الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134312 / تحميل: 6202
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

( سورة النساء الآيات ١١ - ١٤)

يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُم لِلْذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَمْ يَكُن لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمّهِ الثّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمّهِ السّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيم( ١١) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَم يَكُن لَهُنّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِن لَمْ يَكُن لَكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنّ الّثمُنُ مِمّا تَرَكْتُم مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِيْ الثّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى‏ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ وَصِيّةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ( ١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ١٣) وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ( ١٤)

( بيان)

قوله تعالى: ( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) الإيصاء و التوصية هو العهد و الأمر، و قال الراغب في مفردات القرآن: الوصيّة: التقدّم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ، انتهى.

٢٢١

و في العدول عن لفظ الأبناء إلى الأولاد دلالة على أنّ حكم السهم و السهمين مخصوص بما ولده الميّت بلا واسطة، و أمّا أولاد الأولاد فنازلاً فحكمهم حكم من يتّصلون به فلبنت الابن سهمان و لابن البنت سهم واحد إذا لم يكن هناك من يتقدّم على مرتبتهم كما أنّ الحكم في أولاد الإخوة و الأخوات حكم من يتّصلون به، و أمّا لفظ الإبن فلا يقضي بنفي الواسطة كما أنّ الأب أعمّ من الوالد.

و أمّا قوله تعالى في ذيل الآية:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) فسيجي‏ء أنّ هناك عناية خاصّة تستوجب اختيار لفظ الأبناء على الأولاد.

و أمّا قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ففي انتخاب هذا التعبير إشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهليّة من منع توريث النساء فكأنّه جعل إرث الاُنثى مقرّراً معروفاً و أخبر بأنّ للذكر مثله مرّتين أو جعله هو الأصل في التشريع و جعل إرث الذكر محمولاً عليه يعرف بالإضافة إليه، و لو لا ذلك لقال: للاُنثى نصف حظّ الذكر و إذن لا يفيد هذا المعنى و لا يلتئم السياق معه - كما ترى - هذا ما ذكره بعض العلماء و لا بأس به، و ربّما اُيّد ذلك بأنّ الآية لا تتعرّض بنحو التصريح مستقلّا إلّا لسهام النساء و إن صرّحت بشي‏ء من سهام الرجال فمع ذكر سهامهنّ معه كما في الآية التالية و الآية الّتي في آخر السورة.

و بالجملة قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) في محلّ التفسير لقوله:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ ) ، و اللّام في الذكر و الاُنثيين لتعريف الجنس أي إنّ جنس الذكر يعادل في السهم اُنثيين، و هذا إنّما يكون إذا كان هناك في الوراث ذكر و اُنثى معا فللذكر ضعفا الاُنثى سهماً و لم يقل: للذكر مثل حظّي الاُنثى أو مثلاً حظّ الاُنثى ليدلّ الكلام على سهم الاُنثيين إذا انفردتا بإيثار الإيجاز على ما سيجي‏ء.

و على أيّ حال إذا تركّبت الورثة من الذكور و الإناث كان لكلّ ذكر سهمان و لكلّ اُنثى سهم إلى أيّ مبلغ بلغ عددهم.

قوله تعالى: ( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ) ظاهر وقوع هذا

٢٢٢

الكلام بعد قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) أنّه على تقدير معطوف عليه محذوف كأنّه قيل: هذا إذا كانوا نساءً و رجالاً فإن كنّ نساء إلخ و هو شائع في الاستعمال و منه قوله تعالى:( وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) البقرة: ١٩٦، و قوله:( أيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيّام أُخَرَ ) البقرة: ١٨٤.

و الضمير في كنّ راجع إلى الأولاد في قوله: فِي أَوْلادِكُمْ، و تأنيث الضمير لتأنيث الخبر، و الضمير في قوله: تَرَكَ راجع إلى الميّت المعلوم من سياق الكلام.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) الضمير إلى الولد المفهوم من السياق و تأنيثه باعتبار الخبر و المراد بالنصف نصف ما ترك فاللّام عوض عن المضاف إليه.

و لم يذكر سهم الاُنثيين فإنّه مفهوم من قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) فإن ذكراً و اُنثى إذا اجتمعا كان سهم الاُنثى الثلث للآية و سهم الذكر الثلثين و هو حظّ الاُنثيين فحظّ الاُنثيين الثلثان فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالاً و ليس في نفسه متعيّناً للفهم إذ لا ينافي ما لو كان قيل بعده: و إن كانتا اثنتين فلهما النصف أو الجميع مثلاً لكن يعيّنه السكوت عن ذكر هذا السهم و التصريح الّذي في قوله: فإن كنّ نساءً فوق اثنتين، فإنّه يشعر بالتعمّد في ترك ذكر حظّ الاُنثيين.

على أنّ كون حظّهما الثلثين هو الّذي عمل به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و جرى العمل عليه منذ عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عهدنا بين علماء الاُمّة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عبّاس.

و هذا أحسن الوجوه في توجيه ترك التصريح بسهم الاُنثيين، قال الكلينيّ رحمه الله في الكافي: إنّ الله جعل حظّ الاُنثيين الثلثين بقوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، و ذلك أنّه إذا ترك الرجل بنتاً و ابناً فللذكر مثل حظّ الاُنثيين و هو الثلثان فحظّ الاُنثيين الثلثان، و اكتفا بهذا البيان أن يكون ذكر الاُنثيين بالثلثين، انتهى، و نقل مثله عن أبي مسلم المفسّر: أنّه يستفاد من قوله تعالى:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) و ذلك أنّ الذكر مع الاُنثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظّ الاُنثيين، انتهى و إن كان ما نقل عنهما لا يخلو من قصور يحتاج في التتميم إلى ما أوضحناه آنفاً فليتأمّل فيه.

٢٢٣

و هناك وجوه اُخر سخيفة ذكروها في توجيه الآية كقول بعضهم: أنّ المراد بقوله تعالى:( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ) ، الإثنتان و ما فوقهما فهذه الجملة تتضمّن بيان حظّ الاُنثيين، و النساء فوق اثنتين جميعاً. و مثل قول بعضهم: أنّ حكم البنتين ههنا معلوم بالقياس إلى حكم الاُختين في آخر آية من السورة حيث ذكرت لهما الثلثين إلى غير ذلك ممّا يجلّ عن أمثالها كلامه تعالى.

قوله تعالى: ( وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ) إلى قوله:( فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) في عطف الأبوين في الحكم على الأولاد دلالة على أنّ الأبوين يشاركان الأولاد في طبقتهم، و قوله: و ورثه أبواه، أي انحصر الوارث فيهما، و في قوله:( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) إلخ بعد قوله:( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ ) ، دلالة على أنّ الإخوة واقعة في طبقة ثانية لاحقة لطبقة الأبناء و البنات لا ترث مع وجودهم غير أنّ الإخوة تحجب الاُمّ عن الثلث.

قوله تعالى: ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) أمّا الوصيّة فهي الّتي تندب إليها قوله:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ) الآية: البقرة: ١٨٠، و لا ينافي تقدّمها في الآية على الدين ما ورد في السنّة أنّ الدين مقدّم على الوصيّة لأنّ الكلام ربّما يقدم فيه غير الأهمّ على الأهمّ لأنّ الأهمّ لمكانته و قوّة ثبوته ربّما لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من التأكيد و التشديد، و منه التقديم، و على هذا فقوله: أَوْ دَيْنٍ في مقام الإضراب و الترقّي طبعاً.

و بذلك يظهر وجه توصيف الوصيّة بقوله: يوصي بها ففيه دلالة على التأكيد، و لا يخلو مع ذلك من الإشعار بلزوم إكرام الميّت و مراعاة حرمته فيما وصّى به كما قال تعالى:( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فإنّما إِثْمُهُ عَلَى الّذينَ يُبَدِّلُونَهُ ) الآية: البقرة: ١٨١.

قوله تعالى: ( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) الخطاب للورثة أعني لعامّة المكلّفين من حيث أنّهم يرثون أمواتهم، و هو كلام ملقى للإيماء إلى سرّ اختلاف السهام في وراثة الآباء و الأبناء و نوع تعليم لهم خوطبوا به بلسان( لا تدرون) و أمثال هذه التعبيرات شائعة في اللّسان.

٢٢٤

على أنّه لو كان الخطاب لغير الورثة أعني للناس من جهة أنّهم سيموتون و يورّثون آباءهم و أبناءهم لم يكن وجه لقوله:( أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) فإنّ الظاهر أنّ المراد بالانتفاع هو الانتفاع بالمال الموروث و هو إنّما يعود إلى الورثة دون الميّت.

و تقديم الآباء على الأبناء يشعر بكون الآباء أقرب نفعاً من الأبناء، كما في قوله تعالى:( إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ الله ) البقرة: ١٥٨، و قد مرّت الرواية عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: أبدأ بما بدأ الله الحديث.

و الأمر على ذلك بالنظر إلى آثار الرحم و اعتبار العواطف الإنسانيّة فإنّ الإنسان أرأف بولده منه بوالديه و هو يرى بقاء ولده بقاءً لنفسه دون بقاء والديه فآباء الإنسان أقوى ارتباطاً و أمّس وجوداً به من أبنائه، و إذا بني الانتفاع الإرثيّ على هذا الأصل كان لازمه أن يذهب الإنسان إذا ورث أباه مثلاً بسهم أزيد منه إذا ورث ابنه مثلاً و إن كان ربّما يسبق إلى الذهن البدويّ أن يكون الأمر بالعكس.

و هذه الآية أعني قوله:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) من الشواهد على أنّه تعالى بنى حكم الإرث على أساس تكوينيّ خارجيّ كسائر الأحكام الفطريّة الإسلاميّة.

على أنّ الآيات المطلقة القرآنيّة الناظرة إلى أصل التشريع أيضاً كقوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠، تدلّ على ذلك، و كيف يتصوّر مع وجود أمثال هذه الآيات أن يرد في الشريعة أحكام إلزاميّة و فرائض غير متغيّرة و ليس لها أصل في التكوين في الجملة.

و ربّما يمكن أن يستشمّ من الآية أعني قوله:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ ) إلخ، تقدّم أولاد الأولاد على الأجداد و الجدّات فإنّ الأجداد و الجدّات لا يرثون مع وجود الأولاد و أولاد الأولاد.

قوله تعالى: ( فَرِيضَةً مِنَ الله ) إلخ الظاهر أنّه منصوب بفعل مقدّر و التقدير خذوا أو الزموا و نحو ذلك و تأكيد بالغ أنّ هذه السهام المذكورة قدّمت إليكم و هي مفرزة معيّنة لا تتغيّر عمّا وضعت عليه.

٢٢٥

و هذه الآية متكفّلة لبيان سهام الطبقة الاُولى و هي الأولاد و الأب و الاُمّ على جميع تقاديرها إمّا تصريحاً كسهم الأب و الاُمّ و هو السدس لكلّ واحد منهما مع وجود الأولاد، و الثلث أو السدس للاُمّ مع عدمهم على ما ذكر في الآية و كسهم البنت الواحدة و هو النصف، و سهم البنات إذا تفرّدن و هو الثلثان، و سهم البنين و البنات إذا اجتمعوا و هو للذكر مثل حظّ الاُنثيين، و يحلق بها سهم البنتين و هو الثلثان كما تقدّم.

و أمّا تلويحا كسهم الابن الواحد فإنه يرث جميع المال لقوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) و قوله في البنت:( وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) ، و كذا الأبناء إذا تفرّدوا لما يفهم من قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، أنّ الأبناء متساوون في السهام، و أمر الآية في إيجازها عجيب.

و اعلم أيضاً أنّ مقتضى إطلاق الآية عدم الفرق في إيراث المال و و إمتاع الورثة بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين سائر الناس و قد تقدّم نظير هذا الإطلاق أو العموم في قوله تعالى:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ ) . الآية، و ما ربّما قيل: إنّ خطابات القرآن العامّة لا تشمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجريانها على لسانه فهو ممّا لا ينبغي أن يصغي إليه.

نعم ههنا نزاع بين أهل السنّة و الشيعة في أن النبيّ هل يورّث أو أنّ ما تركه صدقة و منشؤه الرواية الّتي رواها أبوبكر في قصّة فدك و البحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب و لذلك نرى التعرّض له ههنا فضلاً فليراجع محلّه المناسب له.

قوله تعالى: ( وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ) إلى قوله:( تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) المعنى ظاهر، و قد استعمل النصف بالإضافة فقيل: نصف ما ترك، و الربع بالقطع فقيل: و لهنّ الربع ممّا تركتم فإنّ القطع عن الإضافة يستلزم التتميم بمن ظاهره أو مقدّرة، و من هذه تفيد معنى الأخذ و الشروع من الشي‏ء و هذا المعنى يناسب كون مدخول من كالجزء التابع من الشي‏ء المبتدأ منه و كالمستهلك فيه، و هذا إنّما يناسب ما إذا كان المدخول قليلاً أو ما هو كالقليل بالنسبة إلى المبتدأ منه كالسدس و الربع و الثلث من المجموع دون مثل النصف و الثلثين، و لذا قال تعالى:( السُّدُسُ ممّا تَرَكَ ) ، و قال:

٢٢٦

( فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) ، و قال:( فَلَكُمُ الرُّبُعُ ) بالقطع عن الإضافة في جميع ذلك، و قال:( وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ ) ، و قال:( فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ) بالإضافة، و قال:( فَلَهَا النِّصْفُ ) أي نصف ما ترك فاللّام عوض عن المضاف إليه.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ) إلى آخر الآية أصل الكلالة مصدر بمعنى الإحاطة، و منه الإكليل لإحاطته بالرأس و منه الكلّ - بضمّ الكاف - لإحاطته بالأجزاء، و منه الكلّ - بفتح الكاف - لنوع إحاطة منه ثقيلة على من هو كلّ عليه، قال الراغب: الكلالة اسم لما عدا الولد و الوالد من الورثة. قال: و روي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن الكلالة فقال: من مات و ليس له ولد و لا والد فجعله اسماً للميّت‏. و كلا القولين صحيح فإنّ الكلالة مصدر يجمع الوارث و الموروث جميعاً، انتهى.

أقول: و على هذا فلا مانع من كون كان ناقصّة و رجل اسمها و يورث وصفاً للرجل و كلالة خبرها و المعنى: و إن كان الميّت كلالة للوارث ليس أباً له و لا ابناً. و يمكن أن يكون كان تامّة و رجل يورث فاعله و كلالةً مصدراً وضع موضع الحال، و يؤول المعنى أيضاً إلى كون الميّت كلالة للورثة، و قال الزجّاج على ما نقل عنه: من قرأ يورث - بكسر الراء - فكلالة مفعول، و من قرأ يورث - بفتح الراء - فكلالة منصوب على الحال.

و قوله: غير مضارّ منصوب على الحال، و المضارّة هو الإضرار و ظاهره أنّ المراد به الإضرار بالدين من قبل الميّت كأن يعتمل بالدين للإضرار بالورثة و تحريمهم الإرث، أو المراد المضارّة بالدين كما ذكروا بالوصيّة بما يزيد على ثلث المال.

قوله تعالى: ( تِلْكَ حُدُودُ الله ) إلى آخر الآيتين الحدّ هو الحاجز بين الشيئين الّذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر و ارتفاع التمايز بينهما كحدّ الدار و البستان، و المراد بها أحكام الإرث و الفرائض المبيّنة، و قد عظّم الله أمرها بما ذكر في الآيتين من الثواب على إطاعته و إطاعة رسوله فيها و العذاب الخالد المهين على المعصية.

٢٢٧

( كلام في الإرث على وجه كلّي)

هاتان الآيتان أعني قوله تعالى:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ) إلى آخر الآيتين، و الآية الّتي في آخر السورة:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) إلى آخر الآية، مع قوله تعالى:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) الآية، و مع قوله تعالى:( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله ) الأحزاب: ٦، الأنفال: ٧، خمس آيات أو ستّة هي الأصل القرآنيّ للإرث في الإسلام و السنّة تفسّرها أوضح تفسير و تفصيل.

و الكلّيّات المنتزعة المستفادة منها الّتي هي الأصل في تفاصيل الأحكام اُمور:

منها: ما تقدّم في قوله:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) ، و يظهر منها أنّ للقرب و البعد من الميّت تأثيراً في باب الإرث، و إذا ضمّت الجملة إلى بقيّة الآية أفادت أنّ ذلك مؤثّر في زيادة السهم و قلّته و عظمه و صغره، و إذا ضمّت إلى قوله تعالى:( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله ) أفادت أنّ الأقرب نسباً في باب الإرث يمنع الأبعد.

فأقرب الأقارب إلى الميّت الأب و الاُمّ و الابن و البنت إذ لا واسطة بينهم و بين الميّت، و الابن و البنت يمنعان أولاد أنفسهما لأنّهم يتّصلون به بواسطتهم فإذا فقدت واسطتهم فهم يقومون مقامها.

و تتلوها المرتبة الثانية و هم إخوة الميّت و أخواته و جدّه و جدّته فإنّهم يتّصلون بالميّت بواسطة واحدة و هي الأب أو الاُمّ، و أولاد الأخ و الاُخت يقومون مقام أبيهم و اُمّهم، و كلّ بطن يمنع من بعده من البطون كما مرّ.

و تتلو هذه المرتبة مرتبة أعمام الميّت و أخواله و عمّاته و خالاته فإنّ بينهم و بين الميّت واسطتين و هما الجدّ أو الجدّة و الأب أو الاُمّ، و الأمر على قيام ما مرّ.

و يظهر من مسألة القرب و البعد المذكورة أنّ ذا السببين مقدّم على ذي السبب

٢٢٨

الواحد، و من ذلك تقدّم كلالة الأبوين على كلالة الأب فلا ترث معها، و أمّا كلالة الاُمّ فلا تزاحمها كلالة الأبوين.

و منها: أنّه قد اعتبر في الورّاث تقدّم و تأخّر من جهة اُخرى فإنّ السهام ربّما اجتمعت فتزاحمت بالزيادة على أصل التركة فمنهم من عيّن له عند الزحام سهم آخر كالزوج يذهب بالنصف فإذا زاحمه الولد عاد إلى الربع بعينه و مثله الزوجة في ربعها و ثمنها و كالاُمّ تذهب بالثلث فإذا زاحمها ولد أو إخوة عادت إلى السدس و الأب لا يزول عن سدسه مع وجود الولد و عدمه و منهم من عيّن له سهم ثمّ إذا زاحمه آخر سكت عنه و لم يذكر له سهم بعينه كالبنت و البنات و الاُخت و الأخوات يذهبن بالنصف و الثلثين و قد سكت عن سهامهم عند الزحام، و يستفاد منه أنّ اُولئك المقدّمين لا يزاحمون و لا يرد عليهم نقص في صورة زيادة السهام على الأصل و إنّما يرد ما يرد من النقص على الآخرين المسكوت عن سهامهم عند الزحام.

و منها: أنّ السهام قد تزيد على المال كما إذا فرض زوج و أخوات من كلالة الأبوين فهناك نصف و ثلثان و هو زائد على مخرج المال، و كذا لو فرض أبوان و بنتان و زوج فتزيد السهام على أصل التركة فإنّها سدسان و ثلثان و ربع.

و كذلك قد تزيد التركة على الفريضة كما إذا كانت هناك بنت واحدة أو بنتان فقط و هكذا، و السنّة المأثورة الّتي لها شأن تفسير الكتاب على ما ورد من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّه في صورة زيادة السهام على أصل المال يدخل النقص على هؤلاء الّذين لم يعيّن لهم إلّا سهم واحد و هم البنات و الأخوات دون غيرهم و هو الاُمّ و الزوج الّذين عيّن الله فرائضهما بحسب تغيّر الفروض و كذا في صورة زيادة أصل التركة على السهام يردّ الزائد على من يدخل عليه النقص في الصورة السابقة كما في بنت و أب فللأب السدس و للبنت نصف المال بالفريضة و الباقي بالردّ.

و قد سنّ عمر بن الخطّاب أيّام خلافته في صورة زيادة السهام العول و عمل الناس في الصدر الأوّل في صورة زيادة التركة بالتعصيب و سيجي‏ء الكلام فيهما في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

٢٢٩

و منها: أنّ التأمّل في سهام الرجال و النساء في الإرث يفيد أنّ سهم المرأة ينقص عن سهم الرجل في الجملة إلّا في الأبوين فإنّ سهم الاُمّ قد يربو على سهم الأب بحسب الفريضة و لعلّ تغليب جانب الاُمّ على جانب الأب أو تسويتهما لكونها في الإسلام أمسّ رحماً بولدها و مقاساتها كلّ شديدة في حمله و وضعه و حضانته و تربيته، قال تعالى:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إحساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) الأحقاف: ١٥، و خروج سهمها عن نصف ما للرجل إلى حدّ المساواة أو الزيادة تغليب لجانبها قطعاً.

و أمّا كون سهم الرجل في الجملة ضعف سهم المرأة فقد اعتبر فيه فضل الرجل على المرأة بحسب تدبير الحياة عقلاً و كون الإنفاق اللّازم على عهدته، قال تعالى:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) النساء: ٣٤، و القوام من القيام و هو إدارة المعاش، و المراد بالفضل هو الزيادة في التعقّل فإنّ حياته حياة تعقّليّة و حياة المرأة إحساسيّة عاطفيّة، و إعطاء زمام المال يداً عاقلة مدبّرة أقرب إلى الصلاح من إعطائه يداً ذات إحساس عاطفيّ و هذا الإعطاء. و التخصيص إذا قيس إلى الثروة الموجودة في الدنيا المنتقلة من الجيل الحاضر إلى الجيل التالي يكون تدبير ثلثي الثروة الموجودة إلى الرجال و تدبير ثلثها إلى النساء فيغلب تدبير التعقّل على تدبير الإحساس و العواطف فيصلح أمر المجتمع و تسعد الحياة.

و قد تدورك هذا الكسر الوارد على النساء بما أمر الله سبحانه الرجل بالعدل في أمرها الموجب لاشتراكها مع الرجل فيما بيده من الثلثين فتذهب المرأة بنصف هذين الثلثين من حيث المصرف، و عندها الثلث الّذي تتملّكها و بيدها أمر ملكه و مصرفه.

و حاصل هذا الوضع و التشريع العجيب أنّ الرجل و المرأة متعاكسان في الملك و المصرف فللرجل ملك ثلثي ثروة الدنيا و له مصرف ثلثها، و للمرأة ملك ثلث الثروة و لها مصرف ثلثيها، و قد لوحظ في ذلك غلبة روح التعقّل على روح الإحساس و العواطف في الرجل، و التدبير الماليّ بالحفظ و التبديل و الإنتاج و الاسترباح أنسب و أمسّ بروح التعقّل، و غلبة العواطف الرقيقة و الإحساسات اللّطيفة على روح التعقّل في المرأة،

٢٣٠

و ذلك بالمصرف أمسّ و ألصق فهذا هو السرّ في الفرق الّذي اعتبره الإسلام في باب الإرث و النفقات بين الرجال و النساء.

و ينبغي أن يكون زيادة روح التعقّل بحسب الطبع في الرجل و مزيّته على المرأة في هذا الشأن هو المراد بالفضل الّذي ذكره الله سبحانه في قوله عزّ من قائل:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) الآية، دون الزيادة في البأس و الشدّة و الصلابة فإنّ الغلظة و الخشونة في قبيل الرجال و إن كانت مزيّة وجوديّة يمتاز بها الرجل من المرأة و تترتّب عليها في المجتمع الإنسانيّ آثار عظيمة في أبواب الدفاع و الحفظ و الأعمال الشاقّة و تحمّل الشدائد و المحن و الثبات و السكينة في الهزاهز و الأهوال، و هذه شؤون ضروريّة في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطبع.

لكنّ النساء أيضاً مجهّزات بما يقابلها من الإحساسات اللّطيفة و العواطف الرقيقة الّتي لا غنى للمجتمع عنها في حياته، و لها آثار هامّة في أبواب الاُنس و المحبّة و السكن و الرحمة و الرأفة و تحمّل أثقال التناسل و الحمل و الوضع و الحضانة و التربية و التمريض و خدمة البيوت، و لا يصلح شأن الإنسان بالخشونة و الغلظة لو لا اللّينة و الرقّة، و لا بالغضب لو لا الشهوة، و لا أمر الدنيا بالدفع لو لا الجذب.

و بالجملة هذان تجهيزان متعادلان في الرجل و المرأة يتعادل بهما كفّتا الحياة في المجتمع المختلط المركّب من القبيلين، و حاشاه سبحانه أن يحيف في كلامه أو يظلم في حكمه أم يخافون أن يحيف الله عليهم(١) ، و لا يظلم ربّك أحداً(٢) و هو القائل:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥، و قد أشار إلى هذا الالتيام و البعضيّة بقوله في الآية:( بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) .

و قال أيضاً:( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثمّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتفكّرونَ ) الروم: ٢١، فانظر إلى عجيب بيأنّ الآيتين حيث وصف

____________________

(١) سورة النور: ٥٠

(٢) سورة الكهف: ٤٩.

٢٣١

الإنسان (و هو الرجل بقرينة المقابلة) بالانتشار و هو السعي في طلب المعاش، و إليه يعود جميع أعمال اقتناء لوازم الحياة بالتوسّل إلى القوّة و الشدّة حتّى ما في المغالبات و الغزوات و الغارات و لو كان للإنسأنّ هذا الانتشار فحسب لانقسم أفراده إلى واحد يكرّ و آخر يفرّ.

لكنّ الله سبحانه خلق النساء و جهّزهنّ بما يوجب أن يسكن إليهن الرجال و جعل بينهم مودّة و رحمة فاجتذبن الرجال بالجمال و الدلال و المودّة و الرحمة، فالنساء هنّ الركن الأوّل و العامل الجوهريّ للاجتماع الإنسانيّ.

و من هنا ما جعل الإسلام الاجتماع المنزليّ و هو الازدواج هو الأصل في هذا الباب قال تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣، فبدأ بأمر ازدواج الذكر و الاُنثى‏ و ظهور التناسل بذلك ثمّ بنى عليه الاجتماع الكبير المتكوّن من الشعوب و القبائل.

و من ذيل الآية يظهر أنّ التفضيل المذكور في قوله:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) الآية، إنّما هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة الدنيويّة أعني المعاش أحسن تنظيم، و يصلح به حال المجتمع إصلاحاً جيّداً، و ليس المراد به الكرامة الّتي هي الفضيلة الحقيقيّة في الإسلام و هي القربى و الزلفى من الله سبحانه فإنّ الإسلام لا يعبأ بشي‏ء من الزيادات الجسمانيّة الّتي لا يستفاد منها إلّا للحياة المادّيّة و إنّما هي وسائل يتوسّل بها لما عندالله.

فقد تحصّل من جميع ما قدّمنا أنّ الرجال فضّلوا على النساء بروح التعقّل الّذي أوجب تفاوتاً في أمر الإرث و ما يشبهه لكنّها فضيلة بمعنى الزيادة و أمّا الفضيلة بمعنى الكرامة الّتي يعتني بشأنها الإسلام فهي التقوى أينما كانت.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و أبو داود و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقيّ - في سننه من طرق جابر بن

٢٣٢

عبدالله - قال: عادني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أبوبكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أعقل شيئاً فدعا بماء فتوضّأ منه ثمّ رشّ عليّ فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) .

أقول: قد تقدّم مراراً أنّ أسباب النزول المرويّة لا تأبى أن تتعدّد و تجتمع عدّة منها في آية، و لا تنافي عدم انحصار عناية الآية النازلة فيها و لا أن يتصادف النزول فينطبق عليها مضمون الآية فلا يضرّ بالرواية ما فيها من قول جابر: ما تأمرني أن أصنع بمالي يا رسول الله فنزلت إلخ، مع أنّ قسمة المال لم يكن عليه حتّى يجاب بالآية، و أعجب منه‏ ما رواه أيضاً عن عبد بن حميد و الحاكم عن جابر قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعودني و أنا مريض فقلت: كيف اُقسّم مالي بين ولدي؟ فلم يردّ علي شيئاً و نزلت:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ) .

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: كان أهل الجاهليّة لا يورّثون الجواري، و لا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجل من والده إلّا من أطاق القتال فمات عبدالرحمن أخو حسّان الشاعر، و ترك امرأة له يقال لها: اُمّ كحّة و ترك خمس جوار فجاءت الورثة فأخذوا ماله فشكت اُمّ كحّة ذلك إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله هذه الآية:( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) ثمّ قال في اُمّ كحّة:( وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ ممّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ ) .

و فيه، أيضاً عنهما عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت آية الفرائض الّتي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر و الاُنثى و الأبوين كرهها الناس أو بعضهم و قالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن، و تعطى الابنة النصف، و يعطى الغلام الصغير، و ليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، و لا يحوز الغنيمة، و كانوا يفعلون ذلك في الجاهليّة لا يعطون الميراث إلّا لمن قاتل القوم و يعطونه الأكبر فالأكبر.

أقول: و كان منه التعصيب و هو إعطاء الميراث عصبة الأب إذا لم يترك الميّت ابناً كبيراً يطيق القتال، و قد عمل به أهل السنّة في الزائد على الفريضة فيما إذا لم يستوعب

٢٣٣

السهام التركة، و ربّما وجد شي‏ء من ذلك في رواياتهم لكن وردت الروايات من طرق أهل البيتعليهم‌السلام بنفي التعصيب، و أنّ الزائد على الفرائض يردّ على من ورد عليه النقص و هم الأولاد و الإخوة من الأبوين أو الأب، و إلى الأب في بعض الصور، و الّذي يستفاد من الآيات يوافق ذلك على ما مرّ.

و فيه، أخرج الحاكم و البيهقيّ عن ابن عبّاس قال: أوّل من أعال الفرائض عمر تدافعت عليه و ركب بعضها بعضاً قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم؟ و الله ما أدري أيكم قدم الله و أيّكم أخّر؟ و ما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن اُقسّمه عليكم بالحصص! ثمّ قال ابن عبّاس: و أيم الله لو قدّم من قدّم الله و أخّر من أخّر الله ما عالت فريضة، فقيل له: و أيّها قدّم الله؟ قال: كلّ فريضة لم يهبطها الله من فريضة إلّا إلى فريضة فهذا ما قدّم الله، و كلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلّا ما بقي فتلك الّتي أخّر الله فالّذي قدّم كالزوجين و الاُمّ، و الّذي أخّر كالأخوات و البنات فإذا اجتمع من قدّم الله و أخّر بدئ بمن قدّم فاُعطي حقّه كاملاً فإن بقي شي‏ء كان لهنّ، و إن لم يبق شي‏ء فلا شي‏ء لهنّ.

و فيه، أيضاً أخرج سعيد بن منصور عن ابن عبّاس قال: أ ترون الّذي أحصى رمل عالج عدداً جعل في المال نصفاً و ثلثاً و ربعاً؟ إنّما هو نصفان و ثلاثة أثلاث و أربعة أرباع.

و فيه، أيضاً عنه عن عطاء قال: قلت لابن عبّاس: إنّ الناس لا يأخذون بقولي و لا بقولك و لو متّ أنا و أنت ما اقتسموا ميراثاً على ما تقول قال: فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا.

أقول: و هذا المعنى منقول عن ابن عبّاس من طرق الشيعة أيضاً كما يأتي.

في الكافي، عن الزهريّ عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة قال: جالست ابن عبّاس فعرض ذكر الفرائض من المواريث فقال ابن عبّاس: سبحان الله العظيم أ ترون الّذي أحصى رمل عالج عدداً جعل في مال نصفاً و نصفاً و ثلثاً؟! فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر بن أوس البصريّ: يا أبا العبّاس فمن أوّل من أعال هذه الفرائض؟ فقال: عمر بن الخطّاب لمّا التفّت عنده الفرائض و دفع بعضها بعضاً قال:

٢٣٤

و الله ما أدري أيّكم قدم الله و أيّكم أخّر؟ و ما أجد شيئاً أوسع من أن اُقسّم عليكم هذا المال بالحصص و اُدخل على كلّ ذي حقّ حقّه فأدخل عليه من عول الفرائض.

و أيم الله لو قدّم من قدّم الله و أخّر من أخّر الله ما عالت الفريضة، فقال له زفر بن أوس: و أيّها قدّم و أيّها أخّر؟ فقال: كلّ فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلّا إلى فريضة فهذا ما قدّم الله، و أمّا ما أخّر الله فكلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلّا ما بقي فتلك الّتي أخّر، فأمّا الّتي قدّم فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شي‏ء، و الزوجة لها الربع فإذا زالت إلى الثمن لا يزيلها عنه شي‏ء، و الاُمّ لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس و لا يزيلها عنه شي‏ء فهذه الفرائض الّتي قدّم الله عزّوجلّ، و أمّا الّتي أخّر ففريضة البنات و الأخوات لها النصف و الثلثان فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لها إلّا ما بقي، فتلك الّتي أخّر الله، فإذا اجتمع ما قدّم الله و ما أخّر بدئ بما قدّم الله فاُعطي حقّه كاملاً فإن بقي شي‏ء كان لمن أخّر و إن لم يبق شي‏ء فلا شي‏ء له، فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هيبته.

أقول: و هذا القول من ابن عبّاس مسبوق بقول عليّعليه‌السلام بنفي العول، و هو مذهب أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كما يأتي.

في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام في حديث قال: كان أميرالمؤمنينعليه‌السلام يقول: إنّ الّذي أحصى رمل عالج ليعلم أنّ السهام لا تعول على ستّة لو تبصرون وجهها لم تجز ستّة.

أقول: في الصحاح: إنّ عالج موضع بالبادية به رمل، و قولهعليه‌السلام : إنّ السهام لا تعول على ستّة أي لا تميل على الستّة حتّى تغيّرها إلى غيرها، و الستّة هي السهام المصرّحة بها في الكتاب و هي: النصف و الثلث و الثلثان و الربع و السدس و الثمن.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : الحمد لله الّذي لا مقدّم لما أخّر، و لا مؤخّر لما قدّم، ثمّ ضرب بإحدى يديه على الاُخرى، ثمّ قال: يا أيّتها الاُمّة المتحيّرة بعد نبيّها لو كنتم قدّمتم من قدّم الله و أخّرتم من أخّر الله، و جعلتم الولاية و الوراثة حيث جعلها الله ما عال وليّ الله، و لا عال سهم من فرائض الله، و لا اختلف اثنان في حكم الله، و لا تنازعت الاُمّة في شي‏ء من أمر الله إلّا و عند عليّ علمه من كتاب الله، فذوقوا وبال أمركم

٢٣٥

و ما فرّطتم فيما قدّمت أيديكم، و ما الله بظلّام للعبيد، و سيعلم الّذي ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

أقول: و توضيح ورود النقص على حظوظ الورثة زيادة على ما مرّ أنّ الفرائض المذكورة في كلامه تعالى ستّ: النصف، و الثلثان، و الثلث، و السدس، و الربع، و الثمن، و هذه السهام قد يجتمع بعضها مع بعض بحيث يحصل التزاحم كما أنّه قد يجتمع النصف و السدسان و الربع في الطبقة الاُولى كبنت و أب و اُمّ و زوج فتزيد السهام على الأصل، و كذا الثلثان و السدسان و الربع كبنتين و أبوين و زوج فتتزاحم، و كذلك يجتمع النصف و الثلث و الربع و السدس في الطبقة الثانية كاُخت و جدّين للأب و الاُمّ و زوجة، و كذا الثلثان و الثلث و الربع و السدس كاُختين و جدّين و زوجة.

فإن أوردنا النقص على جميع السهام كان العول، و إن حفظنا فريضة الأبوين و الزوجين و كلالة الاُمّ و هي الثلث و السدس و النصف و الربع و الثمن عن ورود النقص عليها - لأنّ الله عيّن هذه السهام و لم يبهمها في حال بخلاف سهام البنت الواحدة فما زادت و الاُخت الواحدة لأبوين أو لأب فما زادت و بخلاف سهام الذكر و الاُنثى عند الوحدة و الكثرة - ورد النقص دائماً على الأولاد و الإخوة و الأخوات لما مرّ.

و أمّا كيفيّة الردّ فليراجع فيها إلى جوامع الحديث و كتب الفقه.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و البيهقيّ في سننه عن زيد بن ثابت: أنّه كان يحجب الاُمّ بالأخوين فقالوا له: يا أباسعيد إنّ الله يقول:( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) و أنت تحجبها بأخوين؟ فقال: إنّ العرب تسمّي الأخوين إخوة.

أقول: و هو المرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و إن كان المعروف أنّ الإخوة جمع الأخ و لا يطلق الجمع على ما دون الثلاثة.

و في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام قال: لا يحجب الاُمّ عن الثلث إلّا أخوان أو أربع أخوات لأب و اُمّ أو لأب‏.

أقول: و الأخبار في ذلك كثيرة و أمّا الإخوة لاُمّ فإنّهم يتقرّبون بالاُمّ و هي بوجودها تمنعهم، و في أخبار الفريقين أنّ الإخوة يحجبون الاُمّ و لا يرثون لوجود من

٢٣٦

يتقدّم عليهم في الميراث و هو الأبوان فحجب الإخوة الاُمّ مع عدم إرثهم إنّما هو نوع مراعاة لحال الأب من حيث ردّ الزائد على الفريضة إليه، و منه يعلم وجه عدم حجب الإخوة لأمّ فإنّهم ليسوا عالة للأب.

و في المجمع، في قوله تعالى:( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍٍ ) ، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام : إنّكم تقرؤون في هذه الآية الوصيّة قبل الدين، و إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى بالدين قبل الوصيّة.

أقول: و رواه السيوطيّ في الدرّ المنثور عن عدّة من أرباب الجوامع و التفاسير.

و في الكافي، في معنى الكلالة عن الصادقعليه‌السلام : من ليس بوالد و لا ولد.

و فيه، عنهعليه‌السلام في قوله تعالى:( وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ) الآية، إنّما عنى بذلك الإخوة و الأخوات من الاُمّ خاصّة.

أقول: و الأخبار في ذلك كثيرة و قد رواها أهل السنّة، و قد استفاضت الروايات بذلك و أنّ حكم كلالة الأب و الأبوين هو المذكور في الآية الخاتمة للسورة:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) الآية.

و من الشواهد على ذلك أنّ الفرائض المذكورة للكلالة في آخر السورة تربو على ما ذكر لهم في هذه الآية زيادة ضعف أو أزيد، و من المستفاد من سياق الآيات و ذكر الفرائض أنّه تعالى يرجّح سهم الرجال على النساء في الجملة ترجيح المثلين على المثل أو ما يقرب من ذلك مهما أمكن، و الكلالة إنّما يتقرّب إلى الميّت من جهة الاُمّ و الأب أو أحدهما فالتفاوت المراعى في جانب الأب و الاُمّ يسري إليهم فيترجّح لا محالة فرائض كلالة الأبوين أو الأب على كلالة الاُمّ و يكشف بذلك أنّ القليل لكلالة الاُمّ و الكثير لغيره.

و في المعاني، بإسناده إلى محمّد بن سنان: أنّ أباالحسن الرضاعليه‌السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علّة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث: لأنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت و الرجل يعطي فلذلك وفّر على الرجال و علّة اُخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الاُنثى لأنّ الاُنثى من عيال الذكر إن احتاجت، و عليه أن يعولها

٢٣٧

و عليه نفقتها، و ليس على المرأة أن تعول الرجل و لا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفّر على الرجال لذلك، و ذلك قول الله عزّوجلّ:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) .

و في الكافي، بإسناده عن الأحول قال: قال ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً و يأخذ الرجال سهمين؟ فذكر ذلك بعض أصحابنا لأبي عبداللهعليه‌السلام فقال: إنّ المرأة ليس عليها جهاد، و لا نفقة، و لا معقلة، فإنّما ذلك على الرجال فلذلك جعل للمرأة سهماً واحداً، و للرجل سهمين.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و قد مرّ دلالة الكتاب أيضاً على ذلك.

( بحث علميّ في فصول)

١- ظهور الإرث: كأنّ الإرث أعني تملّك بعض الأحياء المال الّذي تركه الميّت من أقدم السنن الدائرة في المجتمع الإنسانيّ، و قد خرج عن وسع ما بأيدينا من تواريخ الاُمم و الملل الحصول على مبدء حصوله، و من طبيعة الأمر أيضاً ذلك فإنّا نعلم بالتأمّل في طبيعة الإنسان الاجتماعيّة أنّ المال و خاصّة لو كان ممّا لا يد عليه يحنّ إليه الإنسان و يتوق إليه نفسه لصرفه في حوائجه، و حيازته و خاصّة فيما لا مانع عنه من دؤوبه الأوّليّة القديمة، و الإنسان في ما كوّنه من مجتمعة همجيّاً أو مدنيّاً لا يستغني عن اعتبار القرب و الولاية (المنتجين للأقربيّة و الأوّلويّة) بين أفراد المجتمع الاعتبار الّذي عليه المدار في تشكّل البيت و البطن و العشيرة و القبيلة و نحو ذلك، فلا مناص في المجتمع من كون بعض الأفراد أولى ببعض كالولد بوالديه و الرحم برحمه، و الصديق بصديقه، و المولى بعبده، و أحد الزوجين بالآخر، و الرئيس بمرؤوسه حتّى القويّ بالضعيف، و إن اختلفت المجتمعات في تشخيص ذلك اختلافاً شديداً يكاد لا تناله يد الضبط.

و لازم هذين الأمرين كون الإرث دائراً بينهم من أقدم العهود الاجتماعيّة.

٢٣٨

٢- تحوّل الإرث تدريجاً: لم تزل هذه السنّة كسائر السنن الجارية في المجتمعات الإنسانيّة تتحوّل من حال إلى حال و تلعب بها يد التطوّر و التكامل منذ أوّل ظهورها غير أنّ الاُمم الهمجيّة لمّا لم تستقرّ على حال منتظم تعسّر الحصول في تواريخهم على تحوّله المنتظم حصولاً يفيد وثوقاً به.

و القدر المتيقّن من أمرهم أنّهم كانوا يحرمون النساء و الضعفاء الإرث، و إنّما كان يختصّ بالأقوياء و ليس إلّا لأنّهم كانوا يعاملون مع النساء و الضعفاء من العبيد و الصغار معاملة الحيوان المسخّر و السلع و الأمتعة الّتي ليس لها إلّا أن ينتفع بها الإنسان دون أن تنتفع هي بالإنسان و ما في يده أو تستفيد من الحقوق الاجتماعيّة الّتي لا تتجاوز النوع الإنسانيّ.

و مع ذلك كان يختلف مصداق القويّ في هذا الباب برهة بعد برهة فتارة مصداقه رئيس الطائفة أو العشيرة، و تارة رئيس البيت، و تارة اُخرى أشجع القوم و أشدّهم بأساً، و كان ذلك يوجب طبعاً تغيّر سنّة الإرث تغيّراً جوهريّاً.

و لكون هذه السنن الجارية لا تضمن ما تقترحه الفطرة الإنسانيّة من السعادة المقترحة كان يسرع إليها التغيّر و التبدّل حتّى أنّ الملل المتمدّنة الّتي كان يحكم بينهم القوانين أو ما يجري مجراها من السنن المعتادة الملّيّة كان شأنهم ذلك كالروم و اليونان، و ما عمّر قانون من قوانين الإرث الدائرة بين الاُمم حتّى اليوم مثل ما عمّرت سنّة الإرث الإسلاميّة فقد حكمت في الاُمم الإسلاميّة منذ أوّل ظهورها إلى اليوم ما يقرب من أربعة عشر قرناً.

٣- الوراثة بين الاُمم المتمدّنة: من خواصّ الروم أنّهم كانوا يرون للبيت في نفسه استقلالاً مدنيّاً يفصله عن المجتمع العامّ و يصونه عن نفوذ الحكومة العامّة في جلّ ما يرتبط بأفراده من الحقوق الاجتماعيّة، فكان يستقلّ في الأمر و النهي و الجزاء و السياسة و نحو ذلك.

و كان ربّ البيت هو معبوداً لأهله من زوجة و أولاد و عبيد، و كان هو المالك من بينهم و لا يملك دونه أحد مادام أحد أفراد البيت، و كان هو الوليّ عليهم القيّم بأمرهم باختياره المطلق النافذ فيهم، و كان هو يعبد ربّ البيت السابق من أسلافه.

٢٣٩

و إذا كان هناك مال يرثه البيت كما إذا مات بعض الأبناء فيما ملكه بإذن ربّ البيت اكتساباً أو بعض البنات فيما ملكته بالازدواج صداقاً و أذن لها ربّ البيت أو بعض الأقارب فإنّما كان يرثه ربّ البيت لأنّه مقتضى ربوبيّته و ملكه المطلق للبيت و أهله.

و إذا مات ربّ البيت فإنّما كان يرثه أحد أبنائه أو إخوانه ممّن في وسعه ذلك و ورثه الأبناء فإن انفصلوا و أسّسوا بيوتاً جديدة كانوا أربابها و إن بقوا في بيتهم القديم كان نسبتهم إلى الربّ الجديد (أخيهم مثلاً) هي النسبة السابقة إلى أبيهم من الورود تحت قيمومته و ولايته المطلقة.

و كذا كان يرثه الأدعياء لأنّ الادعاء و التبنّي كان دائراً عندهم كما بين العرب في الجاهليّة.

و أمّا النساء كالزوجة و البنت و الاُمّ فلم يكنّ يرثن لئلّا ينتقل مال البيت بانتقالهنّ إلى بيوت اُخرى بالازدواج فإنّهم ما كانوا يرون جواز انتقال الثروة من بيت إلى آخر، و هذا هو الّذي ربّما ذكره بعضهم فقال: أنّهم كانوا يقولون بالملكيّة الاشتراكيّة الاجتماعيّة دون الانفراديّة الفرديّة و أظنّ أنّ مأخذه شي‏ء آخر غير الملك الاشتراكيّ فإنّ الأقوام الهمجيّة المتوحّشة أيضاً من أقدم الأزمنة كانوا يمتنعون من مشاركة غيرهم من الطوائف البدويّة فيما حازوه من المراعي و الأراضي الخصبة و حموه لأنفسهم و كانوا يحاربون عليه و يدفعون عن محميّاتهم و هذا نوع من الملك العامّ الاجتماعيّ الّذي مالكه هيئة المجتمع الإنسانيّ دون أفراده، و هو مع ذلك لا ينفي أن يملك كلّ فرد من المجتمع شيئاً من هذا الملك العامّ اختصاصاً.

و هذا ملك صحيح الاعتبار غير أنّهم ما كانوا يحسنون تعديل أمره و الاستدرار منه، و قد احترمه الإسلام كما ذكرناه فيما تقدّم، قال تعالى:( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جميعاً ) البقرة: ٢٩، فالمجتمع الإنسانيّ و هو المجتمع الإسلاميّ و من هو تحت ذمّته هو المالك لثروة الأرض بهذا المعنى ثمّ المجتمع الإسلاميّ هو المالك لما في يده من الثروة و لذلك لا يرى الإسلام إرث الكافر من المسلم.

و لهذا النظر آثار و نماذج في بعض الملل الحاضرة حيث لا يرون جواز تملّك

٢٤٠

الأجانب شيئاً من الأراضي و الأموال غير المنقولة من أوطانهم و نحو ذلك.

و لما كان البيت في الروم القديم ذا استقلال و تمام في نفسه كان قد استقرّ فيه هذه العادة القديمة المستقرّة في الطوائف و الممالك المستقلّة.

و كان قد أنتج استقرار هذه العادة أو السنّة في بيوت الروم مع سنّتهم في التزويج من منع الازدواج بالمحارم أنّ القرابة انقسمت عندهم قسمين: أحدهما القرابة الطبيعيّة و هي الاشتراك في الدم، و كان لازمها منع الازدواج في المحارم و جوازه في غيرهم، و الثاني القرابة الرسميّة و هي القانونيّة و لازمها الإرث و عدمه و النفقة و الولاية و غير ذلك فكان الأبناء أقرباء ذوي قرابة طبيعيّة و رسميّة معاً بالنسبة إلى ربّ البيت و رئيسه و في ما بينهم، أنفسهم و كانت النساء جميعاً ذوات قرابة طبيعيّة لا رسميّة فكانت المرأة لا ترث والدها و لا ولدها و لا أخاها و لا بعلها و لا غيرهم. هذه سنّة الروم القديم.

و أمّا اليونان فكان وضعهم القديم في تشكّل البيوت قريباً من وضع الروم القديم، و كان الميراث فيهم يرثه أرشد الأولاد الذكور، و يحرم النساء جميعاً من زوجة و بنت و اُخت، و يحرم صغار الأولاد و غيرهم غير أنّهم كالروميّين ربّما كانوا يحتالون لإيراث الصغار من أبنائهم و من أحبّوها و أشفقوا عليها من زوجاتهم و بناتهم و أخواتهم بحبل متفرّقة تسهّل الطريق لامتاعهنّ بشي‏ء من الميراث قليل أو كثير بوصيّة أو نحوها و سيجي‏ء الكلام في أمر الوصيّة.

و أمّا الهند و مصر و الصين فكان أمر الميراث في حرمان النساء منه مطلقاً و حرمان ضعفاء الأولاد أو بقاؤهم تحت الولاية و القيمومة قريباً ممّا تقدّم من سنّة الروم و اليونان.

و أمّا الفرس فإنّهم كانوا يرون نكاح المحارم و تعدّد الزوجات كما تقدّم و يرون التبنّي، و كانت أحبّ النساء إلى الزوج ربّما قامت مقام الابن بالادعاء و ترث كما يرث الابن و الدعيّ بالسويّة و كانت تحرم بقيّة الزوجات، و البنت المزوّجة لا ترث حذراً من انتقال المال إلى خارج البيت، و الّتي لم تزوّج بعد ترث نصف سهم الابن، فكانت الزوجات غير الكبيرة و البنت المزوّجة محرومات، و كانت الزوجة الكبيرة و الابن و الدعيّ و البنت غير المزوّجة بعد مرزوقين.

٢٤١

و أمّا العرب فقد كانوا يحرمون النساء مطلقاً و الصغار من البنين و يمتّعون أرشد الأولاد ممّن يركب الفرس و يدفع عن الحرمة، فإن لم يكن فالعصبة.

هذا حال الدنيا يوم نزلت آيات الإرث، ذكرها و تعرّض لها كثير من تواريخ آداب الملل و رسومهم و الرحلات و كتب الحقوق و أمثالها من أراد الاطّلاع على تفاصيل القول أمكنه أن يراجعها.

و قد تلخّص من جميع ما مرّ أنّ السنّة كانت قد استقرّت في الدّنيا يومئذ على حرمان النساء بعنوان أنّهنّ زوجة أو اُمّ أو بنت أو اُخت إلّا بعناوين اُخرى مختلفة، و على حرمان الصغار و الأيتام إلّا في بعض الموارد تحت عنوان الولاية و القيمومة الدائمة غير المنقطعة.

٤- ما ذا صنع الإسلام و الظرف هذا الظرف؟: قد تقدّم مراراً أنّ الإسلام يرى أنّ الأساس الحقّ للأحكام و القوانين الإنسانيّة هو الفطرة الّتي فطر الناس عليها و لا تبديل لخلق الله، و قد بنى الإرث على أساس الرحم الّتي هي من الفطرة و الخلقة الثابتة، و قد ألغى إرث الأدعياء حيث يقول تعالى:( وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ الله يَقُولُ الحقّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ الله، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ ) الأحزاب: ٥.

ثمّ أخرج الوصية من تحت عنوان الإرث و أفردها عنواناً مستقلّاً يعطى به و يؤخذ و إن كانوا يسمّون التملّك من جهة الإيصاء إرثاً، و ليس ذلك مجرّد اختلاف في التسمية فإنّ لكلّ من الوصيّة و الإرث ملاكاً آخر و أصلاً فطريّاً مستقلّاً، فملاك الإرث هو الرحم و لا نفوذ لإرادة المتوفّى فيها أصلاً، و ملاك الوصيّة نفوذ إرادة المتوفّى بعد وفاته (و إن شئت قل: حين ما يوصي) في ما يملكه في حياته و احترام مشيّته، فلو اُدخلت الوصيّة في الإرث لم يكن ذلك إلّا مجرّد تسمية.

و أمّا ما كان يسمّيها الناس كالروم القديم مثلاً إرثاً فلم يكن لاعتبارهم في سنّة الإرث أحد الأمرين، إمّا الرحم و إمّا احترام إرادة الميّت بل حقيقة الأمر أنّهم كانوا يبنون الإرث على احترام الإرادة و هي إرادة الميّت بقاء المال الموروث في البيت الّذي

٢٤٢

كان فيه تحت يد رئيس البيت و ربّه أو إرادته انتقاله بعد الموت إلى من يحبّه الميّت و يشفق عليه فكان الإرث على أيّ حال يبتني على احترام الإرادة و لو كان مبتنياً على أصل الرحم و اشتراك الدم لرزق من المال كثير من المحرومين منه، و حرم كثير من المرزوقين.

ثمّ إنّه بعد ذلك عمد إلى الإرث و عنده في ذلك أصلان جوهريّان:

أصل الرحم و هو العنصر المشترك بين الإنسان و أقربائه لا يختلف فيه الذكور و الإناث و الكبار و الصغار حتّى الأجنّة في بطون اُمّهاتهم و إن كان مختلف الأثر في التقدّم و التأخّر، و منع البعض للبعض من جهة قوّته و ضعفه بالقرب من الإنسان و البعد منه، و انتفاء الوسائط و تحقّقها قليلاً أو كثيراً كالولد و الأخ و العمّ، و هذا الأصل يقضي باستحقاق أصل الإرث مع حفظ الطبقات المتقدّمة و المتأخّرة.

و أصل اختلاف الذكر و الاُنثى في نحو وجود القرائح الناشئة عن الاختلاف في تجهيزهما بالتعقّل و الإحساسات، فالرجل بحسب طبعه إنسان التعقّل كما أنّ المرأة مظهر العواطف و الإحساسات اللّطيفة الرقيقة، و هذا الفرق مؤثّر في حياتيهما التأثير البارز في تدبير المال المملوك، و صرفه في الحوائج، و هذا الأصل هو الموجب للاختلاف في السهام في الرجل و المرأة و إن وقعا في طبقة واحدة كالابن و البنت، و الأخ و الاُخت في الجملة على ما سنبيّنه.

و استنتج من الأصل الأوّل ترتّب الطبقات بحسب القرب و البعد من الميّت لفقدان الوسائط و قلّتها و كثرتها فالطبقة الاُولى هي الّتي تتقرّب من الميّت بلا واسطة و هي الابن و البنت و الأب و الاُمّ، و الثانية الأخ و الاُخت و الجدّ و الجدّة و هي تتقرّب من الميّت بواسطة واحدة و هي الأب أو الاُمّ أو هما معاً، و الثالثة العمّ و العمّة و الخال و الخالة، و هي تتقرّب إلى الميّت بواسطتين. و هما أب الميّت أو اُمّه و جدّه أو جدّته، و على هذا القياس، و الأولاد في كلّ طبقة يقومون مقام آبائهم و يمنعون الطبقة اللّاحقة و روعي حال الزوجين لاختلاط دمائهما بالزواج مع جميع الطبقات فلا يمنعهما طبقة و لا يمنعان طبقة.

٢٤٣

ثمّ استنتج من الأصل الثاني اختلاف الذكر و الاُنثى في غير الاُمّ و الكلالة المتقرّبة بالاُمّ بأنّ للذكر مثل حظّ الاُنثيين.

و السهام الستّة المفروضة في الإسلام (النصف و الثلثان و الثلث و الربع و السدس و الثمن) و إن اختلفت، و كذا المال الّذي ينتهي إلى أحد الورّاث و إن تخلّف عن فريضته غالباً بالردّ أو النقص الوارد و كذا الأب و الاُمّ و كلالة الاُمّ و إن تخلّفت فرائضهم عن قاعدة( للذكر مثل حظّ الاُنثيين) و لذلك يعسر البحث الكلّيّ الجامع في باب الإرث إلّا أنّ الجميع بحسب اعتبار النوع في تخليف السابق للّاحق يرجع إلى استخلاف أحد الزوجين للآخر و استخلاف الطبقة المولّدة و هم الآباء و الاُمّهات للطبقة المتولّدة و هم الأولاد، و الفريضة الإسلاميّة في كلّ من القبيلين أعني الأزواج و الأولاد للذكر مثل حظّ الاُنثيين.

و ينتج هذا النظر الكلّيّ أنّ الإسلام يرى اقتسام الثروة الموجودة في الدنيا بالثلث و الثلثين فللاُنثى ثلث و للذكر ثلثان هذا من حيث التملّك لكنّه لا يرى نظير هذا الرأي في الصرف للحاجة فإنّه يرى نفقة الزوجة على الزوج و يأمر بالعدل المقتضي للتساوي في المصرف و يعطي للمرأة استقلال الإرادة و العمل فيما تملكه من المال لا مداخلة للرجل فيه، و هذه الجهات الثلاث تنتج أنّ للمرأة أن تتصرّف في ثلثي ثروة الدّنيا (الثلث الّذي تملكها و نصف الثلثين اللّذين يملكهما الرجل) و ليس في قبال تصرّف الرجل إلّا الثلث.

٥- علام استقرّ حال النساء و اليتامى في الإسلام؟: أمّا اليتامى فهم يرثون كالرجال الأقوياء، و يربّون و ينمي أموالهم تحت ولاية الأولياء كالأب و الجدّ أو عامّة المؤمنين أو الحكومة الإسلاميّة حتّى إذا بلغوا النكاح و اُونس منهم الرشد دفعت إليهم أموالهم و استووا على مستوى الحياة المستقلّة، و هذا أعدل السنن المتصوّرة في حقّهم.

و أمّا النساء فإنّهنّ بحسب النظر العامّ يملكن ثلث ثروة الدّنيا و يتصرّفن في ثلثيها بما تقدّم من البيان، و هنّ حرّات مستقلّات فيما يملكن لا يدخلن تحت قيمومة دائمة و لا موقّتة و لا جناح على الرجال فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف.

٢٤٤

فالمرأة في الإسلام ذات شخصيّة تساوي شخصيّة الرجل في حرّيّة الإرادة و العمل من جميع الجهات، و لا تفارق حالها حال الرجل إلّا في ما تقتضيه صفتها الروحيّة الخاصّة المخالفة لصفة الرجل الروحيّة و هي أنّ لها حياة إحساسيّة و حياة الرجل تعقليّة فاعتبر للرجل زيادة في الملك العامّ ليفوق تدبير التعقّل في الدنيا على تدبير الإحساس و العاطفة، و تدورك ما ورد عليها من النقص باعتبار غلبتها في التصرّف، و شرّعت عليها وجوب إطاعة الزوج في أمر المباشرة و تدورك ذلك بالصداق، و حرمت القضاء و الحكومة و المباشرة للقتال لكونها اُموراً يجب بناؤها على التعقّل دون الإحساس، و تدورك ذلك بوجوب حفظ حماهنّ و الدفاع عن حريمهنّ على الرجال، و وضع على عاتقهم أثقال طلب الرزق و الإنفاق عليها و على الأولاد و على الوالدين و لها حقّ حضانة الأولاد من غير إيجاب، و قد عدّل جميع هذه الأحكام باُمور اُخرى دعين إليها كالتحجّب و قلّة مخالطة الرجال و تدبير المنزل و تربية الأولاد.

و قد أوضح معنى امتناع الإسلام عن إعطاء التدابير العامّة الاجتماعيّة كتدبير الدفاع و القضاء و الحكومة للعاطفة و الإحساس و وضع زمامها في يدها، النتائج المرّة الّتي يذوقها المجتمع البشريّ إثر غلبة الإحساس على التعقّل في عصرنا الحاضر، و أنت بالتأمّل في الحروب العالميّة الكبرى الّتي هي من هدايا المدنيّة الحاضرة، و في الأوضاع العامّة الحاكمة على الدنيا، و عرض هذه الحوادث على العقل و الإحساس العاطفيّ تقف على تشخيص ما منه الإغراء و ما إليه النصح و الله الهادي.

على أنّ الملل المتمدّنة من الغربيّين لم يألوا جهداً و لم يقصروا حرصاً منذ مئات السنين في تربية البنات مع الأبناء في صفّ واحد، و إخراج ما فيهنّ من استعداد الكمال من القوّة إلى الفعل، و أنت مع ذلك إذا نظرت في فهرس نوابغ السياسة و رجال القضاء و التقنين و زعماء الحروب و قوّادها (و هي الخلال الثلاث المذكورة: الحكومة، القضاء القتال) لم تجد فيه شيئاً يعتدّ به من أسماء النساء و لا عدداً يقبل المقايسة إلى المئات و الاُلوف من الرجال، و هذا في نفسه أصدق شاهد على أنّ طباع النساء لا تقبل الرشد و النماء في هذه الخلال الّتي لا حكومة فيها بحسب الطبع إلّا للتعقّل و كلّما زاد فيها دبيب العواطف زادت خيبة و خسراناً.

٢٤٥

و هذا و أمثاله من أقطع الأجوبة للنظريّة المشهورة القائلة أنّ السبب الوحيد في تأخّر النساء عن الرجال في المجتمع الإنسانيّ هو ضعف التربية الصالحة فيهنّ منذ أقدم عهود الإنسانيّة، و لو دامت عليهنّ التربية الصالحة الجيّدة مع ما فيهنّ من الإحساسات و العواطف الرقيقة لحقن الرجال أو تقدّمن عليهم في جهات الكمال.

و هذا الاستدلال أشبه بالاستدلال بما ينتج نقيض المطلوب فإنّ اختصاصهنّ بالعواطف الرقيقة أو زيادتها فيهنّ هو الموجب لتأخّرهنّ فيما يحتاج من الاُمور إلى قوّة التعقّل و تسلّطه على العواطف الروحيّة الرقيقة كالحكومة و القضاء، و تقدّم من يزيد عليهنّ في ذلك و هم الرجال فإنّ التجارب القطعيّة تفيد أنّ من اختصّ بقوّة صفة من الصفات الروحيّة فإنّما تنجح تربيته فيما يناسبها من المقاصد و المآرب، و لازمه أن تنجح تربية الرجال في أمثال الحكومة و القضاء و يمتازوا عنهنّ في نيل الكمال فيها، و أن تنجح تربيتهنّ فيما يناسب العواطف الرقيقة و يرتبط بها من الاُمور كبعض شعب صناعة الطبّ و التصوير و الموسيقىّ و النسج و الطبخ و تربية الأطفال و تمريض المرضى و أبواب الزينة و نحو ذلك، و يتساوى القبيلان فيما سوى ذلك.

على أنّ تأخّرهنّ فيما ذكر من الاُمور لو كان مستنداً إلى الاتّفاق و الصدفة كما ذكر لانتقض في بعض هذه الأزمنة الطويلة الّتي عاش فيها المجتمع الإنسانيّ و قد خمّنوها بملايين من السنين كما أنّ تأخّر الرجال فيما يختصّ من الاُمور المختصّة بالنساء كذلك و لو صحّ لنا أن نعدّ الاُمور اللّازمة للنوع غير المنفكّة عن مجتمعهم و خاصّة إذا ناسبت اُموراً داخليّة في البنية الإنسانيّة من الاتّفاقيات لم يسع لنا أن نحصل على خلّة طبيعيّة فطريّة من خلال الإنسانيّة العامّة كميل طباعه إلى المدنيّة و الحضارة، و حبّه للعلم، و بحثه عن أسرار الحوادث و نحو ذلك فإنّ هذه صفات لازمة لهذا النوع و في بنية أفراده ما يناسبها من القرائح نعدّها لذلك صفات فطريّة نظير ما نعدّ تقدّم النساء في الاُمور الكماليّة المستظرفة و تأخّرهنّ في الاُمور التعقليّة و الاُمور الهائلة و الصعبة الشديدة من مقتضى قرائحهنّ، و كذلك تقدّم الرجال و تأخّرهم في عكس ذلك.

فلا يبقى بعد ذلك كلّه إلّا انقباضهنّ من نسبة كمال التعقّل إلى الرجال و كمال

٢٤٦

الإحساس و التعطّف إليهنّ، و ليس في محلّه فإنّ التعقّل و الإحساس في نظر الإسلام موهبتان إلهيّتان مودعتان في بنية الإنسان لمآرب إلهيّة حقّة في حياته لا مزيّة لإحداهما على الاُخرى و لا كرامة إلّا للتقوى، و أمّا الكمالات الأخر كائنة ما كانت فإنّما تنمو و تربو إذا وقعت في صراطه و إلّا لم تعدّ إلّا أوزاراً سيّئة.

٦- قوانين الإرث الحديثة: هذه القوانين و السنن و إن خالفت قانون الإرث الإسلاميّ كمّاً و كيفاً على ما سيمرّ بك إجمالها غير أنّها استظهرت في ظهورها و استقرارها بالسنّة الإسلاميّة في الإرث فكم بين موقف الإسلام عند تشريع إرث النساء في الدنيا و بين موقفهنّ من الفرق.

فقد كان الإسلام يظهر أمراً ما كانت الدنيا تعرفه و لا قرعت أسماع الناس بمثله، و لا ذكرته أخلاف عن أسلافهم الماضين و آبائهم الأوّلين، و أمّا هذه القوانين فإنّها اُبديت و كلّف بها اُمم حينما كانت استقرّت سنّة الإسلام في الإرث بين الاُمم الإسلاميّة في معظم المعمورة بين مئات الملايين من الناس توارثها الأخلاف من أسلافهم في أكثر من عشرة قرون، و من البديهيّات في أبحاث النفس أنّ وقوع أمر من الاُمور في الخارج ثمّ ثبوتها و استقرارها نعم العون في وقوع ما يشابهها و كلّ سنّة سابقة من السنن الاجتماعيّة مادّة فكريّة للسنن اللّاحقة المجانسة بل الاُولى هي المادّة المتحوّلة إلى الثانية فليس لباحث اجتماعيّ أن ينكر استظهار القوانين الجديدة في الإرث بما تقدّمها من الإرث الإسلاميّ و تحوّله إليها تحوّلاً عادلاً أو جائراً.

و من أغرب الكلام ما ربّما يقال - قاتل الله عصبيّة الجاهليّة الاُولى-: إنّ القوانين الحديثة إنّما استفادت في موادّها من قانون الروم القديمة، و أنت قد عرفت ما كانت عليه سنّة الروم القديمة في الإرث، و ما قدّمته السنّة الإسلاميّة إلى المجتمع البشريّ و أنّ السنّة الإسلاميّة متوسّطة في الظهور و الجريان العمليّ بين القوانين الروميّة القديمة و بين القوانين الغربيّة الحديثة و كانت متعرّفة متعمّقة في مجتمع الملايين و مئات الملايين من النفوس الإنسانيّة قروناً متوالية متطاولة، و من المحال أن تبقى سدى و على جانب من التأثير في أفكار هؤلاء المقنّنين.

٢٤٧

و أغرب منه أنّ هؤلاء القائلين يذكرون أنّ الإرث الإسلاميّ مأخوذ من الإرث الروميّ القديم!.

و بالجملة فالقوانين الحديثة الدائرة بين الملل الغربيّة و إن اختلفت في بعض الخصوصيّات غير أنّها كالمطبقة على تساوي الرجال و النساء في سهم الإرث فالبنات و البنون سواء، و الاُمّهات و الآباء سواء في السهام و هكذا.

و قد رتّبت الطبقات في قانون فرنسا على هذا النحو: (١) البنون و البنات (٢) الآباء و الاُمّهات و الإخوة و الأخوات (٣) الأجداد و الجدّات (٤) الأعمام و العمّات و الأخوال و الخالات، و قد أخرجوا علقة الزوجيّة من هذه الطبقات و بنوها على أساس المحبّة و العلقة القلبيّة و لا يهمّنا التعرّض لتفاصيل ذلك و تفاصيل الحال في سائر الطبقات من أرادها فليرجع إلى محلّها.

و الّذي يهمّنا هو التأمّل في نتيجة هذه السنّة الجارية و هي اشتراك المرأة مع الرجل في ثروة الدنيا الموجودة بحسب النظر العامّ الّذي تقدّم غير أنّهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج لا حقّ لها في تصرّف ماليّ في شي‏ء من أموالها الموروثة إلّا بإذن زوجها، و عاد بذلك المال منصّفاً بين الرجل و المرأة ملكاً، و تحت ولاية الرجل تدبيراً و إدارة! و هناك جمعيّات منتهضة يبذلون مساعيهم لإعطاء النساء الاستقلال و إخراجهنّ من تحت قيمومة الرجال في أموالهنّ و لو وفّقوا لما يريدون كانت الرجال و النساء متساويين من حيث الملك و من حيث ولاية التدبير و التصرّف.

٧- مقايسة هذه السنن بعضها إلى بعض: و نحن بعد ما قدّمنا خلاصة السنن الجارية بين الاُمم الماضية و قرونها الخالية إلى الباحث الناقد نحيل إليه قياس بعضها إلى البعض و القضاء على كلّ منها بالتمام و النقص و نفعه للمجتمع الإنسانيّ و ضرره من حيث وقوعه في صراط السعادة ثمّ قياس ما سنّه شارع الإسلام إليها و القضاء بما يجب أن يقضى به.

و الفرق الجوهريّ بين السنّة الإسلاميّة و السنن غيرها في الغاية و الغرض، فغرض الإسلام أن تنال الدنيا صلاحها، و غرض غيره أن تنال ما تشتهيها، و على هذين

٢٤٨

الأصلين يتفرّع ما يتفرّع من الروع قال تعالى:( وَ عَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شيئاً وَ هُوَ شرّ لَكُمْ وَ الله يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) البقرة: ٢١٦، و قال تعالى:( وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَ يَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) النساء: ١٩.

٨- الوصية: قد تقدّم أنّ الإسلام أخرج الوصيّة من تحت الوراثة و أفردها عنواناً مستقلّاً لما فيها من الملاك المستقلّ و هو احترام إرادة المالك بالنسبة إلى ما يملكه في حياته، و قد كانت الوصيّة بين الاُمم المتقدّمة من طرق الاحتيال لدفع الموصي ماله أو بعض ماله إلى غير من تحكّم السنّة الجارية بإرثه كالأب و رئيس البيت و لذلك كانوا لا يزالون يضعون من القوانين ما يحدّها و يسدّ بنحو هذا الطريق المؤدّي إلى إبطال حكم الإرث و لا يزال يجري الأمر في تحديدها هذا المجرى حتّى اليوم.

و قد حدّها الإسلام بنفوذها إلى ثلث المال فهي غير نافذة في الزائد عليه، و قد تبعته في ذلك بعض القوانين الحديثة كقانون فرنسا غير أنّ النظرين مختلفان، و لذلك كان الإسلام يحثّ عليها و القوانين تردع عنها أو هي ساكتة.

و الّذي يفيده التدبّر في آيات الوصيّة و الصدقات و الزكاة و الخمس و مطلق الإنفاق أنّ في هذه التشريعات تسهيل طريق أن يوضع ما يقرب من نصف رقبة الأموال و الثلثان من منافعها للخيرات و المبرّات و حوائج طبقة الفقراء و المساكين لتقرب بذلك الطبقات المختلفة في المجتمع، و يرتفع الفواصل البعيدة من بينهم، و تقام به أصلاب المساكين مع ما في القوانين الموضوعة بالنسبة إلى كيفيّة تصرّف المثرين في ثروتهم من تقريب طبقتهم من طبقة المساكين، و لتفصيل هذا البحث محلّ آخر سيمرّ بك إن شاء الله تعالى‏.

٢٤٩

( سورة النساء الآيات ١٥ الى ١٦)

وَاللّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنّ أَرْبَعَةً مِنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى‏ يَتَوَفّاهُنّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيل( ١٥) وَاللّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً رَحِيم( ١٦)

( بيان)

قوله تعالى: ( وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ) إلى قوله:( مِنْكُمْ ) يقال: أتاه و أتى به أي فعله، و الفاحشة من الفحش و هو الشناعة فهي الطريقة الشنيعة، و قد شاع استعمالها في الزنا، و قد اُطلقت في القرآن على اللّواط أو عليه و على السحق معاً في قوله تعالى:( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالمين ) العنكبوت: ٢٨.

و الظاهر أنّ المراد بها ههنا الزنا على ما ذكره جمهور المفسّرين، ورووا: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر عند نزول آية الجلد أنّ الجلد هو السبيل الّذي جعله الله لهنّ إذا زنين‏، و يشهد بذلك ظهور الآية في أنّ هذا الحكم سينسخ حيث يقول تعالى:( أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا ) ، و لم ينقل أنّ السحق نسخ حدّه بشي‏ء آخر، و لا أنّ هذا الحدّ اُجري على أحد من اللّاتي يأتينه و قوله:( أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ) ، يشهد بأنّ العدد من الرجال.

قوله تعالى: ( فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ ) إلى آخر الآية رتّب الإمساك و هو الحبس المخلّد على الشهادة لا على أصل تحقّق الفاحشة و إن علم به إذا لم يشهد عليه الشهود و هو من منن الله سبحانه على الاُمّة من حيث السماحة و الإغماض.

و الحكم هو الحبس الدائم بقرينة الغاية المذكورة في الكلام أعني قوله:( حتّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ ) ، غير أنّه لم يعبّر عنه بالحبس و السجن بل بالإمساك لهنّ في البيوت، و هذا أيضاً من واضح التسهيل و السماحة بالإغماض، و قوله:( حتّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا ) ، أي طريقاً إلى التخلّص من الإمساك الدائم و النجاة منه.

٢٥٠

و في الترديد إشعار بأنّ من المرجوّ أن ينسخ هذا الحكم، و هكذا كان فإنّ حكم الجلد نسخه فإنّ من الضروريّ أنّ الحكم الجاري على الزانيات في أواخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المعمول به بعده بين المسلمين هو الجلد دون الإمساك في البيوت فالآية على تقدير دلالتها على حكم الزانيات منسوخة بآية الجلد و السبيل المذكور فيها هو الجلد بلا ريب.

قوله تعالى: ( وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) ، الآيتان متناسبتان مضموناً و الضمير في قوله:( يَأْتِيانِها ) ، راجع إلى الفاحشة قطعاً، و هذا يؤيّد كون الآيتين جميعاً مسوقتين لبيان حكم الزنا، و على ذلك فالآية الثانية متمّمة الحكم في الاُولى فإنّ الاُولى لم تتعرّض إلّا لما للنساء من الحكم، و الثانية تبيّن الحكم فيهما معاً و هو الإيذاء فيتحصّل من مجموع الآيتين حكم الزاني و الزانية معاً و هو إيذاؤهما و إمساك النساء في البيوت.

لكن لا يلائم ذلك قوله تعالى بعد:( فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ) ، فإنّه لا يلائم الحبس المخلّد فلا بدّ أن يقال: إنّ المراد بالإعراض الإعراض عن الإيذاء دون الحبس فهو بحاله.

و لهذا ربّما قيل تبعاً لما ورد في بعض الروايات (و سننقلها) إنّ الآية الاُولى لبيان حكم الزنا في الثيّب، و الثانية مسوقة لحكم الأبكار و إنّ المراد بالإيذاء هو الحبس في الأبكار ثمّ تخلية سبيلهنّ مع التوبة و الإصلاح، لكن يبقى أوّلاً الوجه في تخصيص الاُولى بالثيّبات و الثانية بالأبكار من غير دليل يدلّ عليه من جهة اللّفظ، و ثانياً وجه تخصيص الزانية بالذكر في الآية الاُولى، و ذكرهما معاً في الآية الثانية:( وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) .

و قد عزي إلى أبي مسلم المفسّر أنّ الآية الاُولى لبيان حكم السحق بين النساء، و الآية الثانية تبيّن حكم اللّواط بين الرجال، و الآيتان غير منسوختين.

و فساده ظاهر: أمّا في الآية الاُولى فلمّا ذكرناه في الكلام على قوله:( وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ) ، و أمّا في الآية الثانية فلمّا ثبت في السنّة من أنّ الحدّ

٢٥١

في اللّواط القتل، و قد صحّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: من عمل منكم عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل و المفعول‏، و هذا إمّا حكم ابتدائيّ غير منسوخ، و إمّا حكم ناسخ لحكم الآية، و على أيّ حال يبطل قوله.

و من الممكن: أن يقال في معنى الآيتين نظراً إلى الظاهر السابق إلى الذهن من الآيتين، و القرائن المحفوف بها الكلام، و ما تقدّم من الإشكال فيما ذكروه من المعنى - و الله أعلم -: أنّ الآية متضمّنة لبيان حكم زنا المحصنات ذوات الأزواج، و يدلّ عليه تخصيص الآية النساء بالذكر دون الرجال، و إطلاق النساء على الأزواج شائع في اللّسان و خاصّة إذا اُضيفت إلى الرجال كما في قوله: نسائكم، قال تعالى:( وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) النساء: ٤، و قال تعالى:( مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) النساء: ٢٣.

و على هذا فقد كان الحكم الأوّليّ المؤجّل لهنّ الإمساك في البيوت ثمّ شرع لهنّ الرجم، و ليس نسخاً للكتاب بالسنّة على ما استدلّ به الجبائيّ فإنّ السنخ إنّما هو رفع الحكم الظاهر بحسب الدليل في التأبيد، و هذا حكم مقرون بما يشعر بأنّه مؤجّل سينقطع بانقطاعه و هو قوله:( أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا ) لظهوره في أنّ هناك حكماً سيطلع عليهنّ، و لو سمّي هذا نسخاً لم يكن به بأس فإنّه غير متضمّن لما يلزم نسخ الكتاب بالسنّة من الفساد فإنّ القرآن نفسه مشعر بأنّ الحكم سيرتفع بانقطاع أمده، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبيّن لمرادات القرآن الكريم.

و الآية الثانية متضمّنة لحكم الزنا من غير إحصان و هو الإيذاء سواء كان المراد به الحبس أو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول أو غير ذلك، و الآية على هذا منسوخة بآية الجلد من سورة النور، و أمّا ما ورد من الرواية في كون الآية متضمّنة لحكم الأبكار فمن الآحاد و هي مع ذلك مرسلة ضعيفة بالإرسال، هذا و لا يخلو مع ذلك من وهن(١) .

قوله تعالى: ( فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ) إلخ تقييد التوبة بالإصلاح لتحقيق حقيقة التوبة، و تبيين أنّها ليست مجرّد لفظ أو حالة مندفعة.

____________________

(١) فإنّ إشعار المنسوخ بالنسخ لا ينافي النسخ (منه)

٢٥٢

( بحث روائي‏)

في الصافي، عن تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ) الآية هي منسوخة، و السبيل هي الحدود.

و فيه، عن الباقرعليه‌السلام : سئل عن هذه الآية فقال: هي منسوخة، قيل: كيف كانت؟ قال: كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها أربعة شهود اُدخلت بيتاً و لم تحدّث، و لم تكلّم، و لم تجالس، و اُوتيت بطعامها و شرابها حتّى تموت أو يجعل الله لهنّ سبيلاً، قال: جعل السبيل الجلد و الرجم.

قيل: قوله: و الّذان يأتيانها منكم؟ قال: يعني البكر إذا أتت الفاحشة الّتي أتتها هذه الثيّب، فآذوهما؟ قال تحبس. الحديث.

أقول: القصّة أعني كون الحكم المجرى عليهنّ في صدر الإسلام الإمساك في البيوت حتّى الوفاة ممّا رويت بعدّة من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس و قتادة و مجاهد و غيرهم، و نقل عن السدّيّ أنّ الحبس في البيوت كان حكماً للثيّبات، و الإيذاء الواقع في الآية الثانية كان حكماً للجواري و الفتيان الّذين لم ينكحوا، و قد عرفت ما ينبغي أن يقال في المقام‏.

٢٥٣

( سورة النساء الآيات ١٧ الى ١٨)

إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيم( ١٧) وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئاتِ حَتّى‏ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ اعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيم( ١٨)

( بيان)

مضمون الآيتين لا يخلو عن ارتباط بما تقدّمهما من الآيتين فإنّهما قد اختتمتا بذكر التوبة فمن الممكن أن يكون هاتان نزلتا مع تينك، و هاتان الآيتان مع ذلك متضمّنتان لمعنى مستقلّ في نفسه، و هو إحدى الحقائق العالية الإسلاميّة و التعاليم الراقية القرآنيّة، و هي حقيقة التوبة و شأنها و حكمها.

قوله تعالى: ( إنّما التَّوْبَةُ عَلَى الله للّذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) التوبة هي الرجوع، و هي رجوع من العبد إلى الله سبحانه بالندامة و الانصراف عن الإعراض عن العبوديّة، و رجوع من الله إلى العبد رحمة بتوفيقه للرجوع إلى ربّه أو بغفران ذنبه، و قد مرّ مراراً أنّ توبة واحدة من العبد محفوفة بتوبتين من الله سبحانه على ما يفيده القرآن الكريم.

و ذلك أنّ التوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوّة و الحسنات من الله، و القوّة لله جميعاً فمن الله توفيق الأسباب حتّى يتمكّن العبد من التوبة و يتمشّى له الانصراف عن التوغّل في غمرات البعد و الرجوع إلى ربّه ثمّ إذا وفّق للتوبة و الرجوع احتاج في التطهّر من هذه الألواث، و زوال هذه القذارات، و الورود و الاستقرار في ساحة القرب إلى رجوع آخر من ربّه إليه بالرحمة و الحنان و العفو و المغفرة.

و هذان الرجوعان من الله سبحانه هما التوبتان الحافّتان لتوبة العبد و رجوعه

٢٥٤

قال تعالى:( ثمّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة: ١١٨، و هذه هي التوبة الاُولى، و قال تعالى:( فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) البقرة: ١٦٠، و هذه هي التوبة الثانية، و بين التوبتين منه تعالى توبة العبد كما سمعت.

و أمّا قوله:( عَلَى الله للّذين ) ، لفظة على و اللّام تفيدان معنى النفع و الضرر كما في قولنا: دارت الدائرة لزيد على عمرو، و كان السباق لفلان على فلان، و وجه إفادة على و اللّام معنى الضرر و النفع أنّ على تفيد معنى الاستعلاء، و اللّام معنى الملك و الاستحقاق، و لازم ذلك أنّ المعاني المتعلّقة بطرفين ينتفع بها أحدهما و يتضرّر بها الآخر كالحرب و القتال و النزاع و نحوها فيكون أحدهما الغالب و الآخر المغلوب ينطبق على الغالب منهما معنى الملك و على المغلوب معنى الاستعلاء، و كذا ما أشبه ذلك كمعنى التأثير بين المتأثّر و المؤثّر، و معنى العهد و الوعد بين المتعهد و المتعهد له، و الواعد و الموعود له و هكذا، فظهر أنّ كون على و اللّام لمعنى الضرر و النفع إنّما هو أمر طار من ناحية مورد الاستعمال لا من ناحية معنى اللّفظ.

و لمّا كان نجاح التوبة إنّما هو لوعد وعده الله عباده فأوجبها بحسبه على نفسه لهم قال ههنا:( إنّما التَّوْبَةُ عَلَى الله للّذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) فيجب عليه تعالى قبول التوبة لعباده لكن لا على أنّ لغيره أن يوجب عليه شيئاً أو يكلّفه بتكليف سواء سمّي ذلك الغير بالعقل أو نفس الأمر أو الواقع أو الحقّ أو شيئاً آخر، تعالى عن ذلك و تقدّس بل على أنّه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم و هو لا يخلف الميعاد، فهذا معنى وجوب قبول التوبة على الله فيما يجب، و هو أيضاً معنى وجوب كلّ ما يجب على الله من الفعل.

و ظاهر الآية أوّلاً أنّها لبيان أمر التوبة الّتي لله أعني رجوعه تعالى بالرحمة إلى عبده دون توبة العبد و إن تبيّن بذلك أمر توبة العبد بطريق اللّزوم فإنّ توبة الله سبحانه إذا تمّت شرائطها لم ينفكّ ذلك من تمام شرائط توبة العبد، و هذا أعني كون الآية في مقام بيان توبة الله سبحانه لا يحتاج إلى مزيد توضيح.

و ثانياً: أنّها تبيّن أمر التوبة أعمّ ممّا إذا تاب العبد من الشرك و الكفر بالإيمان

٢٥٥

أو تاب من المعصية إلى الطاعة بعد الإيمان فإنّ القرآن يسمّي الأمرين جميعاً بالتوبة قال تعالى:( الّذينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ ربّهم وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ للّذين آمَنُوا ربّنا وَسِعْتَ كلّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ للّذين تابُوا وَ اتّبعوا سَبِيلَكَ ) المؤمن: ٧، يريد: للّذين آمَنُوا بقرينة أوّل الكلام فسمّى الإيمان توبة، و قال تعالى:( ثمّ تابَ عَلَيْهِمْ ) التوبة: ١١٨.

و الدليل على أنّ المراد هي التوبة أعمّ من أن تكون من الشرك أو المعصية التعميم الموجود في الآية التالية: و ليست التوبة إلخ فإنّها تتعرّض لحال الكافر و المؤمن معاً، و على هذا فالمراد بقوله:( يَعْمَلُونَ السُّوءَ ) ما يعمّ حال المؤمن و الكافر معاً فالكافر كالمؤمن الفاسق ممّن يعمل السوء بجهالة أمّا لأنّ الكفر من عمل القلب، و العمل أعمّ من عمل القلب و الجوارح، أو لأنّ الكفر لا يخلو من أعمال سيّئة من الجوارح فالمراد من الّذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ الكافر و الفاسق إذا لم يكونا معاندين في الكفر و المعصية.

و أمّا قوله تعالى: بِجَهالَةٍ فالجهل يقابل العلم بحسب الذات غير أنّ الناس لما شاهدوا من أنفسهم أنّهم يعملون كلّاً من أعمالهم الجارية عن علم و إرادة، و أنّ الإرادة إنّما تكون عن حبّ مّا و شوق مّا سواء كان الفعل ممّا ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع أو ممّا لا ينبغي أن يفعل لكن من له عقل مميّز في المجتمع عندهم لا يقدم على السيّئة المذمومة عند العقلاء فأذعنوا بأنّ من اقترف هذه السيّئات المذمومة لهوى نفسانيّ و داعية شهويّة أو غضبيّة خفي عليه وجه العلم، و غاب عنه عقله المميّز الحاكم في الحسن و القبيح و الممدوح و المذموم، و ظهر عليه الهوى و عندئذ يسمّى حاله في علمه و إرادته( جهالة ) في عرفهم و إن كان بالنظر الدقيق نوعاً من العلم لكن لمّا لم يؤثّر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل و ذمّه في ردعه عن الوقوع في القبح و الشناعة اُلحق بالعدم فكان هو جاهلاً عندهم حتّى أنّهم يسمّون الإنسان الشابّ الحدث السنّ قليل التجربة جاهلاً لغلبة الهوى و ظهور العواطف و الإحساسات النيّئة على نفسه، و لذلك أيضاً تراهم لا يسمّون حال مقترف السيّئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيّئة عن الهوى و العاطفة جهالة بل يسمّونها عناداً و عمداً و غير ذلك.

٢٥٦

فتبيّن بذلك أنّ الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى و ظهور الشهوة و الغضب من غير عناد مع الحقّ، و من خواصّ هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنت ثورة القوى و خمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيّئة أو بحلول مانع أو بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الإنسان إلى العلم و زالت الجهالة، و بانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد و تعمّد و نحو ذلك فإن سبب صدوره لمّا لم يكن طغيان شي‏ء من القوى و العواطف و الأميال النفسانيّة بل أمراً يسمّى عندهم بخبث الذات و رداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى و الأميال سريعاً أو بطيئاً بل دام نوعاً بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلّا أن يشاء الله.

نعم ربّما يتّفق أن يرجع المعاند اللّجوج عن عناده و لجاجه و استعلائه على الحقّ فيتواضع للحقّ و يدخل في ذلّ العبوديّة فيكشف ذلك عندهم عن أنّ عناده كان عن جهالة، و في الحقيقة كلّ معصية جهالة من الإنسان، و على هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة و العافية.

و من هنا يظهر معنى قوله تعالى:( ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) أي إنّ عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفاً على طريقته ملازماً لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى و العمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللّجوج بل يرجع عن عمله من قريب فالمراد بالقريب العهد القريب أو الزمان القريب و هو قبل ظهور آيات الآخرة و قدوم الموت.

و كلّ معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جزاء عمله و وبال فعله ألزمته نفسه على الندامة و التبرّي من فعله لكنّه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه و هداية فطرته بل إنّما هي حيلة يحتالها نفسه الشريرة للتخلّص من وبال الفعل، و الدليل عليه أنّه إذا اتّفق تخلّصه من الوبال المخصوص عاد ثانياً إلى ما كان عليه من سيّئات الأعمال قال تعالى:( وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ أنّهم لَكاذِبُونَ ) الأنعام: ٢٨.

و الدليل على أنّ المراد بالقريب في الآية هو ما قبل ظهور آية الموت قوله تعالى في الآية التالية:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ - إلى قوله -قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) .

٢٥٧

و على هذا يكون قوله:( ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) كناية عن المساهلة المفضية إلى فوت الفرصة.

و يتبيّن ممّا مرّ أنّ القيدين جميعاً أعني قوله: بِجَهالَةٍ، و قوله: ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ احترازيّان يراد بالأوّل منهما أن لا يعمل السوء عن عناد و استعلاء على الله، و بالثاني منهما أن لا يؤخّر الإنسان التوبة إلى حضور موته كسلاً و توانياً و مماطلةً إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبوديّة فيكون توبته تعالى أيضاً قبول هذا الرجوع، و لا معنى للعبوديّة إلّا مع الحياة الدنيويّة الّتي هي ظرف الاختيار و موطن الطاعة و المعصية، و مع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشّى معه طاعة أو معصية، قال تعالى:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ ربّك لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) الأنعام ١٥٨، و قال تعالى:( فلمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِالله وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ الله الّتي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ) المؤمن: ٨٥، إلى غير ذلك من الآيات.

و بالجملة يعود المعنى إلى أنّ الله سبحانه إنّما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكباراً على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع و التذلّل لله، و لم يتساهل و يتسامح في أمر التوبة تساهلاً يؤدّي إلى فوت الفرصة بحضور الموت.

و يمكن أن يكون قوله: بِجَهالَةٍ قيداً توضيحيّاً، و يكون المعنى: للّذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ و لا يكون ذلك إلّا عن جهل منهم فإنّه مخاطرة بالنفس و تعرّض لعذاب أليم، أو لا يكون ذلك إلّا عن جهل منهم بكنه المعصية و ما يترتّب عليها من المحذور، و لازمه كون قوله: ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة في أمر التوبة فإنّ من يأتي بالمعصية استكباراً و لا يخضع لسلطان الربوبيّة يخرج على هذا الفرض بقوله: ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ لا بقوله: بِجَهالَةٍ و على هذا لا يمكن الكناية بقوله: ثمّ يَتُوبُونَ عن التساهل و التواني فافهم ذلك، و لعلّ الوجه الأوّل أوفق لظاهر الآية.

و قد ذكر بعضهم: أنّ المراد بقوله: ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أن تتحقّق التوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفاً كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعدّ عرفاً متّصلاً به لا أن يمتدّ إلى حين حضور الموت كما ذكر.

٢٥٨

و هو فاسد لإفساده معنى الآية التالية فإنّ الآيتين في مقام بيان ضابط كلّيّ لتوبة الله سبحانه أي لقبول توبة العبد على ما يدلّ عليه الحصر الوارد في قوله:( إنّما التَّوْبَةُ عَلَى الله للّذين) إلخ و الآية الثانية تبيّن الموارد الّتي لا تقبل فيها التوبة، و لم يذكر في الآية إلّا موردان هما التوبة للمسي‏ء المتسامح في التوبة إلى حين حضور الموت، و التوبة للكافر بعد الموت، و لو كان المقبول من التوبة هو ما يعدّ عرفاً قريباً متّصلاً بزمان المعصية لكان للتوبة غير المقبولة مصاديق اُخر لم تذكر في الآية.

قوله تعالى: ( فَأُولئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَ كانَ الله عَلِيماً حَكِيماً ) الآيتان باسم الإشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم و تعظيم أمرهم كما يدلّ قوله:( يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في الآية الثانية:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ للّذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) إلخ.

و قد اختير لختم الكلام قوله:( وَ كانَ الله عَلِيماً حَكِيماً ) دون أن يقال: و كان الله غفوراً رحيماً للدلالة على أنّ فتح باب التوبة إنّما هو لعلمه تعالى بحال العباد و ما يؤدّيهم إليه ضعفهم و جهالتهم، و لحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان النظام و إصلاح الاُمور و هو تعالى لعلمه و حكمته لا يغرّه ظواهر الأحوال بل يختبر القلوب، و لا يستزلّه مكر و لا خديعة فعلى التائب من العباد أن يتوب حقّ التوبة حتّى يجيبه الله حقّ الإجابة.

قوله تعالى: ( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ للّذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) إلخ في عدم إعادة قوله: عَلَى الله مع كونه مقصوداً ما لا يخفى من التلويح إلى انقطاع الرحمة الخاصّة و العناية الإلهيّة عنهم كما أنّ إيراد السيّئات بلفظ الجمع يدلّ على العناية بإحصاء سيّئاتهم و حفظها عليهم كما تقدّمت الإشارة إليه.

و تقييد قوله: يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ بقوله:( حتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) المفيد لاستمرار الفعل إمّا لأنّ المساهلة في المبادرة إلى التوبة و تسويفها في نفسه معصية مستمرّة متكرّرة، أو لأنّه بمنزلة المداومة على الفعل، أو لأنّ المساهلة في أمر التوبة لا تخلو غالباً عن تكرّر معاص مجانسة للمعصية الصادرة أو مشابهة لها.

و في قوله:( حتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) دون أن يقال: حتّى إذا حضرهم الموت

٢٥٩

دلالة على الاستهانة بالأمر و الاستحقار له أي حتّى يكون أمر التوبة هيّناً هذا الهوان سهلاً هذه السهولة حتّى يعمل الناس ما يهوونه و يختاروا ما يشاؤنه و لا يبالون و كلّما عرض لأحدهم عارض الموت قال: إنّي تبت الآن فتندفع مخاطر الذنوب و مهلكة مخالفة الأمر الإلهيّ بمجرّد لفظ يردّده ألسنتهم أو خطور يخطر ببالهم في آخر الأمر.

و من هنا يظهر معنى تقييد قوله: قالَ إِنِّي تُبْتُ بقوله: الْآنَ فإنّه يفيد أنّ حضور الموت و مشاهدة هذا القائل سلطان الآخرة هما الموجبان له أن يقول تبت سواء ذكره أو لم يذكره فالمعنى: إنّي تائب لما شاهدت الموت الحقّ و الجزاء الحقّ، و قد قال تعالى في نظيره حاكياً عن المجرمين يوم القيامة:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ ربّهم ربّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) السجدة: ١٢.

فهذه توبة لا تقبل من صاحبها لأنّ اليأس من الحياة الدنيا و هول المطّلع هما اللّذان أجبراه على أن يندم على فعله و يعزم على الرجوع إلى ربّه و لات حين رجوع حيث لا حياة دنيويّة و لا خيرة عمليّة.

قوله تعالى: ( وَ لَا الّذينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كفّار ) هذا مصداق آخر لعدم قبول التوبة و هو الإنسان يتمادى في الكفر ثمّ يموت و هو كافر فإنّ الله لا يتوب عليه فإنّ إيمانه و هو توبته لا ينفعه يومئذ، و قد تكرّر في القرآن الكريم أنّ الكفر لا نجاة معه بعد الموت، و أنّهم لا يجابون و إن سألوا، قال تعالى:( إلّا الّذينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كفّار أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) البقرة:١٦٢، و قال تعالى:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كفّار فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ‏ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدى‏ بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) آل عمران:٩١، و نفي الناصرين نفي للشفاعة في حقّهم كما تقدّم في الكلام على الآية في الجزء الثالث من الكتاب.

و تقييد الجملة بقوله: وَ هُمْ كفّار يدلّ على التوبة للعاصي المؤمن إذا مات على المعصية من غير استكبار و لا تساهل فإنّ التوبة من العبد بمعنى رجوعه إلى عبوديّة

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458