الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134584 / تحميل: 6224
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

اختياريّة و إن ارتفع موضوعها بالموت كما تقدّم لكنّ التوبة منه تعالى بمعنى الرجوع بالمغفرة و الرحمة يمكن أن يتحقّق بعد الموت لشفاعة الشافعين، و هذا في نفسه من الشواهد على أنّ المراد بالآيتين بيان حال توبة الله سبحانه لعباده لا بيان حال توبة العبد إلى الله إلّا بالتبع.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) اسم الإشارة يدلّ على بعدهم من ساحة القرب و التشريف، و الاعتاد: و الإعداد أو الوعد.

( كلام في التوبة)

التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقيّة المختصّة بهذا الكتاب السماويّ فإنّ التوبة بمعنى الإيمان عن كفر و شرك و إن كانت دائرة في سائر الأديان الإلهيّة كدين موسى و عيسىعليهما‌السلام لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة، و تسريتها إلى الإيمان بل باسم أنّ ذلك إيمان.

حتّى أنّه يلوح من الاُصول الّتي بنوا عليها الديانة المسيحيّة المستقلّة عدم نفع التوبة و استحالة أن يستفيد منها الإنسان كما يظهر ممّا أوردوه في توجيه الصلب و الفداء، و قد تقدّم نقله في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

هذا و قد انجرّ أمر الكنيسة بعد إلى الإفراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة و تتّجر بها، و كان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم! لكنّ القرآن حلّل حال الإنسان بحسب وقوع الدعوة عليه و تعلّق الهداية به فوجده بالنظر إلى الكمال و الكرامة و السعادة الواجبة له في حياته الاُخرويّة عندالله سبحانه الّتي لا غنى له عنها في سيره الاختياريّ إلى ربّه فقيراً كلّ الفقر في ذاته صفر الكفّ بحسب نفسه قال تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى الله وَ الله هُوَ الْغَنِيُّ ) فاطر: ١٥، و قال:( وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً ) الفرقان: ٣.

٢٦١

فهو واقع في مهبط الشقاء و منحطّ البعد و منعزل المسكنة كما يشير إليه قوله تعالى:( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحسن تَقْوِيمٍ ثمّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ) التين: ٥، و قوله:( وَ إِنْ مِنْكُمْ إلّا وارِدُها كانَ عَلى‏ ربّك حَتْماً مَقْضِيًّا ثمّ نُنَجِّي الّذينَ اتّقوا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) مريم: ٧٢، و قوله:( فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجنّة فَتَشْقى‏ ) طه ١١٧.

و إذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة و استقراره في مستقرّ السعادة يتوقّف على انصرافه عمّا هو فيه من مهبط الشقاء و منحطّ البعد و انقلاعه عنه برجوعه إلى ربّه، و هو توبته إليه في أصل السعادة و هو الإيمان، و في كلّ سعادة فرعيّة و هي كلّ عمل صالح أعني التوبة و الرجوع عن أصل الشقاء و هو الشرك بالله سبحانه، و عن فروعات الشقاء و هي سيّئات الأعمال بعد الشرك، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله و الانخلاع عن ألواث البعد و الشقاء يتوقّف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالإيمان، و التنعّم بأقسام نعم الطاعات و القربات، و بعبارة اُخرى يتوقّف القرب من الله و دار كرامته على التوبة من الشرك و من كلّ معصية، قال تعالى:( وَ تُوبُوا إِلَى الله جميعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) النور: ٣١، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله تعمّ التوبتين جميعاً بل تعمّهما و غيرهما على ما سيجي‏ء إن شاء الله.

ثمّ إنّ الإنسان لمّا كان فقيراً في نفسه لا يملك لنفسه خيراً و لا سعادة قطّ إلّا بربّه كان محتاجاً في هذا الرجوع أيضاً إلى عناية من ربّه بأمره، و إعانة منه له في شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربّه بالعبوديّة و المسكنة إلى رجوع من ربّه إليه بالتوفيق و الإعانة، و هو توبة الله سبحانه لعبده المتقدّمة على توبة العبد إلى ربّه كما قال تعالى:( ثمّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة: ١١٨، و كذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب و تطهيره من القذارات و ألواث البعد، و هذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخّرة عن توبة العبد إلى ربّه كما قال تعالى:( فَأُولئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ ) الآية.

و إذا تأمّلت حقّ التأمّل وجدت أنّ التعدّد في توبة الله سبحانه إنّما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد، و إلّا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده بالرحمة، و يكون ذلك عند توبة العبد رجوعاً إليه قبلها و بعدها، و ربّما كان مع عدم

٢٦٢

توبة من العبد كما تقدّم استفادة ذلك من قوله:( وَ لَا الّذينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كفّار ) ، و أنّ قبول الشفاعة في حقّ العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة و من هذا الباب قوله تعالى:( وَ الله يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الّذينَ يتّبعونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً ) النساء: ٢٧.

و كذلك القرب و البعد لمّا كانا نسبيّين أمكن أن يتحقّق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه و مراحله إلى بعض، و يصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض المقرّبين من عباد الله الصالحين من موقفه الّذي هو فيه إلى موقف أرفع منه و أقرب إلى ربّه، كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء و هم معصومون بنصّ كلامه كقوله تعالى:( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ ربّه كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ ) البقرة: ٣٧، و قوله تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ - إلى قوله -:وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) البقرة: ١٢٨، و قوله تعالى: حكاية عن موسىعليه‌السلام :( سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) الأعراف: ١٤٣، و قوله تعالى خطاباً لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حقّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ ربّك بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ ) المؤمن: ٥٥، و قوله تعالى:( لَقَدْ تابَ الله عَلَى النبيّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الّذينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ ) التوبة: ١١٧.

و هذه التوبة العامّة من الله سبحانه هي الّتي يدلّ عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى:( غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ ) المؤمن: ٣، و قوله تعالى:( يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ) الشورى: ٢٥، إلى غير ذلك.

فتلخّص ممّا مرّأوّلاً أنّ نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه، و إزالة ظلمة المعاصي عن قلبه - سواء في ذلك الشرك و ما دونه - توبة منه تعالى لعبده و أنّ رجوع العبد إلى ربّه لمغفرة ذنوبه و إزالة معاصيه - سواء في ذلك الشرك و غيره - توبة منه إلى ربّه.

و يتبيّن به أنّ من الواجب في الدعوة الحقّة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل الشرك، و تندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك و التوبة عن المعاصي.

و ثانياً: أنّ التوبة من الله سبحانه لعبده أعمّ من المبتدئة و اللّاحقة فضل منه

٢٦٣

كسائر النعم الّتي يتنعّم بها خلقه من غير إلزام و إيجاب يرد عليه تعالى من غيره، و ليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلاً إلّا ما يدلّ عليه أمثال قوله تعالى:( وَ قابِلِ التَّوْبِ ) غافر: ٣، و قوله:( وَ تُوبُوا إِلَى الله جميعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ) النور: ٣١، و قوله:( إِنَّ الله يُحبّ التَّوَّابِينَ ) الآية: البقرة: ٢٢٢، و قوله:( فَأُولئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ ) الآية من الآيات المتضمّنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة، و النادبة إلى التوبة، الداعية إلى الاستغفار و الإنابة و غيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام، و الله سبحانه لا يخلف الميعاد.

و من هنا يظهر أنّ الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد و يردّ ما يردّ منها كما هو ظاهر قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثمّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ) آل عمران: ٩٠، و يمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ آمَنُوا ثمّ كَفَرُوا ثمّ آمَنُوا ثمّ كَفَرُوا ثمّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ) النساء: ١٣٧.

و من عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصّة غرق فرعون و توبته:( حتّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أنّه لا إِلهَ إلّا الّذي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) يونس: ٩١.

قال ما محصّله: أنّ الآية لا تدلّ على ردّ توبته، و ليس في القرآن أيضاً ما يدلّ على هلاكه الأبديّ، و أنّه من المستبعد عند من يتأمّل سعة رحمة الله و سبقتها غضبه أن يجوّز عليه تعالى أنّه يردّ من التجأ إلى باب رحمته و كرامته متذلّلاً مستكيناً بالخيبة و اليأس، و الواحد منّا إذا أخذ بالأخلاق الإنسانيّة الفطريّة من الكرم و الجود و الرحمة ليرحم أمثال هذا الإنسان النادم حقيقة على ما قدّم من سوء الفعال فكيف بمن هو أرحم الراحمين و أكرم الأكرمين و غياث المستغيثين؟.

و هو مدفوع بقوله تعالى:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ للّذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) الآية، و قد تقدّم أنّ الندامة حينئذ ندم كاذب يسوق الإنسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب و نزول البلاء.

٢٦٤

و لو كان كلّ ندم توبة و كلّ توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين يوم القيامة:( وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) سبأ: ٣٣، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا و سؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحاً، و الردّ عليهم بأنّهم لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه و إنّهم لكاذبون.

و إيّاك أن تتوهّم أنّ الّذي سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدّم توضيحه تحليل ذهنيّ لا عبرة به في سوق الحقائق، و ذلك أنّ البحث في باب السعادة و الشقاء و الصلاح و الطلاح الإنسانيّين لا ينتج غير ذلك فإنّا إذا اعتبرنا حال الإنسان العاديّ في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم و التربية في الإنسان وجدناه خالياً في نفسه عن الصلاح و الطلاح الاجتماعيّين قابلاً للأمرين جميعاً ثمّ إذا أراد أن يتحلّى بحلية الصلاح، و يتلبّس بلباس التقوى الاجتماعيّ لم يمكن له ذلك إلّا بتوافق الأسباب على خروجه من الحال الّذي فيه، و ذلك يحاذي التوبة الاُولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنويّة ثمّ انتزاعه و انصراف نفسه عمّا هو فيه من رثاث الحال و قيد التثبّط و الإهمال و هو توبة بمنزلة التوبة من العبد فيما نحن فيه ثمّ زوال هيئة الفساد و وصف الرذالة المستولّية على قلبه حتّى يستقرّ فيه وصف الكمال و نور الصلاح فإنّ القلب لا يسع الصلاح و الطلاح معاً، و هذا يحاذي قبول التوبة و المغفرة فيما نحن فيه و كذلك يجري في مرحلة الصلاح الاجتماعيّ الّذي يسير فيه الإنسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من الأحكام و الآثار جرياً على الفطرة الّتي فطر الله الناس عليها.

و ثالثاً: أنّ التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدّم من الآيات المنقولة و غيرها إنّما هي حقيقة ذات تأثير في النفس الإنسانيّة من حيث إصلاحها و إعدادها للصلاح الإنسانيّ الّذي فيه سعادة دنياه و آخرته و بعبارة اُخرى التوبة إنّما تنفع - إذا نفعت - في إزالة السيّئات النفسانيّة الّتي تجرّ إلى الإنسان كلّ شقاء في حياته الاُولى و الاُخرى و تمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة، و أمّا الأحكام الشرعيّة و القوانين الدينيّة فهي بحالها لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية.

٢٦٥

نعم ربّما ارتبط بعض الأحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل، و هذا غير كون التوبة رافعة لحكم من الأحكام قال تعالى:( وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ الله كانَ تَوَّاباً رَحِيماً ) النساء: ١٦، و قال تعالى:( إنّما جَزاءُ الّذينَ يُحارِبُونَ الله وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إلّا الّذينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ ) المائدة: ٣٤، إلى غير ذلك.

و رابعاً: أنّ الملاك الّذي شرّعت لأجله التوبة على ما تبيّن ممّا تقدّم هو التخلّص من هلاك الذنب و بوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح و مقدّمة الفوز بالسعادة كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ تُوبُوا إِلَى الله جميعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) النور: ٣١، و من فوائدها مضافة إلى ذلك أنّ فيها حفظاً لروح الرجاء من الانخماد و الركود فإنّ الإنسان لا يستقيم سيره الحيوي إلّا بالخوف و الرجاء المتعادلين حتّى يندفع عمّا يضرّه و ينجذب إلى ما ينفعه، و لو لا ذلك لهلك، قال تعالى:( قُلْ يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعاً أنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ ربّكمْ‏ ) الزمر: ٥٤، و لا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعّالة و جدّ في العزيمة و السعي ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة، و إذا بدا له ما يخسر عمله و يخيّب سعيه و يبطل اُمنيّته استولى عليه اليأس و انسلّت به أركان عمله و ربّما انصرف بوجهه عن مسيره آئساً من النجاح خائباً من الفوز و الفلاح، و التوبة هي الدواء الوحيد الّذي يعالج داءه، و يحيي به قلبه و قد أشرف على الهلكة و الردى.

و من هنا يظهر سقوط ما ربّما يتوهّم أنّ في تشريع التوبة و الدعوة إليها إغراءً بالمعصية، و تحريصاً على ترك الطاعة، فإنّ الإنسان إذا أيقن أنّ الله يقبل توبته إذا اقترف أيّ معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثراً، دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله و الانغمار في لجج المعاصي و الذنوب، فيدقّ باب كلّ معصية قاصداً أن يذنب ثمّ يتوب.

٢٦٦

وجه سقوطه: أنّ التوبة إنّما شرعت مضافاً إلى توقّف التحلّيّ بالكرامات على غفران الذنوب: للتحفّظ على صفة الرجاء و تأثيره حسن أثره، و أمّا ما ذكر من استلزامه أن يقصّد الإنسان كلّ معصية بنيّة أن يعصي ثمّ يتوب، فقد فاته أنّ التوبة بهذا النعت لا يتحقّق معها حقيقة التوبة فإنّها انقلاع عن المعصية، و لا انقلاع في هذا الّذي يأتي به، و الدليل عليه أنّه كان عازماً على ذلك قبل المعصية و مع المعصية و بعد المعصية، و لا معنى للندامة (أعني التوبة) قبل تحقّق الفعل بل مجموع الفعل و التوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلاً واحداً مقصوداً بقصد واحد مكراً و خديعة يخدع بها ربّ العالمين، و لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله.

و خامساً: أنّ المعصية و هي الموقف السوء من الإنسان ذو أثر سيّئ في حياته لا يتاب منها و لا يرجع عنها إلّا مع العلم و الإيقان بمساءتها، و لا ينفكّ ذلك عن الندم على وقوعها أوّلاً، و الندم تأثّر خاصّ باطنيّ من فعل السيّئ. و يتوقّف على استقرار هذا، الرجوع ببعض الأفعال الصالحة المنافية لتلك السيّئة الدالّة على الرجوع و التوبة ثانياً.

و إلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعاً من آداب التوبة كالندم و الاستغفار و التلبّس بالعمل الصالح، و الانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك ممّا وردت به الأخبار، و تعرّض له كتب الأخلاق.

و سادساً: أنّ التوبة و هي الرجوع الاختياريّ عن السيّئة إلى الطاعة و العبوديّة إنّما تتحقّق في ظرف الاختيار و هو الحياة الدنيا الّتي هي مستوى الاختيار، و أمّا فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كلّ من طريقي الصلاح و الطلاح و السعادة و الشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه، و قد تقدّم ما يتّضح به ذلك.

و من هذا الباب التوبة فيما يتعلّق بحقوق الناس فإنّها إنّما تصلح ما يتعلّق بحقوق الله سبحانه، و أمّا ما يتعلّق من السيّئة بحقوق الناس ممّا يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا يتدارك بها البتّة لأنّ الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم و أعراضهم و نفوسهم، و عدّ التعدّي إلى أحدهم في شي‏ء من ذلك ظلماً و عدواناً، و حاشاه أن يسلبهم شيئاً ممّا جعله لهم من غير جرم صدر منهم، فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه و يظلمهم بذلك، و قد قال عزّ من قائل:( إِنَّ الله لا يَظْلِمُ النَّاسَ شيئاً ) يونس: ٤٤.

٢٦٧

إلّا أنّ الإسلام و هو التوبة من الشرك يمحو كلّ سيّئة سابقة و تبعة ماضية متعلّقة بالفروع كما يدلّ عليه‏ قولهعليه‌السلام : الإسلام يجبّ ما قبله‏، و به تفسّر الآيات المطلقة الدالة على غفران السيّئات جميعاً كقوله تعالى:( قُلْ يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعاً أنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ ربّكمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ ) الزمر: ٥٤.

و من هذا الباب أيضاً توبة من سنّ سنّة سيّئة أو أضلّ الناس عن سبيل الحقّ و قد وردت أخبار أنّ عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضلّ عن الحقّ فإن حقيقة الرجوع لا تتحقّق في أمثال هذه الموارد لأنّ العاصي أحدث فيها حدثاً له آثار يبقى ببقائها، و لا يتمكّن من إزالتها كما في الموارد الّتي لا تتجاوز المعصية ما بينه و بين ربّه عزّ اسمه.

و سابعاً: أنّ التوبة و إن كانت تمحو ما تمحوه من السيّئات كما يدلّ عليه قوله تعالى:( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ ربّه فَانْتَهى‏ فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى الله ) البقرة: ٢٧٥ على ما تقدّم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب، بل ظاهر قوله تعالى:( إلّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئاتِهِمْ حسناتٍ وَ كانَ الله غَفُوراً رَحِيماً وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً ) الفرقان: ٧١، و خاصّة بملاحظة الآية الثانية أنّ التوبة بنفسها أو بضميمة الإيمان و العمل الصالح توجب تبدّل السيّئات حسنات إلّا أنّ اتّقاء السيّئة أفضل من اقترافها ثمّ إمحائها بالتوبة فإنّ الله سبحانه أوضح في كتابه أنّ المعاصي كيفما كانت إنّما تنتهي إلى وساوس شيطانيّة نوع انتهاء ثمّ عبّر عن المخلصين المعصومين عن زلّة المعاصي و عثرة السيّئات بما لا يعادله كلّ مدح ورد في غيرهم قال تعالى:( قالَ ربّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ) الآيات: الحجر: ٤٢، و قال تعالى حكاية عن إبليس أيضاً في القصّة:( وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) الأعراف: ١٧.

فهؤلاء من الناس مختصّون بمقام العبوديّة التشريفيّة اختصاصاً لا يشاركهم فيه غيرهم من الصالحين التائبين.

٢٦٨

( بحث روائي‏)

في الفقيه، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آخر خطبة خطبها: من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثمّ قال: إنّ السنة لكثيرة و من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه، ثمّ قال: و إنّ الشهر لكثير و من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثمّ قال: و إنّ اليوم لكثير و من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثمّ قال: و إنّ الساعة لكثيرة من تاب و قد بلغت نفسه هذه - و أهوى بيده إلى حلقه - تاب الله عليه.

و سئل الصادقعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ للّذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) قال: ذلك إذا عاين أمر الآخرة.

أقول: الرواية الاُولى رواها في الكافي مسنداً عن الصادقعليه‌السلام ، و هي مرويّة من طرق أهل السنّة و في معناها روايات اُخر.

و الرواية الثانية تفسّر الآية و تفسّر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند حضور الموت بأنّ المراد من حضور الموت العلم به و مشاهدة آيات الآخرة و لا توبة عندئذ، و أمّا الجاهل بالأمر فلا مانع من قبول توبته، و نظيرها بعض ما يأتي من الروايات.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إذا بلغت النفس هذه - و أهوى بيده إلى حنجرته - لم يكن للعالم توبة، و كانت للجاهل توبة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ في التاريخ و الحاكم و ابن مردويه عن أبي ذرّ: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قيل و ما وقوع الحجاب؟ قال: تخرج النفس و هي مشركة.

و فيه، أخرج ابن جرير عن الحسن قال: بلغني أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ إبليس لمّا رأى آدم أجوف قال: و عزّتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح فقال الله تبارك و تعالى: و عزّتي لا أحول بينه و بين التوبة ما دام الروح فيه.

و في الكافي، عن عليّ الأحمسيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: و الله ما ينجو من

٢٦٩

الذنوب إلّا من أقرّ بها، قال: و قال أبوجعفرعليه‌السلام : كفى بالندم توبة.

و فيه، بطريقين عن ابن وهب قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبّه الله تعالى فستر عليه فقلت: و كيف يستر عليه؟ قال، ينسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه ثمّ يوحي الله إلى جوارحه و إلى بقاع الأرض: أن اكتمي عليه ذنوبه فيلقى الله حين يلقاه و ليس شي‏ء يشهد عليه بشي‏ء من الذنوب.

و فيه، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: يا محمّد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة أمّا و الله أنّها ليست إلّا لأهل الإيمان. قلت: فإن عاد بعد التوبة و الاستغفار في الذنوب و عاد في التوبة؟ فقال يا محمّد بن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه فيستغفر الله منه و يتوب ثمّ لا يقبل الله توبته؟ قلت: فإن فعل ذلك مرارا يذنب ثمّ يتوب و يستغفر؟ فقال: كلّما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة عاد الله تعالى عليه بالمغفرة، و إنّ الله غفور رحيم يقبل التوبة، و يعفو عن السيّئات فإيّاك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثمّ اهْتَدى ) ‏ قال: لهذه الآية تفسير يدلّ على ذلك التفسير أنّ الله لا يقبل من عبد عملاً إلّا لمن لقيه بالوفاء منه بذلك التفسير، و ما اشترط فيه على المؤمنين و قال:( إنّما التَّوْبَةُ عَلَى الله للّذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) يعني كلّ ذنب عمله العبد و إن كان به عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، و قد قال في ذلك يحكي قول يوسف لإخوته( هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ ) فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله.

أقول: و الرواية لا تخلو عن اضطراب في المتن و الظاهر أنّ المراد بالصدر أنّ العمل إنّما يقبل إذا وفى به العبد و لم ينقضه فالتوبة إنّما تقبل إذا كانت زاجرة ناهية على الذنب و لو حيناً. و قوله: و قال:( إنّما التَّوْبَةُ ) إلخ كلام مستأنف أراد به بيان أنّ قوله:( بِجَهالَةٍ ) قيد توضيحيّ، و أنّ في مطلق المعصية جهالة على أحد التفسيرين السابقين في ما تقدّم، و قد روي هذا الذيل في المجمع أيضاً عنهعليه‌السلام .‏

٢٧٠

( سورة النساء الآيات ١٩ الى ٢٢)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النّسَاءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنّ إِلّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنّ فَعَسَى‏ أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِير( ١٩) وَإِنْ أَرَدتّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِين( ٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى‏ بَعْضُكُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِيثَاقاً غَلِيظ( ٢١) وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيل( ٢٢)

( بيان)

رجوع إلى أمر النساء بذكر بعض آخر ممّا يتعلّق بهنّ و الآيات مع ذلك مشتملة على قوله:( وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَ يَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) فإنّه أصل قرآنيّ لحياة المرأة الاجتماعيّة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ ) إلى قوله:( كَرْهاً ) كان أهل الجاهليّة - على ما في التاريخ و الرواية - يعدّون نساء الموتى من التركة - إذا لم تكن المرأة أمّا للوارث - فيرثونهنّ مع التركة فكان أحد الورّاث يلقي ثوباً على زوجة الميّت و يرثها فإن شاء تزوّج بها من غير مهر بل بالوراثة و إن كره نكاحها حبسها عنده فإن شاء زوّجها من غيره فانتفع بمهرها، و إن شاء عضلها و منعها النكاح و حبسها حتّى تموت فيرثها إن كان لها مال.

و الآية و إن كان ظاهرها أنّها تنهى عن سنّة دائرة بينهم، و هي الّتي ذكرناها من إرث النساء فتكون مسوقة للردع عن هذه السنّة السيّئة على ما ذكره بعض المفسّرين إلّا أنّ قوله في ذيل الجملة:( كَرْهاً ) لا يلائم ذلك سواء أخذ قيداً توضيحيّاً أو احترازيّاً.

٢٧١

فإنّه لو كان قيداً توضيحيّاً أفاد أنّ هذه الوراثة تقع دائماً على كره من النساء و ليس كذلك، و هو ظاهر، و لو كان قيداً احترازيّاً أفاد أنّ النهي إنّما هو إذا كانت الوراثة على كره من النساء دون ما إذا كان على رضىّ منهنّ، و ليس كذلك.

نعم الكره أمر متحقّق في العضل عن الازدواج طمعاً في ميراثهنّ دائماً أو غالباً بعد القبض عليهنّ بالإرث فالظاهر أنّ الآية في مقام الردع عن هذا الإرث على كره و أمّا نكاحهنّ بالإرث فالمتعرّض للنهي عنه قوله تعالى فيما سيأتي:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) الآية و أمّا تزويجهنّ من الغير و الذهاب بمهرهنّ فينهى عنه مثل قوله تعالى:( وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ ممّا اكْتَسَبْنَ ) النساء: ٣٢، و يدلّ على الجميع قوله تعالى:( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٣٤.

و أمّا قوله بعد:( وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا ) إلخ فهو غير هذا العضل عن الازدواج للذهاب بالمال إرثاً لما في تذييله بقوله:( لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ) من الدلالة على أنّ المراد به الذهاب ببعض المهر الّذي آتاه الزوج العاضل دون المال الّذي امتلكته من غير طريق هذا المهر. و بالجملة الآية تنهى عن وراثة أموال النساء كرهاً منهنّ دون وراثة أنفسهنّ فإضافة الإرث إلى النساء إنّما هي بتقدير الأموال أو يكون مجازاً عقليّاً.

قوله تعالى: ( وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا - إلى قوله -:مُبَيِّنَةٍ ) أمّا معطوف على قوله:( تَرِثُوا ) و التقدير: و لا أن تعضلوهنّ و أمّا نهي معطوف على قوله:( لا يَحِلُّ لَكُمْ ) لكونه في معنى النهي. و العضل هو المنع و التضييق و التشديد. و الفاحشة الطريقة الشنيعة كثر استعمالها في الزنا. و المبيّنة المتبيّنة، و قد نقل عن سيبويه: أنّ أبان و استبان و بيّن و تبيّن بمعنى واحد، تتعدّى و لا تتعدّى يقال: أبان الشي‏ء و استبان و بيّن و تبيّن و يقال: أبنت الشي‏ء و استبنته و بيّنته و تبيّنته.

و الآية تنهى عن التضييق عليهنّ بشي‏ء من وجوه التضييق ليضطررن إلى بذل شي‏ء من الصداق لفكّ عقدة النكاح و التخلّص من ضيق العيشة فالتضييق بهذا القصد محرّم على الزوج إلّا أن يأتي الزوجة بفاحشة مبيّنة فله حينئذ أن يعضلها و يضيّق

٢٧٢

عليها لتفارقه بالبذل، و الآية لا تنافي الآية الاُخرى في باب البذل:( وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا ممّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئاً إلّا أَنْ يَخافا إلّا يُقِيما حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا يُقِيما حُدُودَ الله فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) البقرة: ٢٢٩، و إنّما هو التخصيص. تخصّص هذه الآية آية البقرة بصورة إتيان الفاحشة، و أمّا البذل الّذي في آية البقرة فإنّما هو واقع على تراض منهما فلا تخصّص بها هذه الآية.

قوله تعالى: ( وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) إلى آخر الآية المعروف هو الأمر الّذي يعرفه الناس في مجتمعهم من غير أن ينكروه و يجهلوه، و حيث قيّد به الأمر بالمعاشرة كان المعنى الأمر بمعاشرتهنّ المعاشرة المعروفة بين هؤلاء المأمورين.

و المعاشرة الّتي يعرفها الرجال و يتعارفونها بينهم أنّ الواحد منهم جزء مقوّم للمجتمع يساوي سائر الأجزاء في تكوينه المجتمع الإنسانيّ لغرض التعاون و التعاضد العموميّ النوعيّ فيتوجّه على كلّ منهم من التكليف أن يسعى بما في وسعه من السعي فيما يحتاج إليه المجتمع فيقتني ما ينتفع به فيعطي ما يستغني عنه و يأخذ ما يحتاج إليه فلو عومل واحد من أجزاء المجتمع غير هذه المعاملة و ليس إلّا أن يضطهد بإبطال استقلاله في الجزئيّة فيؤخذ تابعاً ينتفع به و لا ينتفع هو بشي‏ء يحاذيه، و هذا هو الاستثناء.

و قد بيّن الله تعالى في كتابه أنّ الناس جميعاً - رجالاً و نساءً - فروع أصل واحد إنسانيّ، و أجزاء و أبعاض لطبيعة واحدة بشريّة، و المجتمع في تكوّنه محتاج إلى هؤلاء كما هو محتاج إلى اُولئك على حدّ سواء كما قال تعالى:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) النساء: ٢٥.

و لا ينافي ذلك اختصاص كلّ من الطائفتين بخصلة تختصّ به كاختصاص الرجال بالشدّة و القوّة نوعاً، و اختصاص النساء بالرقّة و العاطفة طبعاً فإنّ الطبيعة الإنسانيّة في حياتها التكوينيّة و الاجتماعيّة جميعاً تحتاج إلى بروز الشدّة و ظهور القوّة كما تحتاج إلى سريان المودّة و الرحمة، و الخصلتان جميعاً مظهرا الجذب و الدفع العامّين في المجتمع الإنسانيّ.

٢٧٣

فالطائفتان متعادلتان وزناً و أثراً كما أنّ أفراد طائفة الرجال متساوية في الوزن و التأثير في هذه البنية المكوّنة مع اختلافهم في شؤونهم الطبيعيّة و الاجتماعيّة من قوّة و ضعف، و علم و جهل، و كياسة و بلادة، و صغر و كبر، و رئاسة و مرؤوسيّة، و مخدوميّة و خادميّة، و شرف و خسّة و غير ذلك.

فهذا هو الحكم الّذي ينبعث من ذوق المجتمع المتوسّط الجاري على سنّة الفطرة من غير انحراف، و قد قوّم الإسلام أود الاجتماع الإنسانيّ و أقام عوجه فلا مناص من أن يجري فيه حكم التسوية في المعاشرة و هو الّذي نعبّر عنه بالحرّيّة الاجتماعيّة، و حرّيّة النساء كالرجال، و حقيقتها أنّ الإنسان بما هو إنسان ذو فكر و إرادة له أن يختار ما ينفعه على ما يضرّه مستقلّاً في اختياره ثمّ إذا ورد المجتمع كان له أن يختار ما يختار - ما لم يزاحم سعادة المجتمع الإنسانيّ - مستقلّاً في ذلك من غير أن يمنع عنه أو يتّبع غيره من غير اختيار.

و هذا كما عرفت لا ينافي اختصاص بعض الطبقات أو بعض الأفراد من طبقة واحدة بمزايا أو محروميّته عن مزايا كاختصاص الرجال في الإسلام بالقضاء و الحكومة و الجهاد و وجوب نفقتهنّ على الرجال و غير ذلك، و كحرمان الصبيان غير البالغين عن نفوذ الإقرار و المعاملات و عدم توجّه التكاليف إليهم و نحو ذلك فجميع ذلك خصوصيّات أحكام تعرض الطبقات و أشخاص المجتمع من حيث اختلاف أوزانهم في المجتمع بعد اشتراكهم جميعاً في أصل الوزن الإنسانيّ الاجتماعيّ الّذي ملاكه أنّ الجميع إنسان ذو فكر و إرادة.

و لا تختصّ هذه المختصّات بشريعة الإسلام المقدّسة بل توجد في جميع القوانين المدنيّة بل في جميع السنن الإنسانيّة حتّى الهمجيّة قليلاً أو كثيراً على اختلافها، و الكلمة الجامعة لجميع هذه المعاني هي قوله تعالى:( وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) على ما تبيّن.

و أمّا قوله تعالى:( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شيئاً وَ يَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ) فهو من قبيل إظهار الأمر المعلوم في صورة المشكوك المحتمل اتّقاءً من

٢٧٤

تيقّظ غريزة التعصّب في المخاطب نظير قوله تعالى:( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ الله وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى‏ هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) سبأ: ٢٥.

فقد كان المجتمع الإنسانيّ يومئذ (عصر نزول القرآن) لا يوقف النساء في موقفها الإنسانيّ الواقعيّ، و يكره ورودها في المجتمع ورود البعض المقوّم بل المجتمعات القائمة على ساقها يومئذ بين ما يعدّهنّ طفيليّات خارجة لاحقة ينتفع بوجودها، و ما يعدّهنّ إنساناً ناقصاً في الإنسانيّة كالصبيان و المجانين إلّا أنّهنّ لا يبلغن الإنسانيّة أبداً فيجب أن يعشن تحت الإتّباع و الاستيلاء دائماً، و لعلّ قوله تعالى:( فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ ) ، حيث نسب الكراهة إلى أنفسهنّ دون نكاحهنّ إشارة إلى ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ ) إلى آخر الآية، الاستبدال استفعال بمعنى طلب البدل، و كأنّه بمعنى إقامة زوج مقام زوج أو هو من قبيل التضمين بمعنى إقامة امرأة مقام اُخرى بالاستبدال، و لذلك جمع بين قوله، أَرَدْتُمُ و بين قوله: اسْتِبْدالَ إلخ مع كون الاستبدال مشتملاً على معنى الإرادة و الطلب، و على هذا فالمعنى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ أن تقيموا زوجاً مقام اُخرى بالاستبدال.

و البهتان ما بهت الإنسان أي جعله متحيّراً، و يغلب استعماله في الكذب من القول و هو في الأصل مصدر، و قد استعمل في الآية في الفعل الّذي هو الأخذ من المهر، و هو في الآية حال من الأخذ و كذا قوله: إِثْماً، و الاستفهام إنكاريّ.

و المعنى: إن أردتم أن تطلّقوا بعض أزواجكم و تتزوّجوا باُخرى مكانها فلا تأخذوا من الصداق الّذي آتيتموها شيئاً و إن كان ما آتيتموها مالاً كثيراً، و ما تأخذونه قليلاً جدّاً.

قوله تعالى: ( وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى‏ بَعْضُكُمْ إِلى‏ بَعْضٍ ) إلى آخر الآية، الاستفهام للتعجيب، و الإفضاء هو الاتّصال بالمماسّة، و أصله الفضاء بمعنى السعة.

و لمّا كان هذا الأخذ إنّما هو بالبغي و الظلم، و مورده مورد الاتّصال و الاتّحاد أوجب ذلك صحّة التعجّب حيث إنّ الزوجين يصيران بسبب ما أوجبه الازدواج من

٢٧٥

الإفضاء و الاقتراب كشخص واحد، و من العجيب أن يظلم شخص واحد نفسه و يؤذيها أو يؤذي بعض أجزائه بعضا.

و أمّا قوله:( وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) فالظاهر أنّ المراد بالميثاق الغليظ هو العلقة الّتي أبرمها الرجل بالعقد و نحوه، و من لوازمها الصداق الّذي يسمّى عند النكاح و تستحقّه المرأة من الرجل.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالميثاق الغليظ العهد المأخوذ من الرجل للمرأة من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان على ما ذكره الله تعالى، و ربّما قيل: إنّ المراد به حكم الحلّيّة المجعول شرعاً في النكاح، و لا يخفى بعد الوجهين جميعاً بالنسبة إلى لفظ الآية.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن هاشم بن عبدالله عن السريّ البجليّ قال: سألته عن قوله:( وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ) قال: فحكى كلاماً ثمّ قال: كما يقول النبطيّة إذا طرح عليها الثوب عضلها فلا تستطيع تزويج غيره، و كان هذا في الجاهليّة.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) ، فإنّه كان في الجاهليّة في أوّل ما أسلموا من قبائل العرب إذا مات حميم الرجل و له امرأة ألقى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه الّذي كان أصدقها يرث نكاحها كما يرث ماله، فلمّا مات أبوقيس بن الأسلت ألقى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه، و هي كبيشة بنت معمّر بن معبد فورث نكاحها، ثمّ تركها لا يدخل بها و لا ينفق عليها، فأتت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت: يا رسول الله مات أبوقيس بن الأسلت فورث محصن ابنه نكاحي فلا يدخل عليّ، و لا ينفق عليّ، و لا يخلّي سبيلي فألحق بأهلي فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ارجعي إلى بيتك فإن يحدث الله في شأنك شيئاً أعلمتك فنزل:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إلّا

٢٧٦

ما قَدْ سَلَفَ إنّه كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلًا ) ، فلحقت بأهلها، و كانت نساء في المدينة قد ورث نكاحهنّ كما ورث نكاح كبيشة غير أنّه ورثهنّ من الأبناء فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) .

أقول: آخر الرواية لا يخلو عن اضطراب في المعنى و قد وردت هذه القصّة و نزول الآيات فيها في عدّة من روايات أهل السنّة أيضاً، غير أنّ الروايات أو معظمها تذكر نزول قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا ) الآية في القصّة، و قد عرفت في البيان السابق عدم مساعدة السياق على ذلك.

و مع ذلك فتحقّق القصّة و ارتباط الآيات بوجه بها و بالعادة الجارية فيما بينهم عند النزول في الجملة لا ريب فيه، فالمعوّل في ذلك ما قدّمناه في البيان السابق.

و في المجمع في قوله تعالى:( إلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) الآية قال: الأولى حمل الآية على كلّ معصية، قال: و هو المروي عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و في تفسير البرهان، عن الشيبانيّ: الفاحشة يعني الزنا، و ذلك إذا اطّلع الرجل منها على فاحشة فله أخذ الفدية و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن جابر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: اتّقوا الله في النساء فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله، و استحللتم فروجهنّ بكلمة الله، و إنّ لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضرباً غير مبرح، و لهنّ عليكم رزقهنّ و كسوتهنّ بالمعروف.

و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن عمر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يا أيّها الناس إنّ النساء عندكم عوان أخذتموهنّ بأمانة الله، و استحللتم فروجهنّ بكلمة الله، و لكم عليهنّ حقّ، و من حقّكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً، و لا يعصينكم في معروف و إذا فعلن ذلك فلهنّ رزقهنّ و كسوتهنّ بالمعروف.

أقول: و قد تقدّم ما يتبيّن به معنى هذه الروايات.

و في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) قال: الميثاق الكلمة الّتي عقد بها النكاح الرواية.

٢٧٧

و في المجمع، قال: الميثاق الغليظ هو العقد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال: و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .

أقول: و هذا المعنى منقول عن عدّة من مفسّري السلف كابن عبّاس و قتادة و أبي مليكة، و الآية لا تأباه بالنظر إلى أنّ ذلك حكم يصدق عليه أنّه ميثاق مأخوذ على الرجال للنساء، و إن كان الأظهر أن يكون المراد هو العقد المجرى حين الازدواج.

و في الدرّ المنثور، أخرج الزبير بن بكّار في الموفّقيّات عن عبدالله بن مصعب قال: قال عمر: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال، فقالت امرأة: ما ذاك لك قال: و لم؟ قالت: لأنّ الله يقول:( وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ) الآية، فقال عمر: امرأة أصابت و رجل أخطأ.

أقول: و رواه أيضاً عن عبدالرزّاق و ابن المنذر عن عبد الرحمن السلميّ، و أيضاً عن سعيد بن منصور و أبي يعلى بسند جيّد عن مسروق‏، و فيه أربعمائة درهم مكان أربعين أوقية، و أيضاً عن سعيد بن منصور و عبد بن حميد عن بكر بن عبدالله المزنيّ، و الروايات متقاربة المعنى.

و فيه، أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) ، قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلّف على اُمّ عبيد بنت ضمرة كانت تحت الأسلت أبيه، و في الأسود بن خلف و كان خلّف على بنت أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبدالدار و كانت عند أبيه خلف، و في فاختة ابنة الأسود بن المطّلب بن أسد كانت عند اُميّة بن خلف فخلف عليها صفوان بن اُميّة، و في منظور بن رباب و كان خلّف على مليكة ابنة خارجة و كانت عند أبيه رباب بن سيّار.

و فيه، أخرج ابن سعد عن محمّد بن كعب القرظيّ قال: كان الرجل إذا توفّي عن امرأة كان ابنه أحقّ بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن اُمّه أو ينكحها من شاء، فلمّا مات أبوقيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته و لم ينفق عليها و لم يورّثها من المال شيئاً فأتت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ارجعي لعلّ الله ينزل فيك

٢٧٨

شيئاً فنزلت:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) الآية، و نزلت:( لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) .

أقول: و قد تقدّم ما يدلّ على ذلك من روايات الشيعة.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عبّاس قال: كان أهل الجاهليّة يحرّمون ما حرّم الله إلّا امرأة الأب و الجمع بين الاُختين فأنزل الله:( وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ و أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ‏ ) .

أقول: و في معناه أخبار اُخر.

٢٧٩

( سورة النساء الآيات ٢٣ الى ٢٨)

حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمّهَاتُكُمُ الّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِنَ الرّضَاعَةِ وَأُمّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُم مِن نِسَائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُم بِهِنّ فَإِن لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيم( ٢٣) وَالُمحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلّ لَكُم مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيَما تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيم( ٢٤) وَمَن لَم يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَا مَلَكَتْ أَيْمَانِكُم مِن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِايِمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ وَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنكُمْ وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٢٥) يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( ٢٦) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيم( ٢٧) يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيف( ٢٨)

( بيان)

آيات محكمة تعدّ محرّمات النكاح و ما أحلّ من نكاح النساء، و الآية السابقة عليها المبيّنة لحرمة نكاح ما نكح الآباء و إن كانت بحسب المضمون من جملتها إلّا أنّ ظاهر سياقها لمّا كان من تتمّة السياق السابق أوردناها في جملة الآيات السابقة مع كونها بحسب المعنى ملحقة بها.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

و قوله:( وَ لا يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً ) ظاهر السياق أنّه معطوف على موضع قوله:( يَوَدُّ الّذينَ كَفَرُوا ) و فائدته الدلالة بوجه على ما يعلّل به تمنّيهم الموت، و هو أنّهم بارزون يومئذ لله لا يخفى عليه منهم شي‏ء لظهور حالهم عليه تعالى بحضور أعمالهم، و شهادة أعضائهم و شهادة الأنبياء و الملائكة و غيرهم عليهم، و الله من ورائهم محيط فيودّون عند ذلك أن لو لم يكونوا و ليس لهم أن يكتموه تعالى حديثاً مع ما يشاهدون من ظهور مساوي أعمالهم و قبائح أفعالهم.

و أمّا قوله تعالى:( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جميعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) المجادلة: ١٨، فسيجي‏ء إن شاء الله تعالى أنّ ذلك إنّما هو لإيجاب ملكة الكذب الّتي حصّلوها في الدنيا لا للإخفاء و كتمان الحديث يوم لا يخفى على الله منهم شي‏ء.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، في قوله تعالى:( وَ بِالْوالِدَيْنِ إحساناً ) الآية: عن سلام الجعفيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام و أبان بن تغلب عن أبي عبداللهعليه‌السلام : نزلت في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في عليعليه‌السلام .

ثمّ قال: و روي مثل ذلك في حديث ابن جبلة. قال: قال: و روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا و عليّ أبوا هذه الاُمّة.

أقول: و قال البحرانيّ في تفسير البرهان، بعد نقل الحديث: قلت: و روى ذلك صاحب الفائق.

و روى العيّاشيّ هذا المعنى عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام ، و رواه ابن شهرآشوب عن أبان عن أبي جعفرعليه‌السلام . و الّذي تعرّض له الخبر هو من بطن القرآن بالمعنى الّذي بحثنا عنه في مبحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، إذ الأب أو الوالد هو المبدأ الإنسانيّ لوجود الإنسان و المربّي له، فمعلّم الإنسان و مربّيه للكمال أبوه فمثل النبيّ و الوليّ عليهما أفضل الصلاة أحقّ أن يكون أباً للمؤمن المهتدي به، المقتبس من أنوار علومه و معارفه من الأب الجسمانيّ الّذي

٣٨١

لا شأن له إلّا المبدئيّة و التربية في الجسم فالنبيّ و الوليّ أبوان، و الآيات القرآنيّة الّتي توصي الولد بوالديه تشملهما بحسب الباطن و إن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الأبوين الجسمانيّين.

و في تفسير العيّاشيّ، أيضاً عن أبي صالح عن أبي العبّاس في قول الله:( وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى‏ وَ الْجارِ الْجُنُبِ ) قال: الّذي ليس بينك و بينه قرابة، و الصاحب بالجنب قال: الصاحب في السفر.

أقول: قوله: الّذي ليس بينك، تفسير الجار ذي القربى و الجنب معاً و إن أمكن رجوعه إلى الجار الجنب فقط، و قوله: الصاحب في السفر لعلّه من قبيل ذكر بعض المصاديق.

و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن جدّه قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم على الأفواه فلا تكلّم، و تكلّمت الأيدي، و شهدت الأرجل، و اُنطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثاً.

و اعلم، أنّ الأخبار كثيرة من طرق أهل السنّة في أنّ الآيات نازلة في حقّ اليهود، و هي و إن كان يؤيّدها ما ينتهي إليه ذيل الآيات من التعرّض لحال أهل الكتاب من اليهود في بخلهم و ولعهم بجمع المال و ادّخاره و كذا وسوستهم للمؤمنين و ترغيبهم على الكفّ عن الإنفاق في سبيل الله و تفتينهم إيّاهم و إخزائهم لهم، و إفساد الأمر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن الأخبار المذكورة مع ذلك أشبه بالتطبيق النظريّ منها بنقل السبب في النزول كما هو الغالب في الأخبار الناقلة لأسباب النزول، و لذلك تركنا نقلها على كثرتها.

و اعلم أيضاً أنّ الأخبار الواردة عن النبيّ و آلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إحسان الوالدين و ذي القربى و اليتامى و غيرهم من الطوائف المذكورة في الآية فوق حدّ الإحصاء على معروفيّتها و شهرتها، و هو الموجب للإغماض عن إيرادها ههنا على أنّ لكلّ منها وحده مواقع خاصّة في القرآن، ذكر ما يخصّها من الأخبار هناك أنسب.

٣٨٢

( سورة النساء آية ٤٣)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏ حَتّى‏ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّى‏ تَغْتَسِلُوا وَإِن كُنتُم مَرْضَى‏ أَوْ عَلَى‏ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُور( ٤٣)

( بيان)

قد تقدّم في الكلام على قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) البقرة: ٢١٩، أنّ الآيات المتعرّضة لأمر الخمر خمس طوائف، و أنّ ضمّ هذه الآيات بعضها إلى بعض يفيد أنّ هذه الآية:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا ) الآية نزلت بعد قوله تعالى:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حسناً ) النحل: ٦٧، و قوله:( قُلْ إنّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ ) الأعراف: ٣٣، و قبل قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثمّ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، و قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إنّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) المائدة: ٩٠، و هذه آخر الآيات نزولاً.

و يمكن بوجه أن يتصوّر الترتيب على خلاف هذا الّذي ذكرناه فتكون النازلة أوّلاً آية النحل ثمّ الأعراف ثمّ البقرة ثمّ النساء ثمّ المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب من قصّة النهي القطعيّ عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما في سورة الأعراف نهياً من غير تفسير ثمّ الّذي في سورة البقرة نهياً باتّاً لكنّ المسلمين كانوا يتعلّلون في الاجتناب حتّى نهوا عنها نهياً جازماً في حال الصلاة في سورة النساء، ثمّ نهياً مطلقاً في جميع الحالات في سورة المائدة و لعلّك إن تدبّرت في مضامين الآيات رجّحت الترتيب السابق على هذا الترتيب، و لم تجوّز بعد النهي الصريح الّذي في آية البقرة

٣٨٣

النهي الّذي في آية النساء المختصّ بحال الصلاة فهذه الآية قبل آية البقرة، إلّا أن نقول إنّ النهي عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان كما ورد في بعض الروايات الآتية.

و أمّا وقوع الآية بين ما تقدّمها و ما تأخّر عنها من الآيات فهي كالمتخلّلة المعترضة إلّا أنّ ههنا احتمالاً ربّما صحّح هذا النحو من التخلّل و الاعتراض - و هو غير عزيز في القرآن - و هو جواز أن تتنزّل عدّة من الآيات ذات سياق واحد متّصل منسجم تدريجاً في خلال أيّام ثمّ تمسّ الحاجة إلى نزول آية أو آيات و لمّا تمّت الآيات النازلة على سياق واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخلّلة و ليست بأجنبيّة بحسب الحقيقة و إنّما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهّم لازم الدفع، أو مسّ حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى‏ مَعاذِيرَهُ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثمّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) الآيات القيامة: ٢٠، انظر إلى موضع قوله:( لا تُحَرِّكْ‏ - إلى قوله -بَيانَهُ ) .

و على هذا فلا حاجة إلى التكلّف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها، و ارتباط ما بعدها بها، على أنّ القرآن إنّما نزل نجوماً، و لا موجب لهذا الارتباط إلّا في السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتّصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا - إلى قوله -ما تَقُولُونَ ) المراد بالصلاة المسجد، و الدليل عليه قوله:( وَ لا جُنُباً إلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) ، و المقتضي لهذا التجوّز قوله حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إذ لو قيل: لا تقربوا المسجد و أنتم سكارى لم يستقم تعليله بقوله:( حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع أنّ المقصود إفادة أنّكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة و الكبرياء و تخاطبون ربّ العالمين فلا يصلح لكم أن تسكروا و تبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما تقولون، و هذا المعنى - كما ترى - يناسب النهي عن اقتراب الصلاة لكنّ الصلاة لمّا كانت أكثر ما تقع تقع في المسجد جماعة - على السنة - و كان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال و سبك الكلام على ما ترى.

٣٨٤

و على هذا فقوله:( حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) في مقام التعليل للنهي عن شرب الخمر بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون و ليس غاية للحكم بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس.

قوله تعالى: ( وَ لا جُنُباً إلّا عابِرِي سَبِيلٍ ) إلى آخر الآية سيأتي الكلام في الآية في تفسير قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) المائدة: ٦.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن الفضل عن أبي الحسنعليه‌السلام في قول الله:( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) قال: هذا قبل أن تحرّم الخمر.

أقول: ينبغي أن تحمّل الرواية على أنّ المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها، و إلّا فهي مخالفة للكتاب فإنّ آية الأعراف تحرّم الخمر بعنوان أنّه إثم صريحاً، و آية البقرة تصرّح بأنّ في الخمر إثماً كبيراً فقد حرّمت الخمر في مكّة قبل الهجرة لكون سورة الأعراف مكّيّة و لم يختلف أحد في أنّ هذه الآية ( آية النساء ) مدنيّة، و مثل هذه الرواية عدّة روايات من طرق أهل السنّة تصرّح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر، و يمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان.

و فيه، عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلاً و لا متناعساً و لا متثاقلاً فإنّها من خلل النفاق فإنّ الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة و هم سكارى يعني من النوم.

أقول: قوله: فإنّها من خلل النفاق استفادعليه‌السلام ذلك من قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) ، فالمتمرّد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن، و قوله: يعني من النوم يحتمل أن يكون من كلام الراوي و يحتمل أن يكون من كلامهعليه‌السلام و يكون تفسيراً للآية من قبيل بطن القرآن، و يمكن أن يكون من الظهر.

و قد وردت روايات اُخر في تفسيره بالنوم رواها العيّاشيّ في تفسيره عن الحلبيّ في روايتين، و الكلينيّ في الكافي بإسناده عن زيد الشحّام عن الصادقعليه‌السلام ، و بإسناده عن زرارة عن الباقرعليه‌السلام ، و روى هذا المعنى أيضاً البخاريّ في صحيحة عن أنس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣٨٥

( سورة النساء الآيات ٤٤ - ٥٨)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلّوا السّبِيلَ( ٤٤) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَلِيّاً وَكَفَى‏ بِاللّهِ نَصِير( ٤٥) مِنَ الّذِينَ هَادُوا يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدّينِ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِن لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلّا قَلِيل( ٤٦) يَا أَيّهَا الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزّلْنَا مُصَدّقاً لِمَا مَعَكُم مِن قَبْلِ أَن نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدّهَا عَلَى‏ أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنّا أَصْحَابَ السّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُول( ٤٧) إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى‏ إِثْماً عَظِيم( ٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُم بَلِ اللّهُ يُزَكّيْ مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيل( ٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى‏ بِهِ إِثْماً مُبِين( ٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاَءِ أَهْدَى‏ مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيل( ٥١) أُولئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِير( ٥٢) أَم لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِير( ٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى‏ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيم( ٥٤) فَمِنْهُم مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَن صَدّ عَنْهُ وَكَفَى‏ بِجَهَنّمَ سَعِير( ٥٥) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيم( ٥٦) وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلّا ظَلِيل( ٥٧) إِنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى‏ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنّ اللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُم بِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِير( ٥٨)

٣٨٦

( بيان)

آيات متعرّضة لحال أهل الكتاب، و تفصيل لمظالمهم و خياناتهم في دين الله، و أوضح ما تنطبق على اليهود، و هي ذات سياق واحد متّصل، و الآية الأخيرة:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها ) الآية، و إن ذكر بعضهم أنّها مكّيّة، و استثناها في آيتين من سورة النساء المدنيّة، و هي هذه الآية، و قوله تعالى:( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ) الآية: النساء: ١٧٦، على ما في المجمع لكنّ الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها من الآيات، و كذا آية الاستفتاء فإنّها في الإرث، و قد شرع في المدينة.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) الآية، قد تقدّم في الكلام على الآيات (٣٦ - ٤٢) أنّها مرتبطة بعض الارتباط بهذه الآيات، و قد سمعت القول في نزول تلك الآيات في حقّ اليهود.

و بالجملة يلوح من هذه الآيات أنّ اليهود كانوا يلقون إلى المؤمنين المودّة و يظهرون لهم النصح فيفتّنونهم بذلك، و يأمرونهم بالبخل و الإمساك عن الإنفاق ليمنعوا بذلك سعيهم عن النجاح، و جدّهم في التقدّم و التعالي، و هذا لازم كون تلك الآيات نازلة في حقّ اليهود أو في حقّ من كان يسار اليهود و يصادقهم ثمّ تنحرف عن الحقّ بتحريفهم، و يميل إلى حيث يميلونه فيبخل ثمّ يأمر بالبخل.

و هذا هو الّذي يستفاد من قوله:( وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ وَ الله أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ ) إلى آخر الآية.

فمعنى الآيتين - و الله أعلم - أنّ ما نبيّنه لكم تصديق ما بيّناه لكم من حال الممسك عن الإنفاق في سبيل الله بالاختيال و الفخر و البخل و الرئاء أنّك ترى اليهود الّذين اُوتوا نصيباً من الكتاب أي حظّاً منه لا جميعه كما يدّعون لأنفسهم يشترون الضلالة و يختارونها على الهدى، و يريدون أن تضلّوا السبيل فإنّهم و إن لقوكم ببشر الوجه،

٣٨٧

و ظهروا لكم في زيّ الصلاح، و اتّصلوا بكم اتّصال الأولياء الناصرين فذكروا لكم ما ربّما استحسنته طباعكم، و استصوبته قلوبكم لكنّهم ما يريدون إلّا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، و الله أعلم منكم بأعدائكم، و هم أعداؤكم فلا يغرّنّكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم فإيّاكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوّقة و إلقاءآتهم المزخرفة و أنتم تقدّرون أنّهم أولياؤكم و أنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة، و نصرتهم المرجوّة و كفى بالله وليّاً، و كفى بالله نصيراً، فأيّ حاجة مع ولايته و نصرته إلى ولايتهم و نصرتهم.

قوله تعالى: ( مِنَ الّذينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ - إلى قوله -فِي الدِّينِ ) ( من ) في قوله:( مِنَ الّذينَ ) ، بيانيّة، و هو بيان لقوله في الآية السابقة:( الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) ، أو لقوله:( بِأَعْدائِكُمْ ) ، و ربّما قيل: إنّ قوله: مِنَ الّذينَ هادُوا خبر لمبتدإ محذوف و هو الموصوف المحذوف لقوله يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ، و التقدير: من الّذين هادوا قوم يحرّفون، أو من الّذين هادوا من يحرّفون، قالوا: و حذف الموصوف شائع كقول ذي الرمّة:

فظلوا و منهم دمعه سابق له

و آخر يشني دمعة العين بالمهل

يريد: و منهم قوم دمعه أو و منهم من دمعه و قد وصف الله تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه، و ذلك إمّا بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم و التأخير و الإسقاط و الزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة، و إمّا بتفسير ما ورد عن موسىعليه‌السلام في التوراة و عن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحقّ كما أوّلوا ما ورد في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بشارات التوراة، و من قبل أوّلوا ما ورد في المسيحعليه‌السلام من البشارة، و قالوا: إنّ الموعود لم يجي‏ء بعد، و هم ينتظرون قدومه إلى اليوم.

و من الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالى بقوله:( وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا ) ، فتكون هذه الجمل معطوفة على قوله:( يُحَرِّفُونَ ) ، و يكون المراد حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير

٣٨٨

المحلّ الّذي ينبغي أن يوضع فيه، فقول القائل: سمعنا من حقّه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال:( سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) لا أن يقال: سمعنا و عصينا، أو يوضع: سمعنا موضع التهكّم و الاستهزاء، و كذا قول القائل: اسمع ينبغي أن يقال فيه: اسمع أسمعك الله لا أن يقال:( اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) أي لا أسمعك الله و راعنا، و هو يفيد في لغة اليهود معنى اسمع غير مسمع.

و قوله:( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ ) أصل اللّيّ الفتل أي يميلون بألسنتهم فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحقّ، و الإزراء و الإهانة في صور التأدّب و الاحترام فإنّ المؤمنين كانوا يخاطبون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين ما كانوا يكلّمونه بقولهم: راعنا يا رسول الله، و معناه: أنظرنا و اسمع منّا حتّى نوفي غرضنا من كلامنا، فاغتنمت اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهم: راعنا و هم يريدون به ما عندهم من المعنى المستهجن غير الحريّ بمقامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذمّوا به في هذه الآية، و هو قوله تعالى:( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) ثمّ فسّره بقوله:( وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) ثمّ عطف عليه كعطف التفسير قوله:( وَ راعِنا ) ثمّ ذكر أنّ هذا الفعال المذموم منهم ليّ بالألسن، و طعن في الدين فقال:( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ ) و المصدران في موضع الحال و التقدير: لاوين بألسنتهم، و طاعنين في الدين.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أنّهم قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ ) كون هذا القول منهم و هو مشتمل على أدب الدين، و الخضوع للحقّ خيراً و أقوم ممّا قالوه (مع اشتماله على اللّيّ و الطعن المذمومين و لا خير فيه و لا قوام) مبنيّ على مقايسة الأثر الحقّ الّذي في هذا الكلام الحقّ على ما يظنّونه من الأثر في كلامهم و إن لم يكن له ذلك بحسب الحقيقة، فالمقايسة بين الأثر الحقّ و بين الأثر المظنون حقّاً، و المعنى: أنّهم لو قالوا: سمعنا و أطعنا، لكان فيه من الخير و القوام أكثر ممّا يقدّرون في أنفسهم لهذا اللّيّ و الطعن فالكلام يجري مجرى قوله تعالى:( وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنَ اللهوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ الله خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) الجمعة: ١١.

قوله تعالى: ( وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا ) تأييس للسامعين

٣٨٩

من أن تقول اليهود سمعنا و أطعنا فإنّه كلمة إيمان و هؤلاء ملعونون لا يوفّقون للإيمان، و لذلك قيل: لو أنّهم قالوا، الدالّ على التمنّي المشعر بالاستحالة.

و الظاهر أنّ الباء في قوله:( بِكُفْرِهِمْ ) للسببيّة دون الآية، فإنّ الكفر يمكن أن يزاح بالإيمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الإيمان منعاً قاطعاً لكنّهم لمّا كفروا (و سيشرح الله تعالى في آخر السورة حال كفرهم) لعنهم الله بسبب ذلك لعناً ألزم الكفر عليهم إلزاماً لا يؤمنون بذلك إلّا قليلاً فافهم ذلك.

و أمّا قوله:( فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا ) فقد قيل: إنّ( قَلِيلًا ) حال، و التقدير: إلّا و هم قليل أي لا يؤمنون إلّا في حال هم قليل، و ربّما قيل: إنّ( قَلِيلًا ) صفة لموصوف محذوف، و التقدير: فلا يؤمنون إلّا إيماناً قليلاً، و هذا الوجه كسابقه لا بأس به لكن يجب أن يزاد فيه أنّ اتّصاف الإيمان بالقلّة إنّما هو من قبيل الوصف بحال المتعلّق أي إيماناً المؤمن به قليل.

و أمّا ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد به قليل الإيمان في مقابل كاملة، و ذكر أنّ المعنى: فلا يؤمنون إلّا قليلاً من الإيمان لا يعتدّ به إذ لا يصلح عمل صاحبه، و لا يزكّي نفسه، و لا يرقّي عقله فقد أخطأ، فإنّ الإيمان إنّما يتّصف بالمستقرّ و المستودع، و الكامل و الناقص في درجات و مراتب مختلفة، و أمّا القلّة و تقابلها الكثرة فلا يتّصف بهما، و خاصّة في مثل القرآن الّذي هو أبلغ الكلام.

على أنّ المراد بالإيمان المذكور في الآية أمّا حقيقة الإيمان القلبيّ في مقابل النفاق أو صورة الإيمان الّتي ربّما يطلق عليها الإسلام، و اعتباره على أيّ معنى من معانيه، و الاعتناء به في الإسلام ممّا لا ريب فيه، و الآيات القرآنيّة ناصّة فيه، قال تعالى:( وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى‏ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) النساء: ٩٤، مع أنّ الّذي يستثني الله تعالى منه قوله:( وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ ) ، كان يكفي فيه أقلّ درجات الإيمان أو الإسلام الظاهريّ بحفظهم الظاهر بقولهم: سمعنا و أطعنا كسائر المسلمين.

و الّذي أوقعه في هذا الخطأ ما توهّمه أنّ لعنه تعالى إيّاهم بكفرهم لا يجوز

٣٩٠

أن يتخلّف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدّر أنّ القلّة وصف الإيمان و هي ما لا يعتدّ به من الإيمان حتّى يستقيم قوله:( لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ ) ، و قد غفل عن أنّ هذه الخطابات و ما تشتمل عليه من صفات الذمّ و المؤاخذات و التوبيخات كلّ ذلك متوجّهة إلى المجتمعات من حيث الاجتماع، فالّذي لحقه اللّعن و الغضب و المؤاخذات العامّة الاُخرى إنّما هو المجتمع اليهوديّ من حيث أنّه مجتمع مكوّن فلا يؤمنون و لا يسعدون و لا يفلحون، و هو كذلك إلى هذا اليوم و هم على ذلك إلى يوم القيامة.

و أمّا الاستثناء فإنّما هو بالنسبة إلى الأفراد، و خروج بعض الأفراد من الحكم المحتوم على المجتمع ليس نقضاً لذلك الحكم، و المحوج إلى هذا الاستثناء أنّ الأفراد بوجه هم المجتمع فقوله:( فَلا يُؤْمِنُونَ ) حيث نفي فيه الإيمان عن الأفراد - و إن كان ذلك نفياً عنهم من حيث جهة الاجتماع - و كان يمكن فيه أن يتوهّم أنّ الحكم شامل لكلّ واحد واحد منهم بحيث لا يتخلّص منه أحد استثني فقيل:( إلّا قَلِيلًا ) فالآية تجري مجرى قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إلّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) النساء: ٦٦.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا ) إلخ الطمس محو أثر الشي‏ء، و الوجه ما يستقبلك من الشي‏ء و يظهر منه، و هو من الإنسان الجانب المقدّم الظاهر من الرأس و ما يستقبلك منه، و يستعمل في الاُمور المعنويّة كما يستعمل في الاُمور الحسّيّة، و الأدبار جمع دبر بضمّتين و هو القفا، و المراد بأصحاب السبت قوم من اليهود كانوا يعدون في السبت فلعنهم الله و مسخهم، قال تعالى:( وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الّتي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ ) الأعراف: ١٦٣، و قال تعالى:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الّذينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها ) البقرة: ٦٦.

و قد كانت الآيات السابقة - كما عرفت - متعرّضة لحال اليهود أو لحال طائفة من اليهود، و انجرّ القول إلى أنّهم بإزاء ما خانوا الله و رسوله، و أفسدوا صالح دينهم ابتلوا بلعنة من الله لحق جمعهم، و سلبهم التوفيق للإيمان إلّا قليلاً فعمّ الخطاب لجميع

٣٩١

أهل الكتاب - على ما يفيده قوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) و دعاهم إلى الإيمان بالكتاب الّذي نزّله مصدّقاً لما معهم، و أوعدهم بالسخط الّذي يلحقهم لو تمرّدوا و استكبروا من غير عذر من طمس أو لعن يتّبعانهم اتّباعاً لا ريب فيه.

و ذلك ما ذكره بقوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها ) ، فطمس الوجوه محو هذه الوجوه الّتي يتوجّه بها البشر نحو مقاصدها الحيويّة ممّا فيه سعادة الإنسان المترقّبة و المرجوّة لكن لا المحو الّذي يوجب فناء الوجوه و زوالها و بطلان آثارها بل محواً يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها فهي تقصد مقاصدها على الفطرة الّتي فطر عليها لكن لمّا كانت منصوبة إلى الأقفية و مردودة على الأدبار لا تقصد إلّا ما خلّفته وراءها، و لا تمشي إليه إلّا القهقرى.

و هذا الإنسان - و هو بالطبع و الفطرة متوجّه نحو ما يراه خيراً و سعادة لنفسه - كلّما توجّه إلى ما يراه خيراً لنفسه، و صلاحاً لدينه أو لدنياه لم ينل إلّا شرّاً و فساداً، و كلّما بالغ في التقدّم زاد في التأخّر، و ليس يفلح أبداً.

و أمّا لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ على ما تقدّم من آيات أصحاب السبت الّتي تخبر عن مسخهم قردة.

و على هذا فلفظة( أَوْ ) في قوله:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ، على ظاهرها من إفادة الترديد، و الفرق بين الوعيدين أنّ الأوّل أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلّا في بعض كيفيّاتها، و الثاني أعني اللّعن كلعن أصحاب السبت يوجب تغيير المقصد بتغيير الخلقة الإنسانيّة إلى خلقة حيوانيّة كالقردة.

فهؤلاء إن تمرّدوا عن الامتثال - و سوف يتمرّدون على ما تفيده خاتمة الآية - كان لهم إحدى سخطتين: إمّا طمس الوجوه، و إمّا اللّعن كلعن أصحاب السبت لكنّ الآية تدلّ على أنّ هذه السخطة لا تعمّهم جميعهم حيث قال:( وُجُوهاً ) فأتى بالجمع المنكّر، و لو كان المراد هو الجميع لم ينكّر، و لتنكير الوجوه و عدم تعيينه نكتة اُخرى هي أنّ المقام لمّا كان مقام الإيعاد و التهديد، و هو إيعاد للجماعة بشرّ لا يحلق إلّا ببعضهم كان إبهام الأفراد الّذين يقع عليهم السخط الإلهيّ أوقع في الإنذار و التخويف لأنّ

٣٩٢

وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كلّ واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسّه هذا العذاب البئيس، و هذه الصناعة شائعة في اللّسان في مقام التهديد و التخويف.

و في قوله تعالى:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ، حيث أرجع فيه ضمير( هم ) الموضوع لاُولي العقل إلى قوله:( وُجُوهاً ) كما هو الظاهر تلويحاً أو تصريحاً بأنّ المراد بالوجوه الأشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم، و بذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه و ردّها على أدبارها تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به بعضهم، و يقوى بذلك احتمال أنّ المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر، و إدراك الواقعيّات على واقعيّتها إلى حال الاعوجاج و الانحطاط الفكريّ بحيث لا يشاهد حقّاً إلّا أعرض عنه و اشمأزّ منه، و لا باطلاً إلّا مال إليه و تولّع به.

و هذا نوع من التصرّف الإلهيّ مقتاً و نقمة نظير ما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مرّة وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الأنعام: ١١٠.

فتبيّن ممّا مرّ أنّ المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرّف إلهيّ في النفوس يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحقّ و تجنّب الباطل إلى اتّباع الباطل و الاحتراز عن الحقّ في باب الإيمان بالله و آياته كما يؤيّده صدر الآية:( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ ) إلخ، و كذا تبيّن أنّ المراد باللّعن المذكور فيها المسخ.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى أقفيتهم و يكون ذلك في آخر الزمان أو يوم القيامة، و فيه: أنّ قوله:( أَوْ نَلْعَنَهُمْ ) ينافي ذلك كما تقدّم بيانه.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالطمس الخذلان الدنيويّ فلا يزالون على ذلّة و نكبة لا يقصدون غاية ذات سعادة إلّا بدّلها الله عليهم سراباً لا خير فيه، و فيه: أنّه و إن كان لا يبعد كلّ البعد لكنّ صدر الآية - كما تقدّم - ينافيه.

و ربّما قيل: إنّ المراد به إجلاؤهم و ردّهم ثانياً إلى حيث خرجوا منه، و قد

٣٩٣

اُخرجوا من الحجاز إلى أرض الشام و فلسطين، و قد جاؤوا منهما، و فيه أنّ صدر الآية بسياقه يؤيّد غير ذلك كما عرفته.

نعم من الممكن أن يقال: إنّ المراد به تقليب أفئدتهم، و طمس وجوه باطنهم من الحقّ إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله و آياته، ثمّ إنّ الدين الحقّ لمّا كان هو الصراط الّذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلّا بركوبه و الاستواء عليه، و ليس للناكب عنه إلّا الوقوع في كانون الفساد، و السقوط في مهابط الهلاك، قال تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذي عَمِلُوا ) الروم: ٤١، و قال تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتّقوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ ) الأعراف: ٩٦، و لازم هذه الحقيقة أنّ طمس الوجوه عن المعارف الحقّة الدينيّة طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها فالمحروم من سعادة الدين محروم من سعادة الدنيا من استقرار الحال و تمهّد الأمن و سؤدد الاستقلال و الملك، و كلّ ما يطيب به العيش، و يدرّ به ضرع العمل اللّهمّ إلّا على قدر ما نسرّب الموادّ الدينيّة في مجتمعهم و على هذا فلا بأس بالجمع بين الوجوه المذكورة جلّها أو كلّها.

قوله تعالى: ( وَ كانَ أَمْرُ الله مَفْعُولًا ) إشارة إلى أنّ الأمر لا محالة واقع، و قد وقع على ما ذكره الله في كتابه من لعنهم و إنزال السخط عليهم، و إلقاء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة، و غير ذلك في آيات كثيرة.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) ظاهر السياق أنّ الآية في مقام التعليل للحكم المذكور في الآية السابقة أعني قوله:( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ ) إلخ، فيعود المعنى إلى مثل قولنا: فإنّكم إن لم تؤمنوا به كنتم بذلك مشركين، و الله لا يغفر أن يشرك به فيحلّ عليكم غضبه و عقوبته فيطمس وجوهكم بردّها على أدبارها أو يلعنكم فنتيجة عدم المغفرة هذه ترتّب آثار الشرك الدنيويّة من طمس أو لعن عليه.

و هذا هو الفرق بين مضمون هذه الآية، و قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ

٣٩٤

بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً ) النساء: ١١٦، فإنّ هذه الآية (آية ٤٨)، تهدّد بآثار الشرك الدنيويّة، و تلك (آية ١١٦)، تهدّد بآثاره الاُخرويّة، و ذلك بحسب الانطباق على المورد و إن كانتا بحسب الإطلاق كلتاهما شاملتين لجميع الآثار.

و مغفرته سبحانه و عدم مغفرته لا يقع شي‏ء منهما وقوعاً جزافيّاً بل على وفق الحكمة، و هو العزيز الحكيم، فأمّا عدم مغفرته للشرك فإنّ الخلقة إنّما تثبت على ما فيها من الرحمة على أساس العبوديّة و الربوبيّة، قال تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦، و لا عبوديّة مع شرك، و أمّا مغفرته لسائر المعاصي و الذنوب الّتي دون الشرك فلشفاعة من جعل له الشفاعة من الأنبياء و الأولياء و الملائكة و الأعمال الصالحة على ما مرّ تفصيله في بحث الشفاعة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

و أمّا التوبة فالآية غير متعرّضة لشأنها من حيث خصوص مورد الآية لأنّ موردها عدم الإيمان و لا توبة معه، على أنّ التوبة يغفر معها جميع الذنوب حتّى الشرك، قال تعالى:( قُلْ يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعاً أنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ ربّكمْ ) الزمر: ٥٤.

و المراد بالشرك في الآية ما يعمّ الكفر لا محالة فإنّ الكافر أيضاً لا يغفر له البتّة و إن لم يصدق عليه المشرك بعنوان التسمية بناءً على أنّ أهل الكتاب لا يسمّون في القرآن مشركين و إن كان كفرهم بالقرآن و بما جاء به النبيّ شركاً منهم أشركوا به (راجع تفسير آية ٢٢١ من البقرة)، و إذا لم يؤمن أهل الكتاب بما نزّل الله مصدّقاً لما معهم فقد كفروا به، و أشركوا ما في أيديهم بالله سبحانه فإنّه شي‏ء لا يريده الله على الصفة الّتي أخذوه بها فالمؤمن بموسىعليه‌السلام إذا كفر بالمسيحعليه‌السلام فقد كفر بالله و أشرك به موسى، و لعلّ ما ذكرناه هو النكتة لقوله تعالى:( أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) دون أن يقول: المشرك أو المشركين.

و قوله تعالى:( لِمَنْ يَشاءُ ) تقييد للكلام لدفع توهّم أنّ لأحد من الناس تأثيراً

٣٩٥

فيه تعالى يوجب به عليه المغفرة فيحكم عليه تعالى حاكم أو يقهره قاهر، و تعليق الاُمور الثابتة في القرآن على المشيئة كثير و الوجه في كلّها أو جلّها دفع ما ذكرناه من التوهّم كقوله تعالى:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إلّا ما شاءَ ربّك عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود: ١٠٨.

على أنّ من الحكمة إلّا يغفر لكلّ مذنب ذنبه و إلّا لغا الأمر و النهي، و بطل التشريع، و فسد أمر التربية الإلهيّة، و إليه الإشارة بقوله:( لِمَنْ يَشاءُ ) ، و من هنا يظهر أن كلّ واحد من المعاصي لا بدّ أن لا يغفر بعض أفراده و إلّا لغي النهي عنه، و هذا لا ينافي عموم لسان آيات أسباب المغفرة فإنّ الكلام في الوقوع دون الوعد على وجه الإطلاق، و من المعاصي ما يصدر عمّن لا يغفر له بشرك و نحوه.

فمعنى الآية أنّه تعالى لا يغفر الشرك من كافر و لا مشرك، و يغفر سائر الذنوب دون الشرك بشفاعة شافع من عباده أو عمل صالح، و ليس هو تعالى مقهوراً أن يغفر كلّ ذنب من هذه الذنوب لكلّ مذنب بل له أن يغفر و له أن لا يغفر، كلّ ذلك لحكمة.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ) قال الراغب: أصل الزكاة النموّ الحاصل من بركة الله تعالى - إلى أن قال -: و تزكية الإنسان نفسه ضربان: أحدهما: بالفعل و هو محمود، و إليه قصد بقوله:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) ، و الثاني بالقول كتزكيته لعدل غيره، و ذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، و قد نهى الله تعالى عنه فقال:( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) ، و نهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلاً و شرعاً، و لهذا قيل لحكيم: ما الّذي لا يحسن و إن كان حقّاً؟ فقال: مدح الرجل نفسه، انتهى كلامه.

و لمّا كانت الآية في ضمن الآيات المسرودة للتعرّض لحال أهل الكتاب كان الظاهر أنّ هؤلاء المزكّين لأنفسهم هم أهل الكتاب أو بعضهم، و لم يوصفوا بأهل الكتاب لأنّ العلماء بالله و آياته لا ينبغي لهم أن يتلبّسوا بأمثال هذه الرذائل فالإصرار عليها انسلاخ عن الكتاب و علمه.

و يؤيّده ما حكاه الله تعالى عن اليهود من قولهم:( نَحْنُ أَبْناءُ الله وَ أَحِبَّاؤُهُ ) المائدة: ١٨،

٣٩٦

و قولهم:( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلّا أيّاماً مَعْدُودَةً ) البقرة: ٨٠، و زعمهم الولاية كما في قوله تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا الّذينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لله مِنْ دُونِ النَّاسِ ) الجمعة: ٦، فالآية تكنّي عن اليهود، و فيها استشهاد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة من استكبارهم عن الخضوع للحقّ و اتّباعه، و الإيمان بآيات الله سبحانه، و استقرار اللّعن الإلهيّ فيهم، و أنّ ذلك من لوازم إعجابهم بأنفسهم و تزكيتهم لها.

قوله تعالى: ( بَلِ الله يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) إضراب عن تزكيتهم لأنفسهم، و ردّ لهم فيما زكّوه، و بيان أنّ ذلك من شؤون الربوبيّة يختصّ به تعالى فإنّ الإنسان و إن أمكن أن يتّصف بفضائل، و يتلبّس بأنواع الشرف و السؤدد المعنويّ غير أنّ اعتناءه بذلك و اعتماده عليه لا يتمّ إلّا بإعطائه لنفسه استغناء و استقلالاً و هو في معنى دعوى الاُلوهيّة و الشركة مع ربّ العالمين، و أين الإنسان الفقير الّذي لا يملك لنفسه ضرّاً و لا نفعاً و لا موتاً و لا حياةً و الاستغناء عن الله سبحانه في خير أو فضيلة؟ و الإنسان في نفسه و في جميع شؤون نفسه، و الخير الّذي يزعم أنّه يملكه، و جميع أسباب ذلك الخير، مملوك لله سبحانه محضاً من غير استثناء، فما ذا يبقى للإنسان؟.

و هذا الغرور و الإعجاب الّذي يبعث الإنسان إلى تزكية نفسه هو العجب الّذي هو من اُمّهات الرذائل، ثمّ لا يلبث هذا الإنسان المغرور المعتمد على نفسه دون أن يمسّ غيره فيتولّد من رذيلته هذه رذيلة اُخرى، و هي رذيلة التكبّر و يتمّ تكبّره في صورة الاستعلاء على غيره من عباد الله فيستعبد به عباد الله سبحانه، و يجري به كلّ ظلم و بغي بغير حقّ و هتك محارم الله و بسط السلطة على دماء الناس و أعراضهم و أموالهم.

و هذا كلّه إذا كان الوصف وصفاً فرديّاً و أمّا إذا تعدّى الفرد و صار خلقاً اجتماعيّاً و سيرة قوميّة فهو الخطر الّذي فيه هلاك النوع و فساد الأرض، و هو الّذي يحكيه تعالى عن اليهود إذ قالوا:( لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ) آل عمران: ٧٥.

فما كان لبشر أن يذكر لنفسه من الفضيلة ما يمدحها به سواء كان صادقاً فيما يقول أو كاذباً لأنّه لا يملك ذلك لنفسه لكنّ الله سبحانه لمّا كان هو المالك لما ملّكه، و المعطي

٣٩٧

الفضل لمن يشاء و كيف يشاء كان له أن يزكّي من شاء تزكية عمليّةً بإعطاء الفضل و إفاضة النعمة، و أن يزكّي من يشاء تزكية قوليّة يذكره بما يمتدح به، و يشرّفه بصفات الكمال كقوله في آدم و نوح:( إِنَّ الله اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً ) آل عمران: ٣٣، و قوله في إبراهيم و إدريس:( أنّه كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ) مريم: ٤١، ٥٦، و قوله في يعقوب:( وَ أنّه لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ ) يوسف: ٦٨، و قوله في يوسف:( أنّه مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) يوسف: ٢٤، و قوله في حقّ موسى:( أنّه كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) مريم: ٥١، و قوله في حقّ عيسى:( وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) آل عمران: ٤٥، و قوله في سليمان و أيّوب:( نِعْمَ الْعَبْدُ أنّه أَوَّابٌ ) ص: ٣٠، ٤٤، و قوله في محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّ وَلِيِّيَ الله الّذي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) الأعراف: ١٩٦، و قوله:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) القلم: ٤، و كذا قوله تعالى في حقّ عدّة من الأنبياء ذكرهم في سور الأنعام و مريم و الأنبياء و الصافّات و ص و غيرها.

و بالجملة فالتزكية لله سبحانه حقّ لا يشاركه فيه غيره إذ لا يصدر عن غيره إلّا من ظلم و إلى ظلم، و لا يصدر عنه تعالى إلّا حقّاً و عدلاً يقدّر بقدره لا يفرط و لا يفرّط، و لذا ذيّل قوله: بل الله يزكّي من يشاء بقوله - و هو في معنى التعليل -:( وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) .

و قد تبيّن ممّا مرّ أنّ تزكيته تعالى و إن كانت مطلقة تشمل التزكية العمليّة و التزكية القوليّة لكنّها تنطبق بحسب مورد الكلام على التزكية القوليّة.

قوله تعالى: ( وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) الفتيل فعيل بمعنى المفعول من الفتل و هو اللّيّ قيل: المراد به ما يكون في شقّ النواة، و قيل: هو ما في بطن النواة، و قد ورد في روايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام : أنّه النقطة الّتي على النواة، و النقير ما في ظهرها، و القطمير قشرها، و قيل: هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ، و كيف كان هو كناية عن الشي‏ء الحقير الّذي لا يعتدّ به.

و قد بان بالآية الشريفة أمران: أحدهما: أن ليس لصاحب الفضل أن يعجبه فضله و يمدح نفسه بل هو ممّا يختصّ به تعالى فإنّ ظاهر الآية أنّ الله يختصّ به أن يزكّي كلّ من جاز أن يتلبّس بالتزكية فليس لغير صاحب الفضل أيضاً أن يزكّيه إلّا بما زكّاه

٣٩٨

الله به، و ينتج ذلك أنّ الفضائل هي الّتي مدحها الله و زكّاها فلا قدر لفضل لا يعرفه الدين و لا يسمّيه فضلاً، و لا يستلزم ذلك أن تبطل آثار الفضائل عند الناس فلا يعرفوا لصاحب الفضل فضله، و لا يعظّموا قدره بل هي شعائر الله و علائمه، و قد قال تعالى:( وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ الله فإنّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: ٣٢، فعلى الجاهل أن يخضع للعالم و يعرف له قدره فإنّه من اتّباع الحقّ و قد قال تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي الّذينَ يَعْلَمُونَ وَ الّذينَ لا يَعْلَمُونَ ) الزمر: ٩، و إن لم يكن للعالم أن يتبجّح بعلمه و يمدح نفسه، و الأمر في جميع الفضائل الحقيقيّة الإنسانيّة على هذا الحال.

و ثانيهما: أنّ ما ذكره بعض باحثينا، و اتّبعوا في ذلك ما ذكره المغاربة أنّ من الفضائل الإنسانيّة الاعتماد بالنفس أمر لا يعرفه الدين، و لا يوافق مذاق القرآن، و الّذي يراه القرآن في ذلك هو الاعتماد بالله و التعزّز بالله قال تعالى:( الّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حسبنَا الله وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ ) آل عمران: ١٧٣، و قال:( أَنَّ الْقوّة لله جميعاً ) البقرة: ١٦٥، و قال:( إِنَّ الْعزّة لله جميعاً ) يونس: ٦٥، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ ) فتزكيتهم أنفسهم ببنوّة الله و حبّه و ولايته و نحو ذلك افتراء على الله إذ لم يجعل الله لهم ذلك، على أنّ أصل التزكية افتراء و إن كانت عن صدق فإنّه - كما تقدّم بيانه - إسناد شريك إلى الله و ليس له في ملكه شريك قال تعالى:( وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) الإسراء: ١١١.

و قوله:( وَ كَفى‏ بِهِ إِثْماً مُبِيناً ) أي لو لم يكن في التزكية إلّا أنّه افتراء على الله لكفى في كونه إثماً مبيناً، و التعبير بالإثم - و هو الفعل المذموم الّذي يمنع الإنسان من نيل الخيرات و يبطئها - هو المناسب لهذه المعصية لكونه من أشراك الشرك و فروعه، يمنع نزول الرحمة، و كذا في شرك الكفر الّذي يمنع المغفرة كما وقع في الآية السابقة:( وَ مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدِ افْتَرى‏ إِثْماً عَظِيماً - بعد قوله -إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) .

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ ) ، الجبت و الجبس كلّ ما لا خير فيه، و قيل: و كلّ ما يعبد من دون الله سبحانه،

٣٩٩

و الطاغوت مصدر في الأصل كالطغيان يستعمل كثيراً بمعنى الفاعل، و قيل: هو كلّ معبود من دون الله، و الآية تكشف عن وقوع واقعة قضى فيها بعض أهل الكتاب للّذين كفروا على الّذين آمنوا بأنّ سبيل المشركين أهدى من سبيل المؤمنين، و ليس عند المؤمنين إلّا دين التوحيد المنزّل في القرآن المصدّق لما عندهم، و لا عند المشركين إلّا الإيمان بالجبت و الطاغوت فهذا القضاء اعتراف منهم بأنّ للمشركين نصيباً من الحقّ، و هو الإيمان بالجبت و الطاغوت الّذي نسبه الله تعالى إليهم ثمّ لعنهم الله بقوله:( أُولئِكَ الّذينَ لَعَنَهُمُ الله ) الآية.

و هذا يؤيّد ما ورد في أسباب النزول أنّ مشركي مكّة طلبوا من أهل الكتاب أن يحكموا بينهم و بين المؤمنين فيما ينتحلونه من الدين فقضوا لهم على المؤمنين، و سيأتي الرواية في ذلك في البحث الروائيّ الآتي.

و قد ذكر كونهم ذوي نصيب من الكتاب ليكون أوقع في وقوع الذمّ و اللّوم عليهم فإنّ إيمان علماء الكتاب بالجبت و الطاغوت و قد بيّن لهم الكتاب أمرهما أشنع و أفظع.

قوله تعالى: ( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ - إلى قوله -نَقِيراً ) النقير فعيل بمعنى المفعول و هو المقدار اليسير الّذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره، و قد مرّ له معنى آخر في قوله:( وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) الآية.

و قد ذكروا أنّ( أَمْ ) في قوله:( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ) ، منقطعة و المعنى: بل أ لهم نصيب من الملك، و الاستفهام إنكاريّ أي ليس لهم ذلك.

و قد جوّز بعضهم أن تكون( أم ) متّصلة، و قال: إنّ التقدير: أ هم أولى بالنبوّة أم لهم نصيب من الملك؟ و ردّ بأنّ حذف الهمزة إنّما يجوز في ضرورة الشعر، و لا ضرورة في القرآن، و الظاهر أنّ أم متّصلة و أنّ الشقّ المحذوف ما يدلّ عليه الآية السابقة:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) الآية، و التقدير: أ لهم كلّ ما حكموا به من حكم أم لهم نصيب من الملك أم يحسدون الناس؟ و على هذا تستقيم الشقوق و تترتّب، و يتّصل الكلام في سوقه.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458