الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134562 / تحميل: 6222
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الجمع بين تسع نسوة لأنّ مجموع الاثنتين و الثلاث و الأربع تسع، و قد ذكر في المجمع: أنّ الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتّة فإنّ من قال: دخل القوم البلد مثنى و ثلاث و رباع لم يلزم منه اجتماع الأعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة، و لأنّ لهذا العدد لفظاً موضوعاً و هو تسع فالعدول عنه إلى مثنى و ثلاث و رباع نوع من العيّ - جلّ كلامه عن ذلك و تقدّس -.

قوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) أي فانكحوا واحدةً لا أزيد، و قد علّقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لأنّ العلم في هذه الاُمور - و لتسويل النفس فيها أثر بيّن - لا يحصل غالباً فتفوت المصلحة.

قوله تعالى: ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) و هي الإماء فمن خاف إلّا يقسط فيهنّ فعليه أن ينكح واحدة، و إن أحبّ أن يزيد في العدد فعليه بالإماء إذ لم يشرّع القسم في الإماء.

و من هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الإماء بتجويز الظلم و التعدّي عليهنّ فإنّ الله لا يحبّ الظالمين و ليس بظلّام للعبيد بل لمّا لم يشرع القسم فيهنّ فأمر العدل فيهنّ أسهل، و لهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتّخاذهنّ و إتيانهنّ بملك اليمين دون نكاحهنّ بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فإنّ مسألة نكاحهنّ سيتعرّض لها في ما سيجي‏ء من قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) الآية: النساء: ٢٥.

قوله تعالى: ( ذلِكَ أَدْنى‏ إلّا تَعُولُوا ) العول هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرّعت أقرب من إلّا تميلوا عن العدل و لا تتعدّوا عليهنّ في حقوقهنّ، و ربّما قيل: إنّ العول بمعنى الثقل و هو بعيد لفظاً و معنى.

و في ذكر هذه الجملة الّتي تتضمّن حكمة التشريع دلالة على أنّ أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط و نفي العول و الإجحاف في الحقوق.

قوله تعالى: ( وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) الصدقة بضمّ الدال و فتحها و الصداق هو المهر، و النحلة هي العطيّة من غير مثامنة.

١٨١

و في إضافة الصدقات إلى ضمير هنّ دلالة على أنّ الحكم بوجوب الإيتاء مبنيّ على المتداول بين الناس في سنن الازدواج من تخصيص شي‏ء من المال أو أيّ شي‏ء له قيمة مهراً لهنّ كأنّه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإنّ المتداول بين الناس أن يكون الطالب الداعي للازدواج هو الرجل على ما سيأتي في البحث العلميّ التالي، و هو الخطبة كما أنّ المشتري يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته، و كيف كان ففي الآية إمضاء هذه العادة الجارية عند الناس.

و لعلّ إمكان توهّم عدم جواز تصرّف الزوج في المهر أصلاً حتّى برضي من الزوجة هو الموجب للإتيان بالشرط في قوله:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) مع ما في اشتراط الأكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم، و الدلالة على أنّ الحكم وضعيّ لا تكليفيّ.

و الهناء سهولة الهضم و قبول الطبع و يستعمل في الطعام، و المري من الريّ و هو في الشراب كالهني‏ء في الطعام غير أنّ الهناء يستعمل في الطعام و الشراب معاً، فإذا قيل: هنيئاً مريئاً اختصّ الهناء بالطعام و الريّ بالشراب.

قوله تعالى: ( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الّتي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً ) السفه خفّة العقل، و كأنّ الأصل في معناه مطلق الخفّة فيما من شأنه أن لا يخفّ و منه الزمام السفيه أي كثير الاضطراب و ثوب سفيه أي ردي‏ء النسج ثمّ غلب في خفّة النفس و اختلف باختلاف الأغراض و المقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الاُمور الدنيويّة و سفيه للفاسق غير المبالي في أمر دينه و هكذا.

و ظاهر ما يتراءى من الآية أنّه نهي عن الإكثار في الإنفاق على السفهاء و إعطائهم من المال أزيد من حاجاتهم الضروريّة في الارتزاق، غير أنّ وقوع الآية في سياق الكلام في أموال اليتامى الّتي يتولّى أمر إدارتها و إنّمائها الأولياء قرينة معيّنة على كون المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى، و أنّ المراد بقوله: أَمْوالَكُمُ، في الحقيقة أموالهم اُضيف إلى الأولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضاً قوله بعد: وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ، و إن كان و لا بدّ من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى، فالمراد بالسفهاء ما يعمّ اليتيم و غير اليتيم لكنّ الأوّل أرجح.

١٨٢

و كيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى، فالمراد بقوله: أَمْوالَكُمُ، أموال اليتامى و إنّما اُضيفت إلى الأولياء المخاطبين بعناية أنّ مجموع المال و الثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها و إنّما اختصّ بعض أفراد المجتمع ببعض منه و آخر بآخر للصلاح العامّ الّذي يبتني عليه أصل الملك و الاختصاص فيجب أن يتحقّق الناس بهذه الحقيقة و يعلموا أنّهم مجتمع واحد و المال كلّه لمجتمعهم، و على كلّ واحد منهم أن يكلأه و يتحفّظ به و لا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة، و تدبير كلّ من لا يحسن التدبير كالصغير و المجنون، و هذا من حيث الإضافة كقوله تعالى:( وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ ) النساء: ٢٥، و من المعلوم أنّ المراد بالفتيات ليس الإماء اللّاتي يملكها من يريد النكاح.

ففي الآية دلالة على حكم عامّ موجّه إلى المجتمع و هو أنّ المجتمع ذو شخصيّة واحدة له كلّ المال الّذي أقام الله به صلبه و جعله له معاشاً فيلزم على المجتمع أن يدبّره و يصلحه و يعرضه معرض النماء و يرتزق به ارتزاقاً معتدلّاً مقتصداً و يحفظه عن الضيعة و الفساد، و من فروع هذا الأصل أنّه يجب على الأولياء أن يتولّوا أمر السفهاء فلا يؤتوهّم أموالهم فيضيّعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها عنهم و يصلحوا شأنها، و ينموها بالكسب و الاتّجار و الاسترباح و يرزقوا اُولئك السفهاء من فوائدها و نمائها دون أصلها حتّى لا ينفد رويداً رويداً و ينتهي إلى مسكنة صاحب المال و شقوته.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله: وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ، أن يرتزق السفيه في المال بأن يعيش من نمائه و نتاجه و أرباحه لا من المال بأن يشرع في الأكل من أصله على ركود منه من غير جريان و دوران فينفد عن آخره، و هذه هي النكتة في قوله:( فِيها ) دون أن يقول:( منها ) كما ذكره الزمخشريّ.

و لا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أنّ الله لا يرضى بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الإسلاميّ تولّي أمرهم فإن كان هناك واحد من الأولياء الأقربين كالأب و الجدّ فعليه التولّي و المباشرة، و إلّا فعلى الحكومة الشرعيّة أو على المؤمنين أن يقوموا بالأمر على التفصيل المذكور في الفقه.

١٨٣

( كلام في أنّ جميع المال لجميع الناس)

هذه حقيقة قرآنيّة هي أصل لأحكام و قوانين هامّة في الإسلام أعني ما تفيده هذه الآية: أنّ المال لله ملكاً حقيقيّاً جعله قياماً و معاشاً للمجتمع الإنسانيّ من غير أن يقفه على شخص دون شخص وقفاً لا يتغيّر و لا يتبدّل و هبة تنسلب معها قدرة التصرّف التشريعيّ ثمّ أذن في اختصاصهم بهذا الّذي خوّله الجميع على طبق نسب مشرّعة كالوراثة و الحيازة و التجارة و غير ذلك و شرط لتصرّفهم اُموراً كالعقل و البلوغ و نحو ذلك.

و الأصل الثابت الّذي يراعى حاله و يتقدّر به فروعه هو كون الجميع للجميع، فإنّما تراعى المصالح الخاصّة على تقدير انحفاظ المصلحة العامّة الّتي تعود إلى المجتمع و عدم المزاحمة، و أمّا مع المزاحمة و المفاوتة فالمقدّم هو صلاح المجتمع من غير تردّد.

و يتفرّع على هذا الأصل الأصيل في الإسلام فروع كثيرة هامّة كأحكام الإنفاق و معظم أحكام المعاملات و غير ذلك، و قد أيّده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله تعالى:( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جميعاً ) البقرة: ٢٩، و قد أوردنا بعض الكلام المتعلّق بهذا المقام في البحث عن آيات الإنفاق من سورة البقرة فليراجع هناك.

قوله تعالى: ( وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) قد تقدّم استيفاء الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى:( وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حساب ) آل عمران: ٢٧.

و قوله:( وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ ) ، كقوله:( وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ ) البقرة: ٢٣٣، فالمراد بالرزق هو الغذاء الّذي يغتذي به الإنسان و الكسوة ما يلبسه ممّا يقيه الحرّ و البرد (غير أنّ لفظ الرزق و الكسوة في عرف القرآن كالكسوة و النفقة في لساننا) كالكناية تكنّى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الإنسان المادّيّة الحيويّة فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الإنسان كالمسكن و نحوه كما أنّ الأكل ذو معنى خاصّ

١٨٤

بحسب أصله ثمّ يكنّى به عن مطلق التصرّفات كقوله:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) الآية.

و أمّا قوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) فإنّما هو كلمة أخلاقيّة يصلح بها أمر الولاية فإنّ هؤلاء و إن كانوا سفهاء محجورين عن التصرّف في أموالهم غير أنّهم ليسوا حيواناً أعجم و لا من الأنعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الإنسان فيكلّموا بما يكلّم به الإنسان لا بالمنكر من القول و يعاشروا بما يعاشر به الإنسان.

و من هنا يظهر أنّ من الممكن أن يكون قوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) . كناية عن المعاملة الحسنة و المعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى:( وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حسناً ) البقرة: ٨٣.

قوله تعالى: ( وَ ابْتَلُوا الْيَتامى‏ حتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ ) إلى قوله:( أَمْوالَهُمْ ) الابتلاء الامتحان و المراد من بلوغ النكاح بلوغ أوانه ففيه مجاز عقليّ و الإيناس المشاهدة و فيه شوب من معنى الاُلفة فإنّ مادّته الاُنس، و الرشد خلاف الغيّ و هو الاهتداء إلى مقاصد الحياة، و دفع مال اليتيم إليه كناية عن إعطائه إيّاه و إقباضه له كأنّ الوليّ يدفعه إليه و يبعّده من نفسه فهو على ابتذاله كناية لطيفة.

و قوله: حتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، متعلّق بقوله: وَ ابْتَلُوا، ففيه دلالة ما على الاستمرار بأن يشرع الوليّ في ابتلائه من أوّل ما يأخذ في التمييز و يصلح للابتلاء حتّى ينتهي إلى أوان النكاح و يبلغ مبلغ الرجال، و من طبع هذا الحكم ذلك فإنّ إيناس الرشد لا يحصل بابتلاء الصبيّ في واقعة أو واقعتين بل يجب تكراره إلى أن يحصل الإيناس و يتمشّى بالطبع في مدّة مديدة حتّى يبلغ الرهاق ثمّ النكاح.

و قوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ إلخ تفريع على قوله: وَ ابْتَلُوا و المعنى: و امتحنوهم فإن آنستم منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم و الكلام يؤذن بأنّ بلوغ النكاح بمنزلة المقتضي لدفع المال إلى اليتيم و استقلاله بالتصرّف في مال نفسه و الرشد شرط لنفوذ التصرّف، و قد فصّل الإسلام النظر في أمر البلوغ من الإنسان فاكتفى في أمر العبادات و أمثال الحدود و الديات بمجرّد السنّ الشرعيّ الّذي هو سنّ النكاح و اشترط في نفوذ التصرّفات الماليّة

١٨٥

و الأقارير و نحوها ممّا تفصيل بيانه في الفقه مع بلوغ النكاح الرشد، و ذلك من لطائف سلوكه في مرحلة التشريع فإنّ إهمال أمر الرشد و إلغاءه في التصرّفات الماليّة و نحوها ممّا يختلّ به نظام الحياة الاجتماعيّة في قبيل الأيتام و يكون نفوذ تصرّفاتهم و أقاريرهم مفضياً إلى غرور الأفراد الفاسدة إيّاهم و إخراج جميع وسائل الحياة من أيديهم بأدنى وسيلة بالكلمات المزيفة و المواعيد الكاذبة و المعاملات الغرريّة إلى ذلك فالرشد لا محيص من اشتراطه في هذا النوع من الاُمور، و أمّا أمثال العبادات فعدم الحاجة فيها إلى الاشتراط ظاهر، و كذا أمثال الحدود و الديات فإنّ إدراك قبح هذه الجنايات و المعاصي و فهم وجوب الكفّ عنها لا يحتاج فيه إلى الرشد بل الإنسان يقوى على تفهّم ذلك قبله و لا يختلف حاله في ذلك قبل الرشد و بعده.

قوله تعالى: ( وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ) اه الإسراف هو التعدّي عن الاعتدال في العمل، و البدار هو المبادرة إلى الشي‏ء و قوله: وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا في معنى حذر أن يكبروا فلا يدعوكم أن تأكلوا، و حذف النفي أو ما في معناه قبل أن و أنّ قياسيّ على ما ذكره النحاة قال تعالى:( يبيّن الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) النساء: ١٧٦، أي لئلّا تضلّوا أو حذر أن تضلّوا.

و التقابل الواقع بين الأكل إسرافاً و الأكل بداراً أن يكبروا يعطي أن الأكل إسرافاً هو التعدّي إلى أموالهم من غير حاجة و لا شائبة استحقاق بل إجحافاً من غير مبالاة و الأكل بداراً أن يأكل الوليّ منها مثل ما يعدّ اُجرة لعمله فيها عادة غير أنّ اليتيم لو كبر أمكن أن يمنعه عن مثل هذا الأكل فالجميع ممنوع إلّا أن يكون الوليّ فقيراً لا محيص له من أن يشتغل بالاكتساب لسدّ جوعة أو يعمل لليتيم و يسدّ حاجته الضروريّة من ماله و هذا بالحقيقة يرجع إلى ما يأخذ العامل للتجارة و البناية و نحوهما و هو الّذي ذكره بقوله: مَنْ كانَ غَنِيًّا أي لا يحتاج في معاشه إلى الأخذ من مال اليتيم فَلْيَسْتَعْفِفْ أي ليطلب طريق العفّة و ليلزمه فلا يأخذ من أموالهم وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ منها بِالْمَعْرُوفِ، و ذكر بعض المفسّرين أنّ المعنى: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ من مال نفسه لا من أموالهم و هو لا يلائم التفصيل بين الغنيّ و الفقير.

١٨٦

و أمّا قوله تعالى:( فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) فتشريع للاستشهاد عند الدفع تحكيماً للأمر و رفعاً لغائلة الخلاف و النزاع فمن الممكن أن يدّعي اليتيم بعد الرشد و أخذ المال من الوليّ عليه، ثمّ ذيل الجميع بقوله تعالى: وَ كَفى‏ بِالله حسيباً ربطاً للحكم بمنشأه الأصليّ الأوّليّ أعني محتد كلّ حكم من أسمائه و صفاته تعالى فإنّه تعالى لمّا كان حسيباً لم يكن ليخلّي أحكام عباده من غير حساب دقيق و هو تشريعه المحكم، و تتميماً للتربية الدينيّة الإسلاميّة فإنّ الإسلام يأخذ في تربية الناس على أساس التوحيد إذ الإشهاد و إن كان رافعاً غالباً للخلاف و النزاع لكن ربّما تخلّف عنه لانحراف من الشهود في عدالتهم أو غير ذلك من متفرّقات العوامل لكنّ السبب المعنويّ العالي القويّ هو تقوى الله الّذي كفى به حسيباً فلو جعل الوليّ و الشهود و اليتيم الّذي دفع إليه المال هذا المعنى نصب أعينهم لم يقع هناك اختلاف و لا نزاع البتّة.

فانظر إلى الآيتين كيف أبدعتا في البيان فقد بيّنتا أوّلاً رؤس مسائل الولاية على أموال اليتامى و المحجور عليهم و مهمّاتها: من كيفيّة الأخذ و الحفظ و الإنماء و التصرّف و الردّ و وقت الأخذ و الدفع و تحكيم مبناه ببيان وجه المصلحة العامّة في ذلك كلّه و هو أنّ المال لله جعله قياماً للإنسان على ما تقدّم بيانه.

و ثانياً الأصل الأخلاقيّ الّذي يربّي الإنسان على وفق هذه الشرائع و هو الّذي ذكره تعالى بقوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) .

و ثالثاً ببناء الجميع على أصل التوحيد الحاكم بوحدته في جميع الأحكام العمليّة و الأخلاقيّة و الباقي على حسن تأثيره في جميع الموارد لو فرض ضعف الأحكام العمليّة و الدستورات الأخلاقيّة من حيث الأثر، و هو الّذي ذكره بقوله: وَ كَفى‏ بِالله حسّيباً.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ ) الآية أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إنّ رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلمّا

١٨٧

بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه فخاصّمه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية: وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ‏، الحديث.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام : لا يحلّ لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر.

و في الكافي، عنهعليه‌السلام : إذا جمع الرجل أربعاً فطلق إحداهنّ فلا يتزوّج الخامسة حتّى تنقضي عدّة المرأة الّتي طلّق.

أقول: و الروايات في الباب كثيرة.

و في العلل، بإسناده عن محمّد بن سنان: أنّ الرضاعليه‌السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علّة تزويج الرجل أربع نسوة و تحريم أن تتزوّج المرأة أكثر من واحد لأنّ الرجل إذا تزوّج أربع نسوة كان الولد منسوباً إليه، و المرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو؟ إذ هم مشتركون في نكاحها و في ذلك فساد الأنساب و المواريث و المعارف، قال محمّد بن سنان: و من علل النساء الحرائر(١) و تحليل أربع نسوة لرجل واحد أنّهنّ أكثر من الرجال فلمّا نظر - و الله أعلم - يقول الله عزّوجلّ:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) ، فذلك تقدير قدّره الله تعالى ليتّسع فيه الغنيّ و الفقير فيتزوّج الرجل على قدر طاقته، الحديث.

و في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : في حديث قال: و الغيرة للرجال، و لذلك حرّم على المرأة إلّا زوجها و أحلّ للرجل أربعاً فإنّ الله أكرم من أن يبتليهنّ بالغيرة و يحلّ للرجل معها ثلاثاً.

أقول: و يوضح ذلك أنّ الغيرة هي إحدى الأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة و هي تغيّر الإنسان عن حاله المعتاد، و نزوعه إلى الدفاع و الانتقام عند تعدّي الغير إلى بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عرض أو جاه و يعتقد كرامته عليه، و هذه الصفة الغريزيّة لا يخلو عنها في الجملة إنسان أيّ إنسان فرض فهي من فطريّات الإنسان، و الإسلام دين مبنيّ على الفطرة تؤخذ فيه الاُمور الّتي تقضي بها فطرة الإنسان فتعدّل بقصرها فيما هو صلاح الإنسان في حياته، و يحذف عنها ما لا حاجة إليه فيها من وجوه الخلل

____________________

(١) كذا في النسخ.

١٨٨

و الفساد كما في اقتناء المال و المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و غير ذلك.

فإذا فرض أنّ الله سبحانه أحلّ للرجل مع المرأة الواحدة ثلاثاً اُخري - و الدين مبنيّ على رعاية حكم الفطرة - كان لازم ذلك أن يكون ما يتراءى من حال النساء و تغيّرهنّ على الرجال في أمر الضرائر حسداً منهنّ لا غيرة و سيتّضح مزيد اتّضاح في البحث الآتي عن تعدّد الزوجات أنّ هذا الحال حال عرضيّ طار عليهنّ لا غريزيّ فطريّ.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن الصادقعليه‌السلام قال: لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته، و لا المرأة فيما تهب لزوجها جيزت أو لم تجز أ ليس الله تبارك و تعالى يقول: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا ممّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئاً؟ و قال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً؟ و هذا يدخل في الصداق و الهبة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن القداح عن أبي عبدالله عن أبيهعليهما‌السلام قال: جاء رجل إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أميرالمؤمنين بي وجع في بطني فقال له أميرالمؤمنينعليه‌السلام أ لك زوجة؟ قال: نعم قال استوهب منها شيئاً طيّبة به نفسها من مالها ثمّ اشتر به عسلاً ثمّ اسكب عليه من ماء السماء ثمّ اشربه فإنّي سمعت الله يقول في كتابه:( وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ) ، و قال:( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ) ، و قال:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) ، شفيت إن شاء الله تعالى، قال: ففعل ذلك فشفي.

أقول: و رواه أيضاً في الدرّ المنثور عن عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنهعليه‌السلام و هو نوع من الاستفادة لطيف، و بناؤه على التوسعة في المعنى و يوجد له نظائر في الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام سنورد بعضها في الموارد المناسبة له.

و في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام : إذا حدّثتكم بشي‏ء فاسألوني من كتاب الله، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن القيل و القال، و فساد المال، و كثيرة السؤال، فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إنّ الله عزّوجلّ يقول:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ، و قال:( وَ لا

١٨٩

تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الّتي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً ) ، و قال:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) ، قال: من لا تثق به.

و فيه، عن إبراهيم بن عبد الحميد قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن هذه الآية( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال: كلّ من يشرب الخمر فهو سفيه.

و فيه، عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال: هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتّى تعرفوا منهم الرشد فقلت: فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ قال: إذا كنت أنت الوارث لهم.

و في تفسير القمّيّ، عن الباقرعليه‌السلام : في الآية: فالسفهاء النساء و الولد إذا علم الرجل أنّ امرأته سفيهة مفسدة و ولده سفيه مفسد لم ينبغ له أن يسلّط واحداً منهما على ماله الّذي جعل الله له قياماً يقول: معاشاً الحديث.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و هي تؤيّد ما قدّمناه أنّ للسفه معنى وسيع ذو مراتب كالسفيه المحجور عليه و الصبيّ قبل أن يرشد و المرأة المتلهّية المتهوّسة و شارب الخمر و مطلق من لا تثق به، و بحسب اختلاف هذه المصاديق يختلف معنى إيتاء المال، و كذا معنى إضافة( أموالكم) و عليك بالتطبيق و الاعتبار.

و قوله في رواية ابن أبي حمزة: إذا كنت أنت الوارث لهم إشارة إلى ما قدّمناه أنّ المال كلّه للمجتمع بحسب الأصل ثمّ لكلّ من الأشخاص ثانياً و للمصالح الخاصّة فإنّ اشتراك المجتمع في المال أوّلاً هو الموجب لانتقاله من واحد إلى آخر.

و في الفقيه، عن الصادقعليه‌السلام : انقطاع يتمّ اليتيم الاحتلام و هو أشدّه، و إن احتلم و لم يؤنس منه رشد و كان سفيهاً أو ضعيفاً فليمسك عنه ولّيه ماله.

و فيه، عنهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ ابْتَلُوا الْيَتامى) الآية قال: إيناس الرشد حفظ المال.

أقول: و قد تقدّم وجه دلالة الآية عليه.

و في التهذيب، عنهعليه‌السلام : في قول الله:( وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال: فذاك

١٩٠

رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فإن كان المال قليلاً فلا يأكل منه شيئاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و أبوداود و النسائيّ و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و النحّاس في ناسخه عن ابن عمر: أنّ رجلاً سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ليس لي مال و لي يتيم فقال: كلّ من مال يتيمك غير مسرف و لا مبذر و لا متأثّل مالاً و من غير أن تقي مالك بماله.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أهل البيتعليهم‌السلام و غيرهم، و هناك مباحث فقهيّة و أخبار ناظرة إليها من أرادها فعليه بجوامع الحديث و كتب الفقه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن رفاعة عنهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) ، قالعليه‌السلام : كان أبي يقول: إنّها منسوخة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوداود و النحّاس كلاهما في الناسخ و ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عبّاس:( وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال: نسختها:( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً ) الآية.

أقول: و كون الآية منسوخة لا يلائم ميزان النسخ إذ ليس بين الآيات الكريمة ما نسبتها إلى هذه الآية نسبة الناسخة إلى المنسوخة، و أمّا قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً) الآية فهو لا ينافي بمضمونه مضمون هذه الآية فإنّ الأكل في هذه الآية المجوّزة مقيّد بالمعروف، و في تلك الآية المحرّمة بالظلم و لا تنافي بين تجويز الأكل بالمعروف و تحريم الأكل ظلماً، فالحقّ أنّ الآية غير منسوخة، و الروايتان لا توافقان الكتاب على ما فيهما من الضعف.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن المغيرة عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام : في قول الله:( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) قال: فقال: إذا رأيتموهم يحبّون آل محمّد فارفعوهم درجة.

أقول: و هو من الجري من باطن التنزيل فإنّ أئمّة الدين آباء المؤمنين و المؤمنون

١٩١

أيتام المعارف عند انقطاعهم عنهم فإذا صحّ انتسابهم إليهم بالحبّ فليرفعوا درجة بتعليم المعارف الحقّة الّتي هي ميراث آبائهم.

( بحث علميّ في فصول ثلاثة)

١- النكاح من مقاصد الطبيعة: أصل التواصل بين الرجل و المرأة ممّا تبيّنه الطبيعة الإنسانيّة بل الحيوانيّة بأبلغ بيانها، و الإسلام دين الفطرة فهو مجوّزه لا محالة.

و أمر الإيلاد و الإفراخ الّذي هو بغية الطبيعة و غرض الخلقة في هذا الاجتماع هو السبب الوحيد و العامل الأصليّ في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج و إخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد و المقاربة إلى شكل النكاح و الملازمة و لهذا ترى أنّ الحيوان الّذي يشترك في تربيته الوالدان معاً كالطيور في حضانة بيضها و تغذية أفراخها و تربيتها و كالحيوان الّذي يحتاج في الولادة و التربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائه و حفظه إلى معاونة الذكور يختار لهذا الشأن الازدواج و هو نوع من الملازمة و الاختصاص بين الزوجين الذكور و الإناث منه فيتواصلان عندئذ و يتشاركان في حفظ بيض الإناث و تدبيرها و إخراج الأفراخ منها و هكذا إلى آخر مدّة تربية الأولاد ثمّ ينفصلان إن انفصلا ثمّ يتجدّد الازدواج و هكذا فعامل النكاح و الازدواج هو الإيلاد و تربية الأولاد و أمّا إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الأعمال الحيويّة كالكسب و جمع المال و تدبير الأكل و الشرب و الأثاث و إدارة البيت فاُمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة و الخلقة و إنّما هي اُمور مقدّمية أو فوائد مترتّبة.

و من هنا يظهر أنّ الحرّيّة و الاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كلّ من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد و مهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الّذي ينزو الذكور منه على الإناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنّة الجارية بين الملل المتمدّنة اليوم و كذا الزنا و خاصّة زنا المحصنة منه.

١٩٢

و كذا تثبيت الازدواج الواقع و تحريم الطلاق و الانفصال بين الزوجين، و ترك الزوج و اتّخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما.

و كذا إلغاء التوالد و تربية الأولاد و بناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزليّة على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية و نظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامّة المعدّة للرضاع و التربية كلّ ذلك على خلاف سنّة الطبيعة و قد جهّز الإنسان بما ينافي هذه السنن الحديثة على ما مرّت الإشارة إليه.

نعم الحيوان الّذي لا حاجة في ولادته و تربيته إلى أزيد من حمل الاُمّ إيّاه و إرضاعها له و تربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعيّة فيه إلى الازدواج و المصاحبة و الاختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرّيّة السفاد بمقدار ما لا يضرّ بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل.

و إيّاك أن تتوهّم أنّ الخروج عن سنّة الخلقة و ما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر و الرويّة مع ما فيه من لذائذ الحياة و التنعّم، فإنّ ذلك من أعظم الخبط فإنّ هذه البنيات الطبيعيّة الّتي منها البنية الإنسانيّة مركّبات مؤلّفة من أجزاء كثيرة تستوجب بوقوع كلّ في موقعه الخاصّ على شرائطه المخصوصة به وضعاً هو الملائم لغرض الطبيعة و الخلقة و هو المناسب لكمال النوع كالمعاجين و المركّبات من الأدوية الّتي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف و مقادير و أوزان و شرائط خاصّة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصّة أدنى خروج و انحراف سقط الأثر.

فالإنسان مثلاً موجود طبيعيّ تكوينيّ ذو أجزاء مركّبة تركيباً خاصّاً يستتبع أوصافاً داخليّة و خواصّ روحيّة تستعقب أفعالاً و أعمالاً فإذا حوّل بعض أفعاله و أعماله من مكانته الطبيعيّة إلى غيرها يستتّبع ذلك انحرافاً و تغيّراً في صفاته و خواصّه الروحيّة و انحرف بذلك جميع الخواصّ و الصفات عن مستوى الطبيعة و صراط الخلقة و بطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعيّ و الغاية الّتي يبتغيها بحسب الخلقة.

و إذا بحثنا في المصائب العامّة الّتي تستوعب اليوم الإنسانيّة و تحبط أعمال الناس و مساعيهم لنيل الراحة و الحياة السعيدة و تهدّد الإنسانيّة بالسقوط و الانهدام وجدنا

١٩٣

أنّ أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى و تمكّن الخرق و القسوة و الشدّة و الشره من نفوس الجوامع البشريّة و أعظم أسبابه و علله الحرّيّة و الاسترسال و الإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجيّة و تربية الأولاد فإنّ سنّة الاجتماع المنزليّ و تربية الأولاد اليوم تميت قرائح الرأفة و الرحمة و العفّة و الحياة و التواضع من الإنسان من أوّل حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش.

و أمّا تدارك هذه النواقص بالفكر و الرويّة فهيهات ذلك فإنّما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينيّة اتّخذتها الطبيعة وسيلة لردّ ما خرج و انحرف عن صراط الطبيعة و التكوين إليه لا لإبطال سعي الطبيعة و الخلقة و قتلها بنفس السيف الّذي أعطته للإنسان لدفع الشرّ عنها، و لو استعمل الفكر الّذي هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شؤون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضاً فاسدة منحرفة كسائر الوسائل، و لذلك ترى أنّ الإنسان اليوم كلّما أصلح بقوّة فكره واحداً من المفاسد العامّة الّتي تهدّد اجتماعه أنتج ذلك ما هو أمرّ و أدهى و زاد البلاء و المصيبة شيوعاً و شمولاً.

نعم ربّما قال القائل من هؤلاء: إنّ الصفات الروحيّة الّتي تسمّى فضائل نفسانيّة هي بقايا من عهد الأساطير و التوحّش لا تلائم حياة الإنسان الراقي اليوم كالعفّة و السخاء و الحياء و الرأفة و الصدق فإنّ العفّة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه، و السخاء إبطال لسعي الإنسان في جمعه المال و ما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنّه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب و بسط يده لذلّ السؤال، و الحياء لجام يلجم الإنسان عن مطالبة حقوقه و إظهار ما في ضميره، و الرأفة تضعّف القلب، و الصدق لا يلائم الحياة اليوميّة، و هذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الّذي ذكرناه.

و لم يدر هذا القائل أنّ هذه الفضائل في المجتمع الإنسانيّ من الواجبات الضروريّة الّتي لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع و لا ساعة.

فلو ارتفعت هذه الخصال و تعدّى كلّ فرد إلى ما لكلّ فرد من مختصّات الحقوق و الأموال و الأعراض، و لم يسخ أحد ببذل ما مسّت إليه حاجة المجتمع، و لم ينفعل

١٩٤

أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين و لم يرأف أحد بالعجزة الّذين لا ذنب لهم في عجزهم كالأطفال و من في تلوهم، و كذب كلّ أحد لكلّ أحد في جميع ما يخبر به و يعده و هكذا تلاشى المجتمع الإنسانيّ من حينه.

فينبغي لهذا القائل إن يعلم أنّ هذه الخصال لا ترتحل و لن ترتحل عن الدنيا، و أنّ الطبيعة الإنسانيّة مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للإنسان إلى الاجتماع، و إنّما الشأن كلّ الشأن في تنظيم هذه الصفات و تعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة و الخلقة في دعوتها الإنسان إلى سعادة الحياة، و لو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقّي اليوم فضائل للإنسانيّة معدّلة بما هو الحريّ من التعدّيل لما أوردت المجتمع مورد الفساد و الهلكة و لأقرّ الناس في مستقرّ أمن و راحة و سعادة.

و لنعد إلى ما كنّا فيه من البحث فنقول: الإسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعيّ فأحلّ النكاح و حرّم الزنا و السفاح، و وضع علقة الزوجيّة على أساس جواز المفارقة و هو الطلاق، و وضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما سنشرحه، و وضع عقد هذا الاجتماع على أساس التوالد و التربية، و من الأحاديث النبوّية المشهورة قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تناكحوا تناسلوا تكثروا الحديث.

٢- استيلاء الذكور على الإناث: ثمّ إن التأمّل في سفاد الحيوانات يعطي أنّ للذكور منها شائبة استيلاء على الإناث في هذا الباب فإنّا نرى أنّ الذكر منها كأنّه يرى نفسه مالكاً للبضع مسلّطاً على الاُنثى، و لذلك ما ترى أنّ الفحولة منها تتنازع و تتشاجر على الإناث من غير عكس فلا تثور الاُنثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس، و كذا ما يجري بينها مجرى الخطبة من الإنسان إنّما يبدأ من ناحية الذكران دون الإناث، و ليس إلّا أنّها ترى بالغريزة أنّ الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي و الإناث كالقابل الخاضع، و هذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها و يستلذّه طبعها فإنّ ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق و الشهوة و استزادة اللّذة، و أمّا نحو الاستيلاء و الاستعلاء المذكور فإنّه عائد إلى قوّة الفحولة و إجراء ما تأمر به الطبيعة.

١٩٥

و هذا المعنى أعني لزوم الشدّة و البأس لقبيل الذكور و اللّين و الانفعال لقبيل الإناث ممّا يوجد الاعتقاد به قليلاً أو كثيراً عند جميع الاُمم حتّى سرى إلى مختلف اللّغات فسمّي كلّ ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر و كلّ ليّن سهل الانفعال بالاُنثى يقال: حديد ذكر و سيف ذكر و نبت ذكر و مكان ذكر و هكذا.

و هذا الأمر جار في نوع الإنسان دائر بين المجتمعات المختلفة و الاُمم المتنوّعة في الجملة و إن كان ربّما لم يخل من الاختلاف زيادة و نقيصة.

و قد اعتبره الإسلام في تشريعه قال الله تعالى:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) النساء: ٣٤، فشرّع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها.

٣- تعدد الزوجات: و أمر الوحدة و التعدّد فيما نشاهده من أقسام الحيوان غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزليّ تتأحّد الإناث و تختصّ بالذكور لما أنّ الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل و حضانة الأفراخ و تربيتها و ربّما تغيّر الوضع الجاري بينها بالصناعة و التدبير و الكفالة أعني بالتأهيل و التربية كما يشاهد من أمر الديك و الدجاج و الحمام و نحوها.

و أمّا الإنسان فاتّخاذ الزوجات المتعدّدة كانت سنّة جارية في غالب الاُمم القديمة كمصر و الهند و الصين و الفرس بل و الروم و اليونان فإنّهم كانوا ربّما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدناً يصاحبونها بل و كان ذلك عند بعض الاُمم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود و العرب فكان الرجل منهم ربّما تزوّج العشرة و العشرين و أزيد و قد ذكروا أنّ سليمان الملك تزوّج مئات من النساء.

و أغلب ما كان يقع تعدّد الزوجات إنّما هو في القبائل و من يحذو حذوهم من سكّان القرى و الجبال فإنّ لربّ البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع و كثرة الأعضاء فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الّذي هو من لوازم عيشتهم و ليكون ذلك وسيلة يتوسّلون بها إلى الترؤّس و السودد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثّر الأقرباء بالمصاهرة.

١٩٦

و ما ذكره بعض العلماء أنّ العامل في تعدّد الزوجات في القبائل و أهل القرى إنّما هو كثرة المشاغل و الأعمال فيهم كأعمال الحمل و النقل و الرعي و الزراعة و السقاية و الصيد و الطبخ و النسج و غير ذلك فهو و إن كان حقّاً في الجملة إلّا أنّ التأمّل في صفاتهم الروحيّة يعطي أنّ هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهميّة عندهم، و ما ذكرناه هو الّذي يتعلّق به قصد الإنسان البدويّ أوّلاً و بالذات كما أنّ شيوع الادعاء و التبنّي أيضاً بينهم سابقاً كان من فروع هذا الغرض.

على أنّه كان في هذه الاُمم عامل أساسيّ آخر لتداول تعدّد الزوجات بينهم و هو زيادة عدّة النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإنّ هذه الاُمم السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب و الغزوات و قتل الفتك و الغيلة فكان القتل يفني الرجال، و يزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلّا بتعدّد الزوجات هذا.

و الإسلام شرّع الازدواج بواحدة، و أنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكّن من القسط بينهنّ مع إصلاح جميع المحاذير المتوجّهة إلى التعدّد على ما سنشير إليها قال الله تعالى:( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الّذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٢٨.

و قد استشكلوا على حكم تعدّد الزوجات:

أوّلاً: أنّه يضع آثاراً سيّئة في المجتمع فإنّه يقرح قلوب النساء في عواطفهنّ و يخيّب آمالهنّ و يسكن فورة الحبّ في قلوبهنّ فينعكس حسّ الحبّ إلى حسّ الانتقام فيهملن أمر البيت و يتثاقلن في تربية الأولاد و يقابلن الرجال بمثل ما أساؤا إليهنّ فيشيع الزنا و السفاح و الخيانة في المال و العرض فلا يلبث المجتمع دون أن ينحطّ في أقرب وقت.

و ثانياً: أنّ التعدّد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة فإنّ الإحصاء في الاُمم و الأجيال يفيد أنّ قبيلي الذكورة و الإناث متساويان عدداً تقريباً فالّذي هيّأته الطبيعة هو واحدة لواحد، و خلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة.

و ثالثاً: أنّ في تشريع تعدّد الزوجات ترغيباً للرجال إلى الشره و الشهوة، و تقوية لهذه القوّة في المجتمع.

و رابعاً: أنّ في ذلك حطّاً لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الأربع منهنّ

١٩٧

بواحد من الرجال و هو تقويم جائر حتّى بالنظر إلى مذاق الإسلام الّذي سوّى فيه بين مرأتين و رجل كما في الإرث و الشهادة و غيرهما، و لازمه تجويز التزوّج باثنتين منهنّ لا أزيد ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أيّ حال من غير وجه و هذه الإشكالات ممّا اعترض بها النصارى على الإسلام أو من يوافقهم من المدنيّين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال و النساء في المجتمع.

و الجواب عن الأوّل ما تقدّم غير مرّة في المباحث المتقدّمة أنّ الإسلام وضع بنية المجتمع الإنسانيّ على أساس الحياة التعقّليّة دون الحياة الإحساسيّة فالمتّبع عنده هو الصلاح العقليّ في السنن الاجتماعيّة دون ما تهواه الإحساسات و تنجذب إليه العواطف.

و ليس في ذلك إماتة العواطف و الإحساسات الرقيقة و إبطال حكم المواهب الإلهيّة و الغرائز الطبيعيّة فإنّ من المسلّم في الأبحاث النفسيّة أنّ الصفات الروحيّة و العواطف و الإحساسات الباطنة تختلف كمّاً و كيفاً باختلاف التربية و العادة، كما أنّ كثيراً من الآداب و الرسوم الممدوحة عند الشرقيّين مثلاً مذمومة عند الغربيّين و بالعكس، و كلّ اُمّة تختلف مع غيرها في بعضها.

و التربية الدينيّة في الإسلام تقيم المرأة الإسلاميّة مقاماً لا تتألّم بأمثال ذلك عواطفها. نعم المرأة الغربيّة حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة و لقّنت بذلك جيلاً بعد جيل استحكّم في روحها عاطفة نفسانيّة تضادّ التعدّد. و من الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الّذي شاعت بين الرجال و النساء في الاُمم المتمدّنة! اليوم.

أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كلّ من هووها و هوتهم من نسائهم من محارم و غيرها و من بكر أو ثيّب و من ذات بعل أو غيرها، حتّى أنّ الإنسان لا يقدر أن يقف في كلّ ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء في ذلك الرجال و النساء و لم يقنعوا بذلك حتّى وقعوا في الرجال وقوعاً قل ما يسلم منه فرد حتّى بلغ الأمر مبلغاً رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللّواط سنّة قانونيّة و ذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسميّة، و أمّا النساء و خاصّة الأبكار و غير ذوات البعل من الفتيات فالأمر فيهنّ أغرب و أفظع.

١٩٨

فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك و لا يتحرّجن و لا تنكسر قلوبهنّ و لا تتألّم عواطفهنّ حين يشاهدن كلّ هذه الفضائح من رجالهنّ؟ و كيف لا تتألّم عواطف الرجل و إحساساته حين يبني بفتاة ثمّ يجدها ثيّباً فقدت بكارتها و افترشت لا للواحد و الاثنين من الرجال ثمّ لا يلبث حتّى يباهي بين الأقران أنّ السيّدة ممّن توفّرت عليها رغبات الرجال و تنافس في القضاء منها العشرات و المئات!! و هل هذا إلّا أنّ هذه السيّئات تكرّرت بينهم و نزعة الحرّيّة تمكّنت من أنفسهم حتّى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف و الإحساسات و لا تستنكرها النفوس؟ فليس إلّا أنّ السنن الجارية تميل العواطف و الإحساسات إلى ما يوافقها و لا يخالفها.

و أمّا ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهنّ في تدبير البيت و تثاقلهنّ في تربية الأولاد و شيوع الزنا و الخيانة فالّذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإنّ هذا الحكم جرى في صدر الإسلام و ليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدّعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته بل كان الأمر بالعكس.

على أنّ هذه النساء اللّاتي يتزوّج بهنّ على الزوجة الاُولى في المجتمع الإسلاميّ و سائر المجتمعات الّتي ترى ذلك أعني الزوجة الثانية و الثالثة و الرابعة إنّما يتزوّج بهنّ عن رضاء و رغبة منهنّ و هنّ من نساء هذه المجتمعات، و لم يسترققهنّ الرجال من مجتمعات اُخرى، و لا جلبوهنّ للنكاح من غير هذه الدنيا و إنّما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعيّة، فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدّد الزوجات، و لا قلوبهنّ تتألّم منها بل لو كان شي‏ء من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجيّة الاُولى أعني أنّ المرأة إذا توحّدت للرجل لا تحبّ أن ترد عليها و على بيتها اُخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو تترأس عليها غيرها أو يختلف الأولاد و نحو ذلك فعدم الرضاء و التألّم فيما كان إنّما منشؤه حالة عرضيّة (التوحّد بالبعل) لا غريزة طبيعيّة.

و الجواب عن الثاني أنّ الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال و النساء في العدد مختلّ من وجوه.

منها أنّ أمر الازدواج لا يتّكي على هذا الّذي ذكروه فحسب بل هناك عوامل

١٩٩

و شرائط اُخرى لهذا الأمر فأوًلاً الرشد الفكريّ و التهيّؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال فالنساء و خاصّة في المناطق الحارّة إذا جزن التسع صلحن للنكاح، و الرجال لا يتهيّؤون لذلك غالباً قبل الستّ عشرة من السنين (و هو الّذي اعتبره الإسلام للنكاح).

و من الدليل على ذلك السنّة الجارية في فتيات الاُمم المتمدّنة فمن الشاذّ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سنّ البلوغ القانونيّ فليس إلّا أن الطبيعة هيّأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك.

و لازم هذه الخاصّة أن لو اعتبرنا مواليد ستّ عشرة سنة من قوم (و الفرض تساوي عدد الذكور و الإناث فيهم) كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال و هي سنة أوّل الصلوح مواليد سنة واحدة و هم مواليد السنة الاُولى المفروضة، و الصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين و هي مواليد السنة الاُولى إلى السابعة، و لو اعتبرنا مواليد خمسة و عشرين سنة و هي سنّ بلوغ الأشدّ من الرجال حصل في السنة الخامسة و العشرين على الصلوح من الرجال مواليد عشرة سنين و من النساء مواليد خمس عشرة سنة، و إذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكلّ واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة.

و ثانياً أنّ الإحصاء كما ذكروه يبيّن أنّ النساء أطول عمراً من الرجال و لازمه أن تهيّئ سنّة الوفاة و الموت عدداً من النساء ليس بحذائهنّ رجال(١) .

و ثالثاً: أنّ خاصّة النسل و التوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء فالأغلب

____________________

(١) و ممّا يؤيّد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الأيّام (جريدة الاطّلاعات المنتشرة في طهران المورخة بالثلاثاء ١١ ديماه سنة ١٣٣٥ شمسي) حكاية عن دائرة الإحصاء في فرنسا ما حاصله: قد تحصل بحسب الإحصاء أنّه يولد في فرنسا حذاء كلّ( ١٠٠) مولودة من البنات( ١٠٥) من البنين، و مع ذلك فإنّ الإناث يربو عدّتهم على عدّة الذكور بما يعادل( ١٧٦٥٠٠٠) نسمة، و نفوس المملكة( ٤٠ مليوناً تقريباً) و السبب فيه أنّ البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الأمراض و يهلك بها( ٥ در صد) الزائد منهم إلي سنة( ١٩) من الولادة.

ثمّ يأخذ عدّة الذكور في النقص ما بين ٢٥ - ٣٠ من السنين حتّى إذا بلغوا سني ٦٠ - ٦٥ لم يبق تجاه كلّ( ١٥٠٠٠٠٠) من الإناث إلى( ٧٥٠٠٠٠) من الذكور

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

( سورة النساء الآيات ١١ - ١٤)

يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُم لِلْذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَمْ يَكُن لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمّهِ الثّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمّهِ السّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيم( ١١) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَم يَكُن لَهُنّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنّ الرّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِن لَمْ يَكُن لَكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنّ الّثمُنُ مِمّا تَرَكْتُم مِن بَعْدِ وَصِيّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِيْ الثّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى‏ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارّ وَصِيّةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ( ١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ١٣) وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ( ١٤)

( بيان)

قوله تعالى: ( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) الإيصاء و التوصية هو العهد و الأمر، و قال الراغب في مفردات القرآن: الوصيّة: التقدّم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ، انتهى.

٢٢١

و في العدول عن لفظ الأبناء إلى الأولاد دلالة على أنّ حكم السهم و السهمين مخصوص بما ولده الميّت بلا واسطة، و أمّا أولاد الأولاد فنازلاً فحكمهم حكم من يتّصلون به فلبنت الابن سهمان و لابن البنت سهم واحد إذا لم يكن هناك من يتقدّم على مرتبتهم كما أنّ الحكم في أولاد الإخوة و الأخوات حكم من يتّصلون به، و أمّا لفظ الإبن فلا يقضي بنفي الواسطة كما أنّ الأب أعمّ من الوالد.

و أمّا قوله تعالى في ذيل الآية:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) فسيجي‏ء أنّ هناك عناية خاصّة تستوجب اختيار لفظ الأبناء على الأولاد.

و أمّا قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ففي انتخاب هذا التعبير إشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهليّة من منع توريث النساء فكأنّه جعل إرث الاُنثى مقرّراً معروفاً و أخبر بأنّ للذكر مثله مرّتين أو جعله هو الأصل في التشريع و جعل إرث الذكر محمولاً عليه يعرف بالإضافة إليه، و لو لا ذلك لقال: للاُنثى نصف حظّ الذكر و إذن لا يفيد هذا المعنى و لا يلتئم السياق معه - كما ترى - هذا ما ذكره بعض العلماء و لا بأس به، و ربّما اُيّد ذلك بأنّ الآية لا تتعرّض بنحو التصريح مستقلّا إلّا لسهام النساء و إن صرّحت بشي‏ء من سهام الرجال فمع ذكر سهامهنّ معه كما في الآية التالية و الآية الّتي في آخر السورة.

و بالجملة قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) في محلّ التفسير لقوله:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ ) ، و اللّام في الذكر و الاُنثيين لتعريف الجنس أي إنّ جنس الذكر يعادل في السهم اُنثيين، و هذا إنّما يكون إذا كان هناك في الوراث ذكر و اُنثى معا فللذكر ضعفا الاُنثى سهماً و لم يقل: للذكر مثل حظّي الاُنثى أو مثلاً حظّ الاُنثى ليدلّ الكلام على سهم الاُنثيين إذا انفردتا بإيثار الإيجاز على ما سيجي‏ء.

و على أيّ حال إذا تركّبت الورثة من الذكور و الإناث كان لكلّ ذكر سهمان و لكلّ اُنثى سهم إلى أيّ مبلغ بلغ عددهم.

قوله تعالى: ( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ) ظاهر وقوع هذا

٢٢٢

الكلام بعد قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) أنّه على تقدير معطوف عليه محذوف كأنّه قيل: هذا إذا كانوا نساءً و رجالاً فإن كنّ نساء إلخ و هو شائع في الاستعمال و منه قوله تعالى:( وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) البقرة: ١٩٦، و قوله:( أيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيّام أُخَرَ ) البقرة: ١٨٤.

و الضمير في كنّ راجع إلى الأولاد في قوله: فِي أَوْلادِكُمْ، و تأنيث الضمير لتأنيث الخبر، و الضمير في قوله: تَرَكَ راجع إلى الميّت المعلوم من سياق الكلام.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) الضمير إلى الولد المفهوم من السياق و تأنيثه باعتبار الخبر و المراد بالنصف نصف ما ترك فاللّام عوض عن المضاف إليه.

و لم يذكر سهم الاُنثيين فإنّه مفهوم من قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) فإن ذكراً و اُنثى إذا اجتمعا كان سهم الاُنثى الثلث للآية و سهم الذكر الثلثين و هو حظّ الاُنثيين فحظّ الاُنثيين الثلثان فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالاً و ليس في نفسه متعيّناً للفهم إذ لا ينافي ما لو كان قيل بعده: و إن كانتا اثنتين فلهما النصف أو الجميع مثلاً لكن يعيّنه السكوت عن ذكر هذا السهم و التصريح الّذي في قوله: فإن كنّ نساءً فوق اثنتين، فإنّه يشعر بالتعمّد في ترك ذكر حظّ الاُنثيين.

على أنّ كون حظّهما الثلثين هو الّذي عمل به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و جرى العمل عليه منذ عهدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عهدنا بين علماء الاُمّة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عبّاس.

و هذا أحسن الوجوه في توجيه ترك التصريح بسهم الاُنثيين، قال الكلينيّ رحمه الله في الكافي: إنّ الله جعل حظّ الاُنثيين الثلثين بقوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، و ذلك أنّه إذا ترك الرجل بنتاً و ابناً فللذكر مثل حظّ الاُنثيين و هو الثلثان فحظّ الاُنثيين الثلثان، و اكتفا بهذا البيان أن يكون ذكر الاُنثيين بالثلثين، انتهى، و نقل مثله عن أبي مسلم المفسّر: أنّه يستفاد من قوله تعالى:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) و ذلك أنّ الذكر مع الاُنثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظّ الاُنثيين، انتهى و إن كان ما نقل عنهما لا يخلو من قصور يحتاج في التتميم إلى ما أوضحناه آنفاً فليتأمّل فيه.

٢٢٣

و هناك وجوه اُخر سخيفة ذكروها في توجيه الآية كقول بعضهم: أنّ المراد بقوله تعالى:( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ) ، الإثنتان و ما فوقهما فهذه الجملة تتضمّن بيان حظّ الاُنثيين، و النساء فوق اثنتين جميعاً. و مثل قول بعضهم: أنّ حكم البنتين ههنا معلوم بالقياس إلى حكم الاُختين في آخر آية من السورة حيث ذكرت لهما الثلثين إلى غير ذلك ممّا يجلّ عن أمثالها كلامه تعالى.

قوله تعالى: ( وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ) إلى قوله:( فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ) في عطف الأبوين في الحكم على الأولاد دلالة على أنّ الأبوين يشاركان الأولاد في طبقتهم، و قوله: و ورثه أبواه، أي انحصر الوارث فيهما، و في قوله:( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) إلخ بعد قوله:( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ ) ، دلالة على أنّ الإخوة واقعة في طبقة ثانية لاحقة لطبقة الأبناء و البنات لا ترث مع وجودهم غير أنّ الإخوة تحجب الاُمّ عن الثلث.

قوله تعالى: ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) أمّا الوصيّة فهي الّتي تندب إليها قوله:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ ) الآية: البقرة: ١٨٠، و لا ينافي تقدّمها في الآية على الدين ما ورد في السنّة أنّ الدين مقدّم على الوصيّة لأنّ الكلام ربّما يقدم فيه غير الأهمّ على الأهمّ لأنّ الأهمّ لمكانته و قوّة ثبوته ربّما لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من التأكيد و التشديد، و منه التقديم، و على هذا فقوله: أَوْ دَيْنٍ في مقام الإضراب و الترقّي طبعاً.

و بذلك يظهر وجه توصيف الوصيّة بقوله: يوصي بها ففيه دلالة على التأكيد، و لا يخلو مع ذلك من الإشعار بلزوم إكرام الميّت و مراعاة حرمته فيما وصّى به كما قال تعالى:( فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فإنّما إِثْمُهُ عَلَى الّذينَ يُبَدِّلُونَهُ ) الآية: البقرة: ١٨١.

قوله تعالى: ( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) الخطاب للورثة أعني لعامّة المكلّفين من حيث أنّهم يرثون أمواتهم، و هو كلام ملقى للإيماء إلى سرّ اختلاف السهام في وراثة الآباء و الأبناء و نوع تعليم لهم خوطبوا به بلسان( لا تدرون) و أمثال هذه التعبيرات شائعة في اللّسان.

٢٢٤

على أنّه لو كان الخطاب لغير الورثة أعني للناس من جهة أنّهم سيموتون و يورّثون آباءهم و أبناءهم لم يكن وجه لقوله:( أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) فإنّ الظاهر أنّ المراد بالانتفاع هو الانتفاع بالمال الموروث و هو إنّما يعود إلى الورثة دون الميّت.

و تقديم الآباء على الأبناء يشعر بكون الآباء أقرب نفعاً من الأبناء، كما في قوله تعالى:( إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ الله ) البقرة: ١٥٨، و قد مرّت الرواية عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: أبدأ بما بدأ الله الحديث.

و الأمر على ذلك بالنظر إلى آثار الرحم و اعتبار العواطف الإنسانيّة فإنّ الإنسان أرأف بولده منه بوالديه و هو يرى بقاء ولده بقاءً لنفسه دون بقاء والديه فآباء الإنسان أقوى ارتباطاً و أمّس وجوداً به من أبنائه، و إذا بني الانتفاع الإرثيّ على هذا الأصل كان لازمه أن يذهب الإنسان إذا ورث أباه مثلاً بسهم أزيد منه إذا ورث ابنه مثلاً و إن كان ربّما يسبق إلى الذهن البدويّ أن يكون الأمر بالعكس.

و هذه الآية أعني قوله:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) من الشواهد على أنّه تعالى بنى حكم الإرث على أساس تكوينيّ خارجيّ كسائر الأحكام الفطريّة الإسلاميّة.

على أنّ الآيات المطلقة القرآنيّة الناظرة إلى أصل التشريع أيضاً كقوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠، تدلّ على ذلك، و كيف يتصوّر مع وجود أمثال هذه الآيات أن يرد في الشريعة أحكام إلزاميّة و فرائض غير متغيّرة و ليس لها أصل في التكوين في الجملة.

و ربّما يمكن أن يستشمّ من الآية أعني قوله:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ ) إلخ، تقدّم أولاد الأولاد على الأجداد و الجدّات فإنّ الأجداد و الجدّات لا يرثون مع وجود الأولاد و أولاد الأولاد.

قوله تعالى: ( فَرِيضَةً مِنَ الله ) إلخ الظاهر أنّه منصوب بفعل مقدّر و التقدير خذوا أو الزموا و نحو ذلك و تأكيد بالغ أنّ هذه السهام المذكورة قدّمت إليكم و هي مفرزة معيّنة لا تتغيّر عمّا وضعت عليه.

٢٢٥

و هذه الآية متكفّلة لبيان سهام الطبقة الاُولى و هي الأولاد و الأب و الاُمّ على جميع تقاديرها إمّا تصريحاً كسهم الأب و الاُمّ و هو السدس لكلّ واحد منهما مع وجود الأولاد، و الثلث أو السدس للاُمّ مع عدمهم على ما ذكر في الآية و كسهم البنت الواحدة و هو النصف، و سهم البنات إذا تفرّدن و هو الثلثان، و سهم البنين و البنات إذا اجتمعوا و هو للذكر مثل حظّ الاُنثيين، و يحلق بها سهم البنتين و هو الثلثان كما تقدّم.

و أمّا تلويحا كسهم الابن الواحد فإنه يرث جميع المال لقوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) و قوله في البنت:( وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) ، و كذا الأبناء إذا تفرّدوا لما يفهم من قوله:( لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) ، أنّ الأبناء متساوون في السهام، و أمر الآية في إيجازها عجيب.

و اعلم أيضاً أنّ مقتضى إطلاق الآية عدم الفرق في إيراث المال و و إمتاع الورثة بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين سائر الناس و قد تقدّم نظير هذا الإطلاق أو العموم في قوله تعالى:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ ) . الآية، و ما ربّما قيل: إنّ خطابات القرآن العامّة لا تشمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجريانها على لسانه فهو ممّا لا ينبغي أن يصغي إليه.

نعم ههنا نزاع بين أهل السنّة و الشيعة في أن النبيّ هل يورّث أو أنّ ما تركه صدقة و منشؤه الرواية الّتي رواها أبوبكر في قصّة فدك و البحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب و لذلك نرى التعرّض له ههنا فضلاً فليراجع محلّه المناسب له.

قوله تعالى: ( وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ) إلى قوله:( تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) المعنى ظاهر، و قد استعمل النصف بالإضافة فقيل: نصف ما ترك، و الربع بالقطع فقيل: و لهنّ الربع ممّا تركتم فإنّ القطع عن الإضافة يستلزم التتميم بمن ظاهره أو مقدّرة، و من هذه تفيد معنى الأخذ و الشروع من الشي‏ء و هذا المعنى يناسب كون مدخول من كالجزء التابع من الشي‏ء المبتدأ منه و كالمستهلك فيه، و هذا إنّما يناسب ما إذا كان المدخول قليلاً أو ما هو كالقليل بالنسبة إلى المبتدأ منه كالسدس و الربع و الثلث من المجموع دون مثل النصف و الثلثين، و لذا قال تعالى:( السُّدُسُ ممّا تَرَكَ ) ، و قال:

٢٢٦

( فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ) ، و قال:( فَلَكُمُ الرُّبُعُ ) بالقطع عن الإضافة في جميع ذلك، و قال:( وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ ) ، و قال:( فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ) بالإضافة، و قال:( فَلَهَا النِّصْفُ ) أي نصف ما ترك فاللّام عوض عن المضاف إليه.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ) إلى آخر الآية أصل الكلالة مصدر بمعنى الإحاطة، و منه الإكليل لإحاطته بالرأس و منه الكلّ - بضمّ الكاف - لإحاطته بالأجزاء، و منه الكلّ - بفتح الكاف - لنوع إحاطة منه ثقيلة على من هو كلّ عليه، قال الراغب: الكلالة اسم لما عدا الولد و الوالد من الورثة. قال: و روي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن الكلالة فقال: من مات و ليس له ولد و لا والد فجعله اسماً للميّت‏. و كلا القولين صحيح فإنّ الكلالة مصدر يجمع الوارث و الموروث جميعاً، انتهى.

أقول: و على هذا فلا مانع من كون كان ناقصّة و رجل اسمها و يورث وصفاً للرجل و كلالة خبرها و المعنى: و إن كان الميّت كلالة للوارث ليس أباً له و لا ابناً. و يمكن أن يكون كان تامّة و رجل يورث فاعله و كلالةً مصدراً وضع موضع الحال، و يؤول المعنى أيضاً إلى كون الميّت كلالة للورثة، و قال الزجّاج على ما نقل عنه: من قرأ يورث - بكسر الراء - فكلالة مفعول، و من قرأ يورث - بفتح الراء - فكلالة منصوب على الحال.

و قوله: غير مضارّ منصوب على الحال، و المضارّة هو الإضرار و ظاهره أنّ المراد به الإضرار بالدين من قبل الميّت كأن يعتمل بالدين للإضرار بالورثة و تحريمهم الإرث، أو المراد المضارّة بالدين كما ذكروا بالوصيّة بما يزيد على ثلث المال.

قوله تعالى: ( تِلْكَ حُدُودُ الله ) إلى آخر الآيتين الحدّ هو الحاجز بين الشيئين الّذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر و ارتفاع التمايز بينهما كحدّ الدار و البستان، و المراد بها أحكام الإرث و الفرائض المبيّنة، و قد عظّم الله أمرها بما ذكر في الآيتين من الثواب على إطاعته و إطاعة رسوله فيها و العذاب الخالد المهين على المعصية.

٢٢٧

( كلام في الإرث على وجه كلّي)

هاتان الآيتان أعني قوله تعالى:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ) إلى آخر الآيتين، و الآية الّتي في آخر السورة:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) إلى آخر الآية، مع قوله تعالى:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) الآية، و مع قوله تعالى:( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله ) الأحزاب: ٦، الأنفال: ٧، خمس آيات أو ستّة هي الأصل القرآنيّ للإرث في الإسلام و السنّة تفسّرها أوضح تفسير و تفصيل.

و الكلّيّات المنتزعة المستفادة منها الّتي هي الأصل في تفاصيل الأحكام اُمور:

منها: ما تقدّم في قوله:( آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ) ، و يظهر منها أنّ للقرب و البعد من الميّت تأثيراً في باب الإرث، و إذا ضمّت الجملة إلى بقيّة الآية أفادت أنّ ذلك مؤثّر في زيادة السهم و قلّته و عظمه و صغره، و إذا ضمّت إلى قوله تعالى:( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ الله ) أفادت أنّ الأقرب نسباً في باب الإرث يمنع الأبعد.

فأقرب الأقارب إلى الميّت الأب و الاُمّ و الابن و البنت إذ لا واسطة بينهم و بين الميّت، و الابن و البنت يمنعان أولاد أنفسهما لأنّهم يتّصلون به بواسطتهم فإذا فقدت واسطتهم فهم يقومون مقامها.

و تتلوها المرتبة الثانية و هم إخوة الميّت و أخواته و جدّه و جدّته فإنّهم يتّصلون بالميّت بواسطة واحدة و هي الأب أو الاُمّ، و أولاد الأخ و الاُخت يقومون مقام أبيهم و اُمّهم، و كلّ بطن يمنع من بعده من البطون كما مرّ.

و تتلو هذه المرتبة مرتبة أعمام الميّت و أخواله و عمّاته و خالاته فإنّ بينهم و بين الميّت واسطتين و هما الجدّ أو الجدّة و الأب أو الاُمّ، و الأمر على قيام ما مرّ.

و يظهر من مسألة القرب و البعد المذكورة أنّ ذا السببين مقدّم على ذي السبب

٢٢٨

الواحد، و من ذلك تقدّم كلالة الأبوين على كلالة الأب فلا ترث معها، و أمّا كلالة الاُمّ فلا تزاحمها كلالة الأبوين.

و منها: أنّه قد اعتبر في الورّاث تقدّم و تأخّر من جهة اُخرى فإنّ السهام ربّما اجتمعت فتزاحمت بالزيادة على أصل التركة فمنهم من عيّن له عند الزحام سهم آخر كالزوج يذهب بالنصف فإذا زاحمه الولد عاد إلى الربع بعينه و مثله الزوجة في ربعها و ثمنها و كالاُمّ تذهب بالثلث فإذا زاحمها ولد أو إخوة عادت إلى السدس و الأب لا يزول عن سدسه مع وجود الولد و عدمه و منهم من عيّن له سهم ثمّ إذا زاحمه آخر سكت عنه و لم يذكر له سهم بعينه كالبنت و البنات و الاُخت و الأخوات يذهبن بالنصف و الثلثين و قد سكت عن سهامهم عند الزحام، و يستفاد منه أنّ اُولئك المقدّمين لا يزاحمون و لا يرد عليهم نقص في صورة زيادة السهام على الأصل و إنّما يرد ما يرد من النقص على الآخرين المسكوت عن سهامهم عند الزحام.

و منها: أنّ السهام قد تزيد على المال كما إذا فرض زوج و أخوات من كلالة الأبوين فهناك نصف و ثلثان و هو زائد على مخرج المال، و كذا لو فرض أبوان و بنتان و زوج فتزيد السهام على أصل التركة فإنّها سدسان و ثلثان و ربع.

و كذلك قد تزيد التركة على الفريضة كما إذا كانت هناك بنت واحدة أو بنتان فقط و هكذا، و السنّة المأثورة الّتي لها شأن تفسير الكتاب على ما ورد من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّه في صورة زيادة السهام على أصل المال يدخل النقص على هؤلاء الّذين لم يعيّن لهم إلّا سهم واحد و هم البنات و الأخوات دون غيرهم و هو الاُمّ و الزوج الّذين عيّن الله فرائضهما بحسب تغيّر الفروض و كذا في صورة زيادة أصل التركة على السهام يردّ الزائد على من يدخل عليه النقص في الصورة السابقة كما في بنت و أب فللأب السدس و للبنت نصف المال بالفريضة و الباقي بالردّ.

و قد سنّ عمر بن الخطّاب أيّام خلافته في صورة زيادة السهام العول و عمل الناس في الصدر الأوّل في صورة زيادة التركة بالتعصيب و سيجي‏ء الكلام فيهما في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

٢٢٩

و منها: أنّ التأمّل في سهام الرجال و النساء في الإرث يفيد أنّ سهم المرأة ينقص عن سهم الرجل في الجملة إلّا في الأبوين فإنّ سهم الاُمّ قد يربو على سهم الأب بحسب الفريضة و لعلّ تغليب جانب الاُمّ على جانب الأب أو تسويتهما لكونها في الإسلام أمسّ رحماً بولدها و مقاساتها كلّ شديدة في حمله و وضعه و حضانته و تربيته، قال تعالى:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إحساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) الأحقاف: ١٥، و خروج سهمها عن نصف ما للرجل إلى حدّ المساواة أو الزيادة تغليب لجانبها قطعاً.

و أمّا كون سهم الرجل في الجملة ضعف سهم المرأة فقد اعتبر فيه فضل الرجل على المرأة بحسب تدبير الحياة عقلاً و كون الإنفاق اللّازم على عهدته، قال تعالى:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) النساء: ٣٤، و القوام من القيام و هو إدارة المعاش، و المراد بالفضل هو الزيادة في التعقّل فإنّ حياته حياة تعقّليّة و حياة المرأة إحساسيّة عاطفيّة، و إعطاء زمام المال يداً عاقلة مدبّرة أقرب إلى الصلاح من إعطائه يداً ذات إحساس عاطفيّ و هذا الإعطاء. و التخصيص إذا قيس إلى الثروة الموجودة في الدنيا المنتقلة من الجيل الحاضر إلى الجيل التالي يكون تدبير ثلثي الثروة الموجودة إلى الرجال و تدبير ثلثها إلى النساء فيغلب تدبير التعقّل على تدبير الإحساس و العواطف فيصلح أمر المجتمع و تسعد الحياة.

و قد تدورك هذا الكسر الوارد على النساء بما أمر الله سبحانه الرجل بالعدل في أمرها الموجب لاشتراكها مع الرجل فيما بيده من الثلثين فتذهب المرأة بنصف هذين الثلثين من حيث المصرف، و عندها الثلث الّذي تتملّكها و بيدها أمر ملكه و مصرفه.

و حاصل هذا الوضع و التشريع العجيب أنّ الرجل و المرأة متعاكسان في الملك و المصرف فللرجل ملك ثلثي ثروة الدنيا و له مصرف ثلثها، و للمرأة ملك ثلث الثروة و لها مصرف ثلثيها، و قد لوحظ في ذلك غلبة روح التعقّل على روح الإحساس و العواطف في الرجل، و التدبير الماليّ بالحفظ و التبديل و الإنتاج و الاسترباح أنسب و أمسّ بروح التعقّل، و غلبة العواطف الرقيقة و الإحساسات اللّطيفة على روح التعقّل في المرأة،

٢٣٠

و ذلك بالمصرف أمسّ و ألصق فهذا هو السرّ في الفرق الّذي اعتبره الإسلام في باب الإرث و النفقات بين الرجال و النساء.

و ينبغي أن يكون زيادة روح التعقّل بحسب الطبع في الرجل و مزيّته على المرأة في هذا الشأن هو المراد بالفضل الّذي ذكره الله سبحانه في قوله عزّ من قائل:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) الآية، دون الزيادة في البأس و الشدّة و الصلابة فإنّ الغلظة و الخشونة في قبيل الرجال و إن كانت مزيّة وجوديّة يمتاز بها الرجل من المرأة و تترتّب عليها في المجتمع الإنسانيّ آثار عظيمة في أبواب الدفاع و الحفظ و الأعمال الشاقّة و تحمّل الشدائد و المحن و الثبات و السكينة في الهزاهز و الأهوال، و هذه شؤون ضروريّة في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطبع.

لكنّ النساء أيضاً مجهّزات بما يقابلها من الإحساسات اللّطيفة و العواطف الرقيقة الّتي لا غنى للمجتمع عنها في حياته، و لها آثار هامّة في أبواب الاُنس و المحبّة و السكن و الرحمة و الرأفة و تحمّل أثقال التناسل و الحمل و الوضع و الحضانة و التربية و التمريض و خدمة البيوت، و لا يصلح شأن الإنسان بالخشونة و الغلظة لو لا اللّينة و الرقّة، و لا بالغضب لو لا الشهوة، و لا أمر الدنيا بالدفع لو لا الجذب.

و بالجملة هذان تجهيزان متعادلان في الرجل و المرأة يتعادل بهما كفّتا الحياة في المجتمع المختلط المركّب من القبيلين، و حاشاه سبحانه أن يحيف في كلامه أو يظلم في حكمه أم يخافون أن يحيف الله عليهم(١) ، و لا يظلم ربّك أحداً(٢) و هو القائل:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) آل عمران: ١٩٥، و قد أشار إلى هذا الالتيام و البعضيّة بقوله في الآية:( بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) .

و قال أيضاً:( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثمّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتفكّرونَ ) الروم: ٢١، فانظر إلى عجيب بيأنّ الآيتين حيث وصف

____________________

(١) سورة النور: ٥٠

(٢) سورة الكهف: ٤٩.

٢٣١

الإنسان (و هو الرجل بقرينة المقابلة) بالانتشار و هو السعي في طلب المعاش، و إليه يعود جميع أعمال اقتناء لوازم الحياة بالتوسّل إلى القوّة و الشدّة حتّى ما في المغالبات و الغزوات و الغارات و لو كان للإنسأنّ هذا الانتشار فحسب لانقسم أفراده إلى واحد يكرّ و آخر يفرّ.

لكنّ الله سبحانه خلق النساء و جهّزهنّ بما يوجب أن يسكن إليهن الرجال و جعل بينهم مودّة و رحمة فاجتذبن الرجال بالجمال و الدلال و المودّة و الرحمة، فالنساء هنّ الركن الأوّل و العامل الجوهريّ للاجتماع الإنسانيّ.

و من هنا ما جعل الإسلام الاجتماع المنزليّ و هو الازدواج هو الأصل في هذا الباب قال تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣، فبدأ بأمر ازدواج الذكر و الاُنثى‏ و ظهور التناسل بذلك ثمّ بنى عليه الاجتماع الكبير المتكوّن من الشعوب و القبائل.

و من ذيل الآية يظهر أنّ التفضيل المذكور في قوله:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) الآية، إنّما هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة الدنيويّة أعني المعاش أحسن تنظيم، و يصلح به حال المجتمع إصلاحاً جيّداً، و ليس المراد به الكرامة الّتي هي الفضيلة الحقيقيّة في الإسلام و هي القربى و الزلفى من الله سبحانه فإنّ الإسلام لا يعبأ بشي‏ء من الزيادات الجسمانيّة الّتي لا يستفاد منها إلّا للحياة المادّيّة و إنّما هي وسائل يتوسّل بها لما عندالله.

فقد تحصّل من جميع ما قدّمنا أنّ الرجال فضّلوا على النساء بروح التعقّل الّذي أوجب تفاوتاً في أمر الإرث و ما يشبهه لكنّها فضيلة بمعنى الزيادة و أمّا الفضيلة بمعنى الكرامة الّتي يعتني بشأنها الإسلام فهي التقوى أينما كانت.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و أبو داود و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقيّ - في سننه من طرق جابر بن

٢٣٢

عبدالله - قال: عادني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أبوبكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أعقل شيئاً فدعا بماء فتوضّأ منه ثمّ رشّ عليّ فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) .

أقول: قد تقدّم مراراً أنّ أسباب النزول المرويّة لا تأبى أن تتعدّد و تجتمع عدّة منها في آية، و لا تنافي عدم انحصار عناية الآية النازلة فيها و لا أن يتصادف النزول فينطبق عليها مضمون الآية فلا يضرّ بالرواية ما فيها من قول جابر: ما تأمرني أن أصنع بمالي يا رسول الله فنزلت إلخ، مع أنّ قسمة المال لم يكن عليه حتّى يجاب بالآية، و أعجب منه‏ ما رواه أيضاً عن عبد بن حميد و الحاكم عن جابر قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعودني و أنا مريض فقلت: كيف اُقسّم مالي بين ولدي؟ فلم يردّ علي شيئاً و نزلت:( يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلادِكُمْ) .

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: كان أهل الجاهليّة لا يورّثون الجواري، و لا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجل من والده إلّا من أطاق القتال فمات عبدالرحمن أخو حسّان الشاعر، و ترك امرأة له يقال لها: اُمّ كحّة و ترك خمس جوار فجاءت الورثة فأخذوا ماله فشكت اُمّ كحّة ذلك إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله هذه الآية:( فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) ثمّ قال في اُمّ كحّة:( وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ ممّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ ) .

و فيه، أيضاً عنهما عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت آية الفرائض الّتي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر و الاُنثى و الأبوين كرهها الناس أو بعضهم و قالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن، و تعطى الابنة النصف، و يعطى الغلام الصغير، و ليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، و لا يحوز الغنيمة، و كانوا يفعلون ذلك في الجاهليّة لا يعطون الميراث إلّا لمن قاتل القوم و يعطونه الأكبر فالأكبر.

أقول: و كان منه التعصيب و هو إعطاء الميراث عصبة الأب إذا لم يترك الميّت ابناً كبيراً يطيق القتال، و قد عمل به أهل السنّة في الزائد على الفريضة فيما إذا لم يستوعب

٢٣٣

السهام التركة، و ربّما وجد شي‏ء من ذلك في رواياتهم لكن وردت الروايات من طرق أهل البيتعليهم‌السلام بنفي التعصيب، و أنّ الزائد على الفرائض يردّ على من ورد عليه النقص و هم الأولاد و الإخوة من الأبوين أو الأب، و إلى الأب في بعض الصور، و الّذي يستفاد من الآيات يوافق ذلك على ما مرّ.

و فيه، أخرج الحاكم و البيهقيّ عن ابن عبّاس قال: أوّل من أعال الفرائض عمر تدافعت عليه و ركب بعضها بعضاً قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم؟ و الله ما أدري أيكم قدم الله و أيّكم أخّر؟ و ما أجد في هذا المال شيئاً أحسن من أن اُقسّمه عليكم بالحصص! ثمّ قال ابن عبّاس: و أيم الله لو قدّم من قدّم الله و أخّر من أخّر الله ما عالت فريضة، فقيل له: و أيّها قدّم الله؟ قال: كلّ فريضة لم يهبطها الله من فريضة إلّا إلى فريضة فهذا ما قدّم الله، و كلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلّا ما بقي فتلك الّتي أخّر الله فالّذي قدّم كالزوجين و الاُمّ، و الّذي أخّر كالأخوات و البنات فإذا اجتمع من قدّم الله و أخّر بدئ بمن قدّم فاُعطي حقّه كاملاً فإن بقي شي‏ء كان لهنّ، و إن لم يبق شي‏ء فلا شي‏ء لهنّ.

و فيه، أيضاً أخرج سعيد بن منصور عن ابن عبّاس قال: أ ترون الّذي أحصى رمل عالج عدداً جعل في المال نصفاً و ثلثاً و ربعاً؟ إنّما هو نصفان و ثلاثة أثلاث و أربعة أرباع.

و فيه، أيضاً عنه عن عطاء قال: قلت لابن عبّاس: إنّ الناس لا يأخذون بقولي و لا بقولك و لو متّ أنا و أنت ما اقتسموا ميراثاً على ما تقول قال: فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا.

أقول: و هذا المعنى منقول عن ابن عبّاس من طرق الشيعة أيضاً كما يأتي.

في الكافي، عن الزهريّ عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة قال: جالست ابن عبّاس فعرض ذكر الفرائض من المواريث فقال ابن عبّاس: سبحان الله العظيم أ ترون الّذي أحصى رمل عالج عدداً جعل في مال نصفاً و نصفاً و ثلثاً؟! فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر بن أوس البصريّ: يا أبا العبّاس فمن أوّل من أعال هذه الفرائض؟ فقال: عمر بن الخطّاب لمّا التفّت عنده الفرائض و دفع بعضها بعضاً قال:

٢٣٤

و الله ما أدري أيّكم قدم الله و أيّكم أخّر؟ و ما أجد شيئاً أوسع من أن اُقسّم عليكم هذا المال بالحصص و اُدخل على كلّ ذي حقّ حقّه فأدخل عليه من عول الفرائض.

و أيم الله لو قدّم من قدّم الله و أخّر من أخّر الله ما عالت الفريضة، فقال له زفر بن أوس: و أيّها قدّم و أيّها أخّر؟ فقال: كلّ فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلّا إلى فريضة فهذا ما قدّم الله، و أمّا ما أخّر الله فكلّ فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلّا ما بقي فتلك الّتي أخّر، فأمّا الّتي قدّم فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شي‏ء، و الزوجة لها الربع فإذا زالت إلى الثمن لا يزيلها عنه شي‏ء، و الاُمّ لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس و لا يزيلها عنه شي‏ء فهذه الفرائض الّتي قدّم الله عزّوجلّ، و أمّا الّتي أخّر ففريضة البنات و الأخوات لها النصف و الثلثان فإذا أزالتهنّ الفرائض عن ذلك لم يكن لها إلّا ما بقي، فتلك الّتي أخّر الله، فإذا اجتمع ما قدّم الله و ما أخّر بدئ بما قدّم الله فاُعطي حقّه كاملاً فإن بقي شي‏ء كان لمن أخّر و إن لم يبق شي‏ء فلا شي‏ء له، فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هيبته.

أقول: و هذا القول من ابن عبّاس مسبوق بقول عليّعليه‌السلام بنفي العول، و هو مذهب أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كما يأتي.

في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام في حديث قال: كان أميرالمؤمنينعليه‌السلام يقول: إنّ الّذي أحصى رمل عالج ليعلم أنّ السهام لا تعول على ستّة لو تبصرون وجهها لم تجز ستّة.

أقول: في الصحاح: إنّ عالج موضع بالبادية به رمل، و قولهعليه‌السلام : إنّ السهام لا تعول على ستّة أي لا تميل على الستّة حتّى تغيّرها إلى غيرها، و الستّة هي السهام المصرّحة بها في الكتاب و هي: النصف و الثلث و الثلثان و الربع و السدس و الثمن.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : الحمد لله الّذي لا مقدّم لما أخّر، و لا مؤخّر لما قدّم، ثمّ ضرب بإحدى يديه على الاُخرى، ثمّ قال: يا أيّتها الاُمّة المتحيّرة بعد نبيّها لو كنتم قدّمتم من قدّم الله و أخّرتم من أخّر الله، و جعلتم الولاية و الوراثة حيث جعلها الله ما عال وليّ الله، و لا عال سهم من فرائض الله، و لا اختلف اثنان في حكم الله، و لا تنازعت الاُمّة في شي‏ء من أمر الله إلّا و عند عليّ علمه من كتاب الله، فذوقوا وبال أمركم

٢٣٥

و ما فرّطتم فيما قدّمت أيديكم، و ما الله بظلّام للعبيد، و سيعلم الّذي ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

أقول: و توضيح ورود النقص على حظوظ الورثة زيادة على ما مرّ أنّ الفرائض المذكورة في كلامه تعالى ستّ: النصف، و الثلثان، و الثلث، و السدس، و الربع، و الثمن، و هذه السهام قد يجتمع بعضها مع بعض بحيث يحصل التزاحم كما أنّه قد يجتمع النصف و السدسان و الربع في الطبقة الاُولى كبنت و أب و اُمّ و زوج فتزيد السهام على الأصل، و كذا الثلثان و السدسان و الربع كبنتين و أبوين و زوج فتتزاحم، و كذلك يجتمع النصف و الثلث و الربع و السدس في الطبقة الثانية كاُخت و جدّين للأب و الاُمّ و زوجة، و كذا الثلثان و الثلث و الربع و السدس كاُختين و جدّين و زوجة.

فإن أوردنا النقص على جميع السهام كان العول، و إن حفظنا فريضة الأبوين و الزوجين و كلالة الاُمّ و هي الثلث و السدس و النصف و الربع و الثمن عن ورود النقص عليها - لأنّ الله عيّن هذه السهام و لم يبهمها في حال بخلاف سهام البنت الواحدة فما زادت و الاُخت الواحدة لأبوين أو لأب فما زادت و بخلاف سهام الذكر و الاُنثى عند الوحدة و الكثرة - ورد النقص دائماً على الأولاد و الإخوة و الأخوات لما مرّ.

و أمّا كيفيّة الردّ فليراجع فيها إلى جوامع الحديث و كتب الفقه.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و البيهقيّ في سننه عن زيد بن ثابت: أنّه كان يحجب الاُمّ بالأخوين فقالوا له: يا أباسعيد إنّ الله يقول:( فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ ) و أنت تحجبها بأخوين؟ فقال: إنّ العرب تسمّي الأخوين إخوة.

أقول: و هو المرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و إن كان المعروف أنّ الإخوة جمع الأخ و لا يطلق الجمع على ما دون الثلاثة.

و في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام قال: لا يحجب الاُمّ عن الثلث إلّا أخوان أو أربع أخوات لأب و اُمّ أو لأب‏.

أقول: و الأخبار في ذلك كثيرة و أمّا الإخوة لاُمّ فإنّهم يتقرّبون بالاُمّ و هي بوجودها تمنعهم، و في أخبار الفريقين أنّ الإخوة يحجبون الاُمّ و لا يرثون لوجود من

٢٣٦

يتقدّم عليهم في الميراث و هو الأبوان فحجب الإخوة الاُمّ مع عدم إرثهم إنّما هو نوع مراعاة لحال الأب من حيث ردّ الزائد على الفريضة إليه، و منه يعلم وجه عدم حجب الإخوة لأمّ فإنّهم ليسوا عالة للأب.

و في المجمع، في قوله تعالى:( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍٍ ) ، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام : إنّكم تقرؤون في هذه الآية الوصيّة قبل الدين، و إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى بالدين قبل الوصيّة.

أقول: و رواه السيوطيّ في الدرّ المنثور عن عدّة من أرباب الجوامع و التفاسير.

و في الكافي، في معنى الكلالة عن الصادقعليه‌السلام : من ليس بوالد و لا ولد.

و فيه، عنهعليه‌السلام في قوله تعالى:( وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً ) الآية، إنّما عنى بذلك الإخوة و الأخوات من الاُمّ خاصّة.

أقول: و الأخبار في ذلك كثيرة و قد رواها أهل السنّة، و قد استفاضت الروايات بذلك و أنّ حكم كلالة الأب و الأبوين هو المذكور في الآية الخاتمة للسورة:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) الآية.

و من الشواهد على ذلك أنّ الفرائض المذكورة للكلالة في آخر السورة تربو على ما ذكر لهم في هذه الآية زيادة ضعف أو أزيد، و من المستفاد من سياق الآيات و ذكر الفرائض أنّه تعالى يرجّح سهم الرجال على النساء في الجملة ترجيح المثلين على المثل أو ما يقرب من ذلك مهما أمكن، و الكلالة إنّما يتقرّب إلى الميّت من جهة الاُمّ و الأب أو أحدهما فالتفاوت المراعى في جانب الأب و الاُمّ يسري إليهم فيترجّح لا محالة فرائض كلالة الأبوين أو الأب على كلالة الاُمّ و يكشف بذلك أنّ القليل لكلالة الاُمّ و الكثير لغيره.

و في المعاني، بإسناده إلى محمّد بن سنان: أنّ أباالحسن الرضاعليه‌السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علّة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث: لأنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت و الرجل يعطي فلذلك وفّر على الرجال و علّة اُخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الاُنثى لأنّ الاُنثى من عيال الذكر إن احتاجت، و عليه أن يعولها

٢٣٧

و عليه نفقتها، و ليس على المرأة أن تعول الرجل و لا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفّر على الرجال لذلك، و ذلك قول الله عزّوجلّ:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) .

و في الكافي، بإسناده عن الأحول قال: قال ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً و يأخذ الرجال سهمين؟ فذكر ذلك بعض أصحابنا لأبي عبداللهعليه‌السلام فقال: إنّ المرأة ليس عليها جهاد، و لا نفقة، و لا معقلة، فإنّما ذلك على الرجال فلذلك جعل للمرأة سهماً واحداً، و للرجل سهمين.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و قد مرّ دلالة الكتاب أيضاً على ذلك.

( بحث علميّ في فصول)

١- ظهور الإرث: كأنّ الإرث أعني تملّك بعض الأحياء المال الّذي تركه الميّت من أقدم السنن الدائرة في المجتمع الإنسانيّ، و قد خرج عن وسع ما بأيدينا من تواريخ الاُمم و الملل الحصول على مبدء حصوله، و من طبيعة الأمر أيضاً ذلك فإنّا نعلم بالتأمّل في طبيعة الإنسان الاجتماعيّة أنّ المال و خاصّة لو كان ممّا لا يد عليه يحنّ إليه الإنسان و يتوق إليه نفسه لصرفه في حوائجه، و حيازته و خاصّة فيما لا مانع عنه من دؤوبه الأوّليّة القديمة، و الإنسان في ما كوّنه من مجتمعة همجيّاً أو مدنيّاً لا يستغني عن اعتبار القرب و الولاية (المنتجين للأقربيّة و الأوّلويّة) بين أفراد المجتمع الاعتبار الّذي عليه المدار في تشكّل البيت و البطن و العشيرة و القبيلة و نحو ذلك، فلا مناص في المجتمع من كون بعض الأفراد أولى ببعض كالولد بوالديه و الرحم برحمه، و الصديق بصديقه، و المولى بعبده، و أحد الزوجين بالآخر، و الرئيس بمرؤوسه حتّى القويّ بالضعيف، و إن اختلفت المجتمعات في تشخيص ذلك اختلافاً شديداً يكاد لا تناله يد الضبط.

و لازم هذين الأمرين كون الإرث دائراً بينهم من أقدم العهود الاجتماعيّة.

٢٣٨

٢- تحوّل الإرث تدريجاً: لم تزل هذه السنّة كسائر السنن الجارية في المجتمعات الإنسانيّة تتحوّل من حال إلى حال و تلعب بها يد التطوّر و التكامل منذ أوّل ظهورها غير أنّ الاُمم الهمجيّة لمّا لم تستقرّ على حال منتظم تعسّر الحصول في تواريخهم على تحوّله المنتظم حصولاً يفيد وثوقاً به.

و القدر المتيقّن من أمرهم أنّهم كانوا يحرمون النساء و الضعفاء الإرث، و إنّما كان يختصّ بالأقوياء و ليس إلّا لأنّهم كانوا يعاملون مع النساء و الضعفاء من العبيد و الصغار معاملة الحيوان المسخّر و السلع و الأمتعة الّتي ليس لها إلّا أن ينتفع بها الإنسان دون أن تنتفع هي بالإنسان و ما في يده أو تستفيد من الحقوق الاجتماعيّة الّتي لا تتجاوز النوع الإنسانيّ.

و مع ذلك كان يختلف مصداق القويّ في هذا الباب برهة بعد برهة فتارة مصداقه رئيس الطائفة أو العشيرة، و تارة رئيس البيت، و تارة اُخرى أشجع القوم و أشدّهم بأساً، و كان ذلك يوجب طبعاً تغيّر سنّة الإرث تغيّراً جوهريّاً.

و لكون هذه السنن الجارية لا تضمن ما تقترحه الفطرة الإنسانيّة من السعادة المقترحة كان يسرع إليها التغيّر و التبدّل حتّى أنّ الملل المتمدّنة الّتي كان يحكم بينهم القوانين أو ما يجري مجراها من السنن المعتادة الملّيّة كان شأنهم ذلك كالروم و اليونان، و ما عمّر قانون من قوانين الإرث الدائرة بين الاُمم حتّى اليوم مثل ما عمّرت سنّة الإرث الإسلاميّة فقد حكمت في الاُمم الإسلاميّة منذ أوّل ظهورها إلى اليوم ما يقرب من أربعة عشر قرناً.

٣- الوراثة بين الاُمم المتمدّنة: من خواصّ الروم أنّهم كانوا يرون للبيت في نفسه استقلالاً مدنيّاً يفصله عن المجتمع العامّ و يصونه عن نفوذ الحكومة العامّة في جلّ ما يرتبط بأفراده من الحقوق الاجتماعيّة، فكان يستقلّ في الأمر و النهي و الجزاء و السياسة و نحو ذلك.

و كان ربّ البيت هو معبوداً لأهله من زوجة و أولاد و عبيد، و كان هو المالك من بينهم و لا يملك دونه أحد مادام أحد أفراد البيت، و كان هو الوليّ عليهم القيّم بأمرهم باختياره المطلق النافذ فيهم، و كان هو يعبد ربّ البيت السابق من أسلافه.

٢٣٩

و إذا كان هناك مال يرثه البيت كما إذا مات بعض الأبناء فيما ملكه بإذن ربّ البيت اكتساباً أو بعض البنات فيما ملكته بالازدواج صداقاً و أذن لها ربّ البيت أو بعض الأقارب فإنّما كان يرثه ربّ البيت لأنّه مقتضى ربوبيّته و ملكه المطلق للبيت و أهله.

و إذا مات ربّ البيت فإنّما كان يرثه أحد أبنائه أو إخوانه ممّن في وسعه ذلك و ورثه الأبناء فإن انفصلوا و أسّسوا بيوتاً جديدة كانوا أربابها و إن بقوا في بيتهم القديم كان نسبتهم إلى الربّ الجديد (أخيهم مثلاً) هي النسبة السابقة إلى أبيهم من الورود تحت قيمومته و ولايته المطلقة.

و كذا كان يرثه الأدعياء لأنّ الادعاء و التبنّي كان دائراً عندهم كما بين العرب في الجاهليّة.

و أمّا النساء كالزوجة و البنت و الاُمّ فلم يكنّ يرثن لئلّا ينتقل مال البيت بانتقالهنّ إلى بيوت اُخرى بالازدواج فإنّهم ما كانوا يرون جواز انتقال الثروة من بيت إلى آخر، و هذا هو الّذي ربّما ذكره بعضهم فقال: أنّهم كانوا يقولون بالملكيّة الاشتراكيّة الاجتماعيّة دون الانفراديّة الفرديّة و أظنّ أنّ مأخذه شي‏ء آخر غير الملك الاشتراكيّ فإنّ الأقوام الهمجيّة المتوحّشة أيضاً من أقدم الأزمنة كانوا يمتنعون من مشاركة غيرهم من الطوائف البدويّة فيما حازوه من المراعي و الأراضي الخصبة و حموه لأنفسهم و كانوا يحاربون عليه و يدفعون عن محميّاتهم و هذا نوع من الملك العامّ الاجتماعيّ الّذي مالكه هيئة المجتمع الإنسانيّ دون أفراده، و هو مع ذلك لا ينفي أن يملك كلّ فرد من المجتمع شيئاً من هذا الملك العامّ اختصاصاً.

و هذا ملك صحيح الاعتبار غير أنّهم ما كانوا يحسنون تعديل أمره و الاستدرار منه، و قد احترمه الإسلام كما ذكرناه فيما تقدّم، قال تعالى:( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جميعاً ) البقرة: ٢٩، فالمجتمع الإنسانيّ و هو المجتمع الإسلاميّ و من هو تحت ذمّته هو المالك لثروة الأرض بهذا المعنى ثمّ المجتمع الإسلاميّ هو المالك لما في يده من الثروة و لذلك لا يرى الإسلام إرث الكافر من المسلم.

و لهذا النظر آثار و نماذج في بعض الملل الحاضرة حيث لا يرون جواز تملّك

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458