الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 129145
تحميل: 5417


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 129145 / تحميل: 5417
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الآيتين أعني قوله:( وَ ما محمّد إلّا رَسُولٌ ) الآية، و قوله:( وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ الله ) الآية، و لم يذكر ما يجازيهم به في شي‏ء من الموردين إشعاراً بعظمته و نفاسته.

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ الله كِتاباً مُؤَجَّلًا ) إلخ تعريض لهم في قولهم عن إخوانهم المقتولين ما يشير إليه قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالّذينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا ) الآية، و قول طائفة منهم:( لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ما قُتِلْنا ههنا ) الآية، و هؤلاء من المؤمنين غير المنافقين الّذين تركوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قعدوا عن القتال.

فهذا القول منهم لازمه أن لا يكون موت النفوس بإذن من الله و سنّة محكمة تصدر عن قضاء مبرم، و لازمه بطلان الملك الإلهيّ و التدبير المتقن الربّانيّ و سيجي‏ء إن شاء الله الكلام في معنى كتابة الآجال في أوّل سورة الأنعام.

و لما كان لازم هذا القول ممّن قال به أنّه آمن لظنّه أنّ الأمر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و للمؤمنين فقد أراد الدنيا كما مرّ بيانه و من اجتنب هذا فقد أراد الآخرة فقال تعالى:( وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها ) ، و إنّما قال:( نُؤْتِهِ مِنْها ) و لم يقل: نؤتها لأنّ الإرادة ربّما لا توافق تمام الأسباب المؤدّية إلى تمام مراده فلا يرزق تمام ما أراده، و لكنّها لا تخلو من موافقة ما للأسباب في الجملة دائماً فإن وافق الجميع رزق الجميع و إن وافق البعض رزق البعض فحسب، قال الله تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثمّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) الإسراء: ١٩ و قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إلّا ما سَعى) : النجم: ٣٩.

ثمّ خصّ الشاكرين بالذكر بإخراجهم من الطائفتين فقال:( وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) و ليس إلّا لأنّهم لا يريدون إلّا وجه الله لا يشتغلون بدنيا و لا آخرة كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ) إلى آخر الآيات كأيّن كلمة تكثير و كلمة( من ) بيانيّة و الربيّون جمع ربّيّ و هو كالربّانيّ من اختصّ بربّه تعالى فلم يشتغل بغيره، و قيل: المراد به الاُلوف و الربّيّ الألف، و الاستكانة هي التضرّع.

٤١

و في الآية موعظة و اعتبار مشوب بعتاب و تشويق للمؤمنين أن يأتمّوا بهؤلاء الربّيّين فيؤتيهم الله ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة كما آتاهم، و يحبّهم لإحسانهم كما أحبّهم لذلك.

و قد حكى الله من فعلهم و قولهم ما للمؤمنين أن يعتبروا به و يجعلوه شعاراً لهم حتّى لا يبتلوا بما ابتلوا به يوم اُحد من الفعل و القول غير المرضيّين لله تعالى و حتّى يجمع الله لهم ثواب الدنيا و الآخرة كما جمع لاُولئك الربّيّين.

و قد وصف ثواب الآخرة بالحسن دون الدنيا إشارة إلى ارتفاع منزلتها و قدرها بالنسبة إليها.

٤٢

( سورة آل عمران الآيات ١٤٩ - ١٥٥)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الّذِينَ كَفَرُوا يَرُدّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ( ١٤٩) بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ( ١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظّالِمِينَ( ١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتّى‏ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَا تُحِبّونَ مِنكُم مَن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ( ١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى‏ أَحَدٍ وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّا بِغَمّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلى‏ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( ١٥٣) ثُمّ أَنْزَلَ عَلَيْكُم مِن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُعَاسَاً يَغْشَى‏ طَائِفَةً مِنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ يَقُولُونَ هَل لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَي‏ءٍ قُلْ إِنّ الأَمْرَ كُلّهُ للّهِ‏ِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَي‏ءٌ مَا قُتِلْنَا هاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى‏ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ( ١٥٤) إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ( ١٥٥)

٤٣

( بيان)

من تتمّة الآيات النازلة في خصوص غزوة اُحد، و فيها حثّ و ترغيب للمؤمنين أن لا يطيعوا غير ربّهم فإنّه هو مولاهم و ناصرهم، و إشهاد لهم على صدق وعده و أنّ الهزيمة و الخذلان لم يكن يوم اُحد إلّا من قبل أنفسهم، و تعدّيهم حدود ما أمرهم الله به و دعاهم رسوله إليه و أنّ الله سبحانه مع ذلك عفا عن جرائمهم لأنّه غفور حليم.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الّذينَ كَفَرُوا ) إلى آخر الآيتين لا يبعد أن يستفاد من السياق أنّ الكفّار كانوا أيّام نزول الآيات بعد غزوة اُحد يلقون إلى المؤمنين - في صورة النصح - ما يثّبطهم عن القتال، و يلقي التنازع و التفرقة و تشتّت الكلمة و اختلافها بينهم، و ربّما أيّده ما في آخر هذه الآيات من قوله:( الّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ - إلى أن قال -ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) الآيات آل عمران: ١٧٣ - ١٧٥.

و ربّما قيل: إنّ الآية إشارة إلى قول اليهود و المنافقين يوم اُحد:( إنّ محمّداً قد قتل فارجعوا إلى عشائركم) ، و ليس بشي‏ء.

ثمّ لمّا بيّن أنّ إطاعتهم للّذين كفروا و الميل إلى ولايتهم يهديهم إلى الخسران الّذي هو رجوعهم إلى أعقابهم كافرين أضرب عنه بقوله:( بَلِ الله مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) .

قوله تعالى: ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِالله ) إلخ وعد جميل للمؤمنين بأنّهم سينصرون بالرعب، و لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذكره فيما حباه الله تعالى و خصّه به من بين الأنبياء على ما رواه الفريقان.

و قوله:( بِما أَشْرَكُوا ) ، معناه: اتّخذوا له ما ليس معه برهان شريكاً، و ممّا يكرّره القرآن أن ليس لإثبات الشريك لله سلطان، و من إثبات الشريك نفي الصانع و إسناد التأثير و التدبير إلى غيره كالدهر و المادّة.

٤٤

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحسّونَهُمْ ) إلى آخر الآية الحسّ - بالفتح -: القتل على وجه الاستيصال.

و لقد اتّفقت الروايات و ضبطه التاريخ في قصّة غزوة اُحد أنّ المؤمنين غلبوهم و ظهروا عليهم في أوّل الأمر و وضعوا فيهم السيوف و شرعوا في نهب أموالهم حتّى إذا خلّى الرماة مكانهم في المكمن حمل خالد بن الوليد فيمن معه على عبدالله بن جبير و من بقي معه من الرماة فقتلوهم، و حملوا على المؤمنين من ورائهم، و تراجع المشركون عن هزيمتهم و وضعوا السيوف في أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قتلوا منهم سبعين ثمّ هزموهم أشدّ هزيمة.

فقوله تعالى:( وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ ) ، تثبيت صدق وعده بالنصر بشرط التقوى و الصبر، و قوله:( إِذْ تَحسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ ) ، يقبل الانطباق على ما رزقهم في أوّل الأمر من الظهور على عدوّهم يوم اُحد، و قوله:( حتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ ) ، ينطبق على ما صنعه الرماة حيث تنازعوا فيما بينهم في ترك مراكزهم و اللّحوق بمن مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنيل الغنيمة ففشلوا و تنازعوا في الأمر و عصوا أمر النبيّ بأن لا يتركوا مراكزهم على أيّ حال، و على هذا فلا بدّ من تفسير الفشل بضعف الرأي، و أمّا كونه بمعنى الجبن فلا ينطبق عليهم إذ لم يكن ذلك منهم جبناً بل طمعاً في الغنيمة، و لو كان الفشل بمعنى الجبن كان منطبقاً على حال جميع القوم و يكون على هذا( ثمّ ) في قوله:( ثمّ صَرَفَكُمْ ) ، مفيدة للتراخي الرتبيّ دون الزمانيّ.

و يدلّ لفظ التنازع على أنّ الكلّ لم يكونوا مجمعين على الفشل و المعصية بل كان بعضهم يصرّ على الإطاعة و البقاء على الائتمار و لذا قال تعالى بعده:( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) .

قوله تعالى: ( ثمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ) ، أي كفّكم عن المشركين بعد ظهور الفشل و التنازع و المعصية، و بالجملة بعد وقوع الاختلاف بينكم ليمتحنكم و يختبر إيمانكم و صبركم في الله إذ الاختلاف في القلوب هو أقوى العوامل المقتضية لبسط

٤٥

الابتلاء ليتميّز المؤمن من المنافق، و المؤمن الراسخ في إيمانه الثابت على عزيمته من المتلوّن السريع الزوال، و مع ذلك فإنّ الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ) .

قوله تعالى: ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى‏ أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) الإصعاد هو الذهاب و الإبعاد في الأرض بخلاف الصعود فهو الارتقاء إلى مكان عال يقال: أصعد في جانب البرّ أي ذهب فيه بعيداً، و صعد في السلّم أي ارتقى، و قيل: إنّ الإصعاد ربّما استعمل بمعنى الصعود.

و الظرف متعلّق بمقدّر أي اذكروا إذ تصعدون، أو بقوله: صَرَفَكُمْ، أو بقوله لِيَبْتَلِيَكُمْ، - على ما قيل - و قوله: وَ لا تَلْوُونَ، من اللّيّ بمعنى الالتفات و الميل قال في المجمع: و لا يستعمل إلّا في النفي لا يقال: لويت على كذا، انتهى.

و قوله:( وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) ، الاُخرى مقابل الاُولى و كون الرسول يدعو و هو في اُخراهم يدلّ على أنّهم تفرّقوا عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هم سواد ممتدّ على طوائف اُوليهم مبتعدون عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اُخراهم بقرب منه، و هو يدعوهم من غير أن يلتفت إليه لا اُولاهم و لا اُخراهم فتركوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين جموع المشركين و هم يصعدون فراراً من القتل.

نعم قوله تعالى قبيل هذا:( وَ سَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ ) - و قد مرّ تفسيره - يدلّ على أنّ منهم من لم يتزلزل في عزيمته و لم ينهزم لا في أوّل الانهزام، و لا بعد شيوع خبر قتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما يدلّ عليه قوله:( أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ) الآية.

و ممّا يدلّ عليه قوله:( وَ لا تَلْوُونَ عَلى‏ أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ ) إنّ خبر قتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما انتشر بينهم بعد انهزامهم و إصعادهم.

قوله تعالى: ( فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ ) إلخ أي جازاكم غمّاً بغمّ ليصرفكم عن الحزن على كذا، و هذا الغمّ الّذي اُثيبوا به كيفما كان هو نعمة منه تعالى بدليل قوله:( لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ ) ، فإنّ الله تعالى ذمّ في كتابه هذا الحزن كما قال:( لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ ) الحديد: ٢٣

٤٦

فهذا الغمّ الّذي يصرفهم عن ذاك الحزن المذموم نعمة و موهبة فيكون هو الغمّ الطارئ عليهم من جهة الندامة على ما وقع منهم و التحسّر على ما فاتهم من النصر بسبب الفشل، و يكون حينئذ الغمّ الثاني في قوله: بِغَمٍّ، الغمّ الآتي من قبل الحزن المذكور، و الباء للبدليّة، و المعنى: جازاكم غمّاً بالندامة و الحسرة على فوت النصر بدل غمّ بالحزن على ما فاتكم و ما أصابكم.

و من الجائز أن يكون قوله: فَأَثابَكُمْ مضمّناً معنى الإبدال فيكون المعنى: فأبدلكم غمّ الحزن من غمّ الندامة و الحسرة مثيباً لكم، فينعكس المعنى في الغمّين بالنسبة إلى المعنى السابق.

و على كلّ من المعنيين يكون قوله: فَأَثابَكُمْ، تفريعاً على قوله:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ) ، و يتّصل به ما بعده أعني قوله:( ثمّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ ) ، أحسن اتّصال، و الترتيب: أنّه عفا عنكم فأثابكم غمّاً بغمّ ليصونكم عن الحزن الّذي لا يرتضيه لكم ثمّ أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنة نعاساً.

و ههنا وجه آخر يساعده ظهور السياق في تفريع قوله: فَأَثابَكُمْ، على ما يتّصل به بمعنى أن يكون الغمّ هو ما يتضمّنه قوله: إِذْ تُصْعِدُونَ، و المراد بقوله: بِغَمٍّ هو ما أدّى إليه التنازع و المعصية و هو إشراف المشركين عليهم من ورائهم، و الباء للسببيّة و هذا معنى حسن، و على هذا يكون المراد بقوله:( لِكَيْلا تَحْزَنُوا ) إلخ: نبيّن لكم حقيقة الأمر لئلّا تحزنوا، كما في قوله تعالى:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إلّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ) الآية الحديد: ٢٣.

فهذا ما يستقيم به نظم الآية و اتّساق الجمل المتعاقبة، و للمفسّرين احتمالات كثيرة في الآية من حيث ما عطف عليه قوله: فَأَثابَكُمْ، و من حيث معنى الغمّ الأوّل و الثاني و معنى الباء و معنى قوله: لِكَيْلا، ليست من الاستقامة على شي‏ء و لا جدوى في نقلها و البحث عنها.

و على ما احتملناه من أحد معنيين يكون المراد ممّا فات في قوله:( لِكَيْلا تَحْزَنُوا

٤٧

عَلى‏ ما فاتَكُمْ ) هو الغلبة و الغنيمة، و ممّا أصاب ما أصاب القوم من القتل و الجرح.

قوله تعالى: ( ثمّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى‏ طائِفَةً مِنْكُمْ ) الأمنة بالتحريك الأمن، و النعاس ما يتقدّم النوم من الفتور و هو نوم خفيف، و نعاساً بدل من أمنة للملازمة عادة، و ربّما احتمل أن يكون أمنة جمع آمن كطالب و طلبة، و هو حينئذ حال من ضمير عليكم، و نعاساً مفعول قوله: أنزل، و الغشيان: الإحاطة.

و الآية تدلّ على أنّ هذا النعاس النازل إنّما غشي طائفة من القوم، و لم يعمّ الجميع بدليل قوله: طائِفَةً مِنْكُمْ، و هؤلاء هم الّذين رجعوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الانهزام و الإصعاد لما ندموا و تحسّروا، و حاشا أن يعفو الله عنهم عفو رحمة و هم في حال الفرار عن الزحف و هو من كبائر المعاصي و الآثام و قد قال:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ الله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) ، و حاشا أن تشمل عنايته تعالى على مقترف الفحشاء و المنكر حين يقترف من قبل أن يتوب و قد عنى في حقّهم حين أثابهم غمّاً بغمّ لكيلا يحزنوا فيتقذّر قلوبهم بما لا يرتضيه الله سبحانه على ما مرّ بيانه.

فهؤلاء بعض القوم و هم النادمون على ما فعلوا الراجعون إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحتفّون به، و كأنّ ذلك إنّما كان حين فارقصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جموع المشركين و عاد إلى الشعب، و إن كان عودهم إليه تدريجاً بعد العلم بأنّه لم يقتل.

و أمّا البعض الآخر من القوم فهم الّذين يذكرهم الله بقوله:( وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) .

قوله تعالى: ( وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) هذه طائفة اُخرى من المؤمنين و نعني بكونهم من المؤمنين أنّهم غير المنافقين الّذين ذكرهم الله أخيراً بقوله:( وَ لِيَعْلَمَ الّذينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ ) الآية و هم الّذين فارقوا جماعة المؤمنين في أوّل الأمر قبل القتال و انخذلوا فهؤلاء المنافقون لهم شأن آخر سينبّئ الله بذلك.

و هؤلاء الطائفة الثانية الموصوفون بأنّهم قد أهمّتهم أنفسهم لم يكرمهم الله بما أكرم به الطائفة الاُولى من العفو و إثابة الغمّ ثمّ الأمنة و النعاس بل وكلهم إلى أنفسهم فأهمّتهم أنفسهم و نسوا كلّ شي‏ء دونها.

٤٨

و قد ذكر الله تعالى من أوصافهم وصفين اثنين و إن كان أحدهما من لوازم الآخر و فروعه، فذكر أنّهم أهمّتهم أنفسهم، و ليس معناه أنّهم يريدون سعادة أنفسهم بمعناها الحقيقيّ فإنّ المؤمنين أيضاً لا يريدون إلّا سعادة أنفسهم فالإنسان بل كلّ ذي همامة و إرادة لا يريد إلّا نفسه البتّة، بل المراد: أن ليس لهم همّ إلّا حفظ حياتهم الدنيا و عدم الوقوع في شبكة القتل فهم لا يريدون بدين أو غيره إلّا إمتاع أنفسهم في الدنيا و إنّما ينتحلون بالدين ظنّاً منهم أنّه عامل غير مغلوب، و أنّ الله لا يرضى بظهور أعدائه عليه، و إن كانت الأسباب الظاهريّة لهم فهؤلاء يستدرّون الدين ما درّ لهم، و إن انقلب الأمر و لم يسعدهم الجدّ انقلبوا على أعقابهم القهقرى.

قوله تعالى: ( يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الحقّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ) إلى قوله:( بِالله ) أي ظنّوا بالله أمراً ليس بحقّ بل هو من ظنون الجاهليّة فهم يصفونه بوصف ليس بحقّ بل من الأوصاف الّتي كان يصفه بها أهل الجاهليّة، و هذا الظنّ أيّاً ما كان هو شي‏ء يناسبه و يلازمه قولهم:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، و يكشف عنه ما أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم به، و هو قوله:( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله ) فظاهر هذا الجواب أنّهم كانوا يظنّون أنّ بعض الأمر لهم و لذا لمّا غلبوا و فشي فيهم القتل تشكّكوا فقالوا:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) .

و بذلك يظهر أنّ الأمر الّذي كانوا يرونه لأنفسهم هو الظهور و الغلبة، و إنّما كانوا يظنّونه لأنفسهم من جهة إسلامهم فهم قد كانوا يظنّون أنّ الدين الحقّ لا يُغلب و لا يُغلب المتديّن به لما أنّ على الله أن ينصره من غير قيد و شرط و قد وعدهم به.

و هذا هو الظنّ بغير الحقّ، الّذي هو ظنّ الجاهليّة فإنّ وثنيّة الجاهليّة كانت تعتقد أنّ الله تعالى خالق كلّ شي‏ء و أنّ لكلّ صنف من أصناف الحوادث كالرزق و الحياة و الموت و العشق و الحرب و غيرها، و كذا لكلّ نوع من الأنواع الكونيّة كالإنسان و الأرض و البحار و غيرها ربّاً يدبّر أمرها لا يغلب على إرادته، و كانوا يعبدون هؤلاء الأرباب ليدرّوا لهم الرزق، و يجلبوا لهم السعادة، و يقوهم من الشرور و البلايا، و الله سبحانه كالملك العظيم يفوّض كلّ صنف من أصناف رعيّته و كلّ شطر من أشطار ملكه إلى وال تامّ الاختيار له أن يفعل ما يشاؤه في منطقة نفوذه و حوزة ولايته.

٤٩

و إذا ظنّ الظانّ أن الدين الحقّ لا يصير مغلوباً في ظاهر تقدّمه و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو أوّل من يتحمّله من ربّه و يحمل أثقاله - لا يقهر في ظاهر دعوته أو أنّه لا يقتل أو لا يموت فقد ظنّ بالله غير الحقّ ظنّ الجاهليّة فاتّخذ لله أنداداً، و جعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّاً وثنيّاً مفوّضاً إليه أمر الغلبة و الغنيمة، مع أنّ الله سبحانه واحد لا شريك له، إليه يرجع الأمر كلّه و ليس لأحد من الأمر شي‏ء، و لذلك لمّا قال تعالى فيما تقدّم من الآيات:( لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الّذينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ ) ، قطع الكلام بالاعتراض فقال - يخاطب نبيّه -:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ) لئلّا يتوهّم أن لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخلاً في قطع أو كبت، و الله سبحانه هو الّذي وضع سنّة الأسباب و المسبّبات، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحقّ و الباطل، و الخير و الشرّ، و الهداية و الضلالة، و العدل و الظلم، و لا فرق فيه بين المؤمن و الكافر، و المحبوب و المبغوض، و محمّد و أبي سفيان.

نعم لله سبحانه عناية خاصّة بدينه و بأوليائه يجري نظام الكون بسببها جرياً ينجرّ إلى ظهور الدين و تمهّد الأرض لأوليائه و العاقبة للمتّقين.

و أمر النبوّة و الدعوة ليس بمستثنى من هذه السنّة الجارية، و لذلك كلّما توافقت الأسباب العاديّة على تقدّم هذا الدين و ظهور المؤمنين كبعض غزوات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ذلك، و حيث لم يتوافق الأسباب كتحقّق نفاق أو معصية لأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو فشل أو جزع كانت الغلبة و الظهور للمشركين على المؤمنين، و كذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع الناس فإنّ أعداء الأنبياء لكونهم أهل الدنيا، و قصرهم مساعيهم في عمارة الدنيا، و بسط القدرة، و تشديد القوّة، و جمع الجموع كانت الغلبة الظاهريّة و الظهور لهم على الأنبياء، فمن مقتول كزكريّا، و مذبوح كيحيى، و مشرّد كعيسى إلى غير ذلك.

نعم إذا توقّف ظهور الحقّ بحقّانيّته على انتقاض نظام العادة دون السنّة الواقعيّة و بعبارة اُخرى دار أمر الحقّ بين الحياة و الموت كان على الله سبحانه أن يقيم صلب الدين و لا يدعه تدحض حجّته، و قد مرّ شطر من هذا البحث في القول على

٥٠

الإعجاز في الجزء الأوّل من الكتاب، و في الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.

و لنرجع إلى ما كنّا فيه: فقول هؤلاء الطائفة الّذين أهمّتهم أنفسهم:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، تشكّك في حقّيّة الدين و قد أدرجوا في هيكله روح الوثنيّة على ما مرّ بيانه، فأمر سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم فقال:( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله ) ، و قد خاطب نبيّه قبل ذلك بقوله:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ) فبيّن بذلك أنّ ملّة الفطرة و دين التوحيد هو الّذي لا يملك فيه الأمر إلّا الله جلّ شأنه، و باقي الأشياء و منها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليست بمؤثّرة شيئاً بل هي في حيطة الأسباب و المسبّبات و السنّة الإلهيّة الّتي تؤدّي إلى جريان ناموس الابتلاء و الامتحان.

قوله تعالى: ( يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ ) إلخ، و هذا توصيف لهم بما هو أشدّ من قولهم:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، فإنّه كان تشكيكاً في صورة السؤال، و هذا أعني قولهم:( لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ما قُتِلْنا ) ههنا ترجيح في هيئة الاستدلّال، و لذلك أبدوا قولهم الأوّل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخفوا قولهم الثاني لاشتماله على ترجيح الكفر على الإسلام.

فأمر الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم فقال:( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى‏ مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ الله ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ) ، فبيّن لهم:

أوّلاً: أنّ قتل من قتل منكم في المعركة ليس لعدم كونكم على الحقّ، و عدم كون الأمر لكم على ما تزعمون بل لأنّ القضاء الإلهيّ و هو الّذي لا مناص من نفوذه و مضيّه جرى على أن يضطجع هؤلاء المقتولون في هذه المضاجع، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الّذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فلا مفرّ من الأجل المسمّى الّذي لا تستأخرون عنه ساعة و لا تستقدمون.

و ثانياً : أنّ سنّة الله جرت على عموم الابتلاء و التمحيص و هي واقعة بهم و بكم لا محالة، فلم يكن بدّ من خروجكم و وقوع هذا القتال حتّى يحلّ المقتولون محلّهم

٥١

و ينالوا درجاتهم، و تحلّوا أنتم محلّكم فيتعيّن لكم أحد جانبي السعادة و الشقاوة بامتحان ما في صدوركم من الأفكار، و تخليص ما في قلوبكم من الإيمان و الشرك.

و من عجيب ما ذكر في هذه الآية قول عدّة من المفسّرين أنّ المراد بهذه الطائفة الّتي تشرح الآية حالها هم المنافقون مع ظهور سياق الآيات في أنّها تصف حال المؤمنين، و أمّا المنافقون أعني أصحاب عبدالله بن اُبيّ المنخذلين في أوّل الوقعة قبل وقوع القتال فإنّما يتعرّض لحالهم فيما سيأتي.

اللّهمّ إلّا أن يريدوا بالمنافقين الضعفاء الإيمان الّذين يعود عقائدهم المتناقضة بحسب اللّازم إلى إنكار الحقّ قلباً و الاعتراف به لساناً و هم الّذين يسمّيهم الله بالّذين في قلوبهم مرض قال تعالى:( إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الّذينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ) الأنفال: ٤٩، و قال:( وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ) التوبة: ٤٧، أو يريدوا أنّ جميع المنافقين لم يرجعوا مع أصحاب عبدالله بن اُبيّ إلى المدينة.

و أعجب منه قول بعض آخر أنّ هذه الطائفة كانوا مؤمنين، و أنّهم كانوا يظنّون أنّ أمر النصر و الغلبة إليهم لكونهم على دين الله الحقّ لما رأوا من الفتح و الظفر و نزول الملائكة يوم بدر فقولهم:( هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، و قولهم:( لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ ) إلخ اعتراف منهم بأنّ الأمر إلى الله لا إليهم و إلّا لم يستأصلهم القتل.

و يرد عليه عدم استقامة الجواب حينئذ و هو قوله تعالى:( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله ) ، و قوله:( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ) إلخ، و قد أحسّ بعض هؤلاء بهذا الإشكال فأجاب عنه بما هو أردأ من أصل كلامه و قد عرفت ما هو الحقّ من المعنى.

قوله تعالى: ( إِنَّ الّذينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إنّما اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا ) استزلال الشيطان إيّاهم إرادته وقوعهم في الزلّة، و لم يرد ذلك منهم إلّا بسبب بعض ما كسبوا في نفوسهم و من أعمالهم فإنّ السيّئات يهدي بعضها إلى بعض فإنّها مبنيّة على متابعة هوى النفس، و هوى النفس للشي‏ء هوى لما يشاكله.

و أمّا احتمال كون الباء للآلة و كون ما كسبوا عين تولّيهم يوم الالتقاء فبعيد

٥٢

من ظاهر اللّفظ فإنّ ظاهر( ما كَسَبُوا ) تقدّم الكسب على التولّي و الاستزلال.

و كيف كان فظاهر الآية أنّ بعض ما قدّموا من الذنوب و الآثام مكّن الشيطان أن أغواهم بالتولّي و الفرار، و من هنا يظهر أنّ احتمال كون الآية ناظرة إلى نداء الشيطان يوم اُحد بقتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما في بعض الروايات ليس بشي‏ء إذ لا دلالة عليه من جهة اللّفظ.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ ) هذا العفو هو عن الّذين تولّوا، المذكورين في صدر الآية، و الآية مطلقة تشمل جميع من تولّى يومئذ فتعمّ الطائفتين جميعاً أعني الطائفة الّتي غشيهم النعاس و الطائفة الّتي أهمّتهم أنفسهم، و الطائفتان مختلفتان بالتكرّم بإكرام الله و عدمه، و لكونهما مختلفتين لم يذكر مع هذا العفو الشامل لهما معاً جهات الإكرام الّتي اشتمل عليها العفو المتعلّق بالطائفة الاُولى على ما تقدّم بيانه.

و من هنا يظهر أنّ هذا العفو المذكور في هذه الآية غير العفو المذكور في قوله:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ ) ، و من الدليل على اختلاف العفوين ما في الآيتين من اختلاف اللّحن ففرق واضح بين قوله تعالى:( وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ الله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) حيث أنّه كلام مشعر بالفضل و الرأفة و قد سمّاهم مؤمنين ثمّ ذكر إثابتهم غمّاً بغمّ لكيلا يحزنوا ثمّ إنزاله عليهم أمنةً نعاساً، و بين قوله تعالى:( وَ لَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ ) حيث ذكر العفو و سكت عن جميع ما أكرم الطائفة الاُولى به ثمّ ختم الكلام بذكر حلمه و هو أن لا يعجّل في العقوبة و العفو الّذي مع الحلم إغماض مع استبطان سخط.

فإن قلت: إنّما سوّى بين الطائفتين من سوّى بينهما لمكان ورود العفو عنهما جميعاً.

قلت: معنى العفو مختلف في الموردين بحسب المصداق و إن صدق على الجميع مفهوم العفو على حدّ سواء، و لا دليل على كون العفو و المغفرة و ما يشابههما في جميع الموارد سنخاً واحداً، و قد بينا وجه الاختلاف.

٥٣

( معنى العفو و المغفرة في القرآن)

العفو على ما ذكره الراغب - و هو المعنى المتحصّل من موارد استعمالاته - هو القصد لتناول الشي‏ء، يقال: عفاه و اعتفاه أي قصده متناولاً ما عنده، و عفت الريح الدار قصدتها متناولة آثارها، انتهى و كأنّ قولهم: عفت الدار إذ بلت مبنيّ على عناية لطيفة و هي أنّ الدار كأنّها قصدت آثار نفسها و ظواهر زينتها فأخذته فغابت عن أعين الناظرين، و بهذه العناية ينسب العفو إليه تعالى كأنّه تعالى يعني بالعبد فيأخذ ما عنده من الذنب و يتركه بلا ذنب.

و من هنا يظهر أنّ المغفرة - و هو الستر - متفرّع عليه بحسب الاعتبار فإنّ الشي‏ء كالذنب مثلاً يؤخذ و يتناول أوّلاً ثمّ يستر عليه فلا يظهر ذنب المذنب لا عند نفسه و لا عند غيره، قال تعالى:( وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا ) البقرة: ٢٨٦ و قال:( وَ كانَ الله عَفُوًّا غَفُوراً ) النساء: ٩٩.

و قد تبيّن بذلك أنّ العفو و المغفرة و إن كانا مختلفين متفرّعاً أحدهما على الآخر بحسب العناية الذهنيّة لكنّهما بحسب المصداق واحد، و أنّ معناهما ليس من المعاني المختصّة به تعالى بل يصحّ إطلاقهما على غيره تعالى بما لهما من المعنى كما قال تعالى:( إلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الّذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) البقرة: ٢٣٧، و قال تعالى:( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أيّام الله ) الجاثية: ١٤، و قال تعالى:( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) الآية فأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعفوا عنهم فلا يرتّب الأثر على معصيتهم من المؤاخذة و العتاب و الإعراض و نحو ذلك، و أن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم - و هو تعالى فاعله لا محالة - فيما يرجع إليه من آثار الذنب.

و قد تبيّن أيضاً أنّ معنى العفو و المغفرة يمكن أن يتعلّق بالآثار التكوينيّة و التشريعيّة و الدنيويّة و الاُخرويّة جميعاً، قال تعالى:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠، و الآية شاملة للآثار و العواقب الدنيويّة

٥٤

قطعاً، و مثله قوله تعالى:( وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ ربّهم وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ) الشورى: ٥، على ظاهر معناه، و كذا قول آدم و زوجته فيما حكاه الله عنهما:( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) الأعراف: ٢٣ بناء على أنّ ظلمهما كان معصية لنهي إرشاديّ لا مولويّ.

و الآيات الكثيرة القرآنيّة دالّة على أنّ القرب و الزلفى من الله، و التنعّم بنعم الجنّة يتوقّف على سبق المغفرة الإلهيّة و إزالة رين الشرك و الذنوب بتوبة و نحوها كما قال تعالى:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) المطفّفين: ١٤ و قال تعالى:( وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ‏ ) التغابن: ١١.

و بالجملة العفو و المغفرة من قبيل إزالة المانع و رفع المنافي المضادّ، و قد عدّ الله سبحانه الإيمان و الدار الآخرة حياة، و آثار الإيمان و أفعال أهل الآخرة و سيرهم الحيويّ نوراً كما قال:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢، و قال تعالى:( وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) العنكبوت: ٦٤، فالشرك موت و المعاصي ظلمات، قال تعالى:( أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ ) النور: ٤٠، فالمغفرة إزالة الموت و الظلمة و إنّما تكون بحياة و هو الإيمان، و نور و هو الرحمة الإلهيّة.

فالكافر لا حياة له و لا نور، و المؤمن المغفور له له حياة و نور، و المؤمن إذا كان معه سيّئات حيّ لم يتمّ له نوره و إنّما يتمّ بالمغفرة، قال تعالى:( نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا ) التحريم ٨.

فظهر من جميع ما تقدّم أنّ مصداق العفو و المغفرة إذا نسب إليه تعالى في الاُمور التكوينيّة كان إزالة المانع بإيراد سبب يدفعه، و في الاُمور التشريعيّة إزالة السبب المانع عن الإرفاق و نحوه، و في مورد السعادة و الشقاوة إزالة المانع عن السعادة.

٥٥

( سورة آل عمران الآيات ١٥٦ - ١٦٤)

يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالّذينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ الله ذلِكَ حسرة فِي قُلُوبِهِمْ وَ الله يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ الله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ ممّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى الله تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتوکّل عَلَى الله إِنَّ الله يُحبّ الْمُتوکّلينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الّذي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى الله فَلْيَتوکّل الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثمّ تُوَفَّى كلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ الله كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ الله وَ الله بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)

( بيان)

الآيات من تتمّة الآيات النازلة في خصوص غزوة اُحد أيضاً، و هي تتضمّن التعرّض لأمر آخر عرض لهم، و هو الأسف و الحسرة الواردة في قلوبهم من قتل رجالاتهم

٥٦

و سراة قومهم، و معظم المقتولين كانوا من الأنصار فما قتل من المهاجرين - على ما قيل - إلّا أربعة، و هذا يقوّي الحدس أنّ معظم المقاومة كانت من ناحية الأنصار، و أنّ الهزيمة أسرعت إلى المهاجرين قبلهم.

و بالجملة الآيات تبيّن ما في هذا الأسف و الحسرة من الخطأ و الخبط، و تعطف على أمر آخر يستتبعه هذا الأسف و التحسّر و هو سوء ظنّهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أنّه هو الّذي أوردهم هذا المورد و ألقاهم في هذه التهلكة كما يشير إليه قولهم على ما تلوّح إليه هذه الآيات:( لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا ) الآية، و قول المنافقين فيما سيجيي‏ء:( لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا ) الآية، أي أطاعونا و لم يطيعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو الّذي أهلكهم، فهي تبيّن أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس له أن يخون أحداً بل هو رسول منه تعالى شريف النفس كريم المحتد عظيم الخلق يلين لهم برحمة من الله، و يعفو عنهم و يستغفر لهم و يشاورهم في الأمر منه تعالى، و أنّ الله منّ به عليهم ليخرجهم من الضلال إلى الهدى.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالّذينَ كَفَرُوا ) إلخ المراد بهؤلاء الّذين كفروا ما هو ظاهر اللّفظ أعني الكافرين دون المنافقين - كما قيل - لأنّ النفاق بما هو نفاق ليس منشأ لهذا القول - و إن كان المنافقون يقولون ذلك - و إنّما منشأه الكفر فيجب أن ينسب إلى الكافرين.

و الضرب في الأرض كناية عن المسافرة، و غزّيّ جمع غاز كطالب و طلّب و ضارب و ضرّب، و قوله: لِيَجْعَلَ الله ذلِكَ حسرة، أي ليعذّبهم بها فهو من قبيل وضع المغيّا موضع الغاية، و قوله:( وَ الله يُحْيِي وَ يُمِيتُ ) ، بيان لحقيقة الأمر الّتي أخطأ فيها الكافرون القائلون: لو كانوا، و هذا الموت يشمل الموت حتف الأنف و القتل كما هو مقتضى إطلاق الموت وحده على ما تقدّم، و قوله:( وَ الله بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) في موضع التعليل للنهي في قوله:( لا تَكُونُوا ) إلخ.

و قوله:( ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا ) ، قدّم فيه الموت على القتل ليكون النشر على ترتيب اللّفّ في قوله:( إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى ) ، و لأنّ الموت أمر جار على الطبع و العادة المألوفة بخلاف القتل فإنّه أمر استثنائيّ فقدّم ما هو المألوف على غيره.

٥٧

و محصل الآية نهي المؤمنين أن يكونوا كالكافرين فيقولوا لمن مات منهم في خارج بلده أو قومه، و فيمن قتل منهم في غزاة:( لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا ) فأنّ هذا القول يسوق الإنسان إلى عذاب قلبيّ و نقمة إلهيّة و هو الحسرة الملقاة في قلوبهم، مع أنّه من الجهل فإنّ القرب و البعد منهم ليس بمحيي و مميت بل الإحياء و الإماتة من الشؤون المختصّة بالله وحده لا شريك له فليتّقوا الله و لا يكونوا مثلهم فإنّ الله بما يعملون بصير.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ ممّا يَجْمَعُونَ ) الظاهر أنّ المراد ممّا يجمعون هو المال و ما يلحق به الّذي هو عمدة البغية في الحياة الدنيا.

و قد قدّم القتل ههنا على الموت لأنّ القتل في سبيل الله أقرب من المغفرة بالنسبة إلى الموت فهذه النكتة هي الموجبة لتقديم القتل على الموت، و لذلك عاد في الآية التالية:( وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى الله تُحْشَرُونَ ) إلى الترتيب الطبعيّ بتقديم الموت على القتل لفقد هذه النكتة الزائدة.

قوله تعالى: ( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ ) إلى آخر الآية، الفظ هو الجافي القاسيّ، و غلظ القلب كناية عن عدم رقّته و رأفته، و الانفضاض التفرّق.

و في الآية التفات عن خطابهم إلى خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أصل المعنى: فقد لان لكم رسولنا برحمة منّا، و لذلك أمرناه أن يعفو عنكم و يستغفر لكم و يشاوركم في الأمر و أن يتوکّل علينا إذا عزم.

و نكتة الالتفات ما تقدّم في أوّل آيات الغزوة أنّ الكلام فيه شوب عتاب و توبيخ، و لذلك اشتمل على بعض الإعراض في ما يناسبه من الموارد و منها هذا المورد الّذي يتعرّض فيه لبيان حال من أحوالهم لها مساس بالاعتراض على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ تحزّنهم لقتل من قتل منهم ربّما دلّهم على المناقشة في فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و رميه بأنّه أوردهم مورد القتل و الاستيصال، فأعرض الله تعالى عن مخاطبتهم و التفت إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخاطبه بقوله:( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ ) .

و الكلام متفرّع على كلام آخر يدلّ عليه السياق، و التقدير: و إذا كان حالهم ما تراه من التشبّه بالّذين كفروا و التحسّر على قتلاهم فبرحمة منّا لنت لهم و إلّا لانفضّوا من حولك. و الله أعلم.

٥٨

و قوله:( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) إنّما سيق ليكون إمضاءً لسيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه كذلك كان يفعل، و قد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم اُحد، و فيه إشعار بأنّه إنّما يفعل ما يؤمر و الله سبحانه عن فعله راض.

و قد أمر الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعفو عنهم فلا يرتّب على فعالهم أثر المعصية، و أن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم - و هو تعالى فاعله لا محالة - و اللّفظ و إن كان مطلقاً لا يختصّ بالمورد غير أنّه لا يشمل موارد الحدود الشرعيّة و ما يناظرها و إلّا لغي التشريع، على أنّ تعقيبه بقوله:( وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) لا يخلو عن الإشعار بأنّ هذين الأمرين إنّما هما في ظرف الولاية و تدبير الاُمور العامّة ممّا تجري فيه المشاورة معهم.

و قوله:( فَإِذا عَزَمْتَ فَتوکّل عَلَى الله إِنَّ الله يُحبّ الْمُتوکّلينَ ) ، و إذا أحبّك كان وليّاً و ناصراً لك غير خاذلك، و لذا عقّب الآية بهذا المعنى و دعي المؤمنين أيضاً إلى التوکّل فقال:( إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الّذي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ) ثمّ أمرهم بالتوکّل بوضع سببه موضعه فقال:( وَ عَلَى الله فَلْيَتوکّل الْمُؤْمِنُونَ ) أي لإيمانهم بالله الّذي لا ناصر و لا معين إلّا هو.

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ) ، الغل هو الخيانة، قد مرّ في قوله تعالى:( ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ الله الْكِتابَ ) آل عمران: ٧٩، أنّ هذا السياق معناه تنزيه ساحة النبيّ عن السوء و الفحشاء بطهارته، و المعنى: حاشا أن يغلّ و يخون النبيّ ربّه أو الناس (و هو أيضاً من الخيانة لله) و الحال أنّ الخائن يلقى ربّه بخيانته ثمّ توفّى نفسه ما كسبت.

ثمّ ذكر أنّ رمي النبيّ بالخيانة قياس جائر مع الفارق فإنّه متّبع رضوان الله لا يعدو رضا ربّه، و الخائن باء بسخط عظيم من الله و مأواه جهنّم و بئس المصير، و هذا هو المراد بقوله:( أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ الله كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله ) الآية.

و يمكن أن يكون المراد به التعريض للمؤمنين بأنّ هذه الأحوال من التعرّض لسخط الله، و الله يدعوكم بهذه المواعظ إلى رضوانه، و ما هما سواء.

ثمّ ذكر أنّ هذه الطوائف من المتّبعين لرضوان الله و البائين بسخط من الله درجات

٥٩

مختلفة، و الله بصير بالأعمال فلا تزعموا أنّه يفوته الحقير من خير أو شرّ فتسامحوا في اتّباع رضوانه أو البوء بسخطه.

قوله تعالى: ( لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) ، في الآية التفات آخر من خطاب المؤمنين إلى تنزيلهم منزلة الغيبة، و قد مرّ الوجه العامّ في هذه الموارد من الالتفات و الوجه الخاصّ بما ههنا أنّ الآية مسوقة سوق الامتنان و المنّ على المؤمنين لصفة إيمانهم و لذا قيل: على المؤمنين، و لا يفيده غير الوصف حتّى لو قيل: الّذين آمنوا، لأنّ المشعر بالعلّيّة - على ما قيل - هو الوصف أو أنّه الكامل في هذا الإشعار، و المعنى ظاهر.

و في الآية أبحاث اُخر سيأتي شطر منها في المواضع المناسبة لها إن شاء الله العزيز.

٦٠