الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128759 / تحميل: 6815
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الإنسان أنّه مادّيّ محض ليس له من الحياة إلّا الحياة المعجّلة المؤجّلة بالموت و أن ليس في دار الوجود إلّا السبب المادّيّ الكائن الفاسدة ينظمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤدّيهم إلى اللذائذ المحسوسة و الكمالات المادّيّة ما وراءها شي‏ء.

و المعتقدون بصانع وراء المادّة كالوثنيّة يبنون سننهم و قوانينهم على إرضاء الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيويّة و المعتقدون بالمبدإ و المعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدنيويّة ثمّ في الحياة المؤبّدة الّتي بعد الموت فصور الحياة الاجتماعيّة تختلف باختلاف الاُصول الاعتقاديّة في حقيقة العالم و الإنسان الّذي هو جزء من أجزائه.

و أمّا القوانين و السنن الاجتماعيّة فلو لا وجود قوانين و سنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو أكثرهم و يتسلّمونها تفرّق الجمع و انحلّ المجتمع.

و هذه السنن و القوانين قضايا كلّيّة عمليّة صورها: يجب أن يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز و هي أيّاً ما كانت معتبرة في العمل لغايات مُصلحة للاجتماع و المجتمع تترتّب عليها تسمّى مصالح الأعمال و مفاسدها.

٣- قد عرفت أنّ الإنسان إنّما ينال ما قدّر له من كمال و سعادة بعقد مجتمع صالح يحكم فيه سنن و قوانين صالحة تضمن بلوغه و نيله سعادته الّتي تليق به و هذه السعادة أمر أو اُمور كماليّة تكوينيّة تلحق الإنسان الناقص الّذي هو أيضاً موجود تكوينيّ فتجعله إنساناً كاملاً في نوعه تامّاً في وجوده.

فهذه السنن و القوانين - و هي قضايا عمليّة اعتبارية - واقعة بين نقص الإنسان و كماله متوسّطة كالعبرة بين المنزلتين و هي كما عرفت تابعة للمصالح الّتي هي كمال أو كمالات إنسانيّة، و هذه الكمالات اُمور حقيقيّة مسانخة ملائمة للنواقص الّتي هي مصاديق حوائج الإنسان الحقيقيّة.

فحوائج الإنسان الحقيقيّة هي الّتي وضعت هذه القضايا العمليّة و اعتبرت هذه النواميس الاعتباريّة، و المراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الإنسانيّة بأميالها

٢٠١

و عزائمها و يصدّقه العقل الّذي هو القوّة الوحيدة الّتي تميّز بين الخير و النافع و بين الشرّ و الضارّ دون ما تطلبه الأهواء النفسانيّة ممّا لا يصدّقه العقل فإنّه كمال حيوانيّ غير إنسانيّ.

فاُصول هذه السنن و القوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقيّة الّتي هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانيّة.

و قد عرفت أنّ الصنع و الإيجاد قد جهّز كلّ نوع من الأنواع - و منها الإنسان - من القوى و الأدوات بما يرتفع بفعّاليّته حوائجه و يسلك به سبيل الكمال و منه يستنتج أنّ للجهازات التكوينيّة الّتي جهّز بها الإنسان اقتضاءات للقضايا العمليّة المسمّاة بالسنين و القوانين الّتي بالعمل بها يستقرّ الإنسان في مقرّ كماله مثل السنن و القوانين الراجعة إلى التغذّي المعتبرة بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التغذّي و الراجعة إلى النكاح بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التوالد و التناسل.

فتبيّن أنّ من الواجب أن يتّخذ الدين - أي الاُصول العلميّة و السنن و القوانين العمليّة الّتي تضمن باتّخاذها و العمل بها سعادة الإنسان الحقيقيّة - من اقتضاءات الخلقة الإنسانيّة و ينطبق التشريع على الفطرة و التكوين، و هذا هو المراد بكون الدين فطرياً و هو قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) .

٤- قد عرفت معنى كون الدين فطريّاً فالإسلام يسمّى دين الفطرة لما أنّ الفطرة الإنسانيّة تقتضيه و تهدي إليه.

و يسمّى إسلاماً لما أنّ فيه تسليم العبد لإرادة الله سبحانه منه، و مصداق الإرادة و هي صفة الفعل تجمّع العلل المؤلّفة من خصوص خلقة الإنسان و ما يحتفّ به من مقتضيات الكون العامّ على اقتضاء الفعل أو الترك قال تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) .

و يسمّى دين الله لأنّه الّذي يريده الله من عباده من فعل أو ترك، بما مرّ من معنى الإرادة.

٢٠٢

و يسمّى سبيل الله لما أنّه السبيل الّتي أرادها الله أن يسلكها الإنسان لتنتهي به إلى كماله و سعادته، قال تعالى:( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً ) الأعراف: ٤٥.

و أمّا أنّ الدين الحقّ يجب أن يؤخذ من طريق الوحي و النبوّة و لا يكفي فيه العقل فقد تقدّم بيانه في مباحث النبوّة و غيرها من مباحث الكتاب.

٢٠٣

( سورة الروم الآيات ٤٠ - ٤٧)

اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ  هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٤٠ ) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٤١ ) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ  كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ( ٤٢ ) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ  يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( ٤٣ ) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ  وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( ٤٤ ) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( ٤٥ ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٤٦ ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا  وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ )

( بيان)

هذا هو الفصل الثاني من الفصول الأربعة الّتي يحتجّ فيها بالأفعال الخاصّة به و إن شئت فقل: بأسماء الأفعال على إبطال الشركاء و نفي ربوبيّتهم و اُلوهيّتهم و على إثبات المعاد.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ

٢٠٤

شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، اسم الجلالة مبتدأ و( الَّذِي خَلَقَكُمْ ) خبره، و كذا قوله:( مَنْ يَفْعَلُ ) إلخ مبتدأ خبره( مِنْ شُرَكائِكُمْ ) المقدّم عليه و الاستفهام إنكاريّ و قد ذكر في تركيب الآية احتمالات اُخر.

و المعنى: أنّ الله سبحانه هو الّذي اتّصف بكذا و كذا وصفاً من أوصاف الاُلوهيّة و الربوبيّة فهل من الآلهة الّذين تدّعون أنّهم آلهة من يفعل شيئاً من ذلكم يعني من الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء و إذ ليس منهم من يفعل شيئاً من ذلكم فالله سبحانه هو إلهكم و ربّكم لا إله إلّا هو.

و لعلّ الوجه في ذكر الخلق مع الرزق و الإحياء و الإماتة مع تكرّر تقدّم ذكره في سلك الاحتجاجات السابقة الإشارة إلى أنّ الرزق لا ينفكّ عن الخلق بمعنى أنّ بعض الخلق يسمّى بالقياس إلى بعض آخر يديم بقاءه به رزقاً فالرزق في الحقيقة من الخلق فالّذي يخلق الخلق هو الّذي يرزق الرزق.

فليس لهم أن يقولوا: إنّ الرازق و كذا المحيي و المميت بعض آلهتنا كما ربّما يدّعيه بعضهم أنّ مدبّر عالم الإنسان بعض الآلهة و مدبّر كلّ شأن من شؤن العالم من الخيرات و الشرور بعضهم لكنّهم لا يختلفون أنّ الخلق و الإيجاد منه تعالى لا يشاركه في ذلك أحد فإذا سلّم ذلك و من المسلّم أنّ الرزق مثلاً خلق و كذا سائر الشؤن لا تنفكّ عن الخلق رجع الأمر كالخلق إليه تعالى و لم يبق لآلهتهم شأن من الشؤن.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن شركهم فقال:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

قوله تعالى: ( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الآية بظاهر لفظها عامّة لا تختصّ بزمان دون زمان أو بمكان أو بواقعة خاصّة، فالمراد بالبرّ و البحر معناهما المعروف و يستوعبان سطح الكرة الأرضيّة.

و المراد بالفساد الظاهر المصائب و البلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق الأرض من الزلازل و قطع الأمطار و السنين و الأمراض السارية و الحروب و الغارات و ارتفاع الأمن و بالجملة كلّ ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الأرضيّ سواء

٢٠٥

كان مستنداً إلى اختيار الناس أو غير مستند إليه. فكلّ ذلك فساد ظاهر في البرّ أو البحر مخلّ بطيب العيش الإنسانيّ.

و قوله:( بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) أي بسبب أعمالهم الّتي يعملونها من شرك أو معصية و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) الآية الأعراف: ٩٦ و أيضاً في مباحث النبوّة من الجزء الثاني من الكتاب أنّ بين أعمال الناس و الحوادث الكونيّة رابطة مستقيمة يتأثّر إحداهما من صلاح الاُخرى و فسادها.

و قوله:( لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ) اللّام للغاية، أي ظهر ما ظهر لأجل أن يذيقهم الله وبال بعض أعمالهم السيّئة بل ليذيقهم نفس ما عملوا و قد ظهر في صورة الوبال و إنّما كان بعض ما عملوا لأنّ الله سبحانه برحمته يعفو عن بعض كما قال:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠.

و الآية ناظرة إلى الوبال الدنيويّ و إذاقة بعضه لأكّله من غير نظر إلى وبال الأعمال الاُخروي فما قيل: إنّ المراد إذاقة الوبال الدنيويّ و تأخير الوبال الاُخرويّ إلى يوم القيامة لا دليل عليه و لعلّه جعل تقدير الكلام:( ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا) مع أنّ التقدير( ليذيقهم جزاء بعض ما عملوا) ، لأنّ الّذي يحوجنا إلى تقدير المضاف - لو أحوجنا - هو أنّ الراجع إليهم ثانياً في صورة الفساد هو جزاء أعمالهم لا نفس أعمالهم فالّذي اُذيقوا هو جزاء بعض ما عملوا لا بعض جزاء ما عملوا.

و قوله:( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي يذيقهم ما يذيقهم رجاء أن يرجعوا من شركهم و معاصيهم إلى التوحيد و الطاعة.

و وجه اتّصال الآية بما قبلها أنّه لمّا احتجّ في الآية السابقة على التوحيد و نزّهه عن شركهم أشار في هذه الآية إلى ما يستتبع الشرك - و هو معصية - من الفساد في الأرض و إذاقة وبال السيّئات فبيّن ذلك بيان عامّ.

و لهم في الآية تفاسير مختلفة عجيبة كقول بعضهم المراد بالأرض أرض مكّة و قول بعضهم: المراد بالبرّ القفار الّتي لا يجري فيها نهر و بالبحر كلّ قرية على شاطئ نهر

٢٠٦

عظيم، و قول بعضهم: البرّ الفيافي و مواضع القبائل و البحر السواحل و المدن الّتي عند البحر و النهر، و قول بعضهم: البرّ البريّة و البحر المواضع المخصبة الخضرة، و قول بعضهم: إنّ هناك مضافاً محذوفاً و التقدير في البرّ و مدن البحر، و لعلّ الّذي دعاهم إلى هذه الأقاويل ما ورد أنّ الآية ناظرة إلى القحط الّذي وقع بمكّة إثر دعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قريش لمّا لجّوا في كفرهم و داموا على عنادهم فأرادوا تطبيق الآية على سبب النزول فوقعوا فيما وقعوا من التكلّف.

و قول بعضهم: إنّ المراد بالفساد في البرّ قتل ابن آدم أخاه و في البحر أخذ كلّ سفينة غصباً و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار الّذين كانوا من قبل حيث خربت ديارهم و عفت آثارهم و بادوا عن آخرهم و انقطع دابرهم بأنواع من النوائب و البلايا كان أكثرهم مشركين فأذاقهم الله بعض ما عملوا ليعتبر به المعتبرون فيرجعوا إلى التوحيد، فالآية في مقام الاستشهاد لمضمون الآية السابقة.

قوله تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) تفريع على ما تقدّمه أي إذا كان الشرك و الكفر بالحقّ بهذه المثابة و له وبال سيلحق بالمتلبّس به فأقم وجهك للدين القيّم.

و قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) متعلّق بقوله:( فَأَقِمْ ) و المرد مصدر ميميّ بمعنى الردّ و هو بمعنى الرادّ و اليوم الّذي لا مردّ له من الله يوم القيامة.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) أصله يتصدّعون، و التصدّع في الأصل تفرّق أجزاء الأواني ثمّ استعمل في مطلق التفرّق كما قيل، و المراد به - كما قيل - تفرّقهم يومئذ إلى الجنّة و النار.

و قيل: المراد تفرّق الناس بأشخاصهم كما يشير إليه قوله تعالى:( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) القارعة: ٤ و لكلّ وجه، و لعلّ الأظهر امتياز الفريقين كما سيأتي.

قوله تعالى: ( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) الظاهر

٢٠٧

أنّه تفسير لقوله في الآية السابقة:( يَتَفَرَّقُونَ ) و قوله:( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) أي وبال كفره بتقدير المضاف أو نفس كفره الّذي سينقلب عليه ناراً يخلّد فيها و هذا أحد الفريقين.

و قوله:( وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) مهد الفراش بسطه و إيطاؤه، و هؤلاء الفريق الآخر الّذين آمنوا و عملوا الصالحات، و قد جي‏ء بالجزاء( فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) جمعاً نظراً إلى المعنى، كما أنّه جي‏ء به مفرداً في الشرطيّة السابقة( فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) نظراً إلى اللفظ، و اكتفى في الشرط بذكر العمل الصالح و لم يذكر الإيمان معه لأنّ العمل إنّما يصلح بالإيمان على أنّه مذكور في الآية التالية.

و المعنى: و الّذين عملوا عملاً صالحاً - بعد الإيمان - فلأنفسهم يوطئون ما يعيشون به و يستقرّون عليه.

قوله تعالى: ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) قال الراغب: الجزاء الغناء و الكفاية، قال الله تعالى:( لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ) ، و قال:( لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ) و الجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ، يقال: جزيته كذا و بكذا. انتهى.

و قوله:( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ ) اللّام للغاية و لا ينافي عدّ ما يؤتيهم جزاء - و فيه معنى المقابلة - عدّه من فضله و فيه معنى عدم الاستحقاق و ذلك لأنّهم بأعيانهم و ما يصدر عنهم من أعمالهم ملك طلق لله سبحانه فلا يملكون لأنفسهم شيئاً حتّى يستحقّوا به أجراً، و أين العبوديّة من الملك و الاستحقاق فما يؤتونه من الجزاء فضل من غير استحقاق.

لكنّه سبحانه بفضله و رحمته اعتبر لهم ملكاً لأعمالهم في عين أنّه يملكهم و يملك أعمالهم فجعل لهم بذلك حقّاً يستحقّونه، و جعل ما ينالونه من الجنّة و الزلفى أجراً مقابلاً لأعمالهم و هذا الحقّ المجعول أيضاً فضل آخر منه سبحانه.

و منشأ ذلك حبّه تعالى لهم لأنّهم لمّا أحبّوا ربّهم أقاموا وجوههم للدين القيّم و اتّبعوا الرسول فيما دعا إليه فأحبّهم الله كما قال:( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي

٢٠٨

يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) آل عمران: ٣١.

و لذا كانت الآية تعدّ ما يؤتيهم الله من الثواب جزاء و فيه معنى المقابلة و المبادلة و تعدّ ذلك من فضله نظراً إلى أنّ نفس هذه المقابلة و المبادلة فضل منه سبحانه و منشأه حبّه تعالى لهم كما يومئ إليه تذييل الآية بقوله:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) .

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) ، يفيد التعليل بالنسبة إلى جانبي النفي و الإثبات جميعاً أي إنّه تعالى يخصّ المؤمنين العاملين للصالحات بهذا الفضل و يحرم الكافرين منه لأنّه يحبّ هؤلاء و لا يحبّ هؤلاء.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ، المراد بكون الرياح مبشّرات تبشيرها بالمطر حيث تهبّ قبيل نزوله.

و قوله:( وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) عطف على موضع مبشّرات لما فيه من معنى التعليل و التقدير يرسل الرياح لتبشّركم و ليذيقكم من رحمته و المراد بإذاقة الرحمة إصابة أنواع النعم المترتّبة على جريان الرياح كتلقيح الأشجار و دفع العفونات و تصفية الأجواء و غير ذلك ممّا يشمله إطلاق الجملة.

و قوله:( وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ) أي لجريان الرياح و هبوبها. و قوله:( وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) أي لتطلبوا من رزقه الّذي هو من فضله.

و قوله:( وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ، غاية معنويّة كما أنّ الغايات المذكورة من قبل غايات صوريّة، و الشكر هو استعمال النعمة بنحو ينبئ عن إنعام منعمه أو الثناء اللفظيّ عليه بذكر إنعامه، و ينطبق بالأخرة على عبادته و لذلك جي‏ء بلعلّ المفيدة للرجاء فإنّ الغايات المعنويّة الاعتباريّة ربّما تخلّفت.

قوله تعالى: ( لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى‏ قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) قال الراغب: أصل الجرم - بالفتح فالسكون - قطع الثمرة عن الشجر - إلى أن قال - و أجرم صار ذا جرم نحو أثمر و أتمر و ألبن و أستعير ذلك لكلّ اكتساب مكروه، و لا يكاد يقال في عامّة كلامهم للكيّس المحمود انتهى.

٢٠٩

و الآية كالمعترضة و كأنّها مسوقة لبيان أنّ للمؤمنين حقّاً على ربّهم و هو نصرهم في الدنيا و الآخرة و منه الانتقام من المجرمين، و هذا الحقّ مجعول من قبله تعالى لهم على نفسه فلا يرد عليه محذور لزوم كونه تعالى مغلوباً في نفسه مقهوراً محكوماً لغيره.

و قوله:( فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) الفاء فصيحة أي فآمن بعضهم و أجرم آخرون فانتقمنا من المجرمين و كان حقّاً علينا نصر المؤمنين بإنجائهم من العذاب و إهلاك مخالفيهم، و في الآية بعض الإشعار بأنّ الانتقام من المجرمين لأجل المؤمنين فإنّه من النصر.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) قال: في البرّ فساد الحيوان إذا لم يمطر و كذلك هلاك دوابّ البحر بذلك. و قال الصادقعليه‌السلام : حياة دوابّ البحر بالمطر فإذا كفّ المطر ظهر الفساد في البرّ و البحر، و ذلك إذا كثرت الذنوب و المعاصي.

أقول: و هو من الجري.

و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي الربيع الشاميّ قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ) فقال: عنى بذلك أي انظروا في القرآن فانظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلكم.

و في المجمع في قوله:( وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) روى منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنّة فيمهد له كما يمهد لأحدهم خادمه فراشه.

و فيه، و جاءت الرواية عن اُمّ الدرداء أنّها قالت: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ما من امرئ يردّ عن عرض أخيه إلّا كان حقّاً على الله أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة ثمّ قرأ:( كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) .

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء.

٢١٠

( سورة الروم الآيات ٤٨ - ٥٣)

اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ  فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ٤٨ ) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ( ٤٩ ) فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ  وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٥٠ ) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ( ٥١ ) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ( ٥٢ ) وَمَا أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ  إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ( ٥٣ )

( بيان)

هذا هو الفصل الثالث من الآيات المحتجّة من طريق أفعاله تعالى و إن شئت فقل: أسماء أفعاله و عمدة غرضها الاحتجاج على المعاد، و لمّا كان عمدة إنكارهم و جحودهم متوجّها إلى المعاد و بإنكاره يلغو الأحكام و الشرائع فيلغو التوحيد عقّب الاحتجاج بإيئاس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمره بأن يشتغل بدعوة في نفسه استعداد الإيمان و صلاحية الإسلام و التسليم للحقّ.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ) إلى آخر الآية، الإثارة التحريك و النشر و السحاب الغمام و السماء جهة العلو فكلّ ما علاك و أظلّك فهو سماء و الكسف بالكسر فالفتح جمع كسفة و هي القطعة و الودق

٢١١

القطر من المطر و الخلال جمع خلّة و هي الفرجة.

و المعنى: الله الّذي يرسل الرياح فتحرّك و تنشر سحاباً و يبسط ذلك السحاب في جهة العلو من الجوّ كيف يشاء سبحانه و يجعله قطعات متراكبة متراكمة فترى قطر المطر يخرج من فرجه فإذا أصاب بذلك المطر من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون لأنّه مادّة حياتهم و حياة الحيوان و النبات.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ) الإبلاس: اليأس و القنوط.

و ضمير( يُنَزَّلَ ) للمطر و كذا ضمير( مِنْ قَبْلِهِ ) على ما قيل، و عليه يكون( مِنْ قَبْلِهِ ) تأكيداً لقوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ) و فائدة التأكيد - على ما قيل - الاعلام بسرعة تقلّب قلوب البشر من اليأس إلى الاستبشار، و ذلك أنّ قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ) يحتمل الفسحة في الزمان فجاء( مِنْ قَبْلِهِ ) للدلالة على الاتّصال و دفع ذلك الاحتمال.

و في الكشّاف، أنّ قوله:( مِنْ قَبْلِهِ ) من باب التكرير و التوكيد كقوله تعالى:( فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها ) و معنى التوكيد فيه الدلالة على أنّ عهدهم بالمطر قد تطاول و بعد فاستحكم يأسهم و تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. انتهى.

و ربّما قيل: إنّ ضمير( مِنْ قَبْلِهِ ) لإرسال الرياح، و المعنى: و إن كانوا من قبل أن ينزّل عليهم المطر من قبل إرسال الرياح لآيسين قانطين.

قوله تعالى: ( فَانْظُرْ إِلى‏ آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى‏ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) الآثار جمع الأثر و هو ما يبقى بعد الشي‏ء فيدلّ عليه كأثر القدم و أثر البناء و أستعير لكلّ ما يتفرّع على شي‏ء، و المراد برحمة الله المطر النازل من السحاب الّذي بسطته الرياح، و آثارها ما يترتّب على نزول المطر من النبات و الأشجار و الأثمار و هي بعينها آثار حياة الأرض بعد موتها.

و لذا قال:( فَانْظُرْ إِلى‏ آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) فجعل

٢١٢

آثار الرحمة الّتي هي المطر كيفيّة إحياء الأرض بعد موتها، فحياة الأرض بعد موتها من آثار الرحمة و النبات و الأشجار و الأثمار من آثار حياتها و هي أيضاً من آثار الرحمة و التدبير تدبير إلهيّ يتفرّع على خلقة الرياح و السحاب و المطر.

و قوله:( إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) الإشارة بذلك إليه تعالى بما له من الرحمة الّتي من آثارها إحياء الأرض بعد موتها، و في الإشارة البعيدة تعظيم، و المراد بالموتى موتى الإنسان أو الإنسان و غيره من ذوي الحياة.

و المراد بقوله:( إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) الدلالة على المماثلة بين إحياء الأرض الميتة و إحياء الموتى إذ في كلّ منهما موت هو سقوط آثار الحياة من شي‏ء محفوظ و حياة هي تجدّد تلك الآثار بعد سقوطها، و قد تحقّق الإحياء في الأرض و النبات و حياة الإنسان و غيره من ذوي الحياة مثلها و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، فإذا جاز الإحياء في بعض هذه الأمثال و هو الأرض و النبات فليجز في البعض الآخر.

و قوله:( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) تقرير للإحياء المذكور ببيان آخر و هو عموم القدرة فإنّ القدرة غير محدودة و لا متناهية فيشمل الإحياء بعد الموت و إلّا لزم تقيّدها و قد فرضت مطلقة غير محدودة.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ) ضمير( فَرَأَوْهُ ) للنبات المفهوم من السياق، و قوله( لَظَلُّوا ) جواب للقسم قائم مقام الجزاء، و المعنى: و اُقسم لئن أرسلنا ريحاً باردة فضربت زروعهم و أشجارهم بالصفار و رأوه لظلّوا بعده كافرين بنعمه.

ففي الآية توبيخهم بالتقلّب السريع في النعمة و النقمة، فإذا لاحت لهم النعمة بادروا إلى الاستبشار، و إذا اُخذ بعض ما أنعم الله به من فضله لم يلبثوا دون أن يكفروا بالمسلّمات من النعم.

و قيل: ضمير( فَرَأَوْهُ ) للسحاب لأنّ السحاب إذا كان أصفر لم يمطر، و قيل: للريح فإنّه يذكّر و يؤنّث، و القولان بعيدان.

٢١٣

قوله تعالى: ( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى -‏ إلى قوله -فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) تعليل لما يفهم من السياق السابق كأنّه قيل: لا تشتغل و لا تحزن بهؤلاء الّذين تتبدّل بهم الأحوال من إبلاس و استبشار و كفر و من عدم الإيمان بآياتنا و عدم تعقّلها فإنّهم موتى و صمّ و عمي و أنت لا تقدر على إسماعهم و هدايتهم و إنّما تسمع و تهدي من يؤمن بآياتنا أي يعقل هذه الحجج و يصدّقها فهم مسلمون. و قد تقدّم تفسير الآيتين في سورة النمل.

٢١٤

( سورة الروم الآيات ٥٤ - ٦٠)

اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً  يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ  وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ( ٥٤ ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ  كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ( ٥٥ ) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ  فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٥٦ ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( ٥٧ ) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ  وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ( ٥٨ ) كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ( ٥٩ ) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ  وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ( ٦٠ )

( بيان)

هذا هو الفصل الرابع من الآيات و هو كسابقه و فيها ختام السورة.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً ) إلخ، الضعف و القوّة متقابلان، و( مِنْ ) في قوله:( مِنْ ضَعْفٍ‏ ) للابتداء أي ابتداء خلقكم من ضعف أي ابتدأكم ضعفاء، و مصداقه على ما تفيده المقابلة أوّل الطفوليّة و إن أمكن صدقه على النطفة.

و المراد بالقوّة بعد الضعف بلوغ الأشدّ و بالضعف بعد القوّة الشيخوخة و لذا عطف عليه( شَيْبَةً ) عطف تفسير، و تنكير( ضَعْفٍ ) و( قُوَّةً ) للدلالة على الإبهام و عدم

٢١٥

تعيّن المقدار لاختلاف الأفراد في ذلك.

و قوله:( يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) أي كما شاء الضعف فخلقه ثمّ القوّة بعده فخلقها ثمّ الضعف بعدها فخلقه و في ذلك أتمّ الإشارة إلى أنّ تتالي هذه الأحوال من الخلق و إذ كان هذا النقل من حال إلى حال في عين أنّه تدبير خلقاً فهو لله الخالق للأشياء فليس لقائل منهم أن يقول: إنّ ذلك من التدبير الراجع إلى إله الإنسان، مثلاً كما يقوله الوثنيّة.

ثمّ تمّم الكلام بالعلم و القدرة فقال:( وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) .

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ) ، هذه الآيات كالذنابة للآيات السابقة العادّة للآيات و الحجج على وحدانيّته تعالى و البعث، و كالتمهيد و التوطئة للآية الّتي تختتم بها السورة فإنّه لما عدّ شيئاً من الآيات و الحجج و أشار إلى أنّهم ليسوا ممّن يترقّب منهم الإيمان أو يطمع في إيمانهم أراد أن يبيّن أنّهم في جهل من الحقّ يتلقّون الحديث الحقّ باطلاً و الآيات الصريحة الدلالة منعزلة عن دلالتها و كذلك يؤفكون و لا عذر لهم يعتذرون به.

و هذا الإفك و التقلّب من الحقّ إلى الباطل يدوم عليهم و يلازمهم حتّى قيام الساعة فيظنّون أنّهم لم يلبثوا في قبورهم فيما بين الموت و البعث غير ساعة من نهار فاشتبه عليهم أمر البعث كما اشتبه عليهم كلّ حقّ فظنّوه باطلاً.

فقوله:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) ، يحكي عنهم اشتباه الأمر عليهم في أمر الفصل بين الدنيا و يوم البعث حتّى ظنّوه ساعة من ساعات الدنيا.

و قوله:( كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ) أي يصرفون من الحقّ إلى الباطل فيدعون إلى الحقّ و يقام عليه الحجج و الآيات فيظنّونه باطلاً من القول و خرافة من الرأي.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ) إلخ، ردّ منهم لقول المجرمين:( ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) فإنّ المجرمين لإخلادهم إلى الأرض و توغّلهم في نشأة الدنيا يرون يوم البعث و الفصل بينه

٢١٦

و بين الدنيا محكوماً بنظام الدنيا فقدّروا الفصل بساعة و هو مقدار قليل من الزمان كأنّهم ظنّوا أنّهم بعد في الدنيا لأنّه مبلغ علمهم.

فردّ عليهم أهل العلم و الإيمان أنّ اللبث مقدّر بالفصل بين الدنيا و يوم البعث و هو الفصل الّذي يشير إليه قوله:( وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) المؤمنون: ١٠٠.

فاستنتجوا منه أنّ اليوم يوم البعث و لكنّ المجرمين لمّا كانوا في ريب من البعث و لم يكن لهم يقين بغير الدنيا ظنّوا أنّهم لم يمرّ بهم إلّا ساعة من ساعات الدنيا و هذا معنى قولهم:( لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ، أي كنتم جاهلين مرتابين لا يقين لكم بهذا اليوم و لذلك اشتبه عليكم أمر اللبث.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله:( أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ ) ، اليقين و الالتزام بمقتضاه و أنّ العلم بمعنى اليقين بالله و بآياته و الإيمان بمعنى الالتزام بمقتضى اليقين من الموهبة الإلهيّة، و من هنا يظهر أيضاً أنّ المراد بكتاب الله الكتب(١) السماويّة أو خصوص القرآن لا غيره و قول بعضهم: إنّ في الآية تقديماً و تأخيراً و التقدير و قال الّذين اُوتوا العلم و الإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث لا يعتدّ به.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) الاستعتاب طلب العتبى، و العتبى إزالة العتاب أي لا ينفعهم المعذرة عن ظلمهم و لا يطلب منهم أن يزيلوا العتاب عن أنفسهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ) إلخ، إشارة إلى كونهم مأفوكين مصروفين عن الحقّ حيث لا ينفعهم مثل يقرّب الحقّ من قلوبهم لأنّها مطبوع عليها، و لذا عقّبه بقوله:( وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) أي جاؤن بالباطل و هذا القول منهم لأنّهم مصروفون عن الحقّ يرون كلّ حقّ باطلاً، و وضع الموصول و الصلة موضع الضمير للدلالة على سبب القول.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ، أي يجهلون بالله

____________________

(١) و يمكن أن يكون المراد بكتاب الله اللوح المحفوظ فيكون ذلك استدلالاً على قولهم بكتاب الله و يكون نظير ما في قوله: ( هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ) الجاثية: ٢٩ بناء على ما سيأتي من معناه منه.

٢١٧

و آياته و منها البعث و هم يصرّون على جهلهم و ارتيابهم.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) ، أي فاصبر على ما يواجهونك به من قولهم:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) و سائر تهكّماتهم، إنّ وعد الله أنّه ينصرك حقّ كما أومأ إليه بقوله:( كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) ، و لا يستخفّنّك الّذين لا يوقنون بوعد الله سبحانه.

و قول بعضهم: إنّ المعنى لا يوقنون بما تتلو عليهم من الآيات البيّنات بتكذيبهم لها و إيذائهم لك بأباطيلهم، ليس بشي‏ء و قد بدأت السورة بالوعد و ختمت بالوعد و الوعدان جميعاً بالنصرة.

٢١٨

( سورة لقمان مكّيّة، و هي أربع و ثلاثون آية)

( سورة لقمان الآيات ١ - ١١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم ( ١ ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( ٢ ) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ( ٣ ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( ٤ ) أُولَئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥ ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا  أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ٦ ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا  فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٧ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ( ٨ ) خَالِدِينَ فِيهَا  وَعْدَ اللهِ حَقًّا  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٩ ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا  وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ  وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( ١٠ ) هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ  بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ١١ )

( بيان)

غرض السورة كما يومئ إليه فاتحتها و خاتمتها و يشير إليه سياق عامّة آياتها الدعوة إلى التوحيد و الإيقان بالمعاد و الأخذ بكلّيّات شرائع الدين.

و يلوح من صدر السورة أنّها نزلت في بعض المشركين حيث كان يصدّ الناس عن استماع القرآن بنشر بعض أحاديث مزوّقة ملهية كما ورد فيه الأثر في سبب نزول قوله:

٢١٩

( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) الآية، و سيوافي حديثه. فنزلت السورة تبيّن اُصول عقائد الدين و كلّيّات شرائعه الحقّة و قصّت شيئاً من خبر لقمان الحكيم و مواعظه تجاه أحاديثهم الملهية.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها. و من غرر الآيات فيها قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ ) الآية.

قوله تعالى: ( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ - إلى قوله -يُوقِنُونَ ) تقدّم تفسير مفردات هذه الآيات في السور السابقة.

و قد وصف الكتاب بالحكيم إشعاراً بأنّه ليس من لهو الحديث من شي‏ء بل كتاب لا انثلام فيه ليداخله لهو الحديث و باطل القول، و وصفه أيضاً بأنّه هدى و رحمة للمحسنين تتميماً لصفة حكمته فهو يهدي إلى الواقع الحقّ و يوصل إليه لا كاللهو الشاغل للإنسان عمّا يهمّه، و هو رحمة لا نقمة صارفة عن النعمة.

و وصف المحسنين بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة اللتين هما العمدتان في الأعمال و بالإيقان بالآخرة و يستلزم التوحيد و الرسالة و عامّة التقوى، كلّ ذلك مقابلة الكتاب للهو الحديث المصغي إليه لمن يستمع لهو الحديث.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً ) إلخ، اللّهو ما يشغلك عمّا يهمّك، و لهو الحديث: الحديث الّذي يلهي عن الحقّ بنفسه كالحكايات الخرافيّة و القصص الداعية إلى الفساد و الفجور، أو بما يقارنه كالتغنّي بالشعر أو بالملاهي و المزامير و المعازف فكلّ ذلك يشمله لهو الحديث.

و قوله:( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) مقتضى السياق أن يكون المراد بسبيل الله القرآن الكريم بما فيه من المعارف الحقّة الاعتقاديّة و العلميّة و خاصّة قصص الأنبياء و اُممهم الخالية فإنّ لهو الحديث و الأساطير المزوّقة المختلقة تعارض أوّلاً هذه القصص ثمّ تهدم بنيان سائر المعارف الحقّة و توهنها في أنظار الناس.

و يؤيّد ذلك قوله بعد:( وَ يَتَّخِذَها هُزُواً ) فإنّ لهو الحديث بما أنّه حديث

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الْعِقابِ ) . انّ العذاب الشديد غير مخالف لرحمته الواسعة ، كما لا يتوهّم أحدا انّ رحمته العامّة هي إعطاء الفرصة للظالمين ان يفعلوا ما يريدون. لانّه في هذه الموارد يكون شديد العقاب ، والحصول على نتائج هذه الصفتين للربّ يعني( لَذُو مَغْفِرَةٍ ) و( لَشَدِيدُ الْعِقابِ ) مرهون بسلوك الإنسان نفسه.

* * *

ملاحظتان

1 ـ لماذا التعجّب في الخلق الجديد؟

يستفاد من خلال آيات متعدّده في القرآن الكريم انّ من جملة مشاكل الأنبياء مع المشركين اثبات «المعاد الجسماني» لانّهم كانوا يتعجّبون دائما من هذا الموضوع وهو : كيف يبعث الإنسان من جديد بعد ان صار ترابا؟ كما اشارت اليه الآية السابقة( أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) وهناك سبع آيات اخرى تشير الى هذا الموضوع (الآية 35 و 82 من سورة المؤمنون 7 ـ 2 النمل 6 ـ 1 و 53 الصافات ـ 3 ق 7 ـ 4 الواقعة).

ومن هنا يتّضح انّ هذا التساؤل كان مهمّا بالنسبة إليهم حيث كانوا يكرّرونه في كلّ فرصة ، ولكن القرآن الكريم يجيبهم بعبارات قصيرة وقاطعة ، فمثلا الآية (29) من سورة الأعراف :( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) تتكوّن من كلمات قليلة ولكنّها مفحمة لهم ، وفي مكان آخر يقول تعالى :( وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) لانّكم في الخلق الاوّل لم تكونوا شيئا امّا الآن فتوجد على الأقل عظام نخرة مع التراب المتبقّي منكم.

وفي بعض الأحيان يأخذ بأيدي الناس ويدعوهم الى التفكّر والإمعان في عظمة وقدرة الخالق( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) .

٣٤١

2 ـ هل انّ الله يعفو عن الظالمين؟

قرانا في الآيات المتقدّمة انّ الله يعفو ويغفر للذين ظلموا ، وهذا الغفران غير لازم لمن يصرّ على ظلمه ، ولكنّه من باب إعطاء الفرصة لهم لان يصلحوا أنفسهم ، والّا فهو تعالى شديد العقاب.

ويمكن ان نستفيد من هذه الآية انّ الذنوب الكبيرة ـ ومن جملتها الظلم ـ قابلة للغفران (ولكن بتحقّق شروطها) ، وهو ردّ على قول المعتزلة بأنّ الذنوب الكبيرة لا يغفرها الله ابدا.

وعلى ايّة حال فـ «المغفرة الواسعة» و «العقاب الشديد» في الواقع تجعل كل المعترفين بوجود الله بين «الخوف» و «الرجاء» الذي يعتبر من العوامل المهمّة لتربية الإنسان ، فلا ييأس من رحمة الله لكثرة الذنوب ، ولا يأمن من العذاب لقلّتها.

ولهذا جاء في الحديث عن الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنئ احد العيش ، ولولا وعيد الله وعقابه لاتّكل كلّ واحد»(1) .

ومن هنا يتّضح انّ الذين يقولون ـ أثناء ارتكابهم المعاصي ـ انّ الله كريم ، يكذبون في اتّكالهم على كرم الله ، فهم في الواقع يستهزءون بعقاب الله.

* * *

__________________

(1) مجمع البيان ، المجلد 5 و 6 ، ص 278 ـ تفسير القرطبي ، المجلّد السّادس ، ص 3514.

٣٤٢

الآية

( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ(7) )

التّفسير

ذريعة اخرى!

بعد ما أشرنا في الآيات السّابقة الى مسألة «التوحيد» و «المعاد» ، تتطرّق هذه الآية الى واحدة من اعتراضات المشركين المعاندين حول مسألة النبوّة :( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

ومن الواضح انّ احدى وظائف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اظهار معاجزه لكي يدلّ على صدقه وصلته بالوحي الالهي ، والذي يبحث عن الحقيقة له الحقّ في المطالبة بالمعجزة أثناء شكّه وتردّده في تصديق الدعوة ، او تتّضح له دلائل النبوّة عن طريق آخر.

ولكن يجب ان نلتفت الى هذه النقطة وهي : انّ اعداء الأنبياء لم يكن لديهم حسن نيّة او اتّباع للحقّ عند طلبهم المعجزة ، بل لعنادهم وعدم تسليمهم للأمر الواقع ولذلك كانوا يقترحون بين فترة واخرى معاجز عجيبة وغريبة. وهذه ما

٣٤٣

يسمّى بـ «المعجزات الاخلاقية».

اقتراحهم للمعاجز لم يكن لكشف الحقيقة ، ولهذا لم يستجب الأنبياء لمطاليبهم ، وفي الحقيقة كانت هذه الفئة من الكفّار المعاندين يعتقدون انّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدّعي القدرة على انجاز اي عمل خارق للعادة ، وايّ واحد منهم يقترح عليه انجاز عمل ما سوف يلبّي مطاليبه.

ولكن الأنبياء كانوا يقولون لهم الحقيقة وهي انّ المعاجز بيد الله ، ورسالتنا هداية الناس.

ولذلك نقرا في تكملة الآية قوله تعالى :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) .

* * *

بحثان

هنا يرد سؤالان :

1 ـ هل الآية «انّما أنت منذر ...» جواب للكفّار؟

كيف يمكن لجملة( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ان تكون جوابا للكفّار عند طلبهم المعجزة؟

الجواب : بالاضافة الى ما قلناه سابقا فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليست له القدرة الغيبية المطلقة كي يطلبوا منه الاعجاز ، لانّ الوظيفة الاولى له هي إنذار أولئك الذين يسيرون في طريق الضلال ، والدعوة الى الصراط المستقيم ، وإذا ما احتاجت هذه الدعوة الى المعجزة فسوف يأتي بها النّبي ، ولكن لا يأتي بها للمعاندين البعيدين عن هذه المسيرة.

فمعنى الآية : انّ الكفّار نسوا انّ هدف الأنبياء الإنذار والدعوة الى الله ، واعتقدوا انّ وظيفتهم القيام بالمعاجز.

٣٤٤

2 ـ ما هو المقصود من جملة( لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ؟

قال بعض المفسّرين : انّ هاتين الصفتين (منذر) و (هاد) صفتان للرسول ، فأصل الجملة تكون (أنت منذر وهاد لكلّ قوم).

ولكن هذا التّفسير خلاف الظاهر ، لانّ الواو في جملة( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) تفصل بين جملة( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ) ولو كانت كلمة «هاد» قبل «لِكُلِّ قَوْمٍ » كان المعنى السّابق صحيحا. ولكن الأمر ليس كذلك.

والشيء الآخر هو انّ هدف الآية بيان انّ هناك قسمين من الدعوة الى الله : أحدهما ان يكون عمل الداعي هو الإنذار فقط. والآخر : ان يكون العمل هو الهداية.

وسوف تسألون حتما : ما هو وجه التفاوت بين (الإنذار) و (الهداية)؟ نقول في جواب هذا السؤال : انّ الإنذار للذين اضلّوا الطريق ودعوتهم تكون الى الصراط المستقيم ، ولكن الهداية والاستقامة للذين آمنوا.

وفي الحقيقة انّ المنذر مثل العلّة المحدثة ، امّا الهادي فبمنزلة العلّة الباقية وهذه هي التي تعبّر عنها بالرّسول والامام ، فالرّسول يقوم بتأسيس الشريعة والامام يقوم بحفظها وحراستها. (ليس من شكّ انّ الهداية في آيات اخرى مطلقة للرسول ، ولكن بقرينة المنذر في هذه الآية نفهم انّ المقصود من الهادي هو الشخص الحافظ والحامي للشريعة).

هناك روايات عديدة تؤكّد ما قلناه سابقا ، فقد قال الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انا المنذر وعلي الهادي».

ولا بأس ان نشير الى عدّة من هذه الرّوايات :

1 ـ في ذيل هذه الآية من تفسير الفخر الرازي مرفوعا عن ابن عبّاس قال : وضع رسول الله يده على صدره فقال : «انا المنذر» ثمّ اومأ الى منكب عليعليه‌السلام وقال : (أنت الهادي بك يهتدي المهتدون من بعدي) هذه الرّواية ذكرها العلّامة

٣٤٥

«ابن كثير» في تفسيره ، والعلّامة «ابن الصبّاغ المالكي» في الفصول المهمّة ، و «الكنجي» الشافعي في كفاية الطالب و «الطبري» في تفسيره ، و «ابو حيّان الاندلسي» في تفسيره البحر المحيط ، وكذلك «العلّامة النيسابوري» في تفسيره الكشّاف ، وعدد آخر من المفسّرين.

2 ـ نقل «الحمويني» وهو من علماء اهل السنّة المعروفين في كتابه فرائد السمطين عن ابو هريرة قال «ان المراد بالهادي عليعليه‌السلام ».

3 ـ «مير غياث الدين» مؤلّف كتاب (حبيب السيّد) كتب يقول في المجلّد الثّاني صفحة 12 : «قد ثبت بطرق متعدّدة انّه لمّا نزل قوله تعالى :( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) قال لعلي : «انا المنذر وأنت الهادي بك يا علي يهتدي المهتدون من بعدي».

كما نقل هذا الحديث «الآلوسي» في (روح المعاني) و «الشبلنجي» في (نور الأبصار) والشيخ «سليمان القندوزي» في (ينابيع المودّة).

وبما انّ اكثر هذه الرّوايات مسنده الى ابن عبّاس فإنّه لم يكن الشخص الوحيد الذي روى ذلك ، فأبو هريرة نقل ذلك فيما ذكره الحمويني ، وحتّى علي نفسه ـ طبقا لما نقله الثعلبي ـ قد قال : «المنذر النّبي والهادي رجل من بني هاشم» يعني نفسه(1) .

لا شكّ انّ هذه الأحاديث لا تصرّح بالخلافة ، ولكن بالنظر الى ما تحتويه هذه الكلمة (الهداية) من المعنى الواسع ، فإنّها غير منحصرة بعليعليه‌السلام بل تشمل جميع العلماء واصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين كانوا يقومون بنفس المهمّة ، فإنّه يتّضح لنا تخصيص علي بن أبي طالبعليه‌السلام في هذه الرّوايات بهذا العنوان يدلّ على انّه المصداق البارز له ، وذلك لما يمتاز به من الخصوصيات ، وهذا المطلب لا يكون منفصلا عن خلافة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتما.

* * *

__________________

(1) للمزيد من الاطلاع راجع كتاب احقاق الحقّ ، المجلّد الثّالث ، ص 87 وما بعدها.

٣٤٦

الآيات

( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) )

التّفسير

علم الله المطلق :

نقرا في هذه الآيات قسما من صفات الخالق ، والتي تكمل بحث التوحيد والمعاد ، فالحديث عن علمه الواسع ومعرفته بكلّ شيء ، هو ذاك العلم الذي يقوم عليه نظام التكوين وعجائب الخلقة وآيات التوحيد ، وهو العلم الذي يكون أساسا للمعاد والعدالة الالهيّة يوم القيامة وهذه الآيات استندت الى هذين القسمين : (العلم بنظام التكوين ، والعلم بأعمال العباد).

تقول الآية اوّلا :( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ) في رحمها ، سواء من أنثى الإنسان او الحيوان( وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ ) اي تنقص قبل موعدها المقرّر( وَما

٣٤٧

تَزْدادُ ) (1) اي يعلم بما تزيد عن موعدها المقرّر.

في تفسير هذه الجمل الثلاث هناك آراء مختلفة بين المفسّرين :

يعتقد البعض ـ انّها تشير ـ كما ذكرنا آنفا ـ الى وقت الولادة ، وهي على ثلاثة انواع : فمرّة يولد المولود قبل موعده. ومرّة في موعده ، واخرى بعد الموعد المقرّر. فالله يعلم كلّ ذلك ويعلم لحظة الولادة بالتحديد ، وهذه من الأمور التي لا يستطيع اي احد او جهاز ان يحدّد موعده ، وهذا العلم خاص بذات الله المنزّهة ، وسببه واضح لانّ استعدادات الأرحام والاجنّة مختلفة ، ولا احد يعلم بهذا التفاوت.

وقال بعض آخر : انّها تشير الى ثلاث حالات مختلفة للرحم ايّام الحمل ، فالجملة الاولى تشير الى نفس الجنين الذي تحفظه ، والجملة الثانية تشير الى دم الحيض الذي ينصبفي الرحم ويمصّه الجنين ، والجملة الثالثة اشارة الى الدم الاضافي الذي يخرج أثناء الحمل أحيانا ، او دم النفاس أثناء الولادة(2) .

وهناك عدّة احتمالات اخرى في تفسير هذه الآية دون ان تكون متناقضة فيما بينها ، ويمكن ان يكون مراد الآية اشارة الى مجموع هذه التفاسير ، ولكن الظاهر انّ التّفسير الاوّل اقرب ، بدليل جملة (تحمل) المقصود منها الجنين والجمل (تغيض) و (تزداد) بقرينة الجملة السابقة تشير الى الزيادة والنقصان في فترات الحمل.

روى الشيخ الكليني في الكافي عن الامام الصادقعليه‌السلام او الامام الباقرعليه‌السلام

__________________

(1) «تغيض» أصلها الغيض بمعنى ابتلاع السائل وهبوط مستوى الماء. وتأتي بمعنى النقصان والفساد ، و «الغيضة» المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه ، و «ليلة غائضة» اي مظلمة.

(2) يقول صاحب الميزان مؤيّدا هذا الراي : إنّ بعض روايات ائمّة اهل البيت يؤيّد هذا الراي. وابن عبّاس ممّن يؤيّد هذا الراي ايضا ، ولكن بالنظر الى الرّوايات المنقولة في تفسير نور الثقلين في ذيل الآية فإنّ أكثرها يؤيّد ما قلناه في الراي الاوّل.

٣٤٨

في تفسير الآية انّ «الغيض كلّ حمل دون تسعة أشهر ، وما تزداد كلّ شيء حمل على تسعة أشهر». وفي تكملة الحديث يقول : «كلّما رأت المراة الدم الخالص في حملها فإنّها تزداد وبعدد الايّام التي زاد فيها في حملها من الدم»(1) .

( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) ولكي لا يتصوّر احد انّ هذه الزيادة والنقصان بدون حساب ودليل ، بل انّ كلّ ساعة وثانية ولحظة لا تمرّ دون حساب ، كما انّ للجنين ودم الرحم حساب وكتاب ايضا. فالآية التي بعدها تؤكّد ما قلناه في الآية السابقة حيث تقول :( عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ) فعلمه بالغيب والشهادة لهذا السبب( الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ ) فهو يحيط بكلّ شيء ، ولا يخفى عنه شيء.

ولتكميل هذا البحث وتأكيد علمه المطلق يضيف القرآن الكريم :( سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ ) (2) وهذا هو الحقّ فالذي يوجد في كلّ مكان لا معنى للغيب والشهادة او الليل والنهار عنده ، فهو محيط بها وعالم بأخبارها بشكل متساو.

* * *

بحوث

1 ـ القرآن وعلم الاجنّة

أشار القرآن المجيد مرارا الى مسألة الجنين وعجائب تكوينه ليكون احد الادلّة على التوحيد ومعرفة الله وعلمه المطلق ، وبالطبع فإنّ علم الاجنّة واحد من العلوم الحديثة وكان سابقا عبارة عن معلومات اوّليّة محدودة ثمّ توسعت في هذا العصر. ولكن بتقدّم العلم والمعرفة حدثت قفزة في هذا المجال كشف عن

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 2 ، صفحة 485.

(2) «سارب» من سرب على وزن ضرر ، بمعنى الماء الجاري ، ويقال للشخص الذاهب الى عمل ايضا.

٣٤٩

كثير من اسرار هذا العالم الساكن والهادىء وعن كثير من عجائبه بحيث نستطيع ان نقول : انّ اكبر درس للتوحيد ومعرفة الله كامن في تكوين الجنين ومراحل تكامله.

فمن هذا الذي يرعى هذا الكائن المخفي وبتعبير القرآن واقع «في ظلمات ثلاث» الذي يمتاز بالظرافة ودقّة التكوين وان يوصل له المقدار اللازم من الغذاء ويرشده مراحل حياته؟

وعند ما تقول الآية السابقة :( اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ) فليس المقصود من علمه بالذكر والأنثى فقط ، بل بكلّ خصائصه والطاقة الكامنة فيه ، هذه الأشياء لا يستطيع احد وبأي وسيلة ان يتعرّف عليها ، وعلى هذا فإنّ وجود هذا النظام الدقيق والمعقّد للجنين ومراحل تكامله لا يمكن ان يكون بدون صانع عالم وقدير.

2 ـ كلّ شيء له مقدار

نحن نقرا في آيات مختلفة من القرآن الكريم انّ كلّ شيء له حدّ محدود ولا يتجاوزه ، ففي الآية (3) من سورة الطلاق يقول تعالى :( قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) وفي الآية 21 سورة الحجر يقول تعالى :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) والآية التي نحن بصددها( وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) .

كلّ هذه تشير الى انّه ليس هناك شيء في العالم بدون حساب ، حتّى الموجودات في الطبيعة التي نعتبرها في بعض الأحيان غير مهمّة ، فإنّ وجودها على أساس حساب دقيق ، علمنا بذلك ام لم نعلم ، وأساسا فإنّ معنى حكمة الله هو ان يجعل لكلّ ما في الكون حدّا ومقدارا ونظاما.

وكلّ ما حصلناه اليوم من اسرار الكون بواسطة العلوم يؤكّد هذه الحقيقة ، فمثلا نرى انّ دم الإنسان ـ الذي هو المادّة الحياتية لوجود الإنسان والذي يقوم

٣٥٠

بنقل المواد الضروريّة اللازمة لخلايا الجسم ـ يتركّب من عشرين مادّة او اكثر ، وبنسب ثابتة دقيقة بحيث لو تمّ اي تغيير فيها لتعرّضت سلامة الإنسان للخطر ، ولهذا السبب ولمعرفة النقص الحاصل في الجسم يقومون بتحليل الدم وقياس نسبة السكر والدهن وسائر مركّبات الدم الاخرى ، ويتمّ تشخيص العلّة بواسطة معرفة زيادة او نقصان هذه النسب ، وليس دم الإنسان وحده له هذه الميزة ، بل كلّ ما في الوجود له نفس هذه الدقّة في النظام.

ولا بدّ هنا من التنبيه على انّ ما يظهر لنا في بعض الأحيان من عدم النظام في عالم الوجود هو في الواقع ناتج من قصور في علومنا ومعرفتنا ، فالإنسان الذي يؤمن بالله لا يمكن ان يتصوّر ذلك ، وبتطوّر العلوم تتأكّد لنا هذه الحقيقة.

وكي نستطيع ان نتعلّم هذا الدرس وهو انّ المجتمع الانساني الذي هو جزء من عالم الوجود إذا أراد له العيش بسلام ، فعليه ان يجعل شعار( كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ ) يسود جميع جوانبه ، ويجتنب الإفراط والتفريط في اعماله وتخضع جميع مؤسساته الاجتماعية للحساب والموازين.

3 ـ الغيب والشهادة سواء عند الله

استندت هذه الآيات الى انّ الغيب والشهادة معلومان عند الله ، فهما مفهومان نسبيان وتستخدمان للكائن الذي علمه ووجوده محدود ، وعلى سبيل المثال نحن نمتلك حواسا ذات مدى نسبي ، فمتى ما كان الشيء داخلا في هذا المدى فهو شاهد بالنسبة لنا ، وما كان خارجا عنه فهو غيب ، فلو فرضنا انّ أبصارنا لها قدرة غير محدودة ويمكنها النفوذ في باطن الأشياء وإدراكها ، فإنّ كلّ شيء يعتبر شاهد عندنا.

وبما انّ كلّ شيء له حدّ محدود غير الذات الالهيّة ، فإنّ لغير الله تعالى غيب وشهادة ، ولانّ ذات الله غير محدودة ووجوده عام ومطلق فإنّ كلّ شيء بالنسبة

٣٥١

اليه شهادة ، ولا معنى للغيب بالنسبة اليه ، وإذا ما قلنا ـ انّ الله عالم الغيب والشهادة فهو ما نعتبره نحن غيب وشهادة ، امّا هو فهما عنده سواء. لنفترض انّنا ننظر ما في أيدينا في النهار ، فهل نجهل ما فيها؟! جميع الكون في مقابل علم الله أوضح من هذا واظهر.

4 ـ الآثار التربوية في إدراكنا لعلم الله

أثناء قراءتنا للآيات الماضية التي تقول : انّ الله يعلم السرّ والجهر من القول وحركاتكم في الليل والنهار وكلّها مشهودة عنده ، هل نجد في أنفسنا ايمانا بهذه الحقيقة؟ لو كنّا مؤمنين بذلك حقّا ونشعر بأنّ الله تعالى مطّلع علينا فإنّ هذا الايمان والاحساس الباطني يبعث على تغيير عميق في روحنا وفكرنا وقولنا وضمائرنا؟.

نقل عن الامام الصادقعليه‌السلام في جوابه لمن سأله عن طريقتهم في الحياة قال : «علمت انّ الله مطلع عليّ فاستحييت».

كما نشاهد كثيرا من المواقف من تأريخ المسلمين وحياتهم تتجلّى فيها هذه الحقيقة ، يقال : دخل أب وابنه في بستان ، فتسلّق الأب شجرة ليقطف ثمارها دون اذن صاحبها ، بينما بقي الابن أسفل الشجرة لمراقبة الأوضاع. وفجأة صاح الابن الذي كان مؤمنا ومتعلّما ونادى أباه بأن ينزل بسرعة ، عندها خاف الأب ونزل فورا وسأل من الذي رآني؟ قال : الذي هو فوقنا ، فنظر الأب الى الأعلى فلم يجد أحدا ، وسأل من الذي رآني؟ قال : الذي هو فوقنا ، فنظر الأب الى الأعلى فلم يجد أحدا ، فقال الابن : كان قصدي هو الله المحيط بنا جميعا ، كيف يمكن ان تخاف ان يراك الإنسان ، ولا تخاف ان يراك الله؟! اين الايمان؟!

* * *

٣٥٢

الآية

( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) )

التّفسير

المعقّبات الغيبية!

علمنا في الآيات السابقة انّ الله بما انّه عالم الغيب والشهادة فإنّه يعلم أسرار الناس وخفاياهم ، وتضيف هذه الآية انّه مع حفظ وحراسة الله لعبادة فإنّ( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) (1) .

ولكي لا يتصوّر احد انّ هذا الحفظ بدون شروط وينغمس في المزلّات ، او يرتكب الذنوب الموجبة للعقاب ، ومع كلّ ذلك ينتظر من الله او الملائكة ان يحفظوه ، يعلّل القرآن ذلك بقوله :( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما

__________________

(1) هناك حديث بين المفسرين في ان الضمير (له) لمن يعود ، وكما تشير الآية فإنه يعود للإنسان كما تؤكد عليه الآيات السابقة ، ولكن بعضهم قال : يعود للنبي او لله. وهذا يخالف ما جاء في ذيل الآية [فتأمل].

٣٥٣

بِأَنْفُسِهِمْ ) .

وكي لا يتبادر الى الأذهان انّه مع وجود الملائكة الحافظة فأيّ معنى للعذاب او الجزاء؟ هنا تضيف الآية( وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ) ولهذا السبب فإنّه حين صدور العذاب الالهي على قوم او امّة ، فسوف ينتهي دور المعقّبات ويتركون الإنسان عرضة للحوادث

* * *

بحوث

1 ـ ما هي المعقّبات؟

«المعقّبات» كما جاء في مجمع البيان للعلّامة الطبرسي وكما قاله بعض المفسّرين جمع (معقبة) وهي بدورها جمع (معقّب) ومعناه المجموعة التي تعمل بشكل متناوب ومستمر. والظاهر من الآية انّ الله سبحانه وتعالى امر مجموعة من الملائكة بأن يحفظوا الإنسان في الليل والنهار ومن بين يديه ومن خلفه.

انّ الإنسان ـ بدون شك ـ معرّض في حياته الى كثير من الحوادث الروحية والجسمية ، فالامراض والمتغيّرات في السّماء والأرض محيطة بالإنسان ، وخصوصا في مرحلة الطفولة التي لا يدرك فيها ما يجري حوله ويكون هدفا سهلا للإصابة بها ، فقد يتعجّب الإنسان كيف ينجو الطفل وينمو من بين جميع هذه الحوادث ، وخصوصا في العوائل التي لا تدرك هذه المسائل وتعاني من قلّة الامكانيات كأبناء الريف الذين يعانون من الحرمان والفقر وهم معرضون للامراض اكثر من غيرهم.

وإذا ما امعنّا النظر في هذه المسائل فسوف نجد انّ هناك قوى محافظة ، تحفظ الإنسان في مقابل هذه الحوادث كالدرع الواقي.

وكثيرا ما يتعرّض الإنسان الى حوادث خطرة ويتخلّص منها بشكل

٣٥٤

اعجازي تجعله يشعر انّ كلّ ذلك ليس صدفة وانّما هناك قوى محافظة تحميه.

وهناك كثير من الأحاديث المنقولة عن ائمّة المسلمين تؤكّد ذلك ومن جملتها : الحديث المروي عن الامام الباقرعليه‌السلام في تفسير هذه الآية يقول : «يحفظ بأمر الله من ان يقع في ركي او يقع عليه حائط او يصيبه شيء ، حتّى إذا جاء القدر خلوا بينه وبينه يدفعونه الى المقادير ، وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان من نهار يتعاقبانه».

وفي حديث آخر عن الامام الصادقعليه‌السلام يقول : «ما من عبد الّا ومعه ملكان يحفظانه فإذا جاء الأمر من عند الله خليا بينه وبين امر الله».

ونقرا في نهج البلاغة عن امير المؤمنينعليه‌السلام «انّ مع كلّ انسان ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه».

كما نقرا في نهج البلاغة في وصف الملائكة من الخطبة الاولى «ومنهم الحفظة لعباده».

انّ عدم إدراكنا لوجود المعقّبات عن طريق الحسّ او التجربة العلمية ليس دليلا على عدم وجودهم ، لانّه غير منحصر في هذا المجال فقط ، فالقرآن الكريم والمصادر المعرفية الاخرى اشارت الى امور كثيرة وراء الحسّ والتي لا يمكن إثباتها بالطرق العادية. واكثر من ذلك ما قلنا سابقا من انّنا نتعرّض في حياتنا الى كثير من المخاطر والتي لا يمكن النجاة منها الّا بوجود هذه القوى المحافظة (ورأيت في حياتي بعض من هذه النماذج المحيّرة ، والتي كانت بالنسبة لي كشخص صعب التصديق دليلا على وجود هذا المعقّب اللامرئي).

2 ـ التغيير يبدأ من النفس (قانون عام)

تبيّن الجملة( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ) والتي جاءت في موردين متفاوتين في القرآن الكريم ، انّها قانون عام ، قانون حاسم ومنذر!

٣٥٥

هذا القانون الذي هو واحد من القوانين الاساسيّة لعلم الاجتماع في الإسلام ، يقول لنا : انّ ما يصيبكم هو من عند أنفسكم ، وما أصاب القوم من السعادة والشقاء هو ممّا عملت أيديهم ، وما يقال من الحظّ والصدفة وما يحتمله المنجّمون ليس له أساس من الصحّة ، فالأساس والقاعدة هي ارادة الامّة إذا أرادت العزّة والافتخار والتقدّم ، او العكس ان أرادت هي الذلّة والهزيمة ، حتّى اللطف الالهي او العقاب لا يكون الّا بمقدّمة. فتلك ارادة الأمم في تغيير ما بأنفسهم حتّى يشملهم اللطف او العذاب الالهي.

وبتعبير آخر : انّ هذا الأصل القرآني الذي يبيّن واحدا من اهمّ المسائل الاجتماعية في الإسلام ، يؤكّد لنا ان اي تغيير خارجي للأمم مرتبط بالتغيير الداخلي لها ، واي نجاح او فشل يصيب الامّة ناشئ من هذا الأمر ، والذين يبحثون عن العوامل الخارجية لتبرير اعمالهم وتصرّفاتهم ويعتبرون القوى المستعمرة والمتسلّطة هي السبب في شقائهم يقعون في خطأ كبير ، لانّ هذه القوى الجهنميّة لا تستطيع ان تفعل شيئا إذا لم تكن لديها قدرة ومركز في داخل المجتمع.

المهمّ ان نطهّر مجتمعاتنا من هذه المقرّات والمراكز للمستعمرين ولا نجعلها تنفذ في داخل مجتمعنا ، فهؤلاء بمنزلة الشياطين ، ونحن نعلم انّ الشيطان ليس له سبيل على عباد الله المخلصين ، فهو يتسلّط على الذي مهّد له السبيل في داخله.

يقول هذا الأصل القرآني : انّنا يجب ان نثور من الداخل كي ننهي حالة الشقاء والحرمان ، ثورة فكرية وثقافية ، ثورة ايمانيّة وأخلاقية ، وأثناء وقوعنا في مخالب الشقاء يجب ان نبحث فورا عن نقاط الضعف فينا ، ونطهّر أنفسنا منها بالتوبة والرجوع الى الله ونبدأ حياة جديدة مفعمة بالنّور والحركة ، كي نستطيع في ظلّها ان نبدّل الهزيمة الى نصر ، لا ان نخفي نقاط الضعف وعوامل الهزيمة هذه ونبحث عنها في خارج المجتمع ونظلّ ندور في الطرق الملتوية.

٣٥٦

هناك كتب ومؤلّفات كثيرة كتبت عن عوامل انتصار المسلمين الأوائل ثمّ تضعضع سلطانهم بعد حين ، وكثير من تلك الأبحاث ظلّت تتعثّر في الطرق الملتوية ، ولكن إذا ما أردنا ان نستلهم من الأصل أعلاه والصادر من منبع الوحي فيجب ان نبحث عن ذاك النصر او تلك الهزيمة وعن عواملها الفكرية والعقائدية والاخلاقية في المسلمين. ففي الثورات المعاصرة ومن جملتها الثورة الاسلامية في ايران ، او ثورة الجزائر او ثورة المسلمين الافغان ، نشاهد بوضوح انطباق هذا الأصل القرآني عليها. فقبل ان تغيّر الدول المستعمرة والمستكبرة طريقتها في التعامل معنا ، غيّرنا نحن ما بأنفسنا فتغيّر كلّ شيء.

وعلى ايّة حال فهذا درس ليومنا ولغدنا ولمستقبلنا ولكلّ المسلمين والأجيال القادمة. ونحن نرى انّ القيادات المنتصرة فقط هي التي استطاعت ان تقود وتغيّر شعوبها على أساس هذا الأصل الخالد ، وفي تاريخ المسلمين والإسلام شواهد على ذلك كثيرة.

* * *

٣٥٧

الآيات

( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) )

التّفسير

قسم آخر من دلائل عظمة الله :

يتطرّق القرآن الكريم مرّة ثانية الى آيات التوحيد وعلائم العظمة واسرار الخلقة. فهذه الآيات تحاول ان تقرّب العلاقة بين الإنسان وربّه من خلال الاشارة الى بعض الظواهر الطبيعيّة بشكل موجز وعميق المعنى لكي يشعّ نور الايمان في

٣٥٨

قلوب الناس ، فتشير اوّلا الى البرق( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ) فالبرق بشعاعه يبهر العيون من جانب ، ويحدث صوتا مخيفا وهو الرعد من جانب آخر ، وقد يسبّب أحيانا الحرائق للناس وخصوصا في المناطق الصحراوية فيبعث على خوفهم ومن جانب آخر فإنّه يسبّب هطول الأمطار ويروي ظمأ الصحراء ويسقي المزروعات فيطمع فيه الناس ، وبين هذا الخوف والرجاء تمرّ عليهم لحظات حسّاسة. ثمّ تضيف الآية( وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) القادرة على ارواء ظمأ الاراضي الزراعية.

بركات الرعد والبرق :

نحن نعلم انّ ظاهرة البرق في المفهوم العلمي هي اقتراب سحابتين إحداهما من الاخرى ، وهما تحملان شحنات سالبة وموجبة ، فيتمّ تفريغ الشحنات بين السحابتين فتحدث شرارة عظيمة ، ويحدث مثل ذلك عند اقتراب سلكين أحدهما سالب والآخر موجب ، وإذا كنّا قريبين منهما فإنّنا نسمع صوتا خفيفا ، ولكن لاحتواء الغيوم على شحنات هائلة من الالكترونات فانّهما تحدثان صوتا شديدا يسمّى الرعد.

وإذا ما اقتربت سحابة تحمل الشحنة الموجبة من الأرض التي تحتوي على شحنات سالبة فستحدث شرارة تسمّى بالصاعقة ، وخطورتها تكمن في انّ الأرض والمناطق المرتفعة تعتبر راس السلك السالب ، حتّى الإنسان في الصحراء يمكن ان يمثّل هذا السلك فيحدث تفريغ للشحنات يحوّل الإنسان الى رماد في لحظة واحدة ، ولهذا السبب عند وقوع البرق والرعد في الصحراء يجب ان يلجأ الإنسان الى شجرة او حائط او الى الجبال او الى اي مرتفع آخر ، او ان يستلقي في ارض منخفضة.

وعلى ايّة حال فإنّ للبرق ـ الذي يسمّى في بعض الأحيان مزاح الطبيعة ـ

٣٥٩

فوائد جمّة عرفت من خلال ما كشفه العلم الحديث. ونشير هنا الى ثلاثة منها :

1 ـ السقي : ـ من الطبيعي انّ البرق تتولّد منه حرارة عالية جدّا قد تصل بعض الأحيان الى (15) الف درجة مئوية ، وهذه الحرارة كافية لان تحرق الهواء المحيط بها ، وفي النتيجة يقلّ الضغط الجوي ، فيسبّب سقوط الأمطار. ولهذا السبب نرى هطول الأمطار الغزيرة بعد حدوث البرق.

وهذه في الواقع واحدة من وظائف البرق (السقي).

2 ـ التعقيم : ـ ونتيجة للحرارة العالية التي يسبّبها البرق فسوف يزداد مقدار الاوكسجين في قطرات الماء ، ويسمّى هذا الماء بالماء الثقيل او الماء المؤكسد (2 O 2 H ) ومن آثاره قتل المكروبات ، ولهذا السبب يستعمل لغسل الجروح ، فعند نزول هذه القطرات الى الأرض سوف تبيد بيوض الحشرات والآفات الزراعية ، ولهذا السبب يقال انّ السنة الكثيرة الآفات الزراعية هي السنة القليلة البرق والرعد.

3 ـ التغذية والتسميد : ـ تتفاعل قطرات الماء مع الحرارة العالية للبرق لتنتج حامض الكاربون ، وعند نزولها الى الأرض وتركيبها مع محتوياتها تضع نوعا من السّماد النباتي ، فتتمّ تغذية النبات من هذا الطريق.

يقول بعض العلماء : انّ مقدار ما ينتجه البرق من الاسمدة في السنة يصل الى عشرات الملايين من الاطنان ، وهذه كميّة كبيرة جدّا.

وعلى ايّة حال نرى من خلال ظاهرة طبيعيّة صغيرة كلّ هذه المنافع والبركات ، فهي تقوم بالسقي ورشّ السموم والتغذية ، فيمكن ان تكون دليلا واضحا لمعرفة الله ، كلّ ذلك من بركات البرق. كما انّه يمكن ان يكون البرق عاملا مهمّا في إشعال الحرائق من خلال الصاعقة ، وقد تحرق الإنسان او الأشجار ، ومع انّها نادرة الحدوث ويمكن الوقاية منها ، فهي مع ذلك عامل خوف للناس ، فمفهوم الخوف والطمع للبرق قد يكون اشارة الى جميع هذه الأمور.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425