الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134569 / تحميل: 6224
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

و من ذلك يعلم أنّ الأمر إنّما كان بالمسارعة إلى الإنفاق و كظم الغيظ و العفو عن الناس و الاستغفار.

قوله تعالى: ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا ) ، السنن جمع سنّة و هي الطريقة المسلوكة في المجتمع، و الأمر بالسير في الأرض لمكان الاعتبار بآثار الماضين من الاُمم الغابرة، و الملوك و الفراعنة الطاغية حيث لم ينفعهم شواهق قصورهم، و لا ذخائر كنوزهم، و لا عروشهم و لا جموعهم، و قد جعلهم الله أحاديث يعتبر بها المعتبرون، و يتفكّه بها المغفّلون.

و أمّا حفظ آثارهم و كلائة تماثيلهم و الجهد في الكشف عن عظمتهم و مجدهم الظاهر الدنيويّ الّذي في أيّامهم فممّا لا يعتني به القرآن، فإنّما هي الوثنيّة الّتي لا تزال تظهر كلّ حين في لباس، و سنبحث إن شاء الله في هذا المعنى في بحث مستقلّ نحلّل فيه معنى الوثنيّة.

قوله تعالى: ( هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ ) الآية التقسيم باعتبار التأثير فهو بلاغ و إبانة لبعض و هدىً و موعظة لآخرين.

( بحث روائي‏)

في المجمع في قوله تعالى:( جنّة عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ) ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل إذا كانت الجنّة عرضها السماوات و الأرض فأين تكون النار؟ فقال ص: سبحان الله إذا جاء النهار فأين اللّيل؟

أقول: و رواه السيوطيّ في الدرّ المنثور، عن التنوخيّ في كتاب جاء به من هرقل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأله عن هذه الآية فأجاب عنها بذلك‏، و رواه أيضاً بطريق آخر عن أبي هريرة: أنّ رجلاً سأله عن ذلك فأجاب بذلك.

و ما فسّر كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ المراد كون النار في علم الله تعالى - كما أنّ اللّيل عند مجيي‏ء النهار في علم الله تعالى - فإن اُريد أنّ النار لا يعزب عن علمه تعالى فمن المعلوم أنّ هذا الجواب

٢١

لا يدفع الإشكال فإنّ السؤال إنّما هو عن مكان النار لا عن علم الله تعالى بها، و إن اُريد أنّ من الممكن أن يكون هناك مكان آخر وراء السماوات و الأرض تكون النار متمكّنةً فيها فهو و إن لم يكن مستبعداً في نفسه لكن مقايسة الجنّة و النار بالنهار و اللّيل حينئذ لا تكون في محلّها، فإنّ اللّيل لا يخرج عن حيطة السماوات و الأرض عند مجيي‏ء النهار فالحقّ أنّه تفسير غير مرضيّ.

و أظنّ أنّ الرواية ناظرة إلى معنى آخر و توضيحه: أنّ الآخرة بنعيمها و جحيمها و إن كانت مشابهةً للدنيا و لذائذها و آلامها و كذلك الإنسان الحالّ فيها و إن كان هو الإنسان الّذي في الدنيا بعينه على ما هو مقتضى ظواهر الكتاب و السنّة غير أنّ النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم في الدنيا، فإنّما الآخرة دار أبديّة و بقاء، و الدنيا دار زوال و فناء، و لذلك كان الإنسان يأكل و يشرب و ينكح و يتمتّع في الجنّة فلا يعرضه ما يعرض هذه الأفعال في الدنيا، و كذلك الإنسان يحترق بنار الجحيم، و يقاسي الآلام و المصائب في مأكله و مشربه و مسكنه و قرينه في النار و لا يطرأ عليه ما يطرأ عليه معها و هو في الدنيا، و يعمّر عمر الأبد و لا يؤثّر فيه ذلك كهولةً أو شيباً أو هرماً و هكذا، و ليس إلّا أنّ العوارض و الطواري المذكورة من لوازم النظام الدنيويّ دون مطلق النظام الأعمّ منه و من النظام الاُخرويّ، فالدنيا دار التزاحم و التمانع دون الآخرة.

و ممّا يدلّ عليه أنّ الّذي نجده في ظرف مشاهدتنا من الحوادث الواقعة يغيب عنّا إذا شاهدنا غيره ثانياً كحوادث الأمس و حوادث اليوم، و اللّيل و النهار و غير ذلك، و أمّا الله سبحانه فلا يغيب عنه هذا الّذي نشاهده أوّلاً و يغيب عنّا ثانياً و لا الّذي نجده بعده و لا مزاحمة بينهما، فاللّيل و النهار و كذا الحوادث المقارنة لهما متزاحمات متمانعات بحسب نظام المادّة و الحركة، و هي بعينها لا تتزاحم و لا تتمانع بحسب نظام آخر، و يستفاد ذلك من قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ إِلى‏ ربّك كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثمّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثمّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً ) الفرقان: ٤٦.

و إذا أمكن ذلك في مثل اللّيل و النهار و هما متزاحمان جاز في السماوات و الأرض أن تسع ما يساويهما سعة، و تسع مع ذلك شيئاً آخر يساويه مقداراً كالجنّة و النار مثلاً

٢٢

لكن لا بحسب نظام هذه الدار بل بحسب نظام الآخرة، و لهذا نظائر في الأخبار كما ورد: أنّ القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار، و ما ورد: أنّ المؤمن يوسّع له في قبره مدّ بصره.

فعلى هذا ينبغي أن يحمل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سبحان الله إذا جاء النهار فأين اللّيل؟ لظهور أن لو كان المراد أنّ الله سبحانه لا يجهل اللّيل إذا علم بالنهار لم يرتبط بالسؤال، و كذا لو كان المراد أنّ اللّيل يبقى في الخارج مع مجيي‏ء النهار اعترض عليه السائل بأنّ اللّيل يبطل مع وجود النهار إذا قيسا إلى محلّ واحد من مناطق الأرض، و إن اعتبرا من حيث نفسهما فاللّيل بحسب الحقيقة ظلّ مخروط حادث من إنارة الشمس، و هو يدور حول الكرة الأرضيّة بحسب الحركة اليوميّة فاللّيل و النهار سائران حول الأرض دائماً من غير بطلان و لا عينيّه.

و للرواية نظائر بين الروايات كما ورد في تفسير قوله تعالى:( لِيَمِيزَ الله الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) الأنفال: ٣٧ من قولهعليه‌السلام : إذا غابت الشمس فأين يصير هذا الشعاع المنبسط على الأرض؟ الحديث، و سيجي‏ء البحث عنها.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ) الآية: أخرج البيهقيّ عن عليّ بن الحسّين: إنّ جارية جعلت تسكب عليه الماء يتهيّأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجّه فرفع رأسه إليها، فقالت: إنّ الله يقول:( وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ ) ، قال: قد كظمت غيظي، قالت:( وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ) ، قال: قد عفا الله عنك، قالت:( وَ الله يُحبّ الْمُحسنينَ ) ، قال: اذهبي فأنت حرّة.

أقول: و هو مرويّ من طرق الشيعة أيضاً، و ظاهر الرواية أنّهعليه‌السلام يفسّر الإحسان بما يزيد على هذه الصفات و هو كذلك بحسب إطلاق مفهومه غير أنّ الصفات المذكورة قبله من لوازم معناه فمن الممكن أن يعرّف بها الإحسان.

و اعلم أنّ هناك روايات كثيرة جدّاً في حسن الخلق و سائر الأخلاق الفاضلة كالإنفاق و الكظم و العفو و نحوها واردة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أخّرنا إيرادها إلى محلّ آخر أنسب لها.

٢٣

و في المجالس، عن عبد الرحمن بن غنم الدوسيّ أنّ قوله تعالى:( وَ الّذينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ) إلخ نزل في بهلول النبّاش، و كان ينبش القبور فنبش قبر واحدة من بنات الأنصار فأخرجها و نزع أكفانها - و كانت بيضاء جميلة - فسوّل له الشيطان فزنى بها ثمّ ندم فجاء إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فردّه، ثمّ اعتزل الناس و انقطع عنهم يتعبّد و يتبتّل في بعض جبال المدينة حتّى قبل الله توبته و نزل فيه القرآن.

أقول: و الرواية مفصّلة نقلناها ملخّصة، و لو صحّت الرواية لكانت سبباً آخر لنزول الآية غير السبب الواحد الشامل لمجموع آيات القصّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الباقرعليه‌السلام في قوله تعالى:( وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ ما فَعَلُوا ) الآية قال: الإصرار أن يذنب المذنب فلا يستغفر الله و لا يحدّث نفسه بتوبة فذلك الإصرار.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قال إبليس: يا ربّ و عزّتك لا أزال اُغوي بني آدم ما كانت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: و عزّتي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.

و في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : لا صغيرة مع الإصرار، و لا كبيرة مع الاستغفار.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام في حديث قال: و في كتاب الله نجاة من الردى، و بصيرة من العمى، و شفاء لما في الصدور فيما أمركم الله به من الاستغفار و التوبة قال الله:( وَ الّذينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلّا الله وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) ، و قال:( وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثمّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً ) ، فهذا ما أمر الله به من الاستغفار، و اشترط معه التوبة و الإقلاع عمّا حرّم الله فإنّه يقول:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) ، و بهذه الآية يستدلّ أنّ الاستغفار لا يرفعه إلى الله إلّا العمل الصالح و التوبة.

أقول: قد استفادعليه‌السلام الإقلاع و عدم العود بعد التوبة من نفي الإصرار، و كذا احتياج التوبة و الاستغفار إلى صالح العمل بعده من عموم الكلم الطيّب في قوله:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) الآية.

٢٤

و في المجالس عن الصادقعليه‌السلام قال: لمّا نزلت هذه الآية:( وَ الّذينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ) ، صعد إبليس جبلاً بمكّة يقال له ثور فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا له: يا سيّدنا لم تدعونا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا فقال: لست لها، فقام آخر فقال مثل ذاك فقال: لست لها، فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها قال: بماذا؟ قال أعدهم و اُمنيّهم حتّى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوها أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكّله بها إلى يوم القيامة.

أقول: و الرواية مرويّة من طرق أهل السنّة أيضاً.

٢٥

( سورة آل عمران الآيات ١٣٩ - ١٤٨)

وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ( ١٣٩) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ( ١٤٠) وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ( ١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ( ١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ( ١٤٣) وَمَا مُحمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ( ١٤٤) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ كِتَابَاً مُؤَجّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوابَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ( ١٤٥) وَكَأَيّنَ مِنْ نَبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ( ١٤٦) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ( ١٤٧) فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ( ١٤٨)

( بيان)

الآيات كما ترى تتمّة للآيات السابقة المبتدئة بقوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) ، كما أنّ الآيات السابقة بأوامرها و نواهيها توطئة لهذه الآيات الّتي تشتمل على أصل المقصود من أمر و نهي و ثناء و توبيخ.

٢٦

قوله تعالى: ( وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) الوهن: هو الضعف في خلق أو خلق على ما ذكره الراغب، و المراد به هنا ضعفهم من حيث العزيمة و الاهتمام على إقامة الدين و قتال أعدائه، و الحزن خلاف الفرح و إنّما يعرض الإنسان بفقده شيئاً يملكه ممّا يحبّه أو أمراً يقدّر نفسه مالكة له.

و في قوله تعالى:( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ) ، دلالة على أنّ سبب وهنهم و حزنهم ما شاهدوه من إصابة القرح إيّاهم، و استعلاء الكفّار عليهم، فإنّ المشركين و إن لم ينالوا كلّ الغلبة و الظفر على المؤمنين و لم تختتم الوقعة على الانهزام التامّ من المؤمنين لكنّ الّذي أصاب المؤمنين كان أشدّ و أوجع و هو شهادة سبعين من سراتهم و شجعانهم، و وقوع ما وقع في عقر دارهم فكان هذا سبب وهنهم و حزنهم، و وقوع قوله:( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) إلخ موقع التعليل هو الوجه في كون هذين النهيين نهياً عن وهن و حزن واقعين لا مقدّرين و لا متوقّعين.

و قد اُطلق قوله: الْأَعْلَوْنَ من غير تقييد و لكن اشترط بالإيمان فمحصّل المعنى: لا ينبغي لكم أن تهنوا في عزمكم، و لا أن تحزنوا لما فاتكم من الظفر على أعدائكم، و الانتصار منهم إن كان فيكم الإيمان، فإنّ الإيمان أمر يستصحب علاءكم البتّة إذ هو يلازم التقوى و الصبر و فيهما ملاك الفتح و الظفر، و أمّا القرح الّذي أصابكم فلستم بمتفرّدين فيه بل القوم - و هم المشركون - قد أصابهم مثله فلم يسبقوكم في شي‏ء حتّى يوجب ذلك وهنكم و حزنكم.

و اشتراط علوّهم بالإيمان مع كون الخطاب للّذين آمنوا إنّما هو للإشارة إلى أنّ الجماعة و إن كانوا لا يفقدون الإيمان إلّا أنّهم غير عاملين بما يقتضيه من الصفات كالصبر و التقوى و إلّا لأثّر أثره.

و هذا حال كلّ جماعة مختلفة الحال في الإيمان فيهم المؤمن حقّاً و الضعيف إيماناً و المريض قلباً، و يكون مثل هذا الكلام تنشيطاً لنفس مؤمنهم، و عظةً لضعيفهم و عتاباً و تأنيباً لمريضهم.

قوله تعالى: ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ) القرح - بفتح القاف -

٢٧

الأثر من الجراحة من شي‏ء يصيبه من خارج، و القرح - بالضمّ - أثرها من داخل كالبثرة و نحوها - قاله الراغب - و كأنّه كناية عمّا أصابهم يوم اُحد بفرض مجموع المسلمين شخصاً واحداً أصابه جراحة من عدوّه و هو قتل من قتل منهم، و جراحة من جرح منهم، و فوت النصر و الفتح بعد ما أطلّا عليهم.

و هذه الجملة أعني قوله:( إِنْ يَمْسَسْكُمْ ) إلخ و ما بعدها من الجمل المتّسقة إلى قوله:( وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) في موضع التعليل كما مرّ لقوله:( وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا ) كما أنّ قوله:( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) تعليل آخر.

و الفرق بين النوعين من التعليل أنّ الأوّل أعني قوله:( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) إلخ، تعليل من طريق التخطئة لظنّهم، فإنّهم إنّما وهنوا و حزنوا لما ظنّوا علاء المشركين عليهم فخطّأهم الله بأنّ ملاك العلاء معكم إن كنتم مؤمنين لا مع المشركين، و قد قال تعالى:( كانَ حقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) الروم: ٤٧.

و أمّا الثاني فمن طريق بيان حال الفريقين - المؤمنين و المشركين - أو بيان الحكم و المصالح الّتي ترجع إلى أصل واحد و هو السنّة الإلهيّة الجارية بمداولة الأيّام بين الناس.

قوله تعالى: ( وَ تِلْكَ الْأيّام نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ ) اليوم هو المقدار المعتدّ به من الزمان اللّازم لحدوث الحوادث فيختلف باختلاف الحوادث، و قد شاع استعماله فيما بين طلوع الشمس و غروبها، و ربّما استعمل في الملك و السلطنة و القهر و نحوها بعلاقة الظرف و المظروف، فيقال يوم جماعة كذا و يوم آل فلان أي تقدّمهم و حكومتهم على غيرهم، و قد يقال لنفس الزمان الّذي وقع فيه ذلك، و المراد بالأيّام في الآية هو هذا المعنى. و المداولة جعل الشي‏ء يتناوله واحد بعد آخر. فالمعنى: أنّ السنّة الإلهيّة جرت على مداولة الأيّام بين الناس من غير أن توقف على قوم و يذبّ عنها قوم لمصالح عامّة تتّبع هذه السنّة لا تحيط أفهامكم إلّا ببعضها دون جميعها.

قوله تعالى: ( وَ لِيَعْلَمَ الله الّذينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ ) إلخ عطف على محذوف حذف للتلويح على أنّه ممّا لا تحيط به الأفهام و لا تدركه العقول إلّا من بعض

٢٨

جهاتها، و الّذي ينفع المؤمنين العلم به هو ما ذكره بقوله:( وَ لِيَعْلَمَ الله الّذينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ ) إلخ و بقوله:( وَ لِيُمَحِّصَ الله الّذينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) .

أمّا قوله:( وَ لِيَعْلَمَ الله الّذينَ آمَنُوا ) ، فالمراد به ظهور إيمان المؤمنين بعد بطونه و خفائه، فإنّ علمه تعالى بالحوادث و الأشياء في الخارج عين وجودها فيه فإنّ الأشياء معلومة له تعالى بنفس وجودها لا بصورة مأخوذة منها نظير علومنا و إدراكاتنا و هو ظاهر، و لازم ذلك أن يكون إرادته تعالى العلم بشي‏ء هي إرادة تحقّقه و ظهوره و حيث قال:( وَ لِيَعْلَمَ الله الّذينَ آمَنُوا ) ، فأخذ وجودهم محقّقاً أفاد ذلك إرادة ظهور إيمانهم، و إذا كان ذلك على سنّة الأسباب و المسبّبات لم يكن بدّ من وقوع اُمور توجب ظهور إيمان المؤمن بعد خفائه فافهم ذلك.

و أمّا قوله:( وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ ) ، فالشهداء شهداء الأعمال و أمّا الشهداء بمعنى المقتولّين في معركة القتال فلا يعهد استعماله في القرآن، و إنّما هو من الألفاظ المستحدثة الإسلاميّة، كما مرّ في قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ ) البقرة: ١٤٣ على أنّ قوله:( وَ يَتَّخِذَ ) ، أيضاً لا يلائم الشهداء بمعنى المقتولين في المعركة كثير ملائمة، فلا يقال: اتّخذ الله فلاناً مقتولاً في سبيله و شهيداً كما يقال: اتّخذ الله إبراهيم خليلاً، و اتّخذ الله موسى كليماً، و اتّخذ الله النبيّ شهيداً يشهد على اُمّته يوم القيامة.

و قد غيّر السياق فقال: و يتّخذ منكم شهداء، و لم يقل: و يتّخذهم شهداء لأنّ الشهادة و إن اُضيفت إلى الاُمّة في قوله:( وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) البقرة: ١٤٣ إلّا أنّها من قبيل وصف البعض المضاف إلى الكلّ، و الشهداء بعض الاُمّة دون كلّهم، و قد مرّ بيان ذلك في سورة البقرة، و يمكن أن يتأيّد هذا الّذي ذكرناه بقوله بعده:( وَ الله لا يُحبّ الظَّالِمِينَ ) .

و أمّا قوله:( وَ لِيُمَحِّصَ الله الّذينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) فالتمحيص هو تخليص الشي‏ء من الشوائب الخارجة، و المحق إنفاد الشي‏ء تدريجاً و إزالته شيئاً فشيئاً، و هذا التمحيص من حكم مداولة الأيّام و مصالحها، و هو غير العلم بالّذين آمنوا الّذي

٢٩

هو أيضاً من حكم مداولة الأيّام، فإنّ تمييز المؤمن من غير المؤمن أمر و تخليص إيمانه بعد التمييز من شوائب الكفر و النفاق و الفسوق أمر آخر، و لذلك قوبل بالمحق للكافرين، فالله سبحانه يزيل أجزاء الكفر و نحوه من المؤمن شيئاً فشيئاً حتّى لا يبقى إلّا إيمانه، فيكون خالصاً لله، و يبيد أجزاء الكفر و الشرك و الكيد من الكافر شيئاً فشيئاً حتّى لا يبقى شي‏ء.

فهذه وجوه من الحكمة في مداولته تعالى الأيّام بين الناس، و عدم استمرار الدولة بين قوم خاصّ، و لله الأمر كلّه يفعل ما يشاء، و لا يفعل إلّا الأصلح الأنفع كما قال:( كَذلِكَ يَضْرِبُ الله الحقّ وَ الْباطِلَ فأمّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أمّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) رعد: ١٧ و قال الله تعالى قبيل هذه الآيات:( لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الّذينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ ) فنفى أن يكون لنبيه من الأمر شي‏ء، و قصر الأمر في نفسه يحكم في خلقه كيف يشاء.

و هذا الكلام أعني ما يبيّن أنّ الأيّام مقسومة بين الناس لغرض الامتحان و تمييز المؤمن من الكافر و تمحيص المؤمنين و محق الكافرين مع ما مرّ من نفي رجوع الأمر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكشف عن أنّ المؤمنين كان يظنّ أكثرهم أنّ كونهم على دين الحقّ سبب تامّ في غلبتهم أينما غزوا و ظهورهم على الباطل كيفما كانوا، فهم يملكون الأمر لا يدفعون عن ذلك، و قد أجرأهم على هذا الحسبان ما شاهدوه يوم بدر من ظهورهم العجيب على عدوّهم و نزول ملائكة النصر، و هذا ظنّ فاسد يوجب بطلان نظام الامتحان و التمحيص و في ذلك بطلان مصلحة الأمر و النهي و الثواب و العقاب، و يؤدّي ذلك إلى انهدام أساس الدين فإنّما الدين دين الفطرة غير مبنيّ على خرق العادة الجارية و السنّة الإلهيّة القائمة في الوجود بابتناء الغلبة و الهزيمة على أسبابهما العاديّة.

شرح سبحانه - بعد بيان أنّ الأيّام دول متداولة لغرض الامتحان و الابتلاء - في ملامتهم في حسبان هذا النظر الباطل و بيان حقيقة الحال فقال:( أَمْ حسبتُمْ ) إلى آخر الآيات.

قوله تعالى: ( أَمْ حسبتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجنّة وَ لَمَّا يَعْلَمِ الله ) إلى آخر الآيتين و هذا

٣٠

أعني ظنّهم أن يدخلوا الجنّة من غير أن يمتحنوا لازم الظنّ المذكور آنفاً، و هو أنّهم لمّا كانوا على الحقّ و الحقّ لا يغلب عليه فأمر الظفر و الغلبة إليهم، لن ينهزموا و لن يغلبوا أبداً، و من المعلوم أن لازم هذا الظنّ أن يكون كلّ من آمن بالنبيّ و لحق بجماعة المؤمنين سعيداً في دنياه بالغلبة و الغنيمة، و سعيداً في آخرته بالمغفرة و الجنّة، و يبطل الفرق بين ظاهر الإيمان و حقيقته و يرتفع التمايز بين الدرجات، فإيمان المجاهد و إيمان المجاهد الصابر واحد، و من تمنّى خيراً ففعله إذا حان حينه كان كمن تمنّى خيراً ثمّ تولّى إذا أصابه.

و على هذا فقوله:( أَمْ حسبتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا ) إلخ من قبيل وضع المسبّب موضع السبب أي حسبتم أنّ الدولة مكتوبة لكم فأنتم لا تبتلون بل تدخلون الجنّة من غير أن يتميّز المستحقّ لها منكم من غير المستحقّ، و صاحب الدرجة الرفيعة منكم من غيره؟.

و أمّا قوله تعالى:( وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ ) الآية ففيه تثبيت أنّ ظنّهم ذاك كان فاسداً فإنّهم كانوا يتمنّون الموت قبل حضور الغزوة حتّى إذا حضرت و رأوه رأي العين لم يقدموا و لم يتناولوا ما كانوا يتمنّونه، بل فشلوا و تولّوا عن القتال، فهل كان من الجائز أن يدخلوا الجنّة بمجرّد هذا التمنّي من غير أن يمتحنوا أو يمحصّوا؟ أو لم يكن من الواجب أن يختبروا؟.

و بهذا يظهر أنّ في الكلام تقديراً، و المعنى: فقد رأيتموه و أنتم تنظرون فلم تقدموا عليه، و يمكن أن يكون قوله: تنظرون كناية عن عدم إقدامهم أي تكتفون بمجرّد النظر من غير إقدام، و فيه عتاب و توبيخ.

( كلام في الامتحان و حقيقته)

لا ريب أنّ القرآن الكريم يخصّ أمر الهداية بالله سبحانه غير أنّ الهداية فيه لا تنحصر في الهداية الاختياريّة إلى سعادة الآخرة أو الدنيا فقد قال تعالى فيما قال:( الّذي أَعْطى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثمّ هَدى) طه: ٥٠، فعمّم الهداية لكلّ شي‏ء من ذوي الشعور و العقل و غيرهم، و أطلقها أيضاً من جهة الغاية، و قال أيضاً:( الّذي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الّذي

٣١

قَدَّرَ فَهَدى) الأعلى: ٣، و الآية من جهة الإطلاق كسابقتها.

و من هنا يظهر أنّ هذه الهداية غير الهداية الخاصّة الّتي تقابل الإضلال فإنّ الله سبحانه نفاها و أثبت مكانها الضلال في طوائف و الهداية العامّة لا تنفي عن شي‏ء من خلقه، قال تعالى:( وَ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الجمعة: ٥، و قال:( وَ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) الصفّ: ٥، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و كذا يظهر أيضاً أنّ الهداية المذكورة غير الهداية بمعنى إراءة الطريق العامّة للمؤمن و الكافر كما في قوله تعالى:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أمّا شاكِراً وَ أمّا كَفُوراً ) الدهر: ٣، و قوله:( وَ أمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى‏ عَلَى الْهُدى ) حم السجدة: ١٧، فإنّ ما في هاتين الآيتين و نظائرهما من الهداية لا يعمّ غير أرباب الشعور و العقل و قد عرفت أنّ ما في قوله: ثمّ هَدى‏ و قوله:( وَ الّذي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) عامّ من حيث المورد و الغاية جميعاً. على أنّ الآية الثانية تفرّع الهداية على التقدير، و الهداية الخاصّة لا تلائم التقدير الّذي هو تهيئة الأسباب و العلل لسوق الشي‏ء إلى غاية خلقته، و إن كانت تلك الهداية أيضاً من جهة النظام العامّ في العالم داخلة في حيطة التقدير لكنّ النظر غير النظر فافهم ذلك.

و كيف كان فهذه الهداية العامّة هي هدايته تعالى كلّ شي‏ء إلى كمال وجوده، و إيصاله إلى غاية خلقته، و هي الّتي بها نزوع كلّ شي‏ء إلى ما يقتضيه قوام ذاته من نشوء و استكمال و أفعال و حركات و غير ذلك، و للكلام ذيل طويل سنشرحه إن ساعدنا التوفيق إن شاء الله العزيز.

و الغرض أنّ كلامه تعالى يدلّ على أنّ الأشياء إنّما تنساق إلى غاياتها و آجالها بهداية عامّة إلهيّة لا يشذّ عنها شاذّ، و قد جعلها الله تعالى حقّاً لها على نفسه و هو لا يخلف الميعاد، كما قال تعالى:( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى‏ وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى) الليل: ١٣، و الآية كما ترى تعمّ بإطلاقها الهداية الاجتماعيّة للمجتمعات و الهداية الفرديّة مضافة إلى ما تدلّ عليه الآيتان السابقتان.

فمن حقّ الأشياء على الله تعالى هدايتها تكويناً إلى كمالها المقدّر لها و هدايتها

٣٢

إلى كمالها المشرّع لها، و قد عرفت فيما مرّ من مباحث النبوّة أنّ التشريع كيف يدخل في التكوين و كيف يحيط به القضاء و القدر فإنّ النوع الإنسانيّ له نوع وجود لا يتمّ أمره إلّا بسلسلة من الأفعال الاختياريّة الإراديّة الّتي لا تقع إلّا عن اعتقادات نظريّة و عمليّة فلا بدّ أن يعيش تحت قوانين حقّة أو باطلة، جيّدة أو رديّة، فلا بدّ لسائق التكوين أن يهيّئ له سلسلة من الأوامر و النواهي (الشريعة) و سلسلة اُخرى من الحوادث الاجتماعيّة و الفرديّة حتّى يخرج بتلاقيه معهما ما في قوّته إلى الفعل فيسعد أو يشقى و يظهر ما في مكمن وجوده، و عند ذلك ينطبق على هذه الحوادث و هذا التشريع اسم المحنة و البلاء و نحوهما.

توضيح ذلك أنّ من لم يتّبع الدعوة الإلهيّة و استوجب لنفسه الشقاء فقد حقّت عليه كلمة العذاب إن بقي على تلك الحال، فكلّ ما يستقبله من الحوادث المتعلّقة بها الأوامر و النواهي الإلهيّة و يخرج بها من القوّة إلى الفعل تتمّ له بذلك فعليّة جديدة من الشقاء و إن كان راضياً بما عنده مغروراً بما يجده، فليس ذلك إلّا مكراً إلهيّا فإنّه يشقيهم بعين ما يحسبونه سعادةً لأنفسهم و يخيّب سعيهم في ما يظنّونه فوزاً لأنفسهم، قال تعالى:( وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ الله وَ الله خَيْرُ الْماكِرِينَ ) آل عمران: ٥٤، و قال:( وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلّا بِأَهْلِهِ ) فاطر: ٤٣، و قال:( لِيَمْكُرُوا فِيها وَ ما يَمْكُرُونَ إلّا بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ ) الأنعام: ١٢٣، و قال:( سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) الأعراف: ١٨٣، فما يتبجّح به المغرور الجاهل بأمر الله أنّه سبق ربّه في ما أراده منه بالمخالفة و التمرّد فإنّه يعينه على نفسه فيما أراده، قال تعالى:( أَمْ حسب الّذينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) العنكبوت: ٤، و من أعجب الآيات في هذا الباب قوله تعالى:( فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جميعاً ) الرعد: ٤٢.

فجميع هذه المماكرات و المخالفات و المظالم و التعدّيات الّتي تظهر من هؤلاء بالنسبة إلى الوظائف الدينيّة، و كلّ ما يستقبلهم من حوادث الأيّام و يظهر بها منهم ما أضمروه في قلوبهم و دعتهم إلى ذلك أهواؤهم، مكر إلهيّ و إملاء و استدراج فإنّ من حقّهم على الله أن يهديهم إلى عاقبة أمرهم و خاتمته و قد فعل، و الله غالب على أمره.

٣٣

و هذه الاُمور بعينها إذا نسبت إلى الشيطان كانت أقسام الكفر و المعاصي إغواءً منه لهم، و النزوع إليها دعوة و وسوسة و نزعة و وحياً و إضلالاً، و الحوادث الداعية و ما يجري مجراها زينة له و وسائل و حبائل و شبكات منه على ما سيجيي‏ء بيانه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

و أمّا المؤمن الّذي رسخ في قلبه الإيمان فما تظهر منه من الطاعات و العبادات و كذا الحوادث الّتي تستقبله فيظهر منه عندها ذلك، ينطبق عليها مفهوم التوفيق و الولاية الإلهيّة و الهداية بالمعنى الأخصّ نوع انطباق، قال تعالى:( وَ الله يؤيّد بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ ) آل عمران: ١٣، و قال:( وَ الله وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران: ٦٨، و قال:( الله وَلِيُّ الّذينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) البقرة: ٢٥٧، و قال:( يَهْدِيهِمْ ربّهم بِإِيمانِهِمْ ) يونس: ٩، و قال:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام: ١٢٢، هذا إذا نسبت هذه الاُمور إلى الله سبحانه، و أمّا إذا نسبت إلى الملائكة فتسمّى تأييداً و تسديداً منهم، قال تعالى:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢.

ثمّ إنّه كما أنّ الهداية العامّة تصاحب الأشياء من بدء كونها إلى آخر أحيان وجودها ما دامت سالكة سبيل الرجوع إلى الله سبحانه كذلك المقادير تدفعها من ورائها كما هو ظاهر قوله تعالى:( وَ الّذي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) الأعلى: ٣، فإنّ المقادير الّتي تحملها العلل و الأسباب المحتفّة بوجود الشي‏ء هي الّتي تحوّل الشي‏ء من حال اُولى إلى حال ثانية و هلمّ جرّاً فهي لا تزال تدفع الأشياء من ورائها.

و كما أنّ المقادير تدفعها من ورائها كذلك الآجال (و هي آخر ما ينتهي إليه وجود الأشياء) تجذبها من أمامها كما يدلّ عليه قوله تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إلّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ الّذينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ) الأحقاف: ٣، فإنّ الآية تربط الأشياء بغاياتها و هي الآجال، و الشيئان المرتبطان إذا قوي أحدهما على الآخر كان حاله بالنسبة إلى قرينه هو المسمّى جذباً و الآجال المسمّاة اُمور ثابتة غير متغيّرة فهي تجذب الأشياء من أمامها و هو ظاهر.

٣٤

فالأشياء محاطة بقوى إلهيّة: قوّة تدفعها، و قوّة تجذبها، و قوّة تصاحبها و تربّيها و هي القوى الأصليّة الّتي تثبتها القرآن الكريم غير القوى الحافظة و الرقباء و القرناء كالملائكة و الشياطين و غير ذلك.

ثمّ إنّا نسمّي نوع التصرّفات في الشي‏ء إذا قصد به مقصد لا يظهر حاله بالنسبة إليه: هل له صلوحه أو ليس له؟ بالامتحان و الاختبار، فإنّك إذا جهلت حال الشي‏ء أنّه هل يصلح لأمر كذا أو لا يصلح؟ أو علمت باطن أمره و لكن أردت أن يظهر منه ذلك أوردت عليه أشياء ممّا يلائم المقصد المذكور حتّى يظهر حاله بذلك هل يقبلها لنفسه أو يدفعها عن نفسه؟ و تسمّي ذلك امتحاناً و اختباراً و استعلاماً لحاله، أو ما يقاربها من الألفاظ.

و هذا المعنى بعينه ينطبق على التصرّف الإلهيّ بما يورده من الشرائع و الحوادث الجارية على اُولي الشعور و العقل من الأشياء كالإنسان، فإنّ هذه الاُمور يظهر بها حال الإنسان بالنسبة إلى المقصد الّذي يدعى إليه الإنسان بالدعوة الدينيّة فهي امتحانات إلهيّة.

و إنّما الفرق بين الامتحان الإلهيّ و ما عندنا من الامتحان أنّا لا نخلو غالباً عن الجهل بما في باطن الأشياء فنريد بالامتحان استعلام حالها المجهول لنا، و الله سبحانه يمتنع عليه الجهل و عنده مفاتح الغيب، فالتربية العامّة الإلهيّة للإنسان من جهة دعوته إلى حسن العاقبة و السعادة امتحان لأنّه يظهر و يتعيّن بها حال الشي‏ء أنّه من أهل أيّ الدارين دار الثواب أو دار العقاب؟

و لذلك سمّى الله تعالى هذا التصرّف الإلهيّ من نفسه أعني التشريع و توجيه الحوادث بلاءً و ابتلاءً و فتنةً فقال بوجه عامّ:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحسن عَمَلًا ) الكهف: ٧، و قال:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) الدهر: ٢، و قال:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: ٣٥، و كأنّه يريد به ما يفصّله قوله:( فأمّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَ أمّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) الفجر: ١٦، و قال:( إنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) التغابن: ١٥، و قال:( وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) محمّد: ٤، و قال:( كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) الأعراف: ١٦٣، و قال:( وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حسناً )

٣٥

الأنفال: ١٧، و قال:( أَ حسب النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا الّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الّذينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ) العنكبوت: ٣.

و قال في مثل إبراهيم:( وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ) البقرة: ١٢٤، و قال في قصّة ذبح إسماعيل:( أنّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) الصافّات: ١٠٦، و قال في موسى:( وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً ) طه: ٤٠، إلى غير ذلك من الآيات.

و الآيات كما ترى تعمّم المحنة و البلاء لجميع ما يرتبط به الإنسان من وجوده و أجزاء وجوده كالسمع و البصر و الحياة، و الخارج من وجوده المرتبط به بنحو كالأولاد و الأزواج و العشيرة و الأصدقاء و المال و الجاه و جميع ما ينتفع به نوع انتفاع، و كذا مقابلات هذه الاُمور كالموت و سائر المصائب المتوجّهة إليه، و بالجملة الآيات تعدّ كلّ ما يرتبط به الإنسان من أجزاء العالم و أحوالها فتنة و بلاءً من الله سبحانه بالنسبة إليه.

و فيها تعميم آخر من حيث الأفراد فالكلّ مفتّنون مبتلون من مؤمن أو كافر، و صالح أو طالح، و نبيّ أو من دونه، فهي سنّة جارية لا يستثني منها أحد.

فقد بان أنّ سنّة الامتحان سنّة إلهيّة جارية، و هي سنّة عمليّة متّكئة على سنّة اُخرى تكوينيّة و هي سنّة الهداية العامّة الإلهيّة من حيث تعلّقها بالمكلّفين كالإنسان و ما يتقدّمها و ما يتأخّر عنها أعني القدر و الأجل كما مرّ بيانه.

و من هنا يظهر أنّها غير قابلة للنسخ فإنّ انتساخها عين فساد التكوين و هو محال، و يشير إلى ذلك ما يدلّ من الآيات على كون الخلقة على الحقّ، و ما يدلّ على كون البعث حقّاً كقوله تعالى:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إلّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) الأحقاف: ٣، و قوله تعالى:( أَ فَحسبتُمْ إنّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) المؤمنون: ١١٥، و قوله تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إلّا بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) الدخان: ٣٩، و قوله تعالى:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لَآتٍ ) العنكبوت: ٥، إلى غيرها فإنّ جميعها تدلّ على أنّ الخلقة بالحقّ و ليست باطلة مقطوعة عن الغاية، و إذا كانت أمام الأشياء غايات و آجال حقّة و من ورائها مقادير حقّة و معها هداية حقّة فلا مناص عن تصادمها عامّة، و ابتلاء أرباب التكليف

٣٦

منها خاصّة باُمور يخرج بالاتّصال بها ما في قوّتها من الكمال و النقص و السعادة و الشقاء إلى الفعل، و هذا المعنى في الإنسان المكلّف بتكليف الدين امتحان و ابتلاء فافهم ذلك.

و يظهر ممّا ذكرناه معنى المحق و التمحيص أيضاً، فإنّ الامتحان إذا ورد على المؤمن فأوجب امتياز فضائله الكامنة من الرذائل، أو ورد على الجماعة فاقتضى امتياز المؤمنين من المنافقين و الّذين في قلوبهم مرض صدق عليه اسم التمحيص و هو التمييز.

و كذا إذا توالت الامتحانات الإلهيّة على الكافر و المنافق و في ظاهرهما صفات و أحوال حسنة مغبوطة فأوجبت تدريجاً ظهور ما في باطنهما من الخبائث، و كلّما ظهرت خبيثة أزالت فضيلة ظاهريّة كان ذلك محقاً له أي إنفاداً تدريجيّاً لمحاسنها، قال تعالى:( وَ تِلْكَ الْأيّام نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ الله الّذينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ الله لا يُحبّ الظَّالِمِينَ وَ لِيُمَحِّصَ الله الّذينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) آل عمران: ١٤١.

و للكافرين محق آخر من جهة ما يخبره تعالى أنّ الكون ينساق إلى صلاح البشر و خلوص الدين لله، قال تعالى:( وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) طه: ١٣٢، و قال:( أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) الأنبياء: ١٠٥.

قوله تعالى: ( وَ ما محمّد إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) الموت زهاق الروح و بطلان حياة البدن، و القتل هو الموت إذا كان مستنداً إلى سبب عمديّ أو نحوه، و الموت و القتل إذا افترقا كان الموت أعمّ من القتل، و إذا اجتمعا كان الموت هو ما بحتف الأنف و القتل خلافه.

و انقلب على عقبيه أي رجع قال الراغب: و رجع على عقبيه إذا انثنى راجعاً، و انقلب على عقبيه نحو رجع على حافرته، و نحو ارتدّا على آثارهما قصصاً، و قولهم رجع عوده إلى بدئه، انتهى.

و حيث جعل الانقلاب على الأعقاب جزاءً للشرط الّذي هو موت الرسول أو قتله أفاد ذلك أنّ المراد به الرجوع عن الدين دون التولّي عن القتال إذ لا ارتباط للفرار

٣٧

من الزحف بموت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو قتله، و إنّما النسبة و الرابطة بين موته أو قتله و بين الرجوع إلى الكفر بعد الإيمان.

و يدلّ على أنّ المراد به الرجوع عن الدين ما ذكره تعالى في قوله:( وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الحقّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ) إلى آخر الآيات، على أنّ نظير ما وقع في اُحد من فرارهم من الزحف و تولّيهم عن القتال تحقّق في غيره كغزوة حنين و الخيبر و غيرهما و لم يخاطبهم الله بمثل هذا الخطاب و لا عبّر عن تولّيهم عن القتال بمثل هذه الكلمة قال تعالى:( وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شيئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثمّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) البراءة: ٢٥، فالحقّ أنّ المراد بالانقلاب على الأعقاب الرجوع إلى الكفر السابق.

فمحصّل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب و التوبيخ: أنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس إلّا رسولاً من الله مثل سائر الرسل، ليس شأنه إلّا تبليغ رسالة ربّه لا يملك من الأمر شيئاً، و إنّما الأمر لله و الدين دينه باق ببقائه، فما معنى اتّكاء إيمانكم على حياته حيث يظهر منكم أن لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين، و رجعتم إلى أعقابكم القهقرى و اتّخذتم الغواية بعد الهداية؟.

و هذا السياق أقوى شاهد على أنّهم ظنّوا يوم اُحد بعد حمي الوطيس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قتل فانسلّوا عند ذلك و تولّوا عن القتال، فيتأيّد بذلك ما ورد في الرواية و التاريخ - كما في ما رواه ابن هشام في السيرة -: أنّ أنس بن النضر - عمّ أنس بن مالك - انتهى إلى عمر بن الخطّاب و طلحة بن عبيدالله في رجال من المهاجرين و الأنصار - و قد ألقوا بأيديهم - فقال: ما يحبسكم؟ قالوا: قتل رسول الله قال: فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثمّ استقبل القوم فقاتل حتّى قتل.

و بالجملة فمعنى هذا الانسلال و الإلقاء بالأيدي: أنّ إيمانهم إنّما كان قائماً بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبقى ببقائه و يزول بموته، و هو إرادة ثواب الدنيا بالإيمان و هذا هو الّذي عاتبهم الله عليه، و يؤيّد هذا المعنى قوله بعده:( وَ سَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ ) ، فإنّ الله سبحانه

٣٨

كرّر هذه الجملة في الآية التالية بعد قوله:( وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها ) ، فافهم ذلك.

و قوله:( وَ سَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ ) ، بمنزلة الاستثناء ممّا قبله على ما يعطيه السياق، و هو الدليل على أنّ القوم كان فيهم من لم يظهر منه هذا الانقلاب أو ما يشعر به كالانسلال و التولّي و هم الشاكرون.

و حقيقة الشكر إظهار النعمة كما أنّ الكفر الّذي يقابله هو إخفاؤها و الستر عليها، و إظهار النعمة هو استعمالها في محلّها الّذي أراده منعمها و ذكر المنعم بها لساناً و هو الثناء و قلباً من غير نسيان، فشكره تعالى على نعمة من نعمه أن يذكر عند استعمالها و يوضع النعمة في الموضع الّذي أراده منها و لا يتعدّى ذلك، و إن من شي‏ء إلّا و هو نعمة من نعمه تعالى، و لا يريد بنعمة من نعمه إلّا أن تستعمل في سبيل عبادته، قال تعالى:( وَ آتاكُمْ مِنْ كلّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كفّار ) إبراهيم: ٣٤، فشكره على نعمته أن يطاع فيها و يذكر مقام ربوبيّته عندها.

و على هذا فشكره المطلق من غير تقييد، ذكره تعالى من غير نسيان، و إطاعته من غير معصية، فمعنى قوله:( وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ ) البقرة: ١٥٢، اذكروني ذكراً لا يخالطه نسيان، و أطيعوا أمري إطاعة لا يشوبها عصيان، و لا يصغي إلى قول من يقول: إنّه أمر بما لا يطاق فإنّه ناش من قلّة التدبّر في هذه الحقائق و البعد من ساحة العبوديّة.

و قد عرفت فيما تقدّم من الكتاب أنّ إطلاق الفعل لا يدلّ إلّا على تلبّس ما، بخلاف الوصف فإنّه يدلّ على استقرار التلبّس و صيرورة المعنى الوصفيّ ملكة لا تفارق الإنسان، ففرق بين قولنا: الّذين أشركوا، و الّذين صبروا، و الّذين ظلموا، و الّذين يعتدون، و بين قولنا: المشركين، و الصابرين، و الظالمين، و المعتدين، فالشاكرون هم الّذين ثبت فيهم وصف الشكر و استقرّت فيهم هذه الفضيلة، و قد بان أنّ الشكر المطلق هو أن لا يذكر العبد شيئاً( نعمةً) إلّا و ذكر الله معه، و لا يمسّ شيئاً( و هو نعمة) إلّا و يطيع الله فيه.

٣٩

فقد تبيّن أنّ الشكر لا يتمّ إلّا مع الإخلاص لله سبحانه علماً و عملاً، فالشاكرون هم المخلصون لله، الّذين لا مطمع للشيطان فيهم.

و يظهر هذه الحقيقة ممّا حكاه الله تعالى عن إبليس، قال تعالى:( قالَ فَبِعزّتكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ص: ٨٣، و قال تعالى:( قالَ ربّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) الحجر: ٤٠، فلم يستثن من إغوائه أحداً إلّا المخلصين، و أمضاه الله سبحانه من غير ردّ، و قال تعالى:( قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثمّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) الأعراف: ١٧، و قوله: و لا تجد إلخ بمنزلة الاستثناء فقد بدّل المخلصين بالشاكرين، و ليس إلّا لأنّ الشاكرين هم المخلصون الّذين لا مطمع للشيطان فيهم، و لا صنع له لديهم، و إنّما صنعه و كيده إنساء مقام الربوبيّة و الدعوة إلى المعصية.

و ممّا يؤيّد ذلك من هذه الآيات النازلة في غزوة اُحد قوله تعالى فيما سيأتي من الآيات:( إِنَّ الّذينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إنّما اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ ) ، مع قوله في هذه الآية الّتي نحن فيها:( وَ سَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ ) ، و قوله فيما بعدها:( وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) ، و قد عرفت أنّه في معنى الاستثناء.

فتدبّر فيها و اقض عجباً ممّا ربّما يقال: إنّ الآية أعني قوله:( إِنَّ الّذينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ ) ناظرة إلى ما روي: أنّ الشيطان نادى يوم اُحد:( إلّا قد قتل محمّد) فأوجب ذلك وهن المؤمنين و تفرّقهم عن المعركة! فاعتبر إلى أيّ مهبط اُهبط كتاب الله من أوج حقائقه و مستوى معارفه العالية؟.

فالآية تدلّ على وجود عدّة منهم يوم اُحد لم يهنوا و لم يفتروا و لم يفرّطوا في جنب الله سبحانه سمّاهم الله شاكرين، و صدق أنّهم لا سبيل للشيطان إليهم و لا مطمع له فيهم، لا في هذه الغزوة فحسب بل هو وصف لهم ثابت فيهم مستقرّ معهم، و لم يطلق اسم الشاكرين في مورد من القرآن على أحد بعنوان على طريق التوصيف إلّا في هاتين

٤٠

الآيتين أعني قوله:( وَ ما محمّد إلّا رَسُولٌ ) الآية، و قوله:( وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ الله ) الآية، و لم يذكر ما يجازيهم به في شي‏ء من الموردين إشعاراً بعظمته و نفاسته.

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ الله كِتاباً مُؤَجَّلًا ) إلخ تعريض لهم في قولهم عن إخوانهم المقتولين ما يشير إليه قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالّذينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا ) الآية، و قول طائفة منهم:( لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ما قُتِلْنا ههنا ) الآية، و هؤلاء من المؤمنين غير المنافقين الّذين تركوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قعدوا عن القتال.

فهذا القول منهم لازمه أن لا يكون موت النفوس بإذن من الله و سنّة محكمة تصدر عن قضاء مبرم، و لازمه بطلان الملك الإلهيّ و التدبير المتقن الربّانيّ و سيجي‏ء إن شاء الله الكلام في معنى كتابة الآجال في أوّل سورة الأنعام.

و لما كان لازم هذا القول ممّن قال به أنّه آمن لظنّه أنّ الأمر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و للمؤمنين فقد أراد الدنيا كما مرّ بيانه و من اجتنب هذا فقد أراد الآخرة فقال تعالى:( وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها ) ، و إنّما قال:( نُؤْتِهِ مِنْها ) و لم يقل: نؤتها لأنّ الإرادة ربّما لا توافق تمام الأسباب المؤدّية إلى تمام مراده فلا يرزق تمام ما أراده، و لكنّها لا تخلو من موافقة ما للأسباب في الجملة دائماً فإن وافق الجميع رزق الجميع و إن وافق البعض رزق البعض فحسب، قال الله تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثمّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) الإسراء: ١٩ و قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إلّا ما سَعى) : النجم: ٣٩.

ثمّ خصّ الشاكرين بالذكر بإخراجهم من الطائفتين فقال:( وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) و ليس إلّا لأنّهم لا يريدون إلّا وجه الله لا يشتغلون بدنيا و لا آخرة كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ) إلى آخر الآيات كأيّن كلمة تكثير و كلمة( من ) بيانيّة و الربيّون جمع ربّيّ و هو كالربّانيّ من اختصّ بربّه تعالى فلم يشتغل بغيره، و قيل: المراد به الاُلوف و الربّيّ الألف، و الاستكانة هي التضرّع.

٤١

و في الآية موعظة و اعتبار مشوب بعتاب و تشويق للمؤمنين أن يأتمّوا بهؤلاء الربّيّين فيؤتيهم الله ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة كما آتاهم، و يحبّهم لإحسانهم كما أحبّهم لذلك.

و قد حكى الله من فعلهم و قولهم ما للمؤمنين أن يعتبروا به و يجعلوه شعاراً لهم حتّى لا يبتلوا بما ابتلوا به يوم اُحد من الفعل و القول غير المرضيّين لله تعالى و حتّى يجمع الله لهم ثواب الدنيا و الآخرة كما جمع لاُولئك الربّيّين.

و قد وصف ثواب الآخرة بالحسن دون الدنيا إشارة إلى ارتفاع منزلتها و قدرها بالنسبة إليها.

٤٢

( سورة آل عمران الآيات ١٤٩ - ١٥٥)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ( ١٤٩) بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ( ١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِمِينَ( ١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتّى‏ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَا تُحِبّونَ مِنكُم مَن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ( ١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى‏ أَحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلى‏ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( ١٥٣) ثُمّ أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُعَاسَاً يَغْشَى‏ طَائِفَةً مِنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ يَقُولُونَ هَل لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَي‏ءٍ قُلْ إِنّ الأَمْرَ كُلّهُ للّهِ‏ِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَي‏ءٌ مَا قُتِلْنَا هاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى‏ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ( ١٥٤) إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ( ١٥٥)

٤٣

( بيان)

من تتمّة الآيات النازلة في خصوص غزوة اُحد، و فيها حثّ و ترغيب للمؤمنين أن لا يطيعوا غير ربّهم فإنّه هو مولاهم و ناصرهم، و إشهاد لهم على صدق وعده و أنّ الهزيمة و الخذلان لم يكن يوم اُحد إلّا من قبل أنفسهم، و تعدّيهم حدود ما أمرهم الله به و دعاهم رسوله إليه و أنّ الله سبحانه مع ذلك عفا عن جرائمهم لأنّه غفور حليم.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الّذينَ كَفَرُوا ) إلى آخر الآيتين لا يبعد أن يستفاد من السياق أنّ الكفّار كانوا أيّام نزول الآيات بعد غزوة اُحد يلقون إلى المؤمنين - في صورة النصح - ما يثّبطهم عن القتال، و يلقي التنازع و التفرقة و تشتّت الكلمة و اختلافها بينهم، و ربّما أيّده ما في آخر هذه الآيات من قوله:( الّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ - إلى أن قال -ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) الآيات آل عمران: ١٧٣ - ١٧٥.

و ربّما قيل: إنّ الآية إشارة إلى قول اليهود و المنافقين يوم اُحد:( إنّ محمّداً قد قتل فارجعوا إلى عشائركم) ، و ليس بشي‏ء.

ثمّ لمّا بيّن أنّ إطاعتهم للّذين كفروا و الميل إلى ولايتهم يهديهم إلى الخسران الّذي هو رجوعهم إلى أعقابهم كافرين أضرب عنه بقوله:( بَلِ الله مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) .

قوله تعالى: ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِالله ) إلخ وعد جميل للمؤمنين بأنّهم سينصرون بالرعب، و لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذكره فيما حباه الله تعالى و خصّه به من بين الأنبياء على ما رواه الفريقان.

و قوله:( بِما أَشْرَكُوا ) ، معناه: اتّخذوا له ما ليس معه برهان شريكاً، و ممّا يكرّره القرآن أن ليس لإثبات الشريك لله سلطان، و من إثبات الشريك نفي الصانع و إسناد التأثير و التدبير إلى غيره كالدهر و المادّة.

٤٤

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحسّونَهُمْ ) إلى آخر الآية الحسّ - بالفتح -: القتل على وجه الاستيصال.

و لقد اتّفقت الروايات و ضبطه التاريخ في قصّة غزوة اُحد أنّ المؤمنين غلبوهم و ظهروا عليهم في أوّل الأمر و وضعوا فيهم السيوف و شرعوا في نهب أموالهم حتّى إذا خلّى الرماة مكانهم في المكمن حمل خالد بن الوليد فيمن معه على عبدالله بن جبير و من بقي معه من الرماة فقتلوهم، و حملوا على المؤمنين من ورائهم، و تراجع المشركون عن هزيمتهم و وضعوا السيوف في أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قتلوا منهم سبعين ثمّ هزموهم أشدّ هزيمة.

فقوله تعالى:( وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ ) ، تثبيت صدق وعده بالنصر بشرط التقوى و الصبر، و قوله:( إِذْ تَحسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ) ، يقبل الانطباق على ما رزقهم في أوّل الأمر من الظهور على عدوّهم يوم اُحد، و قوله:( حتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ ) ، ينطبق على ما صنعه الرماة حيث تنازعوا فيما بينهم في ترك مراكزهم و اللّحوق بمن مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنيل الغنيمة ففشلوا و تنازعوا في الأمر و عصوا أمر النبيّ بأن لا يتركوا مراكزهم على أيّ حال، و على هذا فلا بدّ من تفسير الفشل بضعف الرأي، و أمّا كونه بمعنى الجبن فلا ينطبق عليهم إذ لم يكن ذلك منهم جبناً بل طمعاً في الغنيمة، و لو كان الفشل بمعنى الجبن كان منطبقاً على حال جميع القوم و يكون على هذا( ثمّ ) في قوله:( ثمّ صَرَفَكُمْ ) ، مفيدة للتراخي الرتبيّ دون الزمانيّ.

و يدلّ لفظ التنازع على أنّ الكلّ لم يكونوا مجمعين على الفشل و المعصية بل كان بعضهم يصرّ على الإطاعة و البقاء على الائتمار و لذا قال تعالى بعده:( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) .

قوله تعالى: ( ثمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ) ، أي كفّكم عن المشركين بعد ظهور الفشل و التنازع و المعصية، و بالجملة بعد وقوع الاختلاف بينكم ليمتحنكم و يختبر إيمانكم و صبركم في الله إذ الاختلاف في القلوب هو أقوى العوامل المقتضية لبسط

٤٥

الابتلاء ليتميّز المؤمن من المنافق، و المؤمن الراسخ في إيمانه الثابت على عزيمته من المتلوّن السريع الزوال، و مع ذلك فإنّ الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ) .

قوله تعالى: ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى‏ أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) الإصعاد هو الذهاب و الإبعاد في الأرض بخلاف الصعود فهو الارتقاء إلى مكان عال يقال: أصعد في جانب البرّ أي ذهب فيه بعيداً، و صعد في السلّم أي ارتقى، و قيل: إنّ الإصعاد ربّما استعمل بمعنى الصعود.

و الظرف متعلّق بمقدّر أي اذكروا إذ تصعدون، أو بقوله: صَرَفَكُمْ، أو بقوله لِيَبْتَلِيَكُمْ، - على ما قيل - و قوله: وَ لا تَلْوُونَ، من اللّيّ بمعنى الالتفات و الميل قال في المجمع: و لا يستعمل إلّا في النفي لا يقال: لويت على كذا، انتهى.

و قوله:( وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) ، الاُخرى مقابل الاُولى و كون الرسول يدعو و هو في اُخراهم يدلّ على أنّهم تفرّقوا عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هم سواد ممتدّ على طوائف اُوليهم مبتعدون عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اُخراهم بقرب منه، و هو يدعوهم من غير أن يلتفت إليه لا اُولاهم و لا اُخراهم فتركوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين جموع المشركين و هم يصعدون فراراً من القتل.

نعم قوله تعالى قبيل هذا:( وَ سَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ ) - و قد مرّ تفسيره - يدلّ على أنّ منهم من لم يتزلزل في عزيمته و لم ينهزم لا في أوّل الانهزام، و لا بعد شيوع خبر قتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما يدلّ عليه قوله:( أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ) الآية.

و ممّا يدلّ عليه قوله:( وَ لا تَلْوُونَ عَلى‏ أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) إنّ خبر قتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما انتشر بينهم بعد انهزامهم و إصعادهم.

قوله تعالى: ( فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ ) إلخ أي جازاكم غمّاً بغمّ ليصرفكم عن الحزن على كذا، و هذا الغمّ الّذي اُثيبوا به كيفما كان هو نعمة منه تعالى بدليل قوله:( لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ ) ، فإنّ الله تعالى ذمّ في كتابه هذا الحزن كما قال:( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ ) الحديد: ٢٣

٤٦

فهذا الغمّ الّذي يصرفهم عن ذاك الحزن المذموم نعمة و موهبة فيكون هو الغمّ الطارئ عليهم من جهة الندامة على ما وقع منهم و التحسّر على ما فاتهم من النصر بسبب الفشل، و يكون حينئذ الغمّ الثاني في قوله: بِغَمٍّ، الغمّ الآتي من قبل الحزن المذكور، و الباء للبدليّة، و المعنى: جازاكم غمّاً بالندامة و الحسرة على فوت النصر بدل غمّ بالحزن على ما فاتكم و ما أصابكم.

و من الجائز أن يكون قوله: فَأَثابَكُمْ مضمّناً معنى الإبدال فيكون المعنى: فأبدلكم غمّ الحزن من غمّ الندامة و الحسرة مثيباً لكم، فينعكس المعنى في الغمّين بالنسبة إلى المعنى السابق.

و على كلّ من المعنيين يكون قوله: فَأَثابَكُمْ، تفريعاً على قوله:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ) ، و يتّصل به ما بعده أعني قوله:( ثمّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ ) ، أحسن اتّصال، و الترتيب: أنّه عفا عنكم فأثابكم غمّاً بغمّ ليصونكم عن الحزن الّذي لا يرتضيه لكم ثمّ أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنة نعاساً.

و ههنا وجه آخر يساعده ظهور السياق في تفريع قوله: فَأَثابَكُمْ، على ما يتّصل به بمعنى أن يكون الغمّ هو ما يتضمّنه قوله: إِذْ تُصْعِدُونَ، و المراد بقوله: بِغَمٍّ هو ما أدّى إليه التنازع و المعصية و هو إشراف المشركين عليهم من ورائهم، و الباء للسببيّة و هذا معنى حسن، و على هذا يكون المراد بقوله:( لِكَيْلا تَحْزَنُوا ) إلخ: نبيّن لكم حقيقة الأمر لئلّا تحزنوا، كما في قوله تعالى:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إلّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) الآية الحديد: ٢٣.

فهذا ما يستقيم به نظم الآية و اتّساق الجمل المتعاقبة، و للمفسّرين احتمالات كثيرة في الآية من حيث ما عطف عليه قوله: فَأَثابَكُمْ، و من حيث معنى الغمّ الأوّل و الثاني و معنى الباء و معنى قوله: لِكَيْلا، ليست من الاستقامة على شي‏ء و لا جدوى في نقلها و البحث عنها.

و على ما احتملناه من أحد معنيين يكون المراد ممّا فات في قوله:( لِكَيْلا تَحْزَنُوا

٤٧

عَلى‏ ما فاتَكُمْ ) هو الغلبة و الغنيمة، و ممّا أصاب ما أصاب القوم من القتل و الجرح.

قوله تعالى: ( ثمّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى‏ طائِفَةً مِنْكُمْ ) الأمنة بالتحريك الأمن، و النعاس ما يتقدّم النوم من الفتور و هو نوم خفيف، و نعاساً بدل من أمنة للملازمة عادة، و ربّما احتمل أن يكون أمنة جمع آمن كطالب و طلبة، و هو حينئذ حال من ضمير عليكم، و نعاساً مفعول قوله: أنزل، و الغشيان: الإحاطة.

و الآية تدلّ على أنّ هذا النعاس النازل إنّما غشي طائفة من القوم، و لم يعمّ الجميع بدليل قوله: طائِفَةً مِنْكُمْ، و هؤلاء هم الّذين رجعوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الانهزام و الإصعاد لما ندموا و تحسّروا، و حاشا أن يعفو الله عنهم عفو رحمة و هم في حال الفرار عن الزحف و هو من كبائر المعاصي و الآثام و قد قال:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ الله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) ، و حاشا أن تشمل عنايته تعالى على مقترف الفحشاء و المنكر حين يقترف من قبل أن يتوب و قد عنى في حقّهم حين أثابهم غمّاً بغمّ لكيلا يحزنوا فيتقذّر قلوبهم بما لا يرتضيه الله سبحانه على ما مرّ بيانه.

فهؤلاء بعض القوم و هم النادمون على ما فعلوا الراجعون إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحتفّون به، و كأنّ ذلك إنّما كان حين فارقصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جموع المشركين و عاد إلى الشعب، و إن كان عودهم إليه تدريجاً بعد العلم بأنّه لم يقتل.

و أمّا البعض الآخر من القوم فهم الّذين يذكرهم الله بقوله:( وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) .

قوله تعالى: ( وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) هذه طائفة اُخرى من المؤمنين و نعني بكونهم من المؤمنين أنّهم غير المنافقين الّذين ذكرهم الله أخيراً بقوله:( وَ لِيَعْلَمَ الّذينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ ) الآية و هم الّذين فارقوا جماعة المؤمنين في أوّل الأمر قبل القتال و انخذلوا فهؤلاء المنافقون لهم شأن آخر سينبّئ الله بذلك.

و هؤلاء الطائفة الثانية الموصوفون بأنّهم قد أهمّتهم أنفسهم لم يكرمهم الله بما أكرم به الطائفة الاُولى من العفو و إثابة الغمّ ثمّ الأمنة و النعاس بل وكلهم إلى أنفسهم فأهمّتهم أنفسهم و نسوا كلّ شي‏ء دونها.

٤٨

و قد ذكر الله تعالى من أوصافهم وصفين اثنين و إن كان أحدهما من لوازم الآخر و فروعه، فذكر أنّهم أهمّتهم أنفسهم، و ليس معناه أنّهم يريدون سعادة أنفسهم بمعناها الحقيقيّ فإنّ المؤمنين أيضاً لا يريدون إلّا سعادة أنفسهم فالإنسان بل كلّ ذي همامة و إرادة لا يريد إلّا نفسه البتّة، بل المراد: أن ليس لهم همّ إلّا حفظ حياتهم الدنيا و عدم الوقوع في شبكة القتل فهم لا يريدون بدين أو غيره إلّا إمتاع أنفسهم في الدنيا و إنّما ينتحلون بالدين ظنّاً منهم أنّه عامل غير مغلوب، و أنّ الله لا يرضى بظهور أعدائه عليه، و إن كانت الأسباب الظاهريّة لهم فهؤلاء يستدرّون الدين ما درّ لهم، و إن انقلب الأمر و لم يسعدهم الجدّ انقلبوا على أعقابهم القهقرى.

قوله تعالى: ( يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الحقّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ) إلى قوله:( بِالله ) أي ظنّوا بالله أمراً ليس بحقّ بل هو من ظنون الجاهليّة فهم يصفونه بوصف ليس بحقّ بل من الأوصاف الّتي كان يصفه بها أهل الجاهليّة، و هذا الظنّ أيّاً ما كان هو شي‏ء يناسبه و يلازمه قولهم:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، و يكشف عنه ما أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم به، و هو قوله:( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله ) فظاهر هذا الجواب أنّهم كانوا يظنّون أنّ بعض الأمر لهم و لذا لمّا غلبوا و فشي فيهم القتل تشكّكوا فقالوا:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) .

و بذلك يظهر أنّ الأمر الّذي كانوا يرونه لأنفسهم هو الظهور و الغلبة، و إنّما كانوا يظنّونه لأنفسهم من جهة إسلامهم فهم قد كانوا يظنّون أنّ الدين الحقّ لا يُغلب و لا يُغلب المتديّن به لما أنّ على الله أن ينصره من غير قيد و شرط و قد وعدهم به.

و هذا هو الظنّ بغير الحقّ، الّذي هو ظنّ الجاهليّة فإنّ وثنيّة الجاهليّة كانت تعتقد أنّ الله تعالى خالق كلّ شي‏ء و أنّ لكلّ صنف من أصناف الحوادث كالرزق و الحياة و الموت و العشق و الحرب و غيرها، و كذا لكلّ نوع من الأنواع الكونيّة كالإنسان و الأرض و البحار و غيرها ربّاً يدبّر أمرها لا يغلب على إرادته، و كانوا يعبدون هؤلاء الأرباب ليدرّوا لهم الرزق، و يجلبوا لهم السعادة، و يقوهم من الشرور و البلايا، و الله سبحانه كالملك العظيم يفوّض كلّ صنف من أصناف رعيّته و كلّ شطر من أشطار ملكه إلى وال تامّ الاختيار له أن يفعل ما يشاؤه في منطقة نفوذه و حوزة ولايته.

٤٩

و إذا ظنّ الظانّ أن الدين الحقّ لا يصير مغلوباً في ظاهر تقدّمه و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو أوّل من يتحمّله من ربّه و يحمل أثقاله - لا يقهر في ظاهر دعوته أو أنّه لا يقتل أو لا يموت فقد ظنّ بالله غير الحقّ ظنّ الجاهليّة فاتّخذ لله أنداداً، و جعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّاً وثنيّاً مفوّضاً إليه أمر الغلبة و الغنيمة، مع أنّ الله سبحانه واحد لا شريك له، إليه يرجع الأمر كلّه و ليس لأحد من الأمر شي‏ء، و لذلك لمّا قال تعالى فيما تقدّم من الآيات:( لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الّذينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ ) ، قطع الكلام بالاعتراض فقال - يخاطب نبيّه -:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ) لئلّا يتوهّم أن لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخلاً في قطع أو كبت، و الله سبحانه هو الّذي وضع سنّة الأسباب و المسبّبات، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحقّ و الباطل، و الخير و الشرّ، و الهداية و الضلالة، و العدل و الظلم، و لا فرق فيه بين المؤمن و الكافر، و المحبوب و المبغوض، و محمّد و أبي سفيان.

نعم لله سبحانه عناية خاصّة بدينه و بأوليائه يجري نظام الكون بسببها جرياً ينجرّ إلى ظهور الدين و تمهّد الأرض لأوليائه و العاقبة للمتّقين.

و أمر النبوّة و الدعوة ليس بمستثنى من هذه السنّة الجارية، و لذلك كلّما توافقت الأسباب العاديّة على تقدّم هذا الدين و ظهور المؤمنين كبعض غزوات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ذلك، و حيث لم يتوافق الأسباب كتحقّق نفاق أو معصية لأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو فشل أو جزع كانت الغلبة و الظهور للمشركين على المؤمنين، و كذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع الناس فإنّ أعداء الأنبياء لكونهم أهل الدنيا، و قصرهم مساعيهم في عمارة الدنيا، و بسط القدرة، و تشديد القوّة، و جمع الجموع كانت الغلبة الظاهريّة و الظهور لهم على الأنبياء، فمن مقتول كزكريّا، و مذبوح كيحيى، و مشرّد كعيسى إلى غير ذلك.

نعم إذا توقّف ظهور الحقّ بحقّانيّته على انتقاض نظام العادة دون السنّة الواقعيّة و بعبارة اُخرى دار أمر الحقّ بين الحياة و الموت كان على الله سبحانه أن يقيم صلب الدين و لا يدعه تدحض حجّته، و قد مرّ شطر من هذا البحث في القول على

٥٠

الإعجاز في الجزء الأوّل من الكتاب، و في الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.

و لنرجع إلى ما كنّا فيه: فقول هؤلاء الطائفة الّذين أهمّتهم أنفسهم:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، تشكّك في حقّيّة الدين و قد أدرجوا في هيكله روح الوثنيّة على ما مرّ بيانه، فأمر سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم فقال:( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله ) ، و قد خاطب نبيّه قبل ذلك بقوله:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ) فبيّن بذلك أنّ ملّة الفطرة و دين التوحيد هو الّذي لا يملك فيه الأمر إلّا الله جلّ شأنه، و باقي الأشياء و منها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليست بمؤثّرة شيئاً بل هي في حيطة الأسباب و المسبّبات و السنّة الإلهيّة الّتي تؤدّي إلى جريان ناموس الابتلاء و الامتحان.

قوله تعالى: ( يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ ) إلخ، و هذا توصيف لهم بما هو أشدّ من قولهم:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، فإنّه كان تشكيكاً في صورة السؤال، و هذا أعني قولهم:( لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ما قُتِلْنا ) ههنا ترجيح في هيئة الاستدلّال، و لذلك أبدوا قولهم الأوّل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخفوا قولهم الثاني لاشتماله على ترجيح الكفر على الإسلام.

فأمر الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم فقال:( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى‏ مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ الله ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ) ، فبيّن لهم:

أوّلاً: أنّ قتل من قتل منكم في المعركة ليس لعدم كونكم على الحقّ، و عدم كون الأمر لكم على ما تزعمون بل لأنّ القضاء الإلهيّ و هو الّذي لا مناص من نفوذه و مضيّه جرى على أن يضطجع هؤلاء المقتولون في هذه المضاجع، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فلا مفرّ من الأجل المسمّى الّذي لا تستأخرون عنه ساعة و لا تستقدمون.

و ثانياً : أنّ سنّة الله جرت على عموم الابتلاء و التمحيص و هي واقعة بهم و بكم لا محالة، فلم يكن بدّ من خروجكم و وقوع هذا القتال حتّى يحلّ المقتولون محلّهم

٥١

و ينالوا درجاتهم، و تحلّوا أنتم محلّكم فيتعيّن لكم أحد جانبي السعادة و الشقاوة بامتحان ما في صدوركم من الأفكار، و تخليص ما في قلوبكم من الإيمان و الشرك.

و من عجيب ما ذكر في هذه الآية قول عدّة من المفسّرين أنّ المراد بهذه الطائفة الّتي تشرح الآية حالها هم المنافقون مع ظهور سياق الآيات في أنّها تصف حال المؤمنين، و أمّا المنافقون أعني أصحاب عبدالله بن اُبيّ المنخذلين في أوّل الوقعة قبل وقوع القتال فإنّما يتعرّض لحالهم فيما سيأتي.

اللّهمّ إلّا أن يريدوا بالمنافقين الضعفاء الإيمان الّذين يعود عقائدهم المتناقضة بحسب اللّازم إلى إنكار الحقّ قلباً و الاعتراف به لساناً و هم الّذين يسمّيهم الله بالّذين في قلوبهم مرض قال تعالى:( إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الّذينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ) الأنفال: ٤٩، و قال:( وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) التوبة: ٤٧، أو يريدوا أنّ جميع المنافقين لم يرجعوا مع أصحاب عبدالله بن اُبيّ إلى المدينة.

و أعجب منه قول بعض آخر أنّ هذه الطائفة كانوا مؤمنين، و أنّهم كانوا يظنّون أنّ أمر النصر و الغلبة إليهم لكونهم على دين الله الحقّ لما رأوا من الفتح و الظفر و نزول الملائكة يوم بدر فقولهم:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، و قولهم:( لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ) إلخ اعتراف منهم بأنّ الأمر إلى الله لا إليهم و إلّا لم يستأصلهم القتل.

و يرد عليه عدم استقامة الجواب حينئذ و هو قوله تعالى:( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله ) ، و قوله:( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ) إلخ، و قد أحسّ بعض هؤلاء بهذا الإشكال فأجاب عنه بما هو أردأ من أصل كلامه و قد عرفت ما هو الحقّ من المعنى.

قوله تعالى: ( إِنَّ الّذينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إنّما اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا ) استزلال الشيطان إيّاهم إرادته وقوعهم في الزلّة، و لم يرد ذلك منهم إلّا بسبب بعض ما كسبوا في نفوسهم و من أعمالهم فإنّ السيّئات يهدي بعضها إلى بعض فإنّها مبنيّة على متابعة هوى النفس، و هوى النفس للشي‏ء هوى لما يشاكله.

و أمّا احتمال كون الباء للآلة و كون ما كسبوا عين تولّيهم يوم الالتقاء فبعيد

٥٢

من ظاهر اللّفظ فإنّ ظاهر( ما كَسَبُوا ) تقدّم الكسب على التولّي و الاستزلال.

و كيف كان فظاهر الآية أنّ بعض ما قدّموا من الذنوب و الآثام مكّن الشيطان أن أغواهم بالتولّي و الفرار، و من هنا يظهر أنّ احتمال كون الآية ناظرة إلى نداء الشيطان يوم اُحد بقتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما في بعض الروايات ليس بشي‏ء إذ لا دلالة عليه من جهة اللّفظ.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ ) هذا العفو هو عن الّذين تولّوا، المذكورين في صدر الآية، و الآية مطلقة تشمل جميع من تولّى يومئذ فتعمّ الطائفتين جميعاً أعني الطائفة الّتي غشيهم النعاس و الطائفة الّتي أهمّتهم أنفسهم، و الطائفتان مختلفتان بالتكرّم بإكرام الله و عدمه، و لكونهما مختلفتين لم يذكر مع هذا العفو الشامل لهما معاً جهات الإكرام الّتي اشتمل عليها العفو المتعلّق بالطائفة الاُولى على ما تقدّم بيانه.

و من هنا يظهر أنّ هذا العفو المذكور في هذه الآية غير العفو المذكور في قوله:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ) ، و من الدليل على اختلاف العفوين ما في الآيتين من اختلاف اللّحن ففرق واضح بين قوله تعالى:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ الله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) حيث أنّه كلام مشعر بالفضل و الرأفة و قد سمّاهم مؤمنين ثمّ ذكر إثابتهم غمّاً بغمّ لكيلا يحزنوا ثمّ إنزاله عليهم أمنةً نعاساً، و بين قوله تعالى:( وَ لَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ ) حيث ذكر العفو و سكت عن جميع ما أكرم الطائفة الاُولى به ثمّ ختم الكلام بذكر حلمه و هو أن لا يعجّل في العقوبة و العفو الّذي مع الحلم إغماض مع استبطان سخط.

فإن قلت: إنّما سوّى بين الطائفتين من سوّى بينهما لمكان ورود العفو عنهما جميعاً.

قلت: معنى العفو مختلف في الموردين بحسب المصداق و إن صدق على الجميع مفهوم العفو على حدّ سواء، و لا دليل على كون العفو و المغفرة و ما يشابههما في جميع الموارد سنخاً واحداً، و قد بينا وجه الاختلاف.

٥٣

( معنى العفو و المغفرة في القرآن)

العفو على ما ذكره الراغب - و هو المعنى المتحصّل من موارد استعمالاته - هو القصد لتناول الشي‏ء، يقال: عفاه و اعتفاه أي قصده متناولاً ما عنده، و عفت الريح الدار قصدتها متناولة آثارها، انتهى و كأنّ قولهم: عفت الدار إذ بلت مبنيّ على عناية لطيفة و هي أنّ الدار كأنّها قصدت آثار نفسها و ظواهر زينتها فأخذته فغابت عن أعين الناظرين، و بهذه العناية ينسب العفو إليه تعالى كأنّه تعالى يعني بالعبد فيأخذ ما عنده من الذنب و يتركه بلا ذنب.

و من هنا يظهر أنّ المغفرة - و هو الستر - متفرّع عليه بحسب الاعتبار فإنّ الشي‏ء كالذنب مثلاً يؤخذ و يتناول أوّلاً ثمّ يستر عليه فلا يظهر ذنب المذنب لا عند نفسه و لا عند غيره، قال تعالى:( وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا ) البقرة: ٢٨٦ و قال:( وَ كانَ الله عَفُوًّا غَفُوراً ) النساء: ٩٩.

و قد تبيّن بذلك أنّ العفو و المغفرة و إن كانا مختلفين متفرّعاً أحدهما على الآخر بحسب العناية الذهنيّة لكنّهما بحسب المصداق واحد، و أنّ معناهما ليس من المعاني المختصّة به تعالى بل يصحّ إطلاقهما على غيره تعالى بما لهما من المعنى كما قال تعالى:( إلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الّذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) البقرة: ٢٣٧، و قال تعالى:( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّام الله ) الجاثية: ١٤، و قال تعالى:( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) الآية فأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعفوا عنهم فلا يرتّب الأثر على معصيتهم من المؤاخذة و العتاب و الإعراض و نحو ذلك، و أن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم - و هو تعالى فاعله لا محالة - فيما يرجع إليه من آثار الذنب.

و قد تبيّن أيضاً أنّ معنى العفو و المغفرة يمكن أن يتعلّق بالآثار التكوينيّة و التشريعيّة و الدنيويّة و الاُخرويّة جميعاً، قال تعالى:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠، و الآية شاملة للآثار و العواقب الدنيويّة

٥٤

قطعاً، و مثله قوله تعالى:( وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ ربّهم وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) الشورى: ٥، على ظاهر معناه، و كذا قول آدم و زوجته فيما حكاه الله عنهما:( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) الأعراف: ٢٣ بناء على أنّ ظلمهما كان معصية لنهي إرشاديّ لا مولويّ.

و الآيات الكثيرة القرآنيّة دالّة على أنّ القرب و الزلفى من الله، و التنعّم بنعم الجنّة يتوقّف على سبق المغفرة الإلهيّة و إزالة رين الشرك و الذنوب بتوبة و نحوها كما قال تعالى:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) المطفّفين: ١٤ و قال تعالى:( وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ‏ ) التغابن: ١١.

و بالجملة العفو و المغفرة من قبيل إزالة المانع و رفع المنافي المضادّ، و قد عدّ الله سبحانه الإيمان و الدار الآخرة حياة، و آثار الإيمان و أفعال أهل الآخرة و سيرهم الحيويّ نوراً كما قال:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢، و قال تعالى:( وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) العنكبوت: ٦٤، فالشرك موت و المعاصي ظلمات، قال تعالى:( أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ) النور: ٤٠، فالمغفرة إزالة الموت و الظلمة و إنّما تكون بحياة و هو الإيمان، و نور و هو الرحمة الإلهيّة.

فالكافر لا حياة له و لا نور، و المؤمن المغفور له له حياة و نور، و المؤمن إذا كان معه سيّئات حيّ لم يتمّ له نوره و إنّما يتمّ بالمغفرة، قال تعالى:( نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا ) التحريم ٨.

فظهر من جميع ما تقدّم أنّ مصداق العفو و المغفرة إذا نسب إليه تعالى في الاُمور التكوينيّة كان إزالة المانع بإيراد سبب يدفعه، و في الاُمور التشريعيّة إزالة السبب المانع عن الإرفاق و نحوه، و في مورد السعادة و الشقاوة إزالة المانع عن السعادة.

٥٥

( سورة آل عمران الآيات ١٥٦ - ١٦٤)

يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالّذينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ الله ذلِكَ حسرة فِي قُلُوبِهِمْ وَ الله يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ الله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ ممّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى الله تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتوکّل عَلَى الله إِنَّ الله يُحبّ الْمُتوکّلينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الّذي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى الله فَلْيَتوکّل الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثمّ تُوَفَّى كلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ الله كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ الله وَ الله بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)

( بيان)

الآيات من تتمّة الآيات النازلة في خصوص غزوة اُحد أيضاً، و هي تتضمّن التعرّض لأمر آخر عرض لهم، و هو الأسف و الحسرة الواردة في قلوبهم من قتل رجالاتهم

٥٦

و سراة قومهم، و معظم المقتولين كانوا من الأنصار فما قتل من المهاجرين - على ما قيل - إلّا أربعة، و هذا يقوّي الحدس أنّ معظم المقاومة كانت من ناحية الأنصار، و أنّ الهزيمة أسرعت إلى المهاجرين قبلهم.

و بالجملة الآيات تبيّن ما في هذا الأسف و الحسرة من الخطأ و الخبط، و تعطف على أمر آخر يستتبعه هذا الأسف و التحسّر و هو سوء ظنّهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أنّه هو الّذي أوردهم هذا المورد و ألقاهم في هذه التهلكة كما يشير إليه قولهم على ما تلوّح إليه هذه الآيات:( لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا ) الآية، و قول المنافقين فيما سيجيي‏ء:( لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا ) الآية، أي أطاعونا و لم يطيعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو الّذي أهلكهم، فهي تبيّن أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس له أن يخون أحداً بل هو رسول منه تعالى شريف النفس كريم المحتد عظيم الخلق يلين لهم برحمة من الله، و يعفو عنهم و يستغفر لهم و يشاورهم في الأمر منه تعالى، و أنّ الله منّ به عليهم ليخرجهم من الضلال إلى الهدى.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالّذينَ كَفَرُوا ) إلخ المراد بهؤلاء الّذين كفروا ما هو ظاهر اللّفظ أعني الكافرين دون المنافقين - كما قيل - لأنّ النفاق بما هو نفاق ليس منشأ لهذا القول - و إن كان المنافقون يقولون ذلك - و إنّما منشأه الكفر فيجب أن ينسب إلى الكافرين.

و الضرب في الأرض كناية عن المسافرة، و غزّيّ جمع غاز كطالب و طلّب و ضارب و ضرّب، و قوله: لِيَجْعَلَ الله ذلِكَ حسرة، أي ليعذّبهم بها فهو من قبيل وضع المغيّا موضع الغاية، و قوله:( وَ الله يُحْيِي وَ يُمِيتُ ) ، بيان لحقيقة الأمر الّتي أخطأ فيها الكافرون القائلون: لو كانوا، و هذا الموت يشمل الموت حتف الأنف و القتل كما هو مقتضى إطلاق الموت وحده على ما تقدّم، و قوله:( وَ الله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) في موضع التعليل للنهي في قوله:( لا تَكُونُوا ) إلخ.

و قوله:( ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا ) ، قدّم فيه الموت على القتل ليكون النشر على ترتيب اللّفّ في قوله:( إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى ) ، و لأنّ الموت أمر جار على الطبع و العادة المألوفة بخلاف القتل فإنّه أمر استثنائيّ فقدّم ما هو المألوف على غيره.

٥٧

و محصل الآية نهي المؤمنين أن يكونوا كالكافرين فيقولوا لمن مات منهم في خارج بلده أو قومه، و فيمن قتل منهم في غزاة:( لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا ) فأنّ هذا القول يسوق الإنسان إلى عذاب قلبيّ و نقمة إلهيّة و هو الحسرة الملقاة في قلوبهم، مع أنّه من الجهل فإنّ القرب و البعد منهم ليس بمحيي و مميت بل الإحياء و الإماتة من الشؤون المختصّة بالله وحده لا شريك له فليتّقوا الله و لا يكونوا مثلهم فإنّ الله بما يعملون بصير.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ ممّا يَجْمَعُونَ ) الظاهر أنّ المراد ممّا يجمعون هو المال و ما يلحق به الّذي هو عمدة البغية في الحياة الدنيا.

و قد قدّم القتل ههنا على الموت لأنّ القتل في سبيل الله أقرب من المغفرة بالنسبة إلى الموت فهذه النكتة هي الموجبة لتقديم القتل على الموت، و لذلك عاد في الآية التالية:( وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى الله تُحْشَرُونَ ) إلى الترتيب الطبعيّ بتقديم الموت على القتل لفقد هذه النكتة الزائدة.

قوله تعالى: ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ ) إلى آخر الآية، الفظ هو الجافي القاسيّ، و غلظ القلب كناية عن عدم رقّته و رأفته، و الانفضاض التفرّق.

و في الآية التفات عن خطابهم إلى خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا برحمة منّا، و لذلك أمرناه أن يعفو عنكم و يستغفر لكم و يشاوركم في الأمر و أن يتوکّل علينا إذا عزم.

و نكتة الالتفات ما تقدّم في أوّل آيات الغزوة أنّ الكلام فيه شوب عتاب و توبيخ، و لذلك اشتمل على بعض الإعراض في ما يناسبه من الموارد و منها هذا المورد الّذي يتعرّض فيه لبيان حال من أحوالهم لها مساس بالاعتراض على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ تحزّنهم لقتل من قتل منهم ربّما دلّهم على المناقشة في فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و رميه بأنّه أوردهم مورد القتل و الاستيصال، فأعرض الله تعالى عن مخاطبتهم و التفت إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخاطبه بقوله:( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ ) .

و الكلام متفرّع على كلام آخر يدلّ عليه السياق، و التقدير: و إذا كان حالهم ما تراه من التشبّه بالّذين كفروا و التحسّر على قتلاهم فبرحمة منّا لنت لهم و إلّا لانفضّوا من حولك. و الله أعلم.

٥٨

و قوله:( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) إنّما سيق ليكون إمضاءً لسيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه كذلك كان يفعل، و قد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم اُحد، و فيه إشعار بأنّه إنّما يفعل ما يؤمر و الله سبحانه عن فعله راض.

و قد أمر الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعفو عنهم فلا يرتّب على فعالهم أثر المعصية، و أن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم - و هو تعالى فاعله لا محالة - و اللّفظ و إن كان مطلقاً لا يختصّ بالمورد غير أنّه لا يشمل موارد الحدود الشرعيّة و ما يناظرها و إلّا لغي التشريع، على أنّ تعقيبه بقوله:( وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) لا يخلو عن الإشعار بأنّ هذين الأمرين إنّما هما في ظرف الولاية و تدبير الاُمور العامّة ممّا تجري فيه المشاورة معهم.

و قوله:( فَإِذا عَزَمْتَ فَتوکّل عَلَى الله إِنَّ الله يُحبّ الْمُتوکّلينَ ) ، و إذا أحبّك كان وليّاً و ناصراً لك غير خاذلك، و لذا عقّب الآية بهذا المعنى و دعي المؤمنين أيضاً إلى التوکّل فقال:( إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الّذي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) ثمّ أمرهم بالتوکّل بوضع سببه موضعه فقال:( وَ عَلَى الله فَلْيَتوکّل الْمُؤْمِنُونَ ) أي لإيمانهم بالله الّذي لا ناصر و لا معين إلّا هو.

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ) ، الغل هو الخيانة، قد مرّ في قوله تعالى:( ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ الله الْكِتابَ ) آل عمران: ٧٩، أنّ هذا السياق معناه تنزيه ساحة النبيّ عن السوء و الفحشاء بطهارته، و المعنى: حاشا أن يغلّ و يخون النبيّ ربّه أو الناس (و هو أيضاً من الخيانة لله) و الحال أنّ الخائن يلقى ربّه بخيانته ثمّ توفّى نفسه ما كسبت.

ثمّ ذكر أنّ رمي النبيّ بالخيانة قياس جائر مع الفارق فإنّه متّبع رضوان الله لا يعدو رضا ربّه، و الخائن باء بسخط عظيم من الله و مأواه جهنّم و بئس المصير، و هذا هو المراد بقوله:( أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ الله كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله ) الآية.

و يمكن أن يكون المراد به التعريض للمؤمنين بأنّ هذه الأحوال من التعرّض لسخط الله، و الله يدعوكم بهذه المواعظ إلى رضوانه، و ما هما سواء.

ثمّ ذكر أنّ هذه الطوائف من المتّبعين لرضوان الله و البائين بسخط من الله درجات

٥٩

مختلفة، و الله بصير بالأعمال فلا تزعموا أنّه يفوته الحقير من خير أو شرّ فتسامحوا في اتّباع رضوانه أو البوء بسخطه.

قوله تعالى: ( لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) ، في الآية التفات آخر من خطاب المؤمنين إلى تنزيلهم منزلة الغيبة، و قد مرّ الوجه العامّ في هذه الموارد من الالتفات و الوجه الخاصّ بما ههنا أنّ الآية مسوقة سوق الامتنان و المنّ على المؤمنين لصفة إيمانهم و لذا قيل: على المؤمنين، و لا يفيده غير الوصف حتّى لو قيل: الّذين آمنوا، لأنّ المشعر بالعلّيّة - على ما قيل - هو الوصف أو أنّه الكامل في هذا الإشعار، و المعنى ظاهر.

و في الآية أبحاث اُخر سيأتي شطر منها في المواضع المناسبة لها إن شاء الله العزيز.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458