الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134583 / تحميل: 6224
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

مِنَ اللهوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ ) الجمعة: ١١، و أمّا ما نحن فيه فجريان هذه النكتة توجب تشريع الباطل، و يجلّ القرآن عن الترخيص في الباطل بأيّ وجه كان.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) ظاهر الجملة أنّها نهي عن قتل الإنسان نفسه لكن مقارنتها قوله:( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ ) ، حيث إنّ ظاهره أخذ مجموع المؤمنين كنفس واحدة لها مال يجب أن تأكلها من غير طريق الباطل ربّما أشعرت أو دلّت على أنّ المراد بالأنفس جميع نفوس المجتمع الدينيّ المأخوذة كنفس واحدة نفس كلّ بعض هي نفس الآخر فيكون في مثل هذا المجتمع نفس الإنسان نفسه و نفس غيره أيضاً نفسه فلو قتل نفسه أو غيره فقد قتل نفسه، و بهذه العناية تكون الجملة أعني قوله:( وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) مطلقة تشمل الانتحار - الّذي هو قتل الإنسان نفسه - و قتل الإنسان غيره من المؤمنين.

و ربّما أمكن أن يستفاد من ذيل الآية أعني قوله:( إِنَّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) أنّ المراد من قتل النفس المنهيّ عنه ما يشمل إلقاء الإنسان نفسه في مخاطرة القتل و التسبيب إلى هلاك نفسه المؤدّي إلى قتله، و ذلك أنّ تعليل النهي عن قتل النفس بالرحمة لهذا المعنى أوفق و أنسب كما لا يخفى، و يزيد على هذا معنى الآية عموماً و اتّساعاً، و هذه الملاءمة بعينها تؤيّد كون قوله:( إِنَّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) تعليلاً لقوله:( وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) فقط.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً ) الآية العدوان مطلق التجاوز سواء كان جائزاً ممدوحاً أو محظوراً مذموماً قال تعالى:( فَلا عُدْوانَ إلّا عَلَى الظَّالِمِينَ ) البقرة: ١٩٣، و قال تعالى:( وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى‏ وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثمّ وَ الْعُدْوانِ ) المائدة: ٢، فهو أعمّ مورداً من الظلم، و معناه في الآية تعدّي الحدود الّتي حدّها الله تعالى، و الإصلاء بالنار الإحراق بها.

و في الآية من حيث اشتمالها على قوله:( ذلِكَ ) التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلويحاً إلى أنّ من فعل ذلك منهم - و هم نفس واحدة و النفس الواحدة لا ينبغي لها أن تريد هلاك نفسها - فليس من المؤمنين، فلا يخاطب في مجازاته

٣٤١

المؤمنون، و إنّما يخاطب فيها الرسول المخاطب في شأن المؤمنين و غيرهم، و لذلك بني الكلام على العموم فقيل: و من يفعل ذلك عدواناً و ظلماً فسوف نصليه، و لم يقل: و من يفعل ذلك منكم.

و ذيل الآية أعني قوله:( وَ كانَ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيراً ) يؤيّد أن يكون المشار إليه بقوله: ذلك هو النهي عن قتل الأنفس بناءً على كون قوله:( إِنَّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) ناظراً إلى تعليل النهي عن القتل فقط لما من المناسبة التامّة بين الذيلين، فإنّ الظاهر أنّ المعنى هو أنّ الله تعالى إنّما ينهاكم عن قتل أنفسكم رحمة بكم و رأفة، و إلّا فمجازاته لمن قتل النفس بإصلائه النار عليه يسير غير عسير، و مع ذلك فعود التعليل و كذا التهديد إلى مجموع الفقرتين في الآية الاُولى أعني النهي عن أكل المال بالباطل و النهي عن قتل النفس لا ضير فيه.

و أمّا قول بعضهم: إنّ التعليل و التهديد أو التهديد فقط راجع إلى جميع ما ذكر من المناهي من أوّل السورة إلى هذه الآية، و كذا قول آخرين: إنّ ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر من المناهي من قوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) (الآية ١٩ من السورة) إلى هنا لعدم ذكر جزاء للمناهي الواقعة في هذه الآيات فممّا لا دليل على اعتباره.

و تغيير السياق في قوله: فسوف نصليه ناراً بالخصوص عن سياق الغيبة الواقع في قوله:( إِنَّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) إلى سياق التكلّم تابع للالتفات الواقع في قوله:( ذلِكَ ) عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول، ثمّ الرجوع إلى الغيبة في قوله:( وَ كانَ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيراً ) إشعار بالتعليل، أي و ذلك عليه يسير لأنّه هو الله عزّ اسمه.

( بحث روائي‏)

في المجمع، في قوله تعالى: بِالْباطِلِ قولان: أحدهما أنّه الربا و القمار و البخس و الظلم، قال: و هو المرويّ عن الباقرعليه‌السلام .

و في نهج البيان، عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام : أنّه القمار و السحت و الربا و الأيمان.

٣٤٢

و في تفسير العيّاشيّ، عن أسباط بن سالم قال: كنت عند أبي عبداللهعليه‌السلام فجاءه رجل فقال له: أخبرني عن قول الله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) ، قال: عنى بذلك القمار، و أمّا قوله:( وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) عنى بذلك الرجل من المسلمين يشدّ على المشركين وحده يجي‏ء في منازلهم فيقتل فنهاهم الله عن ذلك‏.

أقول: الآية عامّة في الأكل بالباطل، و ذكر القمار و ما أشبهه من قبيل عدّ المصاديق و كذا تفسير قتل النفس بما ذكر في الرواية تعميم للآية لا تخصيص بما ذكر.

و فيه، عن إسحاق بن عبدالله بن محمّد بن عليّ بن الحسين قال: حدّثني الحسن بن زيد عن أبيه عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضّأ صاحبها؟ و كيف يغتسل إذا أجنب؟ قال: يجزيه المسح بالماء عليها في الجنابة و الوضوء، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده؟ فقرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) .

و في الفقيه، قال الصادقعليه‌السلام : من قتل نفسه متعّمداً فهو في نار جهنّم خالداً فيها، قال الله تعالى:( وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيماً وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيراً ) .

أقول: و الروايات - كما ترى - تعمّم معنى قوله:( وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) الآية كما استفدناه فيما تقدّم، و في معنى ما تقدّم روايات اُخر.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن ماجة و ابن المنذر عن ابن سعيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما البيع عن تراض.

و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باع رجلاً ثمّ قال له: اختر فقال: قد اخترت فقال: هكذا البيع.

و فيه، أخرج البخاريّ و الترمذيّ و النسائيّ عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما للآخر: اختر.

أقول: قوله: البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا مرويّ من طرق الشيعة أيضاً، و قوله: أو يقول أحدهما للآخر: اختر لتحقيق معنى التراضي‏.

٣٤٣

( سورة النساء آية ٣١)

إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُم وَنُدْخِلْكُم مُدْخَلاً كَرِيم( ٣١)

( بيان)

الآية غير عادمة الارتباط بما قبلها فإنّ فيما قبلها ذكراً من المعاصي الكبيرة.

قوله تعالى: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ - إلى قوله -سَيِّئاتِكُمْ ) الاجتناب أصله من الجنب و هو الجارحة بني منها الفعل على الاستعارة، فإنّ الإنسان إذا أراد شيئاً استقبله بوجهه و مقاديم بدنه، و إذا أعرض عنه و تركه وليه بجنبه فاجتنبه، فالاجتناب هو الترك، قال الراغب: و هو أبلغ من الترك، انتهى، و ليس إلّا لأنّه مبنيّ على الاستعارة، و من هذا الباب الجانب و الجنيبة و الأجنبيّ.

و التكفير من الكفر و هو الستر و قد شاع استعماله في القرآن في العفو عن السيّئات و الكبائر جمع كبيرة وصف وضع موضع الموصوف كالمعاصي و نحوها، و الكبر معنى إضافيّ لا يتحقّق إلّا بالقياس إلى صغر، و من هنا كان المستفاد من قوله:( كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) أنّ هناك من المعاصي المنهيّ عنها ما هي صغيرة، فيتبيّن من الآية:أوّلاً: أنّ المعاصي قسمان: صغيرة و كبيرة، وثانياً: أنّ السيّئات في الآية هي الصغائر لما فيها من دلالة المقابلة على ذلك.

نعم العصيان و التمرّد كيفما كان كبيرٌ و أمرٌ عظيم بالنظر إلى ضعف المخلوق المربوب في جنب الله عظم سلطانه غير أنّ القياس في هذا الاعتبار إنّما هو بين الإنسان و ربّه لا بين معصية و معصية فلا منافاة بين كون كلّ معصية كبيرة باعتبار و بين كون بعض المعاصي صغيرة باعتبار آخر.

و كبر المعصية إنّما يتحقّق بأهمّيّة النهي عنها إذا قيس إلى النهي المتعلّق بغيرها و لا يخلو قوله تعالى:( ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) ، من إشعار أو دلالة على ذلك، و الدليل على أهمّيّة

٣٤٤

النهي تشديد الخطاب بإصرار فيه أو تهديد بعذاب من النار و نحو ذلك.

قوله تعالى: ( وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً ) المدخل بضمّ الميم و فتح الخاء اسم مكان و المراد منه الجنّة أو مقام القرب من الله سبحانه و إن كان مرجعهما واحداً.

( كلام في الكبائر و الصغائر و تكفير السيّئات‏)

لا ريب في دلالة قوله تعالى:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) ، الآية على انقسام المعاصي إلى كبائر و صغائر سمّيت في الآية بالسيّئات، و نظيرها في الدلالة قوله تعالى:( وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ ممّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إلّا أَحْصاها ) الآية: الكهف: ٤٩، إذ إشفاقهم ممّا في الكتاب يدلّ على أنّ المراد بالصغيرة و الكبيرة صغائر الذنوب و كبائرها.

و أمّا السيّئة فهي بحسب ما تعطيه مادّة اللّفظ و هيئته هي الحادثة أو العمل الّذي يحمل المساءة، و لذلك ربّما يطلق لفظها على الاُمور و المصائب الّتي يسوء الإنسان وقوعها كقوله تعالى:( وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) الآية: النساء: ٧٩، و قوله تعالى:( وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ ) الآية: الرعد: ٦، و ربّما اُطلق على نتائج المعاصي و آثارها الخارجيّة الدنيويّة و الاُخرويّة كقوله تعالى:( فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ) الآية: النحل: ٣٤، و قوله تعالى:( سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا ) الزمر: ٥١، و هذا بحسب الحقيقة يرجع إلى المعنى السابق، و ربّما اُطلق على نفس المعصية كقوله تعالى:( وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ) الآية: الشورى: ٤٠، و السيّئة بمعنى المعصية ربّما أطلقت على مطلق المعاصي أعمّ من الصغائر و الكبائر كقوله تعالى:( أَمْ حسب الّذينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ‏ ) الجاثية: ٢١، إلى غير ذلك من الآيات.

و ربّما اُطلقت على الصغائر خاصّة كقوله تعالى:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ

٣٤٥

عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) الآية، إذ مع فرض اجتناب الكبائر لا تبقى للسيّئات إلّا الصغائر.

و بالجملة دلالة الآية على انقسام المعاصي إلى الصغائر و الكبائر بحسب القياس الدائر بين المعاصي أنفسها ممّا لا ينبغي أن يرتاب فيه.

و كذا لا ريب أنّ الآية في مقام الامتنان، و هي تقرع أسماع المؤمنين بعناية لطيفة إلهيّة أنّهم إن اجتنبوا البعض من المعاصي كفّر عنهم البعض الآخر، فليس إغراءً على ارتكاب المعاصي الصغار، فإنّ ذلك لا معنى له لأنّ الآية تدعو إلى ترك الكبائر بلا شكّ، و ارتكاب الصغيرة من جهة أنّها صغيرة لا يعبأ بها و يتهاون في أمرها يعود مصداقاً من مصاديق الطغيان و الاستهانة بأمر الله سبحانه، و هذا من أكبر الكبائر بل الآية تعدّ تكفير السيّئات من جهة أنّها سيّئات لا يخلو الإنسان المخلوق على الضعف المبنيّ على الجهالة من ارتكابها بغلبة الجهل و الهوى عليه، فمساق هذه الآية مساق الآية الداعية إلى التوبة الّتي تعدّ غفران الذنوب كقوله تعالى:( قُلْ يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جميعاً أنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى‏ ربّكمْ ) الآية: الزمر: ٥٤، فكما لا يصحّ أن يقال هناك: إنّ الآية تغري إلى المعصية بفتح باب التوبة و تطييب النفوس بذلك فكذا ههنا بل أمثال هذه الخطابات إحياء للقلوب الآئسة بالرجاء.

و من هنا يعلم أنّ الآية لا تمنع عن معرفة الكبائر بمعنى أن يكون المراد بها اتّقاء جميع المعاصي مخافة الوقوع في الكبائر و الابتلاء بارتكابها فإن ذلك معنى بعيد عن مساق الآية بل المستفاد من الآية أنّ المخاطبين هم يعرفون الكبائر و يميّزون هؤلاء الموبقات من النهي المتعلّق بها، و لا أقلّ من أن يقال: إنّ الآية تدعو إلى معرفة الكبائر حتّى يهتمّ المكلّفون في الاتّقاء منها كلّ الاهتمام من غير تهاون في جنب غيرها فإنّ ذلك التهاون كما عرفت إحدى الكبائر الموبقة.

و ذلك أنّ الإنسان إذا عرف الكبائر و ميّزها و شخّصها عرف أنّها حرمات لا يغمض من هتكها بالتكفير إلّا عن ندامة قاطعة و توبة نصوح و نفس هذا العلم ممّا يوجب تنبّه الإنسان و انصرافه عن ارتكابها.

٣٤٦

و أمّا الشفاعة فإنّها و إن كانت حقّة إلّا أنّك قد عرفت فيما تقدّم من مباحثها أنّها لا تنفع من استهان بأمر الله سبحانه و استهزأ بالتوبة و الندامة. و اقتراف المعصية بالاعتماد على الشفاعة تساهل و تهاون في أمر الله سبحانه و هو من الكبائر الموبقة القاطعة لسبيل الشفاعة قطعاً.

و من هنا يتّضح معنى ما تقدّم أنّ كبر المعصية إنّما يعلم من شدّة النهي الواقع عنها بإصرار أو تهديد بالعذاب كما تقدّم.

و ممّا تقدّم من الكلام يظهر حال سائر ما قيل في معنى الكبائر، و هي كثيرة:

منها ما قيل: إنّ الكبيرة كلّ ما أوعد الله عليه في الآخرة عقاباً و وضع له في الدنيا حدّاً. و فيه أنّ الإصرار على الصغيرة كبيرة لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا كبيرة مع الاستغفار، و لا صغيرة مع الإصرار. رواه الفريقان مع عدم وضع حدّ فيه شرعاً، و كذا ولاية الكفّار و أكل الربا مع أنّهما من كبائر ما نهي عنه في القرآن.

و منها قول بعضهم: إنّ الكبيرة كلّ ما أوعد الله عليه بالنار في القرآن، و ربّما أضاف إليه بعضهم السنّة. و فيه أنّه لا دليل على انعكاسه كلّيّاً.

و منها قول بعضهم: إنّها كلّ ما يشعر بالاستهانة بالدين و عدم الاكتراث به قال به إمام الحرمين و استحسنه الرازيّ. و فيه أنّه عنوان الطغيان و الاعتداء و هي إحدى الكبائر و هناك ذنوب كبيرة موبقة و إن لم تقترف بهذا العنوان كأكل مال اليتيم و زنا المحارم و قتل النفس المؤمنة من غير حقّ.

و منها قول بعضهم: إنّ الكبيرة ما حرمت لنفسها لا لعارض، و هذا كالمقابل للقول السابق. و فيه أنّ الطغيان و الاستهانة و نحو ذلك من أكبر الكبائر و هي عناوين طارية، و بطروّها على معصية و عروضها لها تصير من الكبائر الموبقة.

و منها قول بعضهم: إنّ الكبائر ما اشتملت عليه آيات سورة النساء من أوّل السورة إلى تمام ثلاثين آية، و كأنّ المراد أنّ قوله:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) الآية إشارة إلى المعاصي المبيّنة في الآيات السابقة عليه كقطيعة الرحم و أكل مال اليتيم و الزنا و نحو ذلك. و فيه أنّه ينافي إطلاق الآية.

٣٤٧

و منها قول بعضهم (و ينسب إلى ابن عبّاس): كلّ ما نهى الله عنه فهو كبيرة، و لعلّه لكون مخالفته تعالى أمراً عظيماً، و فيه أنّك قد عرفت أنّ انقسام المعصية إلى الكبيرة و الصغيرة إنّما هو بقياس بعضها إلى بعض، و هذا الّذي ذكره مبنيّ على قياس حال الإنسان في مخالفته - و هو عبد - إلى الله سبحانه - و هو ربّ كلّ شي‏ء - و من الممكن أن يميل إلى هذا القول بعضهم بتوهّم كون الإضافة في قوله تعالى:( كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) ، بيانيّة لكنّه فاسد لرجوع معنى الآية حينئذ إلى قولنا: إن تجتنبوا المعاصي جميعاً نكفّر عنكم سيّئاتكم و لا سيّئة مع اجتناب المعاصي، و إن اُريد تكفير سيّئات المؤمنين قبل نزول الآية اختصّت الآية بأشخاص من حضر عند النزول، و هو خلاف ظاهر الآية من العموم، و لو عمّت الآية عاد المعنى إلى أنّكم إن عزمتم على اجتناب جميع المعاصي و اجتنبتموها كفّرنا عنكم سيّئاتكم السابقة عليه، و هذا أمر نادر شاذّ المصداق أو عديمه لا يحمل عليه عموم الآية لأنّ نوع الإنسان لا يخلو عن السيّئة و اللّمم إلّا من عصمه الله بعصمته فافهم ذلك.

و منها: أنّ الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه، و الكبيرة ما يكبر عقابه عن ثوابه، نسب إلى المعتزلة و فيه أنّ ذلك أمر لا يدلّ عليه هذه الآية و لا غيرها من آيات القرآن، نعم من الثابت بالقرآن وجود الحبط في بعض المعاصي في الجملة لا في جميعها سواء كان على وفق ما ذكروه أو لا على وفقه، و قد مرّ البحث عن معنى الحبط مستوفى في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

و قالوا أيضاً: يجب تكفير السيّئات و الصغائر عند اجتناب الكبائر و لا تحسن المؤاخذة عليها، و هذا أيضاً أمر لا تدلّ الآية عليه البتّة.

و منها: أنّ الكبر و الصغر اعتباران يعرضان لكلّ معصية، فالمعصية الّتي يقترفها الإنسان استهانة بأمر الربوبيّة و استهزاءً أو عدم مبالاة به كبيرة، و هي بعينها لو اقترفت من جهة استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة كانت صغيرة مغفورة بشرط اجتناب الكبائر.

و لمّا كان هذه العناوين الطارئة المذكورة يجمعها العناد و الاعتداء على الله أمكن

٣٤٨

أن يلخّص الكلام بأنّ كلّ واحدة من المعاصي المنهيّ عنها في الدين إن اُتي بها عناداً و اعتداءً فهي كبيرة و إلّا فهي صغيرة مغفورة بشرط اجتناب العناد و الاعتداء.

قال بعضهم: إنّ في كلّ سيّئة و في كلّ نهي خاطب الله به كبيرة أو كبائر و صغيرة أو صغائر، و أكبر الكبائر في كلّ ذنب عدم المبالاة بالنهي و الأمر و احترام التكليف، و منه الإصرار فإنّ المصر على الذنب لا يكون محترماً و لا مبالياً بالأمر و النهي فالله تعالى يقول:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) أي الكبائر الّتي يتضمّنها كلّ شي‏ء تنهون عنه( نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) أي نكفّر عنكم صغيره فلا نؤاخذكم عليه.

و فيه: أنّ استلزام اقتران كلّ معصية مقترفة بما يوجب كونها طغياناً و استعلاءً على الله سبحانه صيرورتها معصية كبيرة لا يوجب كون الكبر دائراً مدار هذا الاعتبار حتّى لا يكون بعض المعاصي كبيرة في نفسها مع عدم عروض شي‏ء من هذه العناوين عليه، فإنّ زنا المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبيّة و قتل النفس المحرّمة ظلماً بالنسبة إلى الضرب كبيرتان عرض لهما عارض من العناوين أم لم يعرض، نعم كلّما عرض شي‏ء من هذه العناوين المهلكة اشتدّ النهي بحسبه و كبرت المعصية و عظم الذنب فما الزنا عن هوى النفس و غلبة الشهوة و الجهالة كالزنا بالاستباحة.

على أنّ هذا المعنى (أن تجتنبوا في كلّ معصية كبائرها نكفّر عنكم صغائرها) معنى رديُّ لا يحتمله قوله تعالى:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) الآية بحسب ما لها من السياق على ما لا يخفى لكلّ من استأنس قليل استيناس بأساليب الكلام.

و منها: ما يتراءى من ظاهر كلام الغزّاليّ على ما نقل عنه(١) من الجمع بين الأقوال و هو أنّ بين المعاصي بقياس بعضها إلى بعض كبيرة و صغيرة كزنا المحصنة من المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبيّة و إن كانت بعض المعاصي يكبر بانطباق بعض العناوين المهلكة الموبقة عليه كالإصرار على الصغائر، فبذلك تصير المعصية كبيرة بعد ما لم تكن.

فبهذا يظهر أنّ المعاصي تنقسم إلى صغيرة و كبيرة بحسب قياس البعض إلى البعض

____________________

(١) نقله الفخر الرازيّ في تفسيره عن الغزّاليّ في منتخبات كتاب الإحياء.

٣٤٩

بالنظر إلى نفس العمل و جرم الفعل، ثمّ هي مع ذلك تنقسم إلى القسمين بالنظر إلى أثر الذنب و وباله في إحباطه للثواب بغلبته عليه أو نقصه منه إذا لم يغلبه فيزول الذنب بزوال مقدار يعادله من الثواب فإنّ لكلّ طاعة تأثيراً حسناً في النفس يوجب رفعه مقامها و تخلّصها من قذارة البعد و ظلمة الجهل كما أنّ لكلّ معصية تأثيراً سيّئاً فيها يوجب خلاف ذلك من انحطاط محلّها و سقوطها في هاوية البعد و ظلمة الجهل.

فإذا اقترف الإنسان شيئاً من المعاصي و قد هيّأ لنفسه شيئاً من النور و الصفاء بالطاعة فلا بدّ من أن يتصادم ظلمة المعصية و نور الطاعة فإن غلبت ظلمة المعصية و وبال الذنب نور الطاعة و ظهرت عليه أحبطته، و هذه هي المعصية الكبيرة، و إن غلبت الطاعة بما لها من النور و الصفاء أزالت ظلمة الجهل و قذارة الذنب ببطلان مقدار يعادل ظلمة الذنب من نور الطاعة، و يبقى الباقي من نورها و صفائها تتنوّر و تصفو به النفس، و هذا معنى التحابط، و هو بعينه معنى غفران الذنوب الصغيرة و تكفير السيّئات، و هذا النوع من المعاصي هي المعاصي الصغيرة.

و أمّا تكافؤ السيّئة و الحسنة بما لهما من العقاب و الثواب فهو و إن كان ممّا يحتمله العقل في بادي النظر، و لازمه صحّة فرض إنسان أعزل لا طاعة له و لا معصية، و لا نور لنفسه و لا ظلمة لكن يبطله قوله تعالى:( فَرِيقٌ فِي الْجنّة وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ) . انتهى ملخّصاً.

و قد ردّه الرازيّ بأنّه يبتني على اُصول المعتزلة الباطلة عندنا، و شدّد النكير على الرازيّ في المنار قائلاً:

و إذا كان هذا (يعني انقسام المعصية إلى الصغيرة و الكبيرة في نفسها) صريحاً في القرآن فهل يعقل أن يصحّ عن ابن عبّاس إنكاره؟ لا بل روى عبد الرزّاق عنه أنّه قيل له: هل الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب، و روى ابن جبير: أنّه قال: هي إلى السبعمائة أقرب، و إنّما عزي القول بإنكار تقسيم الذنوب إلى صغائر و كبائر إلى الأشعريّة.

و كأنّ القائلين بذلك منهم أرادوا أن يخالفوا به المعتزلة و لو بالتأويل كما يعلم

٣٥٠

من كلام ابن فورك فإنّه صحّح كلام الأشعريّة و قال: معاصي الله كلّها كبائر، و إنّما يقال لبعضها: صغيرة و كبيرة بإضافة(١) ، و قالت المعتزلة: الذنوب على ضربين: صغائر و كبائر، و هذا ليس بصحيح انتهى، و أوّل الآية تأويلاً بعيداً.

و هل يؤوّل الآيات و الأحاديث لأجل أن يخالف المعتزلة و لو فيما أصابوا فيه؟ لا يبعد ذلك فإنّ التعصّب للمذاهب هو الّذي صرف كثيراً من العلماء الأزكياء عن إفادة أنفسهم و اُمّتهم بفطنتهم، و جعل كتبهم فتنة للمسلمين اشتغلوا بالجدل فيها عن حقيقة الدين، و سترى ما ينقله الرازيّ عن الغزّاليّ، و يردّه لأجل ذلك، و أين الرازيّ من الغزّاليّ، و أين معاوية من عليّ. انتهى. و يشير في آخر كلامه إلى ما نقلناه عن الغزّاليّ و الرازيّ.

و كيف كان فما ذكره الغزّاليّ و إن كان وجيهاً في الجملة لكنّه لا يخلو عن خلل من جهات.

الاُولى: أنّ ما ذكره من انقسام المعاصي إلى الصغائر و الكبائر بحسب تحابط الثواب و العقاب لا ينطبق دائماً على ما ذكره من الانقسام بحسب نفس المعاصي و متون الذنوب في أوّل كلامه فإنّ غالب المعاصي الكبيرة المسلّمة في نفسها يمكن أن يصادف في فاعله ثواباً كبيراً يغلب عليها و كذا يمكن أن تفرض معصية صغيرة تصادف من الثواب الباقي في النفس ما هو أصغر منها و أنقص، و بذلك يختلف الصغيرة و الكبيرة بحسب التقسيمين فمن المعاصي ما هي صغيرة على التقسيم الأوّل كبيرة بحسب التقسيم الثاني، و منها ما هي بالعكس فلا تطابق كلّيّاً بين التقسيمين.

و الثانية: أنّ التصادم بين آثار المعاصي و الطاعات و إن كان ثابتاً في الجملة لكنّه ممّا لم يثبت كلّيّاً من طريق الظواهر الدينيّة من الكتاب و السنّة أبداً. و أيّ دليل من طريق الكتاب و السنّة يدلّ على تحقّق التزايل و التحابط بنحو الكلّيّة بين عقاب المعاصي و ثواب الطاعات؟.

و الّذي أجرى تفصيل البحث فيه من الحالات الشريفة النوريّة النفسانيّة و

____________________

(١) أي الإضافة بحسب قصود المعاصي المختلفة لا إضافة بعض المعاصي إلى بعضها في نفسها.

٣٥١

الحالات الاُخرى الخسيسة الظلمانيّة كذلك أيضاً، فإنّها و إن كانت تتصادم بحسب الغالب و تتزايل و تتفانى لكنّ ذلك ليس على وجه كلّيّ دائميّ بل ربّما يثبت كلّ من الفضيلة و الرذيلة في مقامها و تتصالح على البقاء، و تقتسم النفس كأنّ شيئاً منها للفضيلة خاصّة، و شيئاً منها للرذيلة خاصّة، فترى الرجل المسلم مثلاً يأكل الربا و لا يلوي عن ابتلاع أموال الناس، و لا يصغي إلى استغاثة المطلوب المستأصل المظلوم، و يجتهد في الصلوات المفروضة، و يبالغ في خضوعه و خشوعه، أو أنّه لا يبالي في إهراق الدماء و هتك الأعراض و الإفساد في الأرض و يخلص لله أيّ إخلاص في اُمور من الطاعات و القربات، و هذا هو الّذي يسمّيه علماء النفس اليوم بازدواج الشخصيّة بعد تعدّدها و تنازعها، و هو أن تتنازع الميول المختلفة النفسانيّة و تثور بعضها على بعض بالتزاحم و التعارض، و لا يزال الإنسان في تعب داخليّ من ذلك حتّى تستقرّ الملكتان فتزدوجان و تتصالحان و يغيب كلّ عند ظهور الاُخرى و انتهاضها و إمساكها على فريستها كما عرفت من المثال المذكور آنفاً.

و الثالثة: أنّ لازم ما ذكره أن يلغو اعتبار الاجتناب في تكفير السيّئات فإنّ من لا يأتي بالكبائر لا لأنّه يكفّ نفسه عنها مع القدرة و التمايل النفسانيّ عليها بل لعدم قدرته عليها و عدم استطاعته منها فإنّ سيّئاته تنحبط بالطاعات لغلبة ثوابه على الفرض على ما له من العقاب و هو تكفير السيّئات فلا يبقى لاعتبار اجتناب الكبائر وجه مرضيّ.

قال الغزّاليّ في الإحياء: اجتناب الكبيرة إنّما يكفّر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة و الإرادة كمن يتمكّن من امرأة و من مواقعتها فيكفّ نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس فإنّ مجاهدة نفسه بالكفّ عن الوقاع أشدّ تأثيراً في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره، فإن كان عنّيناً أو لم يكن امتناعه إلّا بالضرورة للعجز أو كان قادراً و لكن امتنع لخوف أمر الآخرة فهذا لا يصلح للتكفير أصلاً، و كلّ من لا يشتهي الخمر بطبعه و لو اُبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفّر عنه الصغائر الّتي هي من مقدّماته كسماع الملاهي و الأوتار نعم من يشتهي الخمر و سماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر و يطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكفّ

٣٥٢

ربّما يمحو عن قلبه الظلمة الّتي ارتفعت إليه من معصية السماع فكلّ هذه أحكام اُخرويّة، انتهى.

و قال أيضاً في محلّ آخر: كلّ ظلمة ارتفعت إلى القلب لا يمحوها إلّا نور يرتفع إليها بحسنة تضادّها، و المتضادّات هي المتناسبات فلذلك ينبغي أن تمحى كلّ سيّئة بحسنة من جنسها لكي تضادّها فإنّ البياض يزال بالسواد لا بالحرارة و البرودة و هذا التدريج و التحقيق من التلطّف في طريقة المحو، فالرجاء فيه أصدق و الثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات و إن كان ذلك أيضاً مؤثّراً في المحو، انتهى كلامه.

و كلامه - كما ترى - يدلّ على أنّ المحبط للسيّئات هو الاجتناب الّذي هو الكفّ مع أنّه غير لازم على هذا القول.

و الكلام الجامع الّذي يمكن أن يقال في المقام مستظهراً بالآيات الكريمة هو أنّ الحسنات و السيّئات متحابطة في الجملة غير أنّ تأثير كلّ سيئة في كلّ حسنة و بالعكس بنحو النقص منه أو إفنائه ممّا لا دليل عليه، و يدلّ عليه اعتبار حال الأخلاق و الحالات النفسانيّة الّتي هي نعم العون في فهم هذه الحقائق القرآنيّة في باب الثواب و العقاب.

و أمّا الكبائر و الصغائر من المعاصي فظاهر الآية كما عرفت هو أنّ المعاصي بقياس بعضها إلى بعض كقتل النفس المحترمة ظلماً بالقياس إلى النظر إلى الأجنبيّة و شرب الخمر بالاستحلال بالقياس إلى شربها بهوى النفس بعضها كبيرة و بعضها صغيرة من غير ظهور ارتباط ذلك بمسألة الإحباط و التكفير بالكلّيّة.

ثمّ إنّ الآية ظاهرة في أنّ الله سبحانه يعدّ لمن اجتنب الكبائر أن يكفّر عنه سيّئاته جميعاً ما تقدّم منها و ما تأخّر على ما هو ظاهر إطلاق الآية، و من المعلوم أنّ الظاهر من هذا الاجتناب أن يأتي كلّ مؤمن بما يمكنه من اجتناب الكبائر و ما يصدق في مورده الاجتناب من الكبائر لا أن يجتنب كلّ كبيرة بالكفّ عنها فإنّ الملتفت أدنى التفات إلى سلسلة الكبائر لا يرتاب في أنّه لا يتحقّق في الوجود من يميل إلى جميعها و يقدر عليها عامّة أو يندر ندرة ملحقة بالعدم، و تنزيل الآية هذه المنزلة لا يرتضيها الطبع المستقيم.

٣٥٣

فالمراد أنّ من اجتنب ما يقدر عليه من الكبائر و تتوق نفسه إليه منها و هي الكبائر الّتي يمكنه أن يجتنبها كفّر الله سيّئاته سواء جانسها أو لم يجانسها.

و أمّا أنّ هذا التكفير للاجتناب بأن يكون الاجتناب في نفسه طاعة مكفّرة للسيّئات كما أنّ التوبة كذلك أو أنّ الإنسان إذا لم يقترف الكبائر خلّي ما بينه و بين الصغائر و الطاعات الحسنة فالحسنات يكفّرن سيّئاته، و قد قال الله تعالى:( إِنَّ الْحسناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) هود: ١١٤، ظاهر الآية( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) الآية أنّ للاجتناب دخلاً في التكفير، و إلّا كان الأنسب بيان أن الطاعات يكفّرن السيّئات كما في قوله:( إِنَّ الْحسناتِ ) الآية، أو أنّ الله سبحانه يغفر الصغائر مهما كانت من غير حاجة إلى سرد الكلام جملة شرطيّة.

و الدليل على كبر المعصية هو شدّة النهي الوارد عنها أو الإيعاد عليها بالنار أو ما يقرب من ذلك سواء كان ذلك في كتاب أو سنّة من غير دليل على الحصر.

( بحث روائي‏)

في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : الكبائر، الّتي أوجب الله عليها النار.

و في الفقيه، و تفسير العيّاشيّ، عن الباقرعليه‌السلام : في الكبائر قال: كلّ ما أوعد الله عليها النار.

و في ثواب الأعمال، عن الصادقعليه‌السلام : من اجتنب ما أوعد الله عليه النار إذا كان مؤمناً كفر الله عنه سيّئاته و يدخله مدخلاً كريماً، و الكبائر السبع الموجبات: قتل النفس الحرام، و عقوق الوالدين، و أكل الربا، و التعرّب بعد الهجرة، و قذف المحصنة، و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزحف.

أقول: و الروايات من طرق الشيعة و أهل السنّة في عدّ الكبائر كثيرة سيمرّ بك بعضها و قد عدّ الشرك بالله فيما نذكر منها إحدى الكبائر السبع إلّا في هذه الرواية و لعلّهعليه‌السلام أخرجه من بينها لكونه أكبر الكبائر و يشير إليه قوله: إذا كان مؤمناً.

٣٥٤

و في المجمع: روى عبدالعظيم بن عبدالله الحسنيّ عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عن أبيه عليّ بن موسى الرضا عن موسى بن جعفرعليه‌السلام قال: دخل عمرو بن عبيد البصريّ على أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام ، فلمّا سلّم و جلس تلا هذه الآية:( الّذينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثمّ وَ الْفَواحِشَ ) ثمّ أمسك، فقال أبوعبدالله: ما أسكتك؟ قال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله، قال: نعم يا عمرو أكبر الكبائر الشرك بالله لقول الله عزّوجلّ:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) ، و قال:( مَنْ يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيْهِ الْجنّة وَ مَأْواهُ النَّارُ ) ، و بعده اليأس من روح الله لأنّ الله يقول:( لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إلّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) ، ثمّ الأمن من مكر الله لأنّ الله يقول:( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إلّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ) ، و منها عقوق الوالدين لأنّ الله تعالى جعل العاقّ جبّاراً شقيّاً في قوله:

( وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ) ، و منها قتل النفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ لأنّه يقول:( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جهنّم خالِداً فِيها ) الآية، و قذف المحصنات لأنّ الله يقول:( إِنَّ الّذينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) ، و أكل مال اليتيم لقوله:( الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً ) الآية، و الفرار من الزحف لأنّ الله يقول:( وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‏ فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله وَ مَأْواهُ جهنّم وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ ) ، و أكل الربا لأنّ الله يقول:( الّذينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إلّا كَما يَقُومُ الّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ) ، و يقول:( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ الله وَ رَسُولِهِ ) ، و السحر لأنّ الله يقول:( وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) ، و الزنا لأنّ الله يقول:( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ) ، و اليمين الغموس لأنّ الله يقول:( إِنَّ الّذينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ) الآية، و الغلول قال الله:( وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) ، و منع الزكاة المفروضة لأنّ الله يقول:( يَوْمَ يُحْمى‏ عَلَيْها فِي نارِ جهنّم فَتُكْوى‏ بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ ) الآية، و شهادة الزور و كتمان الشهادة لأنّ الله يقول:( وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثمّ قَلْبُهُ ) ، و شرب الخمر لأنّ الله عدل بها عبادة الأوثان، و ترك الصلاة متعمداً و شيئاً ممّا فرض الله تعالى لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من ترك الصلاة متعمّداً

٣٥٥

فقد برى‏ء من ذمّة الله و ذمّة رسوله، و نقض العهد و قطيعة الرحم لأنّ الله يقول:( أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) .

قال: فخرج عمرو بن عبيد له صراخ من بكائه و هو يقول: هلك من قال برأيه، و نازعكم في الفضل و العلم.

أقول: و قد روي من طرق أهل السنّة ما يقرب منه عن ابن عبّاس، و يتبيّن بالرواية أمران:

الأوّل: أنّ الكبيرة من المعاصي ما اشتدّ النهي عنها إمّا بالإصرار و البلوغ في النهي أو بالإيعاد بالنار، من الكتاب أو السنّة كما يظهر من موارد استدلالهعليه‌السلام ، و منه يظهر معنى ما مرّ في حديث الكافي: أنّ الكبيرة ما أوجب الله عليها النار، و ما مرّ في حديث الفقيه، و تفسير العيّاشيّ،: أنّ الكبيرة ما أوعد الله عليها النار، فالمراد بإيجابها و إيعادها أعمّ من التصريح و التلويح في كلام الله أو حديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و أظنّ أنّ ما نقل في ذلك عن ابن عبّاس أيضاً كذلك فمراده بالإيعاد بالنار أعمّ من التصريح و التلويح في قرآن أو حديث، و يشهد بذلك ما في تفسير الطبريّ، عن ابن عبّاس قال: الكبائر كلّ ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، و يتبيّن بذلك أنّ ما نقل عنه أيضاً في تفسير الطبريّ، و غيره: كلّ ما نهى الله عنه فهو كبيرة ليس خلافاً في معنى الكبيرة و إنّما هو تكبير للمعاصي جميعاً بقياس حقارة الإنسان إلى عظمة ربّه كما مرّ.

و الثاني: أنّ حصر المعاصي الكبيرة في بعض ما تقدّم و ما يأتي من الروايات، أو في ثمانية، أو في تسع كما في بعض الروايات النبوّية المرويّة من طرق السنّة، أو في عشرين كما في هذه الرواية أو في سبعين كما في روايات اُخرى كلّ ذلك باعتبار اختلاف مراتب الكبر في المعصية كما يدلّ عليه ما في الرواية من قوله عند تعداد الكبائر: و أكبر الكبائر الشرك بالله.

و في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و مسلم و أبوداود و النسائيّ و ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: و ما هنّ يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، و قتل النفس الّتي حرّم الله إلّا بالحقّ، و السحر، و أكل الربا، و أكل

٣٥٦

مال اليتيم، و التولّي يوم الزحف، و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات.

و فيه، أخرج ابن حيّان و ابن مردويه عن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جدّه قال: كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض و السنن و الديات، و بعث به مع عمرو بن حزم.

قال: و كان في الكتاب أنّ أكبر الكبائر عندالله يوم القيامة إشراك بالله و قتل النفس المؤمنة بغير حقّ، و الفرار يوم الزحف، و عقوق الوالدين، و رمي المحصنة، و تعلّم السحر، و أكل الربا، و أكل مال اليتيم.

و فيه، أخرج عبدالله بن أحمد في زوائد الزهد، عن أنس: سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إلّا إنّ شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي، ثمّ تلا هذه الآية:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) الآية.

٣٥٧

( سورة النساء الآيات ٣٢ الى ٣٥)

وَلاَ تَتَمَنّوْا مَا فَضّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى‏ بَعْضٍ لِلرّجَالِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبُوا وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مِمّا اكْتَسَبْنَ وَسْأَلُوا اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْ‏ءٍ عَلِيم( ٣٢) وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ شَهِيد( ٣٣) الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى‏ النّسَاءِ بِمَا فَضّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى‏ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللّاتِيْ تَخَافُونَ نُشُوزَهُنّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغَوا عَلَيْهِنّ سَبِيلاً إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِير( ٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِير( ٣٥)

( بيان)

الآيات مرتبطة بما تقدّم من أحكام المواريث و أحكام النكاح يؤكّد بها أمر الأحكام السابقة، و يستنتج منها بعض الأحكام الكلّيّة الّتي تصلح بعض الخلال العارضة في المعاشرة بين الرجال و النساء.

قوله تعالى: ( وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) التمنّي قول الإنسان: ليت كذا كان كذا، و الظاهر أنّ التسمية القول بذلك من باب توصيف اللّفظ بصفة المعنى، و إنّما التمنّي إنشاء نحو تعلّق من النفس نظير تعلّق الحبّ بما تراه متعذّراً أو كالمتعذّر سواء أظهر ذلك بلفظ أو لم يظهر.

و ظاهر الآية أنّها مسوقة للنهي عن تمنّي فضل و زيادة موجودة ثابتة بين الناس، و أنّه ناش عن تلبّس بعض طائفتي الرجال و النساء بهذا الفضل، و أنّه ينبغي الإعراض عن التعلّق بمن له الفضل، و التعلّق بالله بالسؤال من الفضل الّذي عنده تعالى، و بهذا

٣٥٨

يتعيّن أنّ المراد بالفضل هو المزيّة الّتي رزقها الله تعالى كلّاً من طائفتي الرجال و النساء بتشريع الأحكام الّتي شرّعت في خصوص ما يتعلّق بالطائفتين كلتيهما كمزيّة الرجال على النساء في عدد الزوجات، و زيادة السهم في الميراث، و مزيّة النساء على الرجال في وجوب جعل المهر لهنّ، و وجوب نفقتهنّ على الرجال.

فالنهي عن تمنّي هذه المزيّة الّتي اختصّ بها صاحبها إنّما هو لقطع شجرة الشرّ و الفساد من أصلها فإنّ هذه المزايا ممّا تتعلّق به النفس الإنسانيّة لما أودعه الله في النفوس من حبّها و السعي لها لعمارة هذه الدار، فيظهر الأمر أوّلاً في صورة التمني فإذا تكرّر تبدّل حسداً مستبطناً فإذا اُديم عليه فاستقرّ في القلب سرى إلى مقام العمل و الفعل الخارجيّ ثمّ إذا انضمّت بعض هذه النفوس إلى بعض كان ذلك بلوى يفسد الأرض، و يهلك الحرث و النسل.

و من هنا يظهر أنّ النهي عن التمنّي نهي إرشاديّ يعود مصلحته إلى مصلحة حفظ الأحكام المشرّعة المذكورة، و ليس بنهي مولويّ.

و في نسبة الفضل إلى فعل الله سبحانه، و التعبير بقوله:( بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) إيقاظ لصفة الخضوع لأمر الله بإيمانهم به، و غريزة الحبّ المثارة بالتنبّه حتّى يتنبه المفضّل عليه أنّ المفضّل بعض منه غير مبان.

قوله تعالى: ( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ ممّا اكْتَسَبْنَ ) ذكر الراغب: أنّ الاكتساب إنّما يستعمل فيما استفاده الإنسان لنفسه، و الكسب أعمّ ممّا كان لنفسه أو لغيره، و البيان المتقدّم ينتج أن يكون هذه الجملة مبيّنة للنهي السابق عن التمنّي و بمنزلة التعليل له أي لا تتمنّوا ذلك فإنّ هذه المزيّة إنّما وجدت عند من يختصّ بها لأنّه اكتسبها بالنفسيّة الّتي له أو بعمل بدنه فإنّ الرجال إنّما اختصّوا بجواز اتّخاذ أربع نسوة مثلاً و حرّم ذلك على النساء لأنّ موقعهم في المجتمع الإنسانيّ موقع يستدعي ذلك دون موقع النساء، و خصّوا في الميراث بمثل حظّ الاُنثيين لذلك أيضاً، و كذلك النساء خصّصن بنصف سهم الرجال و جعل نفقتهنّ على الرجال و خصّصن بالمهر لاستدعاء موقعهنّ ذلك، و كذلك ما اكتسبته إحدى الطائفتين من المال بتجارة

٣٥٩

أو طريق آخر هو الموجب للاختصاص، و ما الله يريد ظلماً للعباد.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالاكتساب هو نوع من الحيازة و الاختصاص أعمّ من أن يكون بعمل اختياريّ كالاكتساب بصنعة أو حرفة أو لا يكون بذلك لكنّه ينتهي إلى تلبّس صاحب الفضل بصفة توجب له ذلك كتلبّس الإنسان بذكوريّة أو اُنوثيّة توجب له سهماً و نصيباً كذا.

و أئمّة اللّغة و إن ذكروا في الكسب و الاكتساب أنّهما يختصّان بما يحوزه الإنسان بعمل اختياريّ كالطلب و نحوه لكنّهم ذكروا أنّ الأصل في معنى الكسب هو الجمع، و ربّما جاز أن يقال: اكتسب فلان بجماله الشهرة و نحو ذلك، و فسّر الاكتساب في الآية بذلك بعض المفسّرين، و ليس من البعيد أن يكون الاكتساب في الآية مستعملاً فيما ذكر من المعنى على سبيل التشبيه و الاستعارة.

و أمّا كون المراد من الاكتساب في الآية ما يتحرّاه الإنسان بعمله، و يكون المعنى: للرجال نصيب ممّا استفادوه لأنفسهم من المال بعملهم و كذا النساء و يكون النهي عن التمنّي نهياً عن تمنّي ما بيد الناس من المال الّذي استفادوه بصنعة أو حرفة فهو و إن كان معنى صحيحاً في نفسه لكنّه يوجب تضييق دائرة معنى الآية، و انقطاع رابطتها مع ما تقدّم من آيات الإرث و النكاح.

و كيف كان فمعنى الآية على ما تقدّم من المعنى: و لا تتمنّوا الفضل و المزيّة الماليّ و غير الماليّ الّذي خصّ الله تعالى به أحد القبيلين من الرجال و النساء ففضّل به بعضكم على بعض فإنّ ذلك الفضل أمر خصّ به من خصّ به لأنّه أحرزه بنفسيّته في المجتمع الإنسانيّ أو بعمل يده بتجارة و نحوها، و له منه نصيب، و إنّما ينال كلّ نصيبه ممّا اكتسبه.

قوله تعالى: ( وَ سْئَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ ) ، الإنعام على الغير بشي‏ء ممّا عند المنعم لمّا كان غالباً بما هو زائد لا حاجة للمنعم إليه سمّي فضلاً، و لمّا صرف الله تعالى وجوه الناس عن العناية بما اُوتي أرباب الفضل من الفضل و الرغبة فيه، و كان حبّ المزايا الحيويّة بل التفرّد بها و التقدّم فيها و الاستعلاء من فطريّات الإنسان لا يُسلب عنه حيناً صرفهم تعالى إلى نفسه، و وجّه وجوههم نحو فضله، و أمرهم أن يعرضوا عمّا

٣٦٠

في أيدي الناس، و يقبلوا إلى جنابه، و يسألوا من فضله فإنّ الفضل بيد الله، و هو الّذي أعطى كلّ ذي فضل فضله فله أن يعطيكم ما تزيدون به و تفضّلون بذلك على غيركم ممّن ترغبون فيما عنده، و تتمنّون ما اُعطيه.

و قد اُبهم هذا الفضل الّذي يجب أن يسأل منه بدخول لفظة( مِنْ ) عليه، و فيه من الفائدةأوّلاً التعليم بأدب الدعاء و المسألة من جنابه تعالى فإنّ الأليق بالإنسان المبنيّ على الجهل بما ينفعه و يضرّه بحسب الواقع إذا سأل ربّه العالم بحقيقة ما ينفع خلقه و ما يضرّهم، القادر على كلّ شي‏ء أن يسأله الخير فيما تتوق نفسه إليه، و لا يطنب في تشخيص ما يسأله منه و تعيين الطريق إلى وصوله، فكثيراً ما رأينا من كانت تتوق نفسه إلى حاجة من الحوائج الخاصّة كمال أو ولد أو جاه و منزلة أو صحّة و عافية و كان يلحّ في الدعاء و المسألة لأجلها لا يريد سواها ثمّ لما استجيب دعاؤه، و اُعطي مسألته كان في ذلك هلاكه و خيبة سعيه في الحياة.

و ثانياً: الإشارة إلى أن يكون المسؤل ما لا يبطل به الحكمة الإلهيّة في هذا الفضل الّذي قرّره الله تعالى بتشريع أو تكوين، فمن الواجب أن يسألوا شيئاً من فضل الله الّذي اختصّ به غيرهم فلو سأل الرجال ما للنساء من الفضل أو بالعكس ثمّ أعطاهم الله ذلك بطلت الحكمة و فسدت الأحكام و القوانين المشرّعة فافهم.

فينبغي للإنسان إذا دعا الله سبحانه عند ما ضاقت نفسه لحاجة أن لا يسأله ما في أيدي الناس ممّا يرفع حاجته بل يسأله ممّا عنده و إذا سأله ممّا عنده أن لا يعلّم لربّه الخبير بحاله طريق الوصول إلى حاجته بل يسأله أن يرفع حاجته بما يعلمه خيراً من عنده.

و أمّا قوله تعالى:( إِنَّ الله كانَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً ) فتعليل للنهي في صدر الآية أي لا تتمنّوا ما أعطاه الله من فضله من أعطاه الله إنّ الله بكلّ شي‏ء عليم لا يجهل طريق المصلحة و لا يخطئ في حكمه.

٣٦١

( كلام في حقيقة قرآنيّة)

اختلاف القرائح و الاستعدادات في اقتناء مزايا الحياة في أفراد الإنسان ممّا ينتهي إلى اُصول طبيعيّة تكوينيّة لا مناص عن تأثيرها في فعليّة اختلاف درجات الحياة و على ذلك جرى الحال في المجتمعات الإنسانيّة من أقدم عهودها إلى يومنا هذا فيما نعلم.

فقد كانت الأفراد القويّة من الإنسان يستعبدون الضعفاء و يستخدمونهم في سبيل مشتهياتهم و هوى نفوسهم من غير قيد أو شرط، و كان لا يسع لاُولئك الضعفاء المساكين إلّا الانقياد لأوامرهم، و لا يهتدون إلّا إلى إجابتهم بما يشتهونه و يريدونه منهم لكنّ القلوب ممتلئة غيظاً و حنقاً و النفوس متربّصة و لا يزال الناس على هذه السنّة الّتي ابتدأت سنّة شيوخيّة و انتهت إلى طريقة ملوكيّة و إمبراطوريّة.

حتّى إذا وفّق النوع الإنسانيّ بالنهضة بعد النهضة على هدم هذه البنية المتغلّبة و إلزام أولياء الحكومة و الملك على اتّباع الدساتير و القوانين الموضوعة لصلاح المجتمع و سعادته فارتحلت بذلك حكومة الإرادات الجزافيّة، و سيطرة السنن الاستبداديّة ظاهراً و ارتفع اختلاف طبقات الناس و انقسامهم إلى مالك حاكم مطلق العنان و مملوك محكوم مأخوذ بزمامه غير أنّ شجرة الفساد أخذت في النموّ في أرض غير الأرض، و منظر غير منظره السابق، و الثمرة هي الثمرة، و هو تمايز الصفات باختلاف الثروة بتراكم المال عند بعض، و صفارة الكفّ عند آخر، و بعد ما بين القبيلين بعداً لا يتمالك به المثري الواجد من نفسه إلّا أن ينفذ بثروته في جميع شؤون حياة المجتمع، و لا المسكين المعدم إلّا أن ينهض للبراز و يقاوم الاضطهاد.

فاستتبع ذلك سنّة الشيوعيّة القائلة بالاشتراك في موادّ الحياة و إلغاء المالكيّة، و إبطال رؤس الأموال، و إنّ لكلّ فرد من المجتمع أن يتمتّع بما عملته يداه و هيّأه كماله النفسانيّ الّذي اكتسبه فانقطع بذلك أصل الاختلاف بالثروة و الجدة غير أنّه

٣٦٢

أورث من وجود الفساد ما لا يكاد تصيبه رمية السنّة السابقة و هو بطلان حرّيّة إرادة الفرد، و انسلاب اختياره، و الطبيعة تدفع ذلك، و الخلقة لا توافقه، و هيهات أن يعيش ما يرغم الطبيعة و يضطهد الخلقة.

على أنّ أصل الفساد مع ذلك مستقرّ على قراره فإنّ الطبيعة الإنسانيّة لا تنشط إلّا لعمل فيه إمكان التميّز و السبق، و رجاء التقدّم و الفخر و مع إلغاء التمايزات تبطل الأعمال، و فيه هلاك الإنسانيّة، و قد احتالوا لذلك بصرف هذه التميّزات إلى الغايات و المقاصد الافتخاريّة التشريفيّة غير المادّيّة، و عاد بذلك المحذور جذعاً فإنّ الإنسان إن لم يذعن بحقيقتها لم يخضع لها، و إن أذعن بها كان حال التمايز بها حال التمايز المادّيّ.

و قد احتالت الديمقراطيّة لدفع ما تسرّب إليها من الفساد بإيضاح مفاسد هذه السنّة بتوسعة التبليغ و بضرب الضرائب الثقيلة الّتي تذهب بجانب عظيم من أرباح المكاسب و المتاجر، و لمّا ينفعهم ذلك فظهور دبيب الفساد في سنّة مخالفيهم لا يسدّ طريق هجوم الشرّ على سنّتهم أنفسهم و لا ذهاب جلّ الربح إلى بيت المال يمنع المترفين عن إترافهم و مظالمهم، و هم يحيلون مساعيهم لمقاصدهم من تملّك المال إلى التسلّط و تداول المال في أيديهم فالمال يستفاد من التسلّط و وضع اليد عليه و إدارته ما يستفاد من ملكه.

فلا هؤلاء عالجوا الداء و لا اُولئك، و لا دواء بعد الكيّ، و ليس إلّا لأنّ الّذي جعله البشر غاية و بغية لمجتمعه، و هو التمتّع بالحياة المادّيّة بوصلة تهدي إلى قطب الفساد، و لن تنقلب عن شأنها أينما حوّلت، و مهما نصبت.

و الّذي يراه الإسلام لقطع منابت هذا الفساد أن حرّر الناس في جميع ما يهديهم إليه الفطرة الإنسانيّة، ثمّ قرّب ما بين الطبقتين برفع مستوى حياة الفقراء بما وضع من الضرائب الماليّة و نحوها، و خفض مستوى حياة الأغنياء بالمنع عن الإسراف و التبذير و التظاهر بما يبعّدهم من حاقّ الوسط، و تعدّيل ذلك بالتوحيد و الأخلاق، و صرف الوجوه عن المزايا المادّيّة إلى كرامة التقوى و ابتغاء ما عندالله من الفضل.

و هو الّذي يشير إليه قوله تعالى:( وَ سْئَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ ) الآية، و قوله:( إِنَّ

٣٦٣

أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣، و قوله:( فَفِرُّوا إِلَى الله ) الذاريات: ٥٠، و قد بيّنا فيما تقدّم أنّ صرف وجوه الناس إلى الله سبحانه يستتبع اعتناءهم بأمر الأسباب الحقيقيّة الواقعيّة في تحرّي مقاصدهم الحيويّة من غير أن يستتبع البطالة في اكتساب معيشة أو الكسل في ابتغاء سعادة فليس قول القائل: إنّ الإسلام دين البطالة و الخمود عن ابتغاء المقاصد الحيويّة الإنسانيّة إلّا رمية من غير مرمى جهلاً، هذا ملخّص القول في هذا المقصد، و قد تكرّر الكلام في أطرافه تفصيلاً فيما تقدّم من مختلف المباحث من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) الآية، الموالي جمع مولى، و هو الوليّ و إن كثر استعماله في بعض المصاديق من الولاية كالمولى لسيّد العبد لولايته عليه، و المولى للناصر لولايته على أمر المنصور، و المولى لابن العم لولايته على نكاح بنت عمّه، و لا يبعد أن يكون في الأصل مصدراً ميميّاً أو اسم مكان اُريد به الشخص المتلبّس به بوجه كما نطلق اليوم الحكومة و المحكمة و نريد بهما الحاكم.

و العقد مقابل الحلّ، و اليمين مقابل اليسار، و اليمين اليد اليمنى، و اليمين الحلف و له غير ذلك من المعاني.

و وقوع الآية مع قوله قبل:( وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) ، في سياق واحد، و اشتمالها على التوصيّة بإعطاء كلّ ذي نصيب نصيبه، و أنّ الله جعل لكلّ موالي ممّا ترك الوالدان و الأقربون يؤيّد أن تكون الآية أعني قوله:( وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا ) إلخ بضميمة الآية السابقة تلخيصاً للأحكام و الأوامر الّتي في آيات الإرث، و وصيّة إجماليّة لما فيها من الشرائع التفصيليّة كما كان قوله قبل آيات الإرث:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) الآية تشريعاً إجماليّاً كضرب القاعدة في باب الإرث تعود إليه تفاصيل أحكام الإرث.

و لازم ذلك أن ينطبق من اُجمل ذكره من الورّاث و المورّثين على من ذكر منهم تفصيلاً في آيات الإرث، فالمراد بالموالي جميع من ذكر وارثاً فيها من الأولاد و الأبوين و الإخوة و الأخوات و غيرهم.

٣٦٤

و المراد بالأصناف الثلاث المذكورين في الآية بقوله:( الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الّذينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) الأصناف المذكورة في آيات الإرث، و هم ثلاثة: الوالدان و الأقربون و الزوجان فينطبق قوله:( الّذينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) على الزوج و الزوجة.

فقوله:( وَ لِكُلٍّ ) أي و لكلّ واحد منكم ذكراً أو اُنثى، جعلنا موالي أي أولياء في الوراثة يرثون ما تركتم من المال، و قوله: ممّا تَرَكَ، من فيه للابتداء متعلّق بالموالي كأنّ الولاية نشأت من المال، أو متعلّق بمحذوف أي يرثون أو يؤتون ممّا ترك، و ما ترك هو المال الّذي تركه الميّت المورث الّذي هو الوالدان و الأقربون نسباً و الزوج و الزوجة.

و إطلاق( الّذينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) على الزوج و الزوجة إطلاق كنائيّ فقد كان دأبهم في المعاقدات و المعاهدات أن يصافحوا فكأنّ أيمانهم الّتي يصافحون بها هي الّتي عقدت العقود، و أبرمت العهود فالمراد: الّذين أوجدتم بالعقد سببيّة الازدواج بينكم و بينهم.

و قوله:( فَآتوهّم نَصِيبَهُمْ ) الضمير للموالي، و المراد بالنصيب ما بيّن في آيات الإرث، و الفاء للتفريع، و الجملة متفرّعة على قوله تعالى:( وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ) ، ثمّ أكّد حكمه بإيتاء نصيبهم بقوله:( إِنَّ الله كانَ عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ شَهِيداً ) .

و هذا الّذي ذكرناه من معنى الآية أقرب المعاني الّتي ذكروها في تفسيرها، و ربّما ذكروا أنّ المراد بالموالي العصبة دون الورثة الّذين هم أولى بالميراث، و لا دليل عليه من جهة اللّفظ بخلاف الورثة.

و ربّما قيل: إنّ( من ) في قوله( ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) ، بيانيّة و المراد بما الورثة الأولياء، و المعنى: و لكلّ منكم جعلنا أولياء، يرثونه و هم الّذين تركهم و خلّفهم الوالدان و الأقربون.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالّذينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ الحلفاء، فقد كان الرجل في الجاهليّة يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، و حربي حربك، و سلمي سلمك، و ترثني و أرثك، و تعقل عنّي و أعقل عنك، فيكون للحليف السدس من مال الحليف.

٣٦٥

و على هذا فالجملة مقطوعة عمّا قبلها، و المعنى: و الحلفاء آتوهم سدسهم، ثمّ نسخ ذلك بقوله:( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ ) . و قيل: إنّ المراد : آتوهم نصيبهم من النصر و العقل و الرفد، و لا ميراث، و على هذه فلا نسخ في الآية.

و ربّما قيل: إنّ المراد بهم الّذين آخا بينهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة، و كانوا يتوارثون بذلك بينهم ثمّ نسخ ذلك بآية الميراث.

و ربّما قيل: اُريد بهم الأدعياء الّذين كانوا يتبنّونهم في الجاهليّة فاُمروا في الإسلام أن يوصوا لهم بوصيّة، و ذلك قوله تعالى:( فَآتوهّم نَصِيبَهُمْ ) .

و هذه معان لا يساعدها سياق الآية و لا لفظها على ما لا يخفى للباحث المتأمّل، و لذلك أضربنا عن الإطناب في البحث عمّا يرد عليها.

قوله تعالى: ( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) القيم هو الّذي يقوم بأمر غيره، و القوّام و القيّام مبالغة منه.

و المراد بما فضّل الله بعضهم على بعض هو ما يفضل و يزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء، و هو زيادة قوّة التعقّل فيهم، و ما يتفرّع عليه من شدّة البأس و القوّة و الطاقة على الشدائد من الأعمال و نحوها فإن حياة النساء حياة إحساسيّة عاطفيّة مبنيّة على الرقّة و اللّطافة، و المراد بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في مهورهنّ و نفقاتهنّ.

و عموم هذه العلّة يعطي أنّ الحكم المبنيّ عليها أعني قوله:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) غير مقصور على الأزواج بأن يختصّ القوّاميّة بالرجل على زوجته بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامّة الّتي ترتبط بها حياة القبيلين جميعاً فالجهات العامّة الاجتماعيّة الّتي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة و القضاء مثلاً اللّذين يتوقّف عليهما حياة المجتمع، إنّما يقومان بالتعقّل الّذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء، و كذا الدفاع الحربيّ الّذي يرتبط بالشدّة و قوّة التعقّل كلّ ذلك ممّا يقوم به الرجال على النساء.

و على هذا فقوله:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) ذو إطلاق تامّ، و أمّا قوله بعد:( فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ ) إلخ الظاهر في الاختصاص بما بين الرجل و زوجته على ما سيأتي فهو

٣٦٦

فرع من فروع هذا الحكم المطلق و جزئيّ من جزئيّاته مستخرج منه من غير أن يتقيّد به إطلاقه.

قوله تعالى: ( فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ الله ) المراد بالصلاح معناه اللّغويّ، و هو ما يعبّر عنه بلياقة النفس. و القنوت هو دوام الطاعة و الخضوع.

و مقابلتها لقوله:( وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ) إلخ، تفيد أنّ المراد بالصالحات الزوجات الصالحات، و أنّ هذا الحكم مضروب على النساء في حال الازدواج لا مطلقاً، و أنّ قوله:( قانِتاتٌ حافِظاتٌ ) - الّذي هو إعطاء للأمر في صورة التوصيف أي ليقنتن و ليحفظن - حكم مربوط بشؤون الزوجيّة و المعاشرة المنزليّة، و هذا مع ذلك حكم يتّبع في سعته و ضيقه علّته أعني قيمومة الرجل على المرأة قيمومة زوجيّة فعليها أن تقنت له و تحفّظه فيما يرجع إلى ما بينهما من شؤون الزوجيّة.

و بعبارة اُخرى كما أنّ قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع إنّما تتعلّق بالجهات العامّة المشتركة بينهما المرتبطة بزيادة تعقّل الرجل و شدّته في البأس و هي جهات الحكومة و القضاء و الحرب من غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من الاستقلال في الإرادة الفرديّة و عمل نفسها بأن تريد ما أحبّت و تفعل ما شاءت من غير أن يحقّ للرجل أن يعارضها في شي‏ء من ذلك في غير المنكر فلا جناح عليهم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف كذلك قيمومة الرجل لزوجته ليست بأن لا تنفذ للمرأة في ما تملكه إرادة و لا تصرّف، و لا أن لا تستقلّ المرأة في حفظ حقوقها الفرديّة و الاجتماعيّة، و الدفاع عنها، و التوسّل إليها بالمقدّمات الموصلة إليها بل معناها أنّ الرجل إذ كان ينفق ما ينفق من ماله بإزاء الاستمتاع فعليها أن تطاوعه و تطيعه في كلّ ما يرتبط بالاستمتاع و المباشرة عند الحضور، و أن تحفظه في الغيب فلا تخونه عند غيبته بأن توطئ فراشه غيره، و أن تمتّع لغيره من نفسها ما ليس لغير الزوج التمتّع منها بذلك، و لا تخونه فيما وضعه تحت يدها من المال، و سلّطها عليه في ظرف الازدواج و الاشتراك في الحياة المنزليّة.

فقوله:( فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ ) أي ينبغي أن يتّخذن لأنفسهنّ وصف الصلاح،

٣٦٧

و إذا كنّ صالحات فهنّ لا محالة قانتات، أي يجب أن يقنتن و يطعن أزواجهنّ إطاعة دائمة فيما أرادوا منهنّ ممّا له مساس بالتمتّع، و يجب عليهنّ أن يحفظن جانبهم في جميع ما لهم من الحقوق إذا غابوا.

و أمّا قوله:( بِما حَفِظَ الله ) فالظاهر أنّ ما مصدريّة، و الباء للآلة و المعنى: إنّهنّ قانتات لأزواجهنّ حافظات للغيب بما حفظ الله لهم من الحقوق حيث شرّع لهم القيمومة، و أوجب عليهنّ الإطاعة و حفظ الغيب لهم.

و يمكن أن يكون الباء للمقابلة، و المعنى حينئذ: أنّه يجب عليهنّ القنوت و حفظ الغيب في مقابلة ما حفظ الله من حقوقهنّ حيث أحيا أمرهنّ في المجتمع البشريّ، و أوجب على الرجال لهنّ المهر و النفقة، و المعنى الأوّل أظهر.

و هناك معان ذكروها في تفسير الآية أضربنا عن ذكرها لكون السياق لا يساعد على شي‏ء منها.

قوله تعالى: ( وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ ) ، النشوز العصيان و الاستكبار عن الطاعة، و المراد بخوف النشوز ظهور آياته و علائمه، و لعلّ التفريع على خوف النشوز دون نفسه لمراعاة حال العظة من بين العلاجات الثلاث المذكورة فإنّ الوعظ كما أنّ له محلّاً مع تحقّق العصيان كذلك له محلّ مع بدوّ آثار العصيان و علائمه.

و الاُمور الثلاثة أعني ما يدلّ عليه قوله:( فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ ) و إن ذكرت معاً و عطف بعضها على بعض بالواو فهي اُمور مترتّبة تدريجيّة: فالموعظة، فإن لم تنجح فالهجرة، فإن لم تنفع فالضرب، و يدلّ على كون المراد بها التدرّج فيها أنّها بحسب الطبع وسائل للزجر مختلفة آخذة من الضعف إلى الشدّة بحسب الترتيب المأخوذ في الكلام، فالترتيب مفهوم من السياق دون الواو.

و ظاهر قوله:( وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ ) أن تكون الهجرة مع حفظ المضاجعة كالاستدبار و ترك الملاعبة و نحوها، و إن أمكن أن يراد من مثل الكلام ترك المضاجعة لكنّه بعيد، و ربّما تأيّد المعنى الأوّل بإتيان المضاجع بلفظ الجمع فإنّ المعنى الثاني لا حاجة فيه إلى إفادة كثرة المضجع ظاهراً.

٣٦٨

قوله تعالى: ( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ) إلخ أي لا تتّخذوا عليهنّ علّة تعتلّون بها في إيذائهنّ مع إطاعتهنّ لكم، ثمّ علّل هذا النهي بقوله:( إِنَّ الله كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ) ، و هو إيذان لهم أنّ مقام ربّهم عليّ كبير فلا يغرّنّهم ما يجدونه من القوّة و الشدّة في أنفسهم فيظلموهنّ بالاستعلاء و الاستكبار عليهنّ.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا ) ، الشقاق البينونة و العداوة، و قد قرّر الله سبحانه بعث الحكمين ليكون أبعد من الجور و التحكّم، و قوله:( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُما ) أي إن يرد الزوجان نوعاً من الإصلاح من غير عناد و لجاج في الاختلاف، فإنّ سلب الاختيار من أنفسهما و إلقاء زمام الأمر إلى الحكمين المرضيّين يوجب وفاق البين.

و أسند التوفيق إلى الله مع وجود السبب العاديّ الّذي هو إرادتهما الإصلاح، و المطاوعة لما حكم به الحكمان لأنّه تعالى هو السبب الحقيقيّ الّذي يربط الأسباب بالمسبّبات و هو المعطي لكلّ ذي حقّ حقّه، ثمّ تمّم الكلام بقوله:( إِنَّ الله كانَ عَلِيماً خَبِيراً ) ، و مناسبته ظاهرة.

( كلام في معنى قيمومة الرجال على النساء)

تقويّة القرآن الكريم لجانب العقل الإنسانيّ السليم، و ترجيحه إيّاه على الهوى و اتّباع الشهوات، و الخضوع لحكم العواطف و الإحساسات الحادّة و حضّه و ترغيبه في اتّباعه، و توصيته في حفظ هذه الوديعة الإلهيّة عن الضيعة ممّا لا ستر عليه، و لا حاجة إلى إيراد دليل كتابيّ يؤدّي إليه فقد تضمّن القرآن آيات كثيرة متكثّرة في الدلالة على ذلك تصريحاً و تلويحاً و بكلّ لسان و بيان.

و لم يهمل القرآن مع ذلك أمر العواطف الحسنة الطاهرة، و مهام آثارها الجميلة الّتي يتربّى بها الفرد، و يقوم بها صلب المجتمع كقوله:( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكفّار رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) الفتح: ٢٩، و قوله:( لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً ) الروم: ٢١، و قوله:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف: ٣٢،

٣٦٩

لكنّه عدّلها بالموافقة لحكم العقل فصار اتّباع حكم هذه العواطف و الميول اتّباعاً لحكم العقل.

و قد مرّ في بعض المباحث السابقة أنّ من حفظ الإسلام لجانب العقل و بنائه أحكامه المشرّعة على ذلك أنّ جميع الأعمال و الأحوال و الأخلاق الّتي تبطل استقامة العقل في حكمه و توجب خبطه في قضائه و تقويمه لشؤون المجتمع كشرب الخمر و القمار و أقسام المعاملات الغرريّة و الكذب و البهتان و الافتراء و الغيبة كلّ ذلك محرّمة في الدين.

و الباحث المتأمّل يحدس من هذا المقدار أنّ من الواجب أن يفوّض زمام الاُمور الكلّيّة و الجهات العامّة الاجتماعيّة - الّتي ينبغي أن تدبّرها قوّة التعقّل و يجتنب فيها من حكومة العواطف و الميول النفسانيّة كجهات الحكومة و القضاء و الحرب - إلى من يمتاز بمزيد العقل و يضعف فيه حكم العواطف، و هو قبيل الرجال دون النساء.

و هو كذلك، قال الله تعالى:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) و السنّة النبوّية الّتي هي ترجمان البيانات القرآنيّة بيّنت ذلك كذلك، و سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جرت على ذلك أيّام حياته فلم يولّ امرأة على قوم و لا أعطى امرأة منصب القضاء و لا دعاهنّ إلى غزاة بمعنى دعوتهنّ إلى أن يقاتلن.

و أمّا غيرها من الجهات كجهات التعليم و التعلّم و المكاسب و التمريض و العلاج و غيرها ممّا لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهنّ السنّة ذلك، و السيرة النبوّية تمضي كثيراً منها، و الكتاب أيضاً لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقّهنّ فإنّ ذلك لازم ما اُعطين من حرّيّة الإرادة و العمل في كثير من شؤون الحياة إذ لا معنى لإخراجهنّ من تحت ولاية الرجال، و جعل الملك لهنّ بحيالهنّ ثمّ النهي عن قيامهنّ بإصلاح ما ملكته أيديهنّ بأيّ نحو من الإصلاح، و كذا لا معنى لجعل حقّ الدعوى أو الشهادة لهنّ ثمّ المنع عن حضورهنّ عند الوالي أو القاضي و هكذا.

اللّهمّ إلّا فيما يزاحم حقّ الزوج فإنّ له عليها قيمومة الطاعة في الحضور، و الحفظ في الغيبة، و لا يمضي لها من شؤونها الجائزة ما يزاحم ذلك.

٣٧٠

( بحث روائي‏)

في المجمع، في قوله تعالى:( وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ الله ) الآية: أي لا يقل أحدكم: ليت ما اُعطي فلان من النعمة و المرأة الحسنى كان لي فإنّ ذلك يكون حسداً، و لكن يجوز أن يقول: اللّهمّ أعطني مثله، قال: و هو المروي عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

أقول: و روى العيّاشيّ في تفسيره عن الصادقعليه‌السلام مثله.

في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام في قوله تعالى:( ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) ، و في قوله:( وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ‏ ) أنّهما نزلتا في عليّعليه‌السلام .

أقول: و الرواية من باب الجري و التطبيق.

و في الكافي، و تفسير القمّيّ، عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ليس من نفس إلّا و قد فرض الله لها رزقها حلالاً يأتيها في عافية، و عرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن هي تناولت شيئاً من الحرام قاصّها به من الحلال الّذي فرض لها و عندالله سواهما فضل كثير، و هو قول الله عزّوجلّ:( وَ سْئَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ ) .

أقول: و رواه العيّاشيّ عن إسماعيل بن كثير رفعه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و روي هذا المعنى أيضاً عن أبي الهذيل عن الصادقعليه‌السلام ، و روى قريباً منه أيضاً القمّيّ في تفسيره عن الحسين بن مسلم عن الباقرعليه‌السلام .

و قد تقدّم كلام في حقيقة الرزق و فرضه و انقسامه إلى الرزق الحلال و الحرام في ذيل قوله:( وَ الله يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حساب ) البقرة: ٢١٢، في الجزء الثاني فراجعه.

و في صحيح الترمذيّ، عن ابن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سلوا الله من فضله فإنّ الله يحبّ أن يسأل.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير من طريق حكيم بن جبير عن رجل لم يسمّه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سلوا الله من فضله فإنّ الله يحبّ أن يسأل، و إنّ من أفضل العبادة انتظار الفرج.

٣٧١

و في التهذيب، بإسناده عن زرارة قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول:( وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) ، قال: عنى بذلك اُولي الأرحام في المواريث، و لم يعن أولياء النعمة فأولاهم بالميّت أقربهم إليه من الرحم الّتي تجرّه إليها.

و فيه، أيضاً بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال: سأل أباجعفرعليه‌السلام رجل و أنا عنده قال: فقال رجل لامرأته: أمرك بيدك، قال: أنّى يكون هذا و الله يقول:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) ؟ ليس هذا بشي‏ء.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم من طريق أشعث بن عبدالملك عن الحسن قال: جاءت امرأة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تستعدي على زوجها أنّه لطمها، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القصاص، فأنزل الله:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) الآية فرجعت بغير قصاص.

أقول: و رواه بطرق اُخرى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و في بعضها: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أردت أمراً و أراد الله غيره‏، و لعلّ المورد كان من موارد النشوز، و إلّا فذيل الآية:( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ) ينفي ذلك.

و في ظاهر الروايات إشكال آخر من حيث إنّ ظاهرها أنّ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القصاص بيان للحكم عن استفتاء من السائل لا قضاء فيما لم يحضر طرفا الدعوى، و لازمه أن يكون نزول الآية تخطئة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حكمه و تشريعه و هو ينافي عصمته، و ليس بنسخ فإنّه رفع حكم قبل العمل به، و الله سبحانه و إن تصرّف في بعض أحكام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضعاً أو رفعاً لكنّ ذلك إنّما هو في حكمه و رأيه في موارد ولايته لا في حكمه فيما شرّعه لاُمّته فإنّ ذلك تخطئة باطلة.

و في تفسير القمّيّ،: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله: قانِتاتٌ يقول: مطيعات.

و في المجمع، في قوله تعالى:( فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ ) الآية، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: يحوّل ظهره إليها، و في معنى الضرب عن أبي جعفرعليه‌السلام : أنّه الضرب بالسواك.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله:( فَابْعَثُوا حَكَماً

٣٧٢

مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها ) قال: الحكمان يشترطان إن شاءا فرّقا، و إن شاءا جمعا فإن فرّقا فجائز، و إن جمعا فجائز.

أقول: و روي هذا المعنى و ما يقرب منه بعدّة طرق اُخر فيه و في تفسير العيّاشيّ.

و في تفسير العيّاشيّ، عن ابن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قضى أميرالمؤمنينعليه‌السلام في امرأة تزوّجها رجل، و شرط عليها و على أهلها إن تزوّج عليها امرأة و هجرها أو أتى عليها سريّة فإنّها طالق، فقال: شرط الله قبل شرطكم إن شاء وفى بشرطه، و إن شاء أمسك امرأته و نكح عليها و تسرّى عليها و هجرها إن أتت سبيل ذلك، قال الله في كتابه:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) و قال:( أحلّ لكم ممّا ملكت أيمانكم) و قال:( وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ الله كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج البيهقيّ عن أسماء بنت يزيد الأنصاريّة أنّها أتت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت و اُمّي إنّي وافدة النساء إليك، و أعلم نفسي لك الفداء أنّه ما من امرأة كائنة في شرق و لا غرب سمعت بمخرجي هذا إلّا و هي على مثل رأيي.

إنّ الله بعثك بالحقّ إلى الرجال و النساء فآمنّا بك و بإلهك الّذي أرسلك، و إنّا معشر النساء محصورات مقسورات، قواعد بيوتكم، و مقضي شهواتكم، و حاملات أولادكم، و إنّكم معاشر الرجال فضّلتم علينا بالجمعة و الجماعات، و عيادة المرضى، و شهود الجنائز، و الحجّ بعد الحجّ، و أفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، و إنّ الرجل منكم إذا خرج حاجّاً أو معتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم، و غزلنا لكم أثوابكم، و ربّينا لكم أموالكم(١) ، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه بوجهه كلّه، ثمّ قال: هل سمعتم مقالة امرأة قطّ أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله ما ظننّا أنّ امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها ثمّ قال لها: انصرفي أيّتها المرأة و أعلمي من خلفك من النساء: أنّ

____________________

(١) أولادكم ظ.

٣٧٣

حسن تبعّل إحداكنّ لزوجها، و طلبها مرضاته، و اتّباعها موافقته يعدل ذلك كلّه، فأدبرت المرأة و هي تهلّل و تكبّر استبشاراً.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة مرويّة في جوامع الحديث من طرق الشيعة و أهل السنّة، و من أجمل ما روي فيه ما رواه في الكافي، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفرعليهما‌السلام :( جهاد المرأة حسن التبعّل) ، و من أجمع الكلمات لهذا المعنى مع اشتماله على اُسّ ما بني عليه التشريع ما في نهج البلاغة، و رواه أيضاً في الكافي، بإسناده عن عبدالله بن كثير عن الصادقعليه‌السلام عن عليّ عليه أفضل السلام، و بإسناده أيضاً عن الأصبغ بن نباتة عنهعليه‌السلام في رسالته إلى ابنه: أنّ المرأة ريحانة، و ليست بقهرمانة.

و ما روي في ذلك عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّما المرأة لعبة من اتّخذها فلا يضيّعها) و قد كان يتعجّب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف تعانق المرأة بيد ضربت بها، ففي الكافي، أيضاً بإسناده عن أبي مريم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أ يضرب‏ أحدكم المرأة ثمّ يظلّ معانقها؟!) و أمثال هذه البيانات كثيرة في الأحاديث، و من التأمّل فيها يظهر رأي الإسلام فيها.

و لنرجع إلى ما كنّا فيه من حديث أسماء بنت يزيد الأنصاريّة فنقول: يظهر من التأمّل فيه و في نظائره الحاكية عن دخول النساء على النبيّ ص، و تكليمهنّ إيّاه فيما يرجع إلى شرائع الدين، و مختلف ما قرّره الإسلام في حقّهنّ أنّهنّ على احتجابهنّ و اختصاصهنّ بالاُمور المنزليّة من شؤون الحياة غالباً لم يكنّ ممنوعات من المراودة إلى وليّ الأمر، و السعي في حلّ ما ربّما كان يشكل عليهنّ، و هذه حرّيّة الاعتقاد الّتي باحثنا فيها في ضمن الكلام في المرابطة الإسلاميّة في آخر سورة آل عمران.

و يستفاد منه و من نظائره أيضاًأوّلاً أنّ الطريقة المرضيّة في حياة المرأة في الإسلام أن تشتغل بتدبير اُمور المنزل الداخليّة و تربية الأولاد، و هذه و إن كانت سنّة مسنونة غير مفروضة لكنّ الترغيب و التحريض الندبي - و الظرف ظرف الدين، و الجوّ جوّ التقوى و ابتغاء مرضاة الله، و إيثار مثوبة الآخرة على عرض الدنيا و التربية على الأخلاق الصالحة

٣٧٤

للنساء كالعفّة و الحياء و محبّة الأولاد و التعلّق بالحياة المنزليّة - كانت تحفّظ هذه السنّة.

و كان الاشتغال بهذه الشؤون و الاعتكاف على إحياء العواطف الطاهرة المودعة في وجودهنّ يشغلهنّ عن الورود في مجامع الرجال، و اختلاطهنّ بهم في حدود ما أباح الله لهنّ، و يشهد بذلك بقاء هذه السنّة بين المسلمين على ساقها قروناً كثيرة بعد ذلك حتّى نفذ فيهنّ الاسترسال الغربيّ المسمّى بحرّيّة النساء في المجتمع فجرّت إليهنّ و إليهم هلاك الأخلاق، و فساد الحياة و هم لا يشعرون، و سوف يعلمون، و لو أنّ أهل القرى آمنوا و اتّقوا لفتح الله عليهم بركات من السماء، و أكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم و لكن كذّبوا فاُخذوا.

و ثانياً: أنّ من السنّة المفروضة في الإسلام منع النساء من القيام بأمر الجهاد كالقضاء و الولاية.

و ثالثاً: أنّ الإسلام لم يهمل أمر هذه الحرمانات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل الله دون أن تداركها، و جبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا و فضائل فيها مفاخر حقيقيّة كما أنّه جعل حسن التبعّل مثلاً جهاداً للمرأة، و هذه الصنائع و المكارم أوشك أن لا يكون لها عندنا - و ظرفنا هذا الظرف الحيويّ الفاسد - قدر لكنّ الظرف الإسلاميّ الّذي يقوّم الاُمور بقيمها الحقيقيّة، و يتنافس فيه في الفضائل الإنسانيّة المرضيّة عندالله سبحانه، و هو يقدّرها حقّ قدرها يقدّر لسلوك كلّ إنسان مسلكه الّذي ندب إليه، و للزومه الطريق الّذي خطّ له، من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانيّة و تتوازن أعمالها فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال و السماحة بدماء المهج - على ما فيه من الفضل - على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجيّة، و كذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيويّ، و لا لقاض يتّكي على مسند القضاء، و هما منصبان ليس للمتقلّد بهما في الدنيا لو عمل فيما عمل بالحق و جرى فيما جرى على الحقّ إلّا تحمّل أثقال الولاية و القضاء، و التعرّض لمهالك و مخاطر تهدّدهما حيناً بعد حين في حقوق من لا حامي له إلّا ربّ العالمين -( و إِنَّ ربّك لَبِالْمِرْصادِ ) - فأيّ فخر لهؤلاء على من منعه الدين الورود موردهما، و خطّ له خطّاً و أشار إليه بلزومه و سلوكه.

٣٧٥

فهذه المفاخر إنّما يحييها و يقيم صلبها بإيثار الناس لها نوع المجتمع الّذي يربّي أجزاءه على ما يندب إليه من غير تناقض، و اختلاف الشؤون الاجتماعيّة و الأعمال الإنسانيّة بحسب اختلاف المجتمعات في أجوائها ممّا لا يسع أحداً إنكاره.

هو ذا الجنديّ الّذي يلقي بنفسه في أخطر المهالك، و هو الموت في منفجر القنابل المبيدة ابتغاء ما يراه كرامة و مزيداً، و هو زعمه أن سيذكر اسمه في فهرسّ من فدى بنفسه وطنه و يفتخر بذلك على كلّ ذي فخر في عين ما يعتقد أنّ الموت فوت و بطلان، و ليس إلّا بغية وهميّة، و كرامة خرافيّة، و كذلك ما تؤثّره هذه الكواكب الظاهرة في سماء السينماءات و يعظم قدرهنّ بذلك الناس تعظيماً لا يكاد يناله رؤساء الحكومات السامية و قد كان ما يعتورنه من الشغل و ما يعطين من أنفسهنّ للملأ دهراً طويلاً في المجتمعات الإنسانيّة أعظم ما يسقط به قدر النساء، و أشنع ما يعيّرن به، فليس ذلك كلّه إلّا أن الظرف من ظروف الحياة يعيّن ما يعيّنه على أن يقع من سواد الناس موقع القبول و يعظّم الحقير، و يهوّن الخطير فليس من المستبعد أن يعظّم الإسلام اُموراً نستحقرها و نحن في هذه الظروف المضطربة، أو يحقّر اُموراً نستعظمها و نتنافس فيها فلم يكن الظرف في صدر الإسلام إلّا ظرف التقوى و إيثار الآخرة على الاُولى‏.

٣٧٦

( سورة النساء الآيات ٣٦ - ٤٢)

وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى‏ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى‏ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مِن كَانَ مُخْتَالاً فَخُور( ٣٦) الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِين( ٣٧) وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِين( ٣٨) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِمْ عَلِيم( ٣٩) إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيم( ٤٠) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى‏ هؤُلاَءِ شَهِيد( ٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى‏ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيث( ٤٢)

( بيان)

آيات سبع فيها حثّ على الإحسان و الإنفاق في سبيل الله و وعد جميل عليه، و ذمّ على تركه أمّا بالبخل أو بالإنفاق مراءآة للناس.

قوله تعالى: ( وَ اعْبُدُوا الله وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً ) هذا هو التوحيد غير أنّ المراد به التوحيد العمليّ، و هو إتيان الأعمال الحسنة - و منها الإحسان الّذي هو مورد الكلام - طلباً لمرضاة الله و ابتغاء لثواب الآخرة دون اتّباع الهوى و الشرك به.

و الدليل على ذلك أنّه تعالى عقّب هذا الكلام أعني قوله:( وَ اعْبُدُوا الله وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً ) ، و علّله بقوله:( إِنَّ الله لا يُحبّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً ) ، و ذكر أنّه البخيل بماله و المنفق لرئاء الناس، فهم الّذين يشركون بالله و لا يعبدونه وحده، ثمّ قال:( وَ ما ذا عَلَيْهِمْ

٣٧٧

لَوْ آمَنُوا بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا ) ، و ظهر بذلك أنّ شركهم عدم إيمانهم باليوم الآخر، و قال تعالى:( وَ لا تتّبع الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله إِنَّ الّذينَ يضلّون عَنْ سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحساب ) ص: ٢٦، فبيّن أنّ الضلال باتّباع الهوى - و كلّ شرك ضلال - إنّما هو بنسيان يوم الحساب، ثمّ قال:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتّخذ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ الله عَلى‏ عِلْمٍ ) الجاثية: ٢٣، فبيّن أنّ اتّباع الهوى عبادة له و شرك به.

فتبيّن بذلك كلّه أنّ التوحيد العمليّ أن يعمل الإنسان ابتغاء مثوبة الله و هو على ذكر من يوم الحساب الّذي فيه ظهور المثوبات و العقوبات، و أنّ الشرك في العمل أن ينسى اليوم الآخر - و لو آمن به لم ينسه - و أن يعمل عمله لا لطلب مثوبة بل لما يزيّنه له هواه من التعلّق بالمال أو حمد الناس و نحو ذلك، فقد أشخص هذا الإنسان هواه تجاه ربّه، و أشرك به.

فالمراد بعبادة الله و الإخلاص له فيها أن يكون طلباً لمرضاته، و ابتغاءً لمثوبته لا لاتّباع الهوى.

قوله تعالى: ( وَ بِالْوالِدَيْنِ إحساناً - إلى قوله -أَيْمانُكُمْ ) الظاهر أنّ قوله: إحساناً مفعول مطلق لفعل مقدّر، تقديره: و أحسنوا بالوالدين إحساناً، و الإحسان يتعدّى بالباء و إلى معاً يقال: أحسنت به و أحسنت إليه، و قوله:( وَ بِذِي الْقُرْبى) ، هو و ما بعده معطوف على الوالدين، و ذو القربى القرابة، و قوله:( وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى‏ وَ الْجارِ الْجُنُبِ ) قرينة المقابلة في الوصف تعطي أن يكون المراد بالجار ذي القربى الجار القريب داراً، و بالجار الجنب - و هو الأجنبيّ - الجار البعيد داراً، و قد روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تحديد الجوار بأربعين ذراعاً، و في رواية: أربعون داراً، و لعلّ الروايتين ناظرتان إلى الجار ذي القربى و الجار الجنب.

و قوله: و الصاحب بالجنب هو الّذي يصاحبك ملازماً لجنبك، و هو بمفهومه يعمّ مصاحب السفر من رفقة الطريق و مصاحب الحضر و المنزل و غيرهم، و قوله: و ابن السبيل هو الّذي لا يعرف من حاله إلّا أنّه سألك سبيل كأنّه ليس له من ينتسب إليه إلّا السبيل فهو ابنه، و أمّا كونه فقيراً ذا مسكنة عادماً لزاد أو راحلة فكأنّه خارج من مفهوم

٣٧٨

اللّفظ، و قوله: و ما ملكت أيمانكم المراد به العبيد و الإماء بقرينة عدّه في عداد من يحسن إليهم، و قد كثر التعبير عنهم بما ملكته الأيمان دون من ملكته.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله لا يُحبّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً ) المختال التائه المتبختر المسخّر لخياله، و منه الخيل للفرس لأنّه يتبختر في مشيته، و الفخور كثير الفخر، و الوصفان أعني الاختيال و كثرة الفخر من لوازم التعلّق بالمال و الجاه، و الإفراط في حبّهما، و لذلك لم يكن الله ليحبّ المختال الفخور لتعلّق قلبه بغيره تعالى، و ما ذكره تعالى في تفسيره بقوله:( الّذينَ يَبْخَلُونَ ) إلخ و قوله:( وَ الّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ ) إلخ يبيّن كون الطائفتين معروضتين للخيلاء و الفخر: فالطائفة الاُولى متعلّقة القلب بالمال، و الثانية بالجاه و إن كان بين الجاه و المال تلازم في الجملة.

و كان من طبع الكلام أن يشتغل بذكر أعمالهما من البخل و الكتمان و غيرهما لكن بدأ بالوصفين ليدلّ على السبب في عدم الحبّ كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( الّذينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ) الآية أمرهم الناس بالبخل إنّما هو بسيرتهم الفاسدة و عملهم به سواء أمروا به لفظاً أو سكتوا فإنّ هذه الطائفة لكونهم اُولي ثروة و مال يتقرّب إليهم الناس و يخضعون لهم لما في طباع الناس من الطمع ففعلهم آمر و زاجر كقولهم، و أمّا كتمانهم ما آتاهم الله من فضله فهو تظاهرهم بظاهر الفاقد المعدم للمال لتأذّيهم من سؤال الناس ما في أيديهم، و خوفهم على أنفسهم لو منعوا و خشيتهم من توجّه النفوس إلى أموالهم، و المراد بالكافرين الساترون لنعمة الله الّتي أنعم بها، و منه الكافر المعروف لستره على الحقّ بإنكاره.

قوله تعالى: ( وَ الّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ ) ، إلخ أي لمراءآتهم، و في الآية دلالة على أنّ الرئاء في الإنفاق - أو هو مطلقاً - شرك بالله كاشف عن عدم الإيمان به لاعتماد المرائي على نفوس الناس و استحسانهم فعله، و شرك من جهة العمل لأنّ المرائي لا يريد بعمله ثواب الآخرة، و إنّما يريد ما يرجوه من نتائج إنفاقه في الدنيا، و على أنّ المرائي قرين الشيطان و ساء قريناً.

قوله تعالى: ( وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا ) الآية، استفهام للتأسّف أو التعجّب،

٣٧٩

و في الآية دلالة على أنّ الاستنكاف عن الإنفاق في سبيل الله ناش من فقدان التلبّس بالإيمان بالله و باليوم الآخر حقيقة و إن تلبّس به ظاهراً.

و قوله:( وَ كانَ الله بِهِمْ عَلِيماً ) تمهيد لما في الآية التالية من البيان، و الأمسّ لهذه الجملة بحسب المعنى أن تكون حالاً.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) الآية. المثقال هو الزنة، و الذرّة هو الصغير من النمل الأحمر، أو هو الواحد من الهباء المبثوث في الهواء الّذي لا يكاد يرى صغراً. و قوله:( مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) نائب مناب المفعول المطلق أي لا يظلم ظلماً يعدل مثقال ذرّة وزناً.

و قوله:( وَ إِنْ تَكُ حسنةً ) ، قرئ برفع حسنة و بنصبها فعلى تقدير الرفع كان تامّة، و على تقدير النصب تقديره: و إن تكن المثقال المذكور حسنة يضاعفها، و تأنيث الضمير في قوله: إِنْ تَكُ إمّا من جهة تأنيث الخبر أو لكسب المثقال التأنيث بالإضافة إلى ذرّة.

و السياق يفيد أن تكون الآية بمنزلة التعليل للاستفهام السابق، و التقدير: و من الأسف عليهم أن لم يؤمنوا و لم ينفقوا فإنّهم لو آمنوا و أنفقوا و الله عليم بهم لم يكن الله ليظلمهم في مثقال ذرّة أنفقوها بالإهمال و ترك الجزاء، و إن تك حسنة يضاعفها. و الله أعلم.

قوله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كلّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ) الآية. قد تقدّم بعض الكلام في معنى الشهادة على الأعمال في تفسير قوله تعالى:( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) البقرة: ١٤٣، من الجزء الأوّل من هذا الكتاب، و سيجي‏ء بعض آخر في محلّه المناسب له.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الّذينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ ) الآية. نسبة المعصية إلى الرسول يشهد أنّ المراد بها معصية أوامرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصادرة عن مقام ولايته لا معصية الله تعالى في أحكام الشريعة، و قوله:( لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ) كناية عن الموت بمعنى بطلان الوجود نظير قوله تعالى:( يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) النبأ: ٤٠.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458