الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 129133
تحميل: 5417


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129133 / تحميل: 5417
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و من ذلك يعلم أنّ الأمر إنّما كان بالمسارعة إلى الإنفاق و كظم الغيظ و العفو عن الناس و الاستغفار.

قوله تعالى: ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا ) ، السنن جمع سنّة و هي الطريقة المسلوكة في المجتمع، و الأمر بالسير في الأرض لمكان الاعتبار بآثار الماضين من الاُمم الغابرة، و الملوك و الفراعنة الطاغية حيث لم ينفعهم شواهق قصورهم، و لا ذخائر كنوزهم، و لا عروشهم و لا جموعهم، و قد جعلهم الله أحاديث يعتبر بها المعتبرون، و يتفكّه بها المغفّلون.

و أمّا حفظ آثارهم و كلائة تماثيلهم و الجهد في الكشف عن عظمتهم و مجدهم الظاهر الدنيويّ الّذي في أيّامهم فممّا لا يعتني به القرآن، فإنّما هي الوثنيّة الّتي لا تزال تظهر كلّ حين في لباس، و سنبحث إن شاء الله في هذا المعنى في بحث مستقلّ نحلّل فيه معنى الوثنيّة.

قوله تعالى: ( هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ ) الآية التقسيم باعتبار التأثير فهو بلاغ و إبانة لبعض و هدىً و موعظة لآخرين.

( بحث روائي‏)

في المجمع في قوله تعالى:( جنّة عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل إذا كانت الجنّة عرضها السماوات و الأرض فأين تكون النار؟ فقال ص: سبحان الله إذا جاء النهار فأين اللّيل؟

أقول: و رواه السيوطيّ في الدرّ المنثور، عن التنوخيّ في كتاب جاء به من هرقل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأله عن هذه الآية فأجاب عنها بذلك‏، و رواه أيضاً بطريق آخر عن أبي هريرة: أنّ رجلاً سأله عن ذلك فأجاب بذلك.

و ما فسّر كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ المراد كون النار في علم الله تعالى - كما أنّ اللّيل عند مجيي‏ء النهار في علم الله تعالى - فإن اُريد أنّ النار لا يعزب عن علمه تعالى فمن المعلوم أنّ هذا الجواب

٢١

لا يدفع الإشكال فإنّ السؤال إنّما هو عن مكان النار لا عن علم الله تعالى بها، و إن اُريد أنّ من الممكن أن يكون هناك مكان آخر وراء السماوات و الأرض تكون النار متمكّنةً فيها فهو و إن لم يكن مستبعداً في نفسه لكن مقايسة الجنّة و النار بالنهار و اللّيل حينئذ لا تكون في محلّها، فإنّ اللّيل لا يخرج عن حيطة السماوات و الأرض عند مجيي‏ء النهار فالحقّ أنّه تفسير غير مرضيّ.

و أظنّ أنّ الرواية ناظرة إلى معنى آخر و توضيحه: أنّ الآخرة بنعيمها و جحيمها و إن كانت مشابهةً للدنيا و لذائذها و آلامها و كذلك الإنسان الحالّ فيها و إن كان هو الإنسان الّذي في الدنيا بعينه على ما هو مقتضى ظواهر الكتاب و السنّة غير أنّ النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا، فإنّما الآخرة دار أبديّة و بقاء، و الدنيا دار زوال و فناء، و لذلك كان الإنسان يأكل و يشرب و ينكح و يتمتّع في الجنّة فلا يعرضه ما يعرض هذه الأفعال في الدنيا، و كذلك الإنسان يحترق بنار الجحيم، و يقاسي الآلام و المصائب في مأكله و مشربه و مسكنه و قرينه في النار و لا يطرأ عليه ما يطرأ عليه معها و هو في الدنيا، و يعمّر عمر الأبد و لا يؤثّر فيه ذلك كهولةً أو شيباً أو هرماً و هكذا، و ليس إلّا أنّ العوارض و الطواري المذكورة من لوازم النظام الدنيويّ دون مطلق النظام الأعمّ منه و من النظام الاُخرويّ، فالدنيا دار التزاحم و التمانع دون الآخرة.

و ممّا يدلّ عليه أنّ الّذي نجده في ظرف مشاهدتنا من الحوادث الواقعة يغيب عنّا إذا شاهدنا غيره ثانياً كحوادث الأمس و حوادث اليوم، و اللّيل و النهار و غير ذلك، و أمّا الله سبحانه فلا يغيب عنه هذا الّذي نشاهده أوّلاً و يغيب عنّا ثانياً و لا الّذي نجده بعده و لا مزاحمة بينهما، فاللّيل و النهار و كذا الحوادث المقارنة لهما متزاحمات متمانعات بحسب نظام المادّة و الحركة، و هي بعينها لا تتزاحم و لا تتمانع بحسب نظام آخر، و يستفاد ذلك من قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ ربّك كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثمّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثمّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ) الفرقان: ٤٦.

و إذا أمكن ذلك في مثل اللّيل و النهار و هما متزاحمان جاز في السماوات و الأرض أن تسع ما يساويهما سعة، و تسع مع ذلك شيئاً آخر يساويه مقداراً كالجنّة و النار مثلاً

٢٢

لكن لا بحسب نظام هذه الدار بل بحسب نظام الآخرة، و لهذا نظائر في الأخبار كما ورد: أنّ القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار، و ما ورد: أنّ المؤمن يوسّع له في قبره مدّ بصره.

فعلى هذا ينبغي أن يحمل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سبحان الله إذا جاء النهار فأين اللّيل؟ لظهور أن لو كان المراد أنّ الله سبحانه لا يجهل اللّيل إذا علم بالنهار لم يرتبط بالسؤال، و كذا لو كان المراد أنّ اللّيل يبقى في الخارج مع مجيي‏ء النهار اعترض عليه السائل بأنّ اللّيل يبطل مع وجود النهار إذا قيسا إلى محلّ واحد من مناطق الأرض، و إن اعتبرا من حيث نفسهما فاللّيل بحسب الحقيقة ظلّ مخروط حادث من إنارة الشمس، و هو يدور حول الكرة الأرضيّة بحسب الحركة اليوميّة فاللّيل و النهار سائران حول الأرض دائماً من غير بطلان و لا عينيّه.

و للرواية نظائر بين الروايات كما ورد في تفسير قوله تعالى:( لِيَمِيزَ الله الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) الأنفال: ٣٧ من قولهعليه‌السلام : إذا غابت الشمس فأين يصير هذا الشعاع المنبسط على الأرض؟ الحديث، و سيجي‏ء البحث عنها.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ) الآية: أخرج البيهقيّ عن عليّ بن الحسّين: إنّ جارية جعلت تسكب عليه الماء يتهيّأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجّه فرفع رأسه إليها، فقالت: إنّ الله يقول:( وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، قال: قد كظمت غيظي، قالت:( وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ، قال: قد عفا الله عنك، قالت:( وَ الله يُحبّ الْمُحسنينَ ) ، قال: اذهبي فأنت حرّة.

أقول: و هو مرويّ من طرق الشيعة أيضاً، و ظاهر الرواية أنّهعليه‌السلام يفسّر الإحسان بما يزيد على هذه الصفات و هو كذلك بحسب إطلاق مفهومه غير أنّ الصفات المذكورة قبله من لوازم معناه فمن الممكن أن يعرّف بها الإحسان.

و اعلم أنّ هناك روايات كثيرة جدّاً في حسن الخلق و سائر الأخلاق الفاضلة كالإنفاق و الكظم و العفو و نحوها واردة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أخّرنا إيرادها إلى محلّ آخر أنسب لها.

٢٣

و في المجالس، عن عبد الرحمن بن غنم الدوسيّ أنّ قوله تعالى:( وَ الّذينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ) إلخ نزل في بهلول النبّاش، و كان ينبش القبور فنبش قبر واحدة من بنات الأنصار فأخرجها و نزع أكفانها - و كانت بيضاء جميلة - فسوّل له الشيطان فزنى بها ثمّ ندم فجاء إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فردّه، ثمّ اعتزل الناس و انقطع عنهم يتعبّد و يتبتّل في بعض جبال المدينة حتّى قبل الله توبته و نزل فيه القرآن.

أقول: و الرواية مفصّلة نقلناها ملخّصة، و لو صحّت الرواية لكانت سبباً آخر لنزول الآية غير السبب الواحد الشامل لمجموع آيات القصّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى:( وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ ما فَعَلُوا ) الآية قال: الإصرار أن يذنب المذنب فلا يستغفر الله و لا يحدّث نفسه بتوبة فذلك الإصرار.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قال إبليس: يا ربّ و عزّتك لا أزال اُغوي بني آدم ما كانت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: و عزّتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.

و في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : لا صغيرة مع الإصرار، و لا كبيرة مع الاستغفار.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام في حديث قال: و في كتاب الله نجاة من الردى، و بصيرة من العمى، و شفاء لما في الصدور فيما أمركم الله به من الاستغفار و التوبة قال الله:( وَ الّذينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا الله وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) ، و قال:( وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثمّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً ) ، فهذا ما أمر الله به من الاستغفار، و اشترط معه التوبة و الإقلاع عمّا حرّم الله فإنّه يقول:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) ، و بهذه الآية يستدلّ أنّ الاستغفار لا يرفعه إلى الله إلّا العمل الصالح و التوبة.

أقول: قد استفادعليه‌السلام الإقلاع و عدم العود بعد التوبة من نفي الإصرار، و كذا احتياج التوبة و الاستغفار إلى صالح العمل بعده من عموم الكلم الطيّب في قوله:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) الآية.

٢٤

و في المجالس عن الصادقعليه‌السلام قال: لمّا نزلت هذه الآية:( وَ الّذينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ) ، صعد إبليس جبلاً بمكّة يقال له ثور فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا له: يا سيّدنا لم تدعونا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا فقال: لست لها، فقام آخر فقال مثل ذاك فقال: لست لها، فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها قال: بماذا؟ قال أعدهم و اُمنيّهم حتّى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوها أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكّله بها إلى يوم القيامة.

أقول: و الرواية مرويّة من طرق أهل السنّة أيضاً.

٢٥

( سورة آل عمران الآيات ١٣٩ - ١٤٨)

وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ( ١٣٩) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ( ١٤٠) وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ( ١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ( ١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ( ١٤٣) وَمَا مُحمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ( ١٤٤) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ كِتَابَاً مُؤَجّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوابَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ( ١٤٥) وَكَأَيّنَ مِنْ نَبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ( ١٤٦) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ( ١٤٧) فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ( ١٤٨)

( بيان)

الآيات كما ترى تتمّة للآيات السابقة المبتدئة بقوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) ، كما أنّ الآيات السابقة بأوامرها و نواهيها توطئة لهذه الآيات الّتي تشتمل على أصل المقصود من أمر و نهي و ثناء و توبيخ.

٢٦

قوله تعالى: ( وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) الوهن: هو الضعف في خلق أو خلق على ما ذكره الراغب، و المراد به هنا ضعفهم من حيث العزيمة و الاهتمام على إقامة الدين و قتال أعدائه، و الحزن خلاف الفرح و إنّما يعرض الإنسان بفقده شيئاً يملكه ممّا يحبّه أو أمراً يقدّر نفسه مالكة له.

و في قوله تعالى:( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ) ، دلالة على أنّ سبب وهنهم و حزنهم ما شاهدوه من إصابة القرح إيّاهم، و استعلاء الكفّار عليهم، فإنّ المشركين و إن لم ينالوا كلّ الغلبة و الظفر على المؤمنين و لم تختتم الوقعة على الانهزام التامّ من المؤمنين لكنّ الّذي أصاب المؤمنين كان أشدّ و أوجع و هو شهادة سبعين من سراتهم و شجعانهم، و وقوع ما وقع في عقر دارهم فكان هذا سبب وهنهم و حزنهم، و وقوع قوله:( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) إلخ موقع التعليل هو الوجه في كون هذين النهيين نهياً عن وهن و حزن واقعين لا مقدّرين و لا متوقّعين.

و قد اُطلق قوله: الْأَعْلَوْنَ من غير تقييد و لكن اشترط بالإيمان فمحصّل المعنى: لا ينبغي لكم أن تهنوا في عزمكم، و لا أن تحزنوا لما فاتكم من الظفر على أعدائكم، و الانتصار منهم إن كان فيكم الإيمان، فإنّ الإيمان أمر يستصحب علاءكم البتّة إذ هو يلازم التقوى و الصبر و فيهما ملاك الفتح و الظفر، و أمّا القرح الّذي أصابكم فلستم بمتفرّدين فيه بل القوم - و هم المشركون - قد أصابهم مثله فلم يسبقوكم في شي‏ء حتّى يوجب ذلك وهنكم و حزنكم.

و اشتراط علوّهم بالإيمان مع كون الخطاب للّذين آمنوا إنّما هو للإشارة إلى أنّ الجماعة و إن كانوا لا يفقدون الإيمان إلّا أنّهم غير عاملين بما يقتضيه من الصفات كالصبر و التقوى و إلّا لأثّر أثره.

و هذا حال كلّ جماعة مختلفة الحال في الإيمان فيهم المؤمن حقّاً و الضعيف إيماناً و المريض قلباً، و يكون مثل هذا الكلام تنشيطاً لنفس مؤمنهم، و عظةً لضعيفهم و عتاباً و تأنيباً لمريضهم.

قوله تعالى: ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ) القرح - بفتح القاف -

٢٧

الأثر من الجراحة من شي‏ء يصيبه من خارج، و القرح - بالضمّ - أثرها من داخل كالبثرة و نحوها - قاله الراغب - و كأنّه كناية عمّا أصابهم يوم اُحد بفرض مجموع المسلمين شخصاً واحداً أصابه جراحة من عدوّه و هو قتل من قتل منهم، و جراحة من جرح منهم، و فوت النصر و الفتح بعد ما أطلّا عليهم.

و هذه الجملة أعني قوله:( إِنْ يَمْسَسْكُمْ ) إلخ و ما بعدها من الجمل المتّسقة إلى قوله:( وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) في موضع التعليل كما مرّ لقوله:( وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا ) كما أنّ قوله:( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) تعليل آخر.

و الفرق بين النوعين من التعليل أنّ الأوّل أعني قوله:( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) إلخ، تعليل من طريق التخطئة لظنّهم، فإنّهم إنّما وهنوا و حزنوا لما ظنّوا علاء المشركين عليهم فخطّأهم الله بأنّ ملاك العلاء معكم إن كنتم مؤمنين لا مع المشركين، و قد قال تعالى:( كانَ حقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) الروم: ٤٧.

و أمّا الثاني فمن طريق بيان حال الفريقين - المؤمنين و المشركين - أو بيان الحكم و المصالح الّتي ترجع إلى أصل واحد و هو السنّة الإلهيّة الجارية بمداولة الأيّام بين الناس.

قوله تعالى: ( وَ تِلْكَ الْأيّام نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ ) اليوم هو المقدار المعتدّ به من الزمان اللّازم لحدوث الحوادث فيختلف باختلاف الحوادث، و قد شاع استعماله فيما بين طلوع الشمس و غروبها، و ربّما استعمل في الملك و السلطنة و القهر و نحوها بعلاقة الظرف و المظروف، فيقال يوم جماعة كذا و يوم آل فلان أي تقدّمهم و حكومتهم على غيرهم، و قد يقال لنفس الزمان الّذي وقع فيه ذلك، و المراد بالأيّام في الآية هو هذا المعنى. و المداولة جعل الشي‏ء يتناوله واحد بعد آخر. فالمعنى: أنّ السنّة الإلهيّة جرت على مداولة الأيّام بين الناس من غير أن توقف على قوم و يذبّ عنها قوم لمصالح عامّة تتّبع هذه السنّة لا تحيط أفهامكم إلّا ببعضها دون جميعها.

قوله تعالى: ( وَ لِيَعْلَمَ الله الّذينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ ) إلخ عطف على محذوف حذف للتلويح على أنّه ممّا لا تحيط به الأفهام و لا تدركه العقول إلّا من بعض

٢٨

جهاتها، و الّذي ينفع المؤمنين العلم به هو ما ذكره بقوله:( وَ لِيَعْلَمَ الله الّذينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ ) إلخ و بقوله:( وَ لِيُمَحِّصَ الله الّذينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) .

أمّا قوله:( وَ لِيَعْلَمَ الله الّذينَ آمَنُوا ) ، فالمراد به ظهور إيمان المؤمنين بعد بطونه و خفائه، فإنّ علمه تعالى بالحوادث و الأشياء في الخارج عين وجودها فيه فإنّ الأشياء معلومة له تعالى بنفس وجودها لا بصورة مأخوذة منها نظير علومنا و إدراكاتنا و هو ظاهر، و لازم ذلك أن يكون إرادته تعالى العلم بشي‏ء هي إرادة تحقّقه و ظهوره و حيث قال:( وَ لِيَعْلَمَ الله الّذينَ آمَنُوا ) ، فأخذ وجودهم محقّقاً أفاد ذلك إرادة ظهور إيمانهم، و إذا كان ذلك على سنّة الأسباب و المسبّبات لم يكن بدّ من وقوع اُمور توجب ظهور إيمان المؤمن بعد خفائه فافهم ذلك.

و أمّا قوله:( وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ ) ، فالشهداء شهداء الأعمال و أمّا الشهداء بمعنى المقتولّين في معركة القتال فلا يعهد استعماله في القرآن، و إنّما هو من الألفاظ المستحدثة الإسلاميّة، كما مرّ في قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ ) البقرة: ١٤٣ على أنّ قوله:( وَ يَتَّخِذَ ) ، أيضاً لا يلائم الشهداء بمعنى المقتولين في المعركة كثير ملائمة، فلا يقال: اتّخذ الله فلاناً مقتولاً في سبيله و شهيداً كما يقال: اتّخذ الله إبراهيم خليلاً، و اتّخذ الله موسى كليماً، و اتّخذ الله النبيّ شهيداً يشهد على اُمّته يوم القيامة.

و قد غيّر السياق فقال: و يتّخذ منكم شهداء، و لم يقل: و يتّخذهم شهداء لأنّ الشهادة و إن اُضيفت إلى الاُمّة في قوله:( وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) البقرة: ١٤٣ إلّا أنّها من قبيل وصف البعض المضاف إلى الكلّ، و الشهداء بعض الاُمّة دون كلّهم، و قد مرّ بيان ذلك في سورة البقرة، و يمكن أن يتأيّد هذا الّذي ذكرناه بقوله بعده:( وَ الله لا يُحبّ الظَّالِمِينَ ) .

و أمّا قوله:( وَ لِيُمَحِّصَ الله الّذينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) فالتمحيص هو تخليص الشي‏ء من الشوائب الخارجة، و المحق إنفاد الشي‏ء تدريجاً و إزالته شيئاً فشيئاً، و هذا التمحيص من حكم مداولة الأيّام و مصالحها، و هو غير العلم بالّذين آمنوا الّذي

٢٩

هو أيضاً من حكم مداولة الأيّام، فإنّ تمييز المؤمن من غير المؤمن أمر و تخليص إيمانه بعد التمييز من شوائب الكفر و النفاق و الفسوق أمر آخر، و لذلك قوبل بالمحق للكافرين، فالله سبحانه يزيل أجزاء الكفر و نحوه من المؤمن شيئاً فشيئاً حتّى لا يبقى إلّا إيمانه، فيكون خالصاً لله، و يبيد أجزاء الكفر و الشرك و الكيد من الكافر شيئاً فشيئاً حتّى لا يبقى شي‏ء.

فهذه وجوه من الحكمة في مداولته تعالى الأيّام بين الناس، و عدم استمرار الدولة بين قوم خاصّ، و لله الأمر كلّه يفعل ما يشاء، و لا يفعل إلّا الأصلح الأنفع كما قال:( كَذلِكَ يَضْرِبُ الله الحقّ وَ الْباطِلَ فأمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أمّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) رعد: ١٧ و قال الله تعالى قبيل هذه الآيات:( لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الّذينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ ) فنفى أن يكون لنبيه من الأمر شي‏ء، و قصر الأمر في نفسه يحكم في خلقه كيف يشاء.

و هذا الكلام أعني ما يبيّن أنّ الأيّام مقسومة بين الناس لغرض الامتحان و تمييز المؤمن من الكافر و تمحيص المؤمنين و محق الكافرين مع ما مرّ من نفي رجوع الأمر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكشف عن أنّ المؤمنين كان يظنّ أكثرهم أنّ كونهم على دين الحقّ سبب تامّ في غلبتهم أينما غزوا و ظهورهم على الباطل كيفما كانوا، فهم يملكون الأمر لا يدفعون عن ذلك، و قد أجرأهم على هذا الحسبان ما شاهدوه يوم بدر من ظهورهم العجيب على عدوّهم و نزول ملائكة النصر، و هذا ظنّ فاسد يوجب بطلان نظام الامتحان و التمحيص و في ذلك بطلان مصلحة الأمر و النهي و الثواب و العقاب، و يؤدّي ذلك إلى انهدام أساس الدين فإنّما الدين دين الفطرة غير مبنيّ على خرق العادة الجارية و السنّة الإلهيّة القائمة في الوجود بابتناء الغلبة و الهزيمة على أسبابهما العاديّة.

شرح سبحانه - بعد بيان أنّ الأيّام دول متداولة لغرض الامتحان و الابتلاء - في ملامتهم في حسبان هذا النظر الباطل و بيان حقيقة الحال فقال:( أَمْ حسبتُمْ ) إلى آخر الآيات.

قوله تعالى: ( أَمْ حسبتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجنّة وَ لَمَّا يَعْلَمِ الله ) إلى آخر الآيتين و هذا

٣٠

أعني ظنّهم أن يدخلوا الجنّة من غير أن يمتحنوا لازم الظنّ المذكور آنفاً، و هو أنّهم لمّا كانوا على الحقّ و الحقّ لا يغلب عليه فأمر الظفر و الغلبة إليهم، لن ينهزموا و لن يغلبوا أبداً، و من المعلوم أن لازم هذا الظنّ أن يكون كلّ من آمن بالنبيّ و لحق بجماعة المؤمنين سعيداً في دنياه بالغلبة و الغنيمة، و سعيداً في آخرته بالمغفرة و الجنّة، و يبطل الفرق بين ظاهر الإيمان و حقيقته و يرتفع التمايز بين الدرجات، فإيمان المجاهد و إيمان المجاهد الصابر واحد، و من تمنّى خيراً ففعله إذا حان حينه كان كمن تمنّى خيراً ثمّ تولّى إذا أصابه.

و على هذا فقوله:( أَمْ حسبتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا ) إلخ من قبيل وضع المسبّب موضع السبب أي حسبتم أنّ الدولة مكتوبة لكم فأنتم لا تبتلون بل تدخلون الجنّة من غير أن يتميّز المستحقّ لها منكم من غير المستحقّ، و صاحب الدرجة الرفيعة منكم من غيره؟.

و أمّا قوله تعالى:( وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ ) الآية ففيه تثبيت أنّ ظنّهم ذاك كان فاسداً فإنّهم كانوا يتمنّون الموت قبل حضور الغزوة حتّى إذا حضرت و رأوه رأي العين لم يقدموا و لم يتناولوا ما كانوا يتمنّونه، بل فشلوا و تولّوا عن القتال، فهل كان من الجائز أن يدخلوا الجنّة بمجرّد هذا التمنّي من غير أن يمتحنوا أو يمحصّوا؟ أو لم يكن من الواجب أن يختبروا؟.

و بهذا يظهر أنّ في الكلام تقديراً، و المعنى: فقد رأيتموه و أنتم تنظرون فلم تقدموا عليه، و يمكن أن يكون قوله: تنظرون كناية عن عدم إقدامهم أي تكتفون بمجرّد النظر من غير إقدام، و فيه عتاب و توبيخ.

( كلام في الامتحان و حقيقته)

لا ريب أنّ القرآن الكريم يخصّ أمر الهداية بالله سبحانه غير أنّ الهداية فيه لا تنحصر في الهداية الاختياريّة إلى سعادة الآخرة أو الدنيا فقد قال تعالى فيما قال:( الّذي أَعْطى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثمّ هَدى) طه: ٥٠، فعمّم الهداية لكلّ شي‏ء من ذوي الشعور و العقل و غيرهم، و أطلقها أيضاً من جهة الغاية، و قال أيضاً:( الّذي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الّذي

٣١

قَدَّرَ فَهَدى) الأعلى: ٣، و الآية من جهة الإطلاق كسابقتها.

و من هنا يظهر أنّ هذه الهداية غير الهداية الخاصّة الّتي تقابل الإضلال فإنّ الله سبحانه نفاها و أثبت مكانها الضلال في طوائف و الهداية العامّة لا تنفي عن شي‏ء من خلقه، قال تعالى:( وَ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الجمعة: ٥، و قال:( وَ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) الصفّ: ٥، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و كذا يظهر أيضاً أنّ الهداية المذكورة غير الهداية بمعنى إراءة الطريق العامّة للمؤمن و الكافر كما في قوله تعالى:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أمّا شاكِراً وَ أمّا كَفُوراً ) الدهر: ٣، و قوله:( وَ أمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى‏ عَلَى الْهُدى ) حم السجدة: ١٧، فإنّ ما في هاتين الآيتين و نظائرهما من الهداية لا يعمّ غير أرباب الشعور و العقل و قد عرفت أنّ ما في قوله: ثمّ هَدى‏ و قوله:( وَ الّذي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) عامّ من حيث المورد و الغاية جميعاً. على أنّ الآية الثانية تفرّع الهداية على التقدير، و الهداية الخاصّة لا تلائم التقدير الّذي هو تهيئة الأسباب و العلل لسوق الشي‏ء إلى غاية خلقته، و إن كانت تلك الهداية أيضاً من جهة النظام العامّ في العالم داخلة في حيطة التقدير لكنّ النظر غير النظر فافهم ذلك.

و كيف كان فهذه الهداية العامّة هي هدايته تعالى كلّ شي‏ء إلى كمال وجوده، و إيصاله إلى غاية خلقته، و هي الّتي بها نزوع كلّ شي‏ء إلى ما يقتضيه قوام ذاته من نشوء و استكمال و أفعال و حركات و غير ذلك، و للكلام ذيل طويل سنشرحه إن ساعدنا التوفيق إن شاء الله العزيز.

و الغرض أنّ كلامه تعالى يدلّ على أنّ الأشياء إنّما تنساق إلى غاياتها و آجالها بهداية عامّة إلهيّة لا يشذّ عنها شاذّ، و قد جعلها الله تعالى حقّاً لها على نفسه و هو لا يخلف الميعاد، كما قال تعالى:( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى‏ وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى) الليل: ١٣، و الآية كما ترى تعمّ بإطلاقها الهداية الاجتماعيّة للمجتمعات و الهداية الفرديّة مضافة إلى ما تدلّ عليه الآيتان السابقتان.

فمن حقّ الأشياء على الله تعالى هدايتها تكويناً إلى كمالها المقدّر لها و هدايتها

٣٢

إلى كمالها المشرّع لها، و قد عرفت فيما مرّ من مباحث النبوّة أنّ التشريع كيف يدخل في التكوين و كيف يحيط به القضاء و القدر فإنّ النوع الإنسانيّ له نوع وجود لا يتمّ أمره إلّا بسلسلة من الأفعال الاختياريّة الإراديّة الّتي لا تقع إلّا عن اعتقادات نظريّة و عمليّة فلا بدّ أن يعيش تحت قوانين حقّة أو باطلة، جيّدة أو رديّة، فلا بدّ لسائق التكوين أن يهيّئ له سلسلة من الأوامر و النواهي (الشريعة) و سلسلة اُخرى من الحوادث الاجتماعيّة و الفرديّة حتّى يخرج بتلاقيه معهما ما في قوّته إلى الفعل فيسعد أو يشقى و يظهر ما في مكمن وجوده، و عند ذلك ينطبق على هذه الحوادث و هذا التشريع اسم المحنة و البلاء و نحوهما.

توضيح ذلك أنّ من لم يتّبع الدعوة الإلهيّة و استوجب لنفسه الشقاء فقد حقّت عليه كلمة العذاب إن بقي على تلك الحال، فكلّ ما يستقبله من الحوادث المتعلّقة بها الأوامر و النواهي الإلهيّة و يخرج بها من القوّة إلى الفعل تتمّ له بذلك فعليّة جديدة من الشقاء و إن كان راضياً بما عنده مغروراً بما يجده، فليس ذلك إلّا مكراً إلهيّا فإنّه يشقيهم بعين ما يحسبونه سعادةً لأنفسهم و يخيّب سعيهم في ما يظنّونه فوزاً لأنفسهم، قال تعالى:( وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ الله وَ الله خَيْرُ الْماكِرِينَ ) آل عمران: ٥٤، و قال:( وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلّا بِأَهْلِهِ ) فاطر: ٤٣، و قال:( لِيَمْكُرُوا فِيها وَ ما يَمْكُرُونَ إلّا بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ ) الأنعام: ١٢٣، و قال:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) الأعراف: ١٨٣، فما يتبجّح به المغرور الجاهل بأمر الله أنّه سبق ربّه في ما أراده منه بالمخالفة و التمرّد فإنّه يعينه على نفسه فيما أراده، قال تعالى:( أَمْ حسب الّذينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) العنكبوت: ٤، و من أعجب الآيات في هذا الباب قوله تعالى:( فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جميعاً ) الرعد: ٤٢.

فجميع هذه المماكرات و المخالفات و المظالم و التعدّيات الّتي تظهر من هؤلاء بالنسبة إلى الوظائف الدينيّة، و كلّ ما يستقبلهم من حوادث الأيّام و يظهر بها منهم ما أضمروه في قلوبهم و دعتهم إلى ذلك أهواؤهم، مكر إلهيّ و إملاء و استدراج فإنّ من حقّهم على الله أن يهديهم إلى عاقبة أمرهم و خاتمته و قد فعل، و الله غالب على أمره.

٣٣

و هذه الاُمور بعينها إذا نسبت إلى الشيطان كانت أقسام الكفر و المعاصي إغواءً منه لهم، و النزوع إليها دعوة و وسوسة و نزعة و وحياً و إضلالاً، و الحوادث الداعية و ما يجري مجراها زينة له و وسائل و حبائل و شبكات منه على ما سيجيي‏ء بيانه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

و أمّا المؤمن الّذي رسخ في قلبه الإيمان فما تظهر منه من الطاعات و العبادات و كذا الحوادث الّتي تستقبله فيظهر منه عندها ذلك، ينطبق عليها مفهوم التوفيق و الولاية الإلهيّة و الهداية بالمعنى الأخصّ نوع انطباق، قال تعالى:( وَ الله يؤيّد بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ ) آل عمران: ١٣، و قال:( وَ الله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران: ٦٨، و قال:( الله وَلِيُّ الّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) البقرة: ٢٥٧، و قال:( يَهْدِيهِمْ ربّهم بِإِيمانِهِمْ ) يونس: ٩، و قال:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام: ١٢٢، هذا إذا نسبت هذه الاُمور إلى الله سبحانه، و أمّا إذا نسبت إلى الملائكة فتسمّى تأييداً و تسديداً منهم، قال تعالى:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢.

ثمّ إنّه كما أنّ الهداية العامّة تصاحب الأشياء من بدء كونها إلى آخر أحيان وجودها ما دامت سالكة سبيل الرجوع إلى الله سبحانه كذلك المقادير تدفعها من ورائها كما هو ظاهر قوله تعالى:( وَ الّذي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) الأعلى: ٣، فإنّ المقادير الّتي تحملها العلل و الأسباب المحتفّة بوجود الشي‏ء هي الّتي تحوّل الشي‏ء من حال اُولى إلى حال ثانية و هلمّ جرّاً فهي لا تزال تدفع الأشياء من ورائها.

و كما أنّ المقادير تدفعها من ورائها كذلك الآجال (و هي آخر ما ينتهي إليه وجود الأشياء) تجذبها من أمامها كما يدلّ عليه قوله تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إلّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ الّذينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ) الأحقاف: ٣، فإنّ الآية تربط الأشياء بغاياتها و هي الآجال، و الشيئان المرتبطان إذا قوي أحدهما على الآخر كان حاله بالنسبة إلى قرينه هو المسمّى جذباً و الآجال المسمّاة اُمور ثابتة غير متغيّرة فهي تجذب الأشياء من أمامها و هو ظاهر.

٣٤

فالأشياء محاطة بقوى إلهيّة: قوّة تدفعها، و قوّة تجذبها، و قوّة تصاحبها و تربّيها و هي القوى الأصليّة الّتي تثبتها القرآن الكريم غير القوى الحافظة و الرقباء و القرناء كالملائكة و الشياطين و غير ذلك.

ثمّ إنّا نسمّي نوع التصرّفات في الشي‏ء إذا قصد به مقصد لا يظهر حاله بالنسبة إليه: هل له صلوحه أو ليس له؟ بالامتحان و الاختبار، فإنّك إذا جهلت حال الشي‏ء أنّه هل يصلح لأمر كذا أو لا يصلح؟ أو علمت باطن أمره و لكن أردت أن يظهر منه ذلك أوردت عليه أشياء ممّا يلائم المقصد المذكور حتّى يظهر حاله بذلك هل يقبلها لنفسه أو يدفعها عن نفسه؟ و تسمّي ذلك امتحاناً و اختباراً و استعلاماً لحاله، أو ما يقاربها من الألفاظ.

و هذا المعنى بعينه ينطبق على التصرّف الإلهيّ بما يورده من الشرائع و الحوادث الجارية على اُولي الشعور و العقل من الأشياء كالإنسان، فإنّ هذه الاُمور يظهر بها حال الإنسان بالنسبة إلى المقصد الّذي يدعى إليه الإنسان بالدعوة الدينيّة فهي امتحانات إلهيّة.

و إنّما الفرق بين الامتحان الإلهيّ و ما عندنا من الامتحان أنّا لا نخلو غالباً عن الجهل بما في باطن الأشياء فنريد بالامتحان استعلام حالها المجهول لنا، و الله سبحانه يمتنع عليه الجهل و عنده مفاتح الغيب، فالتربية العامّة الإلهيّة للإنسان من جهة دعوته إلى حسن العاقبة و السعادة امتحان لأنّه يظهر و يتعيّن بها حال الشي‏ء أنّه من أهل أيّ الدارين دار الثواب أو دار العقاب؟

و لذلك سمّى الله تعالى هذا التصرّف الإلهيّ من نفسه أعني التشريع و توجيه الحوادث بلاءً و ابتلاءً و فتنةً فقال بوجه عامّ:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحسن عَمَلًا ) الكهف: ٧، و قال:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) الدهر: ٢، و قال:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: ٣٥، و كأنّه يريد به ما يفصّله قوله:( فأمّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَ أمّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) الفجر: ١٦، و قال:( إنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) التغابن: ١٥، و قال:( وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) محمّد: ٤، و قال:( كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) الأعراف: ١٦٣، و قال:( وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حسناً )

٣٥

الأنفال: ١٧، و قال:( أَ حسب النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الّذينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ) العنكبوت: ٣.

و قال في مثل إبراهيم:( وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ) البقرة: ١٢٤، و قال في قصّة ذبح إسماعيل:( أنّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) الصافّات: ١٠٦، و قال في موسى:( وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً ) طه: ٤٠، إلى غير ذلك من الآيات.

و الآيات كما ترى تعمّم المحنة و البلاء لجميع ما يرتبط به الإنسان من وجوده و أجزاء وجوده كالسمع و البصر و الحياة، و الخارج من وجوده المرتبط به بنحو كالأولاد و الأزواج و العشيرة و الأصدقاء و المال و الجاه و جميع ما ينتفع به نوع انتفاع، و كذا مقابلات هذه الاُمور كالموت و سائر المصائب المتوجّهة إليه، و بالجملة الآيات تعدّ كلّ ما يرتبط به الإنسان من أجزاء العالم و أحوالها فتنة و بلاءً من الله سبحانه بالنسبة إليه.

و فيها تعميم آخر من حيث الأفراد فالكلّ مفتّنون مبتلون من مؤمن أو كافر، و صالح أو طالح، و نبيّ أو من دونه، فهي سنّة جارية لا يستثني منها أحد.

فقد بان أنّ سنّة الامتحان سنّة إلهيّة جارية، و هي سنّة عمليّة متّكئة على سنّة اُخرى تكوينيّة و هي سنّة الهداية العامّة الإلهيّة من حيث تعلّقها بالمكلّفين كالإنسان و ما يتقدّمها و ما يتأخّر عنها أعني القدر و الأجل كما مرّ بيانه.

و من هنا يظهر أنّها غير قابلة للنسخ فإنّ انتساخها عين فساد التكوين و هو محال، و يشير إلى ذلك ما يدلّ من الآيات على كون الخلقة على الحقّ، و ما يدلّ على كون البعث حقّاً كقوله تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إلّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣، و قوله تعالى:( أَ فَحسبتُمْ إنّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) المؤمنون: ١١٥، و قوله تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إلّا بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) الدخان: ٣٩، و قوله تعالى:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لَآتٍ ) العنكبوت: ٥، إلى غيرها فإنّ جميعها تدلّ على أنّ الخلقة بالحقّ و ليست باطلة مقطوعة عن الغاية، و إذا كانت أمام الأشياء غايات و آجال حقّة و من ورائها مقادير حقّة و معها هداية حقّة فلا مناص عن تصادمها عامّة، و ابتلاء أرباب التكليف

٣٦

منها خاصّة باُمور يخرج بالاتّصال بها ما في قوّتها من الكمال و النقص و السعادة و الشقاء إلى الفعل، و هذا المعنى في الإنسان المكلّف بتكليف الدين امتحان و ابتلاء فافهم ذلك.

و يظهر ممّا ذكرناه معنى المحق و التمحيص أيضاً، فإنّ الامتحان إذا ورد على المؤمن فأوجب امتياز فضائله الكامنة من الرذائل، أو ورد على الجماعة فاقتضى امتياز المؤمنين من المنافقين و الّذين في قلوبهم مرض صدق عليه اسم التمحيص و هو التمييز.

و كذا إذا توالت الامتحانات الإلهيّة على الكافر و المنافق و في ظاهرهما صفات و أحوال حسنة مغبوطة فأوجبت تدريجاً ظهور ما في باطنهما من الخبائث، و كلّما ظهرت خبيثة أزالت فضيلة ظاهريّة كان ذلك محقاً له أي إنفاداً تدريجيّاً لمحاسنها، قال تعالى:( وَ تِلْكَ الْأيّام نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ الله الّذينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ الله لا يُحبّ الظَّالِمِينَ وَ لِيُمَحِّصَ الله الّذينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) آل عمران: ١٤١.

و للكافرين محق آخر من جهة ما يخبره تعالى أنّ الكون ينساق إلى صلاح البشر و خلوص الدين لله، قال تعالى:( وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) طه: ١٣٢، و قال:( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء: ١٠٥.

قوله تعالى: ( وَ ما محمّد إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) الموت زهاق الروح و بطلان حياة البدن، و القتل هو الموت إذا كان مستنداً إلى سبب عمديّ أو نحوه، و الموت و القتل إذا افترقا كان الموت أعمّ من القتل، و إذا اجتمعا كان الموت هو ما بحتف الأنف و القتل خلافه.

و انقلب على عقبيه أي رجع قال الراغب: و رجع على عقبيه إذا انثنى راجعاً، و انقلب على عقبيه نحو رجع على حافرته، و نحو ارتدّا على آثارهما قصصاً، و قولهم رجع عوده إلى بدئه، انتهى.

و حيث جعل الانقلاب على الأعقاب جزاءً للشرط الّذي هو موت الرسول أو قتله أفاد ذلك أنّ المراد به الرجوع عن الدين دون التولّي عن القتال إذ لا ارتباط للفرار

٣٧

من الزحف بموت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو قتله، و إنّما النسبة و الرابطة بين موته أو قتله و بين الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان.

و يدلّ على أنّ المراد به الرجوع عن الدين ما ذكره تعالى في قوله:( وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الحقّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ) إلى آخر الآيات، على أنّ نظير ما وقع في اُحد من فرارهم من الزحف و تولّيهم عن القتال تحقّق في غيره كغزوة حنين و الخيبر و غيرهما و لم يخاطبهم الله بمثل هذا الخطاب و لا عبّر عن تولّيهم عن القتال بمثل هذه الكلمة قال تعالى:( وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شيئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثمّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) البراءة: ٢٥، فالحقّ أنّ المراد بالانقلاب على الأعقاب الرجوع إلى الكفر السابق.

فمحصّل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب و التوبيخ: أنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس إلّا رسولاً من الله مثل سائر الرسل، ليس شأنه إلّا تبليغ رسالة ربّه لا يملك من الأمر شيئاً، و إنّما الأمر لله و الدين دينه باق ببقائه، فما معنى اتّكاء إيمانكم على حياته حيث يظهر منكم أن لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين، و رجعتم إلى أعقابكم القهقرى و اتّخذتم الغواية بعد الهداية؟.

و هذا السياق أقوى شاهد على أنّهم ظنّوا يوم اُحد بعد حمي الوطيس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قتل فانسلّوا عند ذلك و تولّوا عن القتال، فيتأيّد بذلك ما ورد في الرواية و التاريخ - كما في ما رواه ابن هشام في السيرة -: أنّ أنس بن النضر - عمّ أنس بن مالك - انتهى إلى عمر بن الخطّاب و طلحة بن عبيدالله في رجال من المهاجرين و الأنصار - و قد ألقوا بأيديهم - فقال: ما يحبسكم؟ قالوا: قتل رسول الله قال: فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثمّ استقبل القوم فقاتل حتّى قتل.

و بالجملة فمعنى هذا الانسلال و الإلقاء بالأيدي: أنّ إيمانهم إنّما كان قائماً بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبقى ببقائه و يزول بموته، و هو إرادة ثواب الدنيا بالإيمان و هذا هو الّذي عاتبهم الله عليه، و يؤيّد هذا المعنى قوله بعده:( وَ سَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ ) ، فإنّ الله سبحانه

٣٨

كرّر هذه الجملة في الآية التالية بعد قوله:( وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها ) ، فافهم ذلك.

و قوله:( وَ سَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ ) ، بمنزلة الاستثناء ممّا قبله على ما يعطيه السياق، و هو الدليل على أنّ القوم كان فيهم من لم يظهر منه هذا الانقلاب أو ما يشعر به كالانسلال و التولّي و هم الشاكرون.

و حقيقة الشكر إظهار النعمة كما أنّ الكفر الّذي يقابله هو إخفاؤها و الستر عليها، و إظهار النعمة هو استعمالها في محلّها الّذي أراده منعمها و ذكر المنعم بها لساناً و هو الثناء و قلباً من غير نسيان، فشكره تعالى على نعمة من نعمه أن يذكر عند استعمالها و يوضع النعمة في الموضع الّذي أراده منها و لا يتعدّى ذلك، و إن من شي‏ء إلّا و هو نعمة من نعمه تعالى، و لا يريد بنعمة من نعمه إلّا أن تستعمل في سبيل عبادته، قال تعالى:( وَ آتاكُمْ مِنْ كلّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كفّار ) إبراهيم: ٣٤، فشكره على نعمته أن يطاع فيها و يذكر مقام ربوبيّته عندها.

و على هذا فشكره المطلق من غير تقييد، ذكره تعالى من غير نسيان، و إطاعته من غير معصية، فمعنى قوله:( وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ ) البقرة: ١٥٢، اذكروني ذكراً لا يخالطه نسيان، و أطيعوا أمري إطاعة لا يشوبها عصيان، و لا يصغي إلى قول من يقول: إنّه أمر بما لا يطاق فإنّه ناش من قلّة التدبّر في هذه الحقائق و البعد من ساحة العبوديّة.

و قد عرفت فيما تقدّم من الكتاب أنّ إطلاق الفعل لا يدلّ إلّا على تلبّس ما، بخلاف الوصف فإنّه يدلّ على استقرار التلبّس و صيرورة المعنى الوصفيّ ملكة لا تفارق الإنسان، ففرق بين قولنا: الّذين أشركوا، و الّذين صبروا، و الّذين ظلموا، و الّذين يعتدون، و بين قولنا: المشركين، و الصابرين، و الظالمين، و المعتدين، فالشاكرون هم الّذين ثبت فيهم وصف الشكر و استقرّت فيهم هذه الفضيلة، و قد بان أنّ الشكر المطلق هو أن لا يذكر العبد شيئاً( نعمةً) إلّا و ذكر الله معه، و لا يمسّ شيئاً( و هو نعمة) إلّا و يطيع الله فيه.

٣٩

فقد تبيّن أنّ الشكر لا يتمّ إلّا مع الإخلاص لله سبحانه علماً و عملاً، فالشاكرون هم المخلصون لله، الّذين لا مطمع للشيطان فيهم.

و يظهر هذه الحقيقة ممّا حكاه الله تعالى عن إبليس، قال تعالى:( قالَ فَبِعزّتكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ص: ٨٣، و قال تعالى:( قالَ ربّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) الحجر: ٤٠، فلم يستثن من إغوائه أحداً إلّا المخلصين، و أمضاه الله سبحانه من غير ردّ، و قال تعالى:( قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثمّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) الأعراف: ١٧، و قوله: و لا تجد إلخ بمنزلة الاستثناء فقد بدّل المخلصين بالشاكرين، و ليس إلّا لأنّ الشاكرين هم المخلصون الّذين لا مطمع للشيطان فيهم، و لا صنع له لديهم، و إنّما صنعه و كيده إنساء مقام الربوبيّة و الدعوة إلى المعصية.

و ممّا يؤيّد ذلك من هذه الآيات النازلة في غزوة اُحد قوله تعالى فيما سيأتي من الآيات:( إِنَّ الّذينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إنّما اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ ) ، مع قوله في هذه الآية الّتي نحن فيها:( وَ سَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ ) ، و قوله فيما بعدها:( وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) ، و قد عرفت أنّه في معنى الاستثناء.

فتدبّر فيها و اقض عجباً ممّا ربّما يقال: إنّ الآية أعني قوله:( إِنَّ الّذينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ ) ناظرة إلى ما روي: أنّ الشيطان نادى يوم اُحد:( إلّا قد قتل محمّد) فأوجب ذلك وهن المؤمنين و تفرّقهم عن المعركة! فاعتبر إلى أيّ مهبط اُهبط كتاب الله من أوج حقائقه و مستوى معارفه العالية؟.

فالآية تدلّ على وجود عدّة منهم يوم اُحد لم يهنوا و لم يفتروا و لم يفرّطوا في جنب الله سبحانه سمّاهم الله شاكرين، و صدق أنّهم لا سبيل للشيطان إليهم و لا مطمع له فيهم، لا في هذه الغزوة فحسب بل هو وصف لهم ثابت فيهم مستقرّ معهم، و لم يطلق اسم الشاكرين في مورد من القرآن على أحد بعنوان على طريق التوصيف إلّا في هاتين

٤٠