الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134589 / تحميل: 6226
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

اختياريّة و إن ارتفع موضوعها بالموت كما تقدّم لكنّ التوبة منه تعالى بمعنى الرجوع بالمغفرة و الرحمة يمكن أن يتحقّق بعد الموت لشفاعة الشافعين، و هذا في نفسه من الشواهد على أنّ المراد بالآيتين بيان حال توبة الله سبحانه لعباده لا بيان حال توبة العبد إلى الله إلّا بالتبع.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) اسم الإشارة يدلّ على بعدهم من ساحة القرب و التشريف، و الاعتاد: و الإعداد أو الوعد.

( كلام في التوبة)

التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقيّة المختصّة بهذا الكتاب السماويّ فإنّ التوبة بمعنى الإيمان عن كفر و شرك و إن كانت دائرة في سائر الأديان الإلهيّة كدين موسى و عيسىعليهما‌السلام لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة، و تسريتها إلى الإيمان بل باسم أنّ ذلك إيمان.

حتّى أنّه يلوح من الاُصول الّتي بنوا عليها الديانة المسيحيّة المستقلّة عدم نفع التوبة و استحالة أن يستفيد منها الإنسان كما يظهر ممّا أوردوه في توجيه الصلب و الفداء، و قد تقدّم نقله في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

هذا و قد انجرّ أمر الكنيسة بعد إلى الإفراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة و تتّجر بها، و كان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم! لكنّ القرآن حلّل حال الإنسان بحسب وقوع الدعوة عليه و تعلّق الهداية به فوجده بالنظر إلى الكمال و الكرامة و السعادة الواجبة له في حياته الاُخرويّة عندالله سبحانه الّتي لا غنى له عنها في سيره الاختياريّ إلى ربّه فقيراً كلّ الفقر في ذاته صفر الكفّ بحسب نفسه قال تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله وَ الله هُوَ الْغَنِيُّ ) فاطر: ١٥، و قال:( وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) الفرقان: ٣.

٢٦١

فهو واقع في مهبط الشقاء و منحطّ البعد و منعزل المسكنة كما يشير إليه قوله تعالى:( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحسن تَقْوِيمٍ ثمّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ) التين: ٥، و قوله:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إلّا وارِدُها كانَ عَلى‏ ربّك حَتْماً مَقْضِيًّا ثمّ نُنَجِّي الّذينَ اتّقوا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) مريم: ٧٢، و قوله:( فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجنّة فَتَشْقى‏ ) طه ١١٧.

و إذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة و استقراره في مستقرّ السعادة يتوقّف على انصرافه عمّا هو فيه من مهبط الشقاء و منحطّ البعد و انقلاعه عنه برجوعه إلى ربّه، و هو توبته إليه في أصل السعادة و هو الإيمان، و في كلّ سعادة فرعيّة و هي كلّ عمل صالح أعني التوبة و الرجوع عن أصل الشقاء و هو الشرك بالله سبحانه، و عن فروعات الشقاء و هي سيّئات الأعمال بعد الشرك، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله و الانخلاع عن ألواث البعد و الشقاء يتوقّف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالإيمان، و التنعّم بأقسام نعم الطاعات و القربات، و بعبارة اُخرى يتوقّف القرب من الله و دار كرامته على التوبة من الشرك و من كلّ معصية، قال تعالى:( وَ تُوبُوا إِلَى الله جميعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) النور: ٣١، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله تعمّ التوبتين جميعاً بل تعمّهما و غيرهما على ما سيجي‏ء إن شاء الله.

ثمّ إنّ الإنسان لمّا كان فقيراً في نفسه لا يملك لنفسه خيراً و لا سعادة قطّ إلّا بربّه كان محتاجاً في هذا الرجوع أيضاً إلى عناية من ربّه بأمره، و إعانة منه له في شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربّه بالعبوديّة و المسكنة إلى رجوع من ربّه إليه بالتوفيق و الإعانة، و هو توبة الله سبحانه لعبده المتقدّمة على توبة العبد إلى ربّه كما قال تعالى:( ثمّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة: ١١٨، و كذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب و تطهيره من القذارات و ألواث البعد، و هذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخّرة عن توبة العبد إلى ربّه كما قال تعالى:( فَأُولئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ ) الآية.

و إذا تأمّلت حقّ التأمّل وجدت أنّ التعدّد في توبة الله سبحانه إنّما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد، و إلّا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده بالرحمة، و يكون ذلك عند توبة العبد رجوعاً إليه قبلها و بعدها، و ربّما كان مع عدم

٢٦٢

توبة من العبد كما تقدّم استفادة ذلك من قوله:( وَ لَا الّذينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كفّار ) ، و أنّ قبول الشفاعة في حقّ العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة و من هذا الباب قوله تعالى:( وَ الله يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الّذينَ يتّبعونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً ) النساء: ٢٧.

و كذلك القرب و البعد لمّا كانا نسبيّين أمكن أن يتحقّق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه و مراحله إلى بعض، و يصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض المقرّبين من عباد الله الصالحين من موقفه الّذي هو فيه إلى موقف أرفع منه و أقرب إلى ربّه، كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء و هم معصومون بنصّ كلامه كقوله تعالى:( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ ربّه كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ ) البقرة: ٣٧، و قوله تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ - إلى قوله -:وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) البقرة: ١٢٨، و قوله تعالى: حكاية عن موسىعليه‌السلام :( سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) الأعراف: ١٤٣، و قوله تعالى خطاباً لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حقّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ ربّك بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ ) المؤمن: ٥٥، و قوله تعالى:( لَقَدْ تابَ الله عَلَى النبيّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الّذينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ) التوبة: ١١٧.

و هذه التوبة العامّة من الله سبحانه هي الّتي يدلّ عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى:( غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ ) المؤمن: ٣، و قوله تعالى:( يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) الشورى: ٢٥، إلى غير ذلك.

فتلخّص ممّا مرّأوّلاً أنّ نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه، و إزالة ظلمة المعاصي عن قلبه - سواء في ذلك الشرك و ما دونه - توبة منه تعالى لعبده و أنّ رجوع العبد إلى ربّه لمغفرة ذنوبه و إزالة معاصيه - سواء في ذلك الشرك و غيره - توبة منه إلى ربّه.

و يتبيّن به أنّ من الواجب في الدعوة الحقّة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل الشرك، و تندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك و التوبة عن المعاصي.

و ثانياً: أنّ التوبة من الله سبحانه لعبده أعمّ من المبتدئة و اللّاحقة فضل منه

٢٦٣

كسائر النعم الّتي يتنعّم بها خلقه من غير إلزام و إيجاب يرد عليه تعالى من غيره، و ليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلاً إلّا ما يدلّ عليه أمثال قوله تعالى:( وَ قابِلِ التَّوْبِ ) غافر: ٣، و قوله:( وَ تُوبُوا إِلَى الله جميعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ) النور: ٣١، و قوله:( إِنَّ الله يُحبّ التَّوَّابِينَ ) الآية: البقرة: ٢٢٢، و قوله:( فَأُولئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ ) الآية من الآيات المتضمّنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة، و النادبة إلى التوبة، الداعية إلى الاستغفار و الإنابة و غيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام، و الله سبحانه لا يخلف الميعاد.

و من هنا يظهر أنّ الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد و يردّ ما يردّ منها كما هو ظاهر قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثمّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ) آل عمران: ٩٠، و يمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ آمَنُوا ثمّ كَفَرُوا ثمّ آمَنُوا ثمّ كَفَرُوا ثمّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ) النساء: ١٣٧.

و من عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصّة غرق فرعون و توبته:( حتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أنّه لا إِلهَ إلّا الّذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) يونس: ٩١.

قال ما محصّله: أنّ الآية لا تدلّ على ردّ توبته، و ليس في القرآن أيضاً ما يدلّ على هلاكه الأبديّ، و أنّه من المستبعد عند من يتأمّل سعة رحمة الله و سبقتها غضبه أن يجوّز عليه تعالى أنّه يردّ من التجأ إلى باب رحمته و كرامته متذلّلاً مستكيناً بالخيبة و اليأس، و الواحد منّا إذا أخذ بالأخلاق الإنسانيّة الفطريّة من الكرم و الجود و الرحمة ليرحم أمثال هذا الإنسان النادم حقيقة على ما قدّم من سوء الفعال فكيف بمن هو أرحم الراحمين و أكرم الأكرمين و غياث المستغيثين؟.

و هو مدفوع بقوله تعالى:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ للّذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) الآية، و قد تقدّم أنّ الندامة حينئذ ندم كاذب يسوق الإنسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب و نزول البلاء.

٢٦٤

و لو كان كلّ ندم توبة و كلّ توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين يوم القيامة:( وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) سبأ: ٣٣، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا و سؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، و الردّ عليهم بأنّهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه و إنّهم لكاذبون.

و إيّاك أن تتوهّم أنّ الّذي سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدّم توضيحه تحليل ذهنيّ لا عبرة به في سوق الحقائق، و ذلك أنّ البحث في باب السعادة و الشقاء و الصلاح و الطلاح الإنسانيّين لا ينتج غير ذلك فإنّا إذا اعتبرنا حال الإنسان العاديّ في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم و التربية في الإنسان وجدناه خالياً في نفسه عن الصلاح و الطلاح الاجتماعيّين قابلاً للأمرين جميعاً ثمّ إذا أراد أن يتحلّى بحلية الصلاح، و يتلبّس بلباس التقوى الاجتماعيّ لم يمكن له ذلك إلّا بتوافق الأسباب على خروجه من الحال الّذي فيه، و ذلك يحاذي التوبة الاُولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنويّة ثمّ انتزاعه و انصراف نفسه عمّا هو فيه من رثاث الحال و قيد التثبّط و الإهمال و هو توبة بمنزلة التوبة من العبد فيما نحن فيه ثمّ زوال هيئة الفساد و وصف الرذالة المستولّية على قلبه حتّى يستقرّ فيه وصف الكمال و نور الصلاح فإنّ القلب لا يسع الصلاح و الطلاح معاً، و هذا يحاذي قبول التوبة و المغفرة فيما نحن فيه و كذلك يجري في مرحلة الصلاح الاجتماعيّ الّذي يسير فيه الإنسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من الأحكام و الآثار جرياً على الفطرة الّتي فطر الله الناس عليها.

و ثالثاً: أنّ التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدّم من الآيات المنقولة و غيرها إنّما هي حقيقة ذات تأثير في النفس الإنسانيّة من حيث إصلاحها و إعدادها للصلاح الإنسانيّ الّذي فيه سعادة دنياه و آخرته و بعبارة اُخرى التوبة إنّما تنفع - إذا نفعت - في إزالة السيّئات النفسانيّة الّتي تجرّ إلى الإنسان كلّ شقاء في حياته الاُولى و الاُخرى و تمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة، و أمّا الأحكام الشرعيّة و القوانين الدينيّة فهي بحالها لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية.

٢٦٥

نعم ربّما ارتبط بعض الأحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل، و هذا غير كون التوبة رافعة لحكم من الأحكام قال تعالى:( وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ الله كانَ تَوَّاباً رَحِيماً ) النساء: ١٦، و قال تعالى:( إنّما جَزاءُ الّذينَ يُحارِبُونَ الله وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إلّا الّذينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ ) المائدة: ٣٤، إلى غير ذلك.

و رابعاً: أنّ الملاك الّذي شرّعت لأجله التوبة على ما تبيّن ممّا تقدّم هو التخلّص من هلاك الذنب و بوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح و مقدّمة الفوز بالسعادة كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ تُوبُوا إِلَى الله جميعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) النور: ٣١، و من فوائدها مضافة إلى ذلك أنّ فيها حفظاً لروح الرجاء من الانخماد و الركود فإنّ الإنسان لا يستقيم سيره الحيوي إلّا بالخوف و الرجاء المتعادلين حتّى يندفع عمّا يضرّه و ينجذب إلى ما ينفعه، و لو لا ذلك لهلك، قال تعالى:( قُلْ يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعاً أنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ ربّكمْ‏ ) الزمر: ٥٤، و لا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعّالة و جدّ في العزيمة و السعي ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة، و إذا بدا له ما يخسر عمله و يخيّب سعيه و يبطل اُمنيّته استولى عليه اليأس و انسلّت به أركان عمله و ربّما انصرف بوجهه عن مسيره آئساً من النجاح خائباً من الفوز و الفلاح، و التوبة هي الدواء الوحيد الّذي يعالج داءه، و يحيي به قلبه و قد أشرف على الهلكة و الردى.

و من هنا يظهر سقوط ما ربّما يتوهّم أنّ في تشريع التوبة و الدعوة إليها إغراءً بالمعصية، و تحريصاً على ترك الطاعة، فإنّ الإنسان إذا أيقن أنّ الله يقبل توبته إذا اقترف أيّ معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثراً، دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله و الانغمار في لجج المعاصي و الذنوب، فيدقّ باب كلّ معصية قاصداً أن يذنب ثمّ يتوب.

٢٦٦

وجه سقوطه: أنّ التوبة إنّما شرعت مضافاً إلى توقّف التحلّيّ بالكرامات على غفران الذنوب: للتحفّظ على صفة الرجاء و تأثيره حسن أثره، و أمّا ما ذكر من استلزامه أن يقصّد الإنسان كلّ معصية بنيّة أن يعصي ثمّ يتوب، فقد فاته أنّ التوبة بهذا النعت لا يتحقّق معها حقيقة التوبة فإنّها انقلاع عن المعصية، و لا انقلاع في هذا الّذي يأتي به، و الدليل عليه أنّه كان عازماً على ذلك قبل المعصية و مع المعصية و بعد المعصية، و لا معنى للندامة (أعني التوبة) قبل تحقّق الفعل بل مجموع الفعل و التوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلاً واحداً مقصوداً بقصد واحد مكراً و خديعة يخدع بها ربّ العالمين، و لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله.

و خامساً: أنّ المعصية و هي الموقف السوء من الإنسان ذو أثر سيّئ في حياته لا يتاب منها و لا يرجع عنها إلّا مع العلم و الإيقان بمساءتها، و لا ينفكّ ذلك عن الندم على وقوعها أوّلاً، و الندم تأثّر خاصّ باطنيّ من فعل السيّئ. و يتوقّف على استقرار هذا، الرجوع ببعض الأفعال الصالحة المنافية لتلك السيّئة الدالّة على الرجوع و التوبة ثانياً.

و إلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعاً من آداب التوبة كالندم و الاستغفار و التلبّس بالعمل الصالح، و الانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك ممّا وردت به الأخبار، و تعرّض له كتب الأخلاق.

و سادساً: أنّ التوبة و هي الرجوع الاختياريّ عن السيّئة إلى الطاعة و العبوديّة إنّما تتحقّق في ظرف الاختيار و هو الحياة الدنيا الّتي هي مستوى الاختيار، و أمّا فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كلّ من طريقي الصلاح و الطلاح و السعادة و الشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه، و قد تقدّم ما يتّضح به ذلك.

و من هذا الباب التوبة فيما يتعلّق بحقوق الناس فإنّها إنّما تصلح ما يتعلّق بحقوق الله سبحانه، و أمّا ما يتعلّق من السيّئة بحقوق الناس ممّا يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا يتدارك بها البتّة لأنّ الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم و أعراضهم و نفوسهم، و عدّ التعدّي إلى أحدهم في شي‏ء من ذلك ظلماً و عدواناً، و حاشاه أن يسلبهم شيئاً ممّا جعله لهم من غير جرم صدر منهم، فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه و يظلمهم بذلك، و قد قال عزّ من قائل:( إِنَّ الله لا يَظْلِمُ النَّاسَ شيئاً ) يونس: ٤٤.

٢٦٧

إلّا أنّ الإسلام و هو التوبة من الشرك يمحو كلّ سيّئة سابقة و تبعة ماضية متعلّقة بالفروع كما يدلّ عليه‏ قولهعليه‌السلام : الإسلام يجبّ ما قبله‏، و به تفسّر الآيات المطلقة الدالة على غفران السيّئات جميعاً كقوله تعالى:( قُلْ يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعاً أنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ ربّكمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ ) الزمر: ٥٤.

و من هذا الباب أيضاً توبة من سنّ سنّة سيّئة أو أضلّ الناس عن سبيل الحقّ و قد وردت أخبار أنّ عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضلّ عن الحقّ فإن حقيقة الرجوع لا تتحقّق في أمثال هذه الموارد لأنّ العاصي أحدث فيها حدثاً له آثار يبقى ببقائها، و لا يتمكّن من إزالتها كما في الموارد الّتي لا تتجاوز المعصية ما بينه و بين ربّه عزّ اسمه.

و سابعاً: أنّ التوبة و إن كانت تمحو ما تمحوه من السيّئات كما يدلّ عليه قوله تعالى:( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ ربّه فَانْتَهى‏ فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى الله ) البقرة: ٢٧٥ على ما تقدّم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب، بل ظاهر قوله تعالى:( إلّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئاتِهِمْ حسناتٍ وَ كانَ الله غَفُوراً رَحِيماً وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً ) الفرقان: ٧١، و خاصّة بملاحظة الآية الثانية أنّ التوبة بنفسها أو بضميمة الإيمان و العمل الصالح توجب تبدّل السيّئات حسنات إلّا أنّ اتّقاء السيّئة أفضل من اقترافها ثمّ إمحائها بالتوبة فإنّ الله سبحانه أوضح في كتابه أنّ المعاصي كيفما كانت إنّما تنتهي إلى وساوس شيطانيّة نوع انتهاء ثمّ عبّر عن المخلصين المعصومين عن زلّة المعاصي و عثرة السيّئات بما لا يعادله كلّ مدح ورد في غيرهم قال تعالى:( قالَ ربّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) الآيات: الحجر: ٤٢، و قال تعالى حكاية عن إبليس أيضاً في القصّة:( وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) الأعراف: ١٧.

فهؤلاء من الناس مختصّون بمقام العبوديّة التشريفيّة اختصاصاً لا يشاركهم فيه غيرهم من الصالحين التائبين.

٢٦٨

( بحث روائي‏)

في الفقيه، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر خطبة خطبها: من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثمّ قال: إنّ السنة لكثيرة و من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه، ثمّ قال: و إنّ الشهر لكثير و من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثمّ قال: و إنّ اليوم لكثير و من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثمّ قال: و إنّ الساعة لكثيرة من تاب و قد بلغت نفسه هذه - و أهوى بيده إلى حلقه - تاب الله عليه.

و سئل الصادقعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ للّذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) قال: ذلك إذا عاين أمر الآخرة.

أقول: الرواية الاُولى رواها في الكافي مسنداً عن الصادقعليه‌السلام ، و هي مرويّة من طرق أهل السنّة و في معناها روايات اُخر.

و الرواية الثانية تفسّر الآية و تفسّر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند حضور الموت بأنّ المراد من حضور الموت العلم به و مشاهدة آيات الآخرة و لا توبة عندئذ، و أمّا الجاهل بالأمر فلا مانع من قبول توبته، و نظيرها بعض ما يأتي من الروايات.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إذا بلغت النفس هذه - و أهوى بيده إلى حنجرته - لم يكن للعالم توبة، و كانت للجاهل توبة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ في التاريخ و الحاكم و ابن مردويه عن أبي ذرّ: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قيل و ما وقوع الحجاب؟ قال: تخرج النفس و هي مشركة.

و فيه، أخرج ابن جرير عن الحسن قال: بلغني أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ إبليس لمّا رأى آدم أجوف قال: و عزّتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح فقال الله تبارك و تعالى: و عزّتي لا أحول بينه و بين التوبة ما دام الروح فيه.

و في الكافي، عن عليّ الأحمسيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: و الله ما ينجو من

٢٦٩

الذنوب إلّا من أقرّ بها، قال: و قال أبوجعفرعليه‌السلام : كفى بالندم توبة.

و فيه، بطريقين عن ابن وهب قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبّه الله تعالى فستر عليه فقلت: و كيف يستر عليه؟ قال، ينسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه ثمّ يوحي الله إلى جوارحه و إلى بقاع الأرض: أن اكتمي عليه ذنوبه فيلقى الله حين يلقاه و ليس شي‏ء يشهد عليه بشي‏ء من الذنوب.

و فيه، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: يا محمّد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة أمّا و الله أنّها ليست إلّا لأهل الإيمان. قلت: فإن عاد بعد التوبة و الاستغفار في الذنوب و عاد في التوبة؟ فقال يا محمّد بن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه فيستغفر الله منه و يتوب ثمّ لا يقبل الله توبته؟ قلت: فإن فعل ذلك مرارا يذنب ثمّ يتوب و يستغفر؟ فقال: كلّما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة عاد الله تعالى عليه بالمغفرة، و إنّ الله غفور رحيم يقبل التوبة، و يعفو عن السيّئات فإيّاك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثمّ اهْتَدى ) ‏ قال: لهذه الآية تفسير يدلّ على ذلك التفسير أنّ الله لا يقبل من عبد عملاً إلّا لمن لقيه بالوفاء منه بذلك التفسير، و ما اشترط فيه على المؤمنين و قال:( إنّما التَّوْبَةُ عَلَى الله للّذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) يعني كلّ ذنب عمله العبد و إن كان به عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، و قد قال في ذلك يحكي قول يوسف لإخوته( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله.

أقول: و الرواية لا تخلو عن اضطراب في المتن و الظاهر أنّ المراد بالصدر أنّ العمل إنّما يقبل إذا وفى به العبد و لم ينقضه فالتوبة إنّما تقبل إذا كانت زاجرة ناهية على الذنب و لو حيناً. و قوله: و قال:( إنّما التَّوْبَةُ ) إلخ كلام مستأنف أراد به بيان أنّ قوله:( بِجَهالَةٍ ) قيد توضيحيّ، و أنّ في مطلق المعصية جهالة على أحد التفسيرين السابقين في ما تقدّم، و قد روي هذا الذيل في المجمع أيضاً عنهعليه‌السلام .‏

٢٧٠

( سورة النساء الآيات ١٩ الى ٢٢)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النّسَاءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ إِلّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَى‏ أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِير( ١٩) وَإِنْ أَرَدتّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِين( ٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى‏ بَعْضُكُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِيثَاقاً غَلِيظ( ٢١) وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيل( ٢٢)

( بيان)

رجوع إلى أمر النساء بذكر بعض آخر ممّا يتعلّق بهنّ و الآيات مع ذلك مشتملة على قوله:( وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَ يَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) فإنّه أصل قرآنيّ لحياة المرأة الاجتماعيّة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ ) إلى قوله:( كَرْهاً ) كان أهل الجاهليّة - على ما في التاريخ و الرواية - يعدّون نساء الموتى من التركة - إذا لم تكن المرأة أمّا للوارث - فيرثونهنّ مع التركة فكان أحد الورّاث يلقي ثوباً على زوجة الميّت و يرثها فإن شاء تزوّج بها من غير مهر بل بالوراثة و إن كره نكاحها حبسها عنده فإن شاء زوّجها من غيره فانتفع بمهرها، و إن شاء عضلها و منعها النكاح و حبسها حتّى تموت فيرثها إن كان لها مال.

و الآية و إن كان ظاهرها أنّها تنهى عن سنّة دائرة بينهم، و هي الّتي ذكرناها من إرث النساء فتكون مسوقة للردع عن هذه السنّة السيّئة على ما ذكره بعض المفسّرين إلّا أنّ قوله في ذيل الجملة:( كَرْهاً ) لا يلائم ذلك سواء أخذ قيداً توضيحيّاً أو احترازيّاً.

٢٧١

فإنّه لو كان قيداً توضيحيّاً أفاد أنّ هذه الوراثة تقع دائماً على كره من النساء و ليس كذلك، و هو ظاهر، و لو كان قيداً احترازيّاً أفاد أنّ النهي إنّما هو إذا كانت الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كان على رضىّ منهنّ، و ليس كذلك.

نعم الكره أمر متحقّق في العضل عن الازدواج طمعاً في ميراثهنّ دائماً أو غالباً بعد القبض عليهنّ بالإرث فالظاهر أنّ الآية في مقام الردع عن هذا الإرث على كره و أمّا نكاحهنّ بالإرث فالمتعرّض للنهي عنه قوله تعالى فيما سيأتي:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) الآية و أمّا تزويجهنّ من الغير و الذهاب بمهرهنّ فينهى عنه مثل قوله تعالى:( وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ ممّا اكْتَسَبْنَ ) النساء: ٣٢، و يدلّ على الجميع قوله تعالى:( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٣٤.

و أمّا قوله بعد:( وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا ) إلخ فهو غير هذا العضل عن الازدواج للذهاب بالمال إرثاً لما في تذييله بقوله:( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ) من الدلالة على أنّ المراد به الذهاب ببعض المهر الّذي آتاه الزوج العاضل دون المال الّذي امتلكته من غير طريق هذا المهر. و بالجملة الآية تنهى عن وراثة أموال النساء كرهاً منهنّ دون وراثة أنفسهنّ فإضافة الإرث إلى النساء إنّما هي بتقدير الأموال أو يكون مجازاً عقليّاً.

قوله تعالى: ( وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا - إلى قوله -:مُبَيِّنَةٍ ) أمّا معطوف على قوله:( تَرِثُوا ) و التقدير: و لا أن تعضلوهنّ و أمّا نهي معطوف على قوله:( لا يَحِلُّ لَكُمْ ) لكونه في معنى النهي. و العضل هو المنع و التضييق و التشديد. و الفاحشة الطريقة الشنيعة كثر استعمالها في الزنا. و المبيّنة المتبيّنة، و قد نقل عن سيبويه: أنّ أبان و استبان و بيّن و تبيّن بمعنى واحد، تتعدّى و لا تتعدّى يقال: أبان الشي‏ء و استبان و بيّن و تبيّن و يقال: أبنت الشي‏ء و استبنته و بيّنته و تبيّنته.

و الآية تنهى عن التضييق عليهنّ بشي‏ء من وجوه التضييق ليضطررن إلى بذل شي‏ء من الصداق لفكّ عقدة النكاح و التخلّص من ضيق العيشة فالتضييق بهذا القصد محرّم على الزوج إلّا أن يأتي الزوجة بفاحشة مبيّنة فله حينئذ أن يعضلها و يضيّق

٢٧٢

عليها لتفارقه بالبذل، و الآية لا تنافي الآية الاُخرى في باب البذل:( وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا ممّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئاً إلّا أَنْ يَخافا إلّا يُقِيما حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا يُقِيما حُدُودَ الله فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) البقرة: ٢٢٩، و إنّما هو التخصيص. تخصّص هذه الآية آية البقرة بصورة إتيان الفاحشة، و أمّا البذل الّذي في آية البقرة فإنّما هو واقع على تراض منهما فلا تخصّص بها هذه الآية.

قوله تعالى: ( وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) إلى آخر الآية المعروف هو الأمر الّذي يعرفه الناس في مجتمعهم من غير أن ينكروه و يجهلوه، و حيث قيّد به الأمر بالمعاشرة كان المعنى الأمر بمعاشرتهنّ المعاشرة المعروفة بين هؤلاء المأمورين.

و المعاشرة الّتي يعرفها الرجال و يتعارفونها بينهم أنّ الواحد منهم جزء مقوّم للمجتمع يساوي سائر الأجزاء في تكوينه المجتمع الإنسانيّ لغرض التعاون و التعاضد العموميّ النوعيّ فيتوجّه على كلّ منهم من التكليف أن يسعى بما في وسعه من السعي فيما يحتاج إليه المجتمع فيقتني ما ينتفع به فيعطي ما يستغني عنه و يأخذ ما يحتاج إليه فلو عومل واحد من أجزاء المجتمع غير هذه المعاملة و ليس إلّا أن يضطهد بإبطال استقلاله في الجزئيّة فيؤخذ تابعاً ينتفع به و لا ينتفع هو بشي‏ء يحاذيه، و هذا هو الاستثناء.

و قد بيّن الله تعالى في كتابه أنّ الناس جميعاً - رجالاً و نساءً - فروع أصل واحد إنسانيّ، و أجزاء و أبعاض لطبيعة واحدة بشريّة، و المجتمع في تكوّنه محتاج إلى هؤلاء كما هو محتاج إلى اُولئك على حدّ سواء كما قال تعالى:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) النساء: ٢٥.

و لا ينافي ذلك اختصاص كلّ من الطائفتين بخصلة تختصّ به كاختصاص الرجال بالشدّة و القوّة نوعاً، و اختصاص النساء بالرقّة و العاطفة طبعاً فإنّ الطبيعة الإنسانيّة في حياتها التكوينيّة و الاجتماعيّة جميعاً تحتاج إلى بروز الشدّة و ظهور القوّة كما تحتاج إلى سريان المودّة و الرحمة، و الخصلتان جميعاً مظهرا الجذب و الدفع العامّين في المجتمع الإنسانيّ.

٢٧٣

فالطائفتان متعادلتان وزناً و أثراً كما أنّ أفراد طائفة الرجال متساوية في الوزن و التأثير في هذه البنية المكوّنة مع اختلافهم في شؤونهم الطبيعيّة و الاجتماعيّة من قوّة و ضعف، و علم و جهل، و كياسة و بلادة، و صغر و كبر، و رئاسة و مرؤوسيّة، و مخدوميّة و خادميّة، و شرف و خسّة و غير ذلك.

فهذا هو الحكم الّذي ينبعث من ذوق المجتمع المتوسّط الجاري على سنّة الفطرة من غير انحراف، و قد قوّم الإسلام أود الاجتماع الإنسانيّ و أقام عوجه فلا مناص من أن يجري فيه حكم التسوية في المعاشرة و هو الّذي نعبّر عنه بالحرّيّة الاجتماعيّة، و حرّيّة النساء كالرجال، و حقيقتها أنّ الإنسان بما هو إنسان ذو فكر و إرادة له أن يختار ما ينفعه على ما يضرّه مستقلّاً في اختياره ثمّ إذا ورد المجتمع كان له أن يختار ما يختار - ما لم يزاحم سعادة المجتمع الإنسانيّ - مستقلّاً في ذلك من غير أن يمنع عنه أو يتّبع غيره من غير اختيار.

و هذا كما عرفت لا ينافي اختصاص بعض الطبقات أو بعض الأفراد من طبقة واحدة بمزايا أو محروميّته عن مزايا كاختصاص الرجال في الإسلام بالقضاء و الحكومة و الجهاد و وجوب نفقتهنّ على الرجال و غير ذلك، و كحرمان الصبيان غير البالغين عن نفوذ الإقرار و المعاملات و عدم توجّه التكاليف إليهم و نحو ذلك فجميع ذلك خصوصيّات أحكام تعرض الطبقات و أشخاص المجتمع من حيث اختلاف أوزانهم في المجتمع بعد اشتراكهم جميعاً في أصل الوزن الإنسانيّ الاجتماعيّ الّذي ملاكه أنّ الجميع إنسان ذو فكر و إرادة.

و لا تختصّ هذه المختصّات بشريعة الإسلام المقدّسة بل توجد في جميع القوانين المدنيّة بل في جميع السنن الإنسانيّة حتّى الهمجيّة قليلاً أو كثيراً على اختلافها، و الكلمة الجامعة لجميع هذه المعاني هي قوله تعالى:( وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) على ما تبيّن.

و أمّا قوله تعالى:( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَ يَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) فهو من قبيل إظهار الأمر المعلوم في صورة المشكوك المحتمل اتّقاءً من

٢٧٤

تيقّظ غريزة التعصّب في المخاطب نظير قوله تعالى:( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ الله وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى‏ هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) سبأ: ٢٥.

فقد كان المجتمع الإنسانيّ يومئذ (عصر نزول القرآن) لا يوقف النساء في موقفها الإنسانيّ الواقعيّ، و يكره ورودها في المجتمع ورود البعض المقوّم بل المجتمعات القائمة على ساقها يومئذ بين ما يعدّهنّ طفيليّات خارجة لاحقة ينتفع بوجودها، و ما يعدّهنّ إنساناً ناقصاً في الإنسانيّة كالصبيان و المجانين إلّا أنّهنّ لا يبلغن الإنسانيّة أبداً فيجب أن يعشن تحت الإتّباع و الاستيلاء دائماً، و لعلّ قوله تعالى:( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ ) ، حيث نسب الكراهة إلى أنفسهنّ دون نكاحهنّ إشارة إلى ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ) إلى آخر الآية، الاستبدال استفعال بمعنى طلب البدل، و كأنّه بمعنى إقامة زوج مقام زوج أو هو من قبيل التضمين بمعنى إقامة امرأة مقام اُخرى بالاستبدال، و لذلك جمع بين قوله، أَرَدْتُمُ و بين قوله: اسْتِبْدالَ إلخ مع كون الاستبدال مشتملاً على معنى الإرادة و الطلب، و على هذا فالمعنى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ أن تقيموا زوجاً مقام اُخرى بالاستبدال.

و البهتان ما بهت الإنسان أي جعله متحيّراً، و يغلب استعماله في الكذب من القول و هو في الأصل مصدر، و قد استعمل في الآية في الفعل الّذي هو الأخذ من المهر، و هو في الآية حال من الأخذ و كذا قوله: إِثْماً، و الاستفهام إنكاريّ.

و المعنى: إن أردتم أن تطلّقوا بعض أزواجكم و تتزوّجوا باُخرى مكانها فلا تأخذوا من الصداق الّذي آتيتموها شيئاً و إن كان ما آتيتموها مالاً كثيراً، و ما تأخذونه قليلاً جدّاً.

قوله تعالى: ( وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى‏ بَعْضُكُمْ إِلى‏ بَعْضٍ ) إلى آخر الآية، الاستفهام للتعجيب، و الإفضاء هو الاتّصال بالمماسّة، و أصله الفضاء بمعنى السعة.

و لمّا كان هذا الأخذ إنّما هو بالبغي و الظلم، و مورده مورد الاتّصال و الاتّحاد أوجب ذلك صحّة التعجّب حيث إنّ الزوجين يصيران بسبب ما أوجبه الازدواج من

٢٧٥

الإفضاء و الاقتراب كشخص واحد، و من العجيب أن يظلم شخص واحد نفسه و يؤذيها أو يؤذي بعض أجزائه بعضا.

و أمّا قوله:( وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) فالظاهر أنّ المراد بالميثاق الغليظ هو العلقة الّتي أبرمها الرجل بالعقد و نحوه، و من لوازمها الصداق الّذي يسمّى عند النكاح و تستحقّه المرأة من الرجل.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالميثاق الغليظ العهد المأخوذ من الرجل للمرأة من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان على ما ذكره الله تعالى، و ربّما قيل: إنّ المراد به حكم الحلّيّة المجعول شرعاً في النكاح، و لا يخفى بعد الوجهين جميعاً بالنسبة إلى لفظ الآية.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن هاشم بن عبدالله عن السريّ البجليّ قال: سألته عن قوله:( وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ) قال: فحكى كلاماً ثمّ قال: كما يقول النبطيّة إذا طرح عليها الثوب عضلها فلا تستطيع تزويج غيره، و كان هذا في الجاهليّة.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) ، فإنّه كان في الجاهليّة في أوّل ما أسلموا من قبائل العرب إذا مات حميم الرجل و له امرأة ألقى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه الّذي كان أصدقها يرث نكاحها كما يرث ماله، فلمّا مات أبوقيس بن الأسلت ألقى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه، و هي كبيشة بنت معمّر بن معبد فورث نكاحها، ثمّ تركها لا يدخل بها و لا ينفق عليها، فأتت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت: يا رسول الله مات أبوقيس بن الأسلت فورث محصن ابنه نكاحي فلا يدخل عليّ، و لا ينفق عليّ، و لا يخلّي سبيلي فألحق بأهلي فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارجعي إلى بيتك فإن يحدث الله في شأنك شيئاً أعلمتك فنزل:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إلّا

٢٧٦

ما قَدْ سَلَفَ إنّه كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلًا ) ، فلحقت بأهلها، و كانت نساء في المدينة قد ورث نكاحهنّ كما ورث نكاح كبيشة غير أنّه ورثهنّ من الأبناء فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) .

أقول: آخر الرواية لا يخلو عن اضطراب في المعنى و قد وردت هذه القصّة و نزول الآيات فيها في عدّة من روايات أهل السنّة أيضاً، غير أنّ الروايات أو معظمها تذكر نزول قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا ) الآية في القصّة، و قد عرفت في البيان السابق عدم مساعدة السياق على ذلك.

و مع ذلك فتحقّق القصّة و ارتباط الآيات بوجه بها و بالعادة الجارية فيما بينهم عند النزول في الجملة لا ريب فيه، فالمعوّل في ذلك ما قدّمناه في البيان السابق.

و في المجمع في قوله تعالى:( إلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) الآية قال: الأولى حمل الآية على كلّ معصية، قال: و هو المروي عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و في تفسير البرهان، عن الشيبانيّ: الفاحشة يعني الزنا، و ذلك إذا اطّلع الرجل منها على فاحشة فله أخذ الفدية و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن جابر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: اتّقوا الله في النساء فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله، و استحللتم فروجهنّ بكلمة الله، و إنّ لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضرباً غير مبرح، و لهنّ عليكم رزقهنّ و كسوتهنّ بالمعروف.

و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن عمر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يا أيّها الناس إنّ النساء عندكم عوان أخذتموهنّ بأمانة الله، و استحللتم فروجهنّ بكلمة الله، و لكم عليهنّ حقّ، و من حقّكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً، و لا يعصينكم في معروف و إذا فعلن ذلك فلهنّ رزقهنّ و كسوتهنّ بالمعروف.

أقول: و قد تقدّم ما يتبيّن به معنى هذه الروايات.

و في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) قال: الميثاق الكلمة الّتي عقد بها النكاح الرواية.

٢٧٧

و في المجمع، قال: الميثاق الغليظ هو العقد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال: و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .

أقول: و هذا المعنى منقول عن عدّة من مفسّري السلف كابن عبّاس و قتادة و أبي مليكة، و الآية لا تأباه بالنظر إلى أنّ ذلك حكم يصدق عليه أنّه ميثاق مأخوذ على الرجال للنساء، و إن كان الأظهر أن يكون المراد هو العقد المجرى حين الازدواج.

و في الدرّ المنثور، أخرج الزبير بن بكّار في الموفّقيّات عن عبدالله بن مصعب قال: قال عمر: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة: ما ذاك لك قال: و لم؟ قالت: لأنّ الله يقول:( وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ) الآية، فقال عمر: امرأة أصابت و رجل أخطأ.

أقول: و رواه أيضاً عن عبدالرزّاق و ابن المنذر عن عبد الرحمن السلميّ، و أيضاً عن سعيد بن منصور و أبي يعلى بسند جيّد عن مسروق‏، و فيه أربعمائة درهم مكان أربعين أوقية، و أيضاً عن سعيد بن منصور و عبد بن حميد عن بكر بن عبدالله المزنيّ، و الروايات متقاربة المعنى.

و فيه، أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ، قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلّف على اُمّ عبيد بنت ضمرة كانت تحت الأسلت أبيه، و في الأسود بن خلف و كان خلّف على بنت أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبدالدار و كانت عند أبيه خلف، و في فاختة ابنة الأسود بن المطّلب بن أسد كانت عند اُميّة بن خلف فخلف عليها صفوان بن اُميّة، و في منظور بن رباب و كان خلّف على مليكة ابنة خارجة و كانت عند أبيه رباب بن سيّار.

و فيه، أخرج ابن سعد عن محمّد بن كعب القرظيّ قال: كان الرجل إذا توفّي عن امرأة كان ابنه أحقّ بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن اُمّه أو ينكحها من شاء، فلمّا مات أبوقيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته و لم ينفق عليها و لم يورّثها من المال شيئاً فأتت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ارجعي لعلّ الله ينزل فيك

٢٧٨

شيئاً فنزلت:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) الآية، و نزلت:( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) .

أقول: و قد تقدّم ما يدلّ على ذلك من روايات الشيعة.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عبّاس قال: كان أهل الجاهليّة يحرّمون ما حرّم الله إلّا امرأة الأب و الجمع بين الاُختين فأنزل الله:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ و أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ‏ ) .

أقول: و في معناه أخبار اُخر.

٢٧٩

( سورة النساء الآيات ٢٣ الى ٢٨)

حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمّهَاتُكُمُ الّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِنَ الرّضَاعَةِ وَأُمّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُم مِن نِسَائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُم بِهِنّ فَإِن لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيم( ٢٣) وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلّ لَكُم مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيَما تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيم( ٢٤) وَمَن لَم يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُم مِن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِايِمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ وَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٢٥) يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( ٢٦) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيم( ٢٧) يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيف( ٢٨)

( بيان)

آيات محكمة تعدّ محرّمات النكاح و ما أحلّ من نكاح النساء، و الآية السابقة عليها المبيّنة لحرمة نكاح ما نكح الآباء و إن كانت بحسب المضمون من جملتها إلّا أنّ ظاهر سياقها لمّا كان من تتمّة السياق السابق أوردناها في جملة الآيات السابقة مع كونها بحسب المعنى ملحقة بها.

٢٨٠

و بالجملة جملة الآيات متضمّنة لبيان كلّ محرّم نكاحيّ من غير تخصيص أو تقييد، و هو الظاهر من قوله تعالى بعد تعداد المحرّمات:( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) الآية، و لذلك لم يختلف أهل العلم في الاستدلال بالآية على حرمة بنت الابن و البنت و اُمّ الأب أو الاُمّ و كذا على حرمة زوجة الجدّ بقوله تعالى:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) الآية، و به يستفاد نظر القرآن في تشخيص الأبناء و البنات بحسب التشريع على ما سيجي‏ء إن شاء الله.

قوله تعالى: ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ ) هؤلاء هن المحرّمات بحسب النسب و هي سبعة أصناف، و الاُمّ من اتّصل إليها نسب الإنسان بالولادة كمن ولدته من غير واسطة أو بواسطة، كوالدة الأب أو الاُمّ فصاعدة، و البنت من اتّصل نسبها بالإنسان بسبب ولادتها منه كالمولودة من صلبه بلا واسطة، و كبنت الابن و البنت فنازلة و الاُخت من اتّصل نسبها بالإنسان من جهة ولادتهما معاً من الأب أو الاُمّ أو منهما جميعاً بلا واسطة، و العمّة اُخت الأب و كذا اُخت الجدّ من جهة الأب أو الاُمّ، و الخالة اُخت الاُمّ، و كذا اُخت الجدّة من جهة الأب أو الاُمّ.

و المراد بتحريم الاُمّهات و ما يتلوها من الأصناف حرمة نكاحهنّ على ما يفيده الإطلاق من مناسبة الحكم و الموضوع، كما في قوله تعالى:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ ) المائدة: ٣، أي أكلهما، و قوله تعالى:( فإنّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ) المائدة: ٢٦، أي سكنى الأرض، و هذا مجاز عقليّ شائع، هذا.

و لكنّه لا يلائم ما سيأتي من قوله تعالى:( إلّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) فإنّه استثناء من الوطء دون علقة النكاح على ما سيجي‏ء، و كذا قوله تعالى:( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) على ما سيجي‏ء، فالحقّ أنّ المقدّر هو ما يفيد معنى الوطء دون علقة النكاح، و إنّما لم يصرّح تأدّباً و صوناً للّسان على ما هو دأب كلامه تعالى.

و اختصاص الخطاب بالرجال دون أن يقال: حرّم عليهنّ أبناؤهنّ إلخ، أو يقال مثلاً: لا نكاح بين المرأة و ولدها إلخ، لما أنّ الطلب و الخطبة بحسب الطبع إنّما يقع من جانب الرجال فحسب.

٢٨١

و توجيه الخطاب إلى الجمع مع تعليق الحرمة بالجمع كالاُمّهات و البنات إلخ، تفيد الاستغراق في التوزيع، أي حرّمت على كلّ رجل منكم اُمّه و بنته، إذ لا معنى لتحريم المجموع على المجموع، و لا لتحريم كلّ اُمّ و بنت لكلّ رجل مثلاً على كلّ رجل لأوله إلى تحريم أصل النكاح، فمآل الآية إلى أنّ كلّ رجل يحرم عليه نكاح اُمّه و بنته و اُخته إلخ.

قوله تعالى: ( وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ) شروع في بيان المحرّمات بالسبب، و هي سبع ستّ منها ما في هذه الآية، و سابعتها ما يتضمّنه قوله:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) الآية.

و الآية بسياقها تدلّ على جعل الاُمومة و البنوّة بين المرأة و من أرضعته و كذا الإخوة بين الرجل و اُخته من الرضاعة حيث اُرسل الكلام فيها إرسال المسلّم فالرضاعة تكوّن الروابط النسبيّة بحسب التشريع، و هذا ممّا يختصّ بالشريعة الإسلاميّة على ما ستجي‏ء الإشارة إليه.

و قد صحّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الفريقان أنّه قال: إنّ الله حرّم من الرضاعة ما حرّم من النسب‏ و لازمه أن تنتشر الحرمة بالرضاع فيما يحاذي محرّمات النسب من الأصناف، و هي الاُمّ و البنت و الاُخت و العمّة و الخالة و بنت الأخ و بنت الاُخت، سبعة أصناف.

و أمّا ما به يتحقّق الرضاع و ما له في نشره الحرمة من الشرائط من حيث الكمّ و الكيف و المدّة و ما يلحق بها من الأحكام فهو ممّا يتبيّن في الفقه، و البحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب، و أمّا قوله:( وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ) فالمراد به الأخوات الملحقة بالرجل من جهة إرضاع اُمّه إيّاها بلبن أبيه و هكذا.

قوله تعالى: ( وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ) سواء كانت النساء أي الأزواج مدخولاً بهنّ أو غير مدخول بهن فإنّ النساء إذا اُضيفت إلى الرجال دلّت على مطلق الأزواج، و الدليل على ذلك التقييد الآتي في قوله تعالى:( مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) الآية.

٢٨٢

قوله تعالى: ( وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ - إلى قوله:-فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ) الربائب جمع الربيبة و هي بنت زوجة الرجل من غيره لأنّ تدبير أمر من مع المرأة من الولد إلى زوجها فهو الّذي يربّها و يربّيها في العادة الغالبة و إن لم يكن كذلك دائماً.

و كذلك كون الربيبة في حجر الزوج أمر مبنيّ على الغالب و إن لم يجر الأمر عليه دائماً، و لذلك قيل: إنّ قوله:( اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) قيد مبنيّ على الغالب فالربيبة محرّمة سواء كانت في حجر زوج اُمّها أو لم يكن، فالقيد توضيحيّ لا احترازيّ.

و من الممكن أن يقال: إنّ قوله:( اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) ، إشارة إلى ما يستفاد من حكمة تشريع الحرمة في محرّمات النسب و السبب على ما سيجي‏ء البحث عنه، و هو الاختلاط الواقع المستقرّ بين الرجل و بين هؤلاء الأصناف من النساء و المصاحبة الغالبة بين هؤلاء في المنازل و البيوت فلو لا حكم الحرمة المؤبّدة لم يمكن الاحتراز من وقوع الفحشاء بمجرّد تحريم الزنا (على ما سيجي‏ء بيانه).

فيكون قوله:( اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) مشيراً إلى أنّ الربائب لكونهنّ غالباً في حجوركم و في صحابتكم تشارك سائر الأصناف في الاشتمال على ملاك التحريم و حكمته.

و كيفما كان ليس قوله:( اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) قيداً احترازيّاً يتقيّد به التحريم حتّى تحلّ الربيبة لرابّها إذا لم تكن في حجره كالبنت الكبيرة يتزوّج الرجل باُمّها، و الدليل على ذلك المفهوم المصرّح به في قوله تعالى:( فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ) حيث ذكر فيه ارتفاع قيد الدخول لكون الدخول دخيلاً في التحريم، و لو كان الكون في الحجور مثله لكان من اللّازم ذكره، و هو ظاهر.

و قوله:( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ) أي في أن تنكحوهنّ حذف إيثاراً للاختصّار لدلالة السياق عليه.

قوله تعالى: ( وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الّذينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) الحلائل جمع حليلة قال في المجمع: و الحلائل جمع الحليلة، و هي بمعنى محلّلة مشتقّة من الحلال و الذكر حليل، و جمعه أحلّة كعزيز و أعزّة سمّيا بذلك لأنّ كلّ واحدة منهما يحلّ له مباشرة صاحبه، و قيل هو من الحلول لأنّ كلّ واحد منهما يحالّ صاحبه أي يحلّ معه في الفراش، انتهى.

٢٨٣

و المراد بالأبناء من اتّصل بالإنسان بولادة سواء كان ذلك بلا واسطة أو بواسطة ابن أو بنت، و تقييده بقوله:( الّذينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ) احتراز عن حليلة من يدعى ابناً بالتبنّيّ دون الولادة.

قوله تعالى: ( وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إلّا ما قَدْ سَلَفَ ) المراد به بيان تحريم نكاح اُخت الزوجة مادامت الزوجة حيّة باقية تحت حبالة الزوجيّة فهو أوجز عبارة و أحسنها في تأدية المراد، و إطلاق الكلام ينصرف إلى الجمع بينهما في النكاح في زمان واحد، فلا مانع من أن ينكح الرجل إحدى الاُختين ثمّ يتزوّج بالاُخرى بعد طلاق الاُولي أو موتها و من الدليل عليه السيرة القطعيّة بين المسلمين المتّصلة بزمان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و أمّا قوله:( إلّا ما قَدْ سَلَفَ ) فهو كنظيره المتقدّم في قوله:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إلّا ما قَدْ سَلَفَ ) ناظر إلى ما كان معمولاً به بين عرب الجاهليّة من الجمع بين الاُختين، و المراد به بيان العفو عمّا سلف من عملهم بالجمع بين الاُختين قبل نزول هذه الآية دون ما لو كان شي‏ء من ذلك في زمان النزول بنكاح سابق فإنّ الآية تدلّ على منعه لأنّه جمع بين الاُختين بالفعل كما يدلّ عليه أيضاً ما تقدّم نقله من أسباب نزول قوله:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) الآية حيث فرق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الآية بين الأبناء و بين نساء آبائهم مع كون النكاح قبل نزول الآية.

و رفع التحريم - و هو الجواز - عن نكاح سالف لا يبتلى به بالفعل، و العفو عنه من حيث نفس العمل المنقضي و إن كان لغواً لا أثر له لكنّه لا يخلو عن الفائدة من حيث آثار العمل الباقية بعده كطهارة المولد و اعتبار القرابة مع الاستيلاد و نحو ذلك.

و بعبارة اُخرى لا معنى لتوجيه الحرمة أو الإباحة إلى نكاح سابق قد جمع بين الاُختين إذا ماتتا مثلاً أو ماتت إحداهما أو حلّ الطلاق بهما أو بإحداهما لكن يصحّ رفع الإلغاء و التحريم عن مثل هذا النكاح باعتبار ما استتّبعه من الأولاد من حيث الحكم بطهارة مولدهم، و وجود القرابة بينهم و بين آبائهم المولّدين لهم و سائر قرابات الآباء، المؤثّر ذلك في الإرث و النكاح و غير ذلك.

٢٨٤

و على هذا فقوله:( إلّا ما قَدْ سَلَفَ ) استثناء من الحكم باعتبار آثاره الشرعيّة لا باعتبار أصل تعلّقه بعمل قد انقضى قبل التشريع و من هنا يظهر أنّ الاستثناء متّصل لا منقطع كما ذكره المفسّرون.

و يمكن أن يرجع الاستثناء إلى جميع الفقرات المذكورة في الآية من غير أن يختصّ بقوله:( وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) فإنّ العرب و إن كانت لا ترتكب من هذه المحرّمات إلّا الجمع بين الاُختين، و لم تكن تقترف نكاح الاُمّهات و البنات و سائر ما ذكرت في الآية إلّا أنّ هناك اُمماً كانت تنكح أقسام المحارم كالفرس و الروم و سائر الاُمم المتمدّنة و غير المتمدّنة يوم نزول الآيات على اختلافهم فيه، و الإسلام يعتبر صحّة نكاح الاُمم غير المسلمة الدائر بينهم على مذاهبهم فيحكم بطهارة مولدهم، و يعتبر صحّة قرابتهم بعد الدخول في دين الحقّ، هذا، لكنّ الوجه الأوّل أظهر.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) تعليل راجع إلى الاستثناء، و هو من الموارد الّتي تعلّقت فيها المغفرة بآثار الأعمال في الخارج دون الذنوب و المعاصي.

قوله تعالى: ( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) المحصنات بفتح الصاد اسم مفعول من الإحصان و هو المنع، و منه الحصن الحصين أي المنيع يقال: أحصنت المرأة إذا عفّت فحفظت نفسها و امتنعت عن الفجور، قال تعالى:( الّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها ) التحريم: ١٢، أي عفّت و يقال: أحصنت المرأة - بالبناء للفاعل و المفعول - إذا تزوّجت فأحصن زوجها أو التزوّج إيّاها من غير زوجها، و يقال: أحصنت المرأة إذا كانت حرّة فمنعها ذلك من أن يمتلك الغير بضعها أو منعها ذلك من الزنا لأنّ ذلك كان فاشياً في الإماء.

و الظاهر أنّ المراد بالمحصنات في الآية هو المعنى الثاني أي المتزوّجات دون الأوّل و الثالث لأنّ الممنوع المحرّم في غير الأصناف الأربعة عشر المعدودة في الآيتين هو نكاح المزوّجات فحسب فلا منع من غيرها من النساء سواء كانت عفيفة أو غيرها، و سواء كانت حرّة أو مملوكة فلا وجه لأن يراد بالمحصنات في الآية العفائف مع عدم اختصاص حكم المنع بالعفائف ثمّ يرتكب تقييد الآية بالتزويج، أو حمل اللّفظ على

٢٨٥

إرادة الحرائر مع كون الحكم في الإماء أيضاً مثلهنّ ثمّ ارتكاب التقييد بالتزويج فإنّ ذلك أمر لا يرتضيه الطبع السليم.

فالمراد بالمحصنات من النساء المزوّجات و هي الّتي تحت حبالة التزويج، و هو عطف على موضع اُمّهاتكم، و المعنى: و حرّمت عليكم كلّ مزوّجة من النساء ما دامت مزوّجة ذات بعل.

و على هذا يكون قوله:( إلّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) رفعاً لحكم المنع عن محصنات الإماء على ما ورد في السنّة أنّ لمولى الاُمّة المزوّجة أن يحول بين مملوكته و زوجها ثمّ ينالها عن استبراء ثمّ يردّها إلى زوجها.

و أمّا ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بقوله:( إلّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) إلّا ما ملكت أيمانكم بالنكاح أو بملك الرقبة من العفائف فالمراد بالملك ملك الاستمتاع و التسلّط على المباشرة ففيه أوّلاً أنّه يتوقّف على أن يراد بالمحصنات العفائف دون المزوّجات و قد عرفت ما فيه، و ثانياً أنّ المعهود من القرآن إطلاق هذه العبارة على غير هذا المعنى، و هو ملك الرقبة دون التسلّط على الانتفاع و نحوه.

و كذا ما ذكره بعض آخر أنّ المراد بما ملكته الأيمان الجواري المسبيّات إذا كنّ ذوات أزواج من الكفّار، و أيّد ذلك‏ بما روي عن أبي سعيد الخدريّ: أن الآية نزلت في سبي أوطاس حيث أصاب المسلمون نساء المشركين، و كانت لهنّ أزواج في دار الحرب فلمّا نزلت نادى منادي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إلّا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن و لا غير الحبالى حتّى يستبرأن.

و فيه مضافاً إلى ضعف الرواية أنّ ذلك تخصيص للآية من غير مخصّص، فالمصير إلى ما ذكرناه.

قوله تعالى: ( كِتابَ الله عَلَيْكُمْ ) أي الزموا حكم الله المكتوب المقضيّ عليكم و قد ذكر المفسّرون أنّ قوله:( كِتابَ الله عَلَيْكُمْ ) منصوب مفعولاً مطلقاً لفعل مقدّر، و التقدير: كتب الله كتاباً عليكم ثمّ حذف الفعل و اُضيف المصدر إلى فاعله و

٢٨٦

اُقيم مقامه، و لم يأخذوا لفظ عليكم اسم فعل لما ذكره النحويّون أنّه ضعيف العمل لا يتقدّم معموله عليه، هذا.

قوله تعالى: ( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) ظاهر التعبير بما الظاهرة في غير اُولي العقل، و كذا الإشارة بذلكم الدالّ على المفرد المذكّر، و كذا قوله بعده:( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ) ، أن يكون المراد بالموصول و اسم الإشارة هو المقدّر في قوله: حرّمت عليكم اُمّهاتكم، المتعلّق به التحريم من الوطء و النيل أو ما هو من هذا القبيل، و المعنى: و اُحلّ لكم من نيلهنّ ما هو غير ما ذكر لكم، و هو النيل بالنكاح في غير من عدّ من الأصناف الخمسة عشر أو بملك اليمين، و حينئذ يستقيم بدلية قوله:( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ) ، من قوله:( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) كلّ الاستقامة.

و قد ورد عن المفسّرين في هذه الجملة من الآية تفاسير عجيبة كقول بعضهم: إنّ معنى قوله:( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) : اُحلّ لكم ما وراء ذات المحارم من أقاربكم، و قول بعض آخر: إنّ المراد : أحلّ لكم ما دون الخمس و هي الأربع فما دونها أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح، و قول بعض آخر: إنّ المعنى اُحلّ لكم ما وراء ذلكم ممّا ملكت أيمانكم، و قول بعض آخر: معناها اُحلّ لكم ما وراء ذات المحارم و الزيادة على الأربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحاً أو ملك يمين.

و هذه وجوه سخيفة لا دليل على شي‏ء منها من قبل اللّفظ في الآية، على أنّها تشترك في حمل لفظة ما في الآية على اُولي العقل، و لا موجب له كما عرفت آنفاً، على أنّ الآية في مقام بيان المحرّم من نيل النساء من حيث أصناف النساء لا من حيث عدد الأزواج فلا وجه لتحميل إرادة العدد على الآية، فالحقّ أنّ الجملة في مقام بيان جواز نيل النساء فيما سوى الأصناف المعدودة منهنّ في الآيتين السابقتين بالنكاح أو بملك اليمين.

قوله تعالى: ( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) بدل أو عطف بيان من قوله:( ما وَراءَ ذلِكُمْ ) يتبيّن به الطريق المشروع في نيل النساء و مباشرتهنّ، و ذلك أنّ الّذي يشمله قوله:( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) من المصداق ثلاثة: النكاح

٢٨٧

و ملك اليمين و السفاح و هو الزنا فبيّن بقوله:( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ) إلخ، المنع عن السفاح و قصر الحلّ في النكاح و ملك اليمين ثمّ اعتبر الابتغاء بالأموال و هو في النكاح المهر و الاُجرة - ركن من أركانه - و في ملك اليمين الثمن - و هو الطريق الغالب في تملّك الإماء - فيؤول معنى الآية إلى مثل قولنا: اُحلّ لكم فيما سوى الأصناف المعدودة أن تطلبوا مباشرة النساء و نيلهنّ بإنفاق أموالكم في أجرة المنكوحات من النساء نكاحاً من غير سفاح أو إنفاقها في ثمن الجواري و الإماء.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالإحصان في قوله:( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) إحصان العفّة دون إحصان التزوّج و إحصان الحرّيّة فإنّ المراد بابتغاء الأموال في الآية أعمّ ممّا يتعلّق بالنكاح أو بملك اليمين و لا دليل على قصرها في النكاح حتّى يحمل الإحصان على إحصان التزوج، و ليس المراد بإحصان العفّة الاحتراز عن مباشرة النساء حتّى ينافي المورد بل ما يقابل السفاح أعني التعدّي إلى الفحشاء بأيّ وجه كان بقصر النفس في ما اُحلّ الله، و كفّها عمّا حرّم الله من الطرق العاديّة في التمتّع المباشريّ الّذي اُودع النزوع إليه في جبلّة الإنسان و فطرته.

و بما قدّمناه يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أنّ قوله( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ) ، بتقدير لام الغاية أو ما يؤدّي معناها، و التقدير لتبتغوا، أو إرادة أن تبتغوا.

و ذلك أنّ مضمون قوله:( أَنْ تَبْتَغُوا ) ، بوجه عين ما اُريد بقوله:( ما وَراءَ ذلِكُمْ ) لا أنّه أمر مترتّب عليه مقصود لأجله، و هو ظاهر.

و كذا ما يظهر من كلام بعضهم: أنّ المراد بالمسافحة مطلق سفح الماء و صبّه من غير أن يقصد به الغاية الّتي وضع الله سبحانه هذه الداعية الشهويّة الفطريّة في الإنسان لأجلها، و هي غرض تكوين البيت و إيجاد النسل و الولد، و بالمقابلة يكون الإحصان هو الازدواج الدائم الّذي يكون الغرض منه التوالد و التناسل، هذا.

و إنّي لست أرى هذا القائل إلّا أنّه اختلط عليه طريق البحث فخلط البحث في ملاك الحكم المسمّى بحكمة التشريع بالبحث عن نفس الحكم فلزمه ما لا يسعه الالتزام به من اللّوازم.

٢٨٨

و أحد الباحثين و هو البحث عن الملاك عقليّ، و الآخر و هو البحث عن الحكم الشرعيّ و ما له من الموضوع و المتعلّق و الشرائط و الموانع لفظيّ يتّبع في السعة و الضيق البيان اللّفظيّ من الشارع، و إنّا لا نشكّ أنّ جميع الأحكام المشرّعة تتّبع مصالح و ملاكات حقيقيّة، و حكم النكاح الّذي هو أيضاً أحدها يتبع في تشريعه مصلحة واقعيّة و ملاكاً حقيقيّاً، و هو التوالد و التناسل، و نعلم أنّ نظام الصنع و الإيجاد أراد من النوع الإنسانيّ البقاء النوعيّ ببقاء الأفراد ما شاء الله، ثمّ احتيل إلى هذا الغرض بتجهيز البنية الإنسانيّة بجهاز التناسل الّذي يفصل أجزاءً منه فيربّيه و يكوّنه إنساناً جديداً يخلف الإنسان القديم فتمتدّ به سلسلة النوع من غير انقطاع، و احتيل إلى تسخير هذا الجهاز للعمل و الإنتاج بإيداع القوّة الشهوانيّة الّتي يحنّ بها أحد القبيلين - الذكر و الاُنثى - من الأفراد إلى الآخر، و ينجذب بها كلّ إلى صاحبه بالوقوع عليه و النيل، ثمّ كمّل ذلك بالعقل الّذي يمنع من إفساد هذا السبيل الّذي يندب إليه نظام الخلقة.

و في عين أنّ نظام الخلقة بالغ أمره و واجد غرضه الّذي هو بقاء النوع لسنا نجد أفراد هذه الاتّصالات المباشريّة بين الذكر و الاُنثى و لا أصنافها موصلة إلى غرض الخلقة دائماً بل إنّما هي مقدّمة غالبيّة، فليس كلّ ازدواج مؤدّياً إلى ظهور الولد، و لا كلّ عمل تناسليّ كذلك، و لا كلّ ميل إلى هذا العمل يؤثّر هذا الأثر، و لا كلّ رجل أو كلّ امرأة، و لا كلّ ازدواج يهدي هداية اضطراريّة إلى الذواق فالاستيلاد، فالجميع اُمور غالبيّة.

فالتجهّز التكوينيّ يدعو الإنسان إلى الازدواج طلباً للنسل من طريق الشهوة، و العقل المودوع فيه يضيف إلى ذلك التحرّز و حفظ النفس عن الفحشاء المفسد لسعادة العيش، الهادم لأساس البيوت، القاطع للنسل.

و هذه المصلحة المركّبة أعني مصلحة الاستيلاد و الأمن من دبيب الفحشاء هي الملاك الغالبيّ الّذي بني عليه تشريع النكاح في الإسلام غير أنّ الأغلبيّة من أحكام الملاك، و أمّا الأحكام المشرّعة لموضوعاتها فهي لا تقبل إلّا الدوام.

٢٨٩

فليس من الجائز أن يقال: إنّ النكاح أو المباشرة يتبعان في جوازهما الغرض و الملاك المذكور وجوداً و عدماً فلا يجوز نكاح إلّا بنيّة التوالد، و لا يجوز نكاح العقيم و لا نكاح العجوز الّتي لا ترى الحمرة، و لا يجوز نكاح الصغيرة، و لا يجوز نكاح الزاني و لا يجوز مباشرة الحامل، و لا مباشرة من غير إنزال، و لا نكاح من غير تأسيس بيت، و لا يجوز و لا يجوز ....

بل النكاح سنّة مشروعة بين قبيلي الذكر و الاُنثى لها أحكام دائميّة، و قد اُريد بهذه السنّة المشروعة حفظ مصلحة عامّة غالبيّة كما عرفت فلا معنى لجعل سنّة مشروعة تابعة لتحقّق الملاك وجوداً و عدماً، و المنع عمّا لا يتحقّق به الملاك من أفراده أو أحكامه.

قوله تعالى: ( فَمَا اسْتمتّعتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) كان الضمير في قوله:( بِهِ ) راجع إلى ما يدلّ عليه قوله:( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) و هو النيل أو ما يؤدّي معناه، فيكون( ما ) للتوقيت، و قوله( مِنْهُنَّ ) متعلّقاً بقوله:( اسْتمتّعتُمْ ) و المعنى: مهما استمتعتم بالنيل منهنّ فآتوهنّ اُجورهنّ فريضة.

و يمكن أن يكون ما موصولة، و استمتعتم صلة لها، و ضمير به راجعاً إلى الموصول و قوله( مِنْهُنَّ ) بياناً للموصول، و المعنى: و من استمتعتم به من النساء إلخ.

و الجملة أعني قوله:( فَمَا اسْتمتّعتُمْ ) إلخ تفريع لما تقدّمها من الكلام - لمكان الفاء - تفريع البعض على الكلّ أو تفريع الجزئيّ على الكلّيّ بلا شكّ فإنّ ما تقدّم من الكلام أعني قوله:( أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) كما تقدّم بيانه شامل لما في النكاح و ملك اليمين، فتفريع قوله:( فَمَا اسْتمتّعتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) عليه يكون من تفريع الجزء على الكلّ أو تفريع بعض الأقسام الجزئيّة على المقسم الكلّيّ.

و هذا النوع من التفريع كثير الورود في كلامه تعالى كقوله عزّ من قائل:( أيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ ) الآية: البقرة: ١٨٤، و قوله:( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ) الآية: البقرة: ١٩٦، و قوله:( لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ

٢٩٠

قَدْ تبيّن الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِالله ) الآية البقرة: ٢٥٦، إلى غير ذلك.

و المراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شكّ فإنّ الآية مدنيّة نازلة في سورة النساء في النصف الأوّل من عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها، و هذا النكاح أعني نكاح المتعة كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شكّ - و قد أطبقت الأخبار على تسلّم ذلك - سواء كان الإسلام هو المشرّع لذلك أو لم يكن فأصل وجوده بينهم بمرأى من النبيّ و مسمع منه لا شكّ فيه، و كان اسمه هذا الاسم و لا يعبّر عنه إلّا بهذا اللّفظ فلا مناص من كون قوله:( فَمَا اسْتمتّعتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) محمولاً عليه مفهوماً منه هذا المعنى كما أنّ سائر السنن و العادات و الرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة كلّما نزلت آية متعرّضة لحكم متعلّق بشي‏ء من تلك الأسماء بإمضاء أو ردّ أو أمر أو نهي لم يكن بدّ من حمل الأسماء الواردة فيها على معانيها المسمّاة بها من غير أن تحمل على معانيها اللّغويّة الأصليّة.

و ذلك كالحجّ و البيع و الربا و الربح و الغنيمة و سائر ما هو من هذا القبيل فلم يمكن لأحد أن يدّعي أنّ المراد بحجّ البيت قصده، و هكذا، و كذلك ما أتى به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الموضوعات الشرعيّة ثمّ شاع الاستعمال حتّى عرفت بأساميها الشرعيّة كالصلاة و الصوم و الزكاة و حجّ التمتّع و غير ذلك لا مجال بعد تحقّق التسمية لحمل ألفاظها الواقعة في القرآن الكريم على معانيها اللّغويّة الأصليّة بعد تحقّق الحقيقة الشرعيّة أو المتشرّعيّة فيها.

فمن المتعيّن أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة لدورانه بهذا الاسم عندهم يوم نزول الآية سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنّة أو لم نقل فإنّما هو أمر آخر.

و جملة الأمر أنّ المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة، و هو المنقول عن القدماء من مفسّري الصحابة و التابعين كابن عبّاس و ابن مسعود و اُبيّ بن كعب و قتادة و

٢٩١

مجاهد و السدّيّ و ابن جبير و الحسن و غيرهم، و هو مذهب أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و منه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في تفسير الآية أنّ المراد بالاستمتاع هو النكاح فإنّ إيجاد علقة النكاح طلب للتمتّع منها هذا، و ربّما ذكر بعضهم أنّ السين و التاء في استمتعتم للتأكيد، و المعنى: تمتّعتم.

و ذلك لأنّ تداول نكاح المتعة (بهذا الاسم) و معروفيّته بينهم لا يدع مجالاً لخطور هذا المعنى اللّغويّ بذهن المستمعين.

على أنّ هذا المعنى على تقدير صحّته و انطباق معنى الطلب على المورد أو كون استمتعتم بمعنى تمتّعتم، لا يلائم الجزاء المترتّب عليه أعني قوله:( فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) ، فإنّ المهر يجب بمجرّد العقد، و لا يتوقّف على نفس التمتّع و لا على طلب التمتّع الصادق على الخطبة و إجراء العقد و الملاعبة و المباشرة و غير ذلك، بل يجب نصفه بالعقد و نصفه الآخر بالدخول.

على أنّ الآيات النازلة قبل هذه الآية قد استوفت بيان وجوب إيتاء المهر على جميع تقاديره، فلا وجه لتكرار بيان الوجوب، و ذلك كقوله تعالى:( وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) الآية: النساء ٤، و قوله تعالى:( وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شيئاً ) الآيتان: النساء: ٢٠، و قوله تعالى:( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ - إلى أن قال -وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) الآيتان: البقرة: ٢٣٨.

و ما احتمله بعضهم أنّ الآية أعني قوله:( فَمَا اسْتمتّعتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ) مسوقة للتأكيد يرد عليه أنّ سياق ما نقل من الآيات و خاصّة سياق ذيل قوله:( وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ ) الآيتين أشدّ و آكد لحناً من هذه الآية فلا وجه لكون هذه مؤكّدة لتلك.

و أمّا النسخ فقد قيل: إنّ الآية منسوخة بآية المؤمنون:( وَ الّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إلّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى‏ وَراءَ ذلِكَ

٢٩٢

فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) المؤمنون: ٧، و قيل منسوخة بآية العدّة:( يا أَيُّهَا النبيّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) الطلاق: ١،( وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) الآية: البقرة: ٢٢٨، حيث إنّ انفصال الزوجين إنّما هو بطلاق و عدّة و ليسا في نكاح المتعة، و قيل: منسوخة بآيات الميراث:( وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) الآية: النساء: ١٢، حيث لا إرث في نكاح المتعة، و قيل منسوخة بآية التحريم:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ ) الآية، فإنّها في النكاح، و قيل: منسوخة بآية العدد:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) الآية: النساء: ٣، و قيل: منسوخة بالسنّة نسخها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام خيبر، و قيل: عام الفتح، و قيل: في حجّة الوداع، و قيل: اُبيحت متعة النساء ثمّ حرّمت مرّتين أو ثلاثاً، و آخر ما وقع و استقرّ عليه من الحكم الحرمة.

أما النسخ بآية المؤمنون، ففيه أنّها لا تصلح للنسخ، فإنّها مكّيّة و آية المتعة مدنيّة، و لا تصلح المكّيّة لنسخ المدنيّة، على أنّ عدم كون المتعة نكاحاً و المتمتّع بها زوجة ممنوع، و ناهيك في ذلك ما وقع في الأخبار النبوّية، و في كلمات السلف من الصحابة و التابعين من تسميتها نكاحاً، و الإشكال عليه بلزوم التوارث و الطلاق و غير ذلك سيأتي الجواب عنه.

و أمّا النسخ بسائر الآيات كآية الميراث و آية الطلاق و آية العدد ففيه أنّ النّسبة بينها و بين آية المتعة ليست نسبة الناسخ و المنسوخ، بل نسبة العامّ و المخصّص أو المطلق و المقيّد، فإنّ آية الميراث مثلاً يعمّ الأزواج جميعاً من كلّ دائم و منقطع و السنّة تخصّصها بإخراج بعض أفرادها، و هو المنقطع من تحت عمومها، و كذلك القول في آية الطلاق و آية العدد، و هو ظاهر، و لعلّ القول بالنسخ ناش من عدم التمييز بين النسبتين.

نعم ذهب بعض الاُصوليّين فيما إذا ورد خاصّ ثمّ عقّبه عامّ يخالفه في الإثبات و النفي إلى أنّ العامّ ناسخ للخاصّ. لكن هذا مع ضعفه على ما بيّن في محلّه غير منطبق على مورد الكلام، و ذلك لوقوع آيات الطلاق (و هي العامّ) في سورة البقرة، و هي أوّل سورة مدنيّة نزلت قبل سورة النساء المشتملة على آية المتعة، و كذلك آية

٢٩٣

العدد واقعة في سورة النساء متقدّمة على آية المتعة، و كذلك آية الميراث واقعة قبل آية المتعة في سياق واحد متّصل في سورة واحدة فالخاصّ أعني آية المتعة متأخّر عن العامّ على أيّ حال.

و أمّا النسخ بآية العدّة فبطلانه أوضح فإنّ حكم العدّة جار في المنقطعة كالدائمة و إن اختلفتا مدّة فيؤول إلى التخصيص أيضاً دون النسخ.

و أمّا النسخ بآية التحريم فهو من أعجب ما قيل في هذا المقامأمّا أوّلاً فلأنّ مجموع الكلام الدالّ على التحريم و الدالّ على حكم نكاح المتعة كلام واحد مسرود متّسق الأجزاء متّصل الأبعاض فكيف يمكن تصوّر تقدّم ما يدلّ على المتعة ثمّ نسخ ما في صدر الكلام لذيله؟،و أمّا ثانياً فلأنّ الآية غير صريحة و لا ظاهرة في النهي عن الزوجيّة غير الدائمة بوجه من الوجوه، و إنّما هي في مقام بيان أصناف النساء المحرّمة على الرجال ثمّ بيان جواز نيل غيرها بنكاح أو بملك يمين، و نكاح المتعة نكاح على ما تقدّم، فلا نسبة بين الأمرين بالمباينة حتّى يؤول إلى النسخ.

نعم ربّما قيل: إنّ قوله تعالى:( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) حيث قيّد حلّيّة النساء بالمهر و بالإحصان من غير سفاح، و لا إحصان في النكاح المنقطع - و لذلك لا يرجم الرجل المتمتّع إذا زنا لعدم كونه محصناً - يدفع كون المتعة مراده بالآية.

لكن يرد عليه ما تقدّم أنّ المراد بالإحصان في قوله( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) هو إحصان العفّة دون إحصان التزوّج لكون الكلام بعينه شاملاً لملك اليمين كشموله النكاح، و لو سلّم أنّ المراد بالإحصان هو إحصان التزوّج عاد الأمر إلى تخصيص الرجم في زنا المحصن بزنا المتمتّع المحصن بحسب السنّة دون الكتاب فإنّ حكم الرجم غير مذكور في الكتاب من أصله.

و أمّا النسخ بالسنة ففيه - مضافاً إلى بطلان هذا القسم من النسخ من أصله لكونه مخالفاً للأخبار المتواترة الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب و طرح ما خالفه، و الرجوع إلى الكتاب - ما سيأتي في البحث الروائيّ.

٢٩٤

قوله تعالى: ( وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ ) ، الطول الغنى و الزيادة في القدرة، و كلا المعنيين يلائمان الآية، و المراد بالمحصنات الحرائر بقرينة مقابلته بالفتيات، و هذا بعينه يشهد على أن ليس المراد بها العفائف، و إلّا لم تقابل بالفتيات بل بها و بغير العفائف، و ليس المراد بها ذوات الأزواج إذ لا يقع عليها العقد و لا المسلمات و إلّا لاستغنى عن التقييد بالمؤمنات.

و المراد بقوله:( فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) ما ملكته أيمان المؤمنين غير من يريد الازدواج و إلّا فتزوج الإنسان بملك يمين نفسه باطل غير مشروع، و قد نسب ملك اليمين إلى المؤمنين و فيهم المريد للتزوّج بعدّ الجميع واحداً غير مختلف لاتّحادهم في الدين، و اتّحاد مصالحهم و منافعهم كأنّهم شخص واحد.

و في تقييد المحصنات و كذا الفتيات بالمؤمنات إشارة إلى عدم جواز تزوج غير المؤمنات من كتابيّة و مشركة، و لهذا الكلام تتمّة ستمرّ بك إن شاء الله العزيز في أوائل سورة المائدة.

و محصّل معنى الآية أنّ من لم يقدر منكم على أن ينكح الحرائر المؤمنات لعدم قدرته على تحمّل أثقال المهر و النفقة فله أن ينكح من الفتيات المؤمنات من غير أن يتحرّج من فقدان القدرة على الحرائر، و يعرض نفسه على خطرات الفحشاء و معترض الشقاء.

فالمراد بهذا النكاح هو النكاح الدائم، و الآية في سياق التنزّل أي إن لم يمكنكم كذا فيمكنكم كذا، و إنّما قصّر الكلام في صورة التنزّل على بعض أفراد المنزّل عنه أعني على النكاح الدائم الّذي هو بعض أفراد النكاح الجائز لكون النكاح الدائم هو المتعارف المتعيّن بالطبع في نظر الإنسان المريد تأسيس البيت و إيجاد النسل و تخليف الولد، و نكاح المتعة تسهيل دينيّ خفّف الله به عن عباده لمصلحة سدّ طريق الفحشاء، و قطع منابت الفساد.

و سوق الكلام على الجهة الغالبة أو المعروفة السابقة إلى الذهن و خاصّة في مقام تشريع الأحكام و القوانين كثير شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى:( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيّام أُخَرَ ) البقرة: ١٨٥، مع أنّ العذر

٢٩٥

لا ينحصر في المرض و السفر، و قوله تعالى:( وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏ أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) النساء: ٤٣، و الأعذار و قيود الكلام - كما ترى - مبنيّة على الغالب المعروف، إلى غير ذلك من الآيات.

هذا على ما ذكروه من حمل الآية على النكاح الدائم، و لا يوجب ذلك من حيث اشتماله على معنى التنزّل و التوسعة اختصاص الآية السابقة بالنكاح الدائم، و كون قوله:( فَمَا اسْتمتّعتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) ، غير مسوق لبيان حكم نكاح المتعة كما توهّمه بعضهم، لأنّ هذا التنزّل و التوسعة واقع بطرفيه (المنزّل عنه و المنزّل إليه) في نفس هذه الآية أعني قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا ) إلخ.

على أنّ الآية بلفظها لا تأبى عن الحمل على مطلق النكاح الشامل للدائم و المنقطع كما سيتّضح بالكلام على بقيّة فقراتها.

قوله تعالى: ( وَ الله أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) لمّا كان الإيمان المأخوذ في متعلّق الحكم أمراً قلبيّاً لا سبيل إلى العلم بحقيقته بحسب الأسباب، و ربّما أوهم تعليقاً بالمتعذّر أو المتعسّر، و أوجب تحرّج المكلّفين منه، بيّن تعالى أنّه هو العالم بإيمان عباده المؤمنين و هو كناية عن أنّهم إنّما كلّفوا الجري على الأسباب الظاهريّة الدالّة على الإيمان كالشهادتين و الدخول في جماعة المسلمين و الإتيان بالوظائف العامّة الدينيّة، فظاهر الإيمان هو الملاك دون باطنه.

و في هداية هؤلاء المكلّفين غير المستطيعين إلى الازدواج بالإماء نقص و قصور آخر في الوقوع موقع التأثير و القبول، و هو أنّ عامّة النّاس يرون لطبقة المملوكين من العبيد و الإماء هواناً في الأمر و خسّة في الشأن و نوع ذلّة و انكسار فيوجب ذلك انقباضهم و جماح نفوسهم من الاختلاط بهم و المعاشرة معهم و خاصّة بالازدواج الّذي هو اشتراك حيويّ و امتزاج باللّحم و الدم.

فأشار سبحانه بقوله:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) إلى حقيقة صريحة يندفع بالتأمّل فيها هذا التوهّم الفاسد فالرقيق إنسان كما أنّ الحرّ إنسان لا يتميّزان في ما به يصير الإنسان واجداً لشؤون الإنسانيّة، و إنّما يفترقان بسلسلة من أحكام موضوعة يستقيم

٢٩٦

بها المجتمع الإنسانيّ في إنتاجه سعادة الناس، و لا عبرة بهذه التميّزات عندالله، و الّذي به العبرة هو التقوى الّذي به الكرامة عندالله، فلا ينبغي للمؤمنين أن ينفعلوا عن أمثال هذه الخطرات الوهميّة الّتي تبعّدهم عن حقائق المعارف المتضمّنة سعادتهم و فلاحهم، فإنّ الخروج عن مستوى الطريق المستقيم، و إن كان حقيراً في بادي أمره لكنّه لا يزال يبعّد الإنسان من صراط الهداية حتّى يورده أودية الهلكة.

و من هنا يظهر أنّ الترتيب الواقع في صدر الآية في صورة الاشتراط و التنزّل، أعني قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) ، إنّما هو جرى في الكلام على مجرى الطبع و العادة، و ليس إلزاماً للمؤمنين على الترتيب بمعنى أن يتوقّف جواز نكاح الاُمّة على فقدان الاستطاعة على نكاح الحرّة بل لكون الناس بحسب طباعهم سالكين هذا المسلك خاطبهم أن لو لم يقدروا على نكاح الحرائر فلهم أن يقدموا على نكاح الفتيات من غير انقباض، و نبّه مع ذلك على أنّ الحرّ و الرقّ من نوع واحد بعض أفراده يرجع إلى بعض.

و من هنا يظهر أيضاً فساد ما ذكره بعضهم في قوله تعالى في ذيل الآية:( وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) أنّ المعنى و صبركم عن نكاح الإماء مع العفّة خير لكم من نكاحهنّ لما فيه من الذلّ و المهانة و الابتذال، هذا، فإنّ قوله:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) ينافي ذلك قطعاً.

قوله تعالى: ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ - إلى قوله -أَخْدانٍ ) المراد بالمحصنات العفائف فإنّ ذوات البعولة لا يقع عليهنّ نكاح، و المراد بالمسافحات ما يقابل متّخذات الأخدان، الأخدان جمع خدن بكسر الخاء و هو الصديق، يستوي فيه المذكّر و المؤنّث و المفرد و الجمع، و إنّما اُتى به بصيغة الجمع للدلالة على الكثرة نصّاً، فمن يأخذ صديقاً للفحشاء لا يقنع بالواحد و الاثنين فيه لأنّ النفس لا تقف على حدّ إذا اُطيعت فيما تهواه.

و بالنظر إلى هذه المقابلة قال من قال: إنّ المراد بالسفاح الزنا جهراً و باتّخاذ الخدن الزنا سرّاً، و قد كان اتّخاذ الخدن متداولاً عند العرب حتّى عند الأحرار و الحرائر لا يعاب به مع ذمّهم زنا العلن لغير الإماء.

٢٩٧

فقوله:( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) إرشاد إلى نكاح الفتيات مشروطاً بأن يكون بإذن مواليهنّ فإنّ زمام أمرهنّ إنّما هو بيد الموالي لا غير، و إنّما عبّر عنهم بقوله:( أَهْلِهِنَّ ) جرياً على ما يقتضيه قوله قبل:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) فالفتاة واحدة من أهل بيت مولاها و مولاها أهلها.

و المراد بإتيانهنّ اُجورهنّ بالمعروف توفيتهنّ مهور نكاحهنّ و إتيان الاُجور إيّاهنّ إعطاؤها مواليهنّ، و قد أرشد إلى الإعطاء بالمعروف عن غير بخس و مماطلة و إيذاء.

قوله تعالى: ( فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ) قرئ اُحصنّ بضمّ الهمزة بالبناء للمفعول و بفتح الهمزة بالبناء للفاعل، و هو الأرجح.

الإحصان في الآية إن كان هو إحصان الازدواج كان أخذه في الشرط المجرّد كون مورد الكلام في ما تقدّم ازدواجهنّ، و ذلك أنّ الاُمّة تعذّب نصف عذاب الحرّة إذا زنت سواء كانت محصنة بالازدواج أو لا من غير أن يؤثّر الإحصان فيها شيئاً زائداً.

و أمّا إذا كان إحصان الإسلام كما قيل - و يؤيّده قراءة فتح الهمزة - تمّ المعنى من غير مؤونة زائدة، و كان عليهنّ إذا زنين نصف عذاب الحرائر سواء كنّ ذوات بعولة أو لا.

و المراد بالعذاب هو الجلد دون الرجم لأنّ الرجم لا يقبل الانتصاف و هو الشاهد على أنّ المراد بالمحصنات الحرائر غير ذوات الأزواج المذكورة في صدر الآية. و اللّام للعهد فمعنى الآية بالجملة أنّ الفتيات المؤمنات إذا أتين بفاحشة و هو الزنا فعليهنّ نصف حدّ المحصنات غير ذوات الأزواج، و هو جلد خمسين سوطاً.

و من الممكن أن يكون المراد بالإحصان إحصان العفّة، و تقريره أنّ الجواري يومئذ لم يكن لهنّ الاشتغال بكلّ ما تهواه أنفسهنّ من الأعمال بما لهنّ من اتّباع أوامر مواليهنّ و خاصّة في الفاحشة و الفجور و كانت الفاحشة فيهنّ - لو اتّفقت - بأمر من مواليهنّ في سبيل الاستغلال بهنّ و الاستدرار من عرضهنّ كما يشعر به النهي الوارد في قوله تعالى:( وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تحصّناً ) النور: ٣٣، فالتماسهنّ

٢٩٨

الفجور و اشتغالهنّ بالفحشاء باتّخاذها عادة و مكسباً كان فيما كان بأمر مواليهنّ من دون أن يسع لهنّ الاستنكاف و التمرّد، و إذا لم يكرههنّ الموالي على الفجور فالمؤمنات منهنّ على ظاهر تقوى الإسلام، و عفّة الإيمان، و حينئذ إن أتين بفاحشة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب، و هو قوله تعالى:( فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ ) إلخ.

و من هنا يظهر أن لا مفهوم لهذه الشرطيّة على هذا المعنى و ذلك أنّهنّ إذا لم يحصنّ و لم يعففن كنّ مكرهات من قبل مواليهنّ مؤتمرات لأمرهم كما لا مفهوم لقوله تعالى:( وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تحصّناً ) النور: ٣٣، حيث إنّهنّ إن لم يردن التحصّن لم يكن موضوع لإكراههنّ من قبل الموالي لرضاهنّ بذلك فافهم.

قوله تعالى: ( ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ) العنت الجهد و الشدّة و الهلاك، و كأنّ المراد به الزنا الّذي هو نتيجة وقوع الإنسان في مشقّة الشبق و جهد شهوة النكاح و فيه هلاك الإنسان. و الإشارة على ما قيل: إلى نكاح الجواري المذكور في الآية، و عليه فمعنى قوله( وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) أن تصبروا عن نكاح الإماء أو عن الزنا خير لكم. و يمكن أن يكون ذلك إشارة إلى وجوب نكاح الإماء أو وجوب مطلق النكاح لو استفيد شي‏ء منهما من سابق سياق الآية و الله أعلم.

و كيف كان فكون الصبر خيراً إن كان المراد هو الصبر عن نكاح الإماء إنّما هو لما فيه من حقوق مواليهنّ و في أولادهنّ على ما فصّل في الفقه، و إن كان المراد الصبر عن الزنا إنّما هو لما في الصبر من تهذيب النفس و تهيئة ملكة التقوى فيها بترك اتّباع هواها في الزنا من غير ازدواج أو معه، و الله غفور رحيم يمحو بمغفرته آثار خطرات السوء عن نفوس المتّقين من عباده و يرحمهم برحمته.

قوله تعالى: ( يُرِيدُ الله لِيبيّن لَكُمْ ) إلى آخر الآية، بيان و إشارة إلى غاية تشريع ما سبق من الأحكام في الآيات الثلاث و المصالح الّتي تترتّب عليها إذا عمل بها فقوله:( يُرِيدُ الله لِيبيّن لَكُمْ ) أي أحكام دينه ممّا فيه صلاح دنياكم و عقباكم، و ما في

٢٩٩

ذلك من المعارف و الحكم و على هذا فمعمول قوله: لِيبيّن محذوف للدلالة على فخامة أمره و عظم شأنه، و يمكن أن يكون قوله:( لِيبيّن لَكُمْ ) ، و قوله:( وَ يَهْدِيَكُمْ ) متنازعين في قوله:( سُنَنَ الّذينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) أي طرق حياة السابقين من الأنبياء و الاُمم الصالحة، الجارين في الحياة الدنيا على مرضاة الله، الحائزين به سعادة الدنيا و الآخرة، و المراد بسننهم على هذا المعنى سننهم في الجملة لا سننهم بتفاصيلها و جميع خصوصيّاتها فلا يرد عليه أنّ من أحكامهم ما تنسخه هذه الآيات بعينها كازدواج الإخوة بالأخوات في سنّة آدم، و الجمع بين الاُختين: في سنّة يعقوبعليه‌السلام ، و قد جمععليه‌السلام بين الاُختين ليا اُمّ يهودا و راحيل اُمّ يوسف على ما في بعض الأخبار، هذا.

و هنا معنى آخر قيل به، و هو أنّ المراد الهداية إلى سنن جميع السابقين سواء كانوا على الحقّ أو على الباطل، يعني أنّا بيّنا لكم جميع السنن السابقة من حقّ و باطل لتكونوا على بصيرة فتأخذوا بالحقّ منها و تدعوا الباطل.

و هذا معنى لا بأس به غير أنّ الهداية في القرآن غير مستعمل في هذا المعنى، و إنّما استعمل فيما استعمل في الإيصال إلى الحقّ أو إرادة الحقّ كقوله:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) القصص: ٥٦، و قوله:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أمّا شاكِراً وَ أمّا كَفُوراً ) الإنسان: ٣، و الأوفق بمذاق القرآن أن يعبّر عن أمثال هذه المعاني بلفظ التبيين و القصص و نحو ذلك.

نعم لو جعل قوله يبيّن و قوله:( وَ يَهْدِيَكُمْ ) متنازعين في قوله:( سُنَنَ الّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) و قوله:( وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) أيضاً راجعاً إليه، و آل المعنى إلى أنّ الله يبيّن لكم سنن الّذين من قبلكم، و يهديكم إلى الحقّ منها، و يتوب عليكم فيما ابتليتم به من باطلها كان له وجه فإنّ الآيات السابقة فيها ذكر من سنن السابقين و الحقّ و الباطل منها، و التوبة على ما قد سلف من السنن الباطلة.

قوله تعالى: ( وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) التوبة المذكورة هو رجوعه إلى عبده بالنعمة و الرحمة، و تشريع الشريعة، و بيان الحقيقة، و الهداية إلى طريق الاستقامة

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458