الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 129084
تحميل: 5416


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129084 / تحميل: 5416
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الأجانب شيئاً من الأراضي و الأموال غير المنقولة من أوطانهم و نحو ذلك.

و لما كان البيت في الروم القديم ذا استقلال و تمام في نفسه كان قد استقرّ فيه هذه العادة القديمة المستقرّة في الطوائف و الممالك المستقلّة.

و كان قد أنتج استقرار هذه العادة أو السنّة في بيوت الروم مع سنّتهم في التزويج من منع الازدواج بالمحارم أنّ القرابة انقسمت عندهم قسمين: أحدهما القرابة الطبيعيّة و هي الاشتراك في الدم، و كان لازمها منع الازدواج في المحارم و جوازه في غيرهم، و الثاني القرابة الرسميّة و هي القانونيّة و لازمها الإرث و عدمه و النفقة و الولاية و غير ذلك فكان الأبناء أقرباء ذوي قرابة طبيعيّة و رسميّة معاً بالنسبة إلى ربّ البيت و رئيسه و في ما بينهم، أنفسهم و كانت النساء جميعاً ذوات قرابة طبيعيّة لا رسميّة فكانت المرأة لا ترث والدها و لا ولدها و لا أخاها و لا بعلها و لا غيرهم. هذه سنّة الروم القديم.

و أمّا اليونان فكان وضعهم القديم في تشكّل البيوت قريباً من وضع الروم القديم، و كان الميراث فيهم يرثه أرشد الأولاد الذكور، و يحرم النساء جميعاً من زوجة و بنت و اُخت، و يحرم صغار الأولاد و غيرهم غير أنّهم كالروميّين ربّما كانوا يحتالون لإيراث الصغار من أبنائهم و من أحبّوها و أشفقوا عليها من زوجاتهم و بناتهم و أخواتهم بحبل متفرّقة تسهّل الطريق لامتاعهنّ بشي‏ء من الميراث قليل أو كثير بوصيّة أو نحوها و سيجي‏ء الكلام في أمر الوصيّة.

و أمّا الهند و مصر و الصين فكان أمر الميراث في حرمان النساء منه مطلقاً و حرمان ضعفاء الأولاد أو بقاؤهم تحت الولاية و القيمومة قريباً ممّا تقدّم من سنّة الروم و اليونان.

و أمّا الفرس فإنّهم كانوا يرون نكاح المحارم و تعدّد الزوجات كما تقدّم و يرون التبنّي، و كانت أحبّ النساء إلى الزوج ربّما قامت مقام الابن بالادعاء و ترث كما يرث الابن و الدعيّ بالسويّة و كانت تحرم بقيّة الزوجات، و البنت المزوّجة لا ترث حذراً من انتقال المال إلى خارج البيت، و الّتي لم تزوّج بعد ترث نصف سهم الابن، فكانت الزوجات غير الكبيرة و البنت المزوّجة محرومات، و كانت الزوجة الكبيرة و الابن و الدعيّ و البنت غير المزوّجة بعد مرزوقين.

٢٤١

و أمّا العرب فقد كانوا يحرمون النساء مطلقاً و الصغار من البنين و يمتّعون أرشد الأولاد ممّن يركب الفرس و يدفع عن الحرمة، فإن لم يكن فالعصبة.

هذا حال الدنيا يوم نزلت آيات الإرث، ذكرها و تعرّض لها كثير من تواريخ آداب الملل و رسومهم و الرحلات و كتب الحقوق و أمثالها من أراد الاطّلاع على تفاصيل القول أمكنه أن يراجعها.

و قد تلخّص من جميع ما مرّ أنّ السنّة كانت قد استقرّت في الدّنيا يومئذ على حرمان النساء بعنوان أنّهنّ زوجة أو اُمّ أو بنت أو اُخت إلّا بعناوين اُخرى مختلفة، و على حرمان الصغار و الأيتام إلّا في بعض الموارد تحت عنوان الولاية و القيمومة الدائمة غير المنقطعة.

٤- ما ذا صنع الإسلام و الظرف هذا الظرف؟: قد تقدّم مراراً أنّ الإسلام يرى أنّ الأساس الحقّ للأحكام و القوانين الإنسانيّة هو الفطرة الّتي فطر الناس عليها و لا تبديل لخلق الله، و قد بنى الإرث على أساس الرحم الّتي هي من الفطرة و الخلقة الثابتة، و قد ألغى إرث الأدعياء حيث يقول تعالى:( وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ الله يَقُولُ الحقّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ الله، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ ) الأحزاب: ٥.

ثمّ أخرج الوصية من تحت عنوان الإرث و أفردها عنواناً مستقلّاً يعطى به و يؤخذ و إن كانوا يسمّون التملّك من جهة الإيصاء إرثاً، و ليس ذلك مجرّد اختلاف في التسمية فإنّ لكلّ من الوصيّة و الإرث ملاكاً آخر و أصلاً فطريّاً مستقلّاً، فملاك الإرث هو الرحم و لا نفوذ لإرادة المتوفّى فيها أصلاً، و ملاك الوصيّة نفوذ إرادة المتوفّى بعد وفاته (و إن شئت قل: حين ما يوصي) في ما يملكه في حياته و احترام مشيّته، فلو اُدخلت الوصيّة في الإرث لم يكن ذلك إلّا مجرّد تسمية.

و أمّا ما كان يسمّيها الناس كالروم القديم مثلاً إرثاً فلم يكن لاعتبارهم في سنّة الإرث أحد الأمرين، إمّا الرحم و إمّا احترام إرادة الميّت بل حقيقة الأمر أنّهم كانوا يبنون الإرث على احترام الإرادة و هي إرادة الميّت بقاء المال الموروث في البيت الّذي

٢٤٢

كان فيه تحت يد رئيس البيت و ربّه أو إرادته انتقاله بعد الموت إلى من يحبّه الميّت و يشفق عليه فكان الإرث على أيّ حال يبتني على احترام الإرادة و لو كان مبتنياً على أصل الرحم و اشتراك الدم لرزق من المال كثير من المحرومين منه، و حرم كثير من المرزوقين.

ثمّ إنّه بعد ذلك عمد إلى الإرث و عنده في ذلك أصلان جوهريّان:

أصل الرحم و هو العنصر المشترك بين الإنسان و أقربائه لا يختلف فيه الذكور و الإناث و الكبار و الصغار حتّى الأجنّة في بطون اُمّهاتهم و إن كان مختلف الأثر في التقدّم و التأخّر، و منع البعض للبعض من جهة قوّته و ضعفه بالقرب من الإنسان و البعد منه، و انتفاء الوسائط و تحقّقها قليلاً أو كثيراً كالولد و الأخ و العمّ، و هذا الأصل يقضي باستحقاق أصل الإرث مع حفظ الطبقات المتقدّمة و المتأخّرة.

و أصل اختلاف الذكر و الاُنثى في نحو وجود القرائح الناشئة عن الاختلاف في تجهيزهما بالتعقّل و الإحساسات، فالرجل بحسب طبعه إنسان التعقّل كما أنّ المرأة مظهر العواطف و الإحساسات اللّطيفة الرقيقة، و هذا الفرق مؤثّر في حياتيهما التأثير البارز في تدبير المال المملوك، و صرفه في الحوائج، و هذا الأصل هو الموجب للاختلاف في السهام في الرجل و المرأة و إن وقعا في طبقة واحدة كالابن و البنت، و الأخ و الاُخت في الجملة على ما سنبيّنه.

و استنتج من الأصل الأوّل ترتّب الطبقات بحسب القرب و البعد من الميّت لفقدان الوسائط و قلّتها و كثرتها فالطبقة الاُولى هي الّتي تتقرّب من الميّت بلا واسطة و هي الابن و البنت و الأب و الاُمّ، و الثانية الأخ و الاُخت و الجدّ و الجدّة و هي تتقرّب من الميّت بواسطة واحدة و هي الأب أو الاُمّ أو هما معاً، و الثالثة العمّ و العمّة و الخال و الخالة، و هي تتقرّب إلى الميّت بواسطتين. و هما أب الميّت أو اُمّه و جدّه أو جدّته، و على هذا القياس، و الأولاد في كلّ طبقة يقومون مقام آبائهم و يمنعون الطبقة اللّاحقة و روعي حال الزوجين لاختلاط دمائهما بالزواج مع جميع الطبقات فلا يمنعهما طبقة و لا يمنعان طبقة.

٢٤٣

ثمّ استنتج من الأصل الثاني اختلاف الذكر و الاُنثى في غير الاُمّ و الكلالة المتقرّبة بالاُمّ بأنّ للذكر مثل حظّ الاُنثيين.

و السهام الستّة المفروضة في الإسلام (النصف و الثلثان و الثلث و الربع و السدس و الثمن) و إن اختلفت، و كذا المال الّذي ينتهي إلى أحد الورّاث و إن تخلّف عن فريضته غالباً بالردّ أو النقص الوارد و كذا الأب و الاُمّ و كلالة الاُمّ و إن تخلّفت فرائضهم عن قاعدة( للذكر مثل حظّ الاُنثيين) و لذلك يعسر البحث الكلّيّ الجامع في باب الإرث إلّا أنّ الجميع بحسب اعتبار النوع في تخليف السابق للّاحق يرجع إلى استخلاف أحد الزوجين للآخر و استخلاف الطبقة المولّدة و هم الآباء و الاُمّهات للطبقة المتولّدة و هم الأولاد، و الفريضة الإسلاميّة في كلّ من القبيلين أعني الأزواج و الأولاد للذكر مثل حظّ الاُنثيين.

و ينتج هذا النظر الكلّيّ أنّ الإسلام يرى اقتسام الثروة الموجودة في الدنيا بالثلث و الثلثين فللاُنثى ثلث و للذكر ثلثان هذا من حيث التملّك لكنّه لا يرى نظير هذا الرأي في الصرف للحاجة فإنّه يرى نفقة الزوجة على الزوج و يأمر بالعدل المقتضي للتساوي في المصرف و يعطي للمرأة استقلال الإرادة و العمل فيما تملكه من المال لا مداخلة للرجل فيه، و هذه الجهات الثلاث تنتج أنّ للمرأة أن تتصرّف في ثلثي ثروة الدّنيا (الثلث الّذي تملكها و نصف الثلثين اللّذين يملكهما الرجل) و ليس في قبال تصرّف الرجل إلّا الثلث.

٥- علام استقرّ حال النساء و اليتامى في الإسلام؟: أمّا اليتامى فهم يرثون كالرجال الأقوياء، و يربّون و ينمي أموالهم تحت ولاية الأولياء كالأب و الجدّ أو عامّة المؤمنين أو الحكومة الإسلاميّة حتّى إذا بلغوا النكاح و اُونس منهم الرشد دفعت إليهم أموالهم و استووا على مستوى الحياة المستقلّة، و هذا أعدل السنن المتصوّرة في حقّهم.

و أمّا النساء فإنّهنّ بحسب النظر العامّ يملكن ثلث ثروة الدّنيا و يتصرّفن في ثلثيها بما تقدّم من البيان، و هنّ حرّات مستقلّات فيما يملكن لا يدخلن تحت قيمومة دائمة و لا موقّتة و لا جناح على الرجال فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف.

٢٤٤

فالمرأة في الإسلام ذات شخصيّة تساوي شخصيّة الرجل في حرّيّة الإرادة و العمل من جميع الجهات، و لا تفارق حالها حال الرجل إلّا في ما تقتضيه صفتها الروحيّة الخاصّة المخالفة لصفة الرجل الروحيّة و هي أنّ لها حياة إحساسيّة و حياة الرجل تعقليّة فاعتبر للرجل زيادة في الملك العامّ ليفوق تدبير التعقّل في الدنيا على تدبير الإحساس و العاطفة، و تدورك ما ورد عليها من النقص باعتبار غلبتها في التصرّف، و شرّعت عليها وجوب إطاعة الزوج في أمر المباشرة و تدورك ذلك بالصداق، و حرمت القضاء و الحكومة و المباشرة للقتال لكونها اُموراً يجب بناؤها على التعقّل دون الإحساس، و تدورك ذلك بوجوب حفظ حماهنّ و الدفاع عن حريمهنّ على الرجال، و وضع على عاتقهم أثقال طلب الرزق و الإنفاق عليها و على الأولاد و على الوالدين و لها حقّ حضانة الأولاد من غير إيجاب، و قد عدّل جميع هذه الأحكام باُمور اُخرى دعين إليها كالتحجّب و قلّة مخالطة الرجال و تدبير المنزل و تربية الأولاد.

و قد أوضح معنى امتناع الإسلام عن إعطاء التدابير العامّة الاجتماعيّة كتدبير الدفاع و القضاء و الحكومة للعاطفة و الإحساس و وضع زمامها في يدها، النتائج المرّة الّتي يذوقها المجتمع البشريّ إثر غلبة الإحساس على التعقّل في عصرنا الحاضر، و أنت بالتأمّل في الحروب العالميّة الكبرى الّتي هي من هدايا المدنيّة الحاضرة، و في الأوضاع العامّة الحاكمة على الدنيا، و عرض هذه الحوادث على العقل و الإحساس العاطفيّ تقف على تشخيص ما منه الإغراء و ما إليه النصح و الله الهادي.

على أنّ الملل المتمدّنة من الغربيّين لم يألوا جهداً و لم يقصروا حرصاً منذ مئات السنين في تربية البنات مع الأبناء في صفّ واحد، و إخراج ما فيهنّ من استعداد الكمال من القوّة إلى الفعل، و أنت مع ذلك إذا نظرت في فهرس نوابغ السياسة و رجال القضاء و التقنين و زعماء الحروب و قوّادها (و هي الخلال الثلاث المذكورة: الحكومة، القضاء القتال) لم تجد فيه شيئاً يعتدّ به من أسماء النساء و لا عدداً يقبل المقايسة إلى المئات و الاُلوف من الرجال، و هذا في نفسه أصدق شاهد على أنّ طباع النساء لا تقبل الرشد و النماء في هذه الخلال الّتي لا حكومة فيها بحسب الطبع إلّا للتعقّل و كلّما زاد فيها دبيب العواطف زادت خيبة و خسراناً.

٢٤٥

و هذا و أمثاله من أقطع الأجوبة للنظريّة المشهورة القائلة أنّ السبب الوحيد في تأخّر النساء عن الرجال في المجتمع الإنسانيّ هو ضعف التربية الصالحة فيهنّ منذ أقدم عهود الإنسانيّة، و لو دامت عليهنّ التربية الصالحة الجيّدة مع ما فيهنّ من الإحساسات و العواطف الرقيقة لحقن الرجال أو تقدّمن عليهم في جهات الكمال.

و هذا الاستدلال أشبه بالاستدلال بما ينتج نقيض المطلوب فإنّ اختصاصهنّ بالعواطف الرقيقة أو زيادتها فيهنّ هو الموجب لتأخّرهنّ فيما يحتاج من الاُمور إلى قوّة التعقّل و تسلّطه على العواطف الروحيّة الرقيقة كالحكومة و القضاء، و تقدّم من يزيد عليهنّ في ذلك و هم الرجال فإنّ التجارب القطعيّة تفيد أنّ من اختصّ بقوّة صفة من الصفات الروحيّة فإنّما تنجح تربيته فيما يناسبها من المقاصد و المآرب، و لازمه أن تنجح تربية الرجال في أمثال الحكومة و القضاء و يمتازوا عنهنّ في نيل الكمال فيها، و أن تنجح تربيتهنّ فيما يناسب العواطف الرقيقة و يرتبط بها من الاُمور كبعض شعب صناعة الطبّ و التصوير و الموسيقىّ و النسج و الطبخ و تربية الأطفال و تمريض المرضى و أبواب الزينة و نحو ذلك، و يتساوى القبيلان فيما سوى ذلك.

على أنّ تأخّرهنّ فيما ذكر من الاُمور لو كان مستنداً إلى الاتّفاق و الصدفة كما ذكر لانتقض في بعض هذه الأزمنة الطويلة الّتي عاش فيها المجتمع الإنسانيّ و قد خمّنوها بملايين من السنين كما أنّ تأخّر الرجال فيما يختصّ من الاُمور المختصّة بالنساء كذلك و لو صحّ لنا أن نعدّ الاُمور اللّازمة للنوع غير المنفكّة عن مجتمعهم و خاصّة إذا ناسبت اُموراً داخليّة في البنية الإنسانيّة من الاتّفاقيات لم يسع لنا أن نحصل على خلّة طبيعيّة فطريّة من خلال الإنسانيّة العامّة كميل طباعه إلى المدنيّة و الحضارة، و حبّه للعلم، و بحثه عن أسرار الحوادث و نحو ذلك فإنّ هذه صفات لازمة لهذا النوع و في بنية أفراده ما يناسبها من القرائح نعدّها لذلك صفات فطريّة نظير ما نعدّ تقدّم النساء في الاُمور الكماليّة المستظرفة و تأخّرهنّ في الاُمور التعقليّة و الاُمور الهائلة و الصعبة الشديدة من مقتضى قرائحهنّ، و كذلك تقدّم الرجال و تأخّرهم في عكس ذلك.

فلا يبقى بعد ذلك كلّه إلّا انقباضهنّ من نسبة كمال التعقّل إلى الرجال و كمال

٢٤٦

الإحساس و التعطّف إليهنّ، و ليس في محلّه فإنّ التعقّل و الإحساس في نظر الإسلام موهبتان إلهيّتان مودعتان في بنية الإنسان لمآرب إلهيّة حقّة في حياته لا مزيّة لإحداهما على الاُخرى و لا كرامة إلّا للتقوى، و أمّا الكمالات الأخر كائنة ما كانت فإنّما تنمو و تربو إذا وقعت في صراطه و إلّا لم تعدّ إلّا أوزاراً سيّئة.

٦- قوانين الإرث الحديثة: هذه القوانين و السنن و إن خالفت قانون الإرث الإسلاميّ كمّاً و كيفاً على ما سيمرّ بك إجمالها غير أنّها استظهرت في ظهورها و استقرارها بالسنّة الإسلاميّة في الإرث فكم بين موقف الإسلام عند تشريع إرث النساء في الدنيا و بين موقفهنّ من الفرق.

فقد كان الإسلام يظهر أمراً ما كانت الدنيا تعرفه و لا قرعت أسماع الناس بمثله، و لا ذكرته أخلاف عن أسلافهم الماضين و آبائهم الأوّلين، و أمّا هذه القوانين فإنّها اُبديت و كلّف بها اُمم حينما كانت استقرّت سنّة الإسلام في الإرث بين الاُمم الإسلاميّة في معظم المعمورة بين مئات الملايين من الناس توارثها الأخلاف من أسلافهم في أكثر من عشرة قرون، و من البديهيّات في أبحاث النفس أنّ وقوع أمر من الاُمور في الخارج ثمّ ثبوتها و استقرارها نعم العون في وقوع ما يشابهها و كلّ سنّة سابقة من السنن الاجتماعيّة مادّة فكريّة للسنن اللّاحقة المجانسة بل الاُولى هي المادّة المتحوّلة إلى الثانية فليس لباحث اجتماعيّ أن ينكر استظهار القوانين الجديدة في الإرث بما تقدّمها من الإرث الإسلاميّ و تحوّله إليها تحوّلاً عادلاً أو جائراً.

و من أغرب الكلام ما ربّما يقال - قاتل الله عصبيّة الجاهليّة الاُولى-: إنّ القوانين الحديثة إنّما استفادت في موادّها من قانون الروم القديمة، و أنت قد عرفت ما كانت عليه سنّة الروم القديمة في الإرث، و ما قدّمته السنّة الإسلاميّة إلى المجتمع البشريّ و أنّ السنّة الإسلاميّة متوسّطة في الظهور و الجريان العمليّ بين القوانين الروميّة القديمة و بين القوانين الغربيّة الحديثة و كانت متعرّفة متعمّقة في مجتمع الملايين و مئات الملايين من النفوس الإنسانيّة قروناً متوالية متطاولة، و من المحال أن تبقى سدى و على جانب من التأثير في أفكار هؤلاء المقنّنين.

٢٤٧

و أغرب منه أنّ هؤلاء القائلين يذكرون أنّ الإرث الإسلاميّ مأخوذ من الإرث الروميّ القديم!.

و بالجملة فالقوانين الحديثة الدائرة بين الملل الغربيّة و إن اختلفت في بعض الخصوصيّات غير أنّها كالمطبقة على تساوي الرجال و النساء في سهم الإرث فالبنات و البنون سواء، و الاُمّهات و الآباء سواء في السهام و هكذا.

و قد رتّبت الطبقات في قانون فرنسا على هذا النحو: (١) البنون و البنات (٢) الآباء و الاُمّهات و الإخوة و الأخوات (٣) الأجداد و الجدّات (٤) الأعمام و العمّات و الأخوال و الخالات، و قد أخرجوا علقة الزوجيّة من هذه الطبقات و بنوها على أساس المحبّة و العلقة القلبيّة و لا يهمّنا التعرّض لتفاصيل ذلك و تفاصيل الحال في سائر الطبقات من أرادها فليرجع إلى محلّها.

و الّذي يهمّنا هو التأمّل في نتيجة هذه السنّة الجارية و هي اشتراك المرأة مع الرجل في ثروة الدنيا الموجودة بحسب النظر العامّ الّذي تقدّم غير أنّهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج لا حقّ لها في تصرّف ماليّ في شي‏ء من أموالها الموروثة إلّا بإذن زوجها، و عاد بذلك المال منصّفاً بين الرجل و المرأة ملكاً، و تحت ولاية الرجل تدبيراً و إدارة! و هناك جمعيّات منتهضة يبذلون مساعيهم لإعطاء النساء الاستقلال و إخراجهنّ من تحت قيمومة الرجال في أموالهنّ و لو وفّقوا لما يريدون كانت الرجال و النساء متساويين من حيث الملك و من حيث ولاية التدبير و التصرّف.

٧- مقايسة هذه السنن بعضها إلى بعض: و نحن بعد ما قدّمنا خلاصة السنن الجارية بين الاُمم الماضية و قرونها الخالية إلى الباحث الناقد نحيل إليه قياس بعضها إلى البعض و القضاء على كلّ منها بالتمام و النقص و نفعه للمجتمع الإنسانيّ و ضرره من حيث وقوعه في صراط السعادة ثمّ قياس ما سنّه شارع الإسلام إليها و القضاء بما يجب أن يقضى به.

و الفرق الجوهريّ بين السنّة الإسلاميّة و السنن غيرها في الغاية و الغرض، فغرض الإسلام أن تنال الدنيا صلاحها، و غرض غيره أن تنال ما تشتهيها، و على هذين

٢٤٨

الأصلين يتفرّع ما يتفرّع من الروع قال تعالى:( وَ عَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شيئاً وَ هُوَ شرّ لَكُمْ وَ الله يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) البقرة: ٢١٦، و قال تعالى:( وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَ يَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) النساء: ١٩.

٨- الوصية: قد تقدّم أنّ الإسلام أخرج الوصيّة من تحت الوراثة و أفردها عنواناً مستقلّاً لما فيها من الملاك المستقلّ و هو احترام إرادة المالك بالنسبة إلى ما يملكه في حياته، و قد كانت الوصيّة بين الاُمم المتقدّمة من طرق الاحتيال لدفع الموصي ماله أو بعض ماله إلى غير من تحكّم السنّة الجارية بإرثه كالأب و رئيس البيت و لذلك كانوا لا يزالون يضعون من القوانين ما يحدّها و يسدّ بنحو هذا الطريق المؤدّي إلى إبطال حكم الإرث و لا يزال يجري الأمر في تحديدها هذا المجرى حتّى اليوم.

و قد حدّها الإسلام بنفوذها إلى ثلث المال فهي غير نافذة في الزائد عليه، و قد تبعته في ذلك بعض القوانين الحديثة كقانون فرنسا غير أنّ النظرين مختلفان، و لذلك كان الإسلام يحثّ عليها و القوانين تردع عنها أو هي ساكتة.

و الّذي يفيده التدبّر في آيات الوصيّة و الصدقات و الزكاة و الخمس و مطلق الإنفاق أنّ في هذه التشريعات تسهيل طريق أن يوضع ما يقرب من نصف رقبة الأموال و الثلثان من منافعها للخيرات و المبرّات و حوائج طبقة الفقراء و المساكين لتقرب بذلك الطبقات المختلفة في المجتمع، و يرتفع الفواصل البعيدة من بينهم، و تقام به أصلاب المساكين مع ما في القوانين الموضوعة بالنسبة إلى كيفيّة تصرّف المثرين في ثروتهم من تقريب طبقتهم من طبقة المساكين، و لتفصيل هذا البحث محلّ آخر سيمرّ بك إن شاء الله تعالى‏.

٢٤٩

( سورة النساء الآيات ١٥ الى ١٦)

وَاللّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنّ أَرْبَعَةً مِنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى‏ يَتَوَفّاهُنّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنّ سَبِيل( ١٥) وَاللّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنّ اللّهَ كَانَ تَوّاباً رَحِيم( ١٦)

( بيان)

قوله تعالى: ( وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ) إلى قوله:( مِنْكُمْ ) يقال: أتاه و أتى به أي فعله، و الفاحشة من الفحش و هو الشناعة فهي الطريقة الشنيعة، و قد شاع استعمالها في الزنا، و قد اُطلقت في القرآن على اللّواط أو عليه و على السحق معاً في قوله تعالى:( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالمين ) العنكبوت: ٢٨.

و الظاهر أنّ المراد بها ههنا الزنا على ما ذكره جمهور المفسّرين، ورووا: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر عند نزول آية الجلد أنّ الجلد هو السبيل الّذي جعله الله لهنّ إذا زنين‏، و يشهد بذلك ظهور الآية في أنّ هذا الحكم سينسخ حيث يقول تعالى:( أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا ) ، و لم ينقل أنّ السحق نسخ حدّه بشي‏ء آخر، و لا أنّ هذا الحدّ اُجري على أحد من اللّاتي يأتينه و قوله:( أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ) ، يشهد بأنّ العدد من الرجال.

قوله تعالى: ( فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ ) إلى آخر الآية رتّب الإمساك و هو الحبس المخلّد على الشهادة لا على أصل تحقّق الفاحشة و إن علم به إذا لم يشهد عليه الشهود و هو من منن الله سبحانه على الاُمّة من حيث السماحة و الإغماض.

و الحكم هو الحبس الدائم بقرينة الغاية المذكورة في الكلام أعني قوله:( حتّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ ) ، غير أنّه لم يعبّر عنه بالحبس و السجن بل بالإمساك لهنّ في البيوت، و هذا أيضاً من واضح التسهيل و السماحة بالإغماض، و قوله:( حتّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا ) ، أي طريقاً إلى التخلّص من الإمساك الدائم و النجاة منه.

٢٥٠

و في الترديد إشعار بأنّ من المرجوّ أن ينسخ هذا الحكم، و هكذا كان فإنّ حكم الجلد نسخه فإنّ من الضروريّ أنّ الحكم الجاري على الزانيات في أواخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المعمول به بعده بين المسلمين هو الجلد دون الإمساك في البيوت فالآية على تقدير دلالتها على حكم الزانيات منسوخة بآية الجلد و السبيل المذكور فيها هو الجلد بلا ريب.

قوله تعالى: ( وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما ) ، الآيتان متناسبتان مضموناً و الضمير في قوله:( يَأْتِيانِها ) ، راجع إلى الفاحشة قطعاً، و هذا يؤيّد كون الآيتين جميعاً مسوقتين لبيان حكم الزنا، و على ذلك فالآية الثانية متمّمة الحكم في الاُولى فإنّ الاُولى لم تتعرّض إلّا لما للنساء من الحكم، و الثانية تبيّن الحكم فيهما معاً و هو الإيذاء فيتحصّل من مجموع الآيتين حكم الزاني و الزانية معاً و هو إيذاؤهما و إمساك النساء في البيوت.

لكن لا يلائم ذلك قوله تعالى بعد:( فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ) ، فإنّه لا يلائم الحبس المخلّد فلا بدّ أن يقال: إنّ المراد بالإعراض الإعراض عن الإيذاء دون الحبس فهو بحاله.

و لهذا ربّما قيل تبعاً لما ورد في بعض الروايات (و سننقلها) إنّ الآية الاُولى لبيان حكم الزنا في الثيّب، و الثانية مسوقة لحكم الأبكار و إنّ المراد بالإيذاء هو الحبس في الأبكار ثمّ تخلية سبيلهنّ مع التوبة و الإصلاح، لكن يبقى أوّلاً الوجه في تخصيص الاُولى بالثيّبات و الثانية بالأبكار من غير دليل يدلّ عليه من جهة اللّفظ، و ثانياً وجه تخصيص الزانية بالذكر في الآية الاُولى، و ذكرهما معاً في الآية الثانية:( وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ ) .

و قد عزي إلى أبي مسلم المفسّر أنّ الآية الاُولى لبيان حكم السحق بين النساء، و الآية الثانية تبيّن حكم اللّواط بين الرجال، و الآيتان غير منسوختين.

و فساده ظاهر: أمّا في الآية الاُولى فلمّا ذكرناه في الكلام على قوله:( وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ) ، و أمّا في الآية الثانية فلمّا ثبت في السنّة من أنّ الحدّ

٢٥١

في اللّواط القتل، و قد صحّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: من عمل منكم عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل و المفعول‏، و هذا إمّا حكم ابتدائيّ غير منسوخ، و إمّا حكم ناسخ لحكم الآية، و على أيّ حال يبطل قوله.

و من الممكن: أن يقال في معنى الآيتين نظراً إلى الظاهر السابق إلى الذهن من الآيتين، و القرائن المحفوف بها الكلام، و ما تقدّم من الإشكال فيما ذكروه من المعنى - و الله أعلم -: أنّ الآية متضمّنة لبيان حكم زنا المحصنات ذوات الأزواج، و يدلّ عليه تخصيص الآية النساء بالذكر دون الرجال، و إطلاق النساء على الأزواج شائع في اللّسان و خاصّة إذا اُضيفت إلى الرجال كما في قوله: نسائكم، قال تعالى:( وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) النساء: ٤، و قال تعالى:( مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) النساء: ٢٣.

و على هذا فقد كان الحكم الأوّليّ المؤجّل لهنّ الإمساك في البيوت ثمّ شرع لهنّ الرجم، و ليس نسخاً للكتاب بالسنّة على ما استدلّ به الجبائيّ فإنّ السنخ إنّما هو رفع الحكم الظاهر بحسب الدليل في التأبيد، و هذا حكم مقرون بما يشعر بأنّه مؤجّل سينقطع بانقطاعه و هو قوله:( أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا ) لظهوره في أنّ هناك حكماً سيطلع عليهنّ، و لو سمّي هذا نسخاً لم يكن به بأس فإنّه غير متضمّن لما يلزم نسخ الكتاب بالسنّة من الفساد فإنّ القرآن نفسه مشعر بأنّ الحكم سيرتفع بانقطاع أمده، و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبيّن لمرادات القرآن الكريم.

و الآية الثانية متضمّنة لحكم الزنا من غير إحصان و هو الإيذاء سواء كان المراد به الحبس أو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول أو غير ذلك، و الآية على هذا منسوخة بآية الجلد من سورة النور، و أمّا ما ورد من الرواية في كون الآية متضمّنة لحكم الأبكار فمن الآحاد و هي مع ذلك مرسلة ضعيفة بالإرسال، هذا و لا يخلو مع ذلك من وهن(١) .

قوله تعالى: ( فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما ) إلخ تقييد التوبة بالإصلاح لتحقيق حقيقة التوبة، و تبيين أنّها ليست مجرّد لفظ أو حالة مندفعة.

____________________

(١) فإنّ إشعار المنسوخ بالنسخ لا ينافي النسخ (منه)

٢٥٢

( بحث روائي‏)

في الصافي، عن تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ ) الآية هي منسوخة، و السبيل هي الحدود.

و فيه، عن الباقرعليه‌السلام : سئل عن هذه الآية فقال: هي منسوخة، قيل: كيف كانت؟ قال: كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها أربعة شهود اُدخلت بيتاً و لم تحدّث، و لم تكلّم، و لم تجالس، و اُوتيت بطعامها و شرابها حتّى تموت أو يجعل الله لهنّ سبيلاً، قال: جعل السبيل الجلد و الرجم.

قيل: قوله: و الّذان يأتيانها منكم؟ قال: يعني البكر إذا أتت الفاحشة الّتي أتتها هذه الثيّب، فآذوهما؟ قال تحبس. الحديث.

أقول: القصّة أعني كون الحكم المجرى عليهنّ في صدر الإسلام الإمساك في البيوت حتّى الوفاة ممّا رويت بعدّة من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس و قتادة و مجاهد و غيرهم، و نقل عن السدّيّ أنّ الحبس في البيوت كان حكماً للثيّبات، و الإيذاء الواقع في الآية الثانية كان حكماً للجواري و الفتيان الّذين لم ينكحوا، و قد عرفت ما ينبغي أن يقال في المقام‏.

٢٥٣

( سورة النساء الآيات ١٧ الى ١٨)

إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيم( ١٧) وَلَيْسَتِ التّوْبَةُ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئاتِ حَتّى‏ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ اعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيم( ١٨)

( بيان)

مضمون الآيتين لا يخلو عن ارتباط بما تقدّمهما من الآيتين فإنّهما قد اختتمتا بذكر التوبة فمن الممكن أن يكون هاتان نزلتا مع تينك، و هاتان الآيتان مع ذلك متضمّنتان لمعنى مستقلّ في نفسه، و هو إحدى الحقائق العالية الإسلاميّة و التعاليم الراقية القرآنيّة، و هي حقيقة التوبة و شأنها و حكمها.

قوله تعالى: ( إنّما التَّوْبَةُ عَلَى الله للّذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) التوبة هي الرجوع، و هي رجوع من العبد إلى الله سبحانه بالندامة و الانصراف عن الإعراض عن العبوديّة، و رجوع من الله إلى العبد رحمة بتوفيقه للرجوع إلى ربّه أو بغفران ذنبه، و قد مرّ مراراً أنّ توبة واحدة من العبد محفوفة بتوبتين من الله سبحانه على ما يفيده القرآن الكريم.

و ذلك أنّ التوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوّة و الحسنات من الله، و القوّة لله جميعاً فمن الله توفيق الأسباب حتّى يتمكّن العبد من التوبة و يتمشّى له الانصراف عن التوغّل في غمرات البعد و الرجوع إلى ربّه ثمّ إذا وفّق للتوبة و الرجوع احتاج في التطهّر من هذه الألواث، و زوال هذه القذارات، و الورود و الاستقرار في ساحة القرب إلى رجوع آخر من ربّه إليه بالرحمة و الحنان و العفو و المغفرة.

و هذان الرجوعان من الله سبحانه هما التوبتان الحافّتان لتوبة العبد و رجوعه

٢٥٤

قال تعالى:( ثمّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة: ١١٨، و هذه هي التوبة الاُولى، و قال تعالى:( فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) البقرة: ١٦٠، و هذه هي التوبة الثانية، و بين التوبتين منه تعالى توبة العبد كما سمعت.

و أمّا قوله:( عَلَى الله للّذين ) ، لفظة على و اللّام تفيدان معنى النفع و الضرر كما في قولنا: دارت الدائرة لزيد على عمرو، و كان السباق لفلان على فلان، و وجه إفادة على و اللّام معنى الضرر و النفع أنّ على تفيد معنى الاستعلاء، و اللّام معنى الملك و الاستحقاق، و لازم ذلك أنّ المعاني المتعلّقة بطرفين ينتفع بها أحدهما و يتضرّر بها الآخر كالحرب و القتال و النزاع و نحوها فيكون أحدهما الغالب و الآخر المغلوب ينطبق على الغالب منهما معنى الملك و على المغلوب معنى الاستعلاء، و كذا ما أشبه ذلك كمعنى التأثير بين المتأثّر و المؤثّر، و معنى العهد و الوعد بين المتعهد و المتعهد له، و الواعد و الموعود له و هكذا، فظهر أنّ كون على و اللّام لمعنى الضرر و النفع إنّما هو أمر طار من ناحية مورد الاستعمال لا من ناحية معنى اللّفظ.

و لمّا كان نجاح التوبة إنّما هو لوعد وعده الله عباده فأوجبها بحسبه على نفسه لهم قال ههنا:( إنّما التَّوْبَةُ عَلَى الله للّذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) فيجب عليه تعالى قبول التوبة لعباده لكن لا على أنّ لغيره أن يوجب عليه شيئاً أو يكلّفه بتكليف سواء سمّي ذلك الغير بالعقل أو نفس الأمر أو الواقع أو الحقّ أو شيئاً آخر، تعالى عن ذلك و تقدّس بل على أنّه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم و هو لا يخلف الميعاد، فهذا معنى وجوب قبول التوبة على الله فيما يجب، و هو أيضاً معنى وجوب كلّ ما يجب على الله من الفعل.

و ظاهر الآية أوّلاً أنّها لبيان أمر التوبة الّتي لله أعني رجوعه تعالى بالرحمة إلى عبده دون توبة العبد و إن تبيّن بذلك أمر توبة العبد بطريق اللّزوم فإنّ توبة الله سبحانه إذا تمّت شرائطها لم ينفكّ ذلك من تمام شرائط توبة العبد، و هذا أعني كون الآية في مقام بيان توبة الله سبحانه لا يحتاج إلى مزيد توضيح.

و ثانياً: أنّها تبيّن أمر التوبة أعمّ ممّا إذا تاب العبد من الشرك و الكفر بالإيمان

٢٥٥

أو تاب من المعصية إلى الطاعة بعد الإيمان فإنّ القرآن يسمّي الأمرين جميعاً بالتوبة قال تعالى:( الّذينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ ربّهم وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ للّذين آمَنُوا ربّنا وَسِعْتَ كلّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ للّذين تابُوا وَ اتّبعوا سَبِيلَكَ ) المؤمن: ٧، يريد: للّذين آمَنُوا بقرينة أوّل الكلام فسمّى الإيمان توبة، و قال تعالى:( ثمّ تابَ عَلَيْهِمْ ) التوبة: ١١٨.

و الدليل على أنّ المراد هي التوبة أعمّ من أن تكون من الشرك أو المعصية التعميم الموجود في الآية التالية: و ليست التوبة إلخ فإنّها تتعرّض لحال الكافر و المؤمن معاً، و على هذا فالمراد بقوله:( يَعْمَلُونَ السُّوءَ ) ما يعمّ حال المؤمن و الكافر معاً فالكافر كالمؤمن الفاسق ممّن يعمل السوء بجهالة أمّا لأنّ الكفر من عمل القلب، و العمل أعمّ من عمل القلب و الجوارح، أو لأنّ الكفر لا يخلو من أعمال سيّئة من الجوارح فالمراد من الّذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ الكافر و الفاسق إذا لم يكونا معاندين في الكفر و المعصية.

و أمّا قوله تعالى: بِجَهالَةٍ فالجهل يقابل العلم بحسب الذات غير أنّ الناس لما شاهدوا من أنفسهم أنّهم يعملون كلّاً من أعمالهم الجارية عن علم و إرادة، و أنّ الإرادة إنّما تكون عن حبّ مّا و شوق مّا سواء كان الفعل ممّا ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع أو ممّا لا ينبغي أن يفعل لكن من له عقل مميّز في المجتمع عندهم لا يقدم على السيّئة المذمومة عند العقلاء فأذعنوا بأنّ من اقترف هذه السيّئات المذمومة لهوى نفسانيّ و داعية شهويّة أو غضبيّة خفي عليه وجه العلم، و غاب عنه عقله المميّز الحاكم في الحسن و القبيح و الممدوح و المذموم، و ظهر عليه الهوى و عندئذ يسمّى حاله في علمه و إرادته( جهالة ) في عرفهم و إن كان بالنظر الدقيق نوعاً من العلم لكن لمّا لم يؤثّر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل و ذمّه في ردعه عن الوقوع في القبح و الشناعة اُلحق بالعدم فكان هو جاهلاً عندهم حتّى أنّهم يسمّون الإنسان الشابّ الحدث السنّ قليل التجربة جاهلاً لغلبة الهوى و ظهور العواطف و الإحساسات النيّئة على نفسه، و لذلك أيضاً تراهم لا يسمّون حال مقترف السيّئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيّئة عن الهوى و العاطفة جهالة بل يسمّونها عناداً و عمداً و غير ذلك.

٢٥٦

فتبيّن بذلك أنّ الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى و ظهور الشهوة و الغضب من غير عناد مع الحقّ، و من خواصّ هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنت ثورة القوى و خمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيّئة أو بحلول مانع أو بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الإنسان إلى العلم و زالت الجهالة، و بانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد و تعمّد و نحو ذلك فإن سبب صدوره لمّا لم يكن طغيان شي‏ء من القوى و العواطف و الأميال النفسانيّة بل أمراً يسمّى عندهم بخبث الذات و رداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى و الأميال سريعاً أو بطيئاً بل دام نوعاً بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلّا أن يشاء الله.

نعم ربّما يتّفق أن يرجع المعاند اللّجوج عن عناده و لجاجه و استعلائه على الحقّ فيتواضع للحقّ و يدخل في ذلّ العبوديّة فيكشف ذلك عندهم عن أنّ عناده كان عن جهالة، و في الحقيقة كلّ معصية جهالة من الإنسان، و على هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة و العافية.

و من هنا يظهر معنى قوله تعالى:( ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) أي إنّ عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفاً على طريقته ملازماً لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى و العمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللّجوج بل يرجع عن عمله من قريب فالمراد بالقريب العهد القريب أو الزمان القريب و هو قبل ظهور آيات الآخرة و قدوم الموت.

و كلّ معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جزاء عمله و وبال فعله ألزمته نفسه على الندامة و التبرّي من فعله لكنّه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه و هداية فطرته بل إنّما هي حيلة يحتالها نفسه الشريرة للتخلّص من وبال الفعل، و الدليل عليه أنّه إذا اتّفق تخلّصه من الوبال المخصوص عاد ثانياً إلى ما كان عليه من سيّئات الأعمال قال تعالى:( وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ أنّهم لَكاذِبُونَ ) الأنعام: ٢٨.

و الدليل على أنّ المراد بالقريب في الآية هو ما قبل ظهور آية الموت قوله تعالى في الآية التالية:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ - إلى قوله -قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) .

٢٥٧

و على هذا يكون قوله:( ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) كناية عن المساهلة المفضية إلى فوت الفرصة.

و يتبيّن ممّا مرّ أنّ القيدين جميعاً أعني قوله: بِجَهالَةٍ، و قوله: ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ احترازيّان يراد بالأوّل منهما أن لا يعمل السوء عن عناد و استعلاء على الله، و بالثاني منهما أن لا يؤخّر الإنسان التوبة إلى حضور موته كسلاً و توانياً و مماطلةً إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبوديّة فيكون توبته تعالى أيضاً قبول هذا الرجوع، و لا معنى للعبوديّة إلّا مع الحياة الدنيويّة الّتي هي ظرف الاختيار و موطن الطاعة و المعصية، و مع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشّى معه طاعة أو معصية، قال تعالى:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ ربّك لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) الأنعام ١٥٨، و قال تعالى:( فلمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِالله وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ الله الّتي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ ) المؤمن: ٨٥، إلى غير ذلك من الآيات.

و بالجملة يعود المعنى إلى أنّ الله سبحانه إنّما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكباراً على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع و التذلّل لله، و لم يتساهل و يتسامح في أمر التوبة تساهلاً يؤدّي إلى فوت الفرصة بحضور الموت.

و يمكن أن يكون قوله: بِجَهالَةٍ قيداً توضيحيّاً، و يكون المعنى: للّذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ و لا يكون ذلك إلّا عن جهل منهم فإنّه مخاطرة بالنفس و تعرّض لعذاب أليم، أو لا يكون ذلك إلّا عن جهل منهم بكنه المعصية و ما يترتّب عليها من المحذور، و لازمه كون قوله: ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة في أمر التوبة فإنّ من يأتي بالمعصية استكباراً و لا يخضع لسلطان الربوبيّة يخرج على هذا الفرض بقوله: ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ لا بقوله: بِجَهالَةٍ و على هذا لا يمكن الكناية بقوله: ثمّ يَتُوبُونَ عن التساهل و التواني فافهم ذلك، و لعلّ الوجه الأوّل أوفق لظاهر الآية.

و قد ذكر بعضهم: أنّ المراد بقوله: ثمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أن تتحقّق التوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفاً كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعدّ عرفاً متّصلاً به لا أن يمتدّ إلى حين حضور الموت كما ذكر.

٢٥٨

و هو فاسد لإفساده معنى الآية التالية فإنّ الآيتين في مقام بيان ضابط كلّيّ لتوبة الله سبحانه أي لقبول توبة العبد على ما يدلّ عليه الحصر الوارد في قوله:( إنّما التَّوْبَةُ عَلَى الله للّذين) إلخ و الآية الثانية تبيّن الموارد الّتي لا تقبل فيها التوبة، و لم يذكر في الآية إلّا موردان هما التوبة للمسي‏ء المتسامح في التوبة إلى حين حضور الموت، و التوبة للكافر بعد الموت، و لو كان المقبول من التوبة هو ما يعدّ عرفاً قريباً متّصلاً بزمان المعصية لكان للتوبة غير المقبولة مصاديق اُخر لم تذكر في الآية.

قوله تعالى: ( فَأُولئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَ كانَ الله عَلِيماً حَكِيماً ) الآيتان باسم الإشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم و تعظيم أمرهم كما يدلّ قوله:( يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في الآية الثانية:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ للّذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) إلخ.

و قد اختير لختم الكلام قوله:( وَ كانَ الله عَلِيماً حَكِيماً ) دون أن يقال: و كان الله غفوراً رحيماً للدلالة على أنّ فتح باب التوبة إنّما هو لعلمه تعالى بحال العباد و ما يؤدّيهم إليه ضعفهم و جهالتهم، و لحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان النظام و إصلاح الاُمور و هو تعالى لعلمه و حكمته لا يغرّه ظواهر الأحوال بل يختبر القلوب، و لا يستزلّه مكر و لا خديعة فعلى التائب من العباد أن يتوب حقّ التوبة حتّى يجيبه الله حقّ الإجابة.

قوله تعالى: ( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ للّذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) إلخ في عدم إعادة قوله: عَلَى الله مع كونه مقصوداً ما لا يخفى من التلويح إلى انقطاع الرحمة الخاصّة و العناية الإلهيّة عنهم كما أنّ إيراد السيّئات بلفظ الجمع يدلّ على العناية بإحصاء سيّئاتهم و حفظها عليهم كما تقدّمت الإشارة إليه.

و تقييد قوله: يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ بقوله:( حتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) المفيد لاستمرار الفعل إمّا لأنّ المساهلة في المبادرة إلى التوبة و تسويفها في نفسه معصية مستمرّة متكرّرة، أو لأنّه بمنزلة المداومة على الفعل، أو لأنّ المساهلة في أمر التوبة لا تخلو غالباً عن تكرّر معاص مجانسة للمعصية الصادرة أو مشابهة لها.

و في قوله:( حتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) دون أن يقال: حتّى إذا حضرهم الموت

٢٥٩

دلالة على الاستهانة بالأمر و الاستحقار له أي حتّى يكون أمر التوبة هيّناً هذا الهوان سهلاً هذه السهولة حتّى يعمل الناس ما يهوونه و يختاروا ما يشاؤنه و لا يبالون و كلّما عرض لأحدهم عارض الموت قال: إنّي تبت الآن فتندفع مخاطر الذنوب و مهلكة مخالفة الأمر الإلهيّ بمجرّد لفظ يردّده ألسنتهم أو خطور يخطر ببالهم في آخر الأمر.

و من هنا يظهر معنى تقييد قوله: قالَ إِنِّي تُبْتُ بقوله: الْآنَ فإنّه يفيد أنّ حضور الموت و مشاهدة هذا القائل سلطان الآخرة هما الموجبان له أن يقول تبت سواء ذكره أو لم يذكره فالمعنى: إنّي تائب لما شاهدت الموت الحقّ و الجزاء الحقّ، و قد قال تعالى في نظيره حاكياً عن المجرمين يوم القيامة:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ ربّهم ربّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) السجدة: ١٢.

فهذه توبة لا تقبل من صاحبها لأنّ اليأس من الحياة الدنيا و هول المطّلع هما اللّذان أجبراه على أن يندم على فعله و يعزم على الرجوع إلى ربّه و لات حين رجوع حيث لا حياة دنيويّة و لا خيرة عمليّة.

قوله تعالى: ( وَ لَا الّذينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كفّار ) هذا مصداق آخر لعدم قبول التوبة و هو الإنسان يتمادى في الكفر ثمّ يموت و هو كافر فإنّ الله لا يتوب عليه فإنّ إيمانه و هو توبته لا ينفعه يومئذ، و قد تكرّر في القرآن الكريم أنّ الكفر لا نجاة معه بعد الموت، و أنّهم لا يجابون و إن سألوا، قال تعالى:( إلّا الّذينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كفّار أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) البقرة:١٦٢، و قال تعالى:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كفّار فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ‏ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدى‏ بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) آل عمران:٩١، و نفي الناصرين نفي للشفاعة في حقّهم كما تقدّم في الكلام على الآية في الجزء الثالث من الكتاب.

و تقييد الجملة بقوله: وَ هُمْ كفّار يدلّ على التوبة للعاصي المؤمن إذا مات على المعصية من غير استكبار و لا تساهل فإنّ التوبة من العبد بمعنى رجوعه إلى عبوديّة

٢٦٠