الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 129137
تحميل: 5417


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129137 / تحميل: 5417
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و إنّما الكلام في معنى عصمة أهل الحلّ و العقد من الاُمّة لو كان هو المراد بقوله:( وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) .

ما هو العامل الموجب لعصمة أهل الحلّ و العقد من المسلمين فيما يرونه من الرأي؟ هذه العصابة الّتي شأنها الحلّ و العقد في الاُمور غير مختصّة بالاُمّة المسلمة بل كلّ اُمّة من الاُمم العظام بل الاُمم الصغيرة بل القبائل و العشائر لا تفقد عدّة من أفرادها لهم مكانة في مجتمعهم ذات قوّة و تأثير في الاُمور العامّة، و أنت إذا فحصت التاريخ في الحوادث الماضية و ما في عصرنا من الاُمم و الأجيال وجدت موارد كثيرة اجتمعت أهل الحلّ و العقد منهم في مهامّ الاُمور و عزائمها على رأي استصوبوه ثمّ عقّبوه بالعمل، فربّما أصابوا و ربّما أخطؤوا، فالخطأ و إن كان في الآراء الفرديّة أكثر منه في الآراء الاجتماعيّة لكنّ الآراء الاجتماعيّة ليست بحيث لا تقبل الخطأ أصلاً فهذا التاريخ و هذه المشاهدة يشهدان منه على مصاديق و موارد كثيرة جدّاً.

فلو كان الرأي الاجتماعيّ من أهل الحلّ و العقد في الإسلام مصوناً عن الخطإ فإنّما هو بعامل ليس من سنخ العوامل العاديّة بل عامل من سنخ العوامل المعجزة الخارقة للعادة، و يكون حينئذ كرامة باهرة تختصّ بها هذه الاُمّة تقيم صلبهم، و تحفظ حماهم و تقيهم من كلّ شرّ يدبّ في جماعتهم و وحدتهم و بالآخرة سبباً معجزاً إلهيّاً يتلو القرآن الكريم، و يعيش ما عاش القرآن، نسبته إلى حياة الاُمّة العمليّة نسبة القرآن إلى حياتهم العلميّة فكان من اللّازم أن يبيّن القرآن حدوده و سعة دائرته، و يمتنّ الله به كما أمتنّ بالقرآن و بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و يبيّن لهذه العصابة وظيفتهم الاجتماعيّة كما بيّن لنبيّه ذلك، و أن يوصي به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُمّته، و لا سيّما أصحابه الكرام و هم الّذين صاروا بعده أهلاً للحلّ و العقد، و تقلّدوا ولاية اُمور الاُمّة، و أن يبيّن أنّ هذه العصابة المسمّاة باُولي الأمر ما حقيقتها، و ما حدّها و ما سعة دائرة عملها، و هل يتشكّل هيئة حاكمة واحدة على جميع المسلمين في الاُمور العامّة لجميع الاُمّة الإسلاميّة؟ أو تنعقد في كلّ جمعيّة إسلاميّة جمعيّة اُولي الأمر فيحكم في نفوسهم و أعراضهم و أموالهم؟.

٤٢١

و لكان من اللّازم أن يهتمّ به المسلمون و لا سيّما الصحابة فيسألوا عنه و يبحثوا فيه، و قد سألوا عن أشياء لا قدر لها بالنسبة إلى هذه المهمّة كالأهلة، و ما ذا ينفقون، و الأنفال قال تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ) و( يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ ) و( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنفال ) فما بالهم لم يسألوا؟ أو أنّهم سألوا ثمّ لعبت به الأيدي فخفي علينا؟ فليس الأمر ممّا يخالف هوى أكثريّة الاُمّة الجارية على هذه الطريقة حتّى يقضوا عليه بالإعراض فالترك حتّى ينسى.

و لكان من الواجب أن يحتجّ به في الاختلافات و الفتن الواقعة بعد ارتحال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيناً بعد حين، فما لهذه الحقيقة لا توجد لها عين و لا أثر في احتجاجاتهم و مناظراتهم، و قد ضبطها النقلة بكلماتها و حروفها، و لا توجد في خطاب و لا كتاب؟ و لم تظهر بين قدماء المفسّرين من الصحابة و التابعين حتّى ذهب إليه شرذمة من المتأخّرين: الرازيّ و بعض من بعده!.

حتّى أنّ الرازيّ أورد على هذا الوجه بعد ذكره: بأنّه مخالف للإجماع المركّب فإنّ الأقوال في معنى اُولي الأمر لا تجاوز أربعة: الخلفاء الراشدون، و اُمراء السرايا، و العلماء و الأئمّة المعصومون، فالقول الخامس خرق للإجماع، ثمّ أجاب بأنّه في الحقيقة راجع إلى القول الثالث فأفسد على نفسه ما كان أصلحه فهذا كلّه يقضي بأنّ الأمر لم يكن بهذه المثابة، و لم يفهم منه أنّه عطيّة شريفة و موهبة عزيزة من معجزات الإسلام و كراماته الخارقة لأهل الحلّ و العقد من المسلمين.

أو يقال: إنّ هذه العصمة لا تنتهي إلى عامل خارق للعادة بل الإسلام بنى تربيته العامّة على اُصول دقيقة تنتج هذه النتيجة: أنّ أهل الحلّ و العقد من الاُمّة لا يغلطون فيما اجتمعوا عليه، و لا يعرضهم الخطأ فيما رأوه.

و هذا الاحتمال مع كونه باطلاً من جهة منافاته للناموس العامّ و هو أنّ إدراك الكلّ هو مجموع إدراكات الأبعاض، و إذا جاز الخطأ على كلّ واحد واحد جاز على الكلّ يرد عليه أنّ رأي اُولي الأمر بهذا المعنى لو اعتمد في صحّته و عصمته على مثل هذا العامل غير المغلوب لم يتخلّف عن أثره فإلى أين تنتهي هذه الأباطيل و الفسادات الّتي ملأت العالم الإسلاميّ؟.

٤٢٢

و كم من منتدى إسلاميّ بعد رحلة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتمع فيه أهل الحلّ و العقد من المسلمين على ما اجتمعوا عليه ثمّ سلكوا طريقاً يهديهم إليه رأيهم فلم يزيدوا إلّا ضلالاً و لم يزد إسعادهم المسلمين إلّا شقاء و لم يمكث الاجتماع الدينيّ بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون أن عاد إلى إمبراطوريّة ظالمة حاطمة! فليبحث الباحث الناقد في الفتن الناشئة منذ قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما استتبعته من دماء مسفوكة، و أعراض مهتوكة، و أموال منهوبة، و أحكام عطّلت و حدود اُبطلت! ثمّ ليبحث في منشئها و محتدها، و اُصولها و أعراقها هل تنتهي الأسباب العاملة فيها إلّا إلى ما رأته أهل الحلّ و العقد من الاُمّة ثمّ حملوا ما رأوه على أكتاف الناس؟.

فهذا حال هذا الركن الركين الّذي يعتمد عليه بناية الدين أعني رأي أهل الحلّ و العقد لو كان هو المراد باُولي الأمر المعصومين في رأيهم.

فلا مناص على القول بأنّ المراد باُولي الأمر أهل الحلّ و العقد من أن نقول بجواز خطإهم و أنّهم على حدّ سائر الناس يصيبون و يخطؤون غير أنّهم لمّا كانوا عصابة فاضلة خبيرة بالاُمور مدرّبين مجرّبين يقلّ خطؤهم جدّاً، و أنّ الأمر بوجوب طاعتهم مع كونهم ربّما يغلطون و يخطؤون من باب المسامحة في موارد الخطإ نظراً إلى المصلحة الغالبة في مداخلتهم فلو حكموا بما يغاير حكم الكتاب و السنّة، و يطابق ما شخّصوه من مصلحة الاُمّة بتفسير حكم من أحكام الدين بغير ما كان يفسّر سابقاً أو تغيير حكم بما يوافق صلاح الوقت أو طبع الاُمّة أو وضع حاضر الدنيا كان هو المتّبع، و هو الّذي يرتضيه الدين لأنّه لا يريد إلّا سعادة المجتمع و رقيّة في اجتماعه كما هو الظاهر المتراءى من سير الحكومات الإسلاميّة في صدر الإسلام و من دونهم فلم يمنع حكم من الأحكام الدائرة في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يقض على سيرة من سيره و سننه إلّا علّل ذلك بأنّ الحكم السابق يزاحم حقّاً من حقوق الاُمّة، و أنّ صلاح حال الاُمّة في إنفاذ حكم جديد يصلح شأنهم، أو سنّ سنّة حديثة توافق آمالهم في سعادة الحياة، و قد صرّح بعض الباحثين(١) أنّ الخليفة له أن يعمل بما يخالف صريح الدين حفظاً لصلاح الاُمّة.

____________________

(١) صاحب فجر الإسلام فيه.

٤٢٣

و على هذا فيكون حال الملّة الإسلاميّة حال سائر المجتمعات الفاضلة المدنيّة في أنّ فيها جمعيّة منتخبة تحكم على قوانين المجتمع على حسب ما تراه و تشاهده من مقتضيات الأحوال، و موجبات الأوضاع.

و هذا الوجه أو القول - كما ترى - قول من يرى أنّ الدين سنّة اجتماعيّة سبكت في قالب الدين، و ظهرت في صورته فهو محكوم بما يحكم على متون الاجتماعات البشريّة و هياكلها بالتطوّر في أطوار الكمال التدريجيّ، و مثال عال لا ينطبق إلّا على حياة الإنسان الّذي كان يعيش في عصر النبوّة و ما يقاربه.

فهي حلقة متقضيّة من حلق هذه السلسلة المسمّاة بالمجتمع الإنسانيّ لا ينبغي أن يبحث عنها اليوم إلّا كما يبحث علماء طبقات الأرض (الجيولوجيا) عن السلع المستخرجة من تحت أطباق الأرض.

و الّذي يذهب إلى مثل هذا القول لا كلام لنا معه في هذه الآية:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) الآية، فإنّ القول يبتني على أصل مؤثّر في جميع الاُصول و السنن المأثورة من الدين من معارف أصليّة و نواميس أخلاقيّة و أحكام فرعيّة و لو حمل على هذا ما وقع من الصحابة في زمن النبيّ و في مرض موته ثمّ الاختلافات الّتي صدرت منهم و ما وقع من تصرّف الخلفاء في بعض الأحكام و بعض سير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ في زمن معاوية و من تلاه من الأمويّين ثمّ العبّاسيّين ثمّ الّذين يلونهم و الجميع اُمور متشابهة أنتج نتيجة باهتة.

و من أعجب الكلام المتعلّق بهذه الآية ما ذكره بعض المؤلّفين أنّ قوله تعالى:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) لا يدلّ على شي‏ء ممّا ذكره المفسّرون على اختلاف أقوالهم.

أمّا أوّلاً فلأنّ فرض طاعة اُولي الأمر كائنين من كانوا لا يدلّ على فضل و مزيّة لهم على غيرهم أصلاً كما أنّ طاعة الجبابرة و الظلّام واجبة علينا في حال الاضطرار اتّقاءً من شرّهم، و لن يكونوا بذلك أفضل منّا عندالله سبحانه.

و أمّا ثانياً فلأنّ الحكم المذكور في الآية لا يزيد على سائر الأحكام الّتي تتوقّف

٤٢٤

فعليّتها على تحقّق موضوعاتها نظير وجوب الإنفاق على الفقير و حرمة إعانة الظالم فليس يجب علينا أن نوجد فقيراً حتّى ننفق عليه أو ظالماً حتّى لا نعينه.

و الوجهان اللّذان ذكرهما ظاهرا الفساد، مضافاً إلى أنّ هذا القائل قدّر أنّ المراد باُولي الأمر في الآية الحكّام و السلاطين و قد تبيّن فساد هذا الاحتمال.

أمّا الوجه الأوّل فلأنّه غفل عن أنّ القرآن مملوء من النهي عن طاعة الظالمين و المسرفين و الكافرين، و من المحال أن يأمر الله مع ذلك بطاعتهم ثمّ يزيد على ذلك فيقرن طاعتهم بطاعة نفسه و رسوله، و لو فرض كون هذه الطاعة طاعة تقيّة لعبّر عنها بإذن و نحو ذلك كما قال تعالى:( إلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) آل عمران: ٢٨، لا بالأمر بطاعتهم صريحاً حتّى يستلزم كلّ محذور شنيع.

و أمّا الوجه الثاني فهو مبنيّ على الوجه الأوّل من معنى الآية أمّا لو فرض افتراض طاعتهم لكونهم ذا شأن في الدين كانوا معصومين لما تقدّم تفصيلاً، و محال أن يأمر الله بطاعة من لا مصداق له، أو له مصداق اتّفاقيّ في آية تتضمّن اُسّ أساس المصالح الدينيّة و حكماً لا يستقيم بدونه حال المجتمع الإسلاميّ أصلاً، و قد عرفت أنّ الحاجة إلى اُولي الأمر عين الحاجة إلى الرسول و هي الحاجة إلى ولاية أمر الاُمّة و قد تكلّمنا فيه في بحث المحكم و المتشابه.

و لنرجع إلى أوّل الكلام في الآية:

ظهر لك من جميع ما قدّمناه أن لا معنى لحمل قوله تعالى:( وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) على جماعة المجمعين من أهل الحلّ و العقد، و هي إلهيئة الاجتماعيّة بأيّ معنى من المعاني فسّرناه فليس إلّا أنّ المراد باُولي الأمر آحاد من الاُمّة معصومون في أقوالهم مفترض طاعتهم فتحتاج معرفتهم إلى تنصيص من جانب الله سبحانه من كلامه أو بلسان نبيّه فينطبق على ما روي من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم هم.

و أمّا ما قيل: إنّ اُولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أو اُمراء السرايا أو العلماء المتّبعون في أقوالهم و آرائهم فيدفع ذلك كلّه أوّلاً: أنّ الآية تدلّ على عصمتهم و لا عصمة

٤٢٥

في هؤلاء الطبقات بلا إشكال إلّا ما تعتقده طائفة من المسلمين في حقّ عليّعليه‌السلام ، و ثانياً: أنّ كلّاً من الأقوال الثلاث قول من غير دليل يدلّ عليه.

و أمّا ما اُورد على كون المراد به أئمّة أهل البيت المعصومينعليهم‌السلام :

أوّلاً: أنّ ذلك يحتاج إلى تعريف صريح من الله و رسوله، و لو كان ذلك لم يختلف في أمرهم اثنان بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه: أنّ ذلك منصوص عليه في الكتاب و السنّة كآية الولاية و آية التطهير و غير ذلك، و سيأتي بسط الكلام فيها، وكحديث السفينة:( مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، و من تخلّف عنها غرق) و حديث الثقلين:( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) و قد مرّ في بحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب، و كأحاديث اُولي الأمر المرويّة من طرق الشيعة و أهل السنّة، و سيجي‏ء بعضها في البحث الروائيّ التالي.

و ثانياً: أنّ طاعتهم مشروطة بمعرفتهم فإنّها من دون معرفتهم تكليف بما لا يطاق و إذا كانت مشروطة فالآية تدفعه لأنّها مطلقة.

و فيه: أنّ الإشكال منقلب على المستشكل فإنّ الطاعة مشروطة بالمعرفة مطلقاً، و إنّما الفرق أنّ أهل الحلّ و العقد يعرف مصداقهم على قوله من عند أنفسنا من غير حاجة إلى بيان من الله و رسوله، و الإمام المعصوم يحتاج معرفته إلى معرّف يعرّفه، و لا فرق بين الشرط و الشرط في منافاته الآية.

على أنّ المعرفة و إن عدّت شرطاً لكنّها ليست من قبيل سائر الشروط فإنّها راجعة إلى تحقّق بلوغ التكليف فلا تكليف من غير معرفة به و بموضوعه و متعلّقه، و ليست راجعة إلى التكليف و المكلّف به، و لو كانت المعرفة في عداد سائر الشرائط كالاستطاعة في الحجّ، و وجدان الماء في الوضوء مثلاً لم يوجد تكليف مطلق أبداً إذ لا معنى لتوجّه التكليف إلى مكلّف سواء علم به أو لم يعلم.

و ثالثاً: أنّا في زماننا هذا عاجزون عن الوصول إلى الإمام المعصوم و تعلّم العلم و الدين منه، فلا يكون هو الّذي فرض الله طاعته على الاُمّة إذ لا سبيل إليه.

٤٢٦

و فيه: أنّ ذلك مستند إلى نفس الاُمّة في سوء فعالها و خيانتها على نفسها لا إلى الله و رسوله فالتكليف غير مرتفع كما لو قتلت الاُمّة نبيّها ثمّ اعتذرت أنّها لا تقدر على طاعته، على أنّ الإشكال مقلوب عليه فإنّا لا نقدر اليوم على اُمّة واحدة في الإسلام ينفذ فيها ما استصوبته لها أهل الحلّ و العقد منها.

و رابعاً: أنّ الله تعالى يقول:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَ الرَّسُولِ ) ، و لو كان المراد من اُولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال: فإن تنازعتم في شي‏ء فردّوه إلى الإمام.

و فيه: أنّ جوابه تقدّم فيما مرّ من البيان، و المراد بالردّ الردّ إلى الإمام بالتقريب الّذي تقدّم.

و خامساً: أنّ القائلين بالإمام المعصوم يقولون: إنّ فائدة اتّباعه إنقاذ الاُمّة من ظلمة الخلاف، و ضرر التنازع و التفرّق و ظاهر الآية يبيّن حكم التنازع مع وجود اُولي الأمر، و طاعة الاُمّة لهم كأن يختلف اُولو الأمر في حكم بعض النوازل و الوقائع، و الخلاف و التنازع مع وجود الإمام المعصوم غير جائز عند القائلين به لأنّه عندهم مثل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يكون لهذا الزيادة فائدة على رأيهم.

و فيه: أنّ جوابه ظاهر ممّا تقدّم أيضاً فإنّ التنازع المذكور في الآية إنّما هو تنازع المؤمنين في أحكام الكتاب و السنّة دون أحكام الولاية الصادرة عن الإمام في الوقائع و الحوادث، و قد تقدّم أن لا حكم إلّا لله و رسوله فإن تمكّن المتنازعون من فهم الحكم من الكتاب و السنّة كان لهم أن يستنبطوه منهما، أو يسألوا الإمام عنه و هو معصوم في فهمه، و إن لم يتمكّنوا من ذلك كان عليهم أن يسألوا عنه الإمام، و ذلك نظير ما كان لمن يعاصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يتفقّهون فيما يتمكّنون منه أو يسألون عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و يسألونه فيما لا يتمكّنون من فهمه بالاستنباط.

فحكم اُولي الأمر في الطاعة حكم الرسول على ما يدلّ عليه الآية، و حكم التنازع هو الّذي ذكره في الآية سواء في ذلك حضور الرسول كما يدلّ عليه الآيات التالية، و غيبته كما يدلّ عليه الأمر في الآية بإطلاقه، فالردّ إلى الله و الرسول المذكور في الآية

٤٢٧

مختصّ بصورة تنازع المؤمنين كما يدلّ عليه قوله: تَنازَعْتُمْ، و لم يقل: فإن تنازع اُولو الأمر، و لا قال: فإن تنازعوا، و الردّ إلى الله و الرسول عند حضور الرسول هو سؤال الرسول عن حكم المسألة أو استنباطه من الكتاب و السنّة للمتمكّن منه، و عند غيبته أن يسأل الإمام عنه أو الاستنباط كما تقدّم بيانه، فلا يكون قوله:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ ) إلخ زائداً من الكلام مستغنى عنه كما ادّعاه المستشكل.

فقد تبيّن من جميع ما تقدّم: أنّ المراد باُولي الأمر في الآية رجال من الاُمّة حكم الواحد منهم في العصمة و افتراض الطاعة حكم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و هذا مع ذلك لا ينافي عموم مفهوم لفظ اُولي الأمر بحسب اللّغة، و إرادته من اللّفظ فإنّ قصد مفهوم من المفاهيم من اللّفظ شي‏ء و إرادة المصداق الّذي ينطبق عليه المفهوم شي‏ء آخر، و ذلك كما أنّ مفهوم الرسول معنى عامّ كلّيّ و هو المراد من اللّفظ في الآية لكنّ المصداق المقصود هو الرسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَ الرَّسُولِ ) إلى آخر الآية تفريع على الحصر المستفاد من المورد فإنّ قوله:( أَطِيعُوا الله ) إلخ حيث أوجب طاعة الله و رسوله، و هذه الطاعة إنّما هي في الموادّ الدينيّة الّتي تتكفّل رفع كلّ اختلاف مفروض، و كلّ حاجة ممكنة لم يبق مورد تمسّ الحاجة الرجوع إلى غير الله و رسوله، و كان معنى الكلام: أطيعوا الله، و لا تطيعوا الطاغوت، و هو ما ذكرناه من الحصر.

و توجّه الخطاب إلى المؤمنين كاشف عن أنّ المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم لا تنازع مفروض بينهم و بين اُولي الأمر، و لا تنازع مفروض بين اُولي الأمر فإنّ الأوّل أعني التنازع بينهم و بين اُولي الأمر لا يلائم افتراض طاعة اُولي الأمر عليهم، و كذا الثاني أعني التنازع بين اُولي الأمر فإنّ افتراض الطاعة لا يلائم التنازع الّذي أحد طرفيه على الباطل، على أنّه لا يناسب كون الخطاب متوجّها إلى المؤمنين في قوله:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ ) .

و لفظ الشي‏ء و إن كان يعمّ كلّ حكم و أمر من الله و رسوله و اُولي الأمر كائناً ما كان لكنّ قوله بعد ذلك:( فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَ الرَّسُولِ ) يدلّ على أنّ المفروض هو النزاع

٤٢٨

في شي‏ء ليس لاُولي الأمر الاستقلال و الاستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك، إذ لا معنى لإيجاب الردّ إلى الله و الرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها.

فالآية تدلّ على وجوب الردّ في نفس الأحكام الدينيّة الّتي ليس لأحد أن يحكم فيها بإنفاذ أو نسخ إلّا الله و رسوله، و الآية كالصريح في أنّه ليس لأحد أن يتصرّف في حكم دينيّ شرّعه الله و رسوله، و اُولوا الأمر و من دونهم في ذلك سواء.

و قوله:( إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله ) ، تشديد في الحكم و إشارة إلى أنّ مخالفته إنّما تنتشئ من فساد في مرحلة الإيمان فالحكم يرتبط به ارتباطاً فالمخالفة تكشف عن التظاهر بصفة الإيمان بالله و رسوله، و استبطان للكفر، و هو النفاق كما يدلّ عليه الآيات التالية.

و قوله:( ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحسن تَأْوِيلًا ) أي الردّ عند التنازع أو إطاعة الله و رسوله و اُولي الأمر، و التأويل هو المصلحة الواقعيّة الّتي تنشأ منها الحكم ثمّ تترتّب على العمل و قد تقدّم البحث عن معناه في ذيل قوله تعالى:( وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا الله ) الآية: آل عمران: ٧، في الجزء الثالث من الكتاب.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ يَزْعُمُونَ أنّهم آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) إلى آخر الآية الزعم هو الاعتقاد بكذا سواء طابق الواقع أم لا، بخلاف العلم فإنّه الاعتقاد المطابق للواقع، و لكون الزعم يستعمل في الاعتقاد في موارد لا يطابق الواقع ربّما يظنّ أن عدم مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه و ليس كذلك، و الطاغوت مصدر بمعنى الطغيان كالرهبوت و الجبروت و الملكوت غير أنّه ربّما يطلق و يراد به اسم الفاعل مبالغة يقال: طغى الماء إذا تعدّى ظرفه لوفوره و كثرته، و كان استعماله في الإنسان أوّلاً على نحو الاستعارة ثمّ ابتذل فلحق بالحقيقة و هو خروج الإنسان عن طوره الّذي حدّه له العقل أو الشرع، فالطاغوت هو الظالم الجبّار، و المتمرّد عن وظائف عبوديّة الله استعلاءً عليه تعالى و هكذا، و إليه يعود ما قيل: إنّ الطاغوت كلّ معبود من دون الله.

و قوله:( بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) ، بمنزلة أن يقال: بما أنزل الله على

٤٢٩

رسله، و لم يقل: آمنوا بك و بالّذين من قبلك لأنّ الكلام في وجوب الردّ إلى كتاب الله و حكمه و بذلك يظهر أنّ المراد بقوله:( وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) الأمر في الكتب السماويّة و الوحي النازل على الأنبياء: محمّد و من قبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قوله:( أَ لَمْ تَرَ) إلخ، الكلام بمنزلة دفع الدخل كأنّه قيل: ما وجه ذكر قوله:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) إلخ فقيل: أ لم تر إلى تخلّفهم من الطاعة حيث يريدون التحاكم إلى الطاغوت؟ و الاستفهام للتأسّف و المعنى: من الأسف ما رأيته أنّ بعض الناس، و هم معتقدون أنّهم مؤمنون بما اُنزل إليك من الكتاب و إلى سائر الأنبياء و الكتب السماويّة إنّما اُنزلت لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و قد بيّنه الله تعالى لهم بقوله:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) البقرة: ٢١٣، يتحاكمون عند التنازع إلى الطاغوت و هم أهل الطغيان و المتمرّدون عن دين الله المتعدّون على الحقّ، و قد اُمروا في هذه الكتب أن يكفروا بالطاغوت، و كفى في منع التحاكم إليهم أنّه إلغاء لكتب الله و إبطال لشرائعه.

و في قوله( وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً ) ، دلالة على أنّ تحاكمهم إنّما هو بإلقاء الشيطان و إغوائه، و الوجهة فيه الضلال البعيد.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا ) إلى آخر الآية، تعالوا بحسب الأصل أمر من التعالي و هو الارتفاع، و صدّ عنه يصدّ صدوداً أي أعرض، و قوله:( إِلى‏ ما أَنْزَلَ الله وَ إِلَى الرَّسُولِ) ، بمنزلة أن يقال: إلى حكم الله و من يحكم به، و في قوله:( يَصُدُّونَ عَنْكَ ) ، إنّما خصّ الرسول بالإعراض مع أنّ الّذي دعوا إليه هو الكتاب و الرسول معاً لا الرسول وحده لأنّ الأسف إنّما هو من فعل الّذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل الله فهم ليسوا بكافرين حتّى يتجاهروا بالإعراض عن كتاب الله بل منافقون بالحقيقة يتظاهرون بالإيمان بما أنزل الله لكنّهم يعرضون عن رسوله.

و من هنا يظهر أنّ الفرق بين الله و رسوله بتسليم حكم الله و التوقّف في حكم الرسول نفاق البتّة.

٤٣٠

قوله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ ) إلخ إيذان بأنّ هذا الإعراض و الانصراف عن حكم الله و رسوله، و الإقبال إلى غيره و هو حكم الطاغوت سيعقّب مصيبة تصيبهم لا سبب لها إلّا هذا الإعراض عن حكم الله و رسوله، و التحاكم إلى الطاغوت، و قوله:( ثمّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِالله ) ، حكاية لمعذرتهم أنّهم ما كانوا يريدون بركونهم إلى حكم الطاغوت سوءً، و المعنى - و الله أعلم -: فإذا كان حالهم هذا الحال كيف صنيعهم إذا أصابهم بفعالهم هذا وباله السيّئ ثمّ جاؤك يحلفون بالله قائلين ما أردنا بالتحاكم إلى غير الكتاب و الرسول إلّا الإحسان و التوفيق و قطع المشاجرة بين الخصوم؟

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الّذينَ يَعْلَمُ الله ما فِي قُلُوبِهِمْ ) إلخ تكذيب لقولهم فيما اعتذروا به، و لم يذكر حال ما في قلوبهم، و أنّه ضمير فاسد لدلالة قوله:( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ ) على ذلك إذ لو كان ما في قلوبهم غير فاسد كان قولهم صدقاً و حقّاً و لا يؤمر بالإعراض عمّن يقول الحقّ و يصدق في قوله.

و قوله:( وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً ) أي قولاً يبلغ في أنفسهم ما تريد أن يقفوا عليه و يفقهوه من مفاسد هذا الصنيع، و أنّه نفاق لو ظهر نزل بهم الويل من سخط الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ الله ) ، ردّ مطلق لجميع ما تقدّمت حكايته من هؤلاء المنافقين من التحاكم إلى الطاغوت، و الإعراض عن الرسول، و الحلف و الاعتذار بالإحسان و التوفيق. فكلّ ذلك مخالفة للرسول بوجه سواء كانت مصاحبة لعذر يعتذر به أم لا، و قد أوجب الله طاعته من غير قيد و شرط فإنّه لم يرسله إلّا ليطاع بإذن الله، و ليس لأحد أن يتخيّل أنّ المتّبع من الطاعة طاعة الله، و إنّما الرسول بشر ممّن خلق إنّما يطاع لحيازة الصلاح فإذا اُحرز صلاح من دون طاعته فلا بأس بالاستبداد في إحرازه، و ترك الرسول في جانب، و إلّا كان إشراكاً بالله، و عبادة لرسوله معه، و ربّما كان يلوح ذلك في اُمور يكلّمون فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول قائلهم له إذا عزم عليهم في مهمّة: أ بأمر من الله أم منك؟.

فذكر الله سبحانه أنّ وجوب طاعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجوب مطلق، و ليست إلّا طاعة

٤٣١

الله فإنّها بإذنه نظير ما يفيده قوله تعالى:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله ) الآية: النساء: ٨٠.

ثمّ ذكر أنّهم لو رجعوا إلى الله و رسوله بالتوبة حين ما خالفوا الرسول بالإعراض لكان خيراً لهم من أن يحلفوا بالله، و يلفّقوا أعذاراً غير موجّهة لا تنفع و لا ترضي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ الله سبحانه يخبره بحقيقة الأمر، و ذلك قوله:( وَ لَوْ أنّهم إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ ) إلى آخر الآية.

قوله تعالى: ( فَلا وَ ربّك لا يُؤْمِنُونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ ) إلخ، الشجر - بسكون الجيم - و الشجور: الاختلاط يقال: شجر شجراً و شجوراً أي اختلط، و منه التشاجر و المشاجرة كأنّ الدعاوي أو الأقوال اختلط بعضها مع بعض، و منه قيل للشجر: شجر لاختلاط غصونها بعضها مع بعض، و الحرج الضيق.

و ظاهر السياق في بدء النظر أنّه ردّ لزعم المنافقين أنّهم آمنوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع تحاكمهم إلى الطاغوت فالمعنى: فليس كما يزعمون أنّهم يؤمنون مع تحاكمهم إلى الطاغوت بل لا يؤمنون حتّى يحكّموك إلخ.

لكن شمول حكم الغاية أعني قوله:( حتّى يُحَكِّمُوكَ ) إلخ لغير المنافقين، و كذا قوله بعد ذلك:( وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ - إلى قوله -ما فَعَلُوهُ إلّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) يؤيّد أنّ الردّ لا يختصّ بالمنافقين بل يعمّهم و غيرهم من جهة أنّ ظاهر حالهم أنّهم يزعمون أنّ مجرّد تصديق ما اُنزل من عند الله بما يتضمّنه من المعارف و الأحكام إيمان بالله و رسوله و بما جاء به من عند ربّه حقيقة، و ليس كذلك بل الإيمان تسليم تامّ باطناً و ظاهراً فكيف يتأتّى لمؤمن حقّاً أن لا يسلّم للرسول حكماً في الظاهر بأن يعرض عنه و يخالفه، أو في باطن نفسه بأن يتحرّج عن حكم الرسول إذا خالف هوى نفسه، و قد قال الله تعالى لرسوله:( لِتحكّم بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ الله ) النساء: ١٠٥.

فلو تحرّج متحرّج بما قضى به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن حكم الله تحرّج لأنّه الّذي شرّفه بافتراض الطاعة و نفوذ الحكم.

و إذا كانوا سلّموا حكم الرسول، و لم يتحرّج قلوبهم منه كانوا مسلّمين لحكم الله

٤٣٢

قطعاً سواء في ذلك حكمه التشريعيّ و التكوينيّ، و هذا موقف من مواقف الإيمان يتلبّس فيه المؤمن بعدّة من صفات الفضيلة أوضحها: التسليم لأمر الله، و يسقط فيه التحرّج و الاعتراض و الردّ من لسان المؤمن و قلبه، و قد اُطلق في الآية التسليم إطلاقاً.

و من هنا يظهر أنّ قوله: فَلا وَ ربّك إلى آخر الآية، و إن كان مقصوراً على التسليم لحكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحسب اللّفظ لأنّ مورد الآيات هو تحاكمهم إلى غير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع وجوب رجوعهم إليه إلّا أنّ المعنى عامّ لحكم الله و رسوله جميعاً، و لحكم التشريع و التكوين جميعاً كما عرفت.

بل المعنى يعمّ الحكم بمعنى قضاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كلّ سيرة سار بها أو عمل عمل به لأنّ الأثر مشترك فكلّ ما ينسب بوجه إلى الله و رسوله بأيّ نحو كان لا يتأتّى لمؤمن بالله حقّ إيمانه أن يردّه أو يعترض عليه أو يملّه أو يسوءه بوجه من وجوه المساءة فكلّ ذلك شرك على مراتبه، و قد قال تعالى:( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إلّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) يوسف: ١٠٦.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ - إلى قوله -ما فَعَلُوهُ إلّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) قد تقدّم في قوله:( وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا ) نساء: ٤ أنّ هذا التركيب يدلّ على أنّ الحكم للهيئة الاجتماعيّة من الأفراد و هو المجتمع، و أنّ الاستثناء لدفع توهّم استغراق الحكم و استيعابه لجميع الأفراد، و لذلك كان هذا الاستثناء أشبه بالمنفصل منه بالمتّصل أو هو برزخ بين الاستثنائين: المتّصل و المنفصل لكونه ذا جنبتين.

على هذا فقوله( ما فَعَلُوهُ إلّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ ) وارد مورد الإخبار عن حال الجملة المجتمعة أنّهم لا يمتثلون الأحكام و التكاليف الحرجيّة الشاقّة الّتي تماسّ ما يتعلّق به قلوبهم تعلّق الحبّ الشديد كنفوسهم و ديارهم، و استثناء القليل لدفع التوهّم.

فالمعنى: و لو أنّا كتبنا أي فرضنا عليهم قتل أنفسهم و الخروج من ديارهم و أوطانهم المألوفة لهم ما فعلوه أي لم يمتثلوا أمرنا، ثمّ لما استشعر أنّ قوله: ما فعلوه يوهم أن ليس فيهم من هو مؤمن حقّاً مسلّم لحكم الله حقيقة دفع ذلك باستثناء القليل منهم، و لم

٤٣٣

يكن يشمله الحكم حقيقة لأنّ الإخبار عن حال المجتمع من حيث إنّه مجتمع و لم تكن الأفراد داخلة فيه إلّا بتبع الجملة.

و من هنا يظهر أنّ المراد قتل الجملة الجملة و خروج الجملة و جلاؤهم من جملة ديارهم كالبلدة و القرية دون قتل كلّ واحد نفسه، و خروجه من داره كما في قوله تعالى:( فَتُوبُوا إِلى‏ بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) البقرة: ٥٤، فإنّ المقصود بالخطاب هو الجماعة دون الأفراد.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أنّهم فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أشدّ تَثْبِيتاً ) في تبديل الكتابة في قوله:( وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ ) ، بالوعظ في قوله:( ما يُوعَظُونَ بِهِ ) إشارة إلى أنّ هذه الأحكام الظاهرة في صورة الأمر و الفرض ليست إلّا إشارات إلى ما فيه صلاحهم و سعادتهم فهي في الحقيقة مواعظ و نصائح يراد بها خيرهم و صلاحهم.

و قوله:( لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) أي في جميع ما يتعلّق بهم من اُولاهم و اُخراهم، و ذلك أنّ خير الآخرة لا ينفكّ من خير الدنيا بل يستتبعه، و قوله:( وَ أشدّ تَثْبِيتاً ) أي لنفوسهم و قلوبهم بالإيمان لأنّ الكلام فيه، قال تعالى:( يُثَبِّتُ الله الّذينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ) الآية: إبراهيم: ٢٧.

قوله تعالى: ( وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ) أي حين تثبّتوا بالإيمان الثابت، و الكلام في إبهام قوله:( أَجْراً عَظِيماً ) كالكلام في إطلاق قوله:( لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) قد مضى الكلام في معنى الصراط المستقيم في ذيل قوله:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الحمد: ٦، في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يُطِعِ الله وَ الرَّسُولَ - إلى قوله -حسن أُولئِكَ رَفِيقاً ) جمع بين الله و الرسول في هذا الوعد الحسن مع كون الآيات السابقة متعرّضة لإطاعة الرسول و التسليم لحكمه و قضائه، لتخلّل ذكره تعالى بينها في قوله:( وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ ) إلخ فالطاعة المفترضة طاعته تعالى و طاعة رسوله، و قد بدأ الكلام على هذا النحو في قوله:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) الآية.

٤٣٤

و قوله:( فَأُولئِكَ مَعَ الّذينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ ) ، يدلّ على اللّحوق دون الصيرورة فهؤلاء ملحقون بجماعة المنعم عليهم، و هم أصحاب الصراط المستقيم الّذي لم ينسب في كلامه تعالى إلى غيره إلّا إلى هذه الجماعة في قوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) الحمد: ٧، و بالجملة فهم ملحقون بهم غير صائرين منهم كما لا يخلو قوله:( وَ حسن أُولئِكَ رَفِيقاً ) من تلويح إليه، و قد تقدّم أنّ المراد بهذه النعمة هي الولاية.

و أمّا هؤلاء الطوائف الأربع أعني النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين فالنبيّون هم أصحاب الوحي الّذين عندهم نبأ الغيب، و لا خبرة لنا من حالهم بأزيد من ذلك إلّا من حيث الآثار، و قد تقدّم أنّ المراد بالشهداء شهداء الأعمال فيما يطلق من لفظ الشهيد في القرآن دون المستشهدين في معركة القتال، و أنّ المراد بالصالحين هم أهل اللّياقة بنعم الله.

و أمّا الصدّيقون فالّذي يدلّ عليه لفظه هو أنّه مبالغة من الصدق، و من الصدق ما هو في القول، و منه ما هو في الفعل، و صدق الفعل هو مطابقته للقول لأنّه حاك عن الاعتقاد فإذا صدق في حكايته كان حاكياً لما في الضمير من غير تخلّف، و صدق القول مطابقته لما في الواقع، و حيث كان القول نفسه من الفعل بوجه كان الصادق في فعله لا يخبر إلّا عمّا يعلم صدقه و أنّه حقّ، ففي قوله الصدق الخبريّ و المخبريّ جميعاً.

فالصدّيق الّذي لا يكذب أصلاً هو الّذي لا يفعل إلّا ما يراه حقّاً من غير اتّباع لهوى النفس، و لا يقول إلّا ما يرى أنّه حقّ، و لا يرى شيئاً إلّا ما هو حقّ فهو يشاهد حقائق الأشياء، و يقول الحقّ، و يفعل الحقّ.

و على ذلك فيترتّب المراتب فالنبيّون و هم السادة، ثمّ الصدّيقون و هم شهداء الحقائق و الأعمال، و الشهداء و هم شهداء الأعمال، و الصالحون و هم المتهيّؤون للكرامة الإلهيّة.

و قوله تعالى:( وَ حسن أُولئِكَ رَفِيقاً ) أي من حيث الرفاقة فهو تمييز، قيل: و لذلك لم يجمع، و قيل: المعنى: حسن كلّ واحد منهم رفيقاً، و هو حال نظير قوله:( ثمّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ) الحجّ: ٥.

٤٣٥

قوله تعالى: ( ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ الله وَ كَفى‏ بِالله عَلِيماً ) تقديم( ذلِكَ ) و إتيانه بصيغة الإشارة الدالّة على البعيد و دخول اللّام في الخبر يدلّ على تفخيم أمر هذا الفضل كأنّه كلّ الفضل، و ختم الآية بالعلم لكون الكلام في درجات الإيمان الّتي لا سبيل إلى تشخيصها إلّا العلم الإلهيّ.

و اعلم أنّ في هذه الآيات الشريفة موارد عديدة من الالتفات الكلاميّ متشابك بعضها مع بعض فقد اُخذ المؤمنون في صدر الآيات مخاطبين ثمّ في قوله:( وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ ) كما مرّ غائبين، و كذلك أخذ تعالى نفسه في مقام الغيبة في صدر الآيات في قوله:( أَطِيعُوا الله ) الآية، ثمّ في مقام المتكلّم مع الغير في قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ ) الآية، ثمّ الغيبة في قوله:( بِإِذْنِ الله ) الآية، ثمّ المتكلّم مع الغير في قوله:( وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا ) الآية، ثمّ الغيبة في قوله:( وَ مَنْ يُطِعِ الله وَ الرَّسُولَ ) الآية.

و كذلك الرسول اُخذ غائباً في صدر الآيات في قوله:( وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) الآية، ثمّ مخاطباً في قوله:( ذلِكَ خَيْرٌ ) الآية، ثمّ غائباً في قوله:( وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) الآية، ثمّ مخاطباً في قوله:( فَلا وَ ربّك ) الآية، ثمّ غائباً في قوله:( وَ مَنْ يُطِعِ الله وَ الرَّسُولَ ) الآية، ثمّ مخاطباً في قوله:( وَ حسن أُولئِكَ ) الآية، فهذه عشر موارد من الالتفات الكلاميّ و النكات المختصّة بكلّ مورد مورد ظاهرة للمتدبّر.

( بحث روائي‏)

في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن جابر بن عبدالله الأنصاريّ: لمّا أنزل الله عزّوجلّ على نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) قلت: يا رسول الله عرفنا الله و رسوله فمن اُولو الأمر الّذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هم خلفائي يا جابر و أئمّة المسلمين من بعدي: أوّلهم عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ محمّد بن عليّ المعروف في التوراة بالباقر ستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرأه منّي السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمّد ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ عليّ بن موسى، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ عليّ بن محمّد، ثمّ الحسن بن

٤٣٦

عليّ، ثمّ سميّي محمّد و كنيّي حجّة الله في أرضه و بقيّته في عباده ابن الحسن بن عليّ ذاك الّذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض و مغاربها، ذاك الّذي يغيب عن شيعته و أوليائه غيبة لا يثبت فيه على القول بإمامته إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان.

قال جابر: فقلت له يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إي و الّذي بعثني بالنبوّة إنّهم يستضيؤن بنوره، و ينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس و إن تجلّاها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سرّ الله و مخزون علم الله فاكتمه إلّا عن أهله.

أقول: و عن النعمانيّ بإسناده عن سليم بن قيس الهلاليّ عن عليّعليه‌السلام ما في معنى الرواية السابقة، و رواها عليّ بن إبراهيم بإسناده عن سليم عنهعليه‌السلام ، و هناك روايات اُخر من طرق الشيعة و أهل السنّة، و فيها ذكر إمامتهم بأسمائهم من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى كتاب ينابيع المودّة و كتاب غاية المرام للبحرانيّ و غيرهما.

و في تفسير العيّاشيّ، عن جابر الجعفيّ قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن هذه الآية:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) قال: الأوصياء.

أقول: و في تفسير العيّاشيّ، عن عمر بن سعيد عن أبي الحسنعليه‌السلام مثله و فيه: عليّ بن أبي طالب و الأوصياء من بعده.

و عن ابن شهرآشوب: سأل الحسن بن صالح عن الصادقعليه‌السلام عن ذلك فقال: الأئمّة من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: و روى مثله الصدوق عن أبي بصير عن الباقرعليه‌السلام و فيه: قال: الأئمّة من ولد عليّ و فاطمة إلى أن تقوم الساعة.

و في الكافي، بإسناده عن أبي مسروق عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له: إنّا نكلّم أهل الكلام فنحتجّ عليهم بقول الله عزّوجلّ:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) فيقولون: نزلت في المؤمنين، و نحتجّ عليهم بقول الله عزّوجلّ:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فيقولون: نزلت في قربى المسلمين قال: فلم أدع شيئاً ممّا حضرني ذكره من هذا و شبهه إلّا ذكرته، فقال لي: إذا كان ذلك

٤٣٧

فادعهم إلى المباهلة، قلت: و كيف أصنع؟ فقال: أصلح نفسك ثلاثاً و أطبه، قال: و صم و اغتسل و ابرز أنت و هو إلى الجبال فتشبّك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ثمّ أنصفه، و ابدأ بنفسك، و قل: اللّهمّ ربّ السموات السبع و ربّ الأرضين السبع عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم إن كان أبو مسروق جحد حقّاً و ادّعى باطلاً فأنزل عليه حسباناً من السماء و عذاباً أليماً، ثمّ ردّ الدعوة عليه فقل: و إن جحد حقّاً و ادّعى باطلاً فأنزل عليه حسباناً من السماء و عذاباً أليماً.

ثمّ قال لي: فإنّك لا تلبث أن ترى ذلك فيه، فوالله ما وجدت خلقاً يجيبني إليه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن عجلان عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) قال: هي في عليّ و في الأئمّة جعلهم الله مواضع الأنبياء غير أنّهم لا يحلّون شيئاً و لا يحرّمونه.

أقول: و الاستثناء في الرواية هو الّذي قدّمنا في ذيل الكلام على الآية أنّها تدلّ على أن لا حكم تشريعاً إلّا لله و رسوله.

و في الكافي، بإسناده عن بريد بن معاوية قال: تلا أبوجعفرعليه‌السلام : أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و اُولي الأمر منكم فإن خفتم تنازعاً في الأمر فأرجعوه إلى الله و إلى الرسول و إلى اُولي الأمر منكم.

قال: كيف يأمر بطاعتهم و يرخّص في منازعتهم إنّما قال ذلك للمارقين الّذين قيل لهم:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) .

أقول: الرواية لا تدلّ على أزيد من كون ما تلاهعليه‌السلام تفسيراً للآية و بياناً للمراد منها، و قد تقدّم في البيان السابق توضيح دلالتها على ذلك، و ليس المراد هو القراءة كما ربّما يستشعر من قوله: تلا أبوجعفرعليه‌السلام .

و يدلّ على ذلك اختلاف اللّفظ الموجود في الروايات كما في تفسير القمّيّ، بإسناده عن حريز عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: نزلت:( فإن تنازعتم في شي‏ء فأرجعوه إلى الله و إلى الرسول و إلى اُولي الأمر منكم) .

و ما في تفسير العيّاشيّ، عن بريد بن معاوية عن أبي جعفرعليه‌السلام (و هو رواية الكافي،

٤٣٨

السابقة) و في الحديث: ثمّ قال للناس:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا) فجمع المؤمنين إلى يوم القيامة( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) إيّانا عنى خاصّة( فإن خفتم تنازعاً في الأمر فارجعوا إلى الله و إلى الرسول و اُولي الأمر منكم) هكذا نزلت، و كيف يأمرهم بطاعة اُولي الأمر و يرخّص لهم في منازعتهم إنّما قيل ذلك للمأمورين الّذين قيل لهم:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) .

و في تفسير العيّاشيّ،: في رواية أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: نزلت (يعني آية أَطِيعُوا الله)، في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قلت له: إنّ الناس يقولون لنا: فما منعه أن يسمّي عليّاً و أهل بيته في كتابه؟ فقال أبوجعفرعليه‌السلام : قولوا لهم: إنّ الله أنزل على رسوله الصلاة و لم يسمّ ثلاثاً و لا أربعاً حتّى كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الّذي فسّر ذلك (لهم) و أنزل الحجّ و لم ينزل طوفوا اُسبوعاً حتّى فسّر ذلك لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الله أنزل:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) تنزّلت في عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام ، و قال في عليّ: من كنت مولاه فعليّ مولاه، و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُوصيكم بكتاب الله و أهل بيتي إنّي سألت الله أن لا يفرّق بينهما حتّى يوردهما عليّ الحوض فأعطاني ذلك، و قال: فلا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم، إنّهم لن يخرجوكم من باب هدى، و لن يدخلوكم في باب ضلال، و لو سكت رسول الله و لم يبيّن أهلها لادّعى آل عبّاس و آل عقيل و آل فلان، و لكن أنزل الله في كتابه:( إنّما يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) فكان عليّ و الحسن و الحسين و فاطمةعليهم‌السلام تأويل هذه الآية، فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيد عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين صلوات الله عليهم فأدخلهم تحت الكساء في بيت اُمّ سلمة و قال: اللّهمّ إنّ لكلّ نبيّ ثقلاً و أهلاً فهؤلاء ثقلي و أهلي، و قالت اُمّ سلمة: أ لست من أهلك؟ قال: إنّك إلى خير، و لكنّ هؤلاء ثقلي و أهلي، الحديث.

أقول: و روي في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عنهعليه‌السلام مثله مع اختلاف يسير في اللّفظ.

و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير مجاهد: إنّها نزلت في أميرالمؤمنين

٤٣٩

حين خلّفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة فقال: يا رسول الله أ تخلّفني على النساء و الصبيان؟ فقال: يا أميرالمؤمنين أ ما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ حين قال له:

( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ ) فقال الله:( وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) .

قال: عليّ بن أبي طالب ولّاه الله أمر الاُمّة بعد محمّد، و حين خلّفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة فأمر الله العباد بطاعته و ترك خلافه.

و فيه، عنه عن أبانة الفلكيّ: إنّها نزلت حين شكا أبو بريدة من عليّعليه‌السلام ، الخبر.

و في العبقات، عن كتاب ينابيع المودّة، للشيخ سليمان بن إبراهيم البلخيّ عن المناقب عن سليم بن قيس الهلاليّ عن عليّ في حديث قال: و أمّا أدنى ما يكون به العبد ضالا أن لا يعرف حجّة الله تبارك و تعالى و شاهده على عباده، الّذي أمر الله عباده بطاعته، و فرض ولايته.

قال سليم: قلت: يا أميرالمؤمنين صفهم لي، قال: الّذين قرنهم الله بنفسه و نبيّه فقال:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) فقلت له: جعلني الله فداك أوضح لي، فقال: الّذين قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواضع و في آخر خطبته يوم قبضه الله عزّوجلّ إليه: إنّي تركت فيكم أمرين لن تضلّوا بعدي إن تمسّكتم بهما: كتاب الله عزّوجلّ، و عترتي أهل بيتي، فإنّ اللّطيف الخبير قد عهد إليّ أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض كهاتين - و جمع بين مسبّحتيه - و لا أقول: كهاتين - و جمع مسبّحته و الوسطى - فتمسّكوا بهما و لا تقدّموهم فتضلّوا.

أقول: و الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في المعاني السابقة كثيرة جدّاً و قد اقتصرنا فيما نقلناه على إيراد اُنموذج من كلّ صنف منها، و على من يطلبها أن يراجع جوامع الحديث.

و أمّا الّذي روي عن قدماء المفسّرين فهي ثلاثة أقوال: الخلفاء الراشدون، و اُمراء السرايا و العلماء، و ما نقل عن الضحّاك أنّهم أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو يرجع إلى القول الثالث فإنّ اللّفظ المنقول منه: أنّهم أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم الدعاة

٤٤٠