الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 425
المشاهدات: 124165
تحميل: 6111


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124165 / تحميل: 6111
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 16

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و قد استشكل قوله:( وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) الدالّ ظاهراً على كون الإعادة أسهل و أهون عليه من البدء و هو ينافي كون قدرته مطلقة غير محدودة فإنّ القدرة اللامتناهية لا تختلف حالها في تعلّقها بشي‏ء دون شي‏ء فتعلّقها بالصعب و السهل على السواء فلا معنى لاسم التفضيل ههنا.

و قد اُجيب عنه بوجوه:

منها: أنّ ضمير( عَلَيْهِ ) راجع إلى الخلق دونه تعالى و الإعادة أهون على الخلق لأنّه مسبوق بالابتداء الّذي يسهّل الفعل على الفاعل بتحقّقه منه مرّة أو أزيد بخلاف الابتداء الّذي لا يسبقه فعل، فالابتداء أصعب بالطبع بالنسبة إلى الإعادة و الإعادة بالعكس، فالمعنى: أنّ الإعادة أهون من البدء بالنسبة إلى الخلق و إذا كان كذلك بالنسبة إلى الخلق فما ظنّك بالخالق.

و فيه أنّ رجوع الضمير إلى الخلق خلاف ظاهر الآية.

و منها: أنّ أفعل ههنا منسلخ عن معنى التفضيل فأهون عليه بمعنى هيّن عليه نظير قوله:( ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ ) .

و فيه أنّه تحكّم ظاهر لا دليل عليه.

و منها: أنّ التفضيل إنّما هو للإعادة في نفسها بالقياس إلى الإنشاء الابتدائي لا بالنسبة إليه تعالى و وقوع التفضيل بين فعل منه و فعل لا بأس به كما في قوله تعالى:( لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ) المؤمن: 57.

و هذا هو الّذي يستفاد من كلام الزمخشريّ إذ يقول: فإن قلت: ما بال الإعادة استعظمت في قوله:( ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ ) حتّى كأنّها فضّلت على قيام السماوات و الأرض بأمره ثمّ هوّنت بعد ذلك؟ قلت: الإعادة في نفسها عظيمة لكنّها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء. انتهى.

و فيه أنّ تقييد الوصف بقوله:( عَلَيْهِ ) أصدق شاهد على أنّ القياس الواقع بين الإعادة و الإنشاء إنّما هو بالنسبة إليه تعالى لا بين نفس الإعادة و الإنشاء فالإشكال على ما كان.

١٨١

و منها: أنّ التفضيل إنّما هو بالنظر إلى الاُصول الدائرة بين الناس و الموازين المتّبعة عندهم لا بالنظر إلى الأمر في نفسه، لما يرون أنّ تكرّر الوقوع حتّى لمرّة واحدة يوجب سهولته على الفاعل بالنسبة إلى الفعل غير المسبوق بمثله فكأنّه قيل: و الإعادة أهون عليه بالنظر إلى اُصولكم العلميّة المتّبعة عندكم و إلّا فالإنشاء و الإعادة بالنسبة إليه تعالى على السواء.

و فيه أنّه معنى صحيح في نفسه لكنّ الشأن في استفادته من اللفظ و لا شاهد عليه من جهة لفظ الآية.

و منها: ما ذكره أيضاً في الكشّاف، قال: و وجه آخر و هو أنّ الإنشاء من قبيل التفضّل الّذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله و أن لا يفعله و الإعادة من قبيل الواجب الّذي لا بدّ له من فعله لأنّها لجزاء الأعمال و جزاؤها واجب و الأفعال إمّا محال و المحال ممتنع أصلاً خارج عن المقدور و إمّا ما يصرف الحكيم عن فعله صارف و هو القبيح و هو رديف المحال لأنّ الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة، و إمّا تفضّل و التفضّل حالة بين بين للفاعل أن يفعله و أن لا يفعله، و إمّا واجب لا بدّ من فعله و لا سبيل إلى الإخلال به.

فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع و أقربها من الحصول فلمّا كانت الإعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع و إذا كانت أبعدها من الامتناع كانت أدخلها في التأتّي و التسهّل فكانت أهون منها و إذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء انتهى.

و فيه أوّلاً: أنّه مبنيّ على تحقّق الأشياء بالأولويّة دون الوجوب و قد تحقّق في محلّه بطلانه.

و ثانياً: أنّ القرب و البعد اللّذين ذكرهما تصوير عقليّ محض و السهولة و الصعوبة وصفان وجوديّان يتّصف بهما وجود الشي‏ء من حيث صدوره عن فاعله الموجد له و لا يبتني الوصف الوجوديّ على الاعتبار العقليّ.

و ثالثاً: أنّ الإنشاء أيضاً كالإعادة في الابتناء على المصلحة و هي الغاية فما لم يكن

١٨٢

الإنشاء ذا مصلحة موجبة لم يتحقّق كما أنّ الإعادة كذلك فهما في القرب و البعد من الامتناع على السواء كما قيل.

و رابعاً: أنّ مقتضى هذا الوجه كون الإعادة أهون من الإنشاء بالنظر إلى أنفسهما فيعود في الحقيقة إلى الوجه الثالث و يتوجّه إليه ما توجّه إليه.

و الّذي ينبغي أن يقال أنّ الجملة أعني قوله:( وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) معلّل بقوله بعده:( وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى‏ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فهو الحجّة المثبتة لقوله:( وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) .

و المستفاد من قوله:( وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) إلخ، أنّ كلّ وصف كماليّ يمثّل به شي‏ء في السماوات و الأرض كالحياة و القدرة و العلم و الملك و الجود و الكرم و العظمة و الكبرياء و غيرها فللّه سبحانه أعلى ذلك الوصف و أرفعها من مرتبة تلك الموجودات المحدودة كما قال:( وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الأعراف: 180.

و ذلك أنّ كلّ وصف من أوصاف الكمال اتّصف به شي‏ء ممّا في السماوات و الأرض فله في حدّ نفسه ما يقابله فإنّه ممّا أفاضه الله عليه و هو في نفسه خال عنه فالحيّ منها ميّت في ذاته و القادر منها عاجز في ذاته و لذلك كان الوصف فيها محدوداً مقيّداً بشي‏ء دون شي‏ء و حال دون حال، و هكذا فالعلم فيها مثلاً ليس مطلقاً غير محدود بل محدود مخلوط بالجهل بما وراءه و كذلك الحياة و القدرة و الملك و العظمة و غيرها.

و الله سبحانه هو المفيض لهذه الصفات من فضله و الّذي له من معنى هذه الصفات مطلق غير محدود و صرف غير مخلوط فلا جهل في مقابل علمه و لا ممات يقابل حياته و هكذا فله سبحانه من كلّ صفة يتّصف به الموجودات السماويّة و الأرضيّة - و هي صفات غير ممحّضة و لا مطلقة - ما هو أعلاها أي مطلقها و محضها.

فكلّ صفة توجد فيه تعالى و في غيره من المخلوقات، فالّذي فيه أعلاها و أفضلها و الّذي في غيره مفضول بالنسبة إلى ما عنده.

و لمّا كانت الإعادة متّصفة بالهون إذا قيس إلى الإنشاء فيما عند الخلق فهو

١٨٣

عنده تعالى أهون أي هون محض غير مخلوط بصعوبة و مشقّة بخلاف ما عندنا معاشر الخلق و لا يلزم منه أن يكون في الإنشاء صعوبة و مشقّة عليه تعالى لأنّ المشقّة و الصعوبة في الفعل تتبع قدرة الفاعل بالتعاكس فكلّما قلّت القدرة كثرت المشقّة و كلّما كثرت قلّت حتّى إذا كانت القدرة غير متناهية انعدمت المشقّة من رأس، و قدرته تعالى غير متناهية فلا يشقّ عليه فعل أصلاً و هو المستفاد من قوله:( إِنَّ اللهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) فإنّ القدرة إذا جاز تعلّقها بكلّ شي‏ء لم تكن إلّا غير متناهية فافهم ذلك.

و قوله:( وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى‏ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) تقدّم أنّه في مقام الحجّة بالنسبة إلى قوله:( وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) و محصّله أنّ كلّ صفة كماليّة يتّصف به شي‏ء ممّا في السماوات و الأرض من جمال أو جلال فإنّ لله سبحانه أعلاها أي مطلقها من غير تقييد و محضها من غير شوب و صرفها من غير خلط.

و قوله:( وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله:( وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) إلخ، أي إنّه تعالى عزيز واجد لكلّ ما يفقده غيره ممتنع من أن يمتنع عليه شي‏ء حكيم لا يعرض فعله فتور، و لو لم تكن صفة من صفاته مثلاً أعلى ممّا عند غيره من الممكنات كانت محدودة غير مطلقة و مخلوطة غير صرفة غير خالية من النقص و القصور فاستذلّه ذاك القصور فلم يكن عزيزاً على الإطلاق و أحدث ذاك النقص في فعله ثلمة و فتوراً فلم يكن حكيماً على الإطلاق.

قوله تعالى: ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) إلخ،( مِنْ ) في قوله:( مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) لابتداء الغاية أي ضرب لكم مثلاً متّخذاً من أنفسكم منتزعاً من الحالات الّتي لديكم، و قوله:( هَلْ لَكُمْ ) شروع في المثل المضروب و الاستفهام للإنكار، و( ما ) في( مِنْ ما مَلَكَتْ ) للنوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد و الإماء، و( مِنْ ) في( مِنْ شُرَكاءَ ) زائدة و هو مبتدأ، و قوله:( فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ) تفريع على الشركة، و( فَأَنْتُمْ ) خطاب شامل للمالكين و المملوكين على طريق التغليب، و قوله:( تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) أي تخافون المماليك الشركاء أن تستبدّوا في تصرّف المال المشترك

١٨٤

من غير إذن منهم و رضى كما تخافون أنفسكم من الشركاء الأحرار.

و هذا مثل ضربه الله لبيان بطلان ما يزعمون أنّ الله سبحانه ممّا خلق شركاء في الاُلوهيّة و الربوبيّة و قد اُلقى المثل في صورة الاستفهام الإنكاريّ: هل يوجد بين مماليككم من العبيد و الإماء من يكونون شركاء لكم في الأموال الّتي رزقناكم - و الحال أنّهم مماليك لكم تملكونهم و ما في أيديهم - بحيث تخافونهم من التصرّف في أموالكم بغير إذن منهم و رضى كما تخافون الشركاء الأحرار من نوع أنفسكم؟!

لا يكون ذلك أبداً و لا يجوز أن يكون المملوك شريكاً لمولاه في ماله و إذا لم يجز فكيف يجوز أن يكون بعض من خلقه الله كالملائكة و الجنّ و هم عبيده المملوكون شركاء له فيما يملك من مخلوقيه و آلهة و أرباباً من دونه؟.

ثمّ تمّم الكلام بقوله:( كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) و فيه تمهيد لما يتلوه من الكلام.

قوله تعالى: ( بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) إضراب عمّا يستفاد من ذيل الآية السابقة و التقدير و هؤلاء المشركون لم يبنوا شركهم على التعقّل بل اتّبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم.

و كان مقتضى الظاهر أن يقال: بل اتّبع الّذين أشركوا و إنّما بدّله من قوله:( بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ) فوصفهم بالظلم ليتعلّل به ما سيصفهم بالضلال في قوله:( فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ ) فالظلم يستتبع الإضلال الإلهيّ، قال تعالى:( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ) إبراهيم: 27.

فقوله:( فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ ) استفهام إنكاريّ مدلوله الإيئاس من نعمة الهداية للمشركين المتّبعين لأهوائهم مع ظهور الحقّ لهم لمكان ظلمهم الموجب لإضلالهم و قد تكرّر في كلامه تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

و قوله:( وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) نفي لنجاتهم بنصرة الناصرين لهم من غيرهم بعد ما لم ينالوا النجاة من الضلال و تبعاته من عند أنفسهم لإضلال الله لهم و نفي الجمع

١٨٥

دليل على أنّ لغيرهم ناصرين كالشفعاء.

و قول القائل إنّ معنى نفي الناصرين لهم أنّه ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور من مقابلة الجمع بالجمع غير مطّرد.

و معنى الآية: بل اتّبع الّذين ظلموا بشركهم أهواءهم بغير علم و تعقّل فأضلّهم الله بظلمهم و لا هادي يهديهم و ليس لهم ناصرون ينصرونهم.

قوله تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) الكلام متفرّع على ما تحصّل من الآيات السابقة المثبتة للمبدإ و المعاد أي إذا ثبت أنّ الخلق و التدبير لله وحده لا شريك له و هو سيبعث و يحاسب و لا نجاة لمن أعرض عنه و أقبل على غيره فأقم وجهك للدين و الزمه فإنّه الدين الّذي تدعو إليه الخلقة الإلهيّة.

و قيل: الكلام متفرّع على معنى التسلية المفهوم من سياق البيان السابق الدالّ على ما هو الحقّ و أنّ المشركين لظلمهم اتّبعوا الأهواء و أعرضوا عن التعقّل الصحيح فأضلّهم الله و لم يأذن لناصر ينصرهم بالهداية و لا لمنقذ ينقذهم من الضلال لا أنت و لا غيرك فاستيئس منهم و اهتمّ بخاصّة نفسك و من تبعك من المؤمنين و أقم وجهك و من تبعك للدين.

فقوله:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ ) المراد بإقامة الوجه للدين الإقبال عليه بالتوجّه من غير غفلة منه كالمقبل على الشي‏ء بقصر النظر فيه بحيث لا يلتفت عنه يميناً و شمالاً و الظاهر أنّ اللّام في الدين للعهد و المراد به الإسلام.

و قوله:( حَنِيفاً ) حال من فاعل أقم و جوّز أن يكون حالاً من الدين أو حالاً من الوجه و الأوّل أظهر و أنسب للسياق، و الحنف ميل القدمين إلى الوسط و المراد به الاعتدال.

و قوله:( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) الفطرة بناء نوع من الفطر بمعنى الإيجاد و الإبداع و( فِطْرَتَ اللهِ ) منصوب على الإغراء أي الزم الفطرة ففيه إشارة إلى أنّ هذا الدين الّذي يجب إقامة الوجه له هو الّذي يهتف به الخلقة و يهدي إليه

١٨٦

الفطرة الإلهيّة الّتي لا تبديل لها.

و ذلك أنّه ليس الدين إلّا سنّة الحياة و السبيل الّتي يجب على الإنسان أن يسلكها حتّى يسعد في حياته فلا غاية للإنسان يتبعها إلّا السعادة و قد هدي كلّ نوع من أنواع الخليقة إلى سعادته الّتي هي بغية حياته بفطرته و نوع خلقته و جهّز في وجوده بما يناسب غايته من التجهيز، قال تعالى:( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه: 50 و قال:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) الأعلى: 3.

فالإنسان كسائر الأنواع المخلوقة مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه و رفع حوائجه و تهتف له بما ينفعه و ما يضرّه في حياته، قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: 8 و هو مع ذلك مجهّز بما يتمّ له به ما يجب له أن يقصده من العمل، قال تعالى:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: 20.

فللإنسان فطرة خاصّة تهديه إلى سنّة خاصّة في الحياة و سبيل معيّنة ذات غاية مشخّصة ليس له إلّا أن يسلكها خاصّة و هو قوله:( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) و ليس الإنسان العائش في هذه النشأة إلّا نوعاً واحداً لا يختلف ما ينفعه و ما يضرّه بالنظر إلى هذه البنية المؤلّفة من روح و بدن فما للإنسان من جهة أنّه إنسان إلّا سعادة واحدة و شقاء واحد فمن الضروريّ حينئذ أن يكون تجاه عمله سنّة واحدة ثابتة يهديه إليها هاد واحد ثابت.

و ليكن ذاك الهادي هو الفطرة و نوع الخلقة و لذلك عقّب قوله( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) بقوله:( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) .

فلو اختلفت سعادة الإنسان باختلاف أفراده لم ينعقد مجتمع واحد صالح يضمن سعادة الأفراد المجتمعين، و لو اختلفت السعادة باختلاف الأقطار الّتي تعيش فيها الاُمم المختلفة بمعنى أن يكون الأساس الوحيد للسنّة الاجتماعيّة أعني الدين هو ما يقتضيه حكم المنطقة كان الإنسان أنواعاً مختلفة باختلاف الأقطار، و لو اختلفت السعادة باختلاف الأزمنة بمعنى أن تكون الأعصار و القرون هي الأساس الوحيد للسنّة الدينيّة اختلفت نوعيّة كلّ قرن و جيل مع من ورثوا من آبائهم أو أخلفوا من أبنائهم و لم يسر

١٨٧

الاجتماع الإنسانيّ سير التكامل و لم تكن الإنسانيّة متوجّهة من النقص إلى الكمال إذ لا يتحقّق النقص و الكمال إلّا مع أمر مشترك ثابت محفوظ بينهما.

و ليس المراد بهذا إنكار أن يكون لاختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة بعض التأثير في انتظام السنّة الدينيّة في الجملة بل إثبات أنّ الأساس للسنة الدينيّة هو البنية الإنسانيّة الّتي هي حقيقة واحدة ثابتة مشتركة بين الأفراد، فللإنسانيّة سنّة واحدة ثابتة بثبات أساسها الّذي هو الإنسان و هي الّتي تدير رحى الإنسانيّة مع ما يلحق بها من السنن الجزئيّة المختلفة باختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة.

و هذا هو الّذي يشير إلى قوله بعد:( ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) و سنزيد المقام إيضاحاً في بحث مستقلّ إن شاء الله تعالى.

و للقوم في مفردات الآية و معناها أقوال اُخر متفرّقة:

منها: أنّ المراد بإقامة الوجه تسديد العمل فإنّ الوجه هو ما يتوجّه إليه و هو العمل و إقامته تسديده.

و فيه: أنّ وجه العمل هو غايته المقصودة منه و هي غير العمل و الّذي في الآية هو( فَأَقِمْ وَجْهَكَ ) و لم يقل فأقم وجه عملك.

و منها: أنّ( فِطْرَتَ اللهِ ) منصوب بتقدير أعني و الفطرة هي الملّة، و المعنى: اثبت و أدم الاستقامة للدين أعني الملّة الّتي خلق الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله.

و فيه: أنّه مبنيّ على اختلاف المراد بالفطرة و هي الملّة و( فَطَرَ النَّاسَ ) و هو الخلقة و التفكيك خلاف ظاهر الآية و لو اُخذ( فَطَرَ النَّاسَ ) بمعنى الإدانة أي الحمل على الدين و هو التوحيد بقي قوله:( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) لا يلائم ما قبله.

على أنّ فيه خلاف ظاهر آخر و هو حمل الدين على التوحيد، و لو اُخذ الدين بمعنى الإسلام أو مجموع الدين كلّه و اُبقيت الفطرة على معناه المتبادر منها و هو الخلقة لم يستقم تقدير( أعني ) فإنّ الدين بهذا المعنى غير الفطرة بمعنى الخلقة.

و منها: أنّ( فِطْرَتَ ) بدل من( حَنِيفاً ) و الفطرة بمعنى الملّة و يرد عليه ما يرد على سابقه.

١٨٨

و منها: أنّ( فِطْرَتَ ) مفعول مطلق لفعل محذوف مقدّر، و التقدير: فطر الله فطرة فطر الناس عليها و فساده غنيّ عن البيان.

و منها: أنّ معناه اتّبع من الدين ما دلّك عليه فطرة الله و هو ما دلّك عليه ابتداء خلقه للأشياء لأنّه خلقهم و ركّبهم و صوّرهم على وجه يدلّ على أنّ لهم صانعاً قادراً عالماً حيّاً قديماً واحداً لا يشبه شيئاً و لا يشبهه شي‏ء.

و فيه أنّه مبنيّ على كون( فِطْرَتَ ) منصوباً بتقدير اتّبع و قد ذكره أبو السعود و قبله أبو مسلم المفسّر فيكون المراد من اتّباع الفطرة اتّباع دلالة الفطرة بمعنى الخلقة و المراد بعدم تبديل الخلق عدم تغيّره في الدلالة على الصانع بما له من الصفات الكريمة، و هذا قريب من المعنى الّذي قدّمناه للآية بحمل( فِطْرَتَ ) على الإغراء لكن يبقى عليه أنّ الآية عامّة لا دليل على تخصيصها بالتوحيد.

و منها: أنّ لا في قوله:( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) تفيد النهي أي لا تبدّلوا خلق الله أي دينه الّذي اُمرتم بالتمسّك به، أو لا تبدّلوا خلق الله بإنكار دلالته على التوحيد و منه ما نسب إلى ابن عبّاس أنّ المراد به النهي عن الخصاء.

و فيه أن لا دليل على أخذ الخلق بمعنى الدين و لا موجب لتسمية الإعراض عن دلالة الخلقة أو إنكارها تبديلاً لخلق الله. و أمّا ما نسب إلى ابن عبّاس ففساده ظاهر.

و منها: ما ذكره الرازي في التفسير الكبير، قال: و يحتمل أن يقال: خلق الله الخلق لعبادته و هم كلّهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيداً مثل كون المملوك عبداً للإنسان فإنّه ينتقل عنه إلى غيره و يخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة و العبوديّة. و هذا لبيان فساد قول من يقول: العبادة لتحصيل الكمال و العبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف، و قول المشركين: إنّ الناقص لا يصلح لعبادة الله و إنّما الإنسان عبد الكواكب و الكواكب عبيد الله، و قول النصارى إنّ عيسى كان يحلّ الله فيه و صار إلهاً فقال:( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك. انتهى.

١٨٩

و فيه أنّه مغالطة بين الملك و العبادة التكوينيّين و الملك و العبادة التشريعيّين فإنّ ملكه تعالى الّذي لا يقبل الانتقال و البطلان ملك تكوينيّ بمعنى قيام وجود الأشياء به تعالى و العبادة الّتي بإزائه عبادة تكوينيّة و هو خضوع ذوات الأشياء له تعالى و لا تقبل التبديل و الترك كما في قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) إسراء: 44 و أمّا العبادة الدينيّة الّتي تقبل التبديل و الترك فهي عبادة تشريعيّة بإزاء الملك التشريعيّ المعتبر له تعالى فافهمه.

و لو دلّ قوله:( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) على عدم تبديل الملك و العبادة و العبوديّة لدلّ على التكوينيّ منهما و الّذي يبدّله القائلون بارتفاع التكليف عن الإنسان الكامل أو بعبادة الكواكب أو المسيح فإنّما يعني به التشريعيّ منهما.

قوله تعالى: ( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) تعميم للخطاب بعد تخصيصه بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظير قوله:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) الطلاق: 1 و قوله:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا ) هود: 112 فيؤل المعنى إلى نحو من قولنا: فأقم وجهك للدين حنيفاً أنت و من معك منيبين إلى الله، و الإنابة الرجوع بالتوبة.

و قوله:( وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) التقوى بحسب دلالة المقام يشمل امتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه تعالى فاختصاص إقامة الصلاة من بين سائر العبادات بالذكر للاعتناء بشأنها فهي عمود الدين.

و قوله:( وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) القول في اختصاصه من بين المحرّمات بالذكر نظير القول في الصلاة فالشرك بالله أكبر الكبائر الموبقة، و قد قال تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) النساء: 48 إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ( مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) ( من ) للتبيين و( مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ) إلخ، بيان للمشركين و فيه تعريفهم بأخصّ صفاتهم في دينهم و هو تفرّقهم في دينهم و عودهم شيعة شيعة و حزباً حزباً يفرح و يسرّ

١٩٠

كلّ شيعة و حزب بما عندهم من الدين و السبب في ذلك ما ذكره قبيل هذا بقوله:( بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) فبيّن أنّهم بنوا دينهم على أساس الأهواء و أنّه لا يهديهم و لا هادي غيره.

و من المعلوم أنّ هوى النفس لا يتّفق في النفوس بل و لا يثبت على حال واحدة دون أن يختلف باختلاف الأحوال و إذا كان هو الأساس للدين لم يلبث دون أن يسير بسير الأهواء و ينزل بنزولها، و لا فرق في ذلك بين الدين الباطل و الدين الحقّ المبنيّ على أساس الهوى.

و من هنا يظهر أنّ النهي عن تفرّق الكلمة في الدين نهي في الحقيقة عن بناء الدين على أساس الهوى دون العقل، و ربّما احتمل كون الآية استئنافاً من الكلام و هو لا يلائم السياق.

و في الآية ذمّ للمشركين بما عندهم من صفة التفرّق في الكلمة و التحزّب في الدين.

قوله تعالى: ( وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) التعبير بالمسّ للدلالة على القلّة و الخفّة و تنكير ضرّ و رحمة أيضاً لذلك و المعنى: إذا أصاب الناس شي‏ء من الضرّ و لو قليلاً كمرض ما و فقر ما و شدّة مّا دعوا ربّهم و هو الله سبحانه حال كونهم راجعين من غيره ثمّ إذا أذاقهم الله من عنده رحمة إذا فريق من هؤلاء الناس بربّهم الّذي كانوا يدعونه و يعترفون بربوبيّته يشركون باتّخاذ الأنداد و الشركاء.

أي إنّهم كافرون للنعمة طبعاً و إن اعترفوا بها عند الضرّ و قد أخذ لذلك فريقاً منهم لأنّ منهم من ليس كذلك.

قوله تعالى: ( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) تهديد لاُولئك المشركين عند إذاقة الرحمة و اللّام في( لِيَكْفُرُوا ) للأمر الغائب و قوله:( فَتَمَتَّعُوا ) متفرّع على سابقه و هو أمر آخر و الأمران جميعاً للتهديد، و الالتفات من الأمر الغائب إلى الأمر الحاضر لثوران الوجد و السخط من تفريطهم في جنب الله و استهانتهم بأمره

١٩١

فقد بلغ منهم ذلك أن يتضرّعوا عند الضرّ و يكفروا إذا كشف.

قوله تعالى: ( أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ) ( أَمْ ) منقطعة و المراد بالإنزال الاعلام أو التعليم مجازاً، و السلطان البرهان، و المراد بالتكلّم الدلالة مجازاً فالمعنى بل أعلّمناهم برهاناً فهو يدلّ على ما كانوا به يشركون أو بشركهم.

و يمكن أن يراد بالسلطان ذو السلطان و هو الملك فلا مجاز في الإنزال و التكلّم و المعنى: بل أ أنزلنا عليهم ملكا فهو يتكلّم بما كانوا به يشركون أو بشركهم.

قوله تعالى: ( وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ ) الإذاقة كالمسّ تدلّ على قليل النيل و يسيره، و القنوط اليأس.

و إذا الاُولى شرطيّة و الثانية فجائيّة و المقابلة بين( إِذا ) في إذاقة الرحمة و( إِنْ ) في إصابة السيّئة لأنّ الرحمة كثيرة قطعيّة و السيّئة قليلة احتماليّة، و نسبة الرحمة إليه تعالى دون السيّئة لأنّ الرحمة وجوديّة مفاضة منه تعالى و السيّئة عدميّة هي عدم الإفاضة و لذا علّلها بقوله:( بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) ، و في تعليل السيّئة بذلك و عدم التعليل في جانب الرحمة بشي‏ء إشارة إلى أنّ الرحمة تفضّل.

و التعبير في الرحمة بقوله:( فَرِحُوا ) و في السيّئة بقوله:( إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ ) للدلالة على حدوث القنوط و لم يكن بمترقّب فإنّ الرحمة و السيّئة بيد الله و الرحمة واسعة و لهذا عبّر بالمضارع الدالّ على الحال لتمثيل حالهم.

و المراد بالآية بيان أنّ الناس لا يعدو نظرهم ظاهر ما يشاهدونه من النعمة و النقمة إذا وجدوا فرحوا بها من غير أن يتبصّروا و يعقلوا أنّ الأمر بيد غيرهم و بمشيّة من ربّهم إذا لم يشأ لم يكن، و إذا فقدوا قنطوا كان ليس ذلك بإذن من ربّهم و إذا لم يشأ لم يأذن و فتح باب النعمة فهم ظاهريّون سطحيّون.

و بهذا يتّضح أن لا تدافع بين هذه الآية و بين قوله السابق:( وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ) الآية و ذلك أنّ مدلول هذه الآية أنّ أفهامهم سطحيّة إذا وجدوا فرحوا و إذا فقدوا قنطوا و مدلول تلك أنّهم إذا وجدوا فرحوا و إذا فقدوا

١٩٢

دعوا الله و هم قانطون من الشي‏ء و أسبابه منيبين راجعين إلى الله سبحانه فلا تدافع.

و ربّما اُجيب بأنّ المراد بالناس في هذه الآية فريق آخر غير الفريق المراد بالناس في الآية السابقة و لو فرض اتّحادهما كان ما ذكر من دعائهم في حال و قنوطهم في حال اُخرى.

و اُجيب عنه أيضاً بأنّ الدعاء لسانيّ جار على العادة و لا ينافي القنوط الّذي هو أمر قلبيّ و أنت خبير بما في كلّ من الجوابين من الفتور.

و اُجيب أيضاً أنّ المراد بقنوطهم فعلهم فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيّام الغلاء. و فيه مضافاً إلى عدم الدليل على ذلك أنّه لا يلائم معنى المفاجأة في القنوط.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) بيان لخطإهم في المبادرة إلى الفرح و القنوط عند إذاقة الرحمة و إصابة السيّئة فإنّ الرزق في سعته و ضيقه تابع لمشيّة الله فعلى الإنسان أن يعلم أنّ الرحمة الّتي ذاقها و السيّئة الّتي أصابته ممكنة الزوال بمشيّة الله سبحانه و لا موجب للفرح بما لا يؤمن فقده و لا للقنوط ممّا يرجى زواله.

و أمّا أنّه أمر ظاهر للإنسان مقطوع به كأنّه يراه فلأنّ الرزق الّذي يناله الإنسان أو يكتسبه متوقّف الوجود على اُلوف و اُلوف من الأسباب و الشرائط ليس الإنسان الّذي يراه لنفسه إلّا أحد تلك الأسباب و لا السبب الّذي يركن إليه و يطيب به نفساً إلّا بعض تلك الأسباب و عامّة الأسباب منتهية إليه سبحانه فهو الّذي يعطي و يمنع و هو الّذي يبسط و يقدر أي يوسّع و يضيّق، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَآتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ) إلخ، ذو القربى صاحب القرابة من الأرحام و المسكين أسوء حالاً من الفقير و ابن السبيل المسافر ذو الحاجة، و إضافة الحقّ إلى الضمير تدلّ على أنّ لذي القربى حقّاً ثابتاً، و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فظاهر الآية بما تحتفّ به من القرائن أنّ المراد بها الخمس و التكليف للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يتبعه غيره ممّن كلّف بالخمس، و القرابة على أيّ حال قرابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في آية الخمس، هذا كلّه على تقدير كون الآية مدنيّة و أمّا على تقدير كونها مكّيّة

١٩٣

كسائر آيات السورة فالمراد مطلق الإحسان للقرابة و المسكين و ابن السبيل.

و لعموم الآية معنى عمّم ذكره أثره الجميل فقال:( ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) الربا نماء المال، و قوله:( لِيَرْبُوَا ) إلخ، يشير إلى وجه التسمية، فالمراد أنّ المال الّذي تؤتونه الناس ليزيد في أموالهم لا إرادة لوجه الله - بقرينة ذكر إرادة الوجه في مقابله - فليس يزيد و ينمو عندالله أي لا تثابون عليه لعدم قصد الوجه.

و قوله:( وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) المراد بالزكاة مطلق الصدقة أي إعطاء المال لوجه الله من غير تبذير، و المضعف ذو الضعف، و المعنى: و ما أعطيتم من المال صدقة تريدون وجه الله فاُولئك هم الّذين يضاعف لهم مالهم أو ثوابهم.

فالمراد بالربا و الزكاة بقرينة المقابلة و ما احتفّ بهما من الشواهد، الربا الحلال و هو العطيّة من غير قربة، و الصدقة و هي إعطاء المال مع قصد القربة. هذا كلّه على تقدير كون الآية مكّيّة و أمّا على تقدير كونها مدنيّة فالمراد بالربا الربا المحرّم و بالزكاة هي الزكاة المفروضة.

و هذه الآية و الّتي قبلها أشبه بالمدنيّات منهما بالمكّيّات و لا اعتبار بما يدّعى من الرواية أو الإجماع المنقول.

( بحث روائي)

في العيون، عن عبيد الله بن عبّاس قال: قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فينا خطيباً فقال في آخر خطبته: نحن كلمة التقوى و سبيل الهدى و المثل الأعلى و الحجّة العظمى و العروة الوثقى. الحديث.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) الآية أنّ سبب نزولها أنّ قريشاً كانوا يحجّون البيت بحجّ إبراهيمعليه‌السلام و يلبّون تلبيته: لبّيك اللّهمّ

١٩٤

لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك إنّ الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك.

فجاءهم إبليس في صورة شيخ فغيّر تلبيتهم إلى قول: لبّيك اللّهمّ لا شريك لك إلّا شريكاً هو لك تملكه و ما ملك. فكانت قريش تلبّي هذه التلبية حتّى بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنكر عليهم ذلك و قال: إنّه شرك.

فأنزل الله عزّوجلّ:( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ ) أي أ ترضون أنتم فيما تملكون أن يكون لكم فيه شريك؟ فكيف ترضون أن تجعلوا لي شريكاً فيما أملك؟.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ) قال: هي الولاية.

و فيه، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت:( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) قال: التوحيد.

أقول: و رواه أيضاً عن الحلبيّ و زرارة عنهعليه‌السلام و رواه الصدوق في التوحيد، عن العلاء بن فضيل و زرارة و بكير عنهعليه‌السلام .

و في روضة الكافي، بإسناده عن إسماعيل الجعفيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: كانت شريعة نوحعليه‌السلام أن يعبد الله بالتوحيد و الإخلاص و خلع الأنداد، و هو الفطرة الّتي فطر الناس عليها.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن الهيثم الرّمانيّ عن الرضا عن أبيه عن جدّه عن أبيه محمّد بن عليّعليهم‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) قال: هو لا إله إلّا الله محمّد رسول الله عليّ أميرالمؤمنين وليّ الله إلى ههنا التوحيد.

أقول: و روى هذا المعنى في بصائر الدرجات، عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، و رواه في التوحيد، عن عبدالرحمن مولى أبي جعفر عنهعليه‌السلام .

و معنى كون الفطرة هي الشهادات الثلاث أنّ الإنسان مفطور على الاعتراف بالله لا شريك له بما يجد من الحاجة إلى الأسباب المحتاجة إلى ما وراءها و هو التوحيد و بما يجد من النقص المحوج إلى دين يدين به ليكمّله و هو النبوّة، و بما يجد من الحاجة

١٩٥

إلى الدخول في ولاية الله بتنظيم العمل بالدين و هو الولاية و الفاتح لها في الإسلام هو عليّعليه‌السلام ، و ليس معناه أنّ كلّ إنسان حتّى الإنسان الاُولي يدين بفطرته بخصوص الشهادات الثلاث.

و إلى هذا يؤل معنى الرواية السابقة أنّها الولاية فإنّها تستلزم التوحيد و النبوّة و كذا ما مرّ من تفسيره الفطرة بالتوحيد فإنّ التوحيد هو القول بوحدانيّة الله تعالى المستجمع لصفات الكمال المستلزمة للمعاد و النبوّة و الولاية فالمال في تفسيرها بالشهادات الثلاث و التوحيد و الولاية واحد.

و في المحاسن، بإسناده عن زرارة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) قال: فطرهم على معرفة أنّه ربّهم و لو لا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربّهم و من رازقهم؟.

و في الكافي، بإسناده عن الحسين بن نعيم الصحّاف عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث قال: فقالعليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ خلق الناس كلّهم على الفطرة الّتي فطرهم عليها لا يعرفون إيماناً بشريعة و لا كفراً بجحود ثمّ بعث الله عزّوجلّ الرسل يدعو العباد إلى الإيمان به فمنهم من هدى الله و منهم من لم يهده.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر واردة في تفسير قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) البقرة: 213 و المراد فيها بالإنسان الفطريّ الإنسان الساذج الّذي يعيش على الفطرة الإنسانيّة الّذي لم يفسده الأوهام الفكريّة و الأهواء النفسانيّة فإنّه بالقوّة القريبة من الفعل بالنسبة إلى اُصول العقائد الحقّة و كلّيّات الشرائع الإلهيّة فإنّه يعيش ببعث و تحريك من فطرته و خصوص خلقته. و أمّا الاهتداء إلى خصوص العقائد الحقّة و تفاصيل الشرائع الإلهيّة فيتوقّف على هداية خاصّة إلهيّة من طريق النبوّة من الجزء الثاني من الكتاب.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن حمّاد بن عمرو الصفّار قال: سألت قتادة عن قوله تعالى:( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) فقال: حدّثني أنس بن مالك

١٩٦

قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) قال: دين الله.

و فيه، أخرج البخاريّ و مسلم و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من مولود إلّا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء؟ قال أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) الآية.

أقول: و رواه أيضاً عن مالك و أبي داود و ابن مردويه عن أبي هريرة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لفظه: كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه و ينصّرانه كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تحسّ من جدعاء.

و رواه أيضاً في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأنّ الله خالقه. الحديث.

و في التوحيد، بإسناده عن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فإنّ بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلّا الله، و أربعة أشهر الصلاة على النبيّ و أربعة أشهر الدعاء لوالديه.

أقول: هو حديث لطيف و معناه: أنّ الطفل في الأربعة أشهر الاُولى لا يعرف أحداً و إنّما يحسّ بالحاجة فيطلب بالبكاء رفعها و الرافع لها هو الله سبحانه فهو يتضرّع إليه و يشهد له بالوحدانيّة.

و في الأربعة أشهر الثانية يعرف من والديه واسطة مّا بينه و بين رافع حاجته من غير أن يعرفهما بشخصيهما و الواسطة بينه و بين ربّه هو النبيّ فبكاؤه طلب الرّحمة من ربّه للنبيّ حتّى يصل بتوسّطه إليه.

و في الأربعة أشهر الثالثة يميّز والديه بشخصيهما عن غيرهما فبكاؤه دعاء منه لهما و طلب جريان الرّحمة من طريقهما إليه. ففي الحديث ألطف الإشارة إلى كيفيّة جريان الفيض من مجرى الوسائط فافهم ذلك.

١٩٧

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ آتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ ) و روى أبو سعيد الخدريّ و غيره: أنّه لمّا نزلت هذه الآية على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى فاطمةعليهما‌السلام فدكاً و سلّمه إليها و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

و في الكافي، بإسناده عن إبراهيم اليمانيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: الربا رباءان: ربا يؤكل و ربا لا يؤكل، فأمّا الّذي يؤكل فهديّتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها فذلك الربا الّذي يؤكل، و هو قول الله عزّوجلّ:( وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ) و أمّا الّذي لا يؤكل فهو الّذي نهى الله عنه و أوعد عليه النار.

أقول: و رواه أيضاً في التهذيب، عن إبراهيم بن عمر عنهعليه‌السلام ، و في تفسير القمّيّ، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام ، و في المجمع، مرسلاً عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و في المجمع في قوله تعالى:( فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : فرض الله الصلاة تنزيها عن الكبر، و الزكاة تسبيباً للرزق، و الصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، و صلة الأرحام منماة للعدد.

و في الفقيه خطبة للزهراءعليها‌السلام و فيها: ففرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك و الصلاة تنزيها عن الكبر و الزكاة زيادة في الرزق.

( كلام في معنى كون الدين فطريّاً، في فصول)

1- إذا تأمّلنا هذه الأنواع الموجودة الّتي تتكوّن و تتكامل تدريجاً سواء كانت ذوات حياة و شعور كأنواع الحيوان أو ذات حياة فقط كأنواع النبات أو ميتة غير ذي حياة كسائر الأنواع الطبيعيّة - على ما يظهر لنا - وجدنا كلّ نوع منها يسير في وجوده سيراً تكوينيّاً معيّناً ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض و بعضها بعد بعض يرد النوع في كلّ منها بعد المرور بالبعض الّذي قبله و قبل الوصول إلى ما بعده و لا يزال يستكمل بطيّ هذه المنازل حتّى ينتهي إلى آخرها و هو نهاية كماله.

نجد هذه المراتب المطويّة بحركة النوع يلازم كلّ منها مقامه الخاصّ به

١٩٨

لا يستقدم و لا يستأخر من لدن حركة النوع في وجوده إلى أن تنتهي إلى كماله فبينها رابطة تكوينيّة يربط بها بعض المراتب ببعض بحيث لا يتجافى و لا ينتقل إلى غير مكانه و من هنا يستنتج أنّ للنوع غاية تكوينيّة يتوجّه إليها من أوّل وجوده حتّى يبلغها.

فالجوزة الواحدة مثلاً إذا استقرّت في الأرض استقراراً يهيّؤها للنموّ على اجتماع ممّا يتوقّف عليه النموّ من العلل و الشرائط كالرطوبة و الحرارة و غيرهما أخذ لبّها في النموّ و شقّ القشر و شرع في ازدياد من أقطار جسمه و لم يزل يزيد و ينمو حتّى يصل إلى حدّ يعود فيه شجرة قويّة خضراء مثمرة و لا يختلف حاله في مسيره هذا التكوينيّ و هو في أوّل وجوده قاصداً قاصداً تكوينيّاً إلى غايته التكوينيّة الّتي هي مرتبة الشجرة الكاملة المثمرة.

و كذا الواحد من نوع الحيوان كالواحدة من الضأن مثلاً لا نشكّ في أنّها في أوّل تكوّنها جنيناً متوجّهة إلى غايتها النوعيّة الّتي هي مرتبة الضأنة الكاملة الّتي لها خواصّها فلا تضلّ عن سبيلها التكوينيّة الخاصّة بها إلى سبيل غيرها و لا تنسى غايتها يوماً فتسير إلى غير غايتها كغاية الفيلة مثلاً أو غاية شجرة الجوز مثلاً فكلّ نوع من الأنواع التكوينيّة له مسير خاصّ في استكمال الوجود ذو مراتب خاصّة مترتّبة بعضها على بعض تنتهي إلى مرتبة هي غاية النوع ذاتاً يطلبها طلباً تكوينيّاً بحركته التكوينيّة و النوع في وجوده مجهّز بما هو وسيلة حركته و بلوغه إلى غايته.

و هذا التوجّه التكوينيّ لاستناده إلى الله يسمّى هداية عامّة إلهيّة و هي كما عرفت لا تضلّ و لا تخطئ في تسيير كلّ نوع مسيره التكوينيّ و سوقه إلى غايته الوجوديّة بالاستكمال التدريجيّ و بإعمال قواه و أدواته الّتي جهّز بها لتسهيل مسيره إلى غايته، قال تعالى:( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ ) طه: 50 و قال:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى‏ فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى‏ ) الأعلى: 5.

2- نوع الإنسان غير مستثنى من كلّيّة الحكم المذكور أعني شمول الهداية العامّة له فنحن نعلم أنّ النطفة الإنسانيّة من حين تشرع في التكوّن متوجّهة إلى

١٩٩

مرتبة إنسان تامّ كامل له آثاره و خواصّه قد قطع في مسيره مراحل الجنينيّة و الطفوليّة و المراهقة و الشباب و الكهولة و الشيب.

غير أنّ الإنسان يفارق سائر الأنواع الحيوانيّة و النباتيّة و غيرها فيما نعلم في أمر(1) و هو أنّه لسعة حاجته التكوينيّة و كثرة نواقصه الوجوديّة لا يقدر على تتميم نواقصه الوجوديّة و رفع حوائجه الحيويّة وحده بمعنى أنّ الواحد من الإنسان لا تتمّ له حياته الإنسانيّة و هو وحده بل يحتاج إلى اجتماع منزليّ ثمّ اجتماع مدنيّ يجتمع فيه مع غيره بالازدواج و التعاون و التعاضد فيسعى الكلّ بجميع قواهم الّتي جهّزوا بها للكلّ ثمّ يقسّم الحاصل من عملهم بين الكلّ فيذهب كلّ بنصيبه على قدر زنته الاجتماعيّة.

و قد عرفت في سابق مباحث هذا الكتاب أنّ المدنيّة ليست بطبيعيّة للإنسان بمعنى أن ينبعث إليه من ناحية طبيعته الإنسانيّة ابتداء بل له طبيعة مستخدمة لغيره لنفع نفسه ما وجد إليه سبيلاً فهو يستخدم الاُمور الطبيعيّة ثمّ أقسام النبات و الحيوان في سبيل مقاصده الحيويّة فهو باستخدام فرد مثله أو أفراد أمثاله أجرء لكنّه يجد سائر الأفراد أمثاله في الأميال و المقاصد و في الجهازات و القوى فيضطرّ إلى المسالمة و أن يسلّم لهم حقوقاً مثل ما يراه لنفسه.

و ينتهي هذا التضارب بين المنافع أن يشارك البعض البعض في العمل التعاونيّ ثمّ يقسّم الحاصل من الأعمال بين الجميع و يعطى منه لكلّ ما يستحقّه.

و كيف كان فالمجتمع الإنسانيّ لا يتمّ انعقاده و لا يعمّر إلّا باُصول علميّه و قوانين اجتماعيّة يحترمها الكلّ و حافظ يحفظها من الضيعة و يجريها في المجتمع و عند ذلك تطيب لهم العيشة و تشرف عليهم السعادة.

أمّا الاُصول العلميّة فهي معرفته إجمالاً بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة و ما عليه الإنسان من حيث البداية و النهاية فإنّ المذاهب المختلفة مؤثّرة في خصوص السنن

____________________

(1) و عامّة الحيوان و إن كان لها شي‏ء من الاجتماع الحيويّ لكنّه يسير في جنب الاجتماع لا يعبأ به.

٢٠٠