الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128518 / تحميل: 6764
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

( سورة القصص مكّيّة و هي ثمان و ثمانون آية)

( سورة القصص الآيات ١ – ١٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ طسم ( ١ ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( ٢ ) نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٣ ) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ  إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( ٤ ) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( ٥ ) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ( ٦ ) وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ  فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي  إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٧ ) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا  إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ( ٨ ) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ  لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ٩ ) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا  إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ١٠ ) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ  فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ١١ ) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ

٢

لَهُ نَاصِحُونَ ( ١٢ ) فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٣ ) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ١٤ )

( بيان)

غرض السورة الوعد الجميل للمؤمنين و هم بمكّة قبل الهجرة شرذمة قليلون يستضعفهم فراعنة قريش و طغاتها و اليوم يوم شدّة و عسرة و فتنة بأنّ الله سيمنّ عليهم و يجعلهم أئمّة و يجعلهم الوارثين و يمكّن لهم و يرى طغاة قومهم منهم ما كانوا يحذرون يقصّ تعالى للمؤمنين من قصّة موسى و فرعون أنّه خلق موسى في حين كان فرعون في أوج قدرته يستضعف بني إسرائيل يذبّح أبناءهم و يستحيي نساءهم فربّاه في حجر عدوّ، حتّى إذا استوى و بلغ أشدّه نجّاه و أخرجه من بينهم إلى مدين ثمّ ردّه إليهم رسولاً منه بسلطان مبين حتّى إذا أغرق فرعون و جنوده أجمعين و جعل بني إسرائيل هم الوارثين و أنزل التوراة على موسى هدى و بصائر للمؤمنين.

و على هذا المجرى يجري حال المؤمنين و فيه وعدٌ لهم بالملك و العزّة و السلطان و وعد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بردّه إلى معاد.

و انتقل من القصّة إلى بيان أنّ من الواجب في حكمة الله أن ينزّل كتاباً من عنده للدعوة الحقّة ثمّ ذكر طعنهم في دعوة القرآن بقولهم: لو لا اُوتي مثل ما اُوتي موسى و الجواب عنه، و تعلّلهم عن الإيمان بقولهم: إن نتّبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا و الجواب عنه و فيه التمثّل بقصّة قارون و خسفه.

و السورة مكّيّة كما يشهد بذلك سياق آياتها، و ما أوردناه من الآيات فصل من قصّة موسى و فرعون من يوم ولد موسى إلى بلوغه أشدّه.

قوله تعالى: ( طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) تقدّم الكلام فيه في نظائره.

٣

قوله تعالى: ( نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى‏ وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( مِنْ ) للتبعيض و( بِالْحَقِّ ) متعلّق بقوله:( نَتْلُوا ) أي نتلو تلاوة متلبّسة بالحقّ فهو من عندنا و بوحي منّا من غير أن يداخل في إلقائه الشياطين، و يمكن أن يكون متعلّقاً بنبإ أي حال كون النبإ الّذي نتلوه عليك متلبّساً بالحقّ لا مرية فيه.

و قوله:( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) اللّام فيه للتعليل و هو متعلّق بقوله:( نَتْلُوا ) أي نتلو عليك من نبإهما لأجل قوم يؤمنون بآياتنا.

و محصّل المعنى: نتلو عليك بعض نبإ موسى و فرعون تلاوة بالحقّ لأجل أن يتدبّر فيه هؤلاء الّذين يؤمنون بآياتنا ممّن اتّبعوك و هم طائفة أذلّاء مستضعفون في أيدي فراعنة قريش و طغاة قومهم فيتحقّقوا أنّ الله الّذي آمنوا به و برسوله و تحمّلوا كلّ أذى في سبيله هو الله الّذي أنشأ موسىعليه‌السلام لإحياء الحقّ و إنجاء بني إسرائيل و إعزازهم بعد ذلّتهم هاتيك الذلّة يذبّح أبناءهم و يستحيي نساءهم و قد علا فرعون و أنشب فيهم مخالب قهره و أحاط بهم بجوره.

أنشأه و الجوّ ذلك الجوّ المظلم الّذي لا مطمع فيه فربّاه في حجر عدوّه ثمّ أخرجه من مصر ثمّ أعاده إليهم بسلطان فأنجا به بني إسرائيل و أفنى بيده فرعون و جنوده و جعلهم أحاديث و أحلاما.

فهو الله جلّ شأنه يقصّ على نبيّه قصّتهم و يرمز له و لهم بقوله:( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) أنّه سيفعل بهؤلاء مثل ما فعل باُولئك و يمنّ على هؤلاء المستضعفين و يجعلهم أئمّة و يجعلهم الوارثين حذو ما صنع ببني إسرائيل.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ ) إلخ، العلوّ في الأرض كناية عن التجبّر و الاستكبار، و الشيع جمع شيعة و هي الفرقة، قال في المجمع: الشيع: الفرق و كلّ فرقة شيعة و سمّوا بذلك لأنّ بعضهم يتابع بعضاً. انتهى. و كأنّ المراد بجعل أهل الأرض - و كأنّهم أهل مصر و اللّام للعهد - فرقاً إلقاء الاختلاف بينهم لئلّا يتّفق كلمتهم فيثوروا عليه و يقلبوا عليه الأمور على ما هو من دأب الملوك في بسط القدرة و تقوية السلطة، و استحياء النساء إبقاء حياتهنّ.

٤

و محصّل المعنى: أنّ فرعون علا في الأرض و تفوّق فيها ببسط السلطة على الناس و إنفاذ القدرة فيهم و جعل أهلها شيعاً و فرقاً مختلفة لا تجتمع كلمتهم على شي‏ء و بذلك ضعّف عامّة قوّتهم على المقاومة دون قوّته و الامتناع من نفوذ إرادته.

و هو يستضعف طائفة منهم و هم بنو إسرائيل و هم أولاد يعقوبعليه‌السلام و قد قطنوا بمصر منذ أحضر يوسفعليه‌السلام أباه و إخوته و أشخصهم هناك فسكنوها و تناسلوا بها حتّى بلغوا الاُلوف.

و كان فرعون هذا و هو ملك مصر المعاصر لموسىعليه‌السلام يعاملهم معاملة الاُسراء الأرقّاء و يزيد في تضعيفهم حتّى بلغ من استضعافه لهم أن أمر بتذبيح أبنائهم و استبقاء نسائهم و كان فيه إفناء رجالهم بقتل الأبناء الذكور و فيه فناء القوم.

و السبب في ذلك أنّه كان من المفسدين في الأرض فإنّ الخلقة العامّة الّتي أوجدت الإنسان لم يفرّق في بسط الوجود بين شعب و شعب من الشعوب الإنسانيّة ثمّ جهّز الكلّ بما يهديهم إلى حياة اجتماعيّة بالتمتّع من أمتعة الحياة الأرضيّة و لكلّ ما يعادل قيمته في المجتمع و ما يساوي زنته في التعاون.

هذا هو الإصلاح الّذي يهتف به الصنع و الإيجاد، و التعدّي عن ذلك بتحرير قوم و تعبيد آخرين و تمتيع شعب بما لا يستحقّونه و تحريم غيرهم ما يصلحون له هو الإفساد الّذي يسوق الإنسانيّة إلى البيد و الهلاك.

و في الآية تصوير الظرف الّذي ولد فيه موسىعليه‌السلام و قد أحدقت الأسباب المبيدة لبني إسرائيل على إفنائه.

قوله تعالى: ( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ - إلى قوله -ما كانُوا يَحْذَرُونَ ) الأصل في معنى المنّ - على ما يستفاد من كلام الراغب - الثقل و منه تسمية ما يوزن به منّا، و المنّة النعمة الثقيلة و منّ عليه منّا أي أثقله بالنعمة. قال: و يقال ذلك على وجهين أحدهما بالفعل كقوله:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ) أي نعطيهم من النعمة ما يثقلهم و الثاني بالقول كقوله:( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) و هو مستقبح إلّا عند كفران النعمة. انتهى ملخصّاً.

٥

و تمكينهم في الأرض إعطاؤهم فيها مكاناً يملكونه و يستقرّون فيه، و عن الخليل أنّ المكان مفعل من الكون و لكثرته في الكلام اُجري مجرى فعال. فقيل: تمكن و تمسكن نحو تمنزل انتهى.

و قوله:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ ) إلخ الأنسب أن يكون حالاً من( طائِفَةً ) و التقدير يستضعف طائفة منهم و نحن نريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا إلخ و قيل: معطوف على قوله:( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) و الأوّل أظهر، و( نُرِيدُ ) على أيّ حال لحكاية الحال الماضية.

و قوله:( وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) عطف تفسير على قوله:( نَمُنَّ ) و كذا ما بعده من الجمل المتعاقبة.

و المعنى: أنّ الظرف كان ظرف علوّ فرعون، و تفريقه بين الناس و استضعافه لبني إسرائيل استضعافاً يبيدهم و يفنيهم و الحال أنّا نريد أن ننعم على هؤلاء الّذين استضعفوا من كلّ وجه نعمة تثقلهم و ذلك بأن نجعلهم أئمّة يقتدى بهم فيكونوا متبوعين بعد ما كانوا تابعين، و نجعلهم الوارثين لها بعد ما كانت بيد غيرهم و نمكّن لهم في الأرض بأن نجعل لهم مكاناً يستقرّون فيه و يملكونه بعد ما لم يكن لهم من المكان إلّا ما أراد غيرهم أن يبوّئهم فيه و يقرّهم عليه، و نري فرعون و هو ملك مصر و هامان و هو وزيره و جنودهما منهم أي من هؤلاء الّذين استضعفوا ما كانوا يحذرون و هو أن يظهروا عليهم فيذهبوا بملكهم و مالهم و سنّتهم كما قالوا في موسى و أخيه لمّا اُرسلاً إليهم:( يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) طه: ٦٣.

و الآية تصوّر ما في باطن هذا الظرف الهائل الّذي قضى على بني إسرائيل أن لا يعيش منهم متنفّس و لا يبقى منهم نافخ نار و قد أحاطت بهم قدرة فرعون الطاغية و ملأ أقطار وجودهم رعبه و هو يستضعفهم حتّى يقضي عليهم بالبيد هذا ظاهر الأمر و في باطنه الإرادة الإلهيّة تعلّقت بأن تنجيهم منهم و تحوّل ثقل النعمة من آل فرعون الأقوياء العالين إلى بني إسرائيل الأذلّاء المستضعفين و تبدّل من الأسباب ما كان على بني إسرائيل لهم و ما كان لآل فرعون عليهم و الله يحكم لا معقّب لحكمه.

٦

قوله تعالى: ( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ) إلى آخر الآية، الإيحاء هو التكليم الخفيّ و يستعمل في القرآن في تكليمه تعالى بعض خلقه بنحو الإلهام و الإلقاء في القلب كما في قوله:( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها ) الزلزال: ٥ و قوله:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) النحل: ٦٨ و قوله في اُمّ موسى:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى) الآية أو بنحو آخر كما في الأنبياء و الرسل، و في غيره تعالى كما في قوله:( إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ ) الأنعام: ١٢١، و الإلقاء الطرح، و اليمّ البحر و النهر الكبير.

و قوله:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى) في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير و حبلت اُمّ موسى به - و الحال هذه الحال من الشدّة و الحدّة - و وضعته و أوحينا إليها إلخ.

و المعنى: و قلنا بنوع من الإلهام لاُمّ موسى لمّا وضعته: أرضعيه ما دمت لا تخافين عليه من قبل فرعون فإذا خفت عليه - أن يطّلع عليه آل فرعون فيأخذوه و يقتلوه - فألقيه في البحر و هو النيل على ما وردت به الرواية و لا تخافي عليه القتل و لا تحزني لفقده و مفارقته إيّاك إنّا رادّوه إليك بعد ذلك و جاعلوه من المرسلين فيكون رسولاً إلى آل فرعون و بني إسرائيل.

فقوله:( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ) تعليل للنهي في قوله:( وَ لا تَحْزَنِي ) كما يشهد به أيضاً قوله بعد:( فَرَدَدْناهُ إِلى‏ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ ) و الفرق بين الخوف و الحزن بحسب المورد أنّ الخوف إنّما يكون في مكروه محتمل الوقوع و الحزن في مكروه قطعيّ الوقوف.

قوله تعالى: ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) الالتقاط أصابه الشي‏ء و أخذه من غير طلب، و منه اللقطة و اللّام في قوله:( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً ) للعاقبة - على ما قيل - و الحزن بفتحتين و الحزن بالضمّ فالسكون بمعنى واحد كالسقم و السقم، و المراد بالحزن سبب الحزن فإطلاق الحزن عليه مبالغة في سببيّته لحزنهم.

و الخاطئين اسم فاعل من خطئ يخطأ خطأً كعلم يعلم علما كما أنّ المخطئ

٧

اسم فاعل من أخطأ يخطئ إخطاءً، و الفرق بين الخاطئ و المخطئ - على ما ذكره الراغب - أنّ الخاطئ يطلق على من أراد فعلاً لا يحسنه ففعله قال تعالى:( إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) ، و قال:( وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) ، و المخطئ يستعمل فيمن أراد فعلاً يحسنه فوقع منه غيره و اسم مصدره الخطأ بفتحتين، قال تعالى:( وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً ) النساء: ٩٢ و المعنى الجامع هو العدول عن الجهة. انتهى ملخّصاً.

فقوله:( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) أي فيما كانوا يفعلونه في أبناء بني إسرائيل و موسى تحذّرا من انهدام ملكهم و ذهاب سلطانهم بيدهم إرادة لتغيير المقادير عن مجاريها فقتلوا الجمّ الغفير من الأبناء و لا شأن لهم في ذلك و تركوا موسى حيث التقطوه و ربّوه في حجورهم و كان هو الّذي بيده انقراض دولتهم و زوال ملكهم.

و المعنى: فأصابه آل فرعون و أخذوه من اليمّ و كان غاية ذلك أن يكون لهم عدوّاً و سبب حزن إنّ فرعون و هامان و جنودهما كانوا خاطئين في قتل الأبناء و ترك موسى: أرادوا أن يقضوا على من سيقضي عليهم فعادوا يجتهدون في حفظه و يجدّون في تربيته.

و بذلك يظهر أنّ تفسير بعضهم كونهم خاطئين بأنّهم كانوا مذنبين فعاقبهم الله أن ربّي عدوّهم على أيديهم ليس بسديد.

قوله تعالى: ( وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) شفاعة من امرأة فرعون و قد كانت عنده حينما جاؤا إليه بموسى - و هو طفل ملتقط من اليمّ - تخاطب فرعون بقوله:( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ ) أي هو قرّة عين لنا( لا تَقْتُلُوهُ ) و إنّما خاطب بالجمع لأنّ شركاء القتل كانوا كثيرين من سبب و مباشر و آمر و مأمور.

و إنّما قالت ما قالت لأنّ الله سبحانه ألقى محبّة منه في قلبها فعادت لا تملك نفسها دون أن تدفع عنه القتل و تضمّه إليها، قال تعالى فيما يمنّ به على موسىعليه‌السلام :( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى‏ عَيْنِي ) طه: ٣٩.

و قوله:( عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) قالته لمّا رأت في وجهه من آثار الجلال

٨

و سيماء الجذبة الإلهيّة، و في قولها:( أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) دلالة على أنّهما كانا فاقدين للإبن.

و قوله:( وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) جملة حاليّة أي قالت ما قالت و شفعت له و صرفت عنه القتل و القوم لا يشعرون ما ذا يفعلون و ما هي حقيقة الحال و ما عاقبته؟

قوله تعالى: ( وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى‏ فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى‏ قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الإبداء بالشي‏ء إظهاره، و الربط على الشي‏ء شدّة و هو كناية عن التثبيت.

و المراد بفراغ فؤاد اُمّ موسى فراغه و خلوّة من الخوف و الحزن و كان لازم ذلك أن لا يتوارد عليه خواطر مشوّشة و أوهام متضاربة يضطرب بها القلب فيأخذها الجزع فتبدي ما كان عليها أن تخفيه من أمر ولدها.

و ذلك أنّ ظاهر السياق أنّ سبب عدم إبدائها له فراغ قلبها و سبب فراغ قلبها الربط على قلبها و سبب الربط هو قوله تعالى لها فيما أوحى إليها:( لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ) إلخ.

و قوله:( إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا ) إلخ،( إِنْ ) مخفّفة من الثقيلة أي إنّها قربت من أن تظهر الأمر و تفشي السرّ لو لا أن ثبّتنا قلبها بالربط عليه، و قوله:( لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي الواثقين بالله في حفظه فتصبر و لا تجزع عليه فلا يبدو أمره.

و المجموع أعني قوله:( إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) إلى آخر الآية في مقام البيان لقوله:( وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى‏ فارِغاً ) و محصّل معنى الآية و صار قلب اُمّ موسى بسبب وحينا خالياً من الخوف و الحزن المؤدّيين إلى إظهار الأمر، لو لا أن ثبّتنا قلبها بسبب الوحي لتكون واثقة بحفظ الله له لقربت من أن تظهر أمره لهم بالجزع عليه.

و بما تقدّم يظهر ضعف بعض ما قيل في تفسير جمل الآية كقول بعضهم في( وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى‏ فارِغاً ) أي صفراً من العقل لما دهمها من الخوف و الحيرة حين سمعت بوقوع الطفل في يد فرعون، و قول آخرين: أي فارغاً من الوحي الّذي اُوحي إليها بالنسيان، و ما قيل: أي فارغاً من كلّ شي‏ء إلّا ذكر موسى أي صار فارغاً له. فإنّها

٩

جميعاً وجوه لا يحتمل شيئاً منها السياق.

و نظير ذلك في الضعف قولهم: إنّ جواب لو لا محذوف و التقدير لو لا أن ربطنا على قلبها لأبدته و أظهرته، و الوجه في تقديرهم ذلك ما قيل: إنّ لو لا شبيهه بأدوات الشرط فلها الصدر و لا يتقدّم جوابها عليها. و قد تقدّمت المناقشة فيه في الكلام على قوله تعالى:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) يوسف: ٢٤.

قوله تعالى: ( وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) قال في المجمع: القصّ اتّباع الأثر و منه القصص في الحديث لأنّه يتّبع فيه الثاني الأوّل. و قال: و معنى بصرت به عن جنب أبصرته عن جنابة أي عن بعد. انتهى.

و المعنى: و قالت اُمّ موسى لاُخته اتّبعي أثر موسى حتّى ترين إلام يؤل أمره فرأته عن بعد و قد أخذه خدم فرعون و هم لا يشعرون بأنّها تقصّه و تراقبه.

قوله تعالى: ( وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) التحريم في الآية تكوينيّ لا تشريعيّ و معناه جعله بحيث لا يقبل ثدي مرضع و يمتنع من ارتضاعها.

و قوله:( مِنْ قَبْلُ ) أي من قبل حضورها هناك و مجيئها إليهم و المراضع جمع مرضعة كما قيل.

و قوله:( فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) تفريع على ما تقدّمه غير أنّ السياق يدلّ على أنّ هناك حذفاً كأنّه قيل: و حرّمنا عليه المراضع غير اُمّه من قبل أن تجي‏ء اُخته فكلّما أتوا له بمرضع لترضعه لم يقبل ثديها فلمّا جاءت اُخته و رأت الحال قالت عند ذلك لآل فرعون: هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لنفعكم و هم له ناصحون.

قوله تعالى: ( فَرَدَدْناهُ إِلى‏ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) تفريع على ما تقدّمه مع تقدير مّا يدلّ عليه السياق، و المحصّل أنّها قالت: هل أدلّكم على أهل بيت كذا فأنعموا لها بالقبول فدلّتهم على اُمّه فسلّموه إليها فرددناه إلى اُمّه بنظم هذه الأسباب.

١٠

و قوله:( كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ ) إلخ، تعليل للردّ و المراد بالعلم هو اليقين بالمشاهدة فإنّها كانت تعلم من قبلُ أنّ وعد الله حقّ و كانت مؤمنة و إنّما اُريد بالردّ أن توقن بالمشاهدة أنّ وعد الله حقّ.

و المراد بوعد الله مطلق الوعد الإلهيّ بدليل قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي لا يوقنون بذلك و يرتابون في مواعده تعالى و لا تطمئنّ إليها نفوسهم، و محصّله أن توقع بمشاهدة حقيّة هذا الّذي وعدها الله به أنّ مطلق وعده تعالى حقّ.

و ربّما يقال: إنّ المراد بوعد الله خصوص الوعد المذكور في الآية السابقة:( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) و لا يلائمه قوله بعد:( وَ لكِنَّ ) إلخ على ما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى‏ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) بلوغ الأشدّ أن يعمّر الإنسان ما تشتدّ عند ذلك قواه و يكون في الغالب في الثمان عشرة، و الاستواء الاعتدال و الاستقرار فالاستواء في الحياة استقرار الإنسان في أمر حياته و يختلف في الأفراد و هو على الأغلب بعد بلوغ الأشدّ، و قد تقدّم الكلام في معنى الحكم و العلم و إيتائهما و معنى الإحسان في مواضع من الكتاب.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ) قال: يوسف و ولده.

أقول: لعلّ المراد بنو إسرائيل، و إلّا فظهور الآية في خلافه غير خفيّ.

و في معاني الأخبار، بإسناده عن محمّد بن سنان عن المفضّل بن عمر قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظر إلى عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام فبكى و قال: أنتم المستضعفون بعدي. قال المفضّل: فقلت له: ما معنى ذلك؟ قال: معناه أنّكم الأئمّة بعدي إنّ الله عزّوجلّ يقول:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي

١١

الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة.

أقول: و الروايات من طرق الشيعة في كون الآية في أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كثيرة و بهذه الرواية يظهر أنّها جميعاً من قبيل الجري و الانطباق.

و في نهج البلاغة: لتعطفنّ الدنيا عليا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها و تلا عقيب ذلك( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى) إلى آخر الآية: حدّثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إنّه لمّا حملت به اُمّه لم يظهر حملها إلّا عند وضعها له و كان فرعون قد وكّل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهنّ و ذلك أنّه كان لمّا بلغه عن بني إسرائيل أنّهم يقولون: إنّه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده فقال فرعون عند ذلك: لأقتلنّ ذكور أولادهم حتّى لا يكون ما يريدون و فرّق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس.

فلمّا وضعت اُمّ موسى بموسى نظرت إليه و حزنت عليه و اغتمّت و بكت و قالت: يذبح الساعة فعطف الله عزّوجلّ قلب الموكّلة بها عليه فقالت لاُمّ موسى: ما لك قد اصفرّ لونك؟ فقالت أخاف أن يذبح ولدي فقالت: لا تخافي و كان موسى لا يراه أحد إلّا أحبّه و هو قول الله:( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) .

فأحبّته القبطيّة الموكّلة بها و أنزل الله على اُمّ موسى التابوت، و نوديت ضعيه في التابوت فألقيه في اليمّ و هو البحر( وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) فوضعته في التابوت و أطبقته عليه و ألقته في النيل.

و كان لفرعون قصر على شطّ النيل متنزّه فنظر من قصره - و معه آسية امرأته - إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج و الرياح تضربه حتّى جاءت به إلى باب قصر فرعون فأمر فرعون بأخذه فاُخذ التابوت و رفع إليه فلمّا فتحه وجد فيه صبيّاً فقال: هذا إسرائيليّ فألقى الله في قلب فرعون محبّة شديدة و كذلك في قلب آسية.

١٢

و أراد فرعون أن يقتله فقالت آسية:( لا تَقْتُلُوهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أنّه موسى.

و في المجمع: في قوله تعالى:( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ ) إلخ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الّذي يحلف به لو أقرّ فرعون بأن يكون له قرّة عين كما أقرّت امرأته لهداه الله به كما هداها و لكنّه أبى للشقاء الّذي كتبه الله عليه.

و في المعاني، بإسناده عن محمّد بن نعمان الأحول عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى) قال: أشدّه ثمان عشرة سنة( وَ اسْتَوى) التحى.

١٣

( سورة القصص الآيات ١٥ - ٢١)

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ  فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ  قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ  إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ( ١٥ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ  إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ١٦ ) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ( ١٧ ) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ  قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ( ١٨ ) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ  إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ( ١٩ ) وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ( ٢٠ ) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ  قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٢١ )

( بيان)

فصل ثان من قصّة موسىعليه‌السلام فيه ذكر بعض ما وقع بعد بلوغه أشدّه فأدّى إلى خروجه من مصر و قصده مدين.

قوله تعالى: ( وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى‏ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) إلخ، لا ريب أنّ المدينة الّتي دخلها على حين غفلة من أهلها هي مصر، و أنّه كان يعيش عند فرعون،

١٤

و يستفاد من ذلك أنّ القصر الملكيّ الّذي كان يسكنه فرعون كان خارج المدينة و أنّه خرج منه و دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، و يؤيّد ما ذكرنا ما سيأتي من قوله:( وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) على ما سيجي‏ء من الاستظهار.

و حين الغفلة من أهل المدينة هو حين يدخل الناس بيوتهم فتتعطّل الأسواق و تخلو الشوارع و الأزقّة من المارّة كالظهيرة و أواسط الليل.

و قوله:( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ ) أي يتنازعان و يتضاربان، و قوله:( هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ ) حكاية حال تمثّل به الواقعة، و معناه: أنّ أحدهما كان إسرائيليّاً من متّبعيه في دينه - فإنّ بني إسرائيل كانوا ينتسبون يومئذ إلى آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوبعليهم‌السلام في دينهم و إن كان لم يبق لهم منه إلّا الاسم و كانوا يتظاهرون بعبادة فرعون - و الآخر قبطيّاً عدوّاً له لأنّ القبط كانوا أعداء بني إسرائيل، و من الشاهد أيضاً على كون هذا الرجل قبطيّاً قوله في موضع آخر يخاطب ربّه:( وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) الشعراء: ١٤.

و قوله:( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) الاستغاثة: الاستنصار من الغوث بمعنى النصرة أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على عدوّه القبطيّ.

و قوله:( فَوَكَزَهُ مُوسى‏ فَقَضى‏ عَلَيْهِ ) ضميراً( فَوَكَزَهُ ) و( عَلَيْهِ ) للّذي من عدوّه و الوكز - على ما ذكره الراغب و غيره - الطعن و الدفع و الضرب بجمع الكفّ، و القضاء هو الحكم و القضاء عليه كناية عن الفراغ من أمره بموته، و المعنى: فدفعه أو ضربه موسى بالوكز فمات، و كان قتل خطإ و لو لا ذلك لكان من حقّ الكلام أن يعبّر بالقتل.

و قوله:( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) الإشارة بهذا إلى ما وقع بينهما من الاقتتال حتّى أدّى إلى موت القبطي و قد نسبه نوع نسبة إلى عمل الشيطان إذ قال:( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) و( مِنْ ) ابتدائيّة تفيد معنى الجنس أو نشوئيّة، و المعنى: هذا الّذي وقع من المعاداة و الاقتتال من جنس العمل المنسوب إلى

١٥

الشيطان أو ناش من عمل الشيطان فإنّه هو الّذي أوقع العداوة و البغضاء بينهما و أغرى على الاقتتال حتّى أدّى ذلك إلى مداخلة موسى و قتل القبطي بيده فأوقعه ذلك في خطر عظيم و قد كان يعلم أنّ الواقعة لا تبقى خفيّة مكتومة و أنّ القبط سيثورون عليه و أشرافهم و ملاؤهم و على رأسهم فرعون سينتقمون منه و من كلّ من تسبّب إلى ذلك أشدّ الانتقام.

فعند ذلك تنبّهعليه‌السلام أنّه أخطأ فيما فعله من الوكز الّذي أورده مورد الهلكة و لا ينسب الوقوع في الخطإ إلى الله سبحانه لأنّه لا يهدي إلّا إلى الحقّ و الصواب فقضي أنّ ذلك منسوب إلى الشيطان.

و فعله ذاك و إن لم يكن معصية منه لوقوعه خطأ و كون دفاعه عن الإسرائيلي دفعاً لكافر ظالم، لكنّ الشيطان كما يوقع بوسوسته الإنسان في الإثم و المعصية كذلك يوقعه في أيّ مخالفة للصواب يقع بها في الكلفة و المشقّة كما أوقع آدم و زوجه فيما أوقع من أكل الشجرة المنهيّة فأدّى ذلك إلى خروجهما من الجنّة.

فقوله:( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) انزجار منه عمّا وقع من الاقتتال المؤدّي إلى قتل القبطيّ و وقوعه في عظيم الخطر و ندم منه على ذلك، و قوله:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) إشارة منه إلى أنّ فعله كان من الضلال المنسوب إلى الشيطان و إن لم يكن من المعصية الّتي فيها إثم و مؤاخذة بل خطأ محضاً لا ينسب إلى الله بل إلى الشيطان الّذي هو عدوّ مضلّ مبين، فكان ذلك منه نوعاً من سوء التدبير و ضلال السعي يسوقه إلى عاقبة وخيمة و لذا لمّا اعترض عليه فرعون بقوله:( وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ‏ ) أجابه بقوله:( فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) الشعراء: ٢٠.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) اعتراف منه عند ربّه بظلمه نفسه حيث أوردها مورد الخطر و ألقاها في التهلكة، و منه يظهر أنّ المراد بالمغفرة المسؤولة في قوله:( فَاغْفِرْ لِي ) هو إلغاء تبعة فعله و إنجاؤه من الغمّ و تخليصه من شرّ فرعون و ملإه، كما يظهر من قوله تعالى:( وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ ) طه: ٤٠.

١٦

و هذا الاعتراف بالظلم و سؤال المغفرة نظير ما وقع من آدم و زوجه المحكيّ في قوله تعالى:( قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) الأعراف: ٢٣.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) قيل: الباء في قوله:( بِما أَنْعَمْتَ ) للسببيّة و المعنى ربّ بسبب ما أنعمت عليّ، لك عليّ أن لا أكون معيناً للمجرمين فيكون عهداً منه لله تعالى و قيل: الباء للقسم و الجواب محذوف و المعنى: اُقسم بما أنعمت عليّ لأتوبنّ أو لأمتنعنّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين، و قيل: القسم استعطافيّ و هو القسم الواقع في الإنشاء كقولك بالله زرني، و المعنى اُقسمك أن تعطف عليّ و تعصمني فلن أكون ظهيراً للمجرمين.

و الوجه الأوّل هو الأوجه لأنّ المراد بقوله:( بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) - على ما ذكروه - إمّا إنعامه تعالى عليه إذ حفظه و خلّصه من قتل فرعون و ردّه إلى اُمّه، و إمّا إنعامه عليه إذ قبل توبته من قتل القبطيّ و غفر له بناء على أنّه علم مغفرته تعالى بإلهام أو رؤيا أو نحوهما و كيف كان فهو إقسام بغيره تعالى، و المعنى اُقسم بحفظك إيّاي أو اُقسم بمغفرتك لي، و لم يعهد في كلامه تعالى حكاية قسم من غيره بغيره بهذا النحو.

و قوله:( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) قيل: المراد بالمجرم من أوقع غيره في الجرم أو من أدّت إعانته إلى جرم كالإسرائيليّ الّذي خاصمه القبطيّ فأوقعت إعانته موسى في جرم القتل فيكون في لفظ المجرمين مجاز في النسبة من حيث تسمية السبب الموقع في الجرم مجرماً.

و قيل: المراد بالمجرمين فرعون و قومه و المعنى: اُقسم بإنعامك عليّ لأتوبنّ فلن أكون معيناً لفرعون و قومه بصحبتهم و ملازمتهم و تكثير سوادهم كما كنت أفعله إلى هذا اليوم.

و ردّ هذا الوجه الثاني بأنّه لا يناسب المقام.

و الحقّ أنّ قوله:( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) عهد من

١٧

موسىعليه‌السلام أن لا يعين مجرماً على إجرامه شكراً لله تعالى على ما أنعم عليه، و المراد بالنعمة و قد اُطلقت إطلاقاً الولاية الإلهيّة على ما يشهد به قوله تعالى:( فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ ) النساء: ٦٩.

و هؤلاء أهل الصراط المستقيم مأمونون من الضلال و الغضب لقوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ ) الفاتحة: ٧ و ترتّب الامتناع عن إعانة المجرمين على الإنعام بهذا المعنى ظاهر لا سترة عليه.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالمجرمين أمثال فرعون و قومه دون أمثال الإسرائيلي الّذي أعانه فلم يكن في إعانته جرم و لا كان وكز القبطيّ جرماً حتّى يتوبعليه‌السلام منه كيف؟ و هوعليه‌السلام من أهل الصراط المستقيم الّذين لا يضلّون بمعصيته، و قد نصّ تعالى على كونه من المخلصين الّذين لا سبيل للشيطان إليهم بالإغواء حيث قال:( إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) مريم: ٥١.

و قد نصّ تعالى أيضاً آنفاً بأنّه آتاه حكماً و علماً و أنّه من المحسنين و من المتيقّن من أمره أن لا تستخفّه عصبيّة قوميّة أو غضب في غير ما ينبغي أو إعانة و نصرة لمجرم في إجرامه.

و قد كرّر( قالَ ) ثلاثاً حيث قيل:( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) ( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) ( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) و ذلك لاختلاف السياق في الجمل الثلاث فالجملة الاُولى قضاء منه و حكم، و الجملة الثانية استغفار و دعاء، و الجملة الثالثة عهد و التزام.

قوله تعالى: ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى‏ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) تقييد( فَأَصْبَحَ ) بقوله:( فِي الْمَدِينَةِ ) دليل على أنّه بقي في المدينة و لم يرجع إلى قصر فرعون، و الاستصراخ الاستغاثة برفع الصوت من الصراخ بمعنى الصياح، و الغواية إخطاء الصواب خلاف الرشد.

و المعنى: فأصبح موسى في المدينة - و لم يرجع إلى بلاط فرعون - و الحال أنّه خائف من فرعون ينتظر الشرّ ففاجأه أنّ الإسرائيليّ الّذي استنصره على القبطيّ

١٨

بالأمس يستغيث به رافعاً صوته على قبطيّ آخر قال موسى للإسرائيليّ توبيخاً و تأنيباً: إنّك لغويّ مبين لا تسلك سبيل الرشد و الصواب لأنّه كان يخاصم و يقتتل قوماً ليس في مخاصمتهم و المقاومة عليهم إلّا الشرّ كلّ الشرّ.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى‏ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ) إلى آخر الآية، ذكر جلّ المفسّرين أنّ ضمير( قالَ ) للإسرائيلي الّذي كان يستصرخه و ذلك أنّه ظنّ أنّ موسى إنّما يريد أن يبطش به لمّا سمعه يعاتبه قبل بقوله:( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) فهاله ما رأى من إرادته البطش فقال:( يا مُوسى‏ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ) إلخ، فعلم القبطيّ عند ذلك أنّ موسى هو الّذي قتل القبطيّ بالأمس فرجع إلى فرعون فأخبره الخبر فأتمروا بموسى و عزموا على قتله.

و ما ذكروه في محلّه لشهادة السياق بذلك فلا يعبوء بما قيل: إنّ القائل هو القبطيّ دون الإسرائيليّ، هذا و معنى باقي الآية ظاهر. و في قوله:( أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما ) تعريض للتوراة الحاضرة حيث تذكر أنّ المتقاتلين هذين كانا جميعاً إسرائيليّين، و فيه أيضاً تأييد أنّ القائل:( يا مُوسى‏ أَ تُرِيدُ ) إلخ، الإسرائيلي دون القبطيّ لأنّ سياقه سياق اللّوم و الشكوى.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى‏ قالَ يا مُوسى‏ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ) إلخ، الائتمار المشاورة، و النصيحة خلاف الخيانة.

و الظاهر كون قوله:( مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ) قيداً لقوله:( جاءَ ) فسياق القصّة يعطي أنّ الائتمار كان عند فرعون و بأمر منه، و أنّ هذا الرجل جاء من هناك و قد كان قصر فرعون في أقصى المدينة و خارجها فأخبر موسى بما قصدوه من قتله و أشار عليه بالخروج من المدينة.

و هذا الاستئناس من الكلام يؤيّد ما تقدّم أنّ قصر فرعون الّذي كان يسكنه كان خارج المدينة، و معنى الآية ظاهر.

١٩

قوله تعالى: ( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فيه تأييد أنّه ما كان يرى قتله القبطيّ خطأ جرماً لنفسه.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، قال: فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتّى بلغ مبلغ الرجال و كان ينكر عليه ما يتكلّم به موسىعليه‌السلام من التوحيد حتّى همّ به فخرج موسى من عنده و دخل المدينة فإذا رجلان يقتتلان أحدهما يقول بقول موسى و الآخر يقول بقول فرعون فاستغاثه الّذي من شيعته فجاء موسى فوكز صاحب فرعون فقضى عليه و توارى في المدينة.

فلمّا كان الغد جاء آخر فتشبّث بذلك الرجل الّذي يقول بقول موسى فاستغاث بموسى فلمّا نظر صاحبه إلى موسى قال له:( أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ) فخلّى عن صاحبه و هرب.

و في العيون، بإسناده إلى عليّ بن محمّد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضاعليه‌السلام فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى. قال: فأخبرني عن قول الله:( فَوَكَزَهُ مُوسى‏ فَقَضى‏ عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) قال الرضاعليه‌السلام : إنّ موسىعليه‌السلام دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها و ذلك بين المغرب و العشاء فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته و هذا من عدوّه فقضى على العدوّ بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات، قال:( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) يعني الاقتتال الّذي وقع بين الرجلين لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله( إِنَّهُ ) يعني الشيطان( عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

قال المأمون: فما معنى قول موسى:( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) ؟ قال: يقول: وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلّا يظفروا بي فيقتلوني فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم. قال موسى: ربّ بما أنعمت

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

المسألة الواحدة والعشرون

حكم قطع أعضاء الحيّ

والبحث فيه من نواح:

١ - حكم أصل القطع.

٢ - المنقول منه.

٣ - الأعضاء المنقولة.

٤ - المنقول إليه.

٥ - الغاية من النقل.

٦ - كيفيّة النقل ووسيلته.

أمّا الناحية الأُولى، فلقائِلٍ أنْ يقول بحرمة قطع الحيّ بعض أعضاء بدنه للغير ؛ فإنّه إضرار بالنفس والبدن، والإضرار حرام في الشريعة، سواء بنفسه أو بغيره، وسواء انجرّ إلى تلف النفس أم لم ينجر.

ووجوب حفظ النفس المحترمة كفاية إنّما هو بالطرق المتعارفة، لا بقطع أعضاء بدن المكلّفين وزرعها في بدن المضطرّ، فإنّ هذا النحو من الحفظ لم يذكره الفقهاء، فضلاً عن وروده في الكتاب والسنّة.

أقول : الإضرار بالنفس على ثلاثة أوجه:

الأوّل : إلقاء النفس إلى التهلكة بأيّ وجهٍ كان، وهذا حرام منصوص لا إشكال فيه.

الثاني : إتلاف الأعضاء المهمّة كقطع اليد أو الرجل واللسان، أو قلع

١٨١

العين، ونظائر ذلك ممّا يعلم بعدم رضى الشارع به، ومثله التسبيب لابتلاء النفس بالأمراض الخطيرة: كالسلّ والسرطان والإيدز والجذام وأمثالها، ودليل الحرمة هو العلم المذكور سواءٌ وُجد دليل لفظي عليها، أم لا وهذه الحرمة في بعض الموارد: كقلع عينٍ واحدةٍ لزرعها في رأس عالم جليل ذي مكانةٍ دينيّةٍ أعمى - مثلاً - مبنيّة على الاحتياط.

الثالث : الإضرار بأدون من الوجهين المذكورين، وهذا غير محرّم لعدم الدليل عليه، فإنّ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا ضرر ولا ضرار )(١) ، لا يدلّ على حرمة الإضرار بالنفس ظاهراً(٢) ، والرجوع إلى أصالة البراءة، بل إلى بناء العقلاء على تسلّط الناس على أموالهم وأنفسهم يعطي الجواز، وترى العقلاء يقدمون على بعض الأضرار بمشيٍ زائدٍ، أو أكلٍ زائدٍ، أو عملٍ شاقٍّ، ولا يذمّ أحدٌ أحداً على ذلك، ولاحظ المسألة الخامسة والعشرين.

لا يجوز مساعدة المحتاج على الوجه الأوّل، بلا إشكالٍ حتّى إذا فرضنا علم المساعد بموته بعد دقائق، فإنّه لا يجوز إتلاف نفسه في هذه الدقائق اليسيرة.

وهل تجوز بالوجه الثاني، بدعوى أنّ حرمته إنّما هي إذا كان الإتلاف لغرضٍ عقلائي، فيجوز قطع أحد يديه لتُزرع في بدن مقطوع اليدين، أو قلع عينه لزرعها في رأس الأعمى، وإن لم يجز قطع اليدين وقلع العينين معاً ؟ فيه بحث واحتمالات.

وأمّا مساعدة الغير بالوجه الثالث فهي راجحة ولا إشكال فيها، وإذا توقّف حياة أحد عليها تجب.

___________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٨٠ و٢٩٢. نسخة الكومبيوتر.

(٢) لاحظ بحثه في الجزء الثاني، في كتابنا حدود الشريعة في محرّماتها، ص٤٠٤ إلى ص٤١٥.

١٨٢

وعدم ورده في الفقه، إنّما هو لعدم إمكان هذه الأقسام من المساعدات الطبّيّة في الزمان السابق، لا لعدم وجوبها، فلاحظ.

لكنّ لأحدٍ أنْ يمنع الوجوب، لعدم دليل لفظي يتمسّك بإطلاقه في مثل المقام - كما أشرنا إليه سابقاً - والدليل اللّبّي لا يشمل ما شكّ في شموله له، بل يقتصر فيه على القدر المتيقَّن.

فإنْ قلت: إنّ إهداء كليةٍ واحدةٍ برعاية الطبيب الماهر، وإن لم يستلزم ضرراً لصاحبها بالفعل، لكنّه يخاف على نفسه إذا ابتليت كليته الأُخرى بالنقص والمرض في المستقبل، فلم تقدر على دفع سموم الدم إلى المثانة، ولم يجد من يعطيه الكلية بلا عوض، ولم يقدر هو على عوضها.

قلت : يمكن الاعتماد على استصحاب سلامتها من الأمراض، أو استصحاب عدم حدوث المرض عليها في المستقبل. لكنّ الاستصحاب المذكور لا يدفع احتمال الضرر والخوف منه ؛ فلا يجوز له إهدائها دفعاً للضرر، حتّى إذا كان هذا الغير ابنه وكان مرضه حرجيّاً للوالد، فإنّ قاعدة لا حرج معارضة أو مزاحمة بقاعدة حرمة الإضرار بالنفس.

وإن شئت فقل: يشكل إجراء قاعدة لا حرج في مثل المقام، كما أشرنا إليه في أوائل الكتاب.

إلاّ أن يُدّعى أنّ احتمال مثل هذا الضرر في المستقبل ضعيف، ولا يوجب العقلاء دفعه، فلاحظ.

وأمّا الناحية الثانية: فالمنقول منه قد يكون غير بالغ، أو مجنوناً، وقد يكون ميّتاً، وقد يكون رشيداً بالغاً، وقد يكون جنيناً أو سقطاً، وقد يكون حيواناً، وقد يكون غير محترم النفس.

أمّا الثالث: فقد مرّ حكمه، وأمّا الأوّلان فلا يجوز قطع أعضائهما لعدم ولاية الولي عليهما بهذا الحدّ، إلاّ أنْ يفرض توقّف نفقتهما على هذا العمل

١٨٣

وبدونه تقع سلامتهما في خطر مهم، وأمّا الرابع فله ذلك بمقدار مأذون له شرعاً كما عرفت.

ولا يجوز الأخذ من الجنين بوجه، وأمّا الذي سقط تلقائيّاً، أو أجهض في الموارد المرخّص فيها ذلك - كما سبق بيانه - فلا مانع لزرع بعض أعضائه في الغير ؛ إذا رضي الوالدان به، بعد إتيان ما يجب من تجهيزه إنْ أمكن وإلاّ قبله.

إذا كان ترك العمليّة يوجب تلف النفس المحترمة، أو مشقّة شديدة لوالدي السقط - كما إذا كان المريض من أقربائهما مثلاً - وفي غير الفرضين المذكورين ؛ يشكل ترك واجب لأجل تحصيل مالٍ غير محتاجٍ إليه.

وأمّا الحيوان فإن كان ممّا يؤكل لحمه وأخذ العضو بعد ذبحه فلا كلام، وإنْ كان غير مأكول اللحم، فإن زرع عضوه في البطن فلا إشكال فيه قبل التذكية أو بعدها، وإن زرع في الظاهر بعد تذكيته، فقد ورد في موثّقة زرارة أنّه سأل أبا عبد اللهعليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر، فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّ الصلاة في وبر كلّ شيءٍ حرام أكله، فالصلاة في: وبره، وشعره، وجلده، وبوله، وروثه، وكلّ شيءٍ منه، فاسد ؛ لا تُقبل تلك الصلاة حتّى يُصلّى في غيره ممّا أحلّ الله أكله... )(١) .

وإنْ أخذ قبل تذكيته، أو أخذ من حيوانٍ نجسٍ العين، كالكلب والخنزير، فمضافاً إلى هذا الإشكال تزيد مشكلة النجاسة المُبْطلة للصلاة، بل للغسل، بل الوضوء إذا زُرع في محلّ أعضاء الوضوء، وكذا إذا أخذ من الكافر غير الكتابي.

___________________

(١) ص٣٤٥ ج٤ الوسائل نسخة الكومبيوتر نقلاً عن الكافي.

١٨٤

وأجاب عنه بعض الفقهاء الأجلاّء: أنّه بعد الزرع يصبح جزءً من بدن الإنسان، ومحكوماً بحكمه فلا يجري عليه حكم غير المذكّى، وحكم الكلب والخنزير والكافر، أي هو يصير طاهراً بعد الزرع بالتّبع. وأنا فيه متوقّف، والله العالم.

وأمّا الأخير فإن كان حربيّاً، أو مرتدّاً سواء كان حيّاً، أم ميّتاً فيجوز أخذ العضو منه لمسلم رضي أم لا، بعوض أم بغير عوض، وأمّا المحكوم بالإعدام حدّاً فلا يجوز ذلك في حقّه، وإنّما يجب قتله حسب ما عيّنه الشرع، وقطع العضو أمر زائد لا دليل عليه، فهو ظلمٌ محرّم.

وأمّا المحكوم بالإعدام قصاصاً فهو - أيضاً - كذلك قبل القصاص وبعده، إلاّ إذا صولح على ذلك ورضي به.

وأما الناحية الثالثة: فقد تبيّن ممّا تقدّم حول الضرر الضابطة في جواز ما يُنقل من الأعضاء وما لا يُنقل.

وعلى كلٍّ، لا شبهة في جواز نقل الدم إلى الغير بعوض أو بغير عوض، وقد صرّح بعض فقهائنا بصحّة بيعه(١) .

وأمّا الناحية الرابعة: فان كان المنقول إليه مسلماً فلا إشكال فيه، وإما إذا كان كافراً فهل يجوز للمؤمن أنْ يعطيه عضوه ؟ فيه تردد. وأمّا إذا دفع إليه بعوض، وكان في أشدّ الحاجة إليه، فالظاهر أنّه جائز، لكنّ الأحوط بل الأقوى: عدم جواز دفعه إلى الناصبي والمبتدع، ومَن يُريد تخريب الدين، وتضعيف المؤمنين، في غير فرض الاضطرار إلى ماله بخصوصه.

وقد يكون المنقول منه والمنقول إليه شخصاً واحداً. ولا بأس حينئذٍ في النقل إذا كان

___________________

(١) وهو سيّدنا الأُستاذ الخوئيقدس‌سره .

١٨٥

الفرض حفظ العضو الأهم، وقد يكون العضو بلاستيكيّاً، وهذا لا إشكال في زرعه إذا لم يكن غصبيّاً.

وأمّا الناحية الخامسة: فالغاية قد تكون حفظ النفس من التلف، وقد تكون رفع الحرج الشديد، وقد تكون مجرّد أخذ المال، أمّا مع الحاجة الشديدة إليه، أو لا معها، بل لجمع المال فقط، كما أنّ الغاية للمنتقل إليه قد تكون حفظ نفسه، وقد تكون رفع الحرج عنها، وقد تكون أغراضاً تجمّليّة بحتة، وربما تختلف الأحكام المتعلّقة بالقطع والمقطوع منه بالنسبة إلى بعض هذه الغايات حسب الفتاوى، فلابُدّ للمكلّفين من الرجوع إلى مقلَّديهم ( بفتح اللام ) في ذلك.

وأمّا الناحية السادسة: فالعمليّة قد تقترن بعدّة أُمورٍ محرّمةٍ، أو غير جائزة بعنوانها الأوّلي، ونذكر بعضها من باب المثال:

١ - ٢ - نظر الأجنبي إلى بدن الأجنبيّة وبالعكس، أو نظر أحدهما إلى عورة الآخر، ولو كان الطبيب والمريض من جنسٍ واحدٍ.

٣ - ٤ - لمس الأجنبي بدن الأجنبيّة أو بالعكس، أو لمس العورة ولو بين المثلين.

٥ - الاضطرار إلى أكل طعام وشراب نجسين ك ،ما في مستشفيات البلاد الغربيّة وغير الإسلاميّة، أيّام العمليّة حتّى حصول القدرة، وكذا عند الفحوص الطبيّة قبل العمليّة.

٦ - الاضطرار إلى أداء الصلاة في لباسٍ نجسٍ، أو بدن نجس كذلك.

٧ - الصلاة عن جلوس أو عن استلقاء أو اضطجاع لا عن قيام، حتّى يقدر عليه.

ثمّ الأربعة الأُولى متعلّقة بالمنقول منه، والمنقول إليه والطبيب ومساعديه المراقبين للمرضى في المستشفيات جميعاً.

١٨٦

أقول : إذا أُجريت العمليّة لحفظ النفس أو لرفع مرض حرجي لا شبهة في جواز كلّ الأُمور السبعة للمريض، والأُمور الأربعة للطبيب، إذا لم يمكن الاجتناب عن بعضها: كلبس شيءٍ مانعٍ عن المسّ بالبدن ونحو ذلك.

وأمّا إذا أُجريت للتجمّل فقط فلا ترتفع حرمة المحرّمات، ولا لزوم الواجبات في حقّهما.

وأمّا المنقول منه فإن قصد حفظ النفس المحترمة ؛ فيجوز له كلّ ذلك، كما يجوز للمنقول إليه، وإن قصد رفع المرض الحرجي، فإن كان حرجيّاً له أيضاً لمكان علاقته بالمريض، فالحكم هو الجواز لنفي الحرج، وإن لم يكن له حرجيّاً فربّما يشكل إقدامه على العمليّة وإن كان قطع العضو جائزاً لمكان تلك المحرّمات والواجبات الضمنيّة، وجريان قاعدة نفي الحرج في حقّ المنقول إليه لا يكفي للمنقول منه، وكفايته للطبيب إنّما هي بدليلٍ خاصٍّ مرّ في المسألة الثانية، إلاّ أنْ يدّعى القطع بعدم الفرق بينهما، فتأمّل.

وإنْ قصد المال لحاجةٍ شديدةٍ إليه، فالظاهر جواز الأُمور المذكورة ؛ لقاعدة نفي الحرج والضرر، وإن قصد جمع المال فقط فيشكل الأمر، حتّى في فرض حفظ حياة المنقول إليه إذا لم يقصده، فضلاً عن فرض التجمّل، بل الظاهر عدم رفع الحرمة والوجوب في حقّه، فلاحظ وتأمّل.

١٨٧

المسألة الثانية والعشرون

أحكام متعلّقة باللّمس والنظر وتشريح الميّت وغير ذلك

١ - هل ترتفع حرمة النظر والمسّ المحرّمين للطلاب والطالبات في كلّيّة الطبّ في مقام تعلّمهم - فإنّه واجب كفائي - وهل يفرق الحكم الشرعي بالنسبة إلى الأحياء والأموات ؟

( ج ) : أمّا المسّ فالظاهر عدم الاحتياج إليه غالباً ؛ لإمكان لبس ما يمنع مسّ البدن باليد، فلا مجوّز لرفع حرمته أصلاً، وأمّا النظر إلى الوجه والكفّين، فلا بأس به مطلقاً بغير قصد الشهوة واللّذة، وكذا إلى الكافرات بمقدار ما تعارف عدم حجابهن، بل وكذا إلى المبتذلات اللاّئي إذا نُهين لا ينتهين، وأمّا إلى بدن المسلمات غير المبتذلات فلا.

وأمّا السؤال عن جواز إلباس المساعدة للطبيب لباسه، أو نزعه، ممّا يستلزم المسّ المحرّم، وأنّه عادة رسميّة رائجة حين العمليّة، أو الفراغ منها ؟

فجوابه : أنّ حرمة المسّ لا تزول بهذه العادات غير الإسلامية.

٢ - هل يجوز الرجوع للتداوي والعمليّة إلى الجنس المخالف، إذا استلزم النظر والمسّ المحرّمين، مع إمكان الرجوع إلى المماثل أو لا يجوز ؟

( ج ) : لا يجوز الرجوع إلى الجنس المخالف، إلاّ مع تعذّر المماثل الصالح للعلاج والتشخيص، وحينئذٍ يجوز النظر والمسّ للطبيب - أيضاً - كما مرّ دليله في المسألة الثانية، ويقدّم المحارم على غيرهم، ووجهه واضح في النظر إلى غير العورة، ومسه، فإنّه يجوز لهم، وأمّا في مسّ العورة والنظر إليها

١٨٨

فليس حكمه بواضح، فهو أحوط.

٣ - هل يجوز النظر إلى العورة ومسّها في مقام التداوي مطلقاً أو بشرط ؟

( ج ) : يجوز بشرط تداوي المرض الحرجي للمريض، ويزيد للمخالف شرط فقد المماثل أيضاً.

وربّما قيل بتقديم المحارم على غيرهم، وهو أحوط، كما أشرنا إليه آنفاً.

٤ - هل يجب على مَن يتعلّم الطبّ الغسل بمسّ بدن الميّت، مع أنّه يتكرّر في كثيرٍ من الأيّام، بل ربّما في كلّ يومٍ مرّاتٍ ؟

( ج ) : نعم يجب الغسل عند الصلاة، وطريق التخلّص عن الغسل لبس سترٍ يمنع عن مسّ اليد ببدن الميّت مباشرةً، وهو أمرٌ سهلٌ.

وأمّا إذا مسّ القطعة المبانة منه، فعند بعض الفقهاء المعاصرين أنّه لا يجب على الماسّ الغسل(١) ، وعند المشهور وجوبه بمسّها إذا اشتملت على العظم دون المجرّد عنه كاللحم فإنّه لا يجب(٢) بمسه، وأمّا مسّ العظم المجرّد ففي وجوب الغسل به، أقوال أربعة.

هذا كلّه إذا لم يغسّل الميّت، وأمّا إذا غُسّل الميّت أو جاؤا به من مقابر المسلمين، فلا يجب الغسل بمسّه، فإنّ وجوب الغسل بمسّ الميّت إنّما هو بمسّه بعد البرودة، وقبل غسله، وبدون حائل.

٥ - إذا لم يمكن تعلّم الطبّ إلاّ بالنظر واللّمس المحرّمين فما هو الحكم ؟

( ج ) : يقول بعض الفقهاء المعاصرين: إنّه إذا توقف بقاء حياة

___________________

(١) وهو السيّد السيستاني ( طال عمره ) وهو من المراجع المشهورين اليوم.

(٢) لاحظ كتاب الطهارة من جواهر الكلام.

١٨٩

المسلمين - ولو في الزمان المستقبل على تعلّم الطبّ المتوقّف على النظر والمسّ المحرّمين، جازا مع الاقتصار على مقدار الضرورة، بشرط عدم التلذّذ والريبة.

٦ - هل يجوز للذكور تعلّم الأمراض النسائيّة، بحيث يصبحوا أخصّائيّين ( اختصاصيّين ) فيبتلون بالمسّ والنظر في أيّام التعلّم ؟

( ج ) : أمّا نفس التعلّم، فلا شكّ في جوازه، لجواز النظر والمسّ حين المعالجة والعمليّة بشرطٍ سبق، وأمّا النظر والمسّ في أيّام التعلّم ففي جوازهما نظر، إلاّ إذا توقّفت حياة المسلمين في المستقبل على تعلّمه الطبّ، فيجوزان.

وإذا علم أو أحتمل قيام إناث بمقدار الحاجة لتعلّم الطبّ ( قسم الأمراض النسائيّة ) فيشكل أو يحرم عليهم المسّ والنظر.

٧ - هل يجوز إجبار المتعلّمات على تعلّم الأمراض النسائيّة بمقدار حاجة النساء في هذا العصر، حتّى لا يفتقرن إلى الرجال ولا إلى إرائة أبدانهنّ لهم ؟

( ج ) : والأظهر عندي جوازه بل لزومه على الحكومة الإسلاميّة، ويمكن أنْ نسنده إلى الفهم من مذاق الشرع.

هذا إذا لم يكتف بمَن اشتغلن برضاهنّ بتعلّم الطبّ لمقدار الحاجة، وإلاّ فلا معنى للإجبار.

وعلى كلٍّ، لا يدفع وجوب الإجبار المذكور بقيام السيرة من صدر الإسلام إلى اليوم على عدمه، فإنّ الشرائط الحاضرة لم تكن متوفّرة في السابق، ومع هذا التفاوت الوسيع بين الحال والماضي لا مجال للتمسك بالسيرة، فلاحظ.

٨ - المعتدّة التي يحرم خروجها من بيتها، هل يجوز خروجها للعلاج ؟

( ج ) : المعتدّة المريضة يجوز خروجها للتداوي والعلاج ؛ لنفي الحرج

١٩٠

والضرر، وأمّا الطبيبة المعتدّة، فلا يجوز خروجها لعلاج المرضى إذا وجد غيرها لعلاجهم، ومع عدمه إنّما يجوز الخروج إذا لم يمكن العلاج في بيتها، واستلزم عدم خروجها تلف النفس، أو كان مرض المريض حرجيّاً لها لمكان قرابته منها مثلاً، وأمّا إذا كان المرض حرجيّاً للمريض فقط، ولم يوجد غيرها للتداوي ففي جواز خروجها من بيتها وجهان.

نعم، إذا أوجب عدم خروجها من بيتها فقدان مؤنتها المحتاج إليها بالفعل، أو عزلها من قبل إدارة المستشفى، وكان حرجيّاً لها لضيق معيشتها ؛ جاز لها الخروج بقدر الضرورة. وهذا لا يخصّ الطبيبة بل هو - كنظائره - عام.

٩ - ما معنى الضرورة المجوّزة للنظر والمسّ المحرّمين، حتّى مسّ العورة للمريض والطبيب ؟

( ج ) : للضرورة هنا معنيان: حفظ النفس من التلف، وكون تحمل المرض حرجياً للمريض، وأمّا إذا لم يبلغ المرض حدّ الحرج والضرر، فلا يبيح ما هو محرّم في نفسه للمريض والطبيب والمضمّد.

١٠ - هل يجوز للمرأة الطبيبة، أو المساعدة للطبيب أنْ تكشف عن ذراعيها في المختبر، أو محلّ العمليّة إذا ألزمها القانون بذلك ؟

( ج ) : لا يجوز لها ذلك، ولا حرمة للقوانين المخالفة لقوانين الإسلام.

١١ - أصبحت المصافحة مع الأجانب والأجنبيّات في بيئة الجامعات والكليّات والمختبرات من الواجبات العرفيّة وتاركها يوهن، فتكون له مشقّة نفسيّة، فهل ترخصونها لهنّ ؟

( ج ) : كلاّ، هي حرام في غير المحارم، إلاّ إذا كانت من وراء ساتر.

١٢ - هل يجوز تقطيع أعضاء الميّت للتشريح والتعلّم، أو للزراعة ؟

١٩١

( ج ) : أمّا حكم النزع للترقيع والزراعة فقد تقدّم، وأمّا التشريح فلا يجوز بميّت مسلم، ويجوز تقطيع أعضاء الميّت غير المسلم أو مَن شكّ في إسلامه.

ويقول السيّد الأُستاذ الخوئيرضي‌الله‌عنه : نعم إذا توقّف حياة مسلمٍ حيٍّ على تشريح بدن مسلم ميّتٍ، جاز ولكن يجب على مَن يقطعه الديّة(١) .

أقول : في كلّ بلد يوجد جثّة غير مسلم فيكتفي بها لقضاء الحاجة، وأمّا إذا فرضنا عدم وجود ذلك، ولم يتيسّر لهم إلاّ الميّت المسلم، وفرضنا توقّف حياة المسلمين - ولو في المستقبل على وجود الأخصائيّين الذين لا يتيسّر لهم العلم إلاّ بالتشريح لا يبعد جواز تقطيع الميت المسلم، وهل يكون ذلك بعد الصلاة عليه أو بعد دفنه؟ فيه وجهان.

١٣ - قد تدّعي المريضة مرضاً في بدنها أو في عورتها، ولا يعلم الطبيب أنّ المرض مهمٌ أو غير مهم، يمكن تحمّله لها بلا مشقّة، أو يعلم أنّه غير حرجي، فهل يجوز له النظر أو المسّ لتشخيص المرض على نحو الدقّة ؟ وكذا الحال في المريض والطبيبة ؟

( ج ) : إذا كان المرض حرجيّاً للمريض والمريضة ؛ جاز النظر واللمس في فرض فقدان المماثل، وإذا لم يكن حرجيّاً لا يجوزان للمخالف والمماثل، وعند شكّ الطبيب في بلوغ المرض درجة الحرج، لا يبعد الاعتماد على قول المريض والمريضة في فرض عدم اتّهامهما.

١٤ - قد يشكّ الطبيب في تحقّق الضرورة المجوِّزة لمس المرأة والنظر إليها ؛ لأنّه يحتمل وجود المماثلة لها، أو يعلم بوجودها، ولكن المريضة

___________________

(١) توضيح المسائل، وغيره من كتبهقدس‌سره .

١٩٢

تدّعي أنّها راجعتها ولم تنتفع بعلاجها، فهل يكفي هذا الادّعاء للطبيب لجواز علاجها حتّى يمسّ عورتها، وكذا الكلام في حقّ الطبيبة والمريض ؟

( ج ) : أفتى بعض الفقهاء بجواز الاعتماد على قول المريض بامتناع المراجعة إلى المحرم والمماثل، والظاهر عدم الفرق بينه وبين قوله بعدم انتفاعه من المحرم أو المماثل.

وعلى كلٍّ، إذا علم بوجود المماثل ؛ لا يجوز للطبيب النظر والمس في فرض سكوت المريض.

١٩٣

المسألة الثالثة والعشرون

حول إفشاء الأسرار

( البحث الأوّل ) في نقل بعض الأحاديث:

١ - في الحديث الصحيح عن الباقرعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( المجالس بالأمانة )(١) .

أقول : قضيّة الإطلاق عدم جواز إفشاء ما لا يرضى به أهل المجلس ؛ بل الأصل عدم الجواز إلاّ إذا أُحرز رضاهم بالإفشاء، ومع ذكر عدم الإفشاء يصير عدم الجواز آكد، وأخذ الميثاق يصير أشدّ تأكيداً.

والظاهر عدم خصوصيّة للمجلس، فيشمل الحكم المكالمات الهاتفيّة والمكاتبة وأمثالها.

نعم في شمول الحديث لغير المسلمين نظر، لاحتمال الانصراف، أو لما يُفهم من مذاق الشرع في غير أهل الذمّة.

٢ - وفي صحيح ابن سنان قال: قلت له: ( أي الإمام الصادق -عليه‌السلام - ) عورة المؤمن على المؤمن حرام ؟ قال: ( نعم. قلت: يعني سفلتيه ؟ قال: ليس حيث تذهب إنّما هو إذاعة سرّه)(٢) .

أقول : فمَن لا يرضى بإذاعة صلاة ليله مثلاً، يشكل أو يحرم إذاعته ،

___________________

(١) ص٤٧١ ج٨ الوسائل، وفي الباب روايات، لكن ليس فيها ما يُعتبر سنداً، إلاّ ما ذكرناه هنا.

(٢) ص٢٩٤ ج١٢ الوسائل نسخة الكومبيوتر.

١٩٤

فضلاً عن حرمة إذاعة ما يضرّ بماله وعرضه ونفسه(١) .

٣ - وفي معتبرة معلّى بن خنيس.. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( قال الله عزّ وجلّ: قد نابذني من أذّل عبدي المؤمن )(٢) .

٤ - وفي صحيح ابن سنان عن الصادقعليه‌السلام قال:

( قال رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله -: ألا أُنبئكم بشراركم، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء المعائب )(٣) .

والمستفاد من هذه الأحاديث الأربعة حرمة إفشاء ما في المجالس، وحرمة إذاعة أسرار المؤمن، وحرمة إذلال المؤمن، والنميمة، والتّفريق بين الأحبّة، وطلب العيب للبراء.

وأمّا حرمة الغيبة، وحرمة سوء الظن، وحرمة التجسّس، فيدلّ عليها قوله تبارك وتعالى:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا ) ( الحجرات ٢ ).

وقد استُثني من حرمة الغيبة ما إذا كانت مصلحة الغيبة أقوى من تركها، وما إذا كان المغتاب ( بالفتح ) متجاهراً بالفسق، وفرض تظلّم المظلوم بإظهار ما فعل به الظالم ؛ لقوله تعالى:( لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ) (٤) ، وفي جرح الرواة، وجرح الشهود، وغير ذلك كما فُصِّل في الكتب الفقهيّة(٥) .

___________________

(١) لاحظ ص٢٢٦ ج١ من كتابنا حدود الشريعة في محرّماتها.

(٢) لاحظ بقيّة الأحاديث في ذلك في ص٢٢٩ ج١ حدود الشريعة.

(٣) ص٦١٦ ج٨ الوسائل.

(٤) النساء آية ١٤٨.

(٥) لاحظ ص٧٥ إلى ص٨٣ ج٢ حدود الشريعة.

١٩٥

والجدير بالذكر هنا الإشارة إلى أمرين:

١ - من جملة ما استثناه شيخنا الأنصاريقدس‌سره في مكاسبه المحرّمة من حرمة الغيبة قصد ردع المغتاب من المنكَر(١) ولكنّ سيّدنا الأُستاذ الخوئيقدس‌سره ناقشه نقاشاً متيناً(٢) .

٢ - ومن جملة ما استثناه الشيخ المذكور نصح المستشير(٣) ، فإنّ النصيحة واجبةٌ للمستشير.

أقول : أمّا وجوب النصح فيدلّ عليه صحيح معاوية بن وهب، عن الصادقعليه‌السلام :

( يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب ). ومثله صحيح الحذّاء(٤) .

لكنّ النسبة بينه وبين حرمة الغيبة هي العموم من وجه، ففي مورد الاجتماع تقع المزاحمة فلابُدّ من الأخذ بالأهمّ، وهو يختلف باختلاف الموارد والحالات.

واعلم أنّه يجب حفظ الأيمان، ويحرم الحنث كتاباً وسنةً وهذا ممّا لا إشكال فيه ؛ لكن قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما رواه الشيعة(٥) وأهل السنّة: ( إذا رأيت خيراً من يمينك فدعها ) وهذا استثناء من وجوب حفظ الأيمان وحرمة الحنث، وهو أصلٌ مهمٌ.

___________________

(١) لاحظ المكاسب المحرَّمة.

(٢) مصباح الفقاهة بحث الغيبة.

(٣) المكاسب المحرَّمة.

(٤) ص٥٩٤ ج١١ الوسائل.

(٥) ص١٧٥ ج١٦ وسائل الشيعة.

١٩٦

أصلٌ مفيدٌ

لا يجب إعلام مَن أخطأ في الموضوعات، كمَن صلّى إلى غير جهة القبلة وهو يزعم أنّها القبلة، أو يفطر يوماً من رمضان وهو يزعم أنّه يوم عيد، وهكذا. نعم، إذا علم الحكم والموضوع ثمّ خالف ؛ يجب على الإنسان أمر المتخلِّف بالمعروف أو نهيه عن المنكر، وإذا جهل الحكم فيجب على الإنسان إرشاد الجاهل، وأمّا إذا علم الحكم وجهل الموضوع فلا يجب على المكلَّفين تنبيهه.

نعم، استثنوا منه النفوس والأعراض، بل بعضهم الأموال الخطيرة، فمَن زعم أنّ زيداً كافرٌ مهدور الدم، وقصد بالفعل قتله يجب على الغير بيان الواقع وأنّه غير مهدور الدم، بل وردْعه ودفْعه عنه أيضاً، أو اعتقد امرأةً أجنبيّةً زوجته فأراد مباشرتها، يجب على الغير إعلامه وردْعه، يُفهم ذلك من مذاق الشرع.

إذا تقرّرت هذه الأحكام الفقهيّة العامّة لجميع المسلمين، بل المكلّفين من غير اختصاص الأطبّاء، وإن كان الأطبّاء وموظفو الأمن العام أكثر الناس ابتلاء ببعض هذه المسائل، نذكر في كتابنا هذا عدّةً من الموارد، التي هي محلّ ابتلاء الأطبّاء المتديّنين المقيّدين بأحكام دينهم - وقليلاً ما هم - والله الموفق -.

١ - إذا علم الطبيب بعد الفحوصات الطبّيّة أنّ الرجل لن يستطيع الإنجاب، وذلك لعدم وجود حيوانات منويّة في منيّه، ثمّ يأتي بعد ذلك ويخبر الطبيب أنّه بعد العلاج استطاع أن ينجب طفلاً، فهل يجوز أو يجب

١٩٧

على الطبيب أن يخبره عن استحالة الإنجاب في حقّه أم لا يجوز ؟

يحتمل جواز أخبار الطبيب للزوج بأنّه لم يكن قابلاً للإنجاب، فانّ مجرّد هذا لا يدلّ على اتّهام الزوجة بالزنا المحرّم، لاحتمال انتقال النطفة إلى رحمها من الأرض ونحوها كما قد يتّفق، أو بطريقٍ طبّيٍّ على غفلةٍ منها مثلا، أو أنّها أُكرهت على الزنا، فإخبار الطبيب لا يستلزم سوء ظنٍّ بها، لكن إذا علم أو احتمل الطبيب إقدام الزوج على قتلها وإفضاحها وهتك شرفها، لا يجوز الإخبار ظاهرا ؛ لما عرفت من حرمة إذلال المؤمن مؤكّدة، بناءً على عدم الفرق بين المباشرة والتسبّب، وهذه الحرمة ثابتة في حقّه، حتّى وإن فرضنا حلفه في أوّل شغله على عدم إخفاء الحال على المريض، فإنّ الحرمة المذكورة تمنع عن العمل بالحلف ؛ كما عرفت من قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وأمّا إذا علم أنّه لا يترتّب على إخباره إلا طلاقها فيحتمل الجواز ؛ لأنّ الطلاق غير محرم.

ثمّ إنّه إذا علم الطبيب بإقرارها، أو غيره أنّها زنت ؛ يجب عليه أن ينهاها عن نسبة الولد إلى زوجها، من باب النهي عن المنكر.

وعلى كلٍّ، إذا جاز الإخبار للطبيب فإنّما هو جائزٌ غير واجب، وله أن لا يخبر الزوج أصلا ولكن لا يدلّسه إذا سأله.

٢ - لا يجوز إخبار الطبيب السلطة أو الزوج بزنى الزوجة ؛ لحرمة الغيبة، وحرمة الإذلال، وحرمة إذاعة السرّ، كما أنّه لا يجوز للطبيب وغيره عند سؤال الزوج عن فجور زوجته أن يكذب، بل إمّا يسكت أو يتورّى.

٣ - إذا تبيّن بالفحوص الطبيّة أنّ أحد الشخصين المقبلَين على الزواج اللذين طلبا فحص ما قبل الزواج، لا ينجب أو ينجب طفلا مشوّهاً إذا ما تمّ ذلك الزواج، فهل يقوم الطبيب بإخطار الفرد الآخر منهما، أم أن النقص

١٩٨

المذكور يعتبر سرّاً من الأسرار التي لا يجوز إفشاءها، أو يعلّق الجواز والمنع على طلب الآخر معرفة النتيجة وعدم طلبه.

أقول : للمورد صور، فإن أقبلا على الطبيب بشرط أن يبيّن حقيقة حال كلٍّ منهما للآخر، كما لعلّه الغالب، فالظاهر وجوب إخبارهما بالحقيقة ؛ لانعقاد الإجارة مشروطة بذلك، ويقول الله تعالى:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ، ولو لم يبيّن لا يستحقّ الأُجرة، وقَسَمُ الطبيب على عدم إفشاء السرّ لا يشمل المورد جزماً.

وإن أراد منه الفحص وإعلان النتيجة لكلٍّ منهما منفردا، فلا يجوز له إخبار الغير لحرمة إذاعة السرّ وللقسم - إن حلف أوّلاً على عدم إفشاء حال المرضى -.

وأمّا إذا أطلقا الطلب ولم يبيّنا أحد القسمين السابقين، فالمتبادَر من الإطلاق هو القسم الأوّل، لاسيّما مع السؤال عن النتيجة.

٤ - إذا علم الطبيب أنّ مريضه مدمن خمرٍ، وهو سائق أو طيّار، فهل يجب عليه الإبلاغ أو يحرم ؟

أقول : يجب على الطبيب، من باب النهي عن المنكر، أن ينهى المريض عن شرب الخمر أوّلاً، وعن السياقة في حال السكر ثانياً، فان لم يرتدع، أو علم الطبيب من أوّل أنّه لا يرتدع ؛ وجب عليه إبلاغ الجهات المسؤولة الحكوميّة لما مرّ ذيل عنوان ( أصل مفيد ) عن قريب، ويجوز إعلام مَن يريد السفر مع المدمن المذكور بالحال.

وبالجملة : حفظ النفوس أهمّ من حفظ عرض واحد مقصر.

٥ - إذا علم الطبيب باجتهاده، أو بإقرار المريض أنّه مبتلى بالزنا، أو

___________________

(١) المائدة آية ١.

١٩٩

باللّواط، أو بالمساحقة، أو بالسرقة، أو بقتل شخص أو أشخاص، مثلاً، فما هو وظيفته في الإبلاغ والسكوت ؟

وكذا غير الطبيب - إلاّ مَن كان وليّ القتيل، أو مالك المال المسروق ونحو ذلك، فيجوز له الرجوع إلى الجهات المسؤولة للقصاص وتحصيل حقّه، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

أقول : لا يجوز له الإبلاغ لما مرّ، وإنّما يجب عليه نهي المتخلّف عن المعاصي، نعم إذا علم أنّه يريد قتل شخص آخر، أو أنّه مفسد يريد إدامة فساده ؛ يجب عليه إبلاغ الحكومة لما مرّ في الأصل المفيد.

٦ - إذا علم الطبيب عن مريضته: أنّها قامت بترك وليدها غير الشرعيّ في الطريق العام تفاديا للفضيحة، فهل يسكت أو يبلّغ السلطات ؟

( ج ) : لا يجوز له ولغيره افضاح المرأة لما مرّ، وإنّما يجب عليه وعلى جميع المسلمين كفاية حفظ اللقيطة من التلف، ولو بردّها إلى أُمّها، وإذا فُرض عدم حفظه إلا بأُمّه، جاز بل وجب إبلاغ السلطات والتعريف بأُمّه.

٧ - إذا علم الطبيب أنّ المرأة المزوّجة تخون زوجها، لا يجوز له إبلاغ الزوج أو الحكومة، ولو قذفها ولم يقدر على إثبات الزنا يُجْلَد ثمانين جلدةً وهو حدّ القذف.وإذا سأله زوجها عن سبب مرضها النفسي، فهل له أن يخبره بأنّه خوف خيانتها بك ؟

لا يجوز له الكذب ولا الصدق !

٨ - إذا علم الطبيب أنّ السائق يضعف نور عينه، والسياقة خطر له وللناس، فقد مرّ حكم الطبيب المذكور، في جواب السؤال الرابع.

٩ - شخص أحد عينيه لا يبصر، وهو يطلب من الطبيب كتمانه، لئلاّ تفارقه زوجته أو خطيبته، وتطلب هي منه حال عينه، فما هو حكمه ؟ وكذا في عكس المفروض.

( ج ) : لايجوز إفشاء عيبه حتّى لزوجته بوجهٍ، بل الأظهر عدم جوازه

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425