الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134564 / تحميل: 6222
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الجمع بين تسع نسوة لأنّ مجموع الاثنتين و الثلاث و الأربع تسع، و قد ذكر في المجمع: أنّ الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتّة فإنّ من قال: دخل القوم البلد مثنى و ثلاث و رباع لم يلزم منه اجتماع الأعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة، و لأنّ لهذا العدد لفظاً موضوعاً و هو تسع فالعدول عنه إلى مثنى و ثلاث و رباع نوع من العيّ - جلّ كلامه عن ذلك و تقدّس -.

قوله تعالى: ( فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ) أي فانكحوا واحدةً لا أزيد، و قد علّقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لأنّ العلم في هذه الاُمور - و لتسويل النفس فيها أثر بيّن - لا يحصل غالباً فتفوت المصلحة.

قوله تعالى: ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) و هي الإماء فمن خاف إلّا يقسط فيهنّ فعليه أن ينكح واحدة، و إن أحبّ أن يزيد في العدد فعليه بالإماء إذ لم يشرّع القسم في الإماء.

و من هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الإماء بتجويز الظلم و التعدّي عليهنّ فإنّ الله لا يحبّ الظالمين و ليس بظلّام للعبيد بل لمّا لم يشرع القسم فيهنّ فأمر العدل فيهنّ أسهل، و لهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتّخاذهنّ و إتيانهنّ بملك اليمين دون نكاحهنّ بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فإنّ مسألة نكاحهنّ سيتعرّض لها في ما سيجي‏ء من قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ) الآية: النساء: ٢٥.

قوله تعالى: ( ذلِكَ أَدْنى‏ إلّا تَعُولُوا ) العول هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرّعت أقرب من إلّا تميلوا عن العدل و لا تتعدّوا عليهنّ في حقوقهنّ، و ربّما قيل: إنّ العول بمعنى الثقل و هو بعيد لفظاً و معنى.

و في ذكر هذه الجملة الّتي تتضمّن حكمة التشريع دلالة على أنّ أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط و نفي العول و الإجحاف في الحقوق.

قوله تعالى: ( وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) الصدقة بضمّ الدال و فتحها و الصداق هو المهر، و النحلة هي العطيّة من غير مثامنة.

١٨١

و في إضافة الصدقات إلى ضمير هنّ دلالة على أنّ الحكم بوجوب الإيتاء مبنيّ على المتداول بين الناس في سنن الازدواج من تخصيص شي‏ء من المال أو أيّ شي‏ء له قيمة مهراً لهنّ كأنّه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإنّ المتداول بين الناس أن يكون الطالب الداعي للازدواج هو الرجل على ما سيأتي في البحث العلميّ التالي، و هو الخطبة كما أنّ المشتري يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته، و كيف كان ففي الآية إمضاء هذه العادة الجارية عند الناس.

و لعلّ إمكان توهّم عدم جواز تصرّف الزوج في المهر أصلاً حتّى برضي من الزوجة هو الموجب للإتيان بالشرط في قوله:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) مع ما في اشتراط الأكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم، و الدلالة على أنّ الحكم وضعيّ لا تكليفيّ.

و الهناء سهولة الهضم و قبول الطبع و يستعمل في الطعام، و المري من الريّ و هو في الشراب كالهني‏ء في الطعام غير أنّ الهناء يستعمل في الطعام و الشراب معاً، فإذا قيل: هنيئاً مريئاً اختصّ الهناء بالطعام و الريّ بالشراب.

قوله تعالى: ( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الّتي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً ) السفه خفّة العقل، و كأنّ الأصل في معناه مطلق الخفّة فيما من شأنه أن لا يخفّ و منه الزمام السفيه أي كثير الاضطراب و ثوب سفيه أي ردي‏ء النسج ثمّ غلب في خفّة النفس و اختلف باختلاف الأغراض و المقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الاُمور الدنيويّة و سفيه للفاسق غير المبالي في أمر دينه و هكذا.

و ظاهر ما يتراءى من الآية أنّه نهي عن الإكثار في الإنفاق على السفهاء و إعطائهم من المال أزيد من حاجاتهم الضروريّة في الارتزاق، غير أنّ وقوع الآية في سياق الكلام في أموال اليتامى الّتي يتولّى أمر إدارتها و إنّمائها الأولياء قرينة معيّنة على كون المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى، و أنّ المراد بقوله: أَمْوالَكُمُ، في الحقيقة أموالهم اُضيف إلى الأولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضاً قوله بعد: وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ، و إن كان و لا بدّ من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى، فالمراد بالسفهاء ما يعمّ اليتيم و غير اليتيم لكنّ الأوّل أرجح.

١٨٢

و كيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى، فالمراد بقوله: أَمْوالَكُمُ، أموال اليتامى و إنّما اُضيفت إلى الأولياء المخاطبين بعناية أنّ مجموع المال و الثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها و إنّما اختصّ بعض أفراد المجتمع ببعض منه و آخر بآخر للصلاح العامّ الّذي يبتني عليه أصل الملك و الاختصاص فيجب أن يتحقّق الناس بهذه الحقيقة و يعلموا أنّهم مجتمع واحد و المال كلّه لمجتمعهم، و على كلّ واحد منهم أن يكلأه و يتحفّظ به و لا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة، و تدبير كلّ من لا يحسن التدبير كالصغير و المجنون، و هذا من حيث الإضافة كقوله تعالى:( وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ ) النساء: ٢٥، و من المعلوم أنّ المراد بالفتيات ليس الإماء اللّاتي يملكها من يريد النكاح.

ففي الآية دلالة على حكم عامّ موجّه إلى المجتمع و هو أنّ المجتمع ذو شخصيّة واحدة له كلّ المال الّذي أقام الله به صلبه و جعله له معاشاً فيلزم على المجتمع أن يدبّره و يصلحه و يعرضه معرض النماء و يرتزق به ارتزاقاً معتدلّاً مقتصداً و يحفظه عن الضيعة و الفساد، و من فروع هذا الأصل أنّه يجب على الأولياء أن يتولّوا أمر السفهاء فلا يؤتوهّم أموالهم فيضيّعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها عنهم و يصلحوا شأنها، و ينموها بالكسب و الاتّجار و الاسترباح و يرزقوا اُولئك السفهاء من فوائدها و نمائها دون أصلها حتّى لا ينفد رويداً رويداً و ينتهي إلى مسكنة صاحب المال و شقوته.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله: وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ، أن يرتزق السفيه في المال بأن يعيش من نمائه و نتاجه و أرباحه لا من المال بأن يشرع في الأكل من أصله على ركود منه من غير جريان و دوران فينفد عن آخره، و هذه هي النكتة في قوله:( فِيها ) دون أن يقول:( منها ) كما ذكره الزمخشريّ.

و لا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أنّ الله لا يرضى بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الإسلاميّ تولّي أمرهم فإن كان هناك واحد من الأولياء الأقربين كالأب و الجدّ فعليه التولّي و المباشرة، و إلّا فعلى الحكومة الشرعيّة أو على المؤمنين أن يقوموا بالأمر على التفصيل المذكور في الفقه.

١٨٣

( كلام في أنّ جميع المال لجميع الناس)

هذه حقيقة قرآنيّة هي أصل لأحكام و قوانين هامّة في الإسلام أعني ما تفيده هذه الآية: أنّ المال لله ملكاً حقيقيّاً جعله قياماً و معاشاً للمجتمع الإنسانيّ من غير أن يقفه على شخص دون شخص وقفاً لا يتغيّر و لا يتبدّل و هبة تنسلب معها قدرة التصرّف التشريعيّ ثمّ أذن في اختصاصهم بهذا الّذي خوّله الجميع على طبق نسب مشرّعة كالوراثة و الحيازة و التجارة و غير ذلك و شرط لتصرّفهم اُموراً كالعقل و البلوغ و نحو ذلك.

و الأصل الثابت الّذي يراعى حاله و يتقدّر به فروعه هو كون الجميع للجميع، فإنّما تراعى المصالح الخاصّة على تقدير انحفاظ المصلحة العامّة الّتي تعود إلى المجتمع و عدم المزاحمة، و أمّا مع المزاحمة و المفاوتة فالمقدّم هو صلاح المجتمع من غير تردّد.

و يتفرّع على هذا الأصل الأصيل في الإسلام فروع كثيرة هامّة كأحكام الإنفاق و معظم أحكام المعاملات و غير ذلك، و قد أيّده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله تعالى:( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جميعاً ) البقرة: ٢٩، و قد أوردنا بعض الكلام المتعلّق بهذا المقام في البحث عن آيات الإنفاق من سورة البقرة فليراجع هناك.

قوله تعالى: ( وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) قد تقدّم استيفاء الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى:( وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حساب ) آل عمران: ٢٧.

و قوله:( وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ ) ، كقوله:( وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ ) البقرة: ٢٣٣، فالمراد بالرزق هو الغذاء الّذي يغتذي به الإنسان و الكسوة ما يلبسه ممّا يقيه الحرّ و البرد (غير أنّ لفظ الرزق و الكسوة في عرف القرآن كالكسوة و النفقة في لساننا) كالكناية تكنّى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الإنسان المادّيّة الحيويّة فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الإنسان كالمسكن و نحوه كما أنّ الأكل ذو معنى خاصّ

١٨٤

بحسب أصله ثمّ يكنّى به عن مطلق التصرّفات كقوله:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) الآية.

و أمّا قوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) فإنّما هو كلمة أخلاقيّة يصلح بها أمر الولاية فإنّ هؤلاء و إن كانوا سفهاء محجورين عن التصرّف في أموالهم غير أنّهم ليسوا حيواناً أعجم و لا من الأنعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الإنسان فيكلّموا بما يكلّم به الإنسان لا بالمنكر من القول و يعاشروا بما يعاشر به الإنسان.

و من هنا يظهر أنّ من الممكن أن يكون قوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) . كناية عن المعاملة الحسنة و المعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى:( وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حسناً ) البقرة: ٨٣.

قوله تعالى: ( وَ ابْتَلُوا الْيَتامى‏ حتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ ) إلى قوله:( أَمْوالَهُمْ ) الابتلاء الامتحان و المراد من بلوغ النكاح بلوغ أوانه ففيه مجاز عقليّ و الإيناس المشاهدة و فيه شوب من معنى الاُلفة فإنّ مادّته الاُنس، و الرشد خلاف الغيّ و هو الاهتداء إلى مقاصد الحياة، و دفع مال اليتيم إليه كناية عن إعطائه إيّاه و إقباضه له كأنّ الوليّ يدفعه إليه و يبعّده من نفسه فهو على ابتذاله كناية لطيفة.

و قوله: حتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، متعلّق بقوله: وَ ابْتَلُوا، ففيه دلالة ما على الاستمرار بأن يشرع الوليّ في ابتلائه من أوّل ما يأخذ في التمييز و يصلح للابتلاء حتّى ينتهي إلى أوان النكاح و يبلغ مبلغ الرجال، و من طبع هذا الحكم ذلك فإنّ إيناس الرشد لا يحصل بابتلاء الصبيّ في واقعة أو واقعتين بل يجب تكراره إلى أن يحصل الإيناس و يتمشّى بالطبع في مدّة مديدة حتّى يبلغ الرهاق ثمّ النكاح.

و قوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ إلخ تفريع على قوله: وَ ابْتَلُوا و المعنى: و امتحنوهم فإن آنستم منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم و الكلام يؤذن بأنّ بلوغ النكاح بمنزلة المقتضي لدفع المال إلى اليتيم و استقلاله بالتصرّف في مال نفسه و الرشد شرط لنفوذ التصرّف، و قد فصّل الإسلام النظر في أمر البلوغ من الإنسان فاكتفى في أمر العبادات و أمثال الحدود و الديات بمجرّد السنّ الشرعيّ الّذي هو سنّ النكاح و اشترط في نفوذ التصرّفات الماليّة

١٨٥

و الأقارير و نحوها ممّا تفصيل بيانه في الفقه مع بلوغ النكاح الرشد، و ذلك من لطائف سلوكه في مرحلة التشريع فإنّ إهمال أمر الرشد و إلغاءه في التصرّفات الماليّة و نحوها ممّا يختلّ به نظام الحياة الاجتماعيّة في قبيل الأيتام و يكون نفوذ تصرّفاتهم و أقاريرهم مفضياً إلى غرور الأفراد الفاسدة إيّاهم و إخراج جميع وسائل الحياة من أيديهم بأدنى وسيلة بالكلمات المزيفة و المواعيد الكاذبة و المعاملات الغرريّة إلى ذلك فالرشد لا محيص من اشتراطه في هذا النوع من الاُمور، و أمّا أمثال العبادات فعدم الحاجة فيها إلى الاشتراط ظاهر، و كذا أمثال الحدود و الديات فإنّ إدراك قبح هذه الجنايات و المعاصي و فهم وجوب الكفّ عنها لا يحتاج فيه إلى الرشد بل الإنسان يقوى على تفهّم ذلك قبله و لا يختلف حاله في ذلك قبل الرشد و بعده.

قوله تعالى: ( وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ) اه الإسراف هو التعدّي عن الاعتدال في العمل، و البدار هو المبادرة إلى الشي‏ء و قوله: وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا في معنى حذر أن يكبروا فلا يدعوكم أن تأكلوا، و حذف النفي أو ما في معناه قبل أن و أنّ قياسيّ على ما ذكره النحاة قال تعالى:( يبيّن الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) النساء: ١٧٦، أي لئلّا تضلّوا أو حذر أن تضلّوا.

و التقابل الواقع بين الأكل إسرافاً و الأكل بداراً أن يكبروا يعطي أن الأكل إسرافاً هو التعدّي إلى أموالهم من غير حاجة و لا شائبة استحقاق بل إجحافاً من غير مبالاة و الأكل بداراً أن يأكل الوليّ منها مثل ما يعدّ اُجرة لعمله فيها عادة غير أنّ اليتيم لو كبر أمكن أن يمنعه عن مثل هذا الأكل فالجميع ممنوع إلّا أن يكون الوليّ فقيراً لا محيص له من أن يشتغل بالاكتساب لسدّ جوعة أو يعمل لليتيم و يسدّ حاجته الضروريّة من ماله و هذا بالحقيقة يرجع إلى ما يأخذ العامل للتجارة و البناية و نحوهما و هو الّذي ذكره بقوله: مَنْ كانَ غَنِيًّا أي لا يحتاج في معاشه إلى الأخذ من مال اليتيم فَلْيَسْتَعْفِفْ أي ليطلب طريق العفّة و ليلزمه فلا يأخذ من أموالهم وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ منها بِالْمَعْرُوفِ، و ذكر بعض المفسّرين أنّ المعنى: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ من مال نفسه لا من أموالهم و هو لا يلائم التفصيل بين الغنيّ و الفقير.

١٨٦

و أمّا قوله تعالى:( فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) فتشريع للاستشهاد عند الدفع تحكيماً للأمر و رفعاً لغائلة الخلاف و النزاع فمن الممكن أن يدّعي اليتيم بعد الرشد و أخذ المال من الوليّ عليه، ثمّ ذيل الجميع بقوله تعالى: وَ كَفى‏ بِالله حسيباً ربطاً للحكم بمنشأه الأصليّ الأوّليّ أعني محتد كلّ حكم من أسمائه و صفاته تعالى فإنّه تعالى لمّا كان حسيباً لم يكن ليخلّي أحكام عباده من غير حساب دقيق و هو تشريعه المحكم، و تتميماً للتربية الدينيّة الإسلاميّة فإنّ الإسلام يأخذ في تربية الناس على أساس التوحيد إذ الإشهاد و إن كان رافعاً غالباً للخلاف و النزاع لكن ربّما تخلّف عنه لانحراف من الشهود في عدالتهم أو غير ذلك من متفرّقات العوامل لكنّ السبب المعنويّ العالي القويّ هو تقوى الله الّذي كفى به حسيباً فلو جعل الوليّ و الشهود و اليتيم الّذي دفع إليه المال هذا المعنى نصب أعينهم لم يقع هناك اختلاف و لا نزاع البتّة.

فانظر إلى الآيتين كيف أبدعتا في البيان فقد بيّنتا أوّلاً رؤس مسائل الولاية على أموال اليتامى و المحجور عليهم و مهمّاتها: من كيفيّة الأخذ و الحفظ و الإنماء و التصرّف و الردّ و وقت الأخذ و الدفع و تحكيم مبناه ببيان وجه المصلحة العامّة في ذلك كلّه و هو أنّ المال لله جعله قياماً للإنسان على ما تقدّم بيانه.

و ثانياً الأصل الأخلاقيّ الّذي يربّي الإنسان على وفق هذه الشرائع و هو الّذي ذكره تعالى بقوله:( وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً ) .

و ثالثاً ببناء الجميع على أصل التوحيد الحاكم بوحدته في جميع الأحكام العمليّة و الأخلاقيّة و الباقي على حسن تأثيره في جميع الموارد لو فرض ضعف الأحكام العمليّة و الدستورات الأخلاقيّة من حيث الأثر، و هو الّذي ذكره بقوله: وَ كَفى‏ بِالله حسّيباً.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ ) الآية أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إنّ رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلمّا

١٨٧

بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه فخاصّمه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت الآية: وَ آتُوا الْيَتامى‏ أَمْوالَهُمْ‏، الحديث.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام : لا يحلّ لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر.

و في الكافي، عنهعليه‌السلام : إذا جمع الرجل أربعاً فطلق إحداهنّ فلا يتزوّج الخامسة حتّى تنقضي عدّة المرأة الّتي طلّق.

أقول: و الروايات في الباب كثيرة.

و في العلل، بإسناده عن محمّد بن سنان: أنّ الرضاعليه‌السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علّة تزويج الرجل أربع نسوة و تحريم أن تتزوّج المرأة أكثر من واحد لأنّ الرجل إذا تزوّج أربع نسوة كان الولد منسوباً إليه، و المرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو؟ إذ هم مشتركون في نكاحها و في ذلك فساد الأنساب و المواريث و المعارف، قال محمّد بن سنان: و من علل النساء الحرائر(١) و تحليل أربع نسوة لرجل واحد أنّهنّ أكثر من الرجال فلمّا نظر - و الله أعلم - يقول الله عزّوجلّ:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) ، فذلك تقدير قدّره الله تعالى ليتّسع فيه الغنيّ و الفقير فيتزوّج الرجل على قدر طاقته، الحديث.

و في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : في حديث قال: و الغيرة للرجال، و لذلك حرّم على المرأة إلّا زوجها و أحلّ للرجل أربعاً فإنّ الله أكرم من أن يبتليهنّ بالغيرة و يحلّ للرجل معها ثلاثاً.

أقول: و يوضح ذلك أنّ الغيرة هي إحدى الأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة و هي تغيّر الإنسان عن حاله المعتاد، و نزوعه إلى الدفاع و الانتقام عند تعدّي الغير إلى بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عرض أو جاه و يعتقد كرامته عليه، و هذه الصفة الغريزيّة لا يخلو عنها في الجملة إنسان أيّ إنسان فرض فهي من فطريّات الإنسان، و الإسلام دين مبنيّ على الفطرة تؤخذ فيه الاُمور الّتي تقضي بها فطرة الإنسان فتعدّل بقصرها فيما هو صلاح الإنسان في حياته، و يحذف عنها ما لا حاجة إليه فيها من وجوه الخلل

____________________

(١) كذا في النسخ.

١٨٨

و الفساد كما في اقتناء المال و المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و غير ذلك.

فإذا فرض أنّ الله سبحانه أحلّ للرجل مع المرأة الواحدة ثلاثاً اُخري - و الدين مبنيّ على رعاية حكم الفطرة - كان لازم ذلك أن يكون ما يتراءى من حال النساء و تغيّرهنّ على الرجال في أمر الضرائر حسداً منهنّ لا غيرة و سيتّضح مزيد اتّضاح في البحث الآتي عن تعدّد الزوجات أنّ هذا الحال حال عرضيّ طار عليهنّ لا غريزيّ فطريّ.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن الصادقعليه‌السلام قال: لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته، و لا المرأة فيما تهب لزوجها جيزت أو لم تجز أ ليس الله تبارك و تعالى يقول: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا ممّا آتَيْتُمُوهُنَّ شيئاً؟ و قال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً؟ و هذا يدخل في الصداق و الهبة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن القداح عن أبي عبدالله عن أبيهعليهما‌السلام قال: جاء رجل إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقال: يا أميرالمؤمنين بي وجع في بطني فقال له أميرالمؤمنينعليه‌السلام أ لك زوجة؟ قال: نعم قال استوهب منها شيئاً طيّبة به نفسها من مالها ثمّ اشتر به عسلاً ثمّ اسكب عليه من ماء السماء ثمّ اشربه فإنّي سمعت الله يقول في كتابه:( وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ) ، و قال:( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ) ، و قال:( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ) ، شفيت إن شاء الله تعالى، قال: ففعل ذلك فشفي.

أقول: و رواه أيضاً في الدرّ المنثور عن عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنهعليه‌السلام و هو نوع من الاستفادة لطيف، و بناؤه على التوسعة في المعنى و يوجد له نظائر في الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام سنورد بعضها في الموارد المناسبة له.

و في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام : إذا حدّثتكم بشي‏ء فاسألوني من كتاب الله، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن القيل و القال، و فساد المال، و كثيرة السؤال، فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إنّ الله عزّوجلّ يقول:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) ، و قال:( وَ لا

١٨٩

تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الّتي جَعَلَ الله لَكُمْ قِياماً ) ، و قال:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) ، قال: من لا تثق به.

و فيه، عن إبراهيم بن عبد الحميد قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن هذه الآية( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال: كلّ من يشرب الخمر فهو سفيه.

و فيه، عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) قال: هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتّى تعرفوا منهم الرشد فقلت: فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ قال: إذا كنت أنت الوارث لهم.

و في تفسير القمّيّ، عن الباقرعليه‌السلام : في الآية: فالسفهاء النساء و الولد إذا علم الرجل أنّ امرأته سفيهة مفسدة و ولده سفيه مفسد لم ينبغ له أن يسلّط واحداً منهما على ماله الّذي جعل الله له قياماً يقول: معاشاً الحديث.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و هي تؤيّد ما قدّمناه أنّ للسفه معنى وسيع ذو مراتب كالسفيه المحجور عليه و الصبيّ قبل أن يرشد و المرأة المتلهّية المتهوّسة و شارب الخمر و مطلق من لا تثق به، و بحسب اختلاف هذه المصاديق يختلف معنى إيتاء المال، و كذا معنى إضافة( أموالكم) و عليك بالتطبيق و الاعتبار.

و قوله في رواية ابن أبي حمزة: إذا كنت أنت الوارث لهم إشارة إلى ما قدّمناه أنّ المال كلّه للمجتمع بحسب الأصل ثمّ لكلّ من الأشخاص ثانياً و للمصالح الخاصّة فإنّ اشتراك المجتمع في المال أوّلاً هو الموجب لانتقاله من واحد إلى آخر.

و في الفقيه، عن الصادقعليه‌السلام : انقطاع يتمّ اليتيم الاحتلام و هو أشدّه، و إن احتلم و لم يؤنس منه رشد و كان سفيهاً أو ضعيفاً فليمسك عنه ولّيه ماله.

و فيه، عنهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ ابْتَلُوا الْيَتامى) الآية قال: إيناس الرشد حفظ المال.

أقول: و قد تقدّم وجه دلالة الآية عليه.

و في التهذيب، عنهعليه‌السلام : في قول الله:( وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال: فذاك

١٩٠

رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فإن كان المال قليلاً فلا يأكل منه شيئاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و أبوداود و النسائيّ و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و النحّاس في ناسخه عن ابن عمر: أنّ رجلاً سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ليس لي مال و لي يتيم فقال: كلّ من مال يتيمك غير مسرف و لا مبذر و لا متأثّل مالاً و من غير أن تقي مالك بماله.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أهل البيتعليهم‌السلام و غيرهم، و هناك مباحث فقهيّة و أخبار ناظرة إليها من أرادها فعليه بجوامع الحديث و كتب الفقه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن رفاعة عنهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) ، قالعليه‌السلام : كان أبي يقول: إنّها منسوخة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوداود و النحّاس كلاهما في الناسخ و ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عبّاس:( وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال: نسختها:( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً ) الآية.

أقول: و كون الآية منسوخة لا يلائم ميزان النسخ إذ ليس بين الآيات الكريمة ما نسبتها إلى هذه الآية نسبة الناسخة إلى المنسوخة، و أمّا قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً) الآية فهو لا ينافي بمضمونه مضمون هذه الآية فإنّ الأكل في هذه الآية المجوّزة مقيّد بالمعروف، و في تلك الآية المحرّمة بالظلم و لا تنافي بين تجويز الأكل بالمعروف و تحريم الأكل ظلماً، فالحقّ أنّ الآية غير منسوخة، و الروايتان لا توافقان الكتاب على ما فيهما من الضعف.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن المغيرة عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام : في قول الله:( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) قال: فقال: إذا رأيتموهم يحبّون آل محمّد فارفعوهم درجة.

أقول: و هو من الجري من باطن التنزيل فإنّ أئمّة الدين آباء المؤمنين و المؤمنون

١٩١

أيتام المعارف عند انقطاعهم عنهم فإذا صحّ انتسابهم إليهم بالحبّ فليرفعوا درجة بتعليم المعارف الحقّة الّتي هي ميراث آبائهم.

( بحث علميّ في فصول ثلاثة)

١- النكاح من مقاصد الطبيعة: أصل التواصل بين الرجل و المرأة ممّا تبيّنه الطبيعة الإنسانيّة بل الحيوانيّة بأبلغ بيانها، و الإسلام دين الفطرة فهو مجوّزه لا محالة.

و أمر الإيلاد و الإفراخ الّذي هو بغية الطبيعة و غرض الخلقة في هذا الاجتماع هو السبب الوحيد و العامل الأصليّ في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج و إخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد و المقاربة إلى شكل النكاح و الملازمة و لهذا ترى أنّ الحيوان الّذي يشترك في تربيته الوالدان معاً كالطيور في حضانة بيضها و تغذية أفراخها و تربيتها و كالحيوان الّذي يحتاج في الولادة و التربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائه و حفظه إلى معاونة الذكور يختار لهذا الشأن الازدواج و هو نوع من الملازمة و الاختصاص بين الزوجين الذكور و الإناث منه فيتواصلان عندئذ و يتشاركان في حفظ بيض الإناث و تدبيرها و إخراج الأفراخ منها و هكذا إلى آخر مدّة تربية الأولاد ثمّ ينفصلان إن انفصلا ثمّ يتجدّد الازدواج و هكذا فعامل النكاح و الازدواج هو الإيلاد و تربية الأولاد و أمّا إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الأعمال الحيويّة كالكسب و جمع المال و تدبير الأكل و الشرب و الأثاث و إدارة البيت فاُمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة و الخلقة و إنّما هي اُمور مقدّمية أو فوائد مترتّبة.

و من هنا يظهر أنّ الحرّيّة و الاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كلّ من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد و مهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الّذي ينزو الذكور منه على الإناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنّة الجارية بين الملل المتمدّنة اليوم و كذا الزنا و خاصّة زنا المحصنة منه.

١٩٢

و كذا تثبيت الازدواج الواقع و تحريم الطلاق و الانفصال بين الزوجين، و ترك الزوج و اتّخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما.

و كذا إلغاء التوالد و تربية الأولاد و بناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزليّة على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية و نظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامّة المعدّة للرضاع و التربية كلّ ذلك على خلاف سنّة الطبيعة و قد جهّز الإنسان بما ينافي هذه السنن الحديثة على ما مرّت الإشارة إليه.

نعم الحيوان الّذي لا حاجة في ولادته و تربيته إلى أزيد من حمل الاُمّ إيّاه و إرضاعها له و تربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعيّة فيه إلى الازدواج و المصاحبة و الاختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرّيّة السفاد بمقدار ما لا يضرّ بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل.

و إيّاك أن تتوهّم أنّ الخروج عن سنّة الخلقة و ما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر و الرويّة مع ما فيه من لذائذ الحياة و التنعّم، فإنّ ذلك من أعظم الخبط فإنّ هذه البنيات الطبيعيّة الّتي منها البنية الإنسانيّة مركّبات مؤلّفة من أجزاء كثيرة تستوجب بوقوع كلّ في موقعه الخاصّ على شرائطه المخصوصة به وضعاً هو الملائم لغرض الطبيعة و الخلقة و هو المناسب لكمال النوع كالمعاجين و المركّبات من الأدوية الّتي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف و مقادير و أوزان و شرائط خاصّة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصّة أدنى خروج و انحراف سقط الأثر.

فالإنسان مثلاً موجود طبيعيّ تكوينيّ ذو أجزاء مركّبة تركيباً خاصّاً يستتبع أوصافاً داخليّة و خواصّ روحيّة تستعقب أفعالاً و أعمالاً فإذا حوّل بعض أفعاله و أعماله من مكانته الطبيعيّة إلى غيرها يستتّبع ذلك انحرافاً و تغيّراً في صفاته و خواصّه الروحيّة و انحرف بذلك جميع الخواصّ و الصفات عن مستوى الطبيعة و صراط الخلقة و بطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعيّ و الغاية الّتي يبتغيها بحسب الخلقة.

و إذا بحثنا في المصائب العامّة الّتي تستوعب اليوم الإنسانيّة و تحبط أعمال الناس و مساعيهم لنيل الراحة و الحياة السعيدة و تهدّد الإنسانيّة بالسقوط و الانهدام وجدنا

١٩٣

أنّ أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى و تمكّن الخرق و القسوة و الشدّة و الشره من نفوس الجوامع البشريّة و أعظم أسبابه و علله الحرّيّة و الاسترسال و الإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجيّة و تربية الأولاد فإنّ سنّة الاجتماع المنزليّ و تربية الأولاد اليوم تميت قرائح الرأفة و الرحمة و العفّة و الحياة و التواضع من الإنسان من أوّل حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش.

و أمّا تدارك هذه النواقص بالفكر و الرويّة فهيهات ذلك فإنّما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينيّة اتّخذتها الطبيعة وسيلة لردّ ما خرج و انحرف عن صراط الطبيعة و التكوين إليه لا لإبطال سعي الطبيعة و الخلقة و قتلها بنفس السيف الّذي أعطته للإنسان لدفع الشرّ عنها، و لو استعمل الفكر الّذي هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شؤون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضاً فاسدة منحرفة كسائر الوسائل، و لذلك ترى أنّ الإنسان اليوم كلّما أصلح بقوّة فكره واحداً من المفاسد العامّة الّتي تهدّد اجتماعه أنتج ذلك ما هو أمرّ و أدهى و زاد البلاء و المصيبة شيوعاً و شمولاً.

نعم ربّما قال القائل من هؤلاء: إنّ الصفات الروحيّة الّتي تسمّى فضائل نفسانيّة هي بقايا من عهد الأساطير و التوحّش لا تلائم حياة الإنسان الراقي اليوم كالعفّة و السخاء و الحياء و الرأفة و الصدق فإنّ العفّة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه، و السخاء إبطال لسعي الإنسان في جمعه المال و ما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنّه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب و بسط يده لذلّ السؤال، و الحياء لجام يلجم الإنسان عن مطالبة حقوقه و إظهار ما في ضميره، و الرأفة تضعّف القلب، و الصدق لا يلائم الحياة اليوميّة، و هذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الّذي ذكرناه.

و لم يدر هذا القائل أنّ هذه الفضائل في المجتمع الإنسانيّ من الواجبات الضروريّة الّتي لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع و لا ساعة.

فلو ارتفعت هذه الخصال و تعدّى كلّ فرد إلى ما لكلّ فرد من مختصّات الحقوق و الأموال و الأعراض، و لم يسخ أحد ببذل ما مسّت إليه حاجة المجتمع، و لم ينفعل

١٩٤

أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين و لم يرأف أحد بالعجزة الّذين لا ذنب لهم في عجزهم كالأطفال و من في تلوهم، و كذب كلّ أحد لكلّ أحد في جميع ما يخبر به و يعده و هكذا تلاشى المجتمع الإنسانيّ من حينه.

فينبغي لهذا القائل إن يعلم أنّ هذه الخصال لا ترتحل و لن ترتحل عن الدنيا، و أنّ الطبيعة الإنسانيّة مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للإنسان إلى الاجتماع، و إنّما الشأن كلّ الشأن في تنظيم هذه الصفات و تعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة و الخلقة في دعوتها الإنسان إلى سعادة الحياة، و لو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقّي اليوم فضائل للإنسانيّة معدّلة بما هو الحريّ من التعدّيل لما أوردت المجتمع مورد الفساد و الهلكة و لأقرّ الناس في مستقرّ أمن و راحة و سعادة.

و لنعد إلى ما كنّا فيه من البحث فنقول: الإسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعيّ فأحلّ النكاح و حرّم الزنا و السفاح، و وضع علقة الزوجيّة على أساس جواز المفارقة و هو الطلاق، و وضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما سنشرحه، و وضع عقد هذا الاجتماع على أساس التوالد و التربية، و من الأحاديث النبوّية المشهورة قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تناكحوا تناسلوا تكثروا الحديث.

٢- استيلاء الذكور على الإناث: ثمّ إن التأمّل في سفاد الحيوانات يعطي أنّ للذكور منها شائبة استيلاء على الإناث في هذا الباب فإنّا نرى أنّ الذكر منها كأنّه يرى نفسه مالكاً للبضع مسلّطاً على الاُنثى، و لذلك ما ترى أنّ الفحولة منها تتنازع و تتشاجر على الإناث من غير عكس فلا تثور الاُنثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس، و كذا ما يجري بينها مجرى الخطبة من الإنسان إنّما يبدأ من ناحية الذكران دون الإناث، و ليس إلّا أنّها ترى بالغريزة أنّ الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي و الإناث كالقابل الخاضع، و هذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها و يستلذّه طبعها فإنّ ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق و الشهوة و استزادة اللّذة، و أمّا نحو الاستيلاء و الاستعلاء المذكور فإنّه عائد إلى قوّة الفحولة و إجراء ما تأمر به الطبيعة.

١٩٥

و هذا المعنى أعني لزوم الشدّة و البأس لقبيل الذكور و اللّين و الانفعال لقبيل الإناث ممّا يوجد الاعتقاد به قليلاً أو كثيراً عند جميع الاُمم حتّى سرى إلى مختلف اللّغات فسمّي كلّ ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر و كلّ ليّن سهل الانفعال بالاُنثى يقال: حديد ذكر و سيف ذكر و نبت ذكر و مكان ذكر و هكذا.

و هذا الأمر جار في نوع الإنسان دائر بين المجتمعات المختلفة و الاُمم المتنوّعة في الجملة و إن كان ربّما لم يخل من الاختلاف زيادة و نقيصة.

و قد اعتبره الإسلام في تشريعه قال الله تعالى:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) النساء: ٣٤، فشرّع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها.

٣- تعدد الزوجات: و أمر الوحدة و التعدّد فيما نشاهده من أقسام الحيوان غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزليّ تتأحّد الإناث و تختصّ بالذكور لما أنّ الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل و حضانة الأفراخ و تربيتها و ربّما تغيّر الوضع الجاري بينها بالصناعة و التدبير و الكفالة أعني بالتأهيل و التربية كما يشاهد من أمر الديك و الدجاج و الحمام و نحوها.

و أمّا الإنسان فاتّخاذ الزوجات المتعدّدة كانت سنّة جارية في غالب الاُمم القديمة كمصر و الهند و الصين و الفرس بل و الروم و اليونان فإنّهم كانوا ربّما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدناً يصاحبونها بل و كان ذلك عند بعض الاُمم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود و العرب فكان الرجل منهم ربّما تزوّج العشرة و العشرين و أزيد و قد ذكروا أنّ سليمان الملك تزوّج مئات من النساء.

و أغلب ما كان يقع تعدّد الزوجات إنّما هو في القبائل و من يحذو حذوهم من سكّان القرى و الجبال فإنّ لربّ البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع و كثرة الأعضاء فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الّذي هو من لوازم عيشتهم و ليكون ذلك وسيلة يتوسّلون بها إلى الترؤّس و السودد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثّر الأقرباء بالمصاهرة.

١٩٦

و ما ذكره بعض العلماء أنّ العامل في تعدّد الزوجات في القبائل و أهل القرى إنّما هو كثرة المشاغل و الأعمال فيهم كأعمال الحمل و النقل و الرعي و الزراعة و السقاية و الصيد و الطبخ و النسج و غير ذلك فهو و إن كان حقّاً في الجملة إلّا أنّ التأمّل في صفاتهم الروحيّة يعطي أنّ هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهميّة عندهم، و ما ذكرناه هو الّذي يتعلّق به قصد الإنسان البدويّ أوّلاً و بالذات كما أنّ شيوع الادعاء و التبنّي أيضاً بينهم سابقاً كان من فروع هذا الغرض.

على أنّه كان في هذه الاُمم عامل أساسيّ آخر لتداول تعدّد الزوجات بينهم و هو زيادة عدّة النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإنّ هذه الاُمم السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب و الغزوات و قتل الفتك و الغيلة فكان القتل يفني الرجال، و يزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلّا بتعدّد الزوجات هذا.

و الإسلام شرّع الازدواج بواحدة، و أنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكّن من القسط بينهنّ مع إصلاح جميع المحاذير المتوجّهة إلى التعدّد على ما سنشير إليها قال الله تعالى:( وَ لَهُنَّ مِثْلُ الّذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) البقرة: ٢٢٨.

و قد استشكلوا على حكم تعدّد الزوجات:

أوّلاً: أنّه يضع آثاراً سيّئة في المجتمع فإنّه يقرح قلوب النساء في عواطفهنّ و يخيّب آمالهنّ و يسكن فورة الحبّ في قلوبهنّ فينعكس حسّ الحبّ إلى حسّ الانتقام فيهملن أمر البيت و يتثاقلن في تربية الأولاد و يقابلن الرجال بمثل ما أساؤا إليهنّ فيشيع الزنا و السفاح و الخيانة في المال و العرض فلا يلبث المجتمع دون أن ينحطّ في أقرب وقت.

و ثانياً: أنّ التعدّد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة فإنّ الإحصاء في الاُمم و الأجيال يفيد أنّ قبيلي الذكورة و الإناث متساويان عدداً تقريباً فالّذي هيّأته الطبيعة هو واحدة لواحد، و خلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة.

و ثالثاً: أنّ في تشريع تعدّد الزوجات ترغيباً للرجال إلى الشره و الشهوة، و تقوية لهذه القوّة في المجتمع.

و رابعاً: أنّ في ذلك حطّاً لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الأربع منهنّ

١٩٧

بواحد من الرجال و هو تقويم جائر حتّى بالنظر إلى مذاق الإسلام الّذي سوّى فيه بين مرأتين و رجل كما في الإرث و الشهادة و غيرهما، و لازمه تجويز التزوّج باثنتين منهنّ لا أزيد ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أيّ حال من غير وجه و هذه الإشكالات ممّا اعترض بها النصارى على الإسلام أو من يوافقهم من المدنيّين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال و النساء في المجتمع.

و الجواب عن الأوّل ما تقدّم غير مرّة في المباحث المتقدّمة أنّ الإسلام وضع بنية المجتمع الإنسانيّ على أساس الحياة التعقّليّة دون الحياة الإحساسيّة فالمتّبع عنده هو الصلاح العقليّ في السنن الاجتماعيّة دون ما تهواه الإحساسات و تنجذب إليه العواطف.

و ليس في ذلك إماتة العواطف و الإحساسات الرقيقة و إبطال حكم المواهب الإلهيّة و الغرائز الطبيعيّة فإنّ من المسلّم في الأبحاث النفسيّة أنّ الصفات الروحيّة و العواطف و الإحساسات الباطنة تختلف كمّاً و كيفاً باختلاف التربية و العادة، كما أنّ كثيراً من الآداب و الرسوم الممدوحة عند الشرقيّين مثلاً مذمومة عند الغربيّين و بالعكس، و كلّ اُمّة تختلف مع غيرها في بعضها.

و التربية الدينيّة في الإسلام تقيم المرأة الإسلاميّة مقاماً لا تتألّم بأمثال ذلك عواطفها. نعم المرأة الغربيّة حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة و لقّنت بذلك جيلاً بعد جيل استحكّم في روحها عاطفة نفسانيّة تضادّ التعدّد. و من الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الّذي شاعت بين الرجال و النساء في الاُمم المتمدّنة! اليوم.

أليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كلّ من هووها و هوتهم من نسائهم من محارم و غيرها و من بكر أو ثيّب و من ذات بعل أو غيرها، حتّى أنّ الإنسان لا يقدر أن يقف في كلّ ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء في ذلك الرجال و النساء و لم يقنعوا بذلك حتّى وقعوا في الرجال وقوعاً قل ما يسلم منه فرد حتّى بلغ الأمر مبلغاً رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللّواط سنّة قانونيّة و ذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسميّة، و أمّا النساء و خاصّة الأبكار و غير ذوات البعل من الفتيات فالأمر فيهنّ أغرب و أفظع.

١٩٨

فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك و لا يتحرّجن و لا تنكسر قلوبهنّ و لا تتألّم عواطفهنّ حين يشاهدن كلّ هذه الفضائح من رجالهنّ؟ و كيف لا تتألّم عواطف الرجل و إحساساته حين يبني بفتاة ثمّ يجدها ثيّباً فقدت بكارتها و افترشت لا للواحد و الاثنين من الرجال ثمّ لا يلبث حتّى يباهي بين الأقران أنّ السيّدة ممّن توفّرت عليها رغبات الرجال و تنافس في القضاء منها العشرات و المئات!! و هل هذا إلّا أنّ هذه السيّئات تكرّرت بينهم و نزعة الحرّيّة تمكّنت من أنفسهم حتّى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف و الإحساسات و لا تستنكرها النفوس؟ فليس إلّا أنّ السنن الجارية تميل العواطف و الإحساسات إلى ما يوافقها و لا يخالفها.

و أمّا ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهنّ في تدبير البيت و تثاقلهنّ في تربية الأولاد و شيوع الزنا و الخيانة فالّذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإنّ هذا الحكم جرى في صدر الإسلام و ليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدّعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته بل كان الأمر بالعكس.

على أنّ هذه النساء اللّاتي يتزوّج بهنّ على الزوجة الاُولى في المجتمع الإسلاميّ و سائر المجتمعات الّتي ترى ذلك أعني الزوجة الثانية و الثالثة و الرابعة إنّما يتزوّج بهنّ عن رضاء و رغبة منهنّ و هنّ من نساء هذه المجتمعات، و لم يسترققهنّ الرجال من مجتمعات اُخرى، و لا جلبوهنّ للنكاح من غير هذه الدنيا و إنّما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعيّة، فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدّد الزوجات، و لا قلوبهنّ تتألّم منها بل لو كان شي‏ء من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجيّة الاُولى أعني أنّ المرأة إذا توحّدت للرجل لا تحبّ أن ترد عليها و على بيتها اُخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو تترأس عليها غيرها أو يختلف الأولاد و نحو ذلك فعدم الرضاء و التألّم فيما كان إنّما منشؤه حالة عرضيّة (التوحّد بالبعل) لا غريزة طبيعيّة.

و الجواب عن الثاني أنّ الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال و النساء في العدد مختلّ من وجوه.

منها أنّ أمر الازدواج لا يتّكي على هذا الّذي ذكروه فحسب بل هناك عوامل

١٩٩

و شرائط اُخرى لهذا الأمر فأوًلاً الرشد الفكريّ و التهيّؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال فالنساء و خاصّة في المناطق الحارّة إذا جزن التسع صلحن للنكاح، و الرجال لا يتهيّؤون لذلك غالباً قبل الستّ عشرة من السنين (و هو الّذي اعتبره الإسلام للنكاح).

و من الدليل على ذلك السنّة الجارية في فتيات الاُمم المتمدّنة فمن الشاذّ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سنّ البلوغ القانونيّ فليس إلّا أن الطبيعة هيّأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك.

و لازم هذه الخاصّة أن لو اعتبرنا مواليد ستّ عشرة سنة من قوم (و الفرض تساوي عدد الذكور و الإناث فيهم) كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال و هي سنة أوّل الصلوح مواليد سنة واحدة و هم مواليد السنة الاُولى المفروضة، و الصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين و هي مواليد السنة الاُولى إلى السابعة، و لو اعتبرنا مواليد خمسة و عشرين سنة و هي سنّ بلوغ الأشدّ من الرجال حصل في السنة الخامسة و العشرين على الصلوح من الرجال مواليد عشرة سنين و من النساء مواليد خمس عشرة سنة، و إذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكلّ واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة.

و ثانياً أنّ الإحصاء كما ذكروه يبيّن أنّ النساء أطول عمراً من الرجال و لازمه أن تهيّئ سنّة الوفاة و الموت عدداً من النساء ليس بحذائهنّ رجال(١) .

و ثالثاً: أنّ خاصّة النسل و التوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء فالأغلب

____________________

(١) و ممّا يؤيّد ذلك ما نشره بعض الجرائد في هذه الأيّام (جريدة الاطّلاعات المنتشرة في طهران المورخة بالثلاثاء ١١ ديماه سنة ١٣٣٥ شمسي) حكاية عن دائرة الإحصاء في فرنسا ما حاصله: قد تحصل بحسب الإحصاء أنّه يولد في فرنسا حذاء كلّ( ١٠٠) مولودة من البنات( ١٠٥) من البنين، و مع ذلك فإنّ الإناث يربو عدّتهم على عدّة الذكور بما يعادل( ١٧٦٥٠٠٠) نسمة، و نفوس المملكة( ٤٠ مليوناً تقريباً) و السبب فيه أنّ البنين أضعف مقاومة من البنات قبال الأمراض و يهلك بها( ٥ در صد) الزائد منهم إلي سنة( ١٩) من الولادة.

ثمّ يأخذ عدّة الذكور في النقص ما بين ٢٥ - ٣٠ من السنين حتّى إذا بلغوا سني ٦٠ - ٦٥ لم يبق تجاه كلّ( ١٥٠٠٠٠٠) من الإناث إلى( ٧٥٠٠٠٠) من الذكور

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

و المراد بالملك هو السلطنة على الاُمور المادّيّة و المعنويّة فيشمل ملك النبوّة و الولاية و الهداية و ملك الرقاب و الثروة، و ذلك أنّه هو الظاهر من سياق الجمل السابقة و اللّاحقة فإنّ الآية السابقة تومئ إلى دعواهم أنّهم يملكون القضاء و الحكم على المؤمنين، و هو مسانخ للملك على الفضائل المعنويّة و ذيل الآية:( فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ) يدلّ على ملك المادّيّات أو ما يشمل ذلك فالمراد به الأعمّ من ملك المادّيّات و المعنويّات.

فيؤول معنى الآية إلى نحو قولنا: أم لهم نصيب من الملك الّذي أنعم الله به على نبيّه بالنبوّة و الولاية و الهداية و نحوه، و لو كان لهم ذلك لم يؤتوا الناس أقلّ القليل الّذي لا يعتدّ به لبخلهم و سوء سريرتهم، فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى:( قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإنفاق ) الإسراء: ١٠٠.

قوله تعالى: ( أَمْ يَحسّدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ ) و هذا آخر الشقوق الثلاثة المذكورة، و وجه الكلام إلى اليهود جواباً عن قضائهم على المؤمنين بأنّ دين المشركين أهدى من دينهم.

و المراد بالناس على ما يدلّ عليه هذا السياق هم الّذين آمنوا، و بما آتاهم الله من فضله هو النبوّة و الكتاب و المعارف الدينيّة، غير أنّ ذيل الآية:( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ ) إلخ، يدلّ على أنّ هذا الّذي اُطلق عليه الناس من آل إبراهيم، فالمراد بالناس حينئذ هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ما انبسط على غيره من هذا الفضل المذكور في الآية فهو من طريقه و ببركاته العالية، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ الله اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ ) الآية: آل عمران: ٣٣، أنّ آل إبراهيم هو النبيّ و آله.

و إطلاق الناس على المفرد لا ضير فيه فإنّه على نحو الكناية كقولك لمن يتعرّض لك و يؤذيك: لا تتعرّض للناس، و ما لك و للناس؟ تريد نفسك أي لا تتعرّض لي.

قوله تعالى: ( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجملة إيئاس لهم في حسدهم، و قطع لرجائهم زوال هذه النعمة، و انقطاع هذا الفضل بأنّ الله قد أعطى آل إبراهيم من فضله ما أعطى، و آتاهم من رحمته ما آتى فليموتوا بغيظهم فلن ينفعهم الحسد شيئاً.

٤٠١

و من هنا يظهر أنّ المراد بآل إبراهيم إمّا النبيّ و آله من أولاد إسماعيل أو مطلق آل إبراهيم من أولاد إسماعيل و إسحاق حتّى يشمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو المحسود عند اليهود بالحقيقة، و ليس المراد بآل إبراهيم بني إسرائيل من نسل إبراهيم فإنّ الكلام على هذا التقدير يعود تقريراً لليهود في حسدهم النبيّ أو المؤمنين لمكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم فيفسد معنى الجملة كما لا يخفى.

و قد ظهر أيضاً كما تقدّمت الإشارة إليه أنّ هذه الجملة:( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ ) إلخ تدلّ على أنّ الناس المحسّودين هم من آل إبراهيم، فيتأيّد به أنّ المراد بالناس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمّا المؤمنون به فليسوا جميعاً من ذرّيّة إبراهيم، و لا كرامة لذرّيّته من المؤمنين على غيرهم حتّى يحمل الكلام عليهم، و لا يوجب مجرّد الإيمان و اتّباع ملّة إبراهيم تسمية المتّبعين بأنّهم آل إبراهيم، و كذا قوله تعالى:( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ للّذين اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النبيّ وَ الّذينَ آمَنُوا ) الآية: آل عمران: ٦٨، لا يوجب تسمية الّذين آمنوا بآل إبراهيم لمكان الأولويّة فإنّ في الآية ذكراً من الّذين اتّبعوا إبراهيم، و ليسوا يسمّون آل إبراهيم قطعاً، فالمراد بآل إبراهيم النبيّ أو هو و آلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إسماعيل جدّه و من في حذوه.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) قد تقدّم أن مقتضى السياق أن يكون المراد بالملك ما يعمّ الملك المعنويّ الّذي منه النبوّة و الولاية الحقيقيّة على هداية الناس و إرشادهم و يؤيّده أنّ الله سبحانه لا يستعظم الملك الدنيويّ لو لم ينته إلى فضيلة معنويّة و منقبة دينيّة، و يؤيّد ذلك أيضاً أنّ الله سبحانه لم يعدّ فيما عدّه من الفضل في حقّ آل إبراهيم النبوّة و الولاية إذ قال:( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) ، فيقوى أن يكون النبوّة و الولاية مندرجتين في إطلاق قوله: و آتيناهم ملكاً عظيماً.

قوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ) الصدّ الصرف و قد قوبل الإيمان بالصدّ لأنّ اليهود ما كانوا ليقنعوا على مجرّد عدم الإيمان بما اُنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون أن يبذلوا مبلغ جهدهم في صدّ الناس عن سبيل الله و الإيمان بما نزّله من الكتاب، و ربّما كان الصدّ بمعنى الإعراض و حينئذ يتمّ التقابل من غير عناية زائدة.

٤٠٢

قوله تعالى: ( وَ كَفى‏ بِجهنّم سَعِيراً ) تهديد لهم بسعير جهنّم في مقابل ما صدّوا عن الإيمان بالكتاب و سعّروا نار الفتنة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الّذين آمنوا معه.

ثمّ بيّن تعالى كفاية جهنّم في أمرهم بقوله:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا بِآياتِنا ) إلى آخر الآية و هو بيان في صورة التعليل، ثمّ عقّبه بقوله:( وَ الّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلى آخر الآية ليتبيّن الفرق بين الطائفتين:( مَنْ آمَنَ بِهِ، و مَنْ صَدَّ عَنْهُ ) ، و يظهر أنّهما في قطبين متخالفين من سعادة الحياة الاُخرى و شقائها: دخول الجنّات و ظلّها الظليل، و إحاطة سعير جهنّم و الاصطلاء بالنار - أعاذنا الله - و معنى الآيتين واضح.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ ) إلخ الفقرة الثانية من الآية:( وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تحكّموا بِالْعَدْلِ ) ظاهره الارتباط بالآيات السابقة عليها فإنّ البيان الإلهيّ فيها يدور حول حكم اليهود للمشركين بأنّهم أهدى سبيلاً من المؤمنين، و قد وصفهم الله تعالى في أوّل بيانه بأنّهم اُوتوا نصيباً من الكتاب و الّذي في الكتاب هو تبيين آيات الله و المعارف الإلهيّة، و هي أمانات مأخوذ عليها الميثاق أن تبيّن للناس، و لا تكتم عن أهله.

و هذا الّذي ذكر من القرائن يؤيّد أن يكون المراد بالأمانات ما يعمّ الأمانات المالية و غيرها من المعنويّات كالعلوم و المعارف الحقّة الّتي من حقّها أن يبلّغها حاملوها أهلها من الناس.

و بالجملة لمّا خانت اليهود الأمانات الإلهيّة المودعة عندهم من العلم بمعارف التوحيد و آيات نبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكتموها و لم يظهروها في واجب وقتها، ثمّ لم يقنعوا بذلك حتّى جاروا في الحكم بين المؤمنين و المشركين فحكموا للوثنيّة على التوحيد فآل أمرهم فيه إلى اللّعن الإلهيّ و جرّ ذلك إيّاهم إلى عذاب السعير فلمّا كان من أمرهم ما كان، غيّر سبحانه سياق الكلام من التكلّم إلى الغيبة فأمر الناس بتأدية الأمانات إلى أهلها، و بالعدل في الحكم فقال:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ ) إلخ.

٤٠٣

و الّذي وسّعنا به معنى تأدية الأمانات و العدل في الحكم هو الّذي يقضي به السياق على ما عرفت، فلا يرد عليه أنّه عدول عن ظاهر لفظ الأمانة و الحكم فإنّ المتبادر في مرحلة التشريع من مضمون الآية وجوب ردّ الأمانة الماليّة إلى صاحبها، و عدل القاضي و هو الحكم في مورد القضاء الشرعيّ، و ذلك أنّ التشريع المطلق لا يتقيّد بما يتقيّد به موضوعات الأحكام الفرعيّة في الفقه بل القرآن مثلاً يبيّن وجوب ردّ الأمانة على الإطلاق، و وجوب العدل في الحكم على الإطلاق فما كان من ذلك راجعاً إلى الفقه من الأمانة الماليّة و القضاء في المرافعات راجعه فيه الفقه، و ما كان غير ذلك استفاد منه فنّ اُصول المعارف، و هكذا.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود إذا كلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوى لسانه، و قال: أرعنا سمعك يا محمّد حتّى نفهمك، ثمّ طعن في الإسلام و عابه فأنزل الله فيه:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ - إلى قوله -فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا ) .

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) الآية قال: نزلت في مالك بن الصيف، و رفاعة بن زيد بن التابوت من بني قينقاع.

و فيه، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس قال: كلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رؤساءً من أحبار اليهود منهم عبدالله بن سوريا، و كعب بن أسد فقال لهم: يا معشر اليهود اتّقوا الله و أسلموا فوالله إنّكم لتعلمون أنّ الّذي جئتكم به لحقّ فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمّد فأنزل الله فيهم:( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا ) الآية.

أقول: ظاهر الآيات الشريفة على ما تقدّم في البيان السابق و إن كان نزولها

٤٠٤

في اليهود من أهل الكتاب إلّا أنّ ما نقلناه من سبب النزول لا يزيد على أنّه حكم تطبيقيّ كغالب نظائره من الأخبار الحاكية لأسباب النزول، و الله أعلم.

و في تفسير البرهان، عن النعمانيّ بإسناده عن جابر عن الباقرعليه‌السلام في حديث طويل يصف فيه خروج السفيانيّ، و فيه قال: و ينزل أمير جيش السفيانيّ البيداء فينادي مناد من السماء: يا بيداء أبيدي بالقوم فيخسف بهم فلا يفلت منهم إلّا ثلاثة نفر يحوّل الله وجوههم إلى أقفيتهم، و هم من كلب، و فيهم نزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها ) الآية:

أقول: و رواه عن المفيد أيضاً بإسناده عن جابر عن الباقرعليه‌السلام في نظير الخبر في قصّة السفيانيّ.

و في الفقيه، بإسناده عن ثوير عن أبيه: أنّ عليّاًعليه‌السلام قال: ما في القرآن آية أحبّ إليّ من قوله عزّوجلّ:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) .

أقول: و رواه في الدرّ المنثور عن الفاريابيّ و الترمذيّ و حسّنه عن عليّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال لمّا نزلت:( يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ ) الآية فقام رجل فقال: و الشرك يا نبيّ الله؟ فكره ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) الآية.

و فيه، أخرج ابن المنذر عن أبي مجاز قال: لمّا نزلت هذه الآية:( يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا ) الآية قام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال: و الشرك بالله؟ فسكت - مرّتين أو ثلاثاً - فنزلت هذه الآية:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) فاُثبتت هذه في الزمر، و اُثبتت هذه في النساء.

أقول: و قد عرفت فيما تقدّم أنّ آية الزمر ظاهرة بحسب ما تتعقّبه من الآيات في المغفرة بالتوبة، و لا ريب أنّ التوبة يغفر معها كلّ ذنب حتّى الشرك، و أنّ آية النساء موردها غير مورد التوبة فلا تنافي بين الآيتين مضموناً حتّى تكون إحداهما ناسخة أو مخصّصة للاُخرى.

٤٠٥

و في المجمع عن الكلبيّ في الآية: نزلت في المشركين وحشيّ و أصحابه، و ذلك أنّه لمّا قتل حمزة، و كان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك، فلمّا قدم مكّة ندم على صنيعه هو و أصحابه فكتبوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا قد ندمنا على الّذي صنعناه، و ليس يمنعنا عن الإسلام إلّا أنّا سمعناك تقول و أنت بمكّة:( وَ الّذينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الّتي حَرَّمَ الله إلّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ ) الآيتان، و قد دعونا مع الله إلهاً آخر، و قتلنا النفس الّتي حرّم الله، و زنينا، فلو لا هذه لاتّبعناك فنزلت الآية:( إلّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً) الآيتين فبعث بهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وحشيّ و أصحابه، فلمّا قرأهما كتبوا إليه: أنّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً فلا نكون من أهل هذه الآية فنزلت:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ ) الآية فبعث بها إليهم فقرؤوها فبعثوا إليه: إنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزلت:( يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ) جميعاً فبعث بها إليهم فلمّا قرؤوها دخل هو و أصحابه في الإسلام، و رجعوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقبل منهم، ثمّ قال لوحشيّ أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلمّا أخبره قال: ويحك غيّب شخصك عنّي فلحق وحشيّ: بعد ذلك بالشام، و كان بها إلى أن مات.

أقول: و قد ذكر هذه الرواية الرازيّ في تفسيره عن ابن عبّاس‏ و التأمّل في موارد هذه الآيات الّتي تذكر الرواية أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يراجع بها وحشيّاً لا يدع للمتأمّل شكّاً في أنّ الرواية موضوعة قد أراد واضعها أن يقدّر أن وحشيّاً و أصحابه مغفور لهم و إن ارتكبوا من المعاصي كلّ كبيرة و صغيرة فقد التقط آيات كثيرة من مواضع مختلفة من القرآن فالاستثناء من موضع، و المستثنى من موضع مع أنّ كلّاً منها واقعة في محلّ محفوفة بأطراف لها معها ارتباط و اتّصال، و للمجموع سياق لا يحتمل التقطيع و التفصيل فقطّعها ثمّ رتّبها و نضدها نضداً يناسب هذه المراجعة العجيبة بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين وحشيّ.

و لقد أجاد بعض المفسّرين حيث قال بعد الإشارة إلى الرواية: كأنّهم يثبتون أنّ الله سبحانه كان يداعب وحشيّاً.

٤٠٦

فواضع الرواية لم يرد إلّا أن يشرّف وحشيّاً بمغفرة محتومة مختومة لا يضرّه معها أيّ ذنب أذنب و أيّ فظيعة أتى بها، و عقّب ذلك ارتفاع المجازاة على المعاصي، و لازمه ارتفاع التكاليف عن البشر على ما يراه النصرانيّة بل أشنع فإنّهم إنّما رفعوا التكاليف بتفدية مثل عيسى المسيح، و هذا يرفعه اتّباعاً لهوى وحشيّ.

و وحشيّ هذا هو عبد لابن مطعم قتل حمزة باُحد ثمّ لحق مكّة ثمّ أسلم بعد أخذ الطائف، و قال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : غيّب شخصك عنّي فلحق بالشام و سكن حمصاً و اشتغل في عهد عمر بالكتابة في الديوان، ثمّ اُخرج منه لكونه يدمن الخمر، و قد جلد لذلك غير مرّة، ثمّ مات في خلافة عثمان، قتله الخمر على ما روي.

روى ابن عبدالبرّ في الاستيعاب بإسناده عن ابن إسحاق عن عبدالله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن جعفر بن عمرو بن اُميّة الضمريّ قال: خرجت أنا و عبدالله بن عديّ بن الخيار فمررنا بحمص و بها وحشيّ، فقلنا: لو أتيناه و سألناه عن قتله حمزة كيف قتله، فلقينا رجلاً و نحن نسأل عنه فقال: إنّه رجل قد غلبت عليه الخمر فإن تجداه صاحياً تجداه رجلاً عربيّاً يحدّثكما ما شئتما من حديث، و إن تجداه على غير ذلك فانصرفا عنه، قال: فأقبلنا حتّى انتهينا إليه، الحديث‏، و فيه ذكر كيفيّة قتله حمزة يوم اُحد.

و في المجمع، روى مطرف بن شخير عن عمر بن الخطّاب قال: كنّا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا مات الرجل منّا على كبيرة شهدنا بأنّه من أهل النار حتّى نزلت الآية فأمسكنا عن الشهادات.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر من طريق المعتمر بن سليمان عن سليمان بن عتبة البارقيّ قال: حدّثنا إسماعيل بن ثوبان قال: شهدت في المسجد قبل الداء الأعظم فسمعتهم يقولون:( مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً ) إلى آخر الآية فقال المهاجرون و الأنصار: قد أوجب له النار فلمّا نزلت:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) قالوا: ما شاء الله، يصنع الله ما يشاء.

أقول: و روي ما يقرب من الروايتين عن ابن عمر بغير واحد من الطرق، و هذه

٤٠٧

الروايات لا تخلو من شي‏ء فلا نظنّ بعامّة أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجهلوا أنّ هذه الآية:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) لا تزيد في مضمونها على آيات الشفاعة شيئاً كما تقدّم بيانه، أو أن يغفلوا عن أنّ معظم آيات الشفاعة مكّيّة كقوله تعالى في سورة الزخرف:( وَ لا يَمْلِكُ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إلّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦، و مثلها آيات الشفاعة الواقعة في سورة يونس، و الأنبياء، و طه، و سبأ، و النجم، و المدّثّر كلّها آيات مكّيّة تثبت الشفاعة على ما مرّ بيانه، و هي عامّة لجميع الذنوب و مقيّدة في جانب المشفوع له بالدين المرضيّ و هو التوحيد و نفي الشريك و في جانب الله تعالى بالمشيئة، فمحصّل مفادها شمول المغفرة لجميع الذنوب إلّا الشرك على مشيئة من الله، و هذا بعينه مفاد هذه الآية:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) .

و أمّا الآيات الّتي توعد قاتل النفس المحترمة بغير حقّ، و آكل الربا، و قاطع الرحم بجزاء النار الخالد كقوله تعالى:( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جهنّم خالِداً فِيها ) الآية: النساء: ٩٣، و قوله في الربا:( وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٢٧٥، و قوله في قاطع الرحم:( أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) الرعد: ٢٥، و غير ذلك من الآيات فهذه الآيات إنّما توعد بالشرّ و تنبئ عن جزاء النار، و أمّا كونه جزاءً محتوماً لا يقبل التغيير و الارتفاع فلا صراحة لها فيه.

و بالجملة لا يترجّح آية( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ ) على آيات الشفاعة بأمر زائد في مضمونها يمهّد لهم ما ذكروه.

فليس يسعهم أن يفهموا من آيات الكبائر تحتّم النار حتّى يجوز لهم الشهادة على مرتكبها بالنار، و لا يسعهم أن يفهموا من آية المغفرة( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) إلخ أمراً ليس يفتهم من آيات الشفاعة حتّى يوجب لهم القول بنسخها أو تخصيصها أو تقييدها آيات الكبائر.

و يومئ إلى ذلك ما ورد في بعض هذه الروايات، و هو ما رواه في الدرّ المنثور، عن ابن الضريس و أبي يعلى و ابن المنذر و ابن عديّ بسند صحيح عن ابن عمر قال: كنّا

٤٠٨

نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتّى سمعنا من نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) ، و قال: إنّي ادّخرت دعوتي شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي، فأمسكنا عن كثير ممّا كان في أنفسنا ثمّ نطقنا بعد و رجونا.

فظاهر الرواية أنّ الّذي فهموه من آية المغفرة فهموا مثله من حديث الشفاعة لكن يبقى عليه سؤال آخر، و هو أنّه ما بالهم فهموا جواز مغفرة الكبائر من حديث الشفاعة، و لم يكونوا يفهمونه من آيات الشفاعة المكّيّة على كثرتها و دلالتها و طول العهد؟ ما أدري!.

و في الدرّ المنثور، في قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ - إلى قوله -سَبِيلاً ) أخرج البيهقيّ في الدلائل و ابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبدالله قال: لمّا كان من أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان اعتزل كعب بن الأشرف و لحق بمكّة و كان بها، و قال: لا اُعين عليه و لا اُقاتله، فقيل له بمكّة: يا كعب أ ديننا خير أم دين محمّد و أصحابه؟ قال: دينكم خير و أقدم، و دين محمّد حديث، فنزلت فيه:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) الآية.

أقول: و في سبب نزول الآية روايات على وجوه مختلفة أسلمها ما أوردناه غير أنّ الجميع تشترك في أصل القصّة و هو أنّ بعضاً من اليهود حكموا لقريش على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ دينهم خير من دينه.

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( أَمْ يَحسّدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ ) الآية عن الشيخ في أماليه، بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام :( أَمْ يَحسّدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ‏ ) قال: نحن الناس.

و في الكافي، بإسناده عن بريد عن الباقرعليه‌السلام في حديث:( أَمْ يَحسّدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ ) نحن الناس المحسودون، الحديث.

أقول: و هذا المعنى مرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام مستفيضاً بطرق كثيرة مودعة في جوامع الشيعة كالكافي، و التهذيب، و المعاني، و البصائر، و تفسيري القمّيّ و العيّاشيّ، و غيرها.

٤٠٩

و في معناها من طرق أهل السنّة ما عن ابن المغازليّ يرفعه إلى محمّد بن عليّ الباقرعليهما‌السلام في قوله تعالى:( أَمْ يَحسّدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ ) قال: نحن الناس و الله.

و ما في الدرّ المنثور، عن ابن المنذر و الطبرانيّ من طريق عطاء عن ابن عبّاس: في قوله:( أَمْ يَحسّدُونَ النَّاسَ ) قال: نحن الناس دون الناس. و قد روي فيه أيضاً تفسير الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عكرمة و مجاهد و مقاتل و أبي مالك‏، و قد مرّ فيما قدّمناه من البيان: أنّ الظاهر كون المراد بالناس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أهل بيته ملحقون به.

و في تفسير العيّاشيّ، عن حمران عن الباقرعليه‌السلام ( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ ) قال: النبوّة،( وَ الْحِكْمَةَ ) قال: الفهم و القضاء،( و مُلْكاً عَظِيماً ) قال: الطاعة.

أقول: المراد بالطاعة الطاعة المفترضة على ما ورد في سائر الأحاديث، و الأخبار في هذه المعاني أيضاً كثيرة، و في بعضها تفسير الطاعة المفترضة بالإمامة و الخلافة كما في الكافي بإسناده عن بريد عن الباقرعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا بِآياتِنا ) الآية قال: الآيات أميرالمؤمنين و الأئمّةعليهم‌السلام .

أقول: و هو من الجري.

و في مجالس الشيخ، بإسناده عن حفص بن غياث القاضي قال: كنت عند سيّد الجعافرة جعفر بن محمّدعليهما‌السلام لمّا قدمه المنصور فأتاه ابن أبي العوجاء و كان ملحداً فقال: ما تقول في هذه الآية:( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ) ؟ هب هذه الجلود عصت فعذّبت فما بال الغير؟ قال أبوعبداللهعليه‌السلام : ويحك هي هي و هي غيرها، قال: اعقلني هذا القول، فقال له: أ رأيت لو أنّ رجلاً عمد إلى لبنة فكسرها ثمّ صبّ عليها الماء و جبلها ثمّ ردّها إلى هيئتها الاُولى أ لم تكن هي هي و هي غيرها؟ فقال: بلى أمتع الله بك.

أقول: و رواه في الإحتجاج، أيضاً عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام ، و القمّيّ في تفسيره مرسلاً، و يعود حقيقة الجواب إلى أنّ وحدة المادّة محفوظة بوحدة الصورة فبدن الإنسان

٤١٠

كأجزاء بدنه باق على وحدته ما دام الإنسان هو الإنسان و إن تغيّر البدن بأيّ تغيّر حدث فيه.

و في الفقيه، قال: سئل الصادقعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ قال: الأزواج المطهّرة اللّاتي لا يحضن و لا يحدثن.

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ ) الآية عن محمّد بن إبراهيم النعمانيّ بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر محمّد بن عليّعليهما‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تحكّموا بِالْعَدْلِ ) فقال: أمر الله الإمام أن يؤدّي الأمانة إلى الإمام الّذي بعده، ليس له أن يزويها عنه، أ لا تسمع قوله:( وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تحكّموا بِالْعَدْلِ إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ) هم الحكّام يا زرارة، إنّه خاطب بها الحكّام.

أقول: و صدر الحديث مرويّ بطرق كثيرة عنهمعليهم‌السلام ، و ذيله يدلّ على أنّه من باب الجري، و أنّ الآية نازلة في مطلق الحكم و إعطاء ذي الحقّ حقّه فينطبق على مثل ما تقدّم سابقاً.

و في معناه ما في الدرّ المنثور، عن سعيد بن منصور و الفريابيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب قال: حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله و أن يؤدّي الأمانة فإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا له و أن يطيعوا و أن يجيبوا إذا دعوا.

٤١١

( سورة النساء الآيات ٥٩ - ٧٠)

يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيل( ٥٩) أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُروا بِهِ وَيُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُضِلّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيد( ٦٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى‏ مَا أَنْزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنكَ صُدُود( ٦١) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيق( ٦٢) أُولئِكَ الّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغ( ٦٣) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيم( ٦٤) فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيم( ٦٥) وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيت( ٦٦) وَإِذاً لَآتَيْنَاهُم مِن لَدُنّا أَجْراً عَظِيم( ٦٧) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيم( ٦٨) وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَاءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيق( ٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى‏ بِاللّهِ عَلِيم( ٧٠)

( بيان)

الآيات - كما ترى - غير عادمة الارتباط بما تقدّمها من الآيات فإنّ آيات السورة آخذة من قوله تعالى:( وَ اعْبُدُوا الله وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً ) ، كأنّها مسوقة لترغيب الناس

٤١٢

في الإنفاق في سبيل الله، و إقامة صلب طبقات المجتمع و أرباب الحوائج من المؤمنين و ذمّ الّذين يصدّون الناس عن القيام بهذا المشروع الواجب، ثمّ الحثّ على إطاعة الله و إطاعة الرسول و اُولي الأمر، و قطع منابت الاختلاف و التجنّب عن التشاجر و التنازع، و إرجاعه إلى الله و رسوله لو اتّفق، و التحرّز عن النفاق، و لزوم التسليم لأوامر الله و رسوله و هكذا إلى أن تنتهي إلى الآيات النادبة إلى الجهاد المبيّنة لحكمه أو الآمرة بالنفر في سبيل الله، فجميع هذه الآيات مجهزة للمؤمنين للجهاد في سبيل الله، و منظّمة لنظام اُمورهم في داخلهم، و ربّما تخلّلها آية أو آيتان بمنزلة الاعتراض في الكلام لا يخلّ باتّصال الكلام كما تقدّم الإيماء إليه في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى) نساء: ٤٣.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) لمّا فرغ من الندب إلى عبادة الله وحده لا شريك له و بثّ الإحسان بين طبقات المؤمنين و ذمّ من يعيب هذا الطريق المحمود أو صدّ عنه صدوداً عاد إلى أصل المقصود بلسان آخر يتفرّع عليه فروع اُخر، بها يستحكم أساس المجتمع الإسلاميّ و هو التحضيض و الترغيب في أخذهم بالائتلاف و الاتّفاق، و رفع كلّ تنازع واقع بالردّ إلى الله و رسوله.

و لا ينبغي أن يرتاب في أنّ قوله:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) ، جملة سيقت تمهيداً و توطئة للأمر برّد الأمر إلى الله و رسوله عند ظهور التنازع، و إن كان مضمون الجملة أساس جميع الشرائع و الأحكام الإلهيّة.

فإنّ ذلك ظاهر تفريع قوله:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَ الرَّسُولِ ) ، ثمّ العود بعد العود إلى هذا المعنى بقوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ يَزْعُمُونَ ) إلخ، و قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ الله ) إلخ، و قوله:( فَلا وَ ربّك لا يُؤْمِنُونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) إلخ.

و لا ينبغي أن يرتاب في أنّ الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلّا إطاعته في ما يوحيه إلينا من طريق رسوله من المعارف و الشرائع، و أمّا رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فله حيثيّتان: إحداهما: حيثيّة التشريع بما يوحيه إليه ربّه من غير كتاب، و هو ما يبيّنه للناس من

٤١٣

تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب و ما يتعلّق و يرتبط بها كما قال تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتبيّن لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤، و الثانية: ما يراه من صواب الرأي و هو الّذي يرتبط بولايته الحكومة و القضاء قال تعالى:( لِتحكم بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ الله ) النساء: ١٠٥، و هذا هو الرأي الّذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس، و هو الّذي كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحكم به في عزائم الاُمور، و كان الله سبحانه أمره في اتّخاذ الرأي بالمشاورة فقال:( وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتوکّل عَلَى الله ) آل عمران: ١٥٩، فأشركهم به في المشاورة و وحّده في العزم.

إذا عرفت هذا علمت أنّ لإطاعة الرسول معنىّ و لإطاعة الله سبحانه معنى آخر و إن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة لأنّ الله هو المشرّع لوجوب إطاعته كما قال:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ الله ) فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما يبيّنه بالوحي، و فيما يراه من الرأي.

و هذا المعنى (و الله أعلم) هو الموجب لتكرار الأمر بالطاعة في قوله:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) ، لا ما ذكره المفسّرون: أنّ التكرار للتأكيد فإنّ القصد لو كان متعلّقاً بالتأكيد كان ترك التكرار كما لو قيل: و أطيعوا الله و الرسول أدلّ عليه و أقرب منه فإنّه كان يفيد أنّ إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه و أنّ الإطاعتين واحدة، و ما كلّ تكرار يفيد التأكيد.

و أمّا اُولوا الأمر فهم - كائنين من كانوا - لا نصيب لهم من الوحي، و إنّما شأنهم الرأي الّذي يستصوبونه فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم و قولهم، و لذلك لمّا ذكر وجوب الردّ و التسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خصّ الله و الرسول فقال:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، و ذلك أنّ المخاطبين بهذا الردّ هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر الآية:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) ، و التنازع تنازعهم بلا ريب، و لا يجوز أن يفرض تنازعهم مع اُولي الأمر مع افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم، و ليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله في القضيّة المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامّة لمن يرجع

٤١٤

إلى حكم الطاغوت دون حكم الله و رسوله، و هذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبيّنة المقرّرة في الكتاب و السنّة، و الكتاب و السنّة حجّتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما، و قول اُولي الأمر في أنّ الكتاب و السنّة يحكمان بكذا أيضاً حجّة قاطعة فإنّ الآية تقرّر افتراض الطاعة من غير أيّ قيد أو شرط، و الجميع راجع بالآخرة إلى الكتاب و السنّة.

و من هنا يظهر أن ليس لاُولي الأمر هؤلاء - كائنين من كانوا - أن يضعوا حكماً جديداً، و لا أن ينسخوا حكماً ثابتاً في الكتاب و السنّة، و إلّا لم يكن لوجوب إرجاع موارد التنازع إلى الكتاب و السنّة و الردّ إلى الله و الرسول معنى على ما يدلّ عليه قوله:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى الله وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ الله وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً ) الأحزاب: ٣٦، فقضاء الله هو التشريع و قضاء رسوله إمّا ذلك و إمّا الأعمّ، و إنّما الّذي لهم أن يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية، و أن يكشفوا عن حكم الله و رسوله في القضايا و الموضوعات العامّة.

و بالجملة لما لم يكن لاُولي الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع، و لا عندهم إلّا ما لله و رسوله من الحكم أعني الكتاب و السنّة لم يذكرهم الله سبحانه ثانياً عند ذكر الردّ بقوله:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَ الرَّسُولِ ) ، فللّه تعالى إطاعة واحدة، و للرسول و اُولي الأمر إطاعة واحدة، و لذلك قال:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) .

و لا ينبغي أن يرتاب في أنّ هذه الإطاعة المأمور بها في قوله:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) ، إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط، و لا مقيّدة بقيد و هو الدليل على أنّ الرسول لا يأمر بشي‏ء، و لا ينهى عن شي‏ء يخالف حكم الله في الواقعة و إلّا كان فرض طاعته تناقضاً منه تعالى و تقدّس و لا يتمّ ذلك إلّا بعصمة فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و هذا الكلام بعينه جار في اُولي الأمر غير أنّ وجود قوّة العصمة في الرسول لمّا قامت عليه الحجج من جهة العقل و النقل في حدّ نفسه من غير جهة هذه الآية دون اُولي الأمر ظاهراً أمكن أن يتوهّم متوهّم أنّ اُولي الأمر هؤلاء لا يجب فيهم العصمة و لا يتوقّف عليها الآية في استقامة معناها.

٤١٥

بيان ذلك أنّ الّذي تقرّره الآية حكم مجعول لمصلحة الاُمّة يحفظ به مجتمع المسلمين من تسرّب الخلاف و التشتّت فيهم و شقّ عصاهم فلا يزيد على الولاية المعهودة بين الاُمم و المجتمعات، تعطي للواحد من الإنسان افتراض الطاعة و نفوذ الكلمة، و هم يعلمون أنّه ربّما يعصي و ربّما يغلط في حكمه، لكن إذا علم بمخالفته القانون في حكمه لا يطاع فيه، و ينبّه فيما أخطأ، و فيما يحتمل خطأه ينفذ حكمه و إن كان مخطئاً في الواقع و لا يبالي بخطإه فإنّ مصلحة حفظ وحدة المجتمع و التحرّز من تشتّت الكلمة مصلحة يتدارك بها أمثال هذه الأغلاط و الاشتباهات.

و هذا حال اُولي الأمر الواقع في الآية في افتراض طاعتهم فرض الله طاعتهم، على المؤمنين فإن أمروا بما يخالف الكتاب و السنّة فلا يجوز ذلك منهم و لا ينفذ حكمهم‏ لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) و قد روى هذا المعنى الفريقان و به يقيّد إطلاق الآية، و أمّا الخطأ و الغلط فإن علم به ردّ إلى الحقّ و هو حكم الكتاب و السنّة، و إن احتمل خطأه نفذ فيه حكمه كما فيما علم عدم خطإه، و لا بأس بوجوب القبول و افتراض الطاعة فيما يخالف الواقع هذا النوع لأنّ مصلحة حفظ الوحدة في الاُمّة و بقاء السودد و الاُبّهة تتدارك بها هذه المخالفة، و يعود إلى مثل ما تقرّر في اُصول الفقه من حجّيّة الطرق الظاهريّة مع بقاء الأحكام الواقعيّة على حالها، و عند مخالفة مؤدّاها للواقع تتدارك المفسدة اللّازمة بمصلحة الطريق.

و بالجملة طاعة اُولي الأمر مفترضة و إن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق و الخطأ فإن فسقوا فلا طاعة لهم، و إن أخطؤوا ردّوا إلى الكتاب و السنّة إن علم منهم ذلك، و نفذ حكمهم فيما لم يعلم ذلك، و لا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في الواقع دون الظاهر رعاية لمصلحة الإسلام و المسلمين، و حفظاً لوحدة الكلمة.

و أنت بالتأمّل فيما قدّمناه من البيان تعرف سقوط هذه الشبهة من أصله، و ذلك أنّ هذا التقريب من الممكن أن نساعده في تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) و ما يؤدّي هذا المعنى

٤١٦

من الآيات القرآنيّة كقوله:( إِنَّ الله لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) الأعراف: ٢٨، و ما في هذا المعنى من الآيات.

و كذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعاً نظير هذه الحجّيّة الظاهريّة المذكورة كفرض طاعة اُمراء السرايا الّذين كان ينصبهم عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و كذا الحكام الّذين كان يولّيهم على البلاد كمكّة و اليمن أو يخلّفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة، و كحجّيّة قول المجتهد على مقلّده و هكذا لكنّه لا يوجب تقيّد الآية فكون مسألة من المسائل صحيحة في نفسه أمر و كونها مدلولاً عليها بظاهر آية قرآنيّة أمر آخر.

فالآية تدلّ على افتراض طاعة اُولي الأمر هؤلاء، و لم تقيّده بقيد و لا شرط، و ليس في الآيات القرآنيّة ما يقيّد الآية في مدلولها حتّى يعود معنى قوله( وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) إلى مثل قولنا: و أطيعوا اُولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم، و إن علمتم خطأهم فقوّموهم بالردّ إلى الكتاب و السنّة فما هذا معنى قوله:( وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) .

مع أنّ الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة كقوله في الوالدين:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حسناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) الآية: العنكبوت: ٨، فما باله لم يظهر شيئاً من هذه القيود في آية تشتمل على اُسّ أساس الدين، و إليها تنتهي عامّة أعراق السعادة الإنسانيّة.

على أنّ الآية جمع فيها بين الرسول و اُولي الأمر، و ذكر لهما معاً طاعة واحدة فقال:( وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، و لا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم فلو جاز شي‏ء من ذلك على اُولي الأمر لم يسع إلّا أن يذكر القيد الوارد عليهم فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أيّ تقييد، و لازمه اعتبار العصمة في جانب اُولي الأمر كما اعتبر في جانب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير فرق.

ثمّ إنّ المراد بالأمر في اُولي الأمر هو الشأن الراجع إلى دين المؤمنين المخاطبين

٤١٧

بهذا الخطاب أو دنياهم على ما يؤيّده قوله تعالى:( وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) آل عمران: ١٥٩، و قوله في مدح المتّقين:( وَ أَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ ) الشورى: ٣٨، و إن كان من الجائز بوجه أن يراد بالأمر ما يقابل النهي لكنّه بعيد.

و قد قيد بقوله:( مِنْكُمْ ) و ظاهره كونه ظرفاً مستقرّاً أي اُولي الأمر كائنين منكم و هو نظير قوله تعالى:( هُوَ الّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ) الجمعة: ٢، و قوله في دعوة إبراهيم:( ربّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ) البقرة: ١٢٩، و قوله:( رُسُلٌ مِنْكُمْ يقصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ) الأعراف: ٣٥، و بهذا يندفع ما ذكره بعضهم: أنّ تقييد اُولي الأمر بقوله:( مِنْكُمْ ) يدلّ على أنّ الواحد منهم إنسان عاديّ مثلنا و هم منّا و نحن مؤمنون من غير مزيّة عصمة إلهيّة.

ثمّ إنّ اُولي الأمر لمّا كان اسم جمع يدلّ على كثرة جمعيّة في هؤلاء المسمّين باُولي الأمر فهذا لا شكّ فيه لكن يحتمل في بادئ النظر أن يكونوا آحاداً يلي الأمر و يتلبّس بافتراض الطاعة واحد منهم بعد الواحد فينسب افتراض الطاعة إلى جميعهم بحسب اللّفظ، و الأخذ بجامع المعنى، كقولنا: صلّ فرائضك و أطع سادتك و كبراء قومك.

و من عجيب الكلام ما ذكره الرازيّ: أنّ هذا المعنى يوجب حمل الجمع على المفرد، و هو خلاف الظاهر، و قد غفل عن أنّ هذا استعمال شائع في اللّغة، و القرآن ملي‏ء به كقوله تعالى:( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ) القلم: ٨، و قوله:( فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ ) الفرقان: ٥٢، و قوله:( إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا ) الأحزاب: ٦٧، و قوله:( وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ) الشعراء: ١٥١، و قوله:( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ ) البقرة: ٢٣٨، و قوله:( وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الحجر: ٨٨، إلى غير ذلك من الموارد المختلفة بالإثبات و النفي، و الإخبار و الإنشاء.

و الّذي هو خلاف الظاهر من حمل الجمع على المفرد هو أن يطلق لفظ الجمع و يراد به واحد من آحاده لا أن يوقع حكم على الجمع بحيث ينحلّ إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الآحاد، كقولنا: أكرم علماء بلدك أي أكرم هذا العالم، و أكرم ذاك العالم، و هكذا.

٤١٨

و يحتمل أيضاً أن يكون المراد باُولي الأمر - هؤلاء الّذين هم متعلّق افتراض الطاعة - الجمع من حيث هو جمع أي إلهيئة الحاصلة من عدّة معدودة كلّ واحد منهم من اُولي الأمر، و هو أن يكون صاحب نفوذ في الناس، و ذا تأثير في اُمورهم كرؤساء الجنود و السرايا و العلماء و أولياء الدولة، و سراة القوم، بل كما ذكره في المنار هم أهل الحلّ و العقد الّذين تثق بهم الاُمّة من العلماء و الرؤساء في الجيش و المصالح العامّة كالتجارة و الصناعات و الزراعة و كذا رؤساء العمّال و الأحزاب، و مديرو الجرائد المحترمة، و رؤساء تحريرها! فهذا معنى كون اُولي الأمر هم أهل الحلّ و العقد، و هم إلهيّئة الاجتماعيّة من وجوه الاُمّة لكنّ الشأن في تطبيق مضمون تمام الآية على هذا الاحتمال.

الآية دالّة - كما عرفت - على عصمة اُولي الأمر و قد اضطرّ إلى قبول ذلك القائلون بهذا المعنى من المفسّرين.

فهل المتّصف بهذه العصمة أفراد هذه إلهيئة فيكون كلّ واحد واحد منهم معصوماً فالجميع معصوم إذ ليس المجموع إلّا الآحاد؟ لكن من البديهيّ أن لم يمرّ بهذه الاُمّة يوم يجتمع فيه جماعة من أهل الحلّ و العقد كلّهم معصومون على إنفاذ أمر من اُمور الاُمّة و من المحال أن يأمر الله بشي‏ء لا مصداق له في الخارج، أو أنّ هذه العصمة - و هي صفة حقيقيّة - قائمة بتلك إلهيئة قيام الصفة بموصوفها و إن كانت الأجزاء و الأفراد غير معصومين بل يجوز عليهم من الشرك و المعصية ما يجوز على سائر أفراد الناس فالرأي الّذي يراه الفرد يجوز فيه الخطأ و أن يكون داعياً إلى الضلال و المعصية بخلاف ما إذا رأته إلهيئة المذكورة لعصمتها؟ و هذا أيضاً محال و كيف يتصوّر اتّصاف موضوع اعتباريّ بصفة حقيقيّة أعني اتّصاف إلهيئة الاجتماعيّة بالعصمة.

أو أنّ عصمة هذه إلهيئة ليست وصفاً لأفرادها و لا لنفس إلهيئة بل حقيقته أنّ الله يصون هذه إلهيّئة أن تأمر بمعصية أو ترى رأياً فتخطئ فيه، كما أنّ الخبر المتواتر مصون عن الكذب، و مع ذلك ليست هذه العصمة بوصف لكلّ واحد من المخبرين و لا للهيئة الاجتماعيّة بل حقيقته أنّ العادة جارية على امتناع الكذب فيه، و بعبارة

٤١٩

اُخرى هو تعالى يصون الخبر الّذي هذا شأنه عن وقوع الخطإ فيه و تسرّب الكذب عليه، فيكون رأي اُولي الأمر ممّا لا يقع فيه الخطأ البتّة و إن لم يكن آحادهم و لا هيئتهم متّصفة بصفة زائدة بل هو كالخبر المتواتر مصون عن الكذب و الخطإ و ليكن هذا معنى العصمة في اُولي الأمر، و الآية لا تدلّ على أزيد من أنّ رأيهم غير خابط بل مصيب يوافق الكتاب و السنّة، و هو من عناية الله على الاُمّة، و قد روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: لا تجتمع اُمّتي على خطإ.

أمّا الرواية فهي أجنبيّة عن المورد فإنّها إن صحّت فإنّما تنفي اجتماع الاُمّة على خطإ، و لا تنفي اجتماع أهل الحلّ و العقد منهم على خطإ، و للاُمّة معنى و لأهل الحلّ و العقد معنى آخر، و لا دليل على إرادة معنى الثاني من لفظ الأوّل، و كذا لا تنفي الخطأ عن اجتماع الاُمّة بل تنفي الاجتماع على خطإ، و بينهما فرق.

و يعود معنى الرواية إلى أنّ الخطأ في مسألة من المسائل لا يستوعب الاُمّة بل يكون دائماً فيهم من هو على الحقّ: أمّا كلّهم أو بعضهم و لو معصوم واحد، فيوافق ما دلّ من الآيات و الروايات على أنّ دين الإسلام و ملّة الحقّ لا يرتفع من الأرض بل هو باق إلى يوم القيامة، قال تعالى:( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) الأنعام:٨٩، و قوله:( وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) الزخرف: ٢٨، و قوله:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الحجر: ٩، و قوله:( وَ أنّه لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) فصّلت: ٤٢، إلى غير ذلك من الآيات.

و ليس يختصّ هذا باُمّة محمّد بل الصحيح من الروايات تدلّ على خلافه، و هي الروايات الواردة من طرق شتّى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدالّة على افتراق اليهود على إحدى و سبعين فرقة و النصارى على اثنتين و سبعين فرقة، و المسلمين على ثلاث و سبعين فرقة كلّهم هالك إلّا واحدة، و قد نقلنا الرواية في المبحث الروائيّ الموضوع في ذيل قوله تعالى:( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جميعاً ) آل عمران: ١٠٣.

و بالجملة لا كلام على متن الرواية إن صحّ سندها فإنّها أجنبيّة عن مورد الكلام،

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458