الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128760 / تحميل: 6815
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة ـ ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر(٣) ، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦١ ـ ٦٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٣.

(٣) كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

٨١

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟!(١) .

__________________

(١) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

٨٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(٢) .

وتقرير الدليل ـ كما ذكر في « المواقف » وشرحه ـ : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١٨ ـ ١٢٢.

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٦ الدليل ٨١ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٧ ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : ٣٠١ ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ والمسائل الخمسون : ٥٦ الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : ١٢٦.

٨٣

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

٨٤

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات(١) .

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل هي حالة أخرى يخلقها الله تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة )(٢) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٤ ملخّصا.

(٢) في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.

٨٥

وأقول :

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر »(١) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد »(٢) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ »(٣) .

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٢٩.

(٢) كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦.

و« مطالع الأنوار » في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ـ المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍ ـ ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمّد ابن محمّد الرازي ـ المتوفّى سنة ٧٦٦ ه‍ ـ أحد تلامذة العلّامة الحلّي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفّى سنة ٨٤٢ ه‍ ـ ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ!

انظر : كشف الظنون ٢ / ١٧١٥ ـ ١٧١٧ ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم ٩٠٨ ، رياض العلماء ٥ / ١٧٠ ، لؤلؤة البحرين : ١٩٤ ـ ١٩٨ رقم ٧٤.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ١٩١.

٨٦

لا يمكن دفعها(١) .

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد ;(٢) .

فحينئذ يكون ذكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه

أو ببعضه

أو لا يلاقي شيئا منها

أو يلاقي بعضا دون بعض.

__________________

(١) انظر : شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) كتاب الأربعين ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٧ ، وانظر : إحقاق الحقّ ١ / ١٢٢.

٨٧

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين ١ وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع(١) .

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

__________________

(١) انظر : تجريد الاعتقاد : ١٤٥ ، أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ رقم ٨٧ ، النكت الاعتقادية : ٢٨ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٤٦ وما بعدها ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٤ و ٤٣ ـ ٤٨ ، كشف المراد : ١٤٥ ـ ١٤٦ المسألة ٦.

٨٨

إرادة الله تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن ـ أيضا ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

٨٩

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

٩٠

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا ـ في خصوص المقام ـ إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر ـ في الصدر الأوّل ـ ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

٩١
٩٢

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

قال المصنّف ـ طيّب الله مثواه ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّ الإدراك ليس لمعنى

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط!(٢) .

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٣) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧.

(٣) في المصدر : بالمرئي.

٩٣

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى(١) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

__________________

(١) في المصدر : الشيء.

٩٤

وقال الفضل(١) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٢) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » استدلال باطل على معنى(٣) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) في المصدر : بالمرئي.

(٣) في المصدر : مدّعى.

٩٥

فقد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(١) :

وذي سفه يواجهني بجهل

وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

__________________

(١) ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ٧ ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ ٧ : ٢٨ ، ديوان الشافعي : ١٤٤.

٩٦

وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف ; هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

٩٧

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ » إلى آخره

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقلية ، فممنوع » إلى آخره لا ربط له بكلامه ، اللهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

٩٨

ـ كما سبق ـ وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل ـ بناء على هذا ـ هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية ـ كما هو واضح من كلامه ـ.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

٩٩
١٠٠

( بيان)

يلوح من سياق آيات السورة و خاصّة ما في صدرها من الآيات أنّ بعضاً ممّن آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة قبل الهجرة رجع عنه خوفاً من فتنة كانت تهدّده من قبل المشركين فإنّ المشركين كانوا يدعونهم إلى العود إلى ملّتهم و يضمنون لهم أن يحملوا خطاياهم إن اتّبعوا سبيلهم فإن أبوا فتنوهم و عذّبوهم ليعيدوهم إلى ملّتهم.

يشير إلى ذلك قوله تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) الآية، و قوله:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ) الآية.

و كأنّ في هؤلاء الراجعين عن إيمانهم من كان رجوعه بمجاهدة من والديه على أن يرجع و إلحاح منهما عليه في الارتداد كبعض أبناء المشركين على ما يستشمّ من قوله تعالى:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) الآية، و قد نزلت السورة في شأن هؤلاء.

فغرض السورة على ما يستفاد من بدئها و ختامها و السياق الجاري فيها أنّ الّذي يريده الله سبحانه من الإيمان ليس هو مجرّد قولهم:( آمَنَّا بِاللهِ ) بل هو حقيقة الإيمان الّتي لا تحرّكها عواصف الفتن و لا تغيّرها غير الزمن و هي إنّما تتثبّت و تستقرّ بتوارد الفتن و تراكم المحن، فالناس غير متروكين بمجرّد أن يقولوا:( آمَنَّا بِاللهِ ) دون أن يفتنوا و يمتحنوا فيظهر ما في نفوسهم من حقيقة الإيمان أو وصمة الكفر فليعلمنّ الله الّذين صدقوا و يعلم الكاذبين.

فالفتنة و المحنة سنّة إلهيّة لا معدل عنها تجري في الناس الحاضرين كما جرت في الاُمم الماضين كقوم نوح و عاد ثمود و قوم إبراهيم و لوط و شعيب و موسى فاستقام منهم من استقام و هلك منهم من هلك و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون.

١٠١

فعلى من يقول: آمنت بالله أن يصبر على إيمانه و يعبد الله وحده فإن تعذّر عليه القيام بوظائف الدين فليهاجر إلى أرض يستطيع فيها ذلك فأرض الله واسعة و لا يخف عسر المعاش فإنّ الرزق على الله و كأيّن من دابّة لا تحمل رزقها الله يرزقها و إيّاه.

و أمّا المشركون الّذين يفتنون المؤمنين من غير جرم أجرموه إلّا أن يقولوا ربّنا الله فلا يحسبوا أنّهم يعجزون الله و يسبقونه فأمّا فتنتهم للمؤمنين و إيذاؤهم و تعذيبهم فإنّما هي فتنة لهم و للمؤمنين غير خارجة عن علم الله و تقديره، فهي فتنة و هي محفوظة عليهم إن شاء أخذهم بوبالها في الدنيا و إن شاء أخّرهم إلى يوم يرجعون فيه إليه و ما لهم من محيص.

و أمّا ما لفّقوه من الحجّة و ركنوا إليه من باطل القول فهو داحض مردود إليهم و الحجّة قائمة تامّة عليهم.

فهذا محصّل غرض السورة و مقتضى ذلك كون السورة كلّها مكّيّة، و قول القائل: إنّها مدنيّة كلّها أو معظمها أو بعضها - و سيجي‏ء في البحث الروائيّ التالي - غير سديد، فمضامين آيات السورة لا تلائم إلّا زمن العسرة و الشدّة قبل الهجرة.

قوله تعالى: ( الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ ) الحسبان هو الظنّ، و جملة( أَنْ يُتْرَكُوا ) قائمة مقام مفعوليه، و قوله:( أَنْ يَقُولُوا ) بتقدير باء السببيّة، و الفتنة الامتحان و ربّما تطلق على المصيبة و العذاب، و الأوفق للسياق هو المعنى الأوّل، و الاستفهام للإنكار.

و المعنى: أ ظنّ الناس أن يتركوا فلا يتعرّض لحالهم و لا يمتحنوا بما يظهر به صدقهم أو كذبهم في دعوى الإيمان بمجرّد قولهم: آمنّا؟

و قيل: المعنى: أ ظنّ الناس أن يتركوا فلا يبتلوا ببليّة و لا تصيبهم مصيبة لقولهم: آمنّا بأن تكون لهم على الله كرامة بسبب الإيمان يسلموا بها من كلّ مكروه يصيب الإنسان مدى حياته؟ و لا يخلو من بعد بالنظر إلى سياق الآيات.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ

١٠٢

الْكاذِبِينَ ) اللّامان للقسم، و قوله:( وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) حال من الناس في قوله:( أَ حَسِبَ النَّاسُ ) أو من ضمير الجمع في قوله:( لا يُفْتَنُونَ ) و على الأوّل فالإنكار و التوبيخ متوجّه إلى ظنّهم أنّهم لا يفتنون مع جريان السنّة الإلهيّة على الفتنة و الامتحان و على الثاني إلى ظنّهم الاختلاف في فعله تعالى حيث يفتن قوماً و لا يفتن آخرين، و لعلّ الوجه الأوّل أوفق للسياق.

فالظاهر أنّ المراد بقوله:( وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أنّ الفتنة و الامتحان سنّة جارية لنا و قد جرت في الّذين من قبلهم و هي جارية فيهم و لن تجد لسنّة الله تبديلاً.

و قوله:( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ) إلخ تعليل لما قبله، و المراد بعلمه تعالى بالّذين صدقوا بالكاذبين ظهور آثار صدقهم و كذبهم في مقام العمل بسبب الفتنة و الامتحان الملازم لثبوت الإيمان في قلوبهم حقيقة و عدم ثبوته فيها حقيقة فإنّ السعادة الّتي تترتّب على الإيمان المدعوّ إليه و كذا الثواب إنّما تترتّب على حقيقة الإيمان الّذي له آثار ظاهرة من الصبر عند المكاره و الصبر على طاعة الله و الصبر عن معصية الله لا على دعوى الإيمان المجرّدة.

و يمكن أن يكون المراد بالعلم علمه تعالى الفعليّ الّذي هو نفس الأمر الخارجي فإنّ الاُمور الخارجيّة بنفسها من مراتب علمه تعالى، و أمّا علمه تعالى الذاتيّ فلا يتوقّف على الامتحان البتّة.

و المعنى: أ حسبوا أن يتركوا و لا يفتنوا بمجرّد دعوى الإيمان و إظهاره و الحال أنّ الفتنة سنّتنا و قد جرت في الّذين من قبلهم فمن الواجب أن يتميّز الصادقون من الكاذبين بظهور آثار صدق هؤلاء و آثار كذب اُولئك الملازم لاستقرار الإيمان في قلوب هؤلاء و زوال صورته الكاذبة عن قلوب اُولئك.

و الالتفات في قوله:( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ ) إلى اسم الجلالة قيل: للتهويل و تربية المهابة و الظاهر أنّه في أمثال المقام لإفادة نوع من التعليل و ذلك أنّ الدعوة إلى الإيمان و الهداية إليه و الثواب عليه لمّا كانت راجعة إلى المسمّى بالله الّذي منه يبدأ كلّ شي‏ء و به يقوم كلّ شي‏ء و إليه ينتهي كلّ شي‏ء بحقيقته فمن الواجب أن يتميّز

١٠٣

عنده حقيقة الإيمان من دعواه الخالية و يخرج عن حال الإبهام إلى حال الصراحة و لذلك عدل عن مثل قولنا: فلنعلمنّ إلى قوله:( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ ) .

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) أم منقطعة، و المراد بقوله:( الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) المشركون الّذين كانوا يفتنون المؤمنين و يصدّونهم عن سبيل الله كما أنّ المراد بالناس في قوله:( أَ حَسِبَ النَّاسُ ) هم الّذين قالوا: آمنّا و هم في معرض الرجوع عن الإيمان خوفاً من الفتنة و التعذيب.

و المراد بقوله:( أَنْ يَسْبِقُونا ) الغلبة و التعجيز بسبب فتنة المؤمنين و صدّهم عن سبيل الله على ما يعطيه السياق.

و قوله:( ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) تخطئة لظنّهم أنّهم يسبقون الله بما يمكرون من فتنة و صدّ فإنّ ذلك بعينه فتنة من الله لهم أنفسهم و صدّ لهم عن سبيل السعادة و لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله.

و قيل: مفاد الآية توبيخ العصاة من المؤمنين و هم المراد بقوله:( الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) و المراد بالسيّئات المعاصي الّتي يقترفونها غير الشرك، و أنت خبير بأنّ السياق لا يساعد عليه.

و قيل: المراد بعمل السيّئات أعمّ من الشرك و اقتراف سائر المعاصي فالآية عامّة لا موجب لتخصيصها بخصوص الشرك أو بخصوص سائر المعاصي دون الشرك.

و فيه أنّ اعتبار الآية من حيث وقوعها في سياق خاصّ من السياقات أمر و اعتبارها مستقلّة في نفسها أمر آخر و الّذي يقتضيه الاعتبار الأوّل و هو العمدة بالنظر إلى غرض السورة هو ما قدّمناه من المعنى، و أمّا الاعتبار الثاني: فمقتضاه العموم و لا ضير فيه على ذلك التقدير.

قوله تعالى: ( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) إلى تمام ثلاث آيات. لمّا وبّخ سبحانه الناس على استهانتهم بأمر الإيمان و رجوعهم عنه بأيّ فتنة و إيذاء من المشركين و وبّخ المشركين على فتنتهم و إيذائهم المؤمنين و

١٠٤

صدّهم عن سبيل الله إرادة لإطفاء نور الله و تعجيزاً له فيما شاء و خطّأ الفريقين فيما ظنّوا.

رجع إلى بيان الحقّ الّذي لا معدل عنه و الواجب الّذي لا مخلص منه، فبيّن في هذه الآيات الثلاث أنّ من يؤمن بالله لتوقّع الرجوع إليه و لقائه فليعلم أنّه آت لا محالة و أنّ الله سميع لأقواله عليم بأحواله و أعماله فليأخذ حذره و ليؤمن حقّ الإيمان الّذي لا يصرفه عنه فتنة و لا إيذاء و ليجاهد في الله حقّ جهاده، و ليعلم أنّ الّذي ينتفع بجهاده هو نفسه و لا حاجة لله سبحانه إلى إيمانه و لا إلى غيره من العالمين و ليعلم أنّه إن آمن و عمل صالحاً فإنّ الله سيكفّر عنه سيّئاته و يجزيه بأحسن أعماله، و العلمان الأخيران يؤكّدان العلم الأوّل و يستوجبان لزومه الإيمان و صبره على الفتن و المحن في جنب الله.

فقوله:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ) رجوع إلى بيان حال من يقول: آمنت فإنّه إنّما يؤمن لو صدق بعض الصدق لتوقّعه الرجوع إلى الله سبحانه يوم القيامة إذ لو لا المعاد لغي الدين من أصله، فالمراد بقوله:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ) من كان يؤمن بالله أو من كان يقول: آمنت بالله، فالجملة من قبيل وضع السبب موضع المسبّب.

و المراد بلقاء الله وقوف العبد موقفاً لا حجاب بينه و بين ربّه كما هو الشأن يوم القيامة الّذي هو ظرف ظهور الحقائق، قال تعالى:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) .

و قيل: المراد بلقاء الله هو البعث، و قيل: الوصول إلى العاقبة من لقاء ملك الموت و الحساب و الجزاء، و قيل: المراد ملاقاة جزاء الله من ثواب أو عقاب و قيل: ملاقاة حكمه يوم القيامة، و الرجاء على بعض هذه الوجوه بمعنى الخوف.

و هذه وجوه مجازيّة بعيدة لا موجب لها إلّا أن يكون من التفسير بلازم المعنى.

و قوله:( فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ) الأجل هو الغاية الّتي ينتهي إليها زمان الدين و نحوه و قد يطلق على مجموع ذلك الزمان و الغالب في استعماله هو المعنى الأوّل.

و( أَجَلَ اللهِ ) هو الغاية الّتي عيّنها الله تعالى للقائه، و هو آت لا ريب فيه و قد أكّد القول تأكيداً بالغاً، و لازم تحتّم إتيان هذا الأجل و هو يوم القيامة أن لا

١٠٥

يسامح في أمره و لا يستهان بأمر الإيمان بالله حقّ الإيمان و الصبر عليه عند الفتن و المحن من غير رجوع و ارتداد، و قد زاد في تأكيد القول بتذييله بقوله:( وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) إذ هو تعالى لمّا كان سميعاً لأقوالهم عليماً بأحوالهم فلا ينبغي أن يقول القائل: آمنت بالله إلّا عن ظهر القلب و مع الصبر على كلّ فتنة و محنة.

و من هنا يظهر أنّ ذيل الآية:( فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ) إلخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب كما كان صدرها:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ) أيضاً كذلك، و الأصل من قال: آمنت بالله. فليقله مستقيماً صابراً عليه مجاهداً في ربّه.

و قوله:( وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) المجاهدة و الجهاد مبالغة من الجهد بمعنى بذل الطاقة، و فيه تنبيه لهم أنّ مجاهدتهم في الله بلزوم الإيمان و الصبر على المكاره دونه ليست ممّا يعود نفعه إلى الله سبحانه حتّى لا يهمّهم و يلغو بالنسبة إليهم أنفسهم بل إنّما يعود نفعه إليهم أنفسهم لغناه تعالى عن العالمين فعليهم أن يلزموا الإيمان و يصبروا على المكاره دونه.

فقوله:( وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ) تأكيد لحجّة الآية السابقة، و قوله:( إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) تعليل لما قبله.

و الالتفات من سياق التكلم بالغير إلى اسم الجلالة في الآيتين نظير ما مرّ من الالتفات في قوله:( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ) الآية.

و قوله:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) بيان لعاقبة إيمانهم حقّ الإيمان المقارن للجهاد و يتبيّن به أنّ نفع إيمانهم يعود إليهم لا إلى الله سبحانه و أنّه عطيّة من الله و فضل.

و على هذا فالآية لا تخلو من دلالة ما على أنّ الجهاد في الله هو الإيمان و العمل الصالح فإنّها في معنى تبديل قوله في الآية السابقة:( وَ مَنْ جاهَدَ ) من قوله في هذه الآية:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) .

و تكفير السيّئات هو العفو عنها و الأصل في معنى الكفر هو الستر، و قيل: تكفير السيّئات هو تبديل كفرهم السابق إيماناً و معاصيهم السابقة طاعات، و ليس بذاك.

١٠٦

و جزاؤهم بأحسن الّذي كانوا يعملون هو رفع درجتهم إلى ما يناسب أحسن أعمالهم أو عدم المناقشة في أعمالهم عند الحساب إذا كانت فيها جهات رداءة و خسّة فيعاملون في كلّ واحد من أعمالهم معاملة من أتى بأحسن عمل من نوعه فتحتسب صلاتهم أحسن الصلاة و إن اشتملت على بعض جهات الرداءة و هكذا.

قوله تعالى: ( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) إلخ، التوصية العهد و هو ههنا الأمر، و قوله:( حُسْناً ) مصدر في معنى الوصف قائم مقام مفعول مطلق محذوف و التقدير: و وصيّنا الإنسان بوالديه توصية حسنة أو ذات حسن أي أمرناه أن يحسن إليهما و هذا مثل قوله:( وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) أي قولاً حسناً أو ذا حسن، و يمكن أن يكون وضع المصدر موضع الوصف للمبالغة نحو زيد عدل، و ربّما وجّه بتوجيهات اُخر.

و قوله:( وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ) إلخ، تتميم للتوصية بخطاب شفاهيّ للإنسان بنهيه عن إطاعة والديه إن دعواه إلى الشرك و الوجه في ذلك أنّ التوصية في معنى الأمر فكأنّه قيل: و قلنا للإنسان أحسن إلى والديك و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما.

و لم يقل: و أن لا يطيعهما إن جاهداه على أن يشرك إلخ، لما في الخطاب من الصراحة و ارتفاع الإبهام و لذلك قال أيضاً:( لِتُشْرِكَ بِي ) بضمير المتكلّم وحده فافهمه و يؤل معنى الجملة إلى أنّا نهيناه عن الشرك طاعة لهما و رفعنا عنه كلّ إبهام.

و في قوله:( ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) إشارة إلى علّة النهي عن الطاعة فإنّ دعوتهما إلى الشرك بعبادة إله من دون الله دعوة إلى الجهل و عبادة ما ليس له به علم افتراءً على الله و قد نهى الله عن اتّباع غير العلم قال:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) إسراء: ٣٨ و بهذه المناسبة ذيلها بقوله:( إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي ساُعلمكم ما معنى أعمالكم و منها عبادتكم الأصنام و شرككم بالله سبحانه.

و معنى الآية: و عهدنا إلى الإنسان في والديه عهداً حسناً - و أمرناه أن أحسن إلى والديك - و إن بذلاً جهدهما أن تشرك بي فلا تطعهما لأنّه اتّباع ما ليس لك به علم.

١٠٧

و في الآية - كما تقدّمت الإشارة إليه - توبيخ تعريضيّ لبعض من كان قد آمن ثمّ رجع عن إيمانه بمجاهدة من والديه.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) معنى الآية ظاهر، و في وقوعها بعد الآية السابقة و في سياقها، دلالة على وعد جميل منه تعالى و تطييب نفس لمن ابتلي من المؤمنين بوالدين مشركين يجاهدانه على الشرك فعصاهما و فارقهما، يقول سبحانه: إن جاهداه على الشرك فعصاهما و هجرهما ففاتاه لم يكن بذلك بأس فإنّا سنرزقه خيراً منهما و ندخله بإيمانه و عمله الصالح في الصالحين و هم العباد المنعّمون في الجنّة، قال تعالى:( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) الفجر: ٣٠.

و أمّا إرادة المجتمع الصالح في الدنيا فبعيد من السياق.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ) إلى آخر الآية، لمّا كان إيمان هؤلاء مقيّداً بالعافية و السلامة مغيّى بالإيذاء و الابتلاء لم يعدّه إيماناً بقول مطلق و لم يقل: و من الناس من يؤمن بالله بل قال:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ ) فالآية بوجه نظيرة قوله:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى‏ حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى‏ وَجْهِهِ ) الحجّ: ١١.

و قوله:( فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ ) أي اُوذي لأجل الإيمان بالله بناء على أنّ في للسببيّة كما قيل و فيه عناية كلاميّة لطيفة بجعله تعالى - أي جعل الإيمان بالله - ظرفاً للإيذاء و لمن يقع عليه الإيذاء ليفيد أنّ الإيذاء منتسب إليه تعالى انتساب المظروف إلى ظرفه و ينطبق على معنى السببيّة و الغرضيّة و نظيره قوله:( يا حَسْرَتى‏ عَلى‏ ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ) الزمر: ٥٦ و قوله:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ) العنكبوت: ٦٩.

و قيل: معنى الإيذاء في الله هو الإيذاء في سبيل الله و كأنّه مبنيّ على تقدير مضاف محذوف.

و فيه أنّ العناية الكلاميّة مختلفة فالإيذاء في الله ما كان السبب فيه محض الإيمان

١٠٨

بالله و هو قولهم: ربّنا الله، و الإيذاء في سبيل الله ما كان سببه سلوك السبيل الّتي هي الدين قال تعالى:( فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي ) آل عمران: ١٩٥ و من الشاهد على تغاير الاعتبارين قوله في آخر السورة:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) حيث جعل الجهاد في الله طريقاً إلى الاهتداء إلى سبله و لو كانا بمعنى واحد لم يصحّ ذلك.

و قوله:( جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ) أي نزّل العذاب و الإيذاء الّذي يصيبه من الناس في وجوب التحرّز منه منزلة عذاب الله الّذي يجب أن يتحرّز منه فرجع عن الإيمان إلى الشرك خوفاً و جزعاً من فتنتهم مع أنّ عذابهم يسير منقطع الآخر بنجاة أو موت و لا يقاس ذلك بعذاب الله العظيم المؤبّد الّذي يستتبع الهلاك الدائم.

و قوله:( وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) أي لئن أتاكم من قبله تعالى ما فيه فرج و يسر لكم من بعد ما أنتم فيه من الشدّة و العسرة من قبل أعداء الله ليقولنّ هؤلاء إنّا كنّا معكم فلنا منه نصيب.

و( لَيَقُولُنَّ ) بضمّ اللّام صيغة جمع، و الضمير راجع إلى( مِنَ ) باعتبار المعنى كما أنّ ضمائر الإفراد الاُخر راجعة إليها باعتبار اللفظ.

و قوله:( أَ وَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ ) استفهام إنكاريّ فيه ردّ دعواهم أنّهم مؤمنون بأنّ الله أعلم بما في الصدور و لا تنطوي قلوب هؤلاء على إيمان.

و المراد بالعالمين الجماعات من الإنسان أو الجماعات المختلفة من اُولي العقل إنساناً كان أو غيره كالجنّ و الملك، و لو كان المراد به جميع المخلوقات من ذوي الشعور و غيرهم كان المراد بالصدور البواطن و هو بعيد.

قوله تعالى: ( وَ لَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) من تتمّة الكلام في الآية السابقة و المحصّل أنّ الله مع ذلك يميّز بين المؤمنين و المنافقين بالفتنة و الامتحان.

و في الآية إشارة إلى كون هؤلاء منافقين و ذلك لكون إيمانهم مقيّداً بعدم الفتنة و هم يظهرونه مطلقاً غير مقيّد و الفتنة سنّة إلهيّة جارية لا معدل عنها.

١٠٩

و قد استدلّ بالآيتين على أنّ السورة أو خصوص هذه الآيات مدنيّة و ذلك أنّ الآية تحدّث عن النفاق و النفاق إنّما ظهر بالمدينة بعد الهجرة و أمّا مكّة قبل الهجرة فلم يكن للإسلام فيها شوكة و لا للمسلمين فيها إلّا الذلّة و الإهانة و الشدّة و الفتنة و لا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المجتمع العربيّ يومئذ و خاصّة عند قريش عزّة و لا منزلة فلم يكن لأحد منهم داع يدعوه إلى أن يتظاهر بالإيمان و هو ينوي الكفر.

على أنّ قوله في الآية:( وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) يخبر عن النصر و هو الفتح و الغنيمة و قد كان ذلك بالمدينة دون مكّة.

و نظير الآيتين قوله السابق:( وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ) ضرورة أنّ الجهاد و القتال إنّما كان بالمدينة بعد الهجرة.

و هو سخيف: أمّا حديث النفاق فالّذي جعل في الآية ملاكاً للنفاق و هو قولهم:( آمَنَّا بِاللهِ ) حتّى إذا اُوذوا في الله راجعوا عن قولهم كان جائز التحقّق في مكّة كما في غيرها و هو ظاهر بل الّذي ذكر من الإيذاء و الفتنة إنّما كان بمكّة فلم تكن في المدينة بعد الهجرة فتنة.

و أمّا حديث النصر فالنصر غير منحصر في الفتح و الغنيمة فله مصاديق اُخر يفرّج الله بها عن عباده. على أنّ الآية لا تخبر عنه بما يدلّ على التحقّق فقوله:( فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) يدلّ على تحقّق الإيذاء و الفتنة حيث عبّر بإذا الدالّة على تحقّق الوقوع بخلاف مجي‏ء النصر حيث عبّر عنه بأنّ الشرطيّة الدالّة على إمكان الوقوع دون تحقّقه.

و أمّا قوله تعالى:( وَ مَنْ جاهَدَ ) إلخ فقد اتّضح ممّا تقدّم أنّ المراد به جهاد النفس دون مقاتلة الكفّار فالحقّ أن لا دلالة في شي‏ء من الآيات على كون السورة أو بعضها مدنيّة.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) المراد بالّذين كفروا مشركو مكّة الّذين أبدوا الكفر أوّل مرّة بالدعوة الحقّة، و بالّذين آمنوا المؤمنون بها أوّل مرّة

١١٠

و قولهم لهم:( اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) نوع استمالة لهم و تطييب لنفوسهم أن لو رجعوا إلى الشرك و اتّبعوا سبيلهم لم تكن عليهم تبعة على أيّ حال: إذ لو لم تكن في ذلك خطيئة فهو، و إن كانت فهم حاملون لها عنهم، و لذلك لم يقولوا: و لنحمل خطاياكم لو كانت بل أطلقوا القول من غير تقييد.

فكأنّهم قالوا: لنفرض أنّ اتّباعكم لسبيلنا خطيئة فإنّا نحملها عنكم و نحمل كلّ ما يتفرّع عليه من الخطايا أو إنّا نحمل عنكم خطاياكم عامّة و من جملتها هذه الخطيئة.

و قوله:( وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ردّ لقولهم:( وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) و هو ردّ محفوف بحجّة إذ لو كان اتّباعهم لسبيلهم و رجوعهم عن الإيمان بالله خطيئة كان خطيئة عندالله لاحقة بالراجعين و انتقالها عن عهدتهم إلى غيرهم يحتاج إلى إذن من الله و رضى فهو الّذي يؤاخذهم به و يجازيهم و هو سبحانه يصرّح و يقول:( ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) و قد عمّم النفي لكلّ شي‏ء من خطاياهم.

و قوله:( إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) تكذيب لهم لما أنّ قولهم:( وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) يشتمل على دعوى ضمنيّ أنّ خطاياهم تنتقل إليهم لو احتملوها و أنّ الله يجيز لهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ ) من تمام القول السابق في ردّهم و هو في محلّ الاستدراك أي إنّهم لا يحملون خطاياهم بعينها فهي لازمة لفاعليها لكنّهم حاملون أثقالاً و أحمالاً من الأوزار مثل أوزار فاعليها من غير أن ينقص من فاعليها فيحملونها مضافاً إلى أثقال أنفسهم و أحمالها لما أنّهم ضالّون مضلّون.

فالآية في معنى قوله تعالى:( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) النحل: ٢٥.

و قوله:( وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ ) فشركهم افتراء على الله سبحانه و كذا دعواهم القدرة على إنجاز ما وعدوه و أنّ الله يجيز لهم ذلك.

١١١

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن الضريس و النحّاس و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس و أيضاً ابن مردويه عن عبدالله بن الزبير قالا: نزلت سورة العنكبوت بمكّة.

أقول: و قد نقل في روح المعاني، عن البحر عن ابن عبّاس أنّ السورة مدنيّة.

و في المجمع قيل: نزلت الآية يعني قوله تعالى:( أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ) في عمّار بن ياسر و كان يعذّب في الله. عن ابن جريج.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن الشعبيّ في قوله:( الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ) الآية، قال: اُنزلت في اُناس بمكّة قد أقرّوا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة لمّا نزلت آية الهجرة أنّه لا يقبل منكم إقرار و لا إسلام حتّى تهاجروا. قال: فخرجوا عامدين إلى المدينة فأتبعهم المشركون فردّوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنّه نزل فيكم آية كذا و كذا فقالوا: نخرج فإن اتّبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فأتّبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل و منهم من نجا فأنزل الله فيهم:( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )

و فيه، أخرج ابن جرير عن قتادة( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ - إلى قوله -وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) قال: هذه الآيات نزلت في القوم الّذين ردّهم المشركون إلى مكّة، و هذه الآيات العشر مدنيّة.

و فيه، أخرج ابن جرير عن الضحّاك في قوله:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ ) قال: ناس من المنافقين بمكّة كانوا يؤمنون فإذا اُوذوا و أصابهم بلاء من المشركين رجعوا إلى الكفر و الشرك مخافة من يؤذيهم و جعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله.

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سعد بن أبي وقّاص قال: قالت اُمّي: لا آكل طعاماً و لا أشرب شراباً حتّى تكفر بمحمّد فامتنعت من الطعام

١١٢

و الشراب حتّى جعلوا يسجرون فاها بالعصا فنزلت هذه الآية( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ) الآية.

و في المجمع، قال الكلبيّ نزل قوله:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ) الآية في عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي و ذلك أنّه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحلفت اُمّه أسماء بنت مخرمة بن أبي جندل التميميّ أن لا تأكل و لا تشرب و لا تغسل رأسها و لا تدخل كنّا حتّى يرجع إليها فلمّا رأى ابناها أبوجهل و الحارث ابنا هشام - و هما أخوا عيّاش لاُمّه - جزعها ركباً في طلبه حتّى أتيا المدينة فلقياه و ذكراً له القصّة فلم يزالاً به حتّى أخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه و تبعهما و قد كانت اُمّه صبرت ثلاثة أيّام ثمّ أكلت و شربت.

فلمّا خرجوا من المدينة أخذاه و أوثقاه كتافاً و جلّده كلّ واحد منهما مائة جلدة حتّى برى‏ء من دين محمّد جزعاً من الضرب و قال ما لا ينبغي فنزلت الآية و كان الحارث أشدّهما عليه فحلف عيّاش لئن قدر عليه خارجاً من الحرم ليضربنّ عنقه.

فلمّا رجعوا إلى مكّة مكثوا حيناً ثمّ هاجر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنون إلى المدينة و هاجر عيّاش و حسن إسلامه و أسلم الحارث بن هشام و هاجر إلى المدينة و بايع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإسلام و لم يحضر عيّاش فلقيه عيّاش يوماً بظهر قبا و لم يشعر بإسلامه فضرب عنقه فقيل له: إنّ الرجل قد أسلم فاسترجع عيّاش و بكى ثمّ أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك فنزل:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) الآية.

أقول: و أنت ترى اختلاف الروايات في سبب نزول الآيات و قد تقدّم أنّ الّذي يعطيه سياق آيات السورة أنّها مكّيّة محضة.

و في الكافي، عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد عن معمّر بن خلّاد قال: سمعت أباالحسنعليه‌السلام يقول:( الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ ) . ثمّ قال لي: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداك الفتنة في الدين فقال: يفتنون كما يفتن الذهب. ثمّ قال: يخلصون كما يخلص الذهب.

و في المجمع: قيل: إنّ معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم و أموالهم: و هو المرويّ

١١٣

عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و فيه في قوله تعالى:( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ) و في تفسير الكلبيّ أنّه لمّا نزلت هذه الآية قام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتوضّأ و أسبغ وضوءه ثمّ قام و صلّى فأحسن صلاته ثمّ سأل الله سبحانه أن لا يبعث عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو يلبسهم شيعاً و لا يذيق بعضهم بأس بعض.

فنزل جبرئيل و لم يجرهم من الخصلتين الأخيرتين فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا جبرئيل ما بقاء اُمّتي مع قتل بعضهم بعضاً؟ فقام و عاد إلى الدعاء فنزل:( الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ) الآيتان فقال: لا بدّ من فتنة يبتلى بها الاُمّة بعد نبيّها ليتعيّن الصادق من الكاذب لأنّ الوحي انقطع و بقي السيف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة.

و في نهج البلاغة: و قام إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة و هل سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها؟ فقالعليه‌السلام : لمّا أنزل الله سبحانه قوله:( الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ ) علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا و رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهرنا فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة الّتي أخبرك الله بها؟ فقال: يا عليّ إنّ اُمّتي سيفتنون من بعدي.

و في التوحيد، عن عليّعليه‌السلام - في حديث طويل: و قد سأله رجل عن آيات من القرآن - و قوله:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ) يعني بقوله: من كان يؤمن بأنّه مبعوث فإنّ وعد الله لآت من الثواب و العقاب فاللقاء ههنا ليس بالرؤية و اللقاء هو البعث فافهم جميع ما في كتاب الله من لقائه فإنّه يعني بذلك البعث.

أقول: مرادهعليه‌السلام نفي الرؤية الحسّيّة و التفسير بلازم المعنى.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ) الآية قال: من أحبّ لقاء الله جاءه الأجل( وَ مَنْ جاهَدَ ) نفسه عن اللّذات و الشهوات و المعاصي( فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) .( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ) قال: هما اللّذان ولداه.

و فيه، في قوله تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ

١١٤

خَطاياكُمْ ) قال: كان الكفّار يقولون للمؤمنين: كونوا معنا فإنّ الّذي تخافون أنتم ليس بشي‏ء فإن كان حقّاً نتحمّل عنكم ذنوبكم، فيعذّبهم الله عزّوجلّ مرّتين: مرّة بذنوبهم و مرّة بذنوب غيرهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة في المصنّف و ابن المنذر عن ابن الحنفيّة قال: كان أبوجهل و صناديد قريش يتلقّون الناس إذا جاؤا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسلمون يقولون: إنّه يحرّم الخمر و يحرّم الزنا و يحرّم ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية:( وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ )

و فيه، أخرج أحمد عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمسك القوم ثمّ إنّ رجلاً أعطاه فأعطى القوم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من سنّ خيراً فاستنّ به كان له أجره و من اُجور من تبعه غير منتقص من اُجورهم شيئاً، و من سنّ شرّاً فاستنّ به كان عليه وزره و من أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر و في بعضها تفسير قوله:( وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ ) بذلك.

١١٥

( سورة العنكبوت الآيات ١٤ - ٤٠)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ( ١٤ ) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ( ١٥ ) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ  ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ١٦ ) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا  إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ  إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ١٧ ) وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ  وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( ١٨ ) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ  إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ( ١٩ ) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ  ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ  إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٢٠ ) يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ  وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ( ٢١ ) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ  وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ( ٢٢ ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٢٣ ) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٢٤ ) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي

١١٦

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٢٥ ) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ  وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي  إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٢٦ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا  وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( ٢٧ ) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ( ٢٨ ) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ  فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( ٢٩ ) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ( ٣٠ ) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ  إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ( ٣١ ) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا  قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا  لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( ٣٢ ) وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ  إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( ٣٣ ) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( ٣٤ ) وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( ٣٥ ) وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ

١١٧

وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( ٣٦ ) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( ٣٧ ) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ  وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ( ٣٨ ) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ  وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ( ٣٩ ) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ  فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا  وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( ٤٠ )

( بيان)

لمّا ذكر سبحانه في صدر السورة أنّ الفتنة سنّة إلهيّة لا معدل عنها و قد جرت في الاُمم السابقة عقّب ذلك بالإشارة إلى قصص سبعة من الأنبياء الماضين و اُممهم و هم: نوح و إبراهيم و لوط و شعيب و هود و صالح و موسىعليهم‌السلام فتنهم الله و امتحنهم فنجي منهم من نجي و هلك، منهم من هلك و قد ذكر سبحانه في الثلاثة الاُول النجاة و الهلاك معاً و في الأربعة الأخيرة الهلاك فحسب.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ ) في المجمع: الطوفان الماء الكثير الغامر لأنّه يطوف بكثرته في نواحي الأرض، انتهى. و قيل: هو كلّ ما يطوف بالشي‏ء على كثرة و شدّة من السيل و الريح و الظلام و الغالب استعماله في طوفان الماء.

و التعبير بألف سنة إلّا خمسين عاماً دون أن يقال: تسعمائة و خمسين سنة للتكثير و الآية ظاهرة في أنّ الألف إلّا خمسين مدّة دعوة نوحعليه‌السلام ما بين بعثته إلى أخذ

١١٨

الطوفان فيغاير ما في التوراة الحاضرة أنّها مدّة عمرهعليه‌السلام و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في قصصهعليه‌السلام في تفسير سورة هود، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) أي فأنجينا نوحاً و أصحاب السفينة الراكبين معه فيها و هم أهله و عدّة قليلة من المؤمنين به و لم يكونوا ظالمين.

و قوله:( وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) الظاهر أنّ الضمير للواقعة أو للنجاة و أمّا رجوعه إلى السفينة فلا يخلو من بعد، و العالمين الجماعات الكثيرة المختلفة من الأجيال اللاحقة بهم.

قوله تعالى: ( وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) معطوف على قوله:( نُوحاً ) أي و أرسلنا إبراهيم إلى قومه.

و قوله لقومه:( اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ ) دعوة إلى التوحيد و إنذار بقرينة الآيات التالية فتفيد الجملة فائدة الحصر.

على أنّ الوثنيّة لا يعبدون الله سبحانه و إنّما يعبدون غيره زعما منهم أنّه تعالى لا يمكن أن يعبد إلّا من طريق الأسباب الفعّالة في العالم المقرّبة عنده كالملائكة و الجنّ و لو عبد لكان معبوداً وحده من غير شريك فدعوتهم إلى عبادة الله بقوله:( اعْبُدُوا اللهَ ) تفيد الدعوة إليه وحده و إن لم تقيّد بأداة الحصر.

قوله تعالى: ( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً ) إلى آخر الآية، الأوثان جمع وثن بفتحتين و هو الصنم، و الإفك الأمر المصروف عن وجهه قولاً أو فعلاً.

و قوله:( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً ) بيان لبطلان عبادة الأوثان و يظهر به كون عبادة الله هي العبادة الحقّة و بالجملة انحصار العبادة الحقّة فيه تعالى( أَوْثاناً ) منكّر للدلالة على وهن أمرها و كون اُلوهيّتها دعوى مجرّدة لا حقيقة وراءها، أي لا تعبدون من دون الله إلّا أوثاناً من أمرها كذا و كذا.

و لذا عقّب الجملة بقوله:( وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً ) أي و تفتعلون كذباً بتسميتها آلهة

١١٩

و عبادتها بعد ذلك فهناك إله تجب عبادته لكنّه هو الله الواحد دون الأوثان.

و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) تعليل لما ذكر من افتعالهم الكذب بتسمية الأوثان آلهة و عبادتها و محصّله أنّ هؤلاء الّذين تعبدون من دون الله و هم الأوثان بما هم تماثيل المقرّبين من الملائكة و الجنّ إنّما تعبدونهم لجلب النفع و هو أن يرضوا عنكم فيرزقوكم و يدرّوا عليكم الرزق لكنّهم ليسوا يملكون لكم رزقاً فإنّ الله هو الّذي يملك رزقكم الّذي هو السبب الممدّ لبقائكم لأنّه الّذي خلقكم و خلق رزقكم فجعله ممدّاً لبقائكم و الملك تابع للخلق و الإيجاد.

و لذلك عقّبه بقوله:( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ ) أي فاطلبوا الرزق من عندالله لأنّه هو الّذي يملكه فلا تعبدوهم بل اعبدوا الله و اشكروا له على ما رزقكم و أنعم عليكم بألوان النعم فمن الواجب شكر المنعم على ما أنعم.

و قوله:( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) في مقام التعليل لقوله:( وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ ) و لذا جي‏ء بالفصل من غير عطف، و في هذا التعليل صرفهم عن عبادة الإله ابتغاء للرزق إلى عبادته للرجوع و الحساب إذ لو لا المعاد لم يكن لعبادة الإله سبب محصّل لأنّ الرزق و ما يجري مجراه له أسباب خاصّة كونيّة غير العبادات و القربات و لا يزيد و لا ينقص بإيمان أو كفر لكن سعادة يوم الحساب تختلف بالإيمان و الكفر و العبادة و الشكر و خلافهما فليكن الرجوع إلى الله هو الباعث إلى العبادة و الشكر دون ابتغاء الرزق.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) الظاهر أنّه من تمام كلام إبراهيمعليه‌السلام ، و ذكر بعضهم أنّه خطاب منه تعالى لمشركي قريش و لا يخلو من بعد.

و معنى الشرط و الجزاء في صدر الآية أنّ التكذيب هو المتوقّع منكم لأنّه كالسنّة الجارية في الاُمم المشركة و قد كذّب من قبلكم و أنتم منهم و في آخرهم و ليس عليّ بما أنا رسول إلّا البلاغ المبين.

و يمكن أن يكون المراد أنّ حالكم في تكذيبكم كحال الاُمم من قبلكم لم ينفعهم تكذيبهم شيئاً حلّ بهم عذاب الله و لم يكونوا بمعجزين في الأرض و لا في السماء و لم يكن

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425