الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134556 / تحميل: 6222
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الآيتين أعني قوله:( وَ ما محمّد إلّا رَسُولٌ ) الآية، و قوله:( وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ الله ) الآية، و لم يذكر ما يجازيهم به في شي‏ء من الموردين إشعاراً بعظمته و نفاسته.

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ الله كِتاباً مُؤَجَّلًا ) إلخ تعريض لهم في قولهم عن إخوانهم المقتولين ما يشير إليه قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالّذينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا ) الآية، و قول طائفة منهم:( لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ما قُتِلْنا ههنا ) الآية، و هؤلاء من المؤمنين غير المنافقين الّذين تركوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قعدوا عن القتال.

فهذا القول منهم لازمه أن لا يكون موت النفوس بإذن من الله و سنّة محكمة تصدر عن قضاء مبرم، و لازمه بطلان الملك الإلهيّ و التدبير المتقن الربّانيّ و سيجي‏ء إن شاء الله الكلام في معنى كتابة الآجال في أوّل سورة الأنعام.

و لما كان لازم هذا القول ممّن قال به أنّه آمن لظنّه أنّ الأمر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و للمؤمنين فقد أراد الدنيا كما مرّ بيانه و من اجتنب هذا فقد أراد الآخرة فقال تعالى:( وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها ) ، و إنّما قال:( نُؤْتِهِ مِنْها ) و لم يقل: نؤتها لأنّ الإرادة ربّما لا توافق تمام الأسباب المؤدّية إلى تمام مراده فلا يرزق تمام ما أراده، و لكنّها لا تخلو من موافقة ما للأسباب في الجملة دائماً فإن وافق الجميع رزق الجميع و إن وافق البعض رزق البعض فحسب، قال الله تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثمّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) الإسراء: ١٩ و قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إلّا ما سَعى) : النجم: ٣٩.

ثمّ خصّ الشاكرين بالذكر بإخراجهم من الطائفتين فقال:( وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) و ليس إلّا لأنّهم لا يريدون إلّا وجه الله لا يشتغلون بدنيا و لا آخرة كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ) إلى آخر الآيات كأيّن كلمة تكثير و كلمة( من ) بيانيّة و الربيّون جمع ربّيّ و هو كالربّانيّ من اختصّ بربّه تعالى فلم يشتغل بغيره، و قيل: المراد به الاُلوف و الربّيّ الألف، و الاستكانة هي التضرّع.

٤١

و في الآية موعظة و اعتبار مشوب بعتاب و تشويق للمؤمنين أن يأتمّوا بهؤلاء الربّيّين فيؤتيهم الله ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة كما آتاهم، و يحبّهم لإحسانهم كما أحبّهم لذلك.

و قد حكى الله من فعلهم و قولهم ما للمؤمنين أن يعتبروا به و يجعلوه شعاراً لهم حتّى لا يبتلوا بما ابتلوا به يوم اُحد من الفعل و القول غير المرضيّين لله تعالى و حتّى يجمع الله لهم ثواب الدنيا و الآخرة كما جمع لاُولئك الربّيّين.

و قد وصف ثواب الآخرة بالحسن دون الدنيا إشارة إلى ارتفاع منزلتها و قدرها بالنسبة إليها.

٤٢

( سورة آل عمران الآيات ١٤٩ - ١٥٥)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ( ١٤٩) بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ( ١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِمِينَ( ١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتّى‏ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَا تُحِبّونَ مِنكُم مَن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ( ١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى‏ أَحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلى‏ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( ١٥٣) ثُمّ أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُعَاسَاً يَغْشَى‏ طَائِفَةً مِنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ يَقُولُونَ هَل لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَي‏ءٍ قُلْ إِنّ الأَمْرَ كُلّهُ للّهِ‏ِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَي‏ءٌ مَا قُتِلْنَا هاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى‏ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ( ١٥٤) إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ( ١٥٥)

٤٣

( بيان)

من تتمّة الآيات النازلة في خصوص غزوة اُحد، و فيها حثّ و ترغيب للمؤمنين أن لا يطيعوا غير ربّهم فإنّه هو مولاهم و ناصرهم، و إشهاد لهم على صدق وعده و أنّ الهزيمة و الخذلان لم يكن يوم اُحد إلّا من قبل أنفسهم، و تعدّيهم حدود ما أمرهم الله به و دعاهم رسوله إليه و أنّ الله سبحانه مع ذلك عفا عن جرائمهم لأنّه غفور حليم.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الّذينَ كَفَرُوا ) إلى آخر الآيتين لا يبعد أن يستفاد من السياق أنّ الكفّار كانوا أيّام نزول الآيات بعد غزوة اُحد يلقون إلى المؤمنين - في صورة النصح - ما يثّبطهم عن القتال، و يلقي التنازع و التفرقة و تشتّت الكلمة و اختلافها بينهم، و ربّما أيّده ما في آخر هذه الآيات من قوله:( الّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ - إلى أن قال -ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) الآيات آل عمران: ١٧٣ - ١٧٥.

و ربّما قيل: إنّ الآية إشارة إلى قول اليهود و المنافقين يوم اُحد:( إنّ محمّداً قد قتل فارجعوا إلى عشائركم) ، و ليس بشي‏ء.

ثمّ لمّا بيّن أنّ إطاعتهم للّذين كفروا و الميل إلى ولايتهم يهديهم إلى الخسران الّذي هو رجوعهم إلى أعقابهم كافرين أضرب عنه بقوله:( بَلِ الله مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) .

قوله تعالى: ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِالله ) إلخ وعد جميل للمؤمنين بأنّهم سينصرون بالرعب، و لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذكره فيما حباه الله تعالى و خصّه به من بين الأنبياء على ما رواه الفريقان.

و قوله:( بِما أَشْرَكُوا ) ، معناه: اتّخذوا له ما ليس معه برهان شريكاً، و ممّا يكرّره القرآن أن ليس لإثبات الشريك لله سلطان، و من إثبات الشريك نفي الصانع و إسناد التأثير و التدبير إلى غيره كالدهر و المادّة.

٤٤

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحسّونَهُمْ ) إلى آخر الآية الحسّ - بالفتح -: القتل على وجه الاستيصال.

و لقد اتّفقت الروايات و ضبطه التاريخ في قصّة غزوة اُحد أنّ المؤمنين غلبوهم و ظهروا عليهم في أوّل الأمر و وضعوا فيهم السيوف و شرعوا في نهب أموالهم حتّى إذا خلّى الرماة مكانهم في المكمن حمل خالد بن الوليد فيمن معه على عبدالله بن جبير و من بقي معه من الرماة فقتلوهم، و حملوا على المؤمنين من ورائهم، و تراجع المشركون عن هزيمتهم و وضعوا السيوف في أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قتلوا منهم سبعين ثمّ هزموهم أشدّ هزيمة.

فقوله تعالى:( وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ ) ، تثبيت صدق وعده بالنصر بشرط التقوى و الصبر، و قوله:( إِذْ تَحسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ) ، يقبل الانطباق على ما رزقهم في أوّل الأمر من الظهور على عدوّهم يوم اُحد، و قوله:( حتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ ) ، ينطبق على ما صنعه الرماة حيث تنازعوا فيما بينهم في ترك مراكزهم و اللّحوق بمن مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنيل الغنيمة ففشلوا و تنازعوا في الأمر و عصوا أمر النبيّ بأن لا يتركوا مراكزهم على أيّ حال، و على هذا فلا بدّ من تفسير الفشل بضعف الرأي، و أمّا كونه بمعنى الجبن فلا ينطبق عليهم إذ لم يكن ذلك منهم جبناً بل طمعاً في الغنيمة، و لو كان الفشل بمعنى الجبن كان منطبقاً على حال جميع القوم و يكون على هذا( ثمّ ) في قوله:( ثمّ صَرَفَكُمْ ) ، مفيدة للتراخي الرتبيّ دون الزمانيّ.

و يدلّ لفظ التنازع على أنّ الكلّ لم يكونوا مجمعين على الفشل و المعصية بل كان بعضهم يصرّ على الإطاعة و البقاء على الائتمار و لذا قال تعالى بعده:( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) .

قوله تعالى: ( ثمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ) ، أي كفّكم عن المشركين بعد ظهور الفشل و التنازع و المعصية، و بالجملة بعد وقوع الاختلاف بينكم ليمتحنكم و يختبر إيمانكم و صبركم في الله إذ الاختلاف في القلوب هو أقوى العوامل المقتضية لبسط

٤٥

الابتلاء ليتميّز المؤمن من المنافق، و المؤمن الراسخ في إيمانه الثابت على عزيمته من المتلوّن السريع الزوال، و مع ذلك فإنّ الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ) .

قوله تعالى: ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى‏ أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) الإصعاد هو الذهاب و الإبعاد في الأرض بخلاف الصعود فهو الارتقاء إلى مكان عال يقال: أصعد في جانب البرّ أي ذهب فيه بعيداً، و صعد في السلّم أي ارتقى، و قيل: إنّ الإصعاد ربّما استعمل بمعنى الصعود.

و الظرف متعلّق بمقدّر أي اذكروا إذ تصعدون، أو بقوله: صَرَفَكُمْ، أو بقوله لِيَبْتَلِيَكُمْ، - على ما قيل - و قوله: وَ لا تَلْوُونَ، من اللّيّ بمعنى الالتفات و الميل قال في المجمع: و لا يستعمل إلّا في النفي لا يقال: لويت على كذا، انتهى.

و قوله:( وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) ، الاُخرى مقابل الاُولى و كون الرسول يدعو و هو في اُخراهم يدلّ على أنّهم تفرّقوا عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هم سواد ممتدّ على طوائف اُوليهم مبتعدون عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اُخراهم بقرب منه، و هو يدعوهم من غير أن يلتفت إليه لا اُولاهم و لا اُخراهم فتركوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين جموع المشركين و هم يصعدون فراراً من القتل.

نعم قوله تعالى قبيل هذا:( وَ سَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ ) - و قد مرّ تفسيره - يدلّ على أنّ منهم من لم يتزلزل في عزيمته و لم ينهزم لا في أوّل الانهزام، و لا بعد شيوع خبر قتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما يدلّ عليه قوله:( أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ) الآية.

و ممّا يدلّ عليه قوله:( وَ لا تَلْوُونَ عَلى‏ أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) إنّ خبر قتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما انتشر بينهم بعد انهزامهم و إصعادهم.

قوله تعالى: ( فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ ) إلخ أي جازاكم غمّاً بغمّ ليصرفكم عن الحزن على كذا، و هذا الغمّ الّذي اُثيبوا به كيفما كان هو نعمة منه تعالى بدليل قوله:( لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ ) ، فإنّ الله تعالى ذمّ في كتابه هذا الحزن كما قال:( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ ) الحديد: ٢٣

٤٦

فهذا الغمّ الّذي يصرفهم عن ذاك الحزن المذموم نعمة و موهبة فيكون هو الغمّ الطارئ عليهم من جهة الندامة على ما وقع منهم و التحسّر على ما فاتهم من النصر بسبب الفشل، و يكون حينئذ الغمّ الثاني في قوله: بِغَمٍّ، الغمّ الآتي من قبل الحزن المذكور، و الباء للبدليّة، و المعنى: جازاكم غمّاً بالندامة و الحسرة على فوت النصر بدل غمّ بالحزن على ما فاتكم و ما أصابكم.

و من الجائز أن يكون قوله: فَأَثابَكُمْ مضمّناً معنى الإبدال فيكون المعنى: فأبدلكم غمّ الحزن من غمّ الندامة و الحسرة مثيباً لكم، فينعكس المعنى في الغمّين بالنسبة إلى المعنى السابق.

و على كلّ من المعنيين يكون قوله: فَأَثابَكُمْ، تفريعاً على قوله:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ) ، و يتّصل به ما بعده أعني قوله:( ثمّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ ) ، أحسن اتّصال، و الترتيب: أنّه عفا عنكم فأثابكم غمّاً بغمّ ليصونكم عن الحزن الّذي لا يرتضيه لكم ثمّ أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنة نعاساً.

و ههنا وجه آخر يساعده ظهور السياق في تفريع قوله: فَأَثابَكُمْ، على ما يتّصل به بمعنى أن يكون الغمّ هو ما يتضمّنه قوله: إِذْ تُصْعِدُونَ، و المراد بقوله: بِغَمٍّ هو ما أدّى إليه التنازع و المعصية و هو إشراف المشركين عليهم من ورائهم، و الباء للسببيّة و هذا معنى حسن، و على هذا يكون المراد بقوله:( لِكَيْلا تَحْزَنُوا ) إلخ: نبيّن لكم حقيقة الأمر لئلّا تحزنوا، كما في قوله تعالى:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إلّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) الآية الحديد: ٢٣.

فهذا ما يستقيم به نظم الآية و اتّساق الجمل المتعاقبة، و للمفسّرين احتمالات كثيرة في الآية من حيث ما عطف عليه قوله: فَأَثابَكُمْ، و من حيث معنى الغمّ الأوّل و الثاني و معنى الباء و معنى قوله: لِكَيْلا، ليست من الاستقامة على شي‏ء و لا جدوى في نقلها و البحث عنها.

و على ما احتملناه من أحد معنيين يكون المراد ممّا فات في قوله:( لِكَيْلا تَحْزَنُوا

٤٧

عَلى‏ ما فاتَكُمْ ) هو الغلبة و الغنيمة، و ممّا أصاب ما أصاب القوم من القتل و الجرح.

قوله تعالى: ( ثمّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى‏ طائِفَةً مِنْكُمْ ) الأمنة بالتحريك الأمن، و النعاس ما يتقدّم النوم من الفتور و هو نوم خفيف، و نعاساً بدل من أمنة للملازمة عادة، و ربّما احتمل أن يكون أمنة جمع آمن كطالب و طلبة، و هو حينئذ حال من ضمير عليكم، و نعاساً مفعول قوله: أنزل، و الغشيان: الإحاطة.

و الآية تدلّ على أنّ هذا النعاس النازل إنّما غشي طائفة من القوم، و لم يعمّ الجميع بدليل قوله: طائِفَةً مِنْكُمْ، و هؤلاء هم الّذين رجعوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الانهزام و الإصعاد لما ندموا و تحسّروا، و حاشا أن يعفو الله عنهم عفو رحمة و هم في حال الفرار عن الزحف و هو من كبائر المعاصي و الآثام و قد قال:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ الله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) ، و حاشا أن تشمل عنايته تعالى على مقترف الفحشاء و المنكر حين يقترف من قبل أن يتوب و قد عنى في حقّهم حين أثابهم غمّاً بغمّ لكيلا يحزنوا فيتقذّر قلوبهم بما لا يرتضيه الله سبحانه على ما مرّ بيانه.

فهؤلاء بعض القوم و هم النادمون على ما فعلوا الراجعون إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحتفّون به، و كأنّ ذلك إنّما كان حين فارقصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جموع المشركين و عاد إلى الشعب، و إن كان عودهم إليه تدريجاً بعد العلم بأنّه لم يقتل.

و أمّا البعض الآخر من القوم فهم الّذين يذكرهم الله بقوله:( وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) .

قوله تعالى: ( وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) هذه طائفة اُخرى من المؤمنين و نعني بكونهم من المؤمنين أنّهم غير المنافقين الّذين ذكرهم الله أخيراً بقوله:( وَ لِيَعْلَمَ الّذينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ ) الآية و هم الّذين فارقوا جماعة المؤمنين في أوّل الأمر قبل القتال و انخذلوا فهؤلاء المنافقون لهم شأن آخر سينبّئ الله بذلك.

و هؤلاء الطائفة الثانية الموصوفون بأنّهم قد أهمّتهم أنفسهم لم يكرمهم الله بما أكرم به الطائفة الاُولى من العفو و إثابة الغمّ ثمّ الأمنة و النعاس بل وكلهم إلى أنفسهم فأهمّتهم أنفسهم و نسوا كلّ شي‏ء دونها.

٤٨

و قد ذكر الله تعالى من أوصافهم وصفين اثنين و إن كان أحدهما من لوازم الآخر و فروعه، فذكر أنّهم أهمّتهم أنفسهم، و ليس معناه أنّهم يريدون سعادة أنفسهم بمعناها الحقيقيّ فإنّ المؤمنين أيضاً لا يريدون إلّا سعادة أنفسهم فالإنسان بل كلّ ذي همامة و إرادة لا يريد إلّا نفسه البتّة، بل المراد: أن ليس لهم همّ إلّا حفظ حياتهم الدنيا و عدم الوقوع في شبكة القتل فهم لا يريدون بدين أو غيره إلّا إمتاع أنفسهم في الدنيا و إنّما ينتحلون بالدين ظنّاً منهم أنّه عامل غير مغلوب، و أنّ الله لا يرضى بظهور أعدائه عليه، و إن كانت الأسباب الظاهريّة لهم فهؤلاء يستدرّون الدين ما درّ لهم، و إن انقلب الأمر و لم يسعدهم الجدّ انقلبوا على أعقابهم القهقرى.

قوله تعالى: ( يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الحقّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ) إلى قوله:( بِالله ) أي ظنّوا بالله أمراً ليس بحقّ بل هو من ظنون الجاهليّة فهم يصفونه بوصف ليس بحقّ بل من الأوصاف الّتي كان يصفه بها أهل الجاهليّة، و هذا الظنّ أيّاً ما كان هو شي‏ء يناسبه و يلازمه قولهم:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، و يكشف عنه ما أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم به، و هو قوله:( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله ) فظاهر هذا الجواب أنّهم كانوا يظنّون أنّ بعض الأمر لهم و لذا لمّا غلبوا و فشي فيهم القتل تشكّكوا فقالوا:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) .

و بذلك يظهر أنّ الأمر الّذي كانوا يرونه لأنفسهم هو الظهور و الغلبة، و إنّما كانوا يظنّونه لأنفسهم من جهة إسلامهم فهم قد كانوا يظنّون أنّ الدين الحقّ لا يُغلب و لا يُغلب المتديّن به لما أنّ على الله أن ينصره من غير قيد و شرط و قد وعدهم به.

و هذا هو الظنّ بغير الحقّ، الّذي هو ظنّ الجاهليّة فإنّ وثنيّة الجاهليّة كانت تعتقد أنّ الله تعالى خالق كلّ شي‏ء و أنّ لكلّ صنف من أصناف الحوادث كالرزق و الحياة و الموت و العشق و الحرب و غيرها، و كذا لكلّ نوع من الأنواع الكونيّة كالإنسان و الأرض و البحار و غيرها ربّاً يدبّر أمرها لا يغلب على إرادته، و كانوا يعبدون هؤلاء الأرباب ليدرّوا لهم الرزق، و يجلبوا لهم السعادة، و يقوهم من الشرور و البلايا، و الله سبحانه كالملك العظيم يفوّض كلّ صنف من أصناف رعيّته و كلّ شطر من أشطار ملكه إلى وال تامّ الاختيار له أن يفعل ما يشاؤه في منطقة نفوذه و حوزة ولايته.

٤٩

و إذا ظنّ الظانّ أن الدين الحقّ لا يصير مغلوباً في ظاهر تقدّمه و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو أوّل من يتحمّله من ربّه و يحمل أثقاله - لا يقهر في ظاهر دعوته أو أنّه لا يقتل أو لا يموت فقد ظنّ بالله غير الحقّ ظنّ الجاهليّة فاتّخذ لله أنداداً، و جعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّاً وثنيّاً مفوّضاً إليه أمر الغلبة و الغنيمة، مع أنّ الله سبحانه واحد لا شريك له، إليه يرجع الأمر كلّه و ليس لأحد من الأمر شي‏ء، و لذلك لمّا قال تعالى فيما تقدّم من الآيات:( لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الّذينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ ) ، قطع الكلام بالاعتراض فقال - يخاطب نبيّه -:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ) لئلّا يتوهّم أن لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخلاً في قطع أو كبت، و الله سبحانه هو الّذي وضع سنّة الأسباب و المسبّبات، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحقّ و الباطل، و الخير و الشرّ، و الهداية و الضلالة، و العدل و الظلم، و لا فرق فيه بين المؤمن و الكافر، و المحبوب و المبغوض، و محمّد و أبي سفيان.

نعم لله سبحانه عناية خاصّة بدينه و بأوليائه يجري نظام الكون بسببها جرياً ينجرّ إلى ظهور الدين و تمهّد الأرض لأوليائه و العاقبة للمتّقين.

و أمر النبوّة و الدعوة ليس بمستثنى من هذه السنّة الجارية، و لذلك كلّما توافقت الأسباب العاديّة على تقدّم هذا الدين و ظهور المؤمنين كبعض غزوات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ذلك، و حيث لم يتوافق الأسباب كتحقّق نفاق أو معصية لأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو فشل أو جزع كانت الغلبة و الظهور للمشركين على المؤمنين، و كذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع الناس فإنّ أعداء الأنبياء لكونهم أهل الدنيا، و قصرهم مساعيهم في عمارة الدنيا، و بسط القدرة، و تشديد القوّة، و جمع الجموع كانت الغلبة الظاهريّة و الظهور لهم على الأنبياء، فمن مقتول كزكريّا، و مذبوح كيحيى، و مشرّد كعيسى إلى غير ذلك.

نعم إذا توقّف ظهور الحقّ بحقّانيّته على انتقاض نظام العادة دون السنّة الواقعيّة و بعبارة اُخرى دار أمر الحقّ بين الحياة و الموت كان على الله سبحانه أن يقيم صلب الدين و لا يدعه تدحض حجّته، و قد مرّ شطر من هذا البحث في القول على

٥٠

الإعجاز في الجزء الأوّل من الكتاب، و في الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.

و لنرجع إلى ما كنّا فيه: فقول هؤلاء الطائفة الّذين أهمّتهم أنفسهم:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، تشكّك في حقّيّة الدين و قد أدرجوا في هيكله روح الوثنيّة على ما مرّ بيانه، فأمر سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم فقال:( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله ) ، و قد خاطب نبيّه قبل ذلك بقوله:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ) فبيّن بذلك أنّ ملّة الفطرة و دين التوحيد هو الّذي لا يملك فيه الأمر إلّا الله جلّ شأنه، و باقي الأشياء و منها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليست بمؤثّرة شيئاً بل هي في حيطة الأسباب و المسبّبات و السنّة الإلهيّة الّتي تؤدّي إلى جريان ناموس الابتلاء و الامتحان.

قوله تعالى: ( يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ ) إلخ، و هذا توصيف لهم بما هو أشدّ من قولهم:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، فإنّه كان تشكيكاً في صورة السؤال، و هذا أعني قولهم:( لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ما قُتِلْنا ) ههنا ترجيح في هيئة الاستدلّال، و لذلك أبدوا قولهم الأوّل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخفوا قولهم الثاني لاشتماله على ترجيح الكفر على الإسلام.

فأمر الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم فقال:( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى‏ مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ الله ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ) ، فبيّن لهم:

أوّلاً: أنّ قتل من قتل منكم في المعركة ليس لعدم كونكم على الحقّ، و عدم كون الأمر لكم على ما تزعمون بل لأنّ القضاء الإلهيّ و هو الّذي لا مناص من نفوذه و مضيّه جرى على أن يضطجع هؤلاء المقتولون في هذه المضاجع، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فلا مفرّ من الأجل المسمّى الّذي لا تستأخرون عنه ساعة و لا تستقدمون.

و ثانياً : أنّ سنّة الله جرت على عموم الابتلاء و التمحيص و هي واقعة بهم و بكم لا محالة، فلم يكن بدّ من خروجكم و وقوع هذا القتال حتّى يحلّ المقتولون محلّهم

٥١

و ينالوا درجاتهم، و تحلّوا أنتم محلّكم فيتعيّن لكم أحد جانبي السعادة و الشقاوة بامتحان ما في صدوركم من الأفكار، و تخليص ما في قلوبكم من الإيمان و الشرك.

و من عجيب ما ذكر في هذه الآية قول عدّة من المفسّرين أنّ المراد بهذه الطائفة الّتي تشرح الآية حالها هم المنافقون مع ظهور سياق الآيات في أنّها تصف حال المؤمنين، و أمّا المنافقون أعني أصحاب عبدالله بن اُبيّ المنخذلين في أوّل الوقعة قبل وقوع القتال فإنّما يتعرّض لحالهم فيما سيأتي.

اللّهمّ إلّا أن يريدوا بالمنافقين الضعفاء الإيمان الّذين يعود عقائدهم المتناقضة بحسب اللّازم إلى إنكار الحقّ قلباً و الاعتراف به لساناً و هم الّذين يسمّيهم الله بالّذين في قلوبهم مرض قال تعالى:( إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الّذينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ) الأنفال: ٤٩، و قال:( وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) التوبة: ٤٧، أو يريدوا أنّ جميع المنافقين لم يرجعوا مع أصحاب عبدالله بن اُبيّ إلى المدينة.

و أعجب منه قول بعض آخر أنّ هذه الطائفة كانوا مؤمنين، و أنّهم كانوا يظنّون أنّ أمر النصر و الغلبة إليهم لكونهم على دين الله الحقّ لما رأوا من الفتح و الظفر و نزول الملائكة يوم بدر فقولهم:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، و قولهم:( لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ) إلخ اعتراف منهم بأنّ الأمر إلى الله لا إليهم و إلّا لم يستأصلهم القتل.

و يرد عليه عدم استقامة الجواب حينئذ و هو قوله تعالى:( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله ) ، و قوله:( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ) إلخ، و قد أحسّ بعض هؤلاء بهذا الإشكال فأجاب عنه بما هو أردأ من أصل كلامه و قد عرفت ما هو الحقّ من المعنى.

قوله تعالى: ( إِنَّ الّذينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إنّما اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا ) استزلال الشيطان إيّاهم إرادته وقوعهم في الزلّة، و لم يرد ذلك منهم إلّا بسبب بعض ما كسبوا في نفوسهم و من أعمالهم فإنّ السيّئات يهدي بعضها إلى بعض فإنّها مبنيّة على متابعة هوى النفس، و هوى النفس للشي‏ء هوى لما يشاكله.

و أمّا احتمال كون الباء للآلة و كون ما كسبوا عين تولّيهم يوم الالتقاء فبعيد

٥٢

من ظاهر اللّفظ فإنّ ظاهر( ما كَسَبُوا ) تقدّم الكسب على التولّي و الاستزلال.

و كيف كان فظاهر الآية أنّ بعض ما قدّموا من الذنوب و الآثام مكّن الشيطان أن أغواهم بالتولّي و الفرار، و من هنا يظهر أنّ احتمال كون الآية ناظرة إلى نداء الشيطان يوم اُحد بقتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما في بعض الروايات ليس بشي‏ء إذ لا دلالة عليه من جهة اللّفظ.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ ) هذا العفو هو عن الّذين تولّوا، المذكورين في صدر الآية، و الآية مطلقة تشمل جميع من تولّى يومئذ فتعمّ الطائفتين جميعاً أعني الطائفة الّتي غشيهم النعاس و الطائفة الّتي أهمّتهم أنفسهم، و الطائفتان مختلفتان بالتكرّم بإكرام الله و عدمه، و لكونهما مختلفتين لم يذكر مع هذا العفو الشامل لهما معاً جهات الإكرام الّتي اشتمل عليها العفو المتعلّق بالطائفة الاُولى على ما تقدّم بيانه.

و من هنا يظهر أنّ هذا العفو المذكور في هذه الآية غير العفو المذكور في قوله:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ) ، و من الدليل على اختلاف العفوين ما في الآيتين من اختلاف اللّحن ففرق واضح بين قوله تعالى:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ الله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) حيث أنّه كلام مشعر بالفضل و الرأفة و قد سمّاهم مؤمنين ثمّ ذكر إثابتهم غمّاً بغمّ لكيلا يحزنوا ثمّ إنزاله عليهم أمنةً نعاساً، و بين قوله تعالى:( وَ لَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ ) حيث ذكر العفو و سكت عن جميع ما أكرم الطائفة الاُولى به ثمّ ختم الكلام بذكر حلمه و هو أن لا يعجّل في العقوبة و العفو الّذي مع الحلم إغماض مع استبطان سخط.

فإن قلت: إنّما سوّى بين الطائفتين من سوّى بينهما لمكان ورود العفو عنهما جميعاً.

قلت: معنى العفو مختلف في الموردين بحسب المصداق و إن صدق على الجميع مفهوم العفو على حدّ سواء، و لا دليل على كون العفو و المغفرة و ما يشابههما في جميع الموارد سنخاً واحداً، و قد بينا وجه الاختلاف.

٥٣

( معنى العفو و المغفرة في القرآن)

العفو على ما ذكره الراغب - و هو المعنى المتحصّل من موارد استعمالاته - هو القصد لتناول الشي‏ء، يقال: عفاه و اعتفاه أي قصده متناولاً ما عنده، و عفت الريح الدار قصدتها متناولة آثارها، انتهى و كأنّ قولهم: عفت الدار إذ بلت مبنيّ على عناية لطيفة و هي أنّ الدار كأنّها قصدت آثار نفسها و ظواهر زينتها فأخذته فغابت عن أعين الناظرين، و بهذه العناية ينسب العفو إليه تعالى كأنّه تعالى يعني بالعبد فيأخذ ما عنده من الذنب و يتركه بلا ذنب.

و من هنا يظهر أنّ المغفرة - و هو الستر - متفرّع عليه بحسب الاعتبار فإنّ الشي‏ء كالذنب مثلاً يؤخذ و يتناول أوّلاً ثمّ يستر عليه فلا يظهر ذنب المذنب لا عند نفسه و لا عند غيره، قال تعالى:( وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا ) البقرة: ٢٨٦ و قال:( وَ كانَ الله عَفُوًّا غَفُوراً ) النساء: ٩٩.

و قد تبيّن بذلك أنّ العفو و المغفرة و إن كانا مختلفين متفرّعاً أحدهما على الآخر بحسب العناية الذهنيّة لكنّهما بحسب المصداق واحد، و أنّ معناهما ليس من المعاني المختصّة به تعالى بل يصحّ إطلاقهما على غيره تعالى بما لهما من المعنى كما قال تعالى:( إلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الّذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) البقرة: ٢٣٧، و قال تعالى:( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّام الله ) الجاثية: ١٤، و قال تعالى:( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) الآية فأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعفوا عنهم فلا يرتّب الأثر على معصيتهم من المؤاخذة و العتاب و الإعراض و نحو ذلك، و أن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم - و هو تعالى فاعله لا محالة - فيما يرجع إليه من آثار الذنب.

و قد تبيّن أيضاً أنّ معنى العفو و المغفرة يمكن أن يتعلّق بالآثار التكوينيّة و التشريعيّة و الدنيويّة و الاُخرويّة جميعاً، قال تعالى:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠، و الآية شاملة للآثار و العواقب الدنيويّة

٥٤

قطعاً، و مثله قوله تعالى:( وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ ربّهم وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) الشورى: ٥، على ظاهر معناه، و كذا قول آدم و زوجته فيما حكاه الله عنهما:( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) الأعراف: ٢٣ بناء على أنّ ظلمهما كان معصية لنهي إرشاديّ لا مولويّ.

و الآيات الكثيرة القرآنيّة دالّة على أنّ القرب و الزلفى من الله، و التنعّم بنعم الجنّة يتوقّف على سبق المغفرة الإلهيّة و إزالة رين الشرك و الذنوب بتوبة و نحوها كما قال تعالى:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) المطفّفين: ١٤ و قال تعالى:( وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ‏ ) التغابن: ١١.

و بالجملة العفو و المغفرة من قبيل إزالة المانع و رفع المنافي المضادّ، و قد عدّ الله سبحانه الإيمان و الدار الآخرة حياة، و آثار الإيمان و أفعال أهل الآخرة و سيرهم الحيويّ نوراً كما قال:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢، و قال تعالى:( وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) العنكبوت: ٦٤، فالشرك موت و المعاصي ظلمات، قال تعالى:( أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ) النور: ٤٠، فالمغفرة إزالة الموت و الظلمة و إنّما تكون بحياة و هو الإيمان، و نور و هو الرحمة الإلهيّة.

فالكافر لا حياة له و لا نور، و المؤمن المغفور له له حياة و نور، و المؤمن إذا كان معه سيّئات حيّ لم يتمّ له نوره و إنّما يتمّ بالمغفرة، قال تعالى:( نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا ) التحريم ٨.

فظهر من جميع ما تقدّم أنّ مصداق العفو و المغفرة إذا نسب إليه تعالى في الاُمور التكوينيّة كان إزالة المانع بإيراد سبب يدفعه، و في الاُمور التشريعيّة إزالة السبب المانع عن الإرفاق و نحوه، و في مورد السعادة و الشقاوة إزالة المانع عن السعادة.

٥٥

( سورة آل عمران الآيات ١٥٦ - ١٦٤)

يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالّذينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ الله ذلِكَ حسرة فِي قُلُوبِهِمْ وَ الله يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ الله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ ممّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى الله تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتوکّل عَلَى الله إِنَّ الله يُحبّ الْمُتوکّلينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الّذي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى الله فَلْيَتوکّل الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثمّ تُوَفَّى كلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ الله كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ الله وَ الله بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)

( بيان)

الآيات من تتمّة الآيات النازلة في خصوص غزوة اُحد أيضاً، و هي تتضمّن التعرّض لأمر آخر عرض لهم، و هو الأسف و الحسرة الواردة في قلوبهم من قتل رجالاتهم

٥٦

و سراة قومهم، و معظم المقتولين كانوا من الأنصار فما قتل من المهاجرين - على ما قيل - إلّا أربعة، و هذا يقوّي الحدس أنّ معظم المقاومة كانت من ناحية الأنصار، و أنّ الهزيمة أسرعت إلى المهاجرين قبلهم.

و بالجملة الآيات تبيّن ما في هذا الأسف و الحسرة من الخطأ و الخبط، و تعطف على أمر آخر يستتبعه هذا الأسف و التحسّر و هو سوء ظنّهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أنّه هو الّذي أوردهم هذا المورد و ألقاهم في هذه التهلكة كما يشير إليه قولهم على ما تلوّح إليه هذه الآيات:( لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا ) الآية، و قول المنافقين فيما سيجيي‏ء:( لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا ) الآية، أي أطاعونا و لم يطيعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو الّذي أهلكهم، فهي تبيّن أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس له أن يخون أحداً بل هو رسول منه تعالى شريف النفس كريم المحتد عظيم الخلق يلين لهم برحمة من الله، و يعفو عنهم و يستغفر لهم و يشاورهم في الأمر منه تعالى، و أنّ الله منّ به عليهم ليخرجهم من الضلال إلى الهدى.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالّذينَ كَفَرُوا ) إلخ المراد بهؤلاء الّذين كفروا ما هو ظاهر اللّفظ أعني الكافرين دون المنافقين - كما قيل - لأنّ النفاق بما هو نفاق ليس منشأ لهذا القول - و إن كان المنافقون يقولون ذلك - و إنّما منشأه الكفر فيجب أن ينسب إلى الكافرين.

و الضرب في الأرض كناية عن المسافرة، و غزّيّ جمع غاز كطالب و طلّب و ضارب و ضرّب، و قوله: لِيَجْعَلَ الله ذلِكَ حسرة، أي ليعذّبهم بها فهو من قبيل وضع المغيّا موضع الغاية، و قوله:( وَ الله يُحْيِي وَ يُمِيتُ ) ، بيان لحقيقة الأمر الّتي أخطأ فيها الكافرون القائلون: لو كانوا، و هذا الموت يشمل الموت حتف الأنف و القتل كما هو مقتضى إطلاق الموت وحده على ما تقدّم، و قوله:( وَ الله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) في موضع التعليل للنهي في قوله:( لا تَكُونُوا ) إلخ.

و قوله:( ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا ) ، قدّم فيه الموت على القتل ليكون النشر على ترتيب اللّفّ في قوله:( إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى ) ، و لأنّ الموت أمر جار على الطبع و العادة المألوفة بخلاف القتل فإنّه أمر استثنائيّ فقدّم ما هو المألوف على غيره.

٥٧

و محصل الآية نهي المؤمنين أن يكونوا كالكافرين فيقولوا لمن مات منهم في خارج بلده أو قومه، و فيمن قتل منهم في غزاة:( لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا ) فأنّ هذا القول يسوق الإنسان إلى عذاب قلبيّ و نقمة إلهيّة و هو الحسرة الملقاة في قلوبهم، مع أنّه من الجهل فإنّ القرب و البعد منهم ليس بمحيي و مميت بل الإحياء و الإماتة من الشؤون المختصّة بالله وحده لا شريك له فليتّقوا الله و لا يكونوا مثلهم فإنّ الله بما يعملون بصير.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ ممّا يَجْمَعُونَ ) الظاهر أنّ المراد ممّا يجمعون هو المال و ما يلحق به الّذي هو عمدة البغية في الحياة الدنيا.

و قد قدّم القتل ههنا على الموت لأنّ القتل في سبيل الله أقرب من المغفرة بالنسبة إلى الموت فهذه النكتة هي الموجبة لتقديم القتل على الموت، و لذلك عاد في الآية التالية:( وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى الله تُحْشَرُونَ ) إلى الترتيب الطبعيّ بتقديم الموت على القتل لفقد هذه النكتة الزائدة.

قوله تعالى: ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ ) إلى آخر الآية، الفظ هو الجافي القاسيّ، و غلظ القلب كناية عن عدم رقّته و رأفته، و الانفضاض التفرّق.

و في الآية التفات عن خطابهم إلى خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا برحمة منّا، و لذلك أمرناه أن يعفو عنكم و يستغفر لكم و يشاوركم في الأمر و أن يتوکّل علينا إذا عزم.

و نكتة الالتفات ما تقدّم في أوّل آيات الغزوة أنّ الكلام فيه شوب عتاب و توبيخ، و لذلك اشتمل على بعض الإعراض في ما يناسبه من الموارد و منها هذا المورد الّذي يتعرّض فيه لبيان حال من أحوالهم لها مساس بالاعتراض على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ تحزّنهم لقتل من قتل منهم ربّما دلّهم على المناقشة في فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و رميه بأنّه أوردهم مورد القتل و الاستيصال، فأعرض الله تعالى عن مخاطبتهم و التفت إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخاطبه بقوله:( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ ) .

و الكلام متفرّع على كلام آخر يدلّ عليه السياق، و التقدير: و إذا كان حالهم ما تراه من التشبّه بالّذين كفروا و التحسّر على قتلاهم فبرحمة منّا لنت لهم و إلّا لانفضّوا من حولك. و الله أعلم.

٥٨

و قوله:( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) إنّما سيق ليكون إمضاءً لسيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه كذلك كان يفعل، و قد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم اُحد، و فيه إشعار بأنّه إنّما يفعل ما يؤمر و الله سبحانه عن فعله راض.

و قد أمر الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعفو عنهم فلا يرتّب على فعالهم أثر المعصية، و أن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم - و هو تعالى فاعله لا محالة - و اللّفظ و إن كان مطلقاً لا يختصّ بالمورد غير أنّه لا يشمل موارد الحدود الشرعيّة و ما يناظرها و إلّا لغي التشريع، على أنّ تعقيبه بقوله:( وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) لا يخلو عن الإشعار بأنّ هذين الأمرين إنّما هما في ظرف الولاية و تدبير الاُمور العامّة ممّا تجري فيه المشاورة معهم.

و قوله:( فَإِذا عَزَمْتَ فَتوکّل عَلَى الله إِنَّ الله يُحبّ الْمُتوکّلينَ ) ، و إذا أحبّك كان وليّاً و ناصراً لك غير خاذلك، و لذا عقّب الآية بهذا المعنى و دعي المؤمنين أيضاً إلى التوکّل فقال:( إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الّذي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) ثمّ أمرهم بالتوکّل بوضع سببه موضعه فقال:( وَ عَلَى الله فَلْيَتوکّل الْمُؤْمِنُونَ ) أي لإيمانهم بالله الّذي لا ناصر و لا معين إلّا هو.

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ) ، الغل هو الخيانة، قد مرّ في قوله تعالى:( ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ الله الْكِتابَ ) آل عمران: ٧٩، أنّ هذا السياق معناه تنزيه ساحة النبيّ عن السوء و الفحشاء بطهارته، و المعنى: حاشا أن يغلّ و يخون النبيّ ربّه أو الناس (و هو أيضاً من الخيانة لله) و الحال أنّ الخائن يلقى ربّه بخيانته ثمّ توفّى نفسه ما كسبت.

ثمّ ذكر أنّ رمي النبيّ بالخيانة قياس جائر مع الفارق فإنّه متّبع رضوان الله لا يعدو رضا ربّه، و الخائن باء بسخط عظيم من الله و مأواه جهنّم و بئس المصير، و هذا هو المراد بقوله:( أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ الله كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله ) الآية.

و يمكن أن يكون المراد به التعريض للمؤمنين بأنّ هذه الأحوال من التعرّض لسخط الله، و الله يدعوكم بهذه المواعظ إلى رضوانه، و ما هما سواء.

ثمّ ذكر أنّ هذه الطوائف من المتّبعين لرضوان الله و البائين بسخط من الله درجات

٥٩

مختلفة، و الله بصير بالأعمال فلا تزعموا أنّه يفوته الحقير من خير أو شرّ فتسامحوا في اتّباع رضوانه أو البوء بسخطه.

قوله تعالى: ( لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) ، في الآية التفات آخر من خطاب المؤمنين إلى تنزيلهم منزلة الغيبة، و قد مرّ الوجه العامّ في هذه الموارد من الالتفات و الوجه الخاصّ بما ههنا أنّ الآية مسوقة سوق الامتنان و المنّ على المؤمنين لصفة إيمانهم و لذا قيل: على المؤمنين، و لا يفيده غير الوصف حتّى لو قيل: الّذين آمنوا، لأنّ المشعر بالعلّيّة - على ما قيل - هو الوصف أو أنّه الكامل في هذا الإشعار، و المعنى ظاهر.

و في الآية أبحاث اُخر سيأتي شطر منها في المواضع المناسبة لها إن شاء الله العزيز.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وبالرغم من أن الله فتح أمامهم أبواب الرحمة ، ولو أردوا اغتنام الفرصة لاستطاعوا حتما إصلاح ماضيهم وحاضرهم ، ولكن لم يغتنم الظالمين من بني إسرائيل هذه الفرصة فحسب ، بل بدّلوا أمر الله ، وقالوا خلاف ما أمروا أن يقولوه :( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ) .

وفي المآل نزل عليهم بسبب هذا الطغيان والظلم للنفس وللآخرين عذاب من السماء( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ) .

ويجب الانتباه إلى أنّ مضمون هاتين الآيتين جاء أيضا ـ مع فارق بسيط ـ في سورة البقرة الآية (58) و (59) وقد أوردنا تفسيرا أكثرا تفصيلا هناك.

والفرق الوحيد بين هذه الآيات المبحوثة هنا ، وآيات سورة البقرة هو أنّه يقول هنا :( بِما كانُوا يَظْلِمُونَ ) ، وقال هناك :( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) ، ولعل الفارق بين هذين إنما هو لأجل أن الذنوب لها جانبان : أحدهما الجانب المرتبط بالله ، والجانب الآخر مرتبط بنفس الإنسان. وقد أشار القرآن إلى الجانب الأوّل في آية سورة البقرة بعبارة «الفسق» الذي مفهومه الخروج عن طاعة الله ، وإلى الثّاني في الآية الحاضرة بعبارة «الظلم».

ما هي «حطّة» وماذا تعني؟

الجدير بالذكر أن بني إسرائيل كانوا مكلّفين بأن يطهروا قلوبهم وأرواحهم عند دخولهم بيت المقدس من أدران الذنوب بتوبة خالصة وواقعية تتلخص في كلمة «حطّة» وأن يطلبوا من الله المغفرة لكل تلك الجرائم التي ارتكبوها ، وبخاصّة ما آذوا به نبيّهم العظيم موسى بن عمران قبل ورودهم بيت المقدس.

وكلمة «حطّة» التي كانت ـ في الحقيقة ـ شعارهم عند دخولهم بيت المقدس ، هي صورة اختصارية لعبارة «مسألتنا حطّة» يعني نطلب منك يا ربّ أن تحطّ عنّا ذنوبنا بإنزال شآبيب الرحمة والعفو علينا ، لأنّ «حطّة» معناها إنزال

٢٦١

الشيء من علو وهذا الشعار شأنه شأن جميع الشعارات الأخرى لا يكفي فيه أن يكون مجرّد لقلقة لسان ، بل يجب أن يكون اللسان ترجمان الروح ومرآة الوجدان ، ولكنّهم ـ كما سيأتي في الآية اللاحقة ـ مسخوا كثيرا من تلك الشعارات حتى هذا الشعار التربوي ، وجعلوه وسيلة للهو والاستهزاء والسخرية.

* * *

٢٦٢

الآيات

( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) )

التّفسير

قصّة فيها عبرة :

في هذه الآيات يستعرض مشهدا آخر من تاريخ بني إسرائيل الزاخر بالحوادث ، وهو مشهد يرتبط بجماعة منهم كانوا يعيشون عند ساحل بحر. غاية ما في الأمر أن الخطاب موجه فيها إلى الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقول له : اسأل يهود

٢٦٣

عصرك حول تلك الجماعة ، يعني جدّد هذه الخاطرة في أذهانهم عن طريق السؤال ليعتبروا بها ، ويجتنبوا المصير والعقاب الذي ينتظرهم بسبب طغيانهم وتعنتهم.

إنّ هذه القصّة ـ كما أشير إليها في الأحاديث الإسلامية ـ ترتبط بجماعة من بني إسرائيل كانوا يعيشون عند ساحل أحد البحار (والظاهر أنّه ساحل البحر الأحمر المجاور لفلسطين) في ميناء يسمى بميناء «أيلة» (والذي يسمى الآن بميناء ايلات) وقد أمرهم الله تعالى على سبيل الاختبار والامتحان أن يعطّلوا صيد الأسماك في يوم السبت ، ولكنّهم خالفوا هذا التعليم ، فأصيبوا بعقوبة موجعة مؤلمة نقرأ شرحها في هذه الآيات.

في البداية تقول الآية :( وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ) . أي اسأل يهود عصرك عن قضية القرية التي كانت تعيش على ساحل البحر.

ثمّ تقول : وذكّرهم كيف أنّهم تجاوزوا ـ في يوم السبت ـ القانون الإلهي( إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ ) لأنّ يوم السبت كان يوم عطلتهم ، وكان عليهم أن يكفوا فيه عن الكسب ، وعن صيد السمك ويشتغلوا بالعبادة ، ولكنّهم تجاهلوا هذا الأمر.

ثمّ يشرح القرآن العدوان المذكور بالعبادة التالية :( إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ) فالأسماك كانت تظهر على سطح الماء في يوم السبت ، بينما كانت تختفي في غيره من الأيّام.

و «السبت» في اللغة تعني تعطيل العمل للاستراحة ، وما نقرؤه في سورة النبأ( وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً ) أشارة ـ كذلك ـ إلى هذا الموضوع ، وسمّى «يوم السبت» بهذا الاسم لأنّ الأعمال العادية والمشاغل كانت تتعطل في هذا اليوم ، ثمّ بقي هذا الاسم لهذا اليوم علما له.

ومن البديهي أنّ صيد الأسماك يشكّل لدى سكنة ساحل البحر مورد كسبهم وتغذيتهم ، وكأنّ الأسماك بسبب تعطيل عملية الصيد في يوم السبت صارت

٢٦٤

تحس بنوع من الأمن من ناحية الصيادين ، فكانت تظهر على سطح الماء أفواجا أفواجا ، بينما كانت تتوغل بعيدا في البحر في الأيّام الأخرى التي كان الصيّادون فيها يخرجون للصيد.

إنّ هذا الموضوع سواء كان له جانب طبيعي عادي أم كان له جانب استثنائي وإلهي ، كان وسيلة لامتحان واختبار هذه الجماعة ، لهذا يقول القرآن الكريم : وهكذا اختبرناهم بشيء يخالفونه ويعصون الأمر فيه( كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) .

وجملة( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) إشارة إلى أنّ اختبارهم كان بما من شأنه أن يجذبهم ويدعوهم إلى نفسه ، وإلى المعصية والمخالفة ، وجميع الاختبارات كذلك ، لأن الاختبار يجب أن يبيّن مدى مقاومة الأشخاص أمام جاذبية المعاصي والذنوب.

عند ما واجهت هذه الجماعة من بني إسرائيل هذا الامتحان الكبير الذي كان متداخلا مع حياتهم تداخلا كاملا ، انقسموا إلى ثلاث فرق :

«الفريق الأوّل» وكانوا يشكّلون الأكثرية ، وهم الذين خالفوا هذا الأمر الإلهي.

«الفريق الثّاني» وكانوا على القاعدة يشكلون الأقلية ، وهم الذين قاموا ـ تجاة الفريق الأوّل بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

«الفريق الثّالث» وهم الساكتون المحايدون الذين لم يوافقوا العصاة ، ولا قاموا بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي الآية الثّانية من الآيات المبحوثة هنا يشرح الحوار الذي دار بين العصاة ، وبين الذين نهوهم عن ارتكاب هذه المخالفة فيقول :( وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ

٢٦٥

مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً ) (1) .

فأجابهم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر : بأنّنا ننهى عن المنكر لأنّنا نؤدي واجبنا تجاه الله تعالى ، وحتى لا نكون مسئولين تجاهه ، هذا مضافا إلى أنّنا نأمل أن يؤثر كلامنا في قلوبهم ، ويكفوا عن طغيانهم وتعنتهم( قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .

ويستفاد من الجملة الحاضرة أنّ هؤلاء الواعظين كانوا يفعلون ذلك بهدفين : الأوّل : أنّهم كانوا يعظون العصاة حتى يكونوا معذورين عند الله.

والآخر : عسى أن يؤثروا في نفوس العصاة ، ويفهم من هذا الكلام أنّهم حتى مع عدم احتمال التأثير ، فإنّهم كانوا لا يحجمون عن الوعظ والنصيحة في حين أن المعروف هو أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطين باحتمال التأثير.

ولكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّه ربّما يجب بيان الحقائق والوظائف الإلهية حتى مع عدم احتمال التأثير ، وذلك عند ما يكون عدم بيان الأحكام الإلهية ، وعدم إنكار المنكر سببا لتناسي وتنامي البدع ، وحينما يعدّ السكوت دليلا على الرضا والموافقة. ففي هذه الموارد يجب إظهار الحكم الإلهي في مكان حتى مع عدم تأثيره في العصاة والمذنبين.

إنّ هذه النقطة جديرة بالالتفات ، وهي أنّ الناهين عن المنكر كانوا يقولون : نحن نريد أن نكون معذورين عند (ربّكم) وكأنّ هذا إشارة إلى أنّكم أيضا مسئولون أمام الله ، وإنّ هذه الوظيفة ليست وظيفتنا فقط ، بل هي وظيفتكم تجاه ربّكم في الوقت ذاته.

__________________

(1) التعبير بـ «أمّة منهم» يكشف عن أن الفريق الثّاني كانوا أقلّ من العصاة ، لأنّه عبّر عنهم بلفظة «قوما» بدون كلمة منهم) وتقرأ في بعض الآيات أنّ عدد نفوس هذه المدينة كان ثمانين ألف وبضعة آلاف ، وقد ارتكب 70 ألفا منهم هذه المعصية (راجع تفسير البرهان ، المجلد الثّاني ، الصفحة 42).

٢٦٦

ثمّ إنّ الآية اللاحقة تقول : وفي المآل غلبت عبادة الدنيا عليهم ، وتناسوا الأمر الإلهي ، وفي هذا الوقت نجينا الذين كانوا ينهون عن المنكر ، وعاقبنا الظالمين بعقاب أليم منهم بسبب فسقهم وعصيانهم( فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) (1) .

ولا شك أنّ هذا النسيان ليس نسيانا حقيقيا غير موجب للعذر ، بل هو نوع من عدم الاكتراث والاعتناء بأمر الله ، وكأنّه قد نسي بالمرّة.

ثمّ يشرح العقوبات هكذا :( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (2) .

وواضح أن أمر «كونوا» هنا أمر تكويني مثل :( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (3) .

* * *

بحوث

وهنا نقاط عديدة يجب الالتفات إليها :

1 ـ كيف ارتكبوا هذه المعصية؟

وأمّا كيف بدأت هذه الجماعة عملية التجاوز على هذا القانون الإلهي؟ فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين.

__________________

(1) بئيس مشتقة من مادة «بأس» يعني الشديد.

(2) «عتوا» من مادة عتّو على وزن «غلوّ» بمعنى الامتناع عن طاعة أمر ، وما ذكره بعض المفسّرين من تفسيره بمعنى الامتناع فقط يخالف ما قاله أرباب اللغة.

(3) سورة يس ، 28.

٢٦٧

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّهم عمدوا في البداية إلى ما يسمى بالحيلة الشرعية ، فقد أحدثوا أحواضا إلى جانب البحر ، وفتحوا لها أبوابا إلى البحر ، فكانوا يفتحون هذه الأبواب في يوم السبت فتقع فيها أسماك كثيرة مع ورود الماء إليها ، وعند الغروب حينما كانت الأسماك تريد العودة إلى البحر يوصدون تلك فتحبس الأسماك في تلك الأحواض ، ثمّ يعمدون في يوم الأحد إلى صيدها ، وأخذها من الأحواض ، وكانوا يقولون : إنّ الله أمرنا أن لا نصيد السمك ، ونحن لم نصد الأسماك إنّما حاصرناها فقط(1) .

ويقول بعض المفسّرين : إنّهم كانوا يرسلون كلاليبهم وصناراتهم وشباكهم في البحر يوم السبت ، ثمّ يسحبونها يوم الأحد وقد علقت بها الأسماك ، وهكذا كانوا يصيدون السمك حتى في يوم السبت ولكن بصورة ما كرة.

ويظهر من بعض الرّوايات الأخرى أنّهم كانوا يصيدون السمك يوم السبت من دون مبالاة بالنهي الإلهي ، وليس بواسطة أية حيلة.

ولكن من الممكن أن تكون هذه الرّوايات صحيحة بأجمعها وذلك أنّهم في البداية استخدموا ما يسمى بالحيلة الشرعية ، وذلك بواسطة حفر أحواض إلى جانب البحر ، أو إلقاء الكلاليب والصنارات ، ثمّ لما صغرت هذه المعصية في نظرهم ، جرأهم ذلك على كسر احترام يوم السب وحرمته ، فأخذوا يصيدون السمك في يوم السبت تدريجا وعلنا ، واكتسبوا من هذا الطريق ثروة كبيرة جدا.

2 ـ من هم الذين نجوا؟

الظاهر من الآيات الحاضرة أنّ فريقا واحدا من الفرق الثلاثة (العصاة ، المتفرجون ، الناصحون) هو الذي نجى من العذاب الإلهي وهم افراد الفريق

__________________

(1) تفسير البرهان ، المجلد 2 ، الصفحة 22 ، وقد روي هذا الكلام عن ابن عباس في تفسير مجمع البيان في ذيل الآية.

٢٦٨

الثّالث.

وكما جاء في الرّوايات ، فإنّه عند ما رأى هذا الفريق أن عظاته ونصائحه لا تجدي مع العصاة انزعجوا وقالوا : سنخرج من المدينة ، فخرجوا إلى الصحراء ليلا ، واتفق أن أصاب العذاب الإلهي كلا الفريقين الآخرين.

وأمّا ما احتمله بعض المفسّرين من أنّ العصاة هم الذين أصيبوا بالعذاب فقط ، ونجى الساكتون أيضا ، فهو لا يتناسب مع ظاهر الآيات الحاضرة.

3 ـ هل أنّ كلا الفريقين عوقبوا بعقاب واحد

يظهر من الآيات الحاضرة أنّ عقوبة المسخ كانت مقتصرة على العصاة ، لأنّه تعالى يقول :( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْه ) ولكن من جانب آخر يستفاد من الآيات الحاضرة ـ أيضا ـ أنّ الناصحين الواعظين فقط هم الذين نجوا من العقاب ، لأنّه تعالى يقول :( أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ) .

من مجموع هاتين الآيتين يتبيّن أنّ العقوبة نالت كلا الفريقين ، ولكن عقوبة المسخ اختصت بالعصاة فقط ، وأمّا عقوبة الآخرين فمن المحتمل أنّها كانت الهلاك والفناء ، بالرغم من أن العصاة أيضا هلكوا بعد مدّة من المسخ حسب ما جاء في هذا الصدد من الرّوايات.(1)

4 ـ هل المسخ كان جسمانيا أو روحانيا؟

«المسخ» أو بتعبير آخر «تغيير الشكل الإنساني إلى الصورة الحيوانية» ومن المسلّم أنّه حدث على خلاف العادة والطبيعة.

على أنّه قد شوهدت حالات جزئية من (موتاسيون) والقفزة ، وتغيير الشكل

__________________

(1) وإذا كان يستفاد من بعض الرّوايات خلاف هذا الموضوع ، فإنّه مضافا إلى أنّه لا يمكن الاعتماد عليه في مقابل ظاهر الآيات فإنّما ضعيفة من حيث السند أيضا ، ويحتمل أن يكون الراوي قد أخطأ في نقل الرواية.

٢٦٩

والصورة في الحيوانات إلى أشكال وصور أخرى ، وقد شكّلت أسس فرضية التكامل في العلوم الطبيعية الحاضرة.

ولكنّ الموارد التي شوهدت فيها ال «موتاسيون» والقفزة إنّما هي في صفات الحيوانات الجزئية ، لا الصفات الكليّة ، يعني أنّه لم يشاهد إلى الآن نوعا من أنواع الحيوان تغيّر على أثر ال «موتاسيون» إلى نوع آخر ، بل يمكن أن تتغير خصوصيات معينة من الحيوان ، ناهيك عن أنّ هذه التغييرات إنّما تظهر في الأجيال التي توجد في المستقبل ، لا أن يحصل هذا التغيير في الحيوان يتولد من أمّه.

وعلى هذا الأساس ، يكون تغير صورة إنسان أو حيوان إلى صورة نوع آخر أمرا خارقا للعادة.

ولكن تقدم أنّ هناك أمورا تحدث على خلاف العادة والطبيعة ، وهذه الأمور ربّما تقع في صورة المعاجز التي يأتي بها الأنبياء ، وأحيانا تكون في صورة الأعمال الخارقة للعادة التي تصدر من بعض الأشخاص ، وإن لم يكونوا أنبياء (وهي تختلف عن معاجز الأنبياء طبعا).

وبناء على هذا ، وبعد القبول بإمكان وقوع المعاجز وخوارق العادة ، لا مانع من مسخ صورة إنسان إلى إنسان آخر. ولا يكون ذلك مستحيلا تأباه العقول.

ووجود مثل هذه الخوارق للعادة ـ كما قلنا في مبحث إعجاز الأنبياء ـ لا هو استثناء وخرق لقانون العلية ، ولا هو خلاف العقل ، بل هو مجرّد كسر قضية «عاديّة طبيعيّة» في مثل هذه الموارد ، ولها نظائر رأيناها في الأشخاص غير العاديين(1) .

__________________

(1) لقد جمع أحد الكتّاب المعاصرين نماذج كثيرة ـ من مصادر موثوقة ـ لأشخاص من البشر أو حيوانات استثنائيّة ، ملفتة للنظر ومثيرة للعجب ، ومن جملة ذلك : إنسان يستطيع قراءة السطور بأصابعه ، أو امرأة وضعت مرتين في خلال شهرين ، وفي كل مرة ولدت ولدا ، أو طفلا كان قلبه خارج صدره ، أو امرأة لم تكن تعرف أنّها حامل حتى لحظة وضعها لوليدها ، وما شابه ذلك.

٢٧٠

بناء على هذا لا مانع من قبول «المسخ» على ما هو عليه في معناه الظاهري الوارد في الآية الحاضرة وبعض الآيات القرآنية الأخرى ، وأكثر المفسّرين قبلوا هذا التّفسير أيضا.

ولكن بعض المفسّرين ـ وهم الأقليّة ـ قالوا : إنّ المسخ هو «المسخ الروحاني» والانقلاب في الصفات الأخلاقية ، بمعنى ظهور صفات مثل صفات القرود أو الخنازير في الطغاة والمتعنتين ، مثل الإقبال على التقليد الأعمى والتوجه الشديد إلى البطنة والشهوة ، التي هي صفات بارزة لهذين الحيوانين. وهذا الاحتمال نقل عن أحد المفسّرين القدامى وهو مجاهد.

وما أخذه البعض على مسألة المسخ ، وأنّه خلاف التكامل ، وأنّه يوجب العودة والرجوع والتقهقر في الخلقة غير صحيح ، لأنّ قانون التكامل يرتبط بالذين يسيرون في طريق التكامل ، لا أولئك الذين انحرفوا عن مسيرة التكامل ، وخرجوا عن دائره هذا القانون.

فعلى سبيل المثال : الإنسان السليم ينمو نموا منتظما في أعوام الطفولة ، ولكنّه إذا حصلت في وجوده بعض النقائص ، فيمكن أن لا يتوقف الرشد والنمو فحسب ، بل يتقهقر ويفقد نموه الفكري والجسماني تدريجا.

ولكن يجب الانتباه على كل حال إلى أنّ المسخ والتبدل والتحول الجسماني يتناسب مع الأعمال التي قام بها الشخص ، يعني أنّ بعض العصاة يسلكون سبيل الطغيان تحت ضغط من دوافع الهوى والشهوة ، وجماعة أخرى تتلوث حياتهم بأدران الذنوب أثر التقليد الأعمى ، ولهذا يظهر المسخ في كل فريق من هذه الفرق بصورة متناسبة مع كيفية أعمالهم.

على أنّه قد جرى الحديث في الآيات الحاضرة فقط عن «القردة» ولم يجر أي حديث عن «الخنازير» ولكن في الآية (60) من سورة المائدة يدور الحديث حول جماعة مسخ بعضهم في صورتين (بعض قردة وبعض خنازير) وهذه الآية

٢٧١

حسبما قال بعض المفسّرين : نزلت حول أصحاب السبت ، فالكبار منهم الذين أطاعوا أمر الشهوة والبطن مسخوا خنازير ، والشباب المقلد لهم تقليدا أعمى وكانوا يشكلون الأكثرية مسخوا قردة.

ولكن على كل حال يجب الالتفات إلى أنّ الممسوخين ـ حسب الرّوايات ـ بقوا على هذه الحالة عدة أيّام ثمّ هلكوا ، ولم يتولد منهم نسل أبدا.

5 ـ المخالفة تحت غطاء الحيلة الشّرعية

إنّ الآيات الحاضرة وإن كانت لا تتضمّن الإشارة إلى تحايل أصحاب السبت في صعيد المعصية ، ولكن ـ كما أسلفنا ـ أشار كثير من المفسّرين في شرح هذه الآيات إلى قصّة حفر الأحواض ، أو نصب الصنارات في البحر في يوم السبت ، ويشاهد هذا الموضوع نفسه في الرّوايات الإسلامية ، وبناء على هذا تكون العقوبة الإلهية التي جرت على هذا الفريق ـ بشدة ـ تكشف عن أن الوجه الحقيقي للذنب لا يتغير أبدا بانقلاب ظاهره ، وباستخدام ما يسمى بالحيلة الشرعية ، فالحرام حرام سواء أتي به صريحا ، أو تحت لفافات كاذبة ، ومعاذير واهية.

إنّ الذين تصوروا أنّه يمكن بالتغيير الصوري تبديل عمل حرام إلى حلال يخدعون أنفسهم في الحقيقة ، ومن سوء الحظ أن هذا العمل رائج بين بعض الغفلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الدين وهذا هو الذي يشوّه وجه الدين في نظر الغرباء عن الدين ، ويكرّهه إليهم بشدّة.

إن العيب الأكبر الذي يتسم به هذا العمل ـ مضافا إلى تشويه صورة الدين ـ هو أن هذا العمل التحايلي يصغر الذنب في الأنظار ويقلّل من أهميته وخطورته وقبحه ، ويجرّئ الإنسان في مجال الذنب إلى درجة أنّه يتهيأ شيئا فشيئا لارتكاب الذنوب والمعاصي بصورة صريحة وعلينة. فنحن نقرأ في نهج البلاغة

٢٧٢

أنّ الإمام عليّاعليه‌السلام قال : «إنّ القوم سيفتنون بأموالهم ، ويمنون بدينهم على ربّهم ، ويتمنون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية ، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ(1) والسحت بالهدية ، والربا بالبيع» (الخطبة 156).

ويجب الانتباه إلى الدافع وراء أمثال هذه الحيل ، إمّا إلباس الباطن القبيح بلباس قشيب وإظهاره بمظهر حسن أمام الناس ، وإمّا خداع الضمير ، واكتساب طمأنينة نفسية كاذبة.

6 ـ أنواع الابتلاء الإلهي المختلفة

صحيح أنّ صيد السمك من البحر لسكان السواحل لم يكن مخالفة ، ولكن قد ينهي الله جماعة من الناس وبصورة مؤقّتة ، وبهدف الاختبار والامتحان عن مثل هذا العمل ، ليرى مدى تفانيهم ، ويختبر مدى إخلاصهم ، وهذا هو أحد أشكال الامتحان الإلهي.

هذا مضافا إلى أنّ يوم السبت كان عند اليهود يوما مقدسا ، وكانوا قد كلّفوا ـ احتراما لهذا اليوم بالتفرغ للعبادة وممارسة البرامج الدينية ـ والكف ـ عن الكسب والإشتغال بالأعمال اليومية ، ولكن سكان ميناء «أيلة» تجاهلوا كلّ هذه الاعتبارات والمسائل ، فعوقبوا معاقبة شديدة جعلت منهم ومن حياتهم المأساوية ومصيرهم المشؤوم درس وعبرة للأجيال اللاحقة.

* * *

__________________

(1) كان النبيذ عبارة عن وضع مقدار من التمر أو الشعير أو الزبيب في الماء ، عدّة أيّام ، ثمّ شربه وهذا وإن لم يكن حراما شرعا ، ولكنّه على أثر سخونة الهواء تتبدل المواد السكرية فيه إلى مواد كحولية خفيفة.

٢٧٣

الآيتان

( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) )

التّفسير

تفرق اليهود وتشتتهم :

هذه الآيات إشارة إلى قسم من العقوبات الدنيوية التي أصابت جماعة من اليهود خالفت أمر الله تعالى ، وسحقت الحق والعدل والصدق.

فيقول في البداية : واذكروا يوم أخبركم الله بأنّه سيسلّط على هذه الجماعة العاصية المتمردة فريقا يجعلها حليفة العذاب والأذى إلى يوم القيامة( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ ) .

و «تأذّن» و «أذّن» كلاهما بمعنى الإخبار والإعلام ، وكذا جاء بمعنى الحلف والقسم ، وفي هذه الصورة يكون معنى الآية أنّ الله تعالى أقسم بأن يكون مثل

٢٧٤

هؤلاء الأشخاص في العذاب إلى يوم القيامة.

ويستفاد من هذه الآية أنّ هذه الجماعة المتمردة الطاغية لن ترى وجه الاستقرار والطمأنينة أبدا ، وإن أسّست لنفسها حكومة وشيّدت دولة ، فإنّها مع ذلك ستعيش حالة اضطراب دائم وقلق مستمر ، إلّا أن تغيّر ـ بصدق ـ سلوكها ، وتكفّ عن الظلم والفساد.

وفي ختام الآية يضيف تعالى قائلا :( إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فبالنسبة إلى الكفار سريع العقاب ، وبالنسبة للمذنبين التائبين التائبين غفور رحيم.

وهذه الجملة تكشف عن أنّ الله قد ترك الباب مفتوحا أمامهم حتى لا يظن أحد أنّه قد كتب عليهم المصير المحتوم والشقاء الابدي الذي لا خلاص منه.

وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى تفرق اليهود في العالم فيقول :( وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ ) فهم متفرقون منقسمون على أنفسهم بعضهم صالحون ، ولهذا عند ما سمعوا بنداء الإسلام وعرفوا دعوة النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمنوا به ، وبعضهم لم يكونوا كذلك بل ألقوا الحق وراءهم ظهريا ، ولم يرتدعوا عن معصية في سبيل ضمان مصالحهم وحياتهم المادية.

ومرّة أخرى تتجلى هذه الحقيقة في هذه الآية وهي أنّ الإسلام لا يعادي العنصر اليهودي ، ولا يشجبهم لكونهم أتباع دين معيّن ، أو منتمين إلى عنصر وعرق معيّن ، بل يجعل أعمالهم هي مقياس تقييمهم.

ثمّ يضيف تعالى قائلا :( وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .

أي ربّما نكرمهم ونجعلهم في رفاه ونعمة حتى نثير فيهم روح الشكر ، ويعودوا إلى طريق الحق. وربّما نغرقهم في الشدائد والمصاعب والمصائب حتى ينزلوا عن مركب الغرور والأنانية والتكبر ، ويقفوا على عجزهم ، لعلهم يستيقظون

٢٧٥

ويعودون إلى الله ، والهدف في كلتا الحالتين هو التربية والهداية والعودة إلى الحق.

وعلى هذا الأساس تشمل «الحسنات» كل نعمة ورفاه واستقرار ، كما تشمل «السيئات» كل نقمة وشدة ، وحصر هذين المفهومين في دائر ضيّقة معيّنة لا دليل عليه.

* * *

٢٧٦

الآيتان

( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) )

التّفسير

في الآيات الماضية دار الحديث حول أسلاف اليهود ، ولكن في الآية الحاضرة دار الكلام حول أبنائهم وأخلافهم.

وفي البداية يقول تعالى :( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى ) إنّهم ورثوا التوراة عن أسلافهم ، وكان عليهم أن ينتفعوا بها ويهتدوا ، ولكنّهم رغم ذلك فتنوا بمتاع هذه الدنيا وحطامها الرخيص التافه ، واستبدلوا الحق والهدى بمنافعهم الماديّة.

و «خلف» على وزن «حرف» يأتي غالبا في الأولاد غير الصالحين ـ كما

٢٧٧

ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين ، في حين أنّ «الخلف» على وزن «شرف» يأتي بمعنى الولد الصالح(1) .

ثمّ يضيف قائلا : وعند ما وقعوا بين مفترق طريقين : بين ضغط الوجدان من جهة ، والرغبات والمنافع المادية من جهة أخرى عمدوا إلى الأماني والآمال الكاذبة وقالوا : لنأخذ المنافع الدنيوية فعلا سواء من حلال أو حرام ، والله سيرحمنا ويغفر لنا( وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ) .

إنّ هذه الجملة تكشف عن أنّهم كانوا بعد القيام بمثل هذا العمل يتخذون حالة من الندم العابر والتوبة الظاهرية ، ولكن هذه الندامة ـ كما يقول القرآن الكريم ـ لم تكن لها أية جذور في أعماق نفوسهم ، ولهذا يقول تعالى :( وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ) .

و «عرض» على وزن «غرض» يعني الشيء الذي لاثبات له ولا دوام ، ومن هذا المنطق يطلق على متاع العالم المادي اسم العرض ، لكونه زائلا غير ثابت في الغالب ، فهو يقصد الإنسان يوما ويقبل عليه بوفرة بحيث يضيع الإنسان حسابه ولا يعود قادرا على عده وإحصائه ويبتعد عنه وجمعه وحصره ، يوما آخر بالكلية بحيث لا يملك منه إلّا الحسرة والتذكر المؤلم ، هذا مضافا إلى أن جميع نعم هذه الدنيا هي أساسا غير دائمة ، وغير ثابته(2) .

وعلى كل حال ، فإنّ هذه الجملة إشارة إلى عمليات الارتشاء التي كان يقوم بها بعض اليهود لتحريف الآيات السماوية ، ونسيان أحكام الله لمضادتها لمصالحهم ومنافعهم المادية.

ولهذا قال تعالى في عقيب ذلك :( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا

__________________

(1) مجمع البيان ، وتفسير ابن الفتوح الرازي ، في ذيل الآية الحاضرة.

(2) يجب الانتباه ، إلى أن «عرض» على وزن «غرض» يختلف عن «عرض» على وزن (فرض) فالأول بمعنى كل رأس مال دنيوي ، والثاني بمعنى المال النقدي.

٢٧٨

يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ ) أي أنّهم أخذ عليهم الميثاق ـ بواسطة كتابهم السماوي التوراة ـ أن لا يفتروا على الله كذبا ، ولا يحرفوا كلماته ، ولا يقولوا إلّا الحق.

ثمّ يقول : لو كان هؤلاء الذين يرتكبون هذه المخالفات جاهلون بالآيات الإلهية ، لكان من الممكن أن ينحتوا لأنفسهم أعذارا ، ولكن المشكلة هي أنّهم رأوا التوراة مرارا وفهموا محتواها ومع ذلك ضيعوا أحكامها ، ونبذوا أمرها وراء ظهورهم( وَدَرَسُوا ما فِيهِ ) . و «الدرس» في اللغة يعني تكرار شيء ، وحيث أن الإنسان عند المطالعة ، وتلقي العلم من الأستاذ والمعلم يكرّر المواضيع ، لهذا أطلق عليه لفظ «الدرس» وإذا ما رأينا أنّهم يستعملون لفظة «درس والاندراس» على انمحاء أثر الشيء فإنّما هو لهذا السبب وبهذه العناية ، ولأنّ الأمطار والرياح والحوادث الأخرى تتوالى على الأبنية القديمة وتبليها.

وفي ختام الآية يقول : إنّ هؤلاء يخطئون في تقديرهم للأمور ، وإنّ هذه الأعمال لن تجديهم نفعا( وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ) .

ألا تفهمون هذه الحقائق الواضحة( أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ؟؟

وفي مقابل الفريق المشار إليه سابقا يشير تعالى إلى فريق آخر لم يكتفوا بعدم اقتراف جريمة تحريف الآيات الإلهية وكتمانها فحسب ، بل تمسكوا بحذافيرها وطبقوها في حياتهم حرفا بحرف ، والقرآن يصف هذه الجماعة بأنّهم مصلحو العالم ، ويعترف لهم بأجر جزيل وثواب عظيم ، ويقول عنهم :( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) .

وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من «الكتاب» وهل أنّه التوراة أو القرآن الكريم؟ بعض ذهب إلى الأوّل ، وبعض إلى الثّاني. والظاهر أنّه إشارة إلى فريق من بني إسرائيل الذين انفصلوا عن الضالين الظالمين ، وعاكسوهم فى سلوكهم وموقفهم. ولا شك أن التمسك بالتوراة والإنجيل وما فيهما من بشائر

٢٧٩

بظهور نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا ينفصل عن الإيمان بهذا النّبي.

إنّ في التعبير بـ «يمسّكون» الذي هو بمعنى الاعتصام والتمسك بشيء نكتة ملفتة للنظر ، لأنّ التمسك بمعنى الأخذ والالتصاق بشيء لحفظه وصيانته ، وهذه هي الصورة الحسيّة للكلمة ، وأمّا الصورة المعنوية لها فهي أن يلتزم الإنسان بالعقيدة بمنتهى الجدية والحرص ، ويسعى في حفظها وحراستها.

إنّ التمسك بالكتاب الإلهي ليس هو أن يمسك الإنسان بيده أوراقا من القرآن أو التوراة أو الإنجيل أو أي كتاب آخر ويشدّها عليه بقوة ، ويجتهد في حفظ غلافه وورقه من التلف ، بل التمسك الواقعي هو أن لا يسمح لنفسه بأن يرتكب أدنى مخالفة لتعاليم ذلك الكتاب ، وأن يجتهد في تحقيق وتطبيق مفاهيمه من الصميم.

إنّ الآيات الحاضرة تكشف لنا بوضوح عن أنّ الإصلاح الواقعي في الأرض لا يمكن من دون التمسك بالكتب السماوية ، ومن دون تطبيق الأوامر والتعاليم الإلهية ، وهذا التعبير يؤكّد ـ مرّة أخرى ـ هذه الحقيقة ، وهي أنّ الدين ليس مجرّد برنامج يرتبط بعالم ما وراء الطبيعة ، وبدار الآخرة ، بل هو برنامج للحياة البشرية ، ويهدف إلى حفظ مصالح جميع أفراد البشر ، وإجراء مبادئ العدل والسلام والرفاه والاستقرار ، وبالتالي كل مفهوم تشمله كلمة «الإصلاح» الواسعة المعنى.

وما نراه من التركيز على خصوص «الصلاة» من بين الأوامر والتعاليم الإلهية ، فإنّما هو لأجل أن الصلاة الواقعية تقوّي علاقة الإنسان بالله الذي يراه حاضرا وناظرا لجميع أعماله وبرامجه ، ومراقبا لجميع أفعاله وأقواله ، وهذا هو الذي عبر عنه في آيات أخرى بتأثير الصلاة في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وارتباط هذا الموضوع بإصلاح المجتمع الإنساني أوضح من أن يحتاج إلى بيان.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458