فأسلم بنو المصطلق بذلك، و لحقوا عن آخرهم بالمسلمين و كانوا جمّاً غفيراً و أثّر ذلك أثراً حسناً في سائر العرب.

و تزوّج بميمونة و اسمها برّة بنت الحارث الهلاليّة و هي الّتي وهبت نفسها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزّى فاستنكحها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تزوّج بها و قد نزل فيها القرآن.

و تزوّج باُمّ حبيبة و اسمها رملة بنت أبي سفيان و كانت زوجة عبيدالله بن جحش و هاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصّر عبيدالله هناك و ثبتت هي على الإسلام و أبوها أبوسفيان يجمع الجموع على الإسلام يومئذ فتزوّج بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أحصنها.

و تزوّج بحفصة بنت عمر و قد قتل زوجها خنيس بن حذاقة ببدر و بقيت أرملة و تزوّج بعائشة بنت أبي بكر و هي بكر.

فالتأمّل في هذه الخصوصيّات مع ما تقدّم في صدر الكلام من جمل سيرته في أوّل أمره و آخره و ما سار به من الزهد و ترك الزينة و ندبه نساءه إلى ذلك لا يبقى للمتأمّل موضع شكّ في أنّ ازدواجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمن تزوّج بها من النساء لم يكن على حدّ غيره من عامّة الناس، أضف إلى ذلك جمل صنائعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النساء، و إحياء ما كانت

٢١١

قرون الجاهليّة و أعصار الهمجيّة أماتت من حقوقهنّ في الحياة، و أخسرته من وزنهنّ في المجتمع الإنسانيّ حتّى روي أنّ آخر ما تكلّم بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو توصيتهنّ لجامعة الرجال‏

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( الصلاة الصلاة، و ما ملكت أيمانكم لا تكلّفوهم ما لا يطيقون، الله الله في النساء فإنهنّ عوان في أيديكم) الحديث.

و كانت سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العدل بين نسائه و حسن معاشرتهنّ و رعاية جانبهنّ ممّا يختصّ بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (على ما سيأتي شذرة منه في الكلام على سيرته في مستقبل المباحث إن شاء الله) و كان حكم الزيادة على الأربع كصوم الوصال من مختصّاته الّتي منعت عنها الاُمّة، و هذه الخصال و ظهورها على الناس هي الّتي منعت أعداءه من الاعتراض عليه بذلك مع تربّصهم الدوائر به.

٢١٢

( سورة النساء الآيات ٧ - ١٠)

لِلْرِجَالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلْنِسَاءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوض( ٧) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى‏ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوف( ٨) وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيد( ٩) إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى‏ ظُلْماً إِنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِير( ١٠)

( بيان)

شروع في تشريع أحكام الإرث بعد تمهيد ما مهّدت من المقدّمات، و قد قدّم بيان جمليّ لحكم الإرث من قبيل ضرب القاعدة لإيذان أن لا حرمان في الإرث بعد ثبوت الولادة أو القرابة حرماناً ثابتاً لبعض الأرحام و القرابات كتحريم صغار الورثة و النساء، و زيد مع ذلك في التحذير عن تحريم الأيتام من الوراثة فإنّه يستلزم أكل سائر الورثة أموالهم ظلماً و قد شدّد الله في النهي عنه. و قد ذكر مع ذلك مسألة رزق اُولي القربى و اليتامى و المساكين إذا حضروا قسمة التركة و لم يكونوا ممّن يرث تطفّلاً.

قوله تعالى: ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) الآية، النصيب هو الحظّ و السهم، و أصله من النصب بمعنى الإقامة لأنّ كلّ سهم عند القسمة ينصب على حدته حتّى لا يختلط بغيره، و التركة ما بقي من مال الميّت بعده كأنّه يتركه و يرتحل فاستعماله الأصليّ استعمال استعاريّ ثمّ ابتذل، و الأقربون هم القرابة الأدنون، و اختيار هذا اللّفظ على مثل الأقرباء و اُولي القربى و نحوهما لا يخلو من دلالة على أنّ الملاك في الإرث أقربيّة الميت من الوارث على ما سيجي‏ء البحث عنه في قوله تعالى:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) النساء: ١١، و الفرض قطع الشي‏ء الصلب

٢١٣

و إفراز بعضه من بعض، و لذا يستعمل في معنى الوجوب لكون إتيانه و امتثال الأمر به مقطوعاً معيّناً من غير تردّد، و النصيب المفروض هو المقطوع المعيّن.

و في الآية إعطاء للحكم الكلّيّ و تشريع لسنّة حديثة غير مألوفة في أذهان المكلّفين، فإنّ حكم الوراثة على النحو المشروع في الإسلام لم يكن قبل ذلك مسبوقاً بالمثل و قد كانت العادات و الرسوم على تحريم عدّة من الورّاث عادت بين الناس كالطبيعة الثانية تثير النفوس و تحرّك العواطف الكاذبة لو قرع بخلافها أسماعهم.

و قد مهّد له في الإسلام أوّلاً بتحكيم الحبّ في الله و الإيثار الدينيّ بين المؤمنين فعقد الاُخوّة بين المؤمنين ثمّ جعل التوارث بين الأخوين، و انتسخ بذلك الرسم السابق في التوارث، و انقلع المؤمنون من الأنفة و العصبيّة القديمة ثمّ لما اشتدّ عظم الدين، و قام صلبه شرّع التوارث بين اُولي الأرحام في حين كان هناك عدّة كافية من المؤمنين يلبّون لهذا التشريع أحسن التلبية.

و بهذه المقدّمة يظهر أنّ المقام مقام التصريح و رفع كلّ لبس متوهّم بضرب القاعدة الكلّيّة بقوله:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) ، فالحكم مطلق غير مقيّد بحال أو وصف أو غير ذلك أصلاً، كما أنّ موضوعه أعني الرجال عامّ غير مخصّص بشي‏ء متّصل فالصغار ذوو نصيب كالكبار.

ثمّ قال:( وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) و هو كسابقه عامّ من غير شائبة تخصيص فيعمّ جميع النساء من غير تخصيص أو تقييد، و قد أظهر في قوله ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ‏ مع أنّ المقام مقام الإضمار إيفاءً لحقّ التصريح و التنصيص، ثمّ قال:( مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ) زيادة في التوضيح و أن لا مجال للمسامحة في شي‏ء منه لقلّة و حقارة، ثمّ قال: نَصِيباً إلخ، و هو حال من النصيب لما فيه من المعنى المصدريّ، و هو بحسب المعنى تأكيد على تأكيد و زيادة في التنصيص على أنّ السهام مقطوعة معيّنة لا تقبل الاختلاط و الإبهام.

و قد استدلّ بالآية على عموم حكم الإرث لتركة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و غيره، و على بطلان التعصيب في الفرائض.

٢١٤

قوله تعالى: ( وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) إلخ ظاهر الآية أنّ المراد من حضورهم القسمة أن يشهدوا قسمة التركة حينما يأخذ الورثة في اقتسامها لا ما ذكره بعضهم أنّ المراد حضورهم عند الميّت حينما يوصي و نحو ذلك، و هو ظاهر.

و على هذا فالمراد من اُولي القربى الفقراء منهم، و يشهد بذلك أيضاً ذكرهم مع اليتامى و المساكين، و لحن قوله:( فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) ، الظاهر في الاسترحام و الاسترفاق، و يكون الخطاب حينئذ لأولياء الميّت و الورثة.

و قد اختلف في أنّ الرزق المذكور في الآية على نحو الوجوب أو الندب، و هو بحث فقهيّ خارج عن وضع هذا الكتاب، كما اختلف في أنّ الآية هل هي محكمة أو منسوخة بآية المواريث؟ مع أنّ النسبة بين الآيتين ليست نسبة التناقض لأنّ آية المواريث تعيّن فرائض الورثة، و هذه الآية تدلّ على غيرهم وجوباً أو ندباً في الجملة من غير تعيين سهم فلا موجب للنسخ و خاصّة بناءً على كون الرزق مندوباً كما أنّ الآية لا تخلو من ظهور فيه.

قوله تعالى: ( وَ لْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ الآية ) الخشية التأثّر القلبيّ ممّا يخاف نزوله مع شائبة تعظيم و إكبار، و سداد القول و سدده كونه صواباً مستقيماً.

و لا يبعد أن تكون الآية متعلّقة نحو تعلّق بقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية لاشتماله على إرث الأيتام الصغار بعمومه فتكون مسوقة سوق التهديد لمن يسلك مسلك تحريم صغار الورثة من الإرث، و يكون حينئذ قوله: وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً كناية عن اتّخاذ طريقة التحريم و العمل بها و هضم حقوق الأيتام الصغار، و الكناية بالقول عن الفعل للملازمة بينهما غالباً شائع في اللّسان كقوله تعالى:( وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حسناً ) الآية: البقرة: ٨٣، و يؤيّده توصيف القول بالسدّيّد دون المعروف و اللّيّن و نحوهما فإنّ ظاهر السداد في القول كونه قابلاً للاعتقاد و العمل به لا قابلاً لأن يحفظ به كرامة الناس و حرمتهم.

و كيف كان فظاهر قوله:( الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) أنّه تمثيل للرحمة و الرأفة على الذرّيّة الضعاف الّذين لا وليّ لهم يتكفّل أمرهم و يذود

٢١٥

عنهم الذلّ و الهوان، و ليس التخويف و التهديد المستفاد من الآية مخصوصاً بمن له ذرّيّة ضعفاء بالفعل لمكان لو في قوله: لَوْ تَرَكُوا، و لم يقل: لو تركوا ذرّيّتهم الضعاف بل هو تمثيل يقصّد به بيان الحال، و المراد الّذين من صفتهم أنّهم كذا أي أنّ في قلوبهم رحمة إنسانيّة و رأفة و شفقة على ضعفاء الذرّيّة الّذين مات عنهم آباؤهم و هم الأيتام و الّذين من صفتهم كذا هم الناس و خاصّة المسلمون المتأدّبون بأدب الله المتخلّقون بأخلاقه فيعود المعنى إلى مثل قولنا: و ليخش الناس و ليتّقوا الله في أمر اليتامى فإنّهم كأيتام أنفسهم في أنّهم ذرّيّة ضعاف يجب أن يخاف عليهم و يعتنى بشأنهم و لا يضطهدوا و لا يهضم حقوقهم فالكلام في مساق قولنا: من خاف الذلّ و الامتهان فليشتغل بالكسب و كلّ يخاف ذلك.

و لم يؤمر الناس في الآية بالترحّم و الترؤّف و نحو ذلك بل بالخشية و اتّقاء الله و ليس إلّا أنه تهديد بحلول ما أحلّوا بأيتام الناس من إبطال حقوقهم و أكل مالهم ظلماً بأيتام أنفسهم بعدهم، و ارتداد المصائب الّتي أوردوها عليهم إلى ذرّيّتهم بعدهم.

و أمّا قوله:( فَلْيتّقوا الله وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ) فقد تقدّم أنّ الظاهر أنّ المراد بالقول هو الجري العمليّ و من الممكن أن يراد به الرأي.

( كلام في انعكاس العمل إلى صاحبه)

من ظلم يتيماً في ماله فإنّ ظلمه سيعود إلى الأيتام من أعقابه، و هذا من الحقائق العجيبة القرآنيّة، و هو من فروع ما يظهر من كلامه تعالى أنّ بين الأعمال الحسنة و السيّئة و بين الحوادث الخارجيّة ارتباطاً، و قد تقدّم بعض الكلام فيه في البحث عن أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

الناس يتسلّمون في الجملة أنّ الإنسان إنّما يجني ثمر عمله و أنّ المحسن الخيّر من الناس يسعد في حياته، و الظلوم الشرير لا يلبث دون أن يذوق وبال عمله، و في القرآن الكريم آيات تدلّ على ذلك بإطلاقها كقوله تعالى:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ) حم السجدة: ٤٦، و قوله:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ

٢١٦

مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) الزلزال: ٨، و كذا قوله تعالى:( قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنا أنّه مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحسنينَ ) يوسف: ٩٠، و قوله:( لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ) الحجّ: ٩، و قوله:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) الآية: الشورى: ٣٠، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ الخير و الشرّ من العمل له نوع انعكاس و ارتداد إلى عامله في الدنيا.

و السابق إلى أذهاننا - المأنوسة بالأفكار التجربيّة الدائرة في المجتمع - من هذه الآيات أنّ هذا الانعكاس إنّما هو من عمل الإنسان إلى نفسه إلّا أنّ هناك آيات دالّة على أنّ الأمر أوسع من ذلك، و أنّ عمل الإنسان خيراً أو شرّاً ربّما عاد إليه في ذرّيّته و أعقابه قال تعالى:( وَ أمّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ ربّك أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ ربّك ) الكهف: ٨٢، فظاهر الآية أنّ لصلاح أبيهما دخلاً فيما أراده الله رحمة بهما، و قال تعالى:( وَ لْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) الآية.

و على هذا فأمر انعكاس العمل أوسع و أعمّ، و النعمة أو المصيبة ربّما تحلّان بالإنسان بما كسبت يدا شخصه أو أيدي آبائه.

و التدبّر في كلامه تعالى يهدي إلى حقيقة السبب في ذلك فقد تقدّم في الكلام على الدعاء في الجزء الثاني من هذا الكتاب في قوله تعالى:( وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي ) البقرة: ١٨٦، دلالة كلامه تعالى على أنّ جميع ما يحلّ الإنسان من جانبه تعالى إنّما هو لمسألة سألها ربّه، و أنّ ما مهّده من مقدّمة و داخله من الأسباب سؤال منه لما ينتهي إليه من الحوادث و المسبّبات قال تعالى:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كلّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) الرحمن: ٢٩، و قال تعالى:( وَ آتاكُمْ مِنْ كلّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوها ) إبراهيم: ٣٤، و لم يقل: و إن تعدّوه لا تحصوه لأنّ فيما سألوه ما ليس بنعمة، و المقام مقام الامتنان بالنعم و اللّوم على كفرها و لذا ذكر بعض ما سألوه و هو النعمة.

ثمّ إنّ ما يفعله الإنسان لنفسه و يوقعه على غيره من خير أو شرّ يرتضيه لمن أوقع

٢١٧

عليه و هو إنسان مثله فليس إلّا أنّه يرتضيه لنفسه و يسأله لشخصه فليس هناك إلّا الإنسانيّة و من ههنا يتّضح للإنسان أنّه إن أحسن لأحد فإنّما سأل الله ذلك الإحسان لنفسه دعاء مستجاباً و سؤالاً غير مردود، و إن أساء على أحد أو ظلمه فإنّما طلب ذلك لنفسه و ارتضاه لها و ما يرتضيه لأولاد الناس و يتاماهم يرتضيه لأولاد نفسه و يسأله لهم من خير أو شرّ، قال تعالى:( لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ‏ ) البقرة: ١٤٨، فإنّ معناه أن استبقوا الخيرات لتكون وجهتكم خيراً.

و الاشتراك في الدم و وحدة الرحم يجعل عمود النسب و هو العترة شيئاً واحداً فأيّ حال عرضت لجانب من جوانب هذا الواحد، و أيّ نازلة نزلت في طرف من أطرافها فإنّما عرضت و نزلت على متنه و هو في حساب جميع الأطراف، و قد مرّ شطر من الكلام في الرحم في أوّل هذه السورة.

فقد ظهر بهذا البيان أنّ ما يعامل به الإنسان غيره أو ذرّيّة غيره فلا محيص من أن ينعكس إلى نفسه أو ينقلب إلى ذرّيّته إلّا أن يشاء الله، و إنّما استثنينا لأنّ في الوجود عوامل و جهات غير محصورة لا يحيط بجميعها إحصاء الإنسان، و من الممكن أن تجري هناك عوامل و أسباب لم نتنبّه لها أو لم نطّلع عليها توجب خلاف ذلك كما يشير إليه بعض الإشارة قوله تعالى:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠.

قوله تعالى: ( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً إنّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) الآية يقال: أكله و أكله في بطنه و هما بمعنى واحد غير أنّ التعبير الثاني أصرح و الآية كسابقتها متعلّقه للمضمون بقوله:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ) الآية و هي تخويف و ردع للناس عن هضم حقوق اليتامى في الإرث.

و الآية ممّا يدلّ على تجسّم الأعمال على ما مرّ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب في قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مثلاً ما ) البقرة: ٢٦، و لعلّ هذا مراد من قال من المفسّرين أن قوله:( إنّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) ، كلام على الحقيقة دون المجاز و على هذا لا يرد عليه ما أورده بعض المفسّرين: أنّ قوله: يَأْكُلُونَ اُريد به الحال دون

٢١٨

الاستقبال بقرينة عطف قوله:( وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) عليه و هو فعل دخل عليه حرف الاستقبال فلو كان المراد به حقيقة الأكل - و وقته يوم القيامة - لكان من اللّازم أن يقال: سيأكلون في بطونهم ناراً و يصلون سعيراً فالحقّ أنّ المراد به المعنى المجازيّ، و أنّهم في أكل مال اليتيم كمن يأكل في بطنه ناراً انتهى ملخّصاً و هو غفلة عن معنى تجسّم الأعمال.

و أمّا قوله:( وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) فهو إشارة إلى العذاب الاُخرويّ، و السعير من أسماء نار الآخرة يقال صلى النار يصلاها صلىّ و صليّاً أي احترق بها و قاسى عذابها.

( بحث روائي‏)

في المجمع في قوله تعالى:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) الآية: اختلف الناس في هذه الآية على قولين: أحدهما أنّها محكمة غير منسوخة، و هو المرويّ عن الباقرعليه‌السلام .

أقول: و عن تفسير عليّ بن إبراهيم أنّها منسوخة بقوله تعالى:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ ) الآية، و لا وجه له، و قد ظهر في البيان السابق أنّ الآية بيان كلّيّ لحكم المواريث و لا تنافي بينها و بين سائر آيات الإرث المحكمة حتّى يقال بانتساخها بها.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال: نزلت في اُمّ كلثوم و ابنة اُمّ كحلة أو اُمّ كحلة و ثعلبة بن أوس و سويد و هم من الأنصار كان أحدهم زوجها و الآخر عمّ ولدها فقالت: يا رسول الله توفّي زوجي و تركني و ابنته فلم نورّث من ماله فقال عمّ ولدها: يا رسول الله لا تركب فرساً و لا تنكي عدوّاً و يكسب عليها و لا تكتسب، فنزلت: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية.

أقول: و في بعض الروايات عن ابن عبّاس أنّها نزلت في رجل من الأنصار مات و ترك ابنتين فجاء ابنا عمّه و هما عصبته فقالت امرأته تزوّجا بهما - و كان بهما دمامة - فأبيا فرفعت الأمر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت آيات المواريث. الرواية. و لا بأس بتعدّد هذه الأسباب كما مرّ مراراً.

و في المجمع،: في قوله تعالى:( وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى ) الآية: اختلف الناس

٢١٩

في هذه الآية على قولين: أحدهما أنّها محكمة غير منسوخة قال: و هو المرويّ عن الباقرعليه‌السلام .

و في نهج البيان، للشيبانيّ: أنّه مرويّ عن الباقر و الصادقعليه‌السلام .

أقول: و في بعض الروايات أنّها منسوخة بآية المواريث، و قد تقدّم في البيان المتقدّم أنّها غير صالحة للنسخ.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي عبدالله و أبي الحسنعليهما‌السلام : أنّ الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنتين: أمّا إحداهما فعقوبة الآخرة النار، و أمّا الاُخرى فعقوبة الدنيا قوله:( وَ لْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيتّقوا الله وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ) ، قال: يعني بذلك ليخش أن أخلفه في ذرّيّته كما صنع بهؤلاء اليتامى.

أقول: و روي مثله في الكافي عن الصادقعليه‌السلام ، و في المعاني عن الباقرعليه‌السلام .

و فيه، عن عبدالأعلى مولى آل سام قال أبوعبداللهعليه‌السلام مبتدئاً: من ظلم سلّط الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه، قال: فذكرت في نفسي فقلت: يظلم هو فيسلّط على عقبه و عقب عقبه؟ فقال لي قبل أن أتكلّم: إن الله يقول:( وَ لْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيتّقوا الله وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: اتّقوا الله في الضعيفين: اليتيم و المرأة ايتمه ثمّ أوصى به، و ابتلاه و ابتلى به.

أقول: و الأخبار في أكل مال اليتيم و أنّها كبيرة موبقة من طرق الفريقين كثيرة مستفيضة.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458