الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 129094
تحميل: 5416


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129094 / تحميل: 5416
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

على النساء أن يئسن من الحمل في سنّ الخمسين و يمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد ذلك، و ربّما بقي قابليّة التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعيّ و هي مائة سنة فيكون عمر صلاحية الرجال للتوليد و هو ثمانون سنة تقريباً ضعفه في المرأة و هو أربعون تقريباً، و إذا ضمّ هذا الوجه إلى الوجه السابق أنتج أنّ الطبيعة و الخلقة أباح للرجال التعدّي من الزوجة الواحدة إلى غيرها فلا معنى لتهيئة قوّة التوليد و المنع عن الاستيلاد من محلّ شأنه ذلك فإنّ ذلك ممّا تأباه سنّة العلل و الأسباب الجارية.

و رابعاً: أنّ الحوادث المبيدة لأفراد المجتمع من الحروب و المقاتل و غيرهما تحلّ بالرجال و تفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يقاس كما تقدّم أنّه كان أقوى العوامل لشيوع تعدّد الزوجات في القبائل فهذه الأرامل و النساء العزل لا محيص لهنّ عن قبول التعدّد أو الزنا أو خيبة القوّة المودعة في طبائعهنّ و بطلانها.

و ممّا يتأيّد به هذه الحقيقة ما وقع في الألمان الغربيّ قبل عدّة شهور من كتابة هذه الأوراق: أظهرت جمعيّة النساء العزل تحرّجها من فقدان البعولة و سألت الحكومة أن يسمح لهنّ بسنّة تعدّد الزوجات الإسلاميّة حتّى يتزوّج من شاء من الرجال بأزيد من واحدة و يرتفع بذلك غائلة الحرمان، غير أنّ الحكومة لم تجبهنّ في ذلك و امتنعت الكنيسة من قبوله و رضيت بفشوّ الزنا و شيوعه و فساد النسل به.

و منها أنّ الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعيّة بين الرجال و النساء في العدد مع‏ الغضّ عمّا تقدّم إنّما يستقيم فيما لو فرض أن يتزوّج كلّ رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة إلى أربع من النساء لكنّ الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك و لا يسع ذلك بالطبع إلّا لبعضهم دون جميعهم و الإسلام لم يشرّع تعدّد الزوجات بنحو الفرض و الوجوب على الرجال بل إنّما أباح ذلك لمن استطاع أن يقيم القسط منهم، و من أوضح الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجاً و لا فساداً أنّ سير هذه السنّة بين المسلمين و كذا بين سائر الاُمم الّذين يرون ذلك لم يستلزم حرجاً من قحط النساء و إعوازهنّ على الرجال. بل بالعكس من ذلك أعدّ تحريم التعدّد في البلاد الّتي فيها ذلك اُلوفاً من النساء حرمن الأزواج و الاجتماع المنزليّ و اكتفين بالزنا.

٢٠١

و منها أنّ الاستدلال المذكور مع الإغماض عن ما سبق إنّما يستقيم لو لم يصلح هذا الحكم و لم يعدّل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهّمة فقد شرط الإسلام على من يريد من الرجال التعدّد أن يقيم العدل في معاشرتهنّ بالمعروف و في القسم و الفراش و فرض عليهم نفقتهنّ ثمّ نفقة أولادهنّ و لا يتيسّر الإنفاق على أربع نسوة مثلاً و من يلدنه من الأولاد مع شريطة العدل في المعاشرة و غير ذلك إلّا لبعض اُولي الطول و السعة من الناس لا لجميعهم.

على أنّ هناك طرقاً دينيّة شرعيّة يمكن أن تستريح إليها المرأة فتلزم الزوج على الاقتصار عليها و الإغماض عن التكثير.

و الجواب عن الثالث: أنّه مبني على عدم التدبّر في نحو التربية الإسلاميّة و مقاصد هذه الشريعة فإنّ التربية الدينيّة للنساء في المجتمع الإسلاميّ الّذي يرتضيه الدين بالستر و العفاف و الحياء و عدم الخرق تنمي المرأة و شهوة النكاح فيها أقلّ منها في الرجل (على الرغم ممّا شاع أنّ شهوة النكاح فيها أزيد و أكثر و استدلّ عليه بتولّعها المفرط بالزينة و الجمال طبعاً) و هذا أمر لا يكاد يشكّ فيه رجال المسلمين ممّن تزوّج بالنساء الناشئات على التربية الدينيّة فشهوة النكاح في المتوسّط من الرجال تعادل ما في أكثر من امرأة واحدة بل و المرأتين و الثلاث.

و من جهة اُخرى من عناية هذا الدين أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات الطبع و مشتهيات النفس فاعتبر أن لا تختزن الشهوة في الرجل و لا يحرم منها فيدعوه ذلك إلى التعدّي إلى الفجور و الفحشاء و المرأة الواحدة ربّما اعتذرت فيما يقرب من ثلث أوقات المعاشرة و المصاحبة كأيّام العادة و بعض أيّام الحمل و الوضع و الرضاع و نحو ذلك و الإسراع في رفع هذه الحاجة الغريزيّة هو لازم ما تكرّر منّا في المباحث السابقة من هذا الكتاب أنّ الإسلام يبني المجتمع على أساس الحياة التعقّليّة دون الحياة الإحساسيّة فبقاء الإنسان على حالة الإحساس الداعية إلى الاسترسال في الأهواء و الخواطر السوء كحال التعزّب و نحوه من أعظم المخاطر في نظر الإسلام.

و من جهة اُخرى من أهمّ المقاصد عند شارع الإسلام تكثّر نسل المسلمين

٢٠٢

و عمارة الأرض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحة ترفع الشرك و الفساد.

فهذه الجهات و أمثالها هي الّتي اهتمّ بها الإسلام في تشريع تعدّد الزوجات دون ترويج أمر الشهوة و ترغيب الناس إلى الانكباب عليها و لو أنصف هؤلاء المستشكلون كان هذه السنن الاجتماعيّة المعروفة بين هؤلاء البانين للاجتماع على أساس التمتّع المادّيّ أولى بالرمي بترويج الفحشاء و الترغيب إلى الشره من الإسلام الباني للاجتماع على أساس السعادة الدينيّة.

على أنّ في تجويز تعدّد الزوجات تسكيناً لثورة الحرص الّتي هي من لوازم الحرمان فكلّ محروم حريص، و لا همّ للممنوع المحبوس إلّا أن يهتك حجاب المنع و الحبس، فالمسلم و إن كان ذا زوجة واحدة فإنّه على سكن و طيب نفس من أنّه ليس بممنوع عن التوسّع في قضاء شهوته لو تحرّجت نفسه يوماً إليه، و هذا نوع تسكين لطيش النفس، و إحصان لها عن الميل إلى الفحشاء و هتك الأعراض المحرّمة.

و قد أنصف بعض الباحثين من الغربيّين حيث قال: لم يعمل في إشاعة الزنا و الفحشاء بين الملل المسيحيّة عامل أقوى من تحريم الكنيسة تعدّد الزوجات(١) .

و الجواب عن الرابع أنّه ممنوع فقد بيّنا في بعض المباحث السابقة عند الكلام في حقوق(٢) المرأة في الإسلام: أنّه لم يحترم النساء و لم يراع حقوقهنّ كلّ المراعاة أيّ‏ سنّة من السنن الدينيّة أو الدنيويّة من قديمها و حديثها بمثل ما احترمهنّ الإسلام و سنزيد في ذلك وضوحاً.

و أمّا تجويز تعدّد الزوجات للرجل فليس بمبنيّ على ما ذكر من إبطال الوزن الاجتماعيّ و إماتة حقوقهنّ و الاستخفاف بموقفهنّ في الحياة و إنّما هو مبنيّ على جهات من المصالح تقدّم بيان بعضها.

و قد اعترف بحسن هذا التشريع الإسلاميّ و ما في منعه من المفاسد الاجتماعيّة و المحاذير الحيويّة جمع من باحثي الغرب من الرجال و النساء من أراده فليراجع إلى مظانّه.

____________________

(١) رسالة المسترجان ديون بورت الإنجليزي في الاعتذار إلى حضرة محمّد و القرآن ترجمة الفاضل: السعيدي بالفارسية.

(٢) البحث العلميّ من الجزء الثاني ص: ٢٧٣

٢٠٣

و أقوى ما تشبّث به مخالفوا سنّة التعدّد من علماء الغرب و زوّقوه في أعين الناظرين ما هو مشهود في بيوت المسلمين تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة: ضرّتان أو ضرائر فإنّ هذه البيوت لا تحتوي على حياة صالحة و لا عيشة هنيئة، لا تلبث الضرّتان من أوّل يوم حلّتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد حتّى أنّهم سمّوا الحسد بداء الضرائر، و عندئذ تنقلب جميع العواطف و الإحساسات الرقيقة الّتي جبلت عليها النساء من الحبّ و لين الجانب و الرقّة و الرأفة و الشفقة و النصح و حفظ الغيب و الوفاء و المودّة و الرحمة و الإخلاص بالنسبة إلى الزوج و أولاده من غير الزوجة و بيته و جميع ما يتعلّق به إلى أضدادها، فينقلب البيت الّذي هو سكن للإنسان يستريح فيه من تعب الحياة اليوميّ و تألّم الروح و الجسم من مشاقّ الأعمال و الجهد في المكسب معركة قتال يستباح فيها النفس و العرض و المال و الجاه، لا يؤمن فيه من شي‏ء لشي‏ء، و يتكدّر فيه صفو العيش و ترتحل لذّة الحياة، و يحلّ محلّها الضرب و الشتم و السبّ و اللّعن و السعاية و النميمة و الرقابة و المكر و المكيدة، و اختلاف الأولاد و تشاجرهم، و ربّما انجرّ الأمر إلى همّ الزوجة بإهلاك الزوج، و قتل بعض الأولاد بعضاً أو أباهم، و تتبدّل القرابة بينهم إلى الأوتار الّتي تسحب في الأعقاب سفك الدماء و هلاك النسل و فساد البيت، أضف إلى ذلك ما يسري من ذلك إلى المجتمع من الشقاء و فساد الأخلاق و القسوة و الظلم و البغي و الفحشاء و انسلاب الأمن و الوثوق و خاصّة إذا اُضيف إلى ذلك جواز الطلاق فإباحة تعدّد الزوجات و الطلاق ينشئان في المجتمع رجالاً ذوّاقين مترفين لا همّ لهم إلّا اتّباع الشهوات و الحرص و التولّع على أخذ هذه و ترك تلك، و رفع واحدة و وضع اُخرى، و ليس فيه إلّا تضييع نصف المجتمع و إشقاؤه و هو قبيل النساء، و بذلك يفسد النصف الآخر.

هذا محصل ما ذكروه، و هو حقّ غير أنّه إنّما يرد على المسلمين لا على الإسلام و تعاليمه، و متى عمل المسلمون بحقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الإسلام حتّى يؤخذ الإسلام بالمفاسد الّتي أعقبته أعمالهم؟ و قد فقدوا منذ قرون الحكومة الصالحة الّتي تربّي الناس بالتعاليم الدينيّة الشريفة بل كان أسبق الناس إلى هتك الأستار الّتي أسدلها

٢٠٤

الدين و نقض قوانينه و إبطال حدوده هي طبقة الحكّام و الولاة على المسلمين، و الناس على دين ملوكهم، و لو اشتغلنا بقصّ بعض السير الجارية في بيوت الملوك و الفضائح الّتي كان يأتي بها ملوك الإسلام و ولاته منذ أن تبدّلت الحكومة الدينيّة بالملك و السلطنة المستبدّة لجاء بحياله تأليفاً مستقلّاً، و بالجملة لو ورد الإشكال فهو وارد على المسلمين في اختيارهم لبيوتهم نوع اجتماع لا يتضمّن سعادة عيشتهم و نحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها بحيث لا تنحرف عن مستقيم الصراط، و الذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء و الأولاد و إن كان على كلّ نفس ما اكتسبت من إثم، و ذلك أنّ سيرة هؤلاء الرجال و تفديتهم سعادة أنفسهم و أهليهم و أولادهم و صفاء جوّ مجتمعهم في سبيل شرههم و جهالتهم هو الأصل لجميع هذه المفاسد و المنبت لكلّ هذه الشقوة المبيدة.

و أمّا الإسلام فلم يشرّع تعدّد الزوجات على نحو الإيجاب و الفرض على كلّ رجل، و إنّما نظر في طبيعة الأفراد و ما ربّما يعرضهم من العوارض الحادثة، و اعتبر الصلاح القاطع في ذلك (كما مرّ تفصيله) ثمّ استقصى مفاسد التكثير و محاذيره و أحصاها فأباح عند ذلك التعدّد حفظاً لمصلحة المجتمع الإنسانيّ، و قيّده بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد الشنيعة و هو وثوق الرجل بأنّه سيقسط بينهنّ و يعدل فمن وثق من نفسه بذلك و وفّق له فهو الّذي أباح له الدين تعدّد الزوجات، و أمّا هؤلاء الّذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم و أهليهم و أولادهم و لا كرامة عندهم إلّا ترضية بطونهم و فروجهم، و لا مفهوم للمرأة عندهم إلّا أنّها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل و لذّته فلا شأن للإسلام فيهم، و لا يجوز لهم إلّا الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك و الحال هذه.

على أنّ في أصل الإشكال خلطاً بين جهتين مفرّقتين في الإسلام، و هما جهتا التشريع و الولاية.

توضيح ذلك أنّ المدار في القضاء بالصلاح و الفساد في القوانين الموضوعة و السنن الجارية عند الباحثين اليوم هو الآثار و النتائج المرضيّة أو غير المرضيّة الحاصلة من جريانها في الجوامع و قبول الجوامع لها بفعليّتها الموجودة و عدم قبولها، و ما أظنّ أنّهم على غفلة من أنّ المجتمع ربّما اشتمل على بعض سنن و عادات و عوارض لا تلائم الحكم

٢٠٥

المبحوث عنه و أنّه يجب تجهيز المجتمع بما لا ينافي الحكم أو السنّة المذكورة حتّى يرى إلى ما يصير أمره؟ و ما ذا يبقى من الأثر خيراً أو شرّاً أو نفعاً أو ضرّاً؟ إلّا أنّهم يعتبرون في القوانين الموضوعة ما يريده و يستدعيه المجتمع بحاضر إرادته و ظاهر فكرته كيفما كان، فما وافق إرادتهم و مستدعياتهم فهو القانون الصالح و ما خالف ذلك فهو القانون غير الصالح.

و لذلك لمّا رأوا المسلمين تائهين في اُودية الغيّ فاسدين في معاشهم و معادهم نسبوا ما يشاهدونه منهم من الكذب و الخيانة و الخنا و هضم الحقوق و فشوّ البغي و فساد البيوت و اختلال الاجتماع إلى القوانين الدينيّة الدائرة بينهم زعماً منهم أنّ السنّة الإسلاميّة في جريانها بين الناس و تأثيرها أثرها كسائر السنن الاجتماعيّة الّتي تحمل على الناس عن إحساسات متراكمة بينهم، و يستنتجون من ذلك أنّ الإسلام هو المولّد لهذه المفاسد الاجتماعيّة و منه ينشأ هذا البغي و الفساد (و فيهم أبغى البغي و أخنى الخنا، و كلّ الصيد في جوف الفراء) و لو كان ديناً واقعيّاً و كانت القوانين الموضوعة فيه جيّدة متضمّنة لصلاح الناس و سعادتهم لأثّرت فيهم الآثار المسعدة الجميلة، و لم ينقلب وبالاً عليهم!.

و لكنّهم خلطوا بين طبيعة الحكم الصالحة المصلحة، و بين طبيعة الناس الفاسدة المفسدة، و الإسلام مجموع معارف أصليّة و أخلاقيّة و قوانين عمليّة متناسبة الأطراف مرتبطة الأجزاء إذا اُفسد بعض أجزائها أوجب ذلك فساد الجميع و انحرافها في التأثير كالأدوية و المعاجين المركّبة الّتي تحتاج في تأثيرها الصحّيّ إلى سلامة أجزائها و إلى محلّ معدّ مهيّأ لورودها و عملها، و لو اُفسد بعض أجزائها أو لم يعتبر في الإنسان المستعمل لها شرائط الاستعمال بطل عنها وصف التأثير، و ربّما أثّرت ما يضادّ أثرها المترقّب منها.

هب أنّ السنّة الإسلاميّة لم تقو على إصلاح الناس و محق الذمائم و الرذائل العامّة لضعف مبانيها التقنينيّة فما بال السنّة الديمقراطيّة لا تنجع في بلادنا الشرقيّة أثرها في البلاد الاُوربيّة؟ و ما بالنا كلّما أمعنّا في السير و الكدح بالغنا في الرجوع على أعقابنا القهقرى و لا يشكّ شاكّ أنّ الذمائم و الرذائل اليوم أشدّ تصلّباً و تعرّقاً فينا

٢٠٦

و نحن مدنيّون متنوّرون منها قبل نصف قرن و نحن همجيّون، و ليس لنا حظّ من العدل الاجتماعيّ و حياة الحقوق البشريّة و المعارف العامّة العالية و كلّ سعادة اجتماعيّة إلّا أسماءً نسمّيها و ألفاظاً نسمعها.

فهل يمكن لمعتذر عن ذلك إلّا بأنّ هذه السنن المرضيّة إنّما لم تؤثّر أثرها لأنّكم لا تعملون بها، و لا تهتمّون بإجرائها فما بال هذا العذر يجري فيها و ينجع و لا يجري في الإسلام و لا ينجع؟.

و هب أنّ الإسلام لوهن أساسها (و العياذ بالله) عجز عن التمكّن في قلوب الناس و النفوذ الكامل في أعماق المجتمع فلم تدم حكومته و لم يقدر على حفظ حياته في المجتمع الإسلاميّ فلم يلبث دون أن عاد مهجوراً فما بال السنّة الديمقراطيّة و كانت سنّة مرضيّة عالميّة ارتحلت بعد الحرب العالميّة الكبرى الاُولى عن روسيا و انمحت آثارها و خلفتها السنّة الشيوعيّة؟ و ما بالها انقلبت إلى السنّة الشيوعيّة بعد الحرب العالميّة الكبرى الثانية في ممالك الصين و لتوني و إستوني و ليتواني و رومانيا و المجر و يوغوسلاوي و غيرها، و هي تهدّد سائر الممالك و قد نفذت فيها نفوذاً؟.

و ما بال السنّة الشيوعيّة بعد ما عمّرت ما يقرب من أربعين سنة، و انبسطت و حكمت فيما يقرب من نصف المجتمع الإنسانيّ و لم يزل دعاتها و أولياؤها يتباهون في فضيلتها أنّها المشرعة الصافية الوحيدة الّتي لا يشوبها تحكّم الاستبداد و لا استثمار الديمقراطيّة و أنّ البلاد الّتي تعرّقت فيها هي الجنّة الموعودة ثمّ لم يلبث هؤلاء الدعاة و الأولياء أنفسهم دون أن انتهضوا قبل سنتين على تقبيح حكومة قائدها الوحيد (ستالين) الّذي كان يتولّى إمامتها و قيادتها منذ ثلاثين سنة، و أوضحوا أنّ حكومته كانت حكومة تحكّم و استبداد و استعباد في صورة الشيوعيّة، و لا محالة كان له التأثير العظيم في وضع القوانين الدائرة و إجرائها و سائر ما يتعلّق بذلك فلم ينتش شي‏ء من ذلك إلّا عن إرادة مستبدّة مستعبدة و حكومة فرديّة تحيي اُلوفاً و تميت اُلوفاً و تسعد أقواماً و تشقي آخرين. و الله يعلم من الّذي يأتي بعد هؤلاء و يقضي عليهم بمثل ما قضوا به على من كان قبلهم.

و السنن و الآداب و الرسوم الدائرة في المجتمعات (أعمّ من الصحيحة و الفاسدة)

٢٠٧

ثمّ المرتحلة عنها لعوامل متفرّقة أقواها خيانة أولياؤها و ضعف إرادة الأفراد المستنّين بها كثيرة يعثر عليها من راجع كتب التواريخ.

فليت شعري ما الفارق بين الإسلام من حيث إنّها سنّة اجتماعيّة و بين هذه السنن المتقلّبة المتبدّلة حيث يقبل العذر فيها و لا يقبل في الإسلام؟ نعم كلمة الحقّ اليوم واقعة بين قدرة هائلة غربيّة و جهالة تقليد شرقيّة فلا سماء تظلّها و لا أرض تقلّها و على أيّ حال يجب أن يتنبّه ممّا فصّلناه أنّ تأثير سنّة من السنن أثرها في الناس و عدمه و كذا بقاؤها بين الناس و ارتحالها لا يرتبط كلّ الارتباط بصحّتها و فسادها حتّى يستدلّ عليه بذلك بل لسائر العلل و الأسباب تأثير في ذلك فما من سنّة من السنن الدائرة بين الناس في جميع الأطوار و العهود إلّا و هي تنتج يوماً و تعقم آخر و تقيم بين الناس برهة من الزمان و ترتحل عنهم في اُخرى لعوامل مختلفة تعمل فيها، و تلك الأيّام نداولها بين الناس و ليعلم الله الّذين آمنوا و يتّخذ منكم شهداء.

و بالجملة القوانين الإسلاميّة و الأحكام الّتي فيها، تخالف بحسب المبنى و المشرب سائر القوانين الاجتماعيّة الدائرة بين الناس فإنّ القوانين الاجتماعيّة الّتي لهم تختلف باختلاف الأعصار و تتبدّل بتبدّل المصالح لكنّ القوانين الإسلاميّة لا تحتمل الاختلاف و التبدّل من واجب أو حرام أو مستحبّ أو مكروه أو مباح غير أنّ الأفعال الّتي للفرد من المجتمع أن يفعلها أو يتركها و كلّ تصرّف له أن يتصرّف به أو يدعه فلوالي الأمر أن يأمر الناس بها أو ينهاهم عنها و يتصرّف في ذلك كأنّ المجتمع فرد و الوالي نفسه المتفكّرة المريدة.

فلو كان للإسلام وال أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم الّتي يرتكبونها باسم تعدّد الزوجات و غير ذلك من غير أن يتغيّر الحكم الإلهيّ بإباحته، و إنّما هو عزيمة إجرائيّة عامّة لمصلحة نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدّد الزوجات لمصلحة يراها لا لتغيير في الحكم بل لأنّه حكم إباحيّ له أن يعزم على تركه.

٢٠٨

( بحث علميّ آخر ملحق به)

( في تعدّد أزواج النبيّ)

و ممّا اعترضوا عليه تعدّد زوجات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا: إنّ تعدّد الزوجات لا يخلو في نفسه عن الشره و الانقياد لداعي الشهوة: و هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقنع بما شرّعه لاُمّته من الأربع حتّى تعدّى إلى التسع من النسوة.

و المسألة ترتبط بآيات متفرّقة كثيرة في القرآن، و البحث من كلّ جهة من جهاتها يجب أن يستوفي عند الكلام على الآية المربوطة بها و لذلك أخّرنا تفصيل القول إلى محاله المناسبة له و إنّما نشير ههنا إلى ذلك إشارة إجماليّة.

فنقول: من الواجب أن يلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أنّ قصّة تعدّد زوجات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليست على هذه السذاجة (أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالغ في حبّ النساء حتّى أنهى عدّة أزواجه إلى تسع نسوة) بل كان اختياره لمن اختارها منهنّ على نهج خاصّ في مدى حياته فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان تزوّج - أوّل ما تزوّج - بخديجة رضي الله عنها و عاش معها مقتصراً عليها نيّفاً و عشرين سنة (و هي ثلثا عمره الشريف بعد الازدواج) منها ثلاث عشرة سنة بعد نبوّته قبل الهجرة من مكّة ثمّ هاجر إلى المدينة و شرع في نشر الدعوة و إعلاء كلمة الدين، و تزوّج بعدها من النساء منهنّ البكر و منهنّ الثيّب و منهنّ الشابّة و منهنّ العجوز و المكتهلة و كان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين ثمّ حرّم عليه النساء بعد ذلك إلّا من هي في حبالة نكاحه، و من المعلوم أنّ هذا الفعال على هذه الخصوصيّات لا يقبل التوجيه بمجرّد حبّ النساء و الولوع بهنّ و الوله بالقرب منهنّ فأوّل هذه السيرة و آخرها يناقضان ذلك.

على أنّا لا نشكّ بحسب ما نشاهده من العادة الجارية أنّ المتولّع بالنساء المغرم بحبّهنّ و الخلاء بهنّ و الصبوة إليهنّ مجذوب إلى الزينة عشيق للجمال مفتون بالغنج و الدلال حنين إلى الشباب و نضارة السنّ و طراوة الخلقة، و هذه الخواصّ أيضاً لا تنطبق على سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه بنى بالثيّب بعد البكر و بالعجوز بعد الفتاة الشابّة فقد بنى

٢٠٩

باُمّ سلمة و هي مسنّة، و بنى بزينب بنت جحش و سنّها يومئذ يربو على خمسين بعد ما تزوج بمثل عائشة و اُمّ حبيبة و هكذا.

و قد خيّرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءه بين التمتيع و السراح الجميل و هو الطلاق إن كنّ يردن الدنيا و زينتها و بين الزهد في الدنيا و ترك التزيّن و التجمّل إن كنّ يردن الله و رسوله و الدار الآخرة على ما يشهد به قوله تعالى في القصّة:

( يا أَيُّهَا النبيّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الله وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحسناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) الأحزاب: ٢٩، و هذا المعنى أيضاً - كما ترى - لا ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صاب إلى وصالهنّ.

فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمّق إذا أنصف إلّا أن يوجّه كثرة ازدواجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما بين أوّل أمره و آخر أمره بعوامل اُخر غير عامل الشره و الشبق و التلهّي.

فقد تزوّجصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض هؤلاء الأزواج اكتساباً للقوّة و ازدياداً للعضد و العشيرة، و ببعض هؤلاء استمالة للقلوب و توقّياً من بعض الشرور، و ببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالإنفاق و إدارة المعاش و ليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل و العجائز من المسكنة و الضيعة، و ببعضها لتثبيت حكم مشروع و إجرائه عملاً لكسر السنن المنحطّة و البدع الباطلة الجارية بين الناس كما في تزوّجه بزينب بنت جحش و قد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثمّ طلّقها زيد، و قد كان زيد هذا يدعى ابن رسول الله على نحو التبنّي و كانت زوجة المدعوّ ابناً عندهم كزوجة الابن الصلبيّ لا يتزوّج بها الأب فتزوّج بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نزل فيها الآيات.

و كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوّج لأوّل مرّة بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة و قد توفّي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، و كانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة و لو رجعت إلى أهلها و هم يومئذ كفّار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين و المؤمنات بالزجر و القتل و الإكراه على الكفر.

و تزوّج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبدالله بن جحش في اُحد و كانت

٢١٠

من السيّدات الفضليات في الجاهليّة تدعى اُمّ المساكين لكثرة برّها للفقراء و المساكين و عطوفتها بهم فصان بازدواجها ماء وجهها.

و تزوّج باُمّ سلمة و اسمها هند و كانت من قبل زوجة عبدالله أبي سلمة ابن عمّة النبيّ و أخيه من الرضاعة أوّل من هاجر إلى الحبشة و كانت زاهدة فاضلة ذات دين و رأي فلمّا توفّي عنها زوجها كانت مسنّة ذات أيتام فتزوّج بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و تزوّج بصفيّة بنت حييّ بن أخطب سيّد بني النضير قتل زوجها يوم خيبر و قتل أبوها مع بني قريظة، و كانت في سبي خيبر فاصطفاها و أعتقها و تزوّج بها فوقاها بذلك من الذلّ و وصل سببه ببني إسرائيل.

و تزوّج بجويرية و اسمها برّة بنت الحارث سيّد بني المصطلق بعد وقعة بني المصطلق و قد كان المسلمون أسروا منهم مائتي بيت بالنساء و الذراريّ، فتزوّجصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها فقال المسلمون هؤلاء أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم و أعتقوهم جميعاً فأسلم بنو المصطلق بذلك، و لحقوا عن آخرهم بالمسلمين و كانوا جمّاً غفيراً و أثّر ذلك أثراً حسناً في سائر العرب.

و تزوّج بميمونة و اسمها برّة بنت الحارث الهلاليّة و هي الّتي وهبت نفسها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزّى فاستنكحها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تزوّج بها و قد نزل فيها القرآن.

و تزوّج باُمّ حبيبة و اسمها رملة بنت أبي سفيان و كانت زوجة عبيدالله بن جحش و هاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصّر عبيدالله هناك و ثبتت هي على الإسلام و أبوها أبوسفيان يجمع الجموع على الإسلام يومئذ فتزوّج بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أحصنها.

و تزوّج بحفصة بنت عمر و قد قتل زوجها خنيس بن حذاقة ببدر و بقيت أرملة و تزوّج بعائشة بنت أبي بكر و هي بكر.

فالتأمّل في هذه الخصوصيّات مع ما تقدّم في صدر الكلام من جمل سيرته في أوّل أمره و آخره و ما سار به من الزهد و ترك الزينة و ندبه نساءه إلى ذلك لا يبقى للمتأمّل موضع شكّ في أنّ ازدواجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمن تزوّج بها من النساء لم يكن على حدّ غيره من عامّة الناس، أضف إلى ذلك جمل صنائعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النساء، و إحياء ما كانت

٢١١

قرون الجاهليّة و أعصار الهمجيّة أماتت من حقوقهنّ في الحياة، و أخسرته من وزنهنّ في المجتمع الإنسانيّ حتّى روي أنّ آخر ما تكلّم بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو توصيتهنّ لجامعة الرجال‏

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( الصلاة الصلاة، و ما ملكت أيمانكم لا تكلّفوهم ما لا يطيقون، الله الله في النساء فإنهنّ عوان في أيديكم) الحديث.

و كانت سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العدل بين نسائه و حسن معاشرتهنّ و رعاية جانبهنّ ممّا يختصّ بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (على ما سيأتي شذرة منه في الكلام على سيرته في مستقبل المباحث إن شاء الله) و كان حكم الزيادة على الأربع كصوم الوصال من مختصّاته الّتي منعت عنها الاُمّة، و هذه الخصال و ظهورها على الناس هي الّتي منعت أعداءه من الاعتراض عليه بذلك مع تربّصهم الدوائر به.

٢١٢

( سورة النساء الآيات ٧ - ١٠)

لِلْرِجَالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلْنِسَاءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوض( ٧) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى‏ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوف( ٨) وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيد( ٩) إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى‏ ظُلْماً إِنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِير( ١٠)

( بيان)

شروع في تشريع أحكام الإرث بعد تمهيد ما مهّدت من المقدّمات، و قد قدّم بيان جمليّ لحكم الإرث من قبيل ضرب القاعدة لإيذان أن لا حرمان في الإرث بعد ثبوت الولادة أو القرابة حرماناً ثابتاً لبعض الأرحام و القرابات كتحريم صغار الورثة و النساء، و زيد مع ذلك في التحذير عن تحريم الأيتام من الوراثة فإنّه يستلزم أكل سائر الورثة أموالهم ظلماً و قد شدّد الله في النهي عنه. و قد ذكر مع ذلك مسألة رزق اُولي القربى و اليتامى و المساكين إذا حضروا قسمة التركة و لم يكونوا ممّن يرث تطفّلاً.

قوله تعالى: ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) الآية، النصيب هو الحظّ و السهم، و أصله من النصب بمعنى الإقامة لأنّ كلّ سهم عند القسمة ينصب على حدته حتّى لا يختلط بغيره، و التركة ما بقي من مال الميّت بعده كأنّه يتركه و يرتحل فاستعماله الأصليّ استعمال استعاريّ ثمّ ابتذل، و الأقربون هم القرابة الأدنون، و اختيار هذا اللّفظ على مثل الأقرباء و اُولي القربى و نحوهما لا يخلو من دلالة على أنّ الملاك في الإرث أقربيّة الميت من الوارث على ما سيجي‏ء البحث عنه في قوله تعالى:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) النساء: ١١، و الفرض قطع الشي‏ء الصلب

٢١٣

و إفراز بعضه من بعض، و لذا يستعمل في معنى الوجوب لكون إتيانه و امتثال الأمر به مقطوعاً معيّناً من غير تردّد، و النصيب المفروض هو المقطوع المعيّن.

و في الآية إعطاء للحكم الكلّيّ و تشريع لسنّة حديثة غير مألوفة في أذهان المكلّفين، فإنّ حكم الوراثة على النحو المشروع في الإسلام لم يكن قبل ذلك مسبوقاً بالمثل و قد كانت العادات و الرسوم على تحريم عدّة من الورّاث عادت بين الناس كالطبيعة الثانية تثير النفوس و تحرّك العواطف الكاذبة لو قرع بخلافها أسماعهم.

و قد مهّد له في الإسلام أوّلاً بتحكيم الحبّ في الله و الإيثار الدينيّ بين المؤمنين فعقد الاُخوّة بين المؤمنين ثمّ جعل التوارث بين الأخوين، و انتسخ بذلك الرسم السابق في التوارث، و انقلع المؤمنون من الأنفة و العصبيّة القديمة ثمّ لما اشتدّ عظم الدين، و قام صلبه شرّع التوارث بين اُولي الأرحام في حين كان هناك عدّة كافية من المؤمنين يلبّون لهذا التشريع أحسن التلبية.

و بهذه المقدّمة يظهر أنّ المقام مقام التصريح و رفع كلّ لبس متوهّم بضرب القاعدة الكلّيّة بقوله:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) ، فالحكم مطلق غير مقيّد بحال أو وصف أو غير ذلك أصلاً، كما أنّ موضوعه أعني الرجال عامّ غير مخصّص بشي‏ء متّصل فالصغار ذوو نصيب كالكبار.

ثمّ قال:( وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) و هو كسابقه عامّ من غير شائبة تخصيص فيعمّ جميع النساء من غير تخصيص أو تقييد، و قد أظهر في قوله ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ‏ مع أنّ المقام مقام الإضمار إيفاءً لحقّ التصريح و التنصيص، ثمّ قال:( مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ) زيادة في التوضيح و أن لا مجال للمسامحة في شي‏ء منه لقلّة و حقارة، ثمّ قال: نَصِيباً إلخ، و هو حال من النصيب لما فيه من المعنى المصدريّ، و هو بحسب المعنى تأكيد على تأكيد و زيادة في التنصيص على أنّ السهام مقطوعة معيّنة لا تقبل الاختلاط و الإبهام.

و قد استدلّ بالآية على عموم حكم الإرث لتركة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و غيره، و على بطلان التعصيب في الفرائض.

٢١٤

قوله تعالى: ( وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) إلخ ظاهر الآية أنّ المراد من حضورهم القسمة أن يشهدوا قسمة التركة حينما يأخذ الورثة في اقتسامها لا ما ذكره بعضهم أنّ المراد حضورهم عند الميّت حينما يوصي و نحو ذلك، و هو ظاهر.

و على هذا فالمراد من اُولي القربى الفقراء منهم، و يشهد بذلك أيضاً ذكرهم مع اليتامى و المساكين، و لحن قوله:( فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) ، الظاهر في الاسترحام و الاسترفاق، و يكون الخطاب حينئذ لأولياء الميّت و الورثة.

و قد اختلف في أنّ الرزق المذكور في الآية على نحو الوجوب أو الندب، و هو بحث فقهيّ خارج عن وضع هذا الكتاب، كما اختلف في أنّ الآية هل هي محكمة أو منسوخة بآية المواريث؟ مع أنّ النسبة بين الآيتين ليست نسبة التناقض لأنّ آية المواريث تعيّن فرائض الورثة، و هذه الآية تدلّ على غيرهم وجوباً أو ندباً في الجملة من غير تعيين سهم فلا موجب للنسخ و خاصّة بناءً على كون الرزق مندوباً كما أنّ الآية لا تخلو من ظهور فيه.

قوله تعالى: ( وَ لْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ الآية ) الخشية التأثّر القلبيّ ممّا يخاف نزوله مع شائبة تعظيم و إكبار، و سداد القول و سدده كونه صواباً مستقيماً.

و لا يبعد أن تكون الآية متعلّقة نحو تعلّق بقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية لاشتماله على إرث الأيتام الصغار بعمومه فتكون مسوقة سوق التهديد لمن يسلك مسلك تحريم صغار الورثة من الإرث، و يكون حينئذ قوله: وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً كناية عن اتّخاذ طريقة التحريم و العمل بها و هضم حقوق الأيتام الصغار، و الكناية بالقول عن الفعل للملازمة بينهما غالباً شائع في اللّسان كقوله تعالى:( وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حسناً ) الآية: البقرة: ٨٣، و يؤيّده توصيف القول بالسدّيّد دون المعروف و اللّيّن و نحوهما فإنّ ظاهر السداد في القول كونه قابلاً للاعتقاد و العمل به لا قابلاً لأن يحفظ به كرامة الناس و حرمتهم.

و كيف كان فظاهر قوله:( الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) أنّه تمثيل للرحمة و الرأفة على الذرّيّة الضعاف الّذين لا وليّ لهم يتكفّل أمرهم و يذود

٢١٥

عنهم الذلّ و الهوان، و ليس التخويف و التهديد المستفاد من الآية مخصوصاً بمن له ذرّيّة ضعفاء بالفعل لمكان لو في قوله: لَوْ تَرَكُوا، و لم يقل: لو تركوا ذرّيّتهم الضعاف بل هو تمثيل يقصّد به بيان الحال، و المراد الّذين من صفتهم أنّهم كذا أي أنّ في قلوبهم رحمة إنسانيّة و رأفة و شفقة على ضعفاء الذرّيّة الّذين مات عنهم آباؤهم و هم الأيتام و الّذين من صفتهم كذا هم الناس و خاصّة المسلمون المتأدّبون بأدب الله المتخلّقون بأخلاقه فيعود المعنى إلى مثل قولنا: و ليخش الناس و ليتّقوا الله في أمر اليتامى فإنّهم كأيتام أنفسهم في أنّهم ذرّيّة ضعاف يجب أن يخاف عليهم و يعتنى بشأنهم و لا يضطهدوا و لا يهضم حقوقهم فالكلام في مساق قولنا: من خاف الذلّ و الامتهان فليشتغل بالكسب و كلّ يخاف ذلك.

و لم يؤمر الناس في الآية بالترحّم و الترؤّف و نحو ذلك بل بالخشية و اتّقاء الله و ليس إلّا أنه تهديد بحلول ما أحلّوا بأيتام الناس من إبطال حقوقهم و أكل مالهم ظلماً بأيتام أنفسهم بعدهم، و ارتداد المصائب الّتي أوردوها عليهم إلى ذرّيّتهم بعدهم.

و أمّا قوله:( فَلْيتّقوا الله وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ) فقد تقدّم أنّ الظاهر أنّ المراد بالقول هو الجري العمليّ و من الممكن أن يراد به الرأي.

( كلام في انعكاس العمل إلى صاحبه)

من ظلم يتيماً في ماله فإنّ ظلمه سيعود إلى الأيتام من أعقابه، و هذا من الحقائق العجيبة القرآنيّة، و هو من فروع ما يظهر من كلامه تعالى أنّ بين الأعمال الحسنة و السيّئة و بين الحوادث الخارجيّة ارتباطاً، و قد تقدّم بعض الكلام فيه في البحث عن أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

الناس يتسلّمون في الجملة أنّ الإنسان إنّما يجني ثمر عمله و أنّ المحسن الخيّر من الناس يسعد في حياته، و الظلوم الشرير لا يلبث دون أن يذوق وبال عمله، و في القرآن الكريم آيات تدلّ على ذلك بإطلاقها كقوله تعالى:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ) حم السجدة: ٤٦، و قوله:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ

٢١٦

مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) الزلزال: ٨، و كذا قوله تعالى:( قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنا أنّه مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحسنينَ ) يوسف: ٩٠، و قوله:( لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ) الحجّ: ٩، و قوله:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) الآية: الشورى: ٣٠، إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ الخير و الشرّ من العمل له نوع انعكاس و ارتداد إلى عامله في الدنيا.

و السابق إلى أذهاننا - المأنوسة بالأفكار التجربيّة الدائرة في المجتمع - من هذه الآيات أنّ هذا الانعكاس إنّما هو من عمل الإنسان إلى نفسه إلّا أنّ هناك آيات دالّة على أنّ الأمر أوسع من ذلك، و أنّ عمل الإنسان خيراً أو شرّاً ربّما عاد إليه في ذرّيّته و أعقابه قال تعالى:( وَ أمّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ ربّك أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ ربّك ) الكهف: ٨٢، فظاهر الآية أنّ لصلاح أبيهما دخلاً فيما أراده الله رحمة بهما، و قال تعالى:( وَ لْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) الآية.

و على هذا فأمر انعكاس العمل أوسع و أعمّ، و النعمة أو المصيبة ربّما تحلّان بالإنسان بما كسبت يدا شخصه أو أيدي آبائه.

و التدبّر في كلامه تعالى يهدي إلى حقيقة السبب في ذلك فقد تقدّم في الكلام على الدعاء في الجزء الثاني من هذا الكتاب في قوله تعالى:( وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي ) البقرة: ١٨٦، دلالة كلامه تعالى على أنّ جميع ما يحلّ الإنسان من جانبه تعالى إنّما هو لمسألة سألها ربّه، و أنّ ما مهّده من مقدّمة و داخله من الأسباب سؤال منه لما ينتهي إليه من الحوادث و المسبّبات قال تعالى:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كلّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) الرحمن: ٢٩، و قال تعالى:( وَ آتاكُمْ مِنْ كلّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوها ) إبراهيم: ٣٤، و لم يقل: و إن تعدّوه لا تحصوه لأنّ فيما سألوه ما ليس بنعمة، و المقام مقام الامتنان بالنعم و اللّوم على كفرها و لذا ذكر بعض ما سألوه و هو النعمة.

ثمّ إنّ ما يفعله الإنسان لنفسه و يوقعه على غيره من خير أو شرّ يرتضيه لمن أوقع

٢١٧

عليه و هو إنسان مثله فليس إلّا أنّه يرتضيه لنفسه و يسأله لشخصه فليس هناك إلّا الإنسانيّة و من ههنا يتّضح للإنسان أنّه إن أحسن لأحد فإنّما سأل الله ذلك الإحسان لنفسه دعاء مستجاباً و سؤالاً غير مردود، و إن أساء على أحد أو ظلمه فإنّما طلب ذلك لنفسه و ارتضاه لها و ما يرتضيه لأولاد الناس و يتاماهم يرتضيه لأولاد نفسه و يسأله لهم من خير أو شرّ، قال تعالى:( لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ‏ ) البقرة: ١٤٨، فإنّ معناه أن استبقوا الخيرات لتكون وجهتكم خيراً.

و الاشتراك في الدم و وحدة الرحم يجعل عمود النسب و هو العترة شيئاً واحداً فأيّ حال عرضت لجانب من جوانب هذا الواحد، و أيّ نازلة نزلت في طرف من أطرافها فإنّما عرضت و نزلت على متنه و هو في حساب جميع الأطراف، و قد مرّ شطر من الكلام في الرحم في أوّل هذه السورة.

فقد ظهر بهذا البيان أنّ ما يعامل به الإنسان غيره أو ذرّيّة غيره فلا محيص من أن ينعكس إلى نفسه أو ينقلب إلى ذرّيّته إلّا أن يشاء الله، و إنّما استثنينا لأنّ في الوجود عوامل و جهات غير محصورة لا يحيط بجميعها إحصاء الإنسان، و من الممكن أن تجري هناك عوامل و أسباب لم نتنبّه لها أو لم نطّلع عليها توجب خلاف ذلك كما يشير إليه بعض الإشارة قوله تعالى:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠.

قوله تعالى: ( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً إنّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) الآية يقال: أكله و أكله في بطنه و هما بمعنى واحد غير أنّ التعبير الثاني أصرح و الآية كسابقتها متعلّقه للمضمون بقوله:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ) الآية و هي تخويف و ردع للناس عن هضم حقوق اليتامى في الإرث.

و الآية ممّا يدلّ على تجسّم الأعمال على ما مرّ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب في قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مثلاً ما ) البقرة: ٢٦، و لعلّ هذا مراد من قال من المفسّرين أن قوله:( إنّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ) ، كلام على الحقيقة دون المجاز و على هذا لا يرد عليه ما أورده بعض المفسّرين: أنّ قوله: يَأْكُلُونَ اُريد به الحال دون

٢١٨

الاستقبال بقرينة عطف قوله:( وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) عليه و هو فعل دخل عليه حرف الاستقبال فلو كان المراد به حقيقة الأكل - و وقته يوم القيامة - لكان من اللّازم أن يقال: سيأكلون في بطونهم ناراً و يصلون سعيراً فالحقّ أنّ المراد به المعنى المجازيّ، و أنّهم في أكل مال اليتيم كمن يأكل في بطنه ناراً انتهى ملخّصاً و هو غفلة عن معنى تجسّم الأعمال.

و أمّا قوله:( وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) فهو إشارة إلى العذاب الاُخرويّ، و السعير من أسماء نار الآخرة يقال صلى النار يصلاها صلىّ و صليّاً أي احترق بها و قاسى عذابها.

( بحث روائي‏)

في المجمع في قوله تعالى:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) الآية: اختلف الناس في هذه الآية على قولين: أحدهما أنّها محكمة غير منسوخة، و هو المرويّ عن الباقرعليه‌السلام .

أقول: و عن تفسير عليّ بن إبراهيم أنّها منسوخة بقوله تعالى:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ ) الآية، و لا وجه له، و قد ظهر في البيان السابق أنّ الآية بيان كلّيّ لحكم المواريث و لا تنافي بينها و بين سائر آيات الإرث المحكمة حتّى يقال بانتساخها بها.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال: نزلت في اُمّ كلثوم و ابنة اُمّ كحلة أو اُمّ كحلة و ثعلبة بن أوس و سويد و هم من الأنصار كان أحدهم زوجها و الآخر عمّ ولدها فقالت: يا رسول الله توفّي زوجي و تركني و ابنته فلم نورّث من ماله فقال عمّ ولدها: يا رسول الله لا تركب فرساً و لا تنكي عدوّاً و يكسب عليها و لا تكتسب، فنزلت: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية.

أقول: و في بعض الروايات عن ابن عبّاس أنّها نزلت في رجل من الأنصار مات و ترك ابنتين فجاء ابنا عمّه و هما عصبته فقالت امرأته تزوّجا بهما - و كان بهما دمامة - فأبيا فرفعت الأمر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت آيات المواريث. الرواية. و لا بأس بتعدّد هذه الأسباب كما مرّ مراراً.

و في المجمع،: في قوله تعالى:( وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى ) الآية: اختلف الناس

٢١٩

في هذه الآية على قولين: أحدهما أنّها محكمة غير منسوخة قال: و هو المرويّ عن الباقرعليه‌السلام .

و في نهج البيان، للشيبانيّ: أنّه مرويّ عن الباقر و الصادقعليه‌السلام .

أقول: و في بعض الروايات أنّها منسوخة بآية المواريث، و قد تقدّم في البيان المتقدّم أنّها غير صالحة للنسخ.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي عبدالله و أبي الحسنعليهما‌السلام : أنّ الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنتين: أمّا إحداهما فعقوبة الآخرة النار، و أمّا الاُخرى فعقوبة الدنيا قوله:( وَ لْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيتّقوا الله وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ) ، قال: يعني بذلك ليخش أن أخلفه في ذرّيّته كما صنع بهؤلاء اليتامى.

أقول: و روي مثله في الكافي عن الصادقعليه‌السلام ، و في المعاني عن الباقرعليه‌السلام .

و فيه، عن عبدالأعلى مولى آل سام قال أبوعبداللهعليه‌السلام مبتدئاً: من ظلم سلّط الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه، قال: فذكرت في نفسي فقلت: يظلم هو فيسلّط على عقبه و عقب عقبه؟ فقال لي قبل أن أتكلّم: إن الله يقول:( وَ لْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيتّقوا الله وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: اتّقوا الله في الضعيفين: اليتيم و المرأة ايتمه ثمّ أوصى به، و ابتلاه و ابتلى به.

أقول: و الأخبار في أكل مال اليتيم و أنّها كبيرة موبقة من طرق الفريقين كثيرة مستفيضة.

٢٢٠