الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128762 / تحميل: 6815
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الإنسان أنّه مادّيّ محض ليس له من الحياة إلّا الحياة المعجّلة المؤجّلة بالموت و أن ليس في دار الوجود إلّا السبب المادّيّ الكائن الفاسدة ينظمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤدّيهم إلى اللذائذ المحسوسة و الكمالات المادّيّة ما وراءها شي‏ء.

و المعتقدون بصانع وراء المادّة كالوثنيّة يبنون سننهم و قوانينهم على إرضاء الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيويّة و المعتقدون بالمبدإ و المعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدنيويّة ثمّ في الحياة المؤبّدة الّتي بعد الموت فصور الحياة الاجتماعيّة تختلف باختلاف الاُصول الاعتقاديّة في حقيقة العالم و الإنسان الّذي هو جزء من أجزائه.

و أمّا القوانين و السنن الاجتماعيّة فلو لا وجود قوانين و سنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو أكثرهم و يتسلّمونها تفرّق الجمع و انحلّ المجتمع.

و هذه السنن و القوانين قضايا كلّيّة عمليّة صورها: يجب أن يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز و هي أيّاً ما كانت معتبرة في العمل لغايات مُصلحة للاجتماع و المجتمع تترتّب عليها تسمّى مصالح الأعمال و مفاسدها.

٣- قد عرفت أنّ الإنسان إنّما ينال ما قدّر له من كمال و سعادة بعقد مجتمع صالح يحكم فيه سنن و قوانين صالحة تضمن بلوغه و نيله سعادته الّتي تليق به و هذه السعادة أمر أو اُمور كماليّة تكوينيّة تلحق الإنسان الناقص الّذي هو أيضاً موجود تكوينيّ فتجعله إنساناً كاملاً في نوعه تامّاً في وجوده.

فهذه السنن و القوانين - و هي قضايا عمليّة اعتبارية - واقعة بين نقص الإنسان و كماله متوسّطة كالعبرة بين المنزلتين و هي كما عرفت تابعة للمصالح الّتي هي كمال أو كمالات إنسانيّة، و هذه الكمالات اُمور حقيقيّة مسانخة ملائمة للنواقص الّتي هي مصاديق حوائج الإنسان الحقيقيّة.

فحوائج الإنسان الحقيقيّة هي الّتي وضعت هذه القضايا العمليّة و اعتبرت هذه النواميس الاعتباريّة، و المراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الإنسانيّة بأميالها

٢٠١

و عزائمها و يصدّقه العقل الّذي هو القوّة الوحيدة الّتي تميّز بين الخير و النافع و بين الشرّ و الضارّ دون ما تطلبه الأهواء النفسانيّة ممّا لا يصدّقه العقل فإنّه كمال حيوانيّ غير إنسانيّ.

فاُصول هذه السنن و القوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقيّة الّتي هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانيّة.

و قد عرفت أنّ الصنع و الإيجاد قد جهّز كلّ نوع من الأنواع - و منها الإنسان - من القوى و الأدوات بما يرتفع بفعّاليّته حوائجه و يسلك به سبيل الكمال و منه يستنتج أنّ للجهازات التكوينيّة الّتي جهّز بها الإنسان اقتضاءات للقضايا العمليّة المسمّاة بالسنين و القوانين الّتي بالعمل بها يستقرّ الإنسان في مقرّ كماله مثل السنن و القوانين الراجعة إلى التغذّي المعتبرة بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التغذّي و الراجعة إلى النكاح بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التوالد و التناسل.

فتبيّن أنّ من الواجب أن يتّخذ الدين - أي الاُصول العلميّة و السنن و القوانين العمليّة الّتي تضمن باتّخاذها و العمل بها سعادة الإنسان الحقيقيّة - من اقتضاءات الخلقة الإنسانيّة و ينطبق التشريع على الفطرة و التكوين، و هذا هو المراد بكون الدين فطرياً و هو قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) .

٤- قد عرفت معنى كون الدين فطريّاً فالإسلام يسمّى دين الفطرة لما أنّ الفطرة الإنسانيّة تقتضيه و تهدي إليه.

و يسمّى إسلاماً لما أنّ فيه تسليم العبد لإرادة الله سبحانه منه، و مصداق الإرادة و هي صفة الفعل تجمّع العلل المؤلّفة من خصوص خلقة الإنسان و ما يحتفّ به من مقتضيات الكون العامّ على اقتضاء الفعل أو الترك قال تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) .

و يسمّى دين الله لأنّه الّذي يريده الله من عباده من فعل أو ترك، بما مرّ من معنى الإرادة.

٢٠٢

و يسمّى سبيل الله لما أنّه السبيل الّتي أرادها الله أن يسلكها الإنسان لتنتهي به إلى كماله و سعادته، قال تعالى:( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً ) الأعراف: ٤٥.

و أمّا أنّ الدين الحقّ يجب أن يؤخذ من طريق الوحي و النبوّة و لا يكفي فيه العقل فقد تقدّم بيانه في مباحث النبوّة و غيرها من مباحث الكتاب.

٢٠٣

( سورة الروم الآيات ٤٠ - ٤٧)

اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ  هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٤٠ ) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٤١ ) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ  كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ( ٤٢ ) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ  يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( ٤٣ ) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ  وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( ٤٤ ) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( ٤٥ ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٤٦ ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا  وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ )

( بيان)

هذا هو الفصل الثاني من الفصول الأربعة الّتي يحتجّ فيها بالأفعال الخاصّة به و إن شئت فقل: بأسماء الأفعال على إبطال الشركاء و نفي ربوبيّتهم و اُلوهيّتهم و على إثبات المعاد.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ

٢٠٤

شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، اسم الجلالة مبتدأ و( الَّذِي خَلَقَكُمْ ) خبره، و كذا قوله:( مَنْ يَفْعَلُ ) إلخ مبتدأ خبره( مِنْ شُرَكائِكُمْ ) المقدّم عليه و الاستفهام إنكاريّ و قد ذكر في تركيب الآية احتمالات اُخر.

و المعنى: أنّ الله سبحانه هو الّذي اتّصف بكذا و كذا وصفاً من أوصاف الاُلوهيّة و الربوبيّة فهل من الآلهة الّذين تدّعون أنّهم آلهة من يفعل شيئاً من ذلكم يعني من الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء و إذ ليس منهم من يفعل شيئاً من ذلكم فالله سبحانه هو إلهكم و ربّكم لا إله إلّا هو.

و لعلّ الوجه في ذكر الخلق مع الرزق و الإحياء و الإماتة مع تكرّر تقدّم ذكره في سلك الاحتجاجات السابقة الإشارة إلى أنّ الرزق لا ينفكّ عن الخلق بمعنى أنّ بعض الخلق يسمّى بالقياس إلى بعض آخر يديم بقاءه به رزقاً فالرزق في الحقيقة من الخلق فالّذي يخلق الخلق هو الّذي يرزق الرزق.

فليس لهم أن يقولوا: إنّ الرازق و كذا المحيي و المميت بعض آلهتنا كما ربّما يدّعيه بعضهم أنّ مدبّر عالم الإنسان بعض الآلهة و مدبّر كلّ شأن من شؤن العالم من الخيرات و الشرور بعضهم لكنّهم لا يختلفون أنّ الخلق و الإيجاد منه تعالى لا يشاركه في ذلك أحد فإذا سلّم ذلك و من المسلّم أنّ الرزق مثلاً خلق و كذا سائر الشؤن لا تنفكّ عن الخلق رجع الأمر كالخلق إليه تعالى و لم يبق لآلهتهم شأن من الشؤن.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن شركهم فقال:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

قوله تعالى: ( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الآية بظاهر لفظها عامّة لا تختصّ بزمان دون زمان أو بمكان أو بواقعة خاصّة، فالمراد بالبرّ و البحر معناهما المعروف و يستوعبان سطح الكرة الأرضيّة.

و المراد بالفساد الظاهر المصائب و البلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق الأرض من الزلازل و قطع الأمطار و السنين و الأمراض السارية و الحروب و الغارات و ارتفاع الأمن و بالجملة كلّ ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الأرضيّ سواء

٢٠٥

كان مستنداً إلى اختيار الناس أو غير مستند إليه. فكلّ ذلك فساد ظاهر في البرّ أو البحر مخلّ بطيب العيش الإنسانيّ.

و قوله:( بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) أي بسبب أعمالهم الّتي يعملونها من شرك أو معصية و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) الآية الأعراف: ٩٦ و أيضاً في مباحث النبوّة من الجزء الثاني من الكتاب أنّ بين أعمال الناس و الحوادث الكونيّة رابطة مستقيمة يتأثّر إحداهما من صلاح الاُخرى و فسادها.

و قوله:( لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ) اللّام للغاية، أي ظهر ما ظهر لأجل أن يذيقهم الله وبال بعض أعمالهم السيّئة بل ليذيقهم نفس ما عملوا و قد ظهر في صورة الوبال و إنّما كان بعض ما عملوا لأنّ الله سبحانه برحمته يعفو عن بعض كما قال:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠.

و الآية ناظرة إلى الوبال الدنيويّ و إذاقة بعضه لأكّله من غير نظر إلى وبال الأعمال الاُخروي فما قيل: إنّ المراد إذاقة الوبال الدنيويّ و تأخير الوبال الاُخرويّ إلى يوم القيامة لا دليل عليه و لعلّه جعل تقدير الكلام:( ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا) مع أنّ التقدير( ليذيقهم جزاء بعض ما عملوا) ، لأنّ الّذي يحوجنا إلى تقدير المضاف - لو أحوجنا - هو أنّ الراجع إليهم ثانياً في صورة الفساد هو جزاء أعمالهم لا نفس أعمالهم فالّذي اُذيقوا هو جزاء بعض ما عملوا لا بعض جزاء ما عملوا.

و قوله:( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي يذيقهم ما يذيقهم رجاء أن يرجعوا من شركهم و معاصيهم إلى التوحيد و الطاعة.

و وجه اتّصال الآية بما قبلها أنّه لمّا احتجّ في الآية السابقة على التوحيد و نزّهه عن شركهم أشار في هذه الآية إلى ما يستتبع الشرك - و هو معصية - من الفساد في الأرض و إذاقة وبال السيّئات فبيّن ذلك بيان عامّ.

و لهم في الآية تفاسير مختلفة عجيبة كقول بعضهم المراد بالأرض أرض مكّة و قول بعضهم: المراد بالبرّ القفار الّتي لا يجري فيها نهر و بالبحر كلّ قرية على شاطئ نهر

٢٠٦

عظيم، و قول بعضهم: البرّ الفيافي و مواضع القبائل و البحر السواحل و المدن الّتي عند البحر و النهر، و قول بعضهم: البرّ البريّة و البحر المواضع المخصبة الخضرة، و قول بعضهم: إنّ هناك مضافاً محذوفاً و التقدير في البرّ و مدن البحر، و لعلّ الّذي دعاهم إلى هذه الأقاويل ما ورد أنّ الآية ناظرة إلى القحط الّذي وقع بمكّة إثر دعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قريش لمّا لجّوا في كفرهم و داموا على عنادهم فأرادوا تطبيق الآية على سبب النزول فوقعوا فيما وقعوا من التكلّف.

و قول بعضهم: إنّ المراد بالفساد في البرّ قتل ابن آدم أخاه و في البحر أخذ كلّ سفينة غصباً و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار الّذين كانوا من قبل حيث خربت ديارهم و عفت آثارهم و بادوا عن آخرهم و انقطع دابرهم بأنواع من النوائب و البلايا كان أكثرهم مشركين فأذاقهم الله بعض ما عملوا ليعتبر به المعتبرون فيرجعوا إلى التوحيد، فالآية في مقام الاستشهاد لمضمون الآية السابقة.

قوله تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) تفريع على ما تقدّمه أي إذا كان الشرك و الكفر بالحقّ بهذه المثابة و له وبال سيلحق بالمتلبّس به فأقم وجهك للدين القيّم.

و قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) متعلّق بقوله:( فَأَقِمْ ) و المرد مصدر ميميّ بمعنى الردّ و هو بمعنى الرادّ و اليوم الّذي لا مردّ له من الله يوم القيامة.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) أصله يتصدّعون، و التصدّع في الأصل تفرّق أجزاء الأواني ثمّ استعمل في مطلق التفرّق كما قيل، و المراد به - كما قيل - تفرّقهم يومئذ إلى الجنّة و النار.

و قيل: المراد تفرّق الناس بأشخاصهم كما يشير إليه قوله تعالى:( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) القارعة: ٤ و لكلّ وجه، و لعلّ الأظهر امتياز الفريقين كما سيأتي.

قوله تعالى: ( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) الظاهر

٢٠٧

أنّه تفسير لقوله في الآية السابقة:( يَتَفَرَّقُونَ ) و قوله:( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) أي وبال كفره بتقدير المضاف أو نفس كفره الّذي سينقلب عليه ناراً يخلّد فيها و هذا أحد الفريقين.

و قوله:( وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) مهد الفراش بسطه و إيطاؤه، و هؤلاء الفريق الآخر الّذين آمنوا و عملوا الصالحات، و قد جي‏ء بالجزاء( فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) جمعاً نظراً إلى المعنى، كما أنّه جي‏ء به مفرداً في الشرطيّة السابقة( فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) نظراً إلى اللفظ، و اكتفى في الشرط بذكر العمل الصالح و لم يذكر الإيمان معه لأنّ العمل إنّما يصلح بالإيمان على أنّه مذكور في الآية التالية.

و المعنى: و الّذين عملوا عملاً صالحاً - بعد الإيمان - فلأنفسهم يوطئون ما يعيشون به و يستقرّون عليه.

قوله تعالى: ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) قال الراغب: الجزاء الغناء و الكفاية، قال الله تعالى:( لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ) ، و قال:( لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ) و الجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ، يقال: جزيته كذا و بكذا. انتهى.

و قوله:( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ ) اللّام للغاية و لا ينافي عدّ ما يؤتيهم جزاء - و فيه معنى المقابلة - عدّه من فضله و فيه معنى عدم الاستحقاق و ذلك لأنّهم بأعيانهم و ما يصدر عنهم من أعمالهم ملك طلق لله سبحانه فلا يملكون لأنفسهم شيئاً حتّى يستحقّوا به أجراً، و أين العبوديّة من الملك و الاستحقاق فما يؤتونه من الجزاء فضل من غير استحقاق.

لكنّه سبحانه بفضله و رحمته اعتبر لهم ملكاً لأعمالهم في عين أنّه يملكهم و يملك أعمالهم فجعل لهم بذلك حقّاً يستحقّونه، و جعل ما ينالونه من الجنّة و الزلفى أجراً مقابلاً لأعمالهم و هذا الحقّ المجعول أيضاً فضل آخر منه سبحانه.

و منشأ ذلك حبّه تعالى لهم لأنّهم لمّا أحبّوا ربّهم أقاموا وجوههم للدين القيّم و اتّبعوا الرسول فيما دعا إليه فأحبّهم الله كما قال:( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي

٢٠٨

يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) آل عمران: ٣١.

و لذا كانت الآية تعدّ ما يؤتيهم الله من الثواب جزاء و فيه معنى المقابلة و المبادلة و تعدّ ذلك من فضله نظراً إلى أنّ نفس هذه المقابلة و المبادلة فضل منه سبحانه و منشأه حبّه تعالى لهم كما يومئ إليه تذييل الآية بقوله:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) .

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) ، يفيد التعليل بالنسبة إلى جانبي النفي و الإثبات جميعاً أي إنّه تعالى يخصّ المؤمنين العاملين للصالحات بهذا الفضل و يحرم الكافرين منه لأنّه يحبّ هؤلاء و لا يحبّ هؤلاء.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ، المراد بكون الرياح مبشّرات تبشيرها بالمطر حيث تهبّ قبيل نزوله.

و قوله:( وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) عطف على موضع مبشّرات لما فيه من معنى التعليل و التقدير يرسل الرياح لتبشّركم و ليذيقكم من رحمته و المراد بإذاقة الرحمة إصابة أنواع النعم المترتّبة على جريان الرياح كتلقيح الأشجار و دفع العفونات و تصفية الأجواء و غير ذلك ممّا يشمله إطلاق الجملة.

و قوله:( وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ) أي لجريان الرياح و هبوبها. و قوله:( وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) أي لتطلبوا من رزقه الّذي هو من فضله.

و قوله:( وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ، غاية معنويّة كما أنّ الغايات المذكورة من قبل غايات صوريّة، و الشكر هو استعمال النعمة بنحو ينبئ عن إنعام منعمه أو الثناء اللفظيّ عليه بذكر إنعامه، و ينطبق بالأخرة على عبادته و لذلك جي‏ء بلعلّ المفيدة للرجاء فإنّ الغايات المعنويّة الاعتباريّة ربّما تخلّفت.

قوله تعالى: ( لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى‏ قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) قال الراغب: أصل الجرم - بالفتح فالسكون - قطع الثمرة عن الشجر - إلى أن قال - و أجرم صار ذا جرم نحو أثمر و أتمر و ألبن و أستعير ذلك لكلّ اكتساب مكروه، و لا يكاد يقال في عامّة كلامهم للكيّس المحمود انتهى.

٢٠٩

و الآية كالمعترضة و كأنّها مسوقة لبيان أنّ للمؤمنين حقّاً على ربّهم و هو نصرهم في الدنيا و الآخرة و منه الانتقام من المجرمين، و هذا الحقّ مجعول من قبله تعالى لهم على نفسه فلا يرد عليه محذور لزوم كونه تعالى مغلوباً في نفسه مقهوراً محكوماً لغيره.

و قوله:( فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) الفاء فصيحة أي فآمن بعضهم و أجرم آخرون فانتقمنا من المجرمين و كان حقّاً علينا نصر المؤمنين بإنجائهم من العذاب و إهلاك مخالفيهم، و في الآية بعض الإشعار بأنّ الانتقام من المجرمين لأجل المؤمنين فإنّه من النصر.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) قال: في البرّ فساد الحيوان إذا لم يمطر و كذلك هلاك دوابّ البحر بذلك. و قال الصادقعليه‌السلام : حياة دوابّ البحر بالمطر فإذا كفّ المطر ظهر الفساد في البرّ و البحر، و ذلك إذا كثرت الذنوب و المعاصي.

أقول: و هو من الجري.

و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي الربيع الشاميّ قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ) فقال: عنى بذلك أي انظروا في القرآن فانظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلكم.

و في المجمع في قوله:( وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) روى منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنّة فيمهد له كما يمهد لأحدهم خادمه فراشه.

و فيه، و جاءت الرواية عن اُمّ الدرداء أنّها قالت: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ما من امرئ يردّ عن عرض أخيه إلّا كان حقّاً على الله أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة ثمّ قرأ:( كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) .

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء.

٢١٠

( سورة الروم الآيات ٤٨ - ٥٣)

اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ  فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ٤٨ ) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ( ٤٩ ) فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ  وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٥٠ ) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ( ٥١ ) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ( ٥٢ ) وَمَا أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ  إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ( ٥٣ )

( بيان)

هذا هو الفصل الثالث من الآيات المحتجّة من طريق أفعاله تعالى و إن شئت فقل: أسماء أفعاله و عمدة غرضها الاحتجاج على المعاد، و لمّا كان عمدة إنكارهم و جحودهم متوجّها إلى المعاد و بإنكاره يلغو الأحكام و الشرائع فيلغو التوحيد عقّب الاحتجاج بإيئاس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمره بأن يشتغل بدعوة في نفسه استعداد الإيمان و صلاحية الإسلام و التسليم للحقّ.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ) إلى آخر الآية، الإثارة التحريك و النشر و السحاب الغمام و السماء جهة العلو فكلّ ما علاك و أظلّك فهو سماء و الكسف بالكسر فالفتح جمع كسفة و هي القطعة و الودق

٢١١

القطر من المطر و الخلال جمع خلّة و هي الفرجة.

و المعنى: الله الّذي يرسل الرياح فتحرّك و تنشر سحاباً و يبسط ذلك السحاب في جهة العلو من الجوّ كيف يشاء سبحانه و يجعله قطعات متراكبة متراكمة فترى قطر المطر يخرج من فرجه فإذا أصاب بذلك المطر من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون لأنّه مادّة حياتهم و حياة الحيوان و النبات.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ) الإبلاس: اليأس و القنوط.

و ضمير( يُنَزَّلَ ) للمطر و كذا ضمير( مِنْ قَبْلِهِ ) على ما قيل، و عليه يكون( مِنْ قَبْلِهِ ) تأكيداً لقوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ) و فائدة التأكيد - على ما قيل - الاعلام بسرعة تقلّب قلوب البشر من اليأس إلى الاستبشار، و ذلك أنّ قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ) يحتمل الفسحة في الزمان فجاء( مِنْ قَبْلِهِ ) للدلالة على الاتّصال و دفع ذلك الاحتمال.

و في الكشّاف، أنّ قوله:( مِنْ قَبْلِهِ ) من باب التكرير و التوكيد كقوله تعالى:( فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها ) و معنى التوكيد فيه الدلالة على أنّ عهدهم بالمطر قد تطاول و بعد فاستحكم يأسهم و تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. انتهى.

و ربّما قيل: إنّ ضمير( مِنْ قَبْلِهِ ) لإرسال الرياح، و المعنى: و إن كانوا من قبل أن ينزّل عليهم المطر من قبل إرسال الرياح لآيسين قانطين.

قوله تعالى: ( فَانْظُرْ إِلى‏ آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى‏ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) الآثار جمع الأثر و هو ما يبقى بعد الشي‏ء فيدلّ عليه كأثر القدم و أثر البناء و أستعير لكلّ ما يتفرّع على شي‏ء، و المراد برحمة الله المطر النازل من السحاب الّذي بسطته الرياح، و آثارها ما يترتّب على نزول المطر من النبات و الأشجار و الأثمار و هي بعينها آثار حياة الأرض بعد موتها.

و لذا قال:( فَانْظُرْ إِلى‏ آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) فجعل

٢١٢

آثار الرحمة الّتي هي المطر كيفيّة إحياء الأرض بعد موتها، فحياة الأرض بعد موتها من آثار الرحمة و النبات و الأشجار و الأثمار من آثار حياتها و هي أيضاً من آثار الرحمة و التدبير تدبير إلهيّ يتفرّع على خلقة الرياح و السحاب و المطر.

و قوله:( إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) الإشارة بذلك إليه تعالى بما له من الرحمة الّتي من آثارها إحياء الأرض بعد موتها، و في الإشارة البعيدة تعظيم، و المراد بالموتى موتى الإنسان أو الإنسان و غيره من ذوي الحياة.

و المراد بقوله:( إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) الدلالة على المماثلة بين إحياء الأرض الميتة و إحياء الموتى إذ في كلّ منهما موت هو سقوط آثار الحياة من شي‏ء محفوظ و حياة هي تجدّد تلك الآثار بعد سقوطها، و قد تحقّق الإحياء في الأرض و النبات و حياة الإنسان و غيره من ذوي الحياة مثلها و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، فإذا جاز الإحياء في بعض هذه الأمثال و هو الأرض و النبات فليجز في البعض الآخر.

و قوله:( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) تقرير للإحياء المذكور ببيان آخر و هو عموم القدرة فإنّ القدرة غير محدودة و لا متناهية فيشمل الإحياء بعد الموت و إلّا لزم تقيّدها و قد فرضت مطلقة غير محدودة.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ) ضمير( فَرَأَوْهُ ) للنبات المفهوم من السياق، و قوله( لَظَلُّوا ) جواب للقسم قائم مقام الجزاء، و المعنى: و اُقسم لئن أرسلنا ريحاً باردة فضربت زروعهم و أشجارهم بالصفار و رأوه لظلّوا بعده كافرين بنعمه.

ففي الآية توبيخهم بالتقلّب السريع في النعمة و النقمة، فإذا لاحت لهم النعمة بادروا إلى الاستبشار، و إذا اُخذ بعض ما أنعم الله به من فضله لم يلبثوا دون أن يكفروا بالمسلّمات من النعم.

و قيل: ضمير( فَرَأَوْهُ ) للسحاب لأنّ السحاب إذا كان أصفر لم يمطر، و قيل: للريح فإنّه يذكّر و يؤنّث، و القولان بعيدان.

٢١٣

قوله تعالى: ( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى -‏ إلى قوله -فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) تعليل لما يفهم من السياق السابق كأنّه قيل: لا تشتغل و لا تحزن بهؤلاء الّذين تتبدّل بهم الأحوال من إبلاس و استبشار و كفر و من عدم الإيمان بآياتنا و عدم تعقّلها فإنّهم موتى و صمّ و عمي و أنت لا تقدر على إسماعهم و هدايتهم و إنّما تسمع و تهدي من يؤمن بآياتنا أي يعقل هذه الحجج و يصدّقها فهم مسلمون. و قد تقدّم تفسير الآيتين في سورة النمل.

٢١٤

( سورة الروم الآيات ٥٤ - ٦٠)

اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً  يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ  وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ( ٥٤ ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ  كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ( ٥٥ ) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ  فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٥٦ ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( ٥٧ ) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ  وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ( ٥٨ ) كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ( ٥٩ ) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ  وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ( ٦٠ )

( بيان)

هذا هو الفصل الرابع من الآيات و هو كسابقه و فيها ختام السورة.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً ) إلخ، الضعف و القوّة متقابلان، و( مِنْ ) في قوله:( مِنْ ضَعْفٍ‏ ) للابتداء أي ابتداء خلقكم من ضعف أي ابتدأكم ضعفاء، و مصداقه على ما تفيده المقابلة أوّل الطفوليّة و إن أمكن صدقه على النطفة.

و المراد بالقوّة بعد الضعف بلوغ الأشدّ و بالضعف بعد القوّة الشيخوخة و لذا عطف عليه( شَيْبَةً ) عطف تفسير، و تنكير( ضَعْفٍ ) و( قُوَّةً ) للدلالة على الإبهام و عدم

٢١٥

تعيّن المقدار لاختلاف الأفراد في ذلك.

و قوله:( يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) أي كما شاء الضعف فخلقه ثمّ القوّة بعده فخلقها ثمّ الضعف بعدها فخلقه و في ذلك أتمّ الإشارة إلى أنّ تتالي هذه الأحوال من الخلق و إذ كان هذا النقل من حال إلى حال في عين أنّه تدبير خلقاً فهو لله الخالق للأشياء فليس لقائل منهم أن يقول: إنّ ذلك من التدبير الراجع إلى إله الإنسان، مثلاً كما يقوله الوثنيّة.

ثمّ تمّم الكلام بالعلم و القدرة فقال:( وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) .

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ) ، هذه الآيات كالذنابة للآيات السابقة العادّة للآيات و الحجج على وحدانيّته تعالى و البعث، و كالتمهيد و التوطئة للآية الّتي تختتم بها السورة فإنّه لما عدّ شيئاً من الآيات و الحجج و أشار إلى أنّهم ليسوا ممّن يترقّب منهم الإيمان أو يطمع في إيمانهم أراد أن يبيّن أنّهم في جهل من الحقّ يتلقّون الحديث الحقّ باطلاً و الآيات الصريحة الدلالة منعزلة عن دلالتها و كذلك يؤفكون و لا عذر لهم يعتذرون به.

و هذا الإفك و التقلّب من الحقّ إلى الباطل يدوم عليهم و يلازمهم حتّى قيام الساعة فيظنّون أنّهم لم يلبثوا في قبورهم فيما بين الموت و البعث غير ساعة من نهار فاشتبه عليهم أمر البعث كما اشتبه عليهم كلّ حقّ فظنّوه باطلاً.

فقوله:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) ، يحكي عنهم اشتباه الأمر عليهم في أمر الفصل بين الدنيا و يوم البعث حتّى ظنّوه ساعة من ساعات الدنيا.

و قوله:( كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ) أي يصرفون من الحقّ إلى الباطل فيدعون إلى الحقّ و يقام عليه الحجج و الآيات فيظنّونه باطلاً من القول و خرافة من الرأي.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ) إلخ، ردّ منهم لقول المجرمين:( ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) فإنّ المجرمين لإخلادهم إلى الأرض و توغّلهم في نشأة الدنيا يرون يوم البعث و الفصل بينه

٢١٦

و بين الدنيا محكوماً بنظام الدنيا فقدّروا الفصل بساعة و هو مقدار قليل من الزمان كأنّهم ظنّوا أنّهم بعد في الدنيا لأنّه مبلغ علمهم.

فردّ عليهم أهل العلم و الإيمان أنّ اللبث مقدّر بالفصل بين الدنيا و يوم البعث و هو الفصل الّذي يشير إليه قوله:( وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) المؤمنون: ١٠٠.

فاستنتجوا منه أنّ اليوم يوم البعث و لكنّ المجرمين لمّا كانوا في ريب من البعث و لم يكن لهم يقين بغير الدنيا ظنّوا أنّهم لم يمرّ بهم إلّا ساعة من ساعات الدنيا و هذا معنى قولهم:( لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ، أي كنتم جاهلين مرتابين لا يقين لكم بهذا اليوم و لذلك اشتبه عليكم أمر اللبث.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله:( أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ ) ، اليقين و الالتزام بمقتضاه و أنّ العلم بمعنى اليقين بالله و بآياته و الإيمان بمعنى الالتزام بمقتضى اليقين من الموهبة الإلهيّة، و من هنا يظهر أيضاً أنّ المراد بكتاب الله الكتب(١) السماويّة أو خصوص القرآن لا غيره و قول بعضهم: إنّ في الآية تقديماً و تأخيراً و التقدير و قال الّذين اُوتوا العلم و الإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث لا يعتدّ به.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) الاستعتاب طلب العتبى، و العتبى إزالة العتاب أي لا ينفعهم المعذرة عن ظلمهم و لا يطلب منهم أن يزيلوا العتاب عن أنفسهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ) إلخ، إشارة إلى كونهم مأفوكين مصروفين عن الحقّ حيث لا ينفعهم مثل يقرّب الحقّ من قلوبهم لأنّها مطبوع عليها، و لذا عقّبه بقوله:( وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) أي جاؤن بالباطل و هذا القول منهم لأنّهم مصروفون عن الحقّ يرون كلّ حقّ باطلاً، و وضع الموصول و الصلة موضع الضمير للدلالة على سبب القول.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ، أي يجهلون بالله

____________________

(١) و يمكن أن يكون المراد بكتاب الله اللوح المحفوظ فيكون ذلك استدلالاً على قولهم بكتاب الله و يكون نظير ما في قوله: ( هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ) الجاثية: ٢٩ بناء على ما سيأتي من معناه منه.

٢١٧

و آياته و منها البعث و هم يصرّون على جهلهم و ارتيابهم.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) ، أي فاصبر على ما يواجهونك به من قولهم:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) و سائر تهكّماتهم، إنّ وعد الله أنّه ينصرك حقّ كما أومأ إليه بقوله:( كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) ، و لا يستخفّنّك الّذين لا يوقنون بوعد الله سبحانه.

و قول بعضهم: إنّ المعنى لا يوقنون بما تتلو عليهم من الآيات البيّنات بتكذيبهم لها و إيذائهم لك بأباطيلهم، ليس بشي‏ء و قد بدأت السورة بالوعد و ختمت بالوعد و الوعدان جميعاً بالنصرة.

٢١٨

( سورة لقمان مكّيّة، و هي أربع و ثلاثون آية)

( سورة لقمان الآيات ١ - ١١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم ( ١ ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( ٢ ) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ( ٣ ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( ٤ ) أُولَئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥ ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا  أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ٦ ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا  فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٧ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ( ٨ ) خَالِدِينَ فِيهَا  وَعْدَ اللهِ حَقًّا  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٩ ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا  وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ  وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( ١٠ ) هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ  بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ١١ )

( بيان)

غرض السورة كما يومئ إليه فاتحتها و خاتمتها و يشير إليه سياق عامّة آياتها الدعوة إلى التوحيد و الإيقان بالمعاد و الأخذ بكلّيّات شرائع الدين.

و يلوح من صدر السورة أنّها نزلت في بعض المشركين حيث كان يصدّ الناس عن استماع القرآن بنشر بعض أحاديث مزوّقة ملهية كما ورد فيه الأثر في سبب نزول قوله:

٢١٩

( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) الآية، و سيوافي حديثه. فنزلت السورة تبيّن اُصول عقائد الدين و كلّيّات شرائعه الحقّة و قصّت شيئاً من خبر لقمان الحكيم و مواعظه تجاه أحاديثهم الملهية.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها. و من غرر الآيات فيها قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ ) الآية.

قوله تعالى: ( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ - إلى قوله -يُوقِنُونَ ) تقدّم تفسير مفردات هذه الآيات في السور السابقة.

و قد وصف الكتاب بالحكيم إشعاراً بأنّه ليس من لهو الحديث من شي‏ء بل كتاب لا انثلام فيه ليداخله لهو الحديث و باطل القول، و وصفه أيضاً بأنّه هدى و رحمة للمحسنين تتميماً لصفة حكمته فهو يهدي إلى الواقع الحقّ و يوصل إليه لا كاللهو الشاغل للإنسان عمّا يهمّه، و هو رحمة لا نقمة صارفة عن النعمة.

و وصف المحسنين بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة اللتين هما العمدتان في الأعمال و بالإيقان بالآخرة و يستلزم التوحيد و الرسالة و عامّة التقوى، كلّ ذلك مقابلة الكتاب للهو الحديث المصغي إليه لمن يستمع لهو الحديث.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً ) إلخ، اللّهو ما يشغلك عمّا يهمّك، و لهو الحديث: الحديث الّذي يلهي عن الحقّ بنفسه كالحكايات الخرافيّة و القصص الداعية إلى الفساد و الفجور، أو بما يقارنه كالتغنّي بالشعر أو بالملاهي و المزامير و المعازف فكلّ ذلك يشمله لهو الحديث.

و قوله:( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) مقتضى السياق أن يكون المراد بسبيل الله القرآن الكريم بما فيه من المعارف الحقّة الاعتقاديّة و العلميّة و خاصّة قصص الأنبياء و اُممهم الخالية فإنّ لهو الحديث و الأساطير المزوّقة المختلقة تعارض أوّلاً هذه القصص ثمّ تهدم بنيان سائر المعارف الحقّة و توهنها في أنظار الناس.

و يؤيّد ذلك قوله بعد:( وَ يَتَّخِذَها هُزُواً ) فإنّ لهو الحديث بما أنّه حديث

٢٢٠

بمثلها وما يقابل العرض بمثله عندنا ، وعند المخالف بنقد البلد(١) .

مسألة ١٥١ : النصاب المعتبر في قيمة مال التجارة هنا هو أحد النقدين : الذهب أو الفضة دون غيرهما ، فلو اشترى بأحد النصب في المواشي مال التجارة وقصرت قيمة الثمن عن نصاب أحد النقدين ، ثم حال الحول كذلك فلا زكاة.

ولو قصر الثمن عن نصاب المواشي بأن اشترى بأربع من الإِبل متاع التجارة وكانت قيمة الثمن أو السلعة تبلغ نصاباً من أحد النقدين تعلّقت الزكاة به.

إذا عرفت هذا ، فالنصاب الأول قد عرفت أنّه عشرون ديناراً أو مائتا درهم ، فإذا بلغت القيمة أحدهما ثبتت الزكاة ، ثم الزائد إن بلغ النصاب الثاني وهو أربعة دنانير أو أربعون درهماً ثبتت فيه الزكاة وهو ربع عُشرة أيضاً ، وإلّا فلا ، ولم يعتبر الجمهور النصاب الثاني كالنقدين ، وقد سلف.

مسألة ١٥٢ : إذا اشترى سلعاً للتجارة في أشهر متعاقبة ، وقيمة كلّ واحد نصاب‌ يزكّي كلّ سلعة عند تمام حولها ، ولم يضمّ بعضها إلى بعض.

وإن كانت الاُولى نصاباً فحال حولها وهي نصاب وحال حول الثانية والثالثة وقيمة كلّ منهما أقلّ من نصاب أخذ من الأول الزكاة خمسة دراهم ، ومن الثاني والثالث من كلّ أربعين درهماً درهم.

ولو كان العرض الأول ليس بنصاب وكمل بالثاني نصاباً فحولهما من حين ملك الثاني ، ولا يضمّ الثالث إليهما ، بل ابتداء الحول من حين ملكه ، وتثبت فيه الزكاة - وإن كان أقلّ من النصاب الأول - إذا بلغ النصاب الثاني ، لأنّ قبله نصاباً.

مسألة ١٥٣ : إذا اشترى عرضاً للتجارة بأحد النقدين‌ ، وكان الثمن‌

____________________

(١) المجموع ٦ : ٦٦ - ٦٧ ، فتح العزيز ٦ : ٧٦.

٢٢١

نصاباً ، قال الشيخ : كان حولُ السلعة حولَ الأصل(١) ؛ وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وأصحاب الرأي ، لأنّ زكاة التجارة تتعلّق بالقيمة وقيمته هي الأثمان نفسها لكنها كانت ظاهرةً فخفيت.

ولأنّ النماء في الغالب إنّما يحصل في التجارة بالتقليب ، فلو كان ذلك يقطع الحول لكان السبب الذي تثبت فيه الزكاة [ لأجله ](٢) مانعا منها(٣) .

ولو قيل : إن كان الثمن من مال تجارة بنى على حوله وإلاّ استأنف ، كان وجها.

ولو كان أقلّ من النصاب فلا زكاة ، فإن ظهر ربح حتى بلغ به نصاباً جرى في الحول من حين بلوغ النصاب عند علمائنا أجمع ، وهو أحد وجهي الشافعية ، والآخر : أنّه يبنى على الحول من حين الشراء ، لأنّه يعتبر النصاب في آخر الحول على الأقوى من وجهيه(٤) .

فروع :

أ - لو اشتراه بنصاب من السائمة فإن كانت للقُنية فالأقرب انقطاع حول السائمة ، ويبتدئ حول التجارة من يوم الشراء ؛ لاختلاف الزكاتين في القدر والتعلّق ، وهو أحد وجهي الشافعي ، وفي الآخر : يبني عليه كالنقدين(٥) .

وإن كانت للتجارة فالوجه البناء على حولها.

ب - البناء على حول الأصل إنّما يكون لو اشتراه بعين النصاب ، ولو‌

____________________

(١) الخلاف ٢ : ٩٤ ، المسألة ١٠٨ ، والمبسوط للطوسي ١ : ٢٢٠ - ٢٢١.

(٢) زيادة أثبتناها من المغني والشرح الكبير.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٥ - ٦٣٦ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع ٦ : ٥٨ ، فتح العزيز ٦ : ٥٣ - ٥٤.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع ٦ : ٥٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤.

(٥) المهذب للشيرازي ١ : ١٦٧ ، المجموع ٦ : ٥٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٠١.

٢٢٢

اشتراه في الذمة ونقد النصاب في الثمن انقطع حول الثمن نقداً كان أو ماشيةً ، وابتدأ حول التجارة من يوم الشراء ، لأنّ النصاب لم يتعيّن للصرف إلى هذه الجهة.

ج - لو اشترى عرضاً للتجارة بعرض للقُنية كأثاث البيت كان حول السلعة من حين ملكها للتجارة ، وبه قال الشافعي وأحمد(١) .

وقال مالك : لا يدور في حول التجارة إلّا أن يشتريها بمال تجب فيه الزكاة كالذهب والفضة(٢) .

د - لو باع مال التجارة بالنقد من الذهب أو الفضة وقصد بالأثمان غير التجارة انقطع الحول ، وبه قال الشافعي(٣) ، لأنّه مال تجب الزكاة في عينه دون قيمته فانقطع الحول بالبيع به كالسائمة.

وقال أحمد : لا ينقطع ، لأنّه من جنس القيمة التي تتعلّق الزكاة بها فلم ينقطع الحول معها به(٤) .

والفرق : أنّ قصد التجارة انقطع ، وتعلّقت به حول زكاة اُخرى.

ولو قصد بالثمن التجارة ، فالأقرب عدم الانقطاع ، وبنى على حول الأول ؛ لأنّا لا نشترط في زكاة التجارة بقاء الأعيان بل القَيِم.

ه- لو أبدل عرض التجارة بما تجب الزكاة في عينه كالسائمة ولم يَنْو به التجارة لم يبن حول أحدهما على الآخر إجماعاً ؛ لأنّهما مختلفان ، وإن أبدله بعرض للقُنية بطل الحول.

و - لو اشتراه بنصاب من السائمة لم يبن على حوله إجماعاً ، لأنّهما مختلفان.

____________________

(١) المجموع ٦ : ٥٦ ، فتح العزيز ٦ : ٥٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٢ ، المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٧.

(٢) حلية العلماء ٣ : ١٠٣.

(٣ و ٤ ) المغني ٢ : ٦٢٦ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٦.

٢٢٣

ز - لا يشترط بقاء عين السلعة طول الحول إجماعاً ، بل قيمتها وبلوغ القيمة النصاب.

مسألة ١٥٤ : لا تجتمع زكاة التجارة والمالية في مالٍ واحد‌ اتّفاقاً ؛ لقولهعليه‌السلام : ( لا ثني(١) في الصدقة )(٢) .

فلو ملك نصاباً من السائمة فحال الحول ، والسوم ونية التجارة موجودان قدّمت زكاة المال عندنا ؛ لأنّها واجبة دون زكاة التجارة ؛ لاستحبابها.

ومن قال بالوجوب اختلفوا ، فالذي قاله الشيخ - تفريعاً على الوجوب - : تقديم المالية أيضاً(٣) ؛ وبه قال الشافعي - في الجديد - لأنّها أقوى ؛ لانعقاد الإجماع عليها واختصاصها بالعين فكانت أولى(٤) .

وقال أبو حنيفة والثوري ومالك وأحمد والشافعي في القديم : يزكّيه زكاة التجارة ، لأنّها أحظّ للمساكين ، لتعلّقها بالقيمة فتجب فيما زاد بالحساب ، لأنّ الزائد عن النصاب قد وجد سبب وجوب زكاته فتجب كما لو لم يبلغ بالسوم نصاباً(٥) .

ونمنع اعتبار ترجيح المساكين ، بل مراعاة المالك أولى ؛ لأنّ الصدقة مواساة فلا تكون سبباً لإِضرار المالك ولا موجبة للتحكّم في ماله.

____________________

(١) أي : لا تؤخذ الزكاة مرّتين في السنة. النهاية لابن الأثير ١ : ٢٢٤.

(٢) كنز العمّال ٦ : ٣٣٢ / ١٥٩٠٢.

(٣) الخلاف ٢ : ١٠٤ ، المسألة ١٢٠ ، والمبسوط للطوسي ١ : ٢٢٢.

(٤) الاُم ٢ : ٤٨ ، المجموع ٦ : ٥٠ ، فتح العزيز ٦ : ٨١ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٨.

(٥) المبسوط للسرخسي ٢ : ١٧٠ ، المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٨ ، المجموع ٦ : ٥٠ ، فتح العزيز ٦ : ٨١ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، المنتقى للباجي ٢ : ١٢١ ، وفيها ما عدا المجموع قال مالك بوجوب زكاة العين ؛ على خلاف ما نسب إليه المصنّف ، وأمّا في المجموع فلم يتعرض النووي لقوله.

٢٢٤

فروع :

أ - لو انتفى السوم ثبتت زكاة التجارة وإن كان النصاب ثابتاً ، وكذا لو انتفى النصاب وحصل السوم ؛ لعدم التصادم.

ب - لو فقد شرط زكاة التجارة بأن قصر الثمن عن النصاب أو طلبت بخسارة وجبت زكاة المال إجماعاً ، لعدم التضاد.

ج - لو سبق تعلّق وجوب المالية بأن يملك أربعين من الغنم قيمتها دون مائتي درهم ثم صارت في نصف الحول تعدل مائتين قدّمت زكاة المال ، لثبوت المقتضي في آخر الحول ، السالم عن معارضة المانع.

وقال بعض الجمهور بتأخّر وجوب الزكاة حتى يتم حول التجارة ، لأنّه أنفع للفقراء(١) . وهو ممنوع.

وعلى ما اخترناه إذا تمّ حول التجارة لم يزك الزائد عن النصاب ، لأنّه قد زكّى العين فلا يتعلّق بالقيمة.

وقال بعض الجمهور : تجب زكاة التجارة في الزائد عن النصاب ، لوجود المقتضي فإنّه مال للتجارة حال عليه الحول وهو نصاب(٢) .

وهو ممنوع ؛ لوجود المانع وهو تعلّق الزكاة بالعين.

د - لو اشترى أرضاً أو نخلاً للتجارة فزرعت الأرض وأثمر النخل فاتّفق حولهما بأن يكون بدوّ الصلاح في الثمرة واشتداد الحبّ عند تمام الحول ، وكانت قيمة الأرض والنخل بمفردها نصابا للتجارة فإنّه يزكّي الثمرة والحبّ زكاة العشر ، ويزكّي الأصل زكاه القيمة ، ولا تثبت في الثمرة الزكاتان ، وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور(٣) ، لأنّ زكاة العُشر أحظّ للفقراء فإنّ العُشر أكثر من ربع العُشر ، ولأنّ زكاة المال متّفق عليها.

____________________

(١ و ٢ ) المغني ٢ : ٦٢٧ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٩.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤١.

٢٢٥

وقال أحمد : يزكّي الجميع زكاة التجارة ؛ لأنّه مال تجارة فتجب فيه زكاتها كالسائمة(١) .

والفرق : زكاة السوم أولى ، على أنّا نقول بموجبه هناك.

ه- لو اشترى أربعين سائمة للتجارة فعارض بها(٢) في أثناء الحول بأربعين سائمة للتجارة أيضاً ، فإن شرطنا في المالية بقاء عين النصاب سقطت وثبتت زكاة التجارة ، لعدم المانع ، وإلّا أوجبنا زكاة المال.

ولو عارضها بأربعين للقُنية سقطت زكاة التجارة وانعقد حول المالية من المعارضة.

ولو اشترى أربعين للقُنية وأسامها ، ثم عراضها في أثناء الحول بأربعين سائمة للتجارة انعقد حول المالية أو التجارة - على الخلاف - من حين المعارضة.

و - عبد التجارة يخرج عنه الفطرة وزكاة التجارة على ما يأتي.

ز - لو اشترى معلوفة للتجارة ثم أسامها ، فإن كان بعد تمام الحول ثبتت زكاة التجارة في الحول الأوّل ، وانعقد حول الماليّة من حين الإسامة ، وإن كان في الأثناء احتمل زكاة التجارة عند تمام الحول ؛ لعدم المانع ، وانعقاد حول الماليّة من حين الإِسامة.

مسألة ١٥٥ : إذا نوى بعرض التجارة القُنية صار للقنية وسقطت الزكاة‌ عند علمائنا - وبه قال الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي(٣) - لأنّ القُنية الأصل ، ويكفي في الردّ إلى الأصل مجرّد النيّة ، ولأنّ نيّة التجارة شرط لثبوت الزكاة في‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٤١.

(٢) المعارضة : بيع المتاع بالمتاع لا نقد فيه. النهاية - لابن الأثير - ٣ : ٢١٤ « عرض ».

(٣) المجموع ٦ : ٤٩ - ٥٠ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠ ، المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٠ - ٦٣١.

٢٢٦

العروض ، فإذا نوى القنية زال الشرط.

وقال مالك في رواية : لا يسقط حكم التجارة بمجرّد النية كما لو نوى بالسائمة العلف(١) .

والفرق أنّ الإِسامة شرط دون نيّتها فلا ينتفي الوجوب إلّا بانتفاء السوم.

وإذا صار العرض للقُنية بنيّتها فنوى به التجارة لم يصر للتجارة بمجرّد النية على ما قدّمناه ، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي(٢) .

تذنيب : لو كانت عنده ماشية للتجارة نصف حول فنوى بها الإسامة وقطع نية التجارة انقطع حول التجارة واستأنف حولا للماليّة - وبه قال الثوري وأبو ثور وأصحاب الرأي(٣) - لأنّ حول التجارة انقطع بنيّة الاقتناء ، وحول السوم لا يبنى على حول التجارة.

والوجه : أنّها إن كانت سائمةً ابتداء الحول وجبت المالية عند تمامه - وبه قال إسحاق(٤) - لأنّ السوم سبب لوجوب الزكاة وجد في جميع الحول خالياً عن المعارض فتجب به الزكاة ، كما لو لم ينو التجارة.

مسألة ١٥٦ : المشهور عندنا وعند الجمهور أنّ نماء مال التجارة بالنتاج مال تجارة أيضاً‌ - وهو أحد قولي الشافعي(٥) - لأنّ الولد بعض الاُمّ فحكمه حكمها ، فلو اشترى جواري للتجارة فأولدت كانت الأولاد تابعةً لها ، هذا إذا لم تنقص قيمة الاُمّ بالولادة ، فإن(٦) نقصت جعل الولد جابراً بقدر قيمته ؛ لأنّ‌

____________________

(١) المغني ٢ : ٦٢٨ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣١ ، حلية العلماء ٣ : ١٠٠.

(٢) المغني ٢ : ٦٢٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣١ ، حلية العلماء ٣ : ٩٩ ، المجموع ٦ : ٤٨ ، فتح العزيز ٦ : ٤١.

(٣) المغني ٢ : ٦٢٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٢ - ٦٣٣.

(٤) المغني ٢ : ٦٢٩ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٣٣.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٦٥.

(٦) في « ف » والطبعة الحجرية : فلو.

٢٢٧

سبب النقصان انفصاله.

وللشافعي قول آخر : إنّه ليس مالَ التجارة ؛ لأنّ الفائدة التي تحصل من عين المال لا تناسب الاستنماء بطريق التجارة(١) . وهو ممنوع.

إذا ثبت هذا ، فإنه يبتدئ بالحول في النتاج من حين انفصاله ، ولا يبني على حول الأصل ، خلافاً للشافعي(٢) ، وقد سبق(٣) .

فروع :

أ - لو اشترى من الماشية السائمة نصاباً للتجارة فنتجت ، فعندنا تقدّم زكاة المال ، ولا يتبع النتاج الاُمّهات في الحول ، فلم ينعقد سبب المالية في النتاج ، فيبقى سبب التجارة سالماً عن المعارض ، فينعقد حولها من حين الانفصال ، فتثبت الزكاة فيها بعد الحول ، ثم يعتبر حول المالية إن حصل السوم.

ب - لا يبنى النصاب هنا على نصاب الاُمّهات بمعنى أنه يقوّم النتاج بأحد النقدين فإن بلغت قيمته مائتي درهم أو عشرين ديناراً تعلّقت الزكاة به ، ولا يضمّ إلى الاُمّهات في النصاب ، لأنّ الاُمّهات لها زكاة بانفرادها ، ولا يكفي في اعتبار نصابها أربعون درهماً أو أربعة دنانير ، وإن كانت قيمة الاُمهات نصاباً فإشكال.

ج - لو اشترى حديقة للتجارة فأثمرت عنده ، وقلنا : إنّ ثمار التجارة مال تجارة ، أو اشتراها وهي مثمرة مع الثمار فبدا الصلاح عنده حكمنا بوجوب زكاة المال في الثمرة على ما قدّمناه.

ولا تسقط به زكاة التجارة عن قيمة الأشجار - وهو أحد وجهي‌

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٦٥.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٦٦.

(٣) سبق في المسألة ٣٤.

٢٢٨

الشافعية(١) - لأنّه ليس فيها زكاة مال حتى تسقط بها زكاة التجارة.

وفي الآخر : تسقط ، لأنّ المقصود منها ثمارها وقد أخذنا زكاتها(٢) .

وهو ممنوع.

وكذا لا تسقط عن أرض الحديقة.

وللشافعية طريقان : أحدهما : طرد الوجهين(٣) . والثاني : القطع بعدم السقوط ، لبُعد الأرض عن التبعية ؛ لأنّ الثمار خارجة عن الشجرة ، والشجرة حاصلة ممّا اُودع في الأرض لا من نفسها(٤) .

وأمّا الثمار التي اُخرج الزكاة المالية منها فإنّ حول التجارة ينعقد عليها أيضاً ، وتثبت الزكاة فيها في الأحوال المستقبلة للتجارة وإن كانت الماليّة لا تتكرر ، ويحسب ابتداء الحول للتجارة من وقت إخراج العشر بعد القطاف لا من وقت بدوّ الصلاح ، لأنّ عليه [ بعد ](٥) بدوّ الصلاح تربية [ الثمار ](٦) للمساكين ، فلا يجوز أن يحسب عليه وقت التربية.

د - لو اشترى أرضاً مزروعة للتجارة فأدرك الزرع ، والحاصل نصاب تعلّقت زكاة المال بالزرع ثم يبتدئ حول زكاة التجارة بعد التصفية ، وللشافعية الوجوه السابقة(٧) في الثمرة.

ولو اشترى أرضاً للتجارة وزرعها ببذر القُنية فعليه العُشر في الزرع ، وزكاة التجارة في الأرض ، ولا تسقط زكاة التجارة عن الأرض بأداء العُشر إجماعاً.

ه- الدَّين لا يمنع من زكاة التجارة كما لا يمنع من زكاة العين.

____________________

(١ و ٢ ) المجموع ٦ : ٥٢ ، فتح العزيز ٦ : ٨٣.

(٣) أي : الوجهان اللذان تقدّما آنفاً.

(٤) المجموع ٦ : ٥٢ ، فتح العزيز ٦ : ٨٣ - ٨٤.

(٥ و ٦ ) زيادة يقتضيها السياق.

(٧) سبق في المسألة ١٥٤ الوجهان للشافعي ، وانظر : فتح العزيز ٦ : ٨٣ ، والمجموع ٦ : ٥٢.

٢٢٩

الفصل الثاني

في باقي الأنواع التي تستحب فيها الزكاة‌

مسألة ١٥٧ : كلّ ما يخرج من الأرض من الغلّات غير الأربع تستحب فيها الزكاة‌ إن كان ممّا يكال أو يوزن كالعدس والماش والاُرز والذرّة وغيرها بشرط بلوغ النصاب في الغلّات الأربع - وهو خمسة أوسق - لعموم قولهعليه‌السلام : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )(١) .

والقدر المخرج هو العشر إن سقي سيحاً أو بعلاً أو عذياً ، ونصفه إن سقي بالقرب والدوالي كما في الغلّات.

ولو اجتمعا حكم للأغلب ، فإن تساويا قسّط ويؤخذ من نصفه العشر ومن نصفه نصف العُشر ، وتثبت بعد إخراج المؤن كالواجب.

ولا زكاة في الخُضراوات.

وفي ضمّ ما يزرع مرّتين في السنة كالذرّة بعضه مع بعض نظر ، وكذا الدّخن ، والأقرب : الضمّ ، لأنّها في حكم زرع عام واحد.

____________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ١٣٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٧٣ / ٩٧٩ ، سنن أبي داود ٢ : ٩٤ / ١٥٥٨ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٢ / ٦٢٦ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٢ / ١٧٩٤ ، سنن الدارقطني ٢ : ٩٩ / ٢٠ ، مسند أحمد ٢ : ٤٠٣ ، و ٣ : ٩٧ ، وسنن البيهقي ٤ : ١٢١.

٢٣٠

ويدلّ على استحباب الزكاة بعد ما تقدّم : قول الصادقعليه‌السلام : « كلّ ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة » وقال : « جعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الصدقة في كلّ شي‌ء أنبتته الأرض إلّا الخضر والبقول وكلّ شي‌ء يفسد من يومه »(١) .

وقالعليه‌السلام وقد سأله زرارة في الذرة شي‌ء؟ فقال : « الذرّة والعدس والسّلت والحبوب فيها مثل ما في الحنطة والشعير ، وكلّ ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق التي تجب فيها الزكاة فعليه فيه الزكاة»(٢) .

أمّا الخُضر فلا زكاة فيها إلّا أن تباع ، ويحول على ثمنها الحول ، وتكون الشرائط موجودةً فيه ، لقول الصادقعليه‌السلام : « ليس على الخضر ولا على البطيخ ولا على البقول وأشباهه زكاة إلّا ما اجتمع عندك من غلّة فبقي عندك سنة »(٣) .

وسأل زرارة الصادقعليه‌السلام هل في القَضْب(٤) شي‌ء؟ قال : « لا »(٥) .

وسأل الحلبي ، الصادقعليه‌السلام ما في الخضرة؟ قال : « وما هي؟ » قلت : القضب والبطيخ ومثله من الخضر. فقال : « لا شي‌ء عليه إلّا أن يباع مثله بمال فيحول عليه الحول ففيه الصدقة » وعن شجر العضاة(٦) من الفرسك(٧) وأشباهه فيه زكاة؟ قال : « لا » قلت : فثمنه(٨) ؟ قال : « ما حال‌

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٦٥ / ١٧٦ ، والكافي ٣ : ٥١٠ / ٢.

(٢) التهذيب ٤ : ٦٥ / ١٧٧.

(٣) الكافي ٣ : ٥١١ / ١ ، التهذيب ٤ : ٦٦ / ١٧٩.

(٤) القضب : كلّ نبت اقتضب واُكل طريّاً. مجمع البحرين ٢ : ١٤٤ « قضب ».

(٥) التهذيب ٤ : ٦٦ / ١٨٠.

(٦) العضاة : كلّ شجر يعظم وله شوك. الصحاح ٦ : ٢٢٤٠ « عضه ».

(٧) الفرسك : ضرب من الخوخ ليس يتفلّق عن نواه. الصحاح ٤ : ١٦٠٣ « فرسك ».

(٨) في « ف » والتهذيب : قيمته.

٢٣١

عليه الحول من ثمنه فزكِّه »(١) .

مسألة ١٥٨ : لا تجب الزكاة في الخيل‌ بإجماع أكثر العلماء ، وبه قال - في الصحابة - عليعليه‌السلام وعمر وابنه ، وفي التابعين : عمر بن عبد العزيز وعطاء والنخعي والشعبي والحسن البصري ، وفي الفقهاء : مالك والشافعي والأوزاعي والليث بن سعد واحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد(٢) .

لما رواه عليعليه‌السلام : « أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق »(٣) .

وقالعليه‌السلام : ( ليس في الجَبْهة ولا في النخّة ولا في الكسعة صدقة )(٤) والجبهة : الخيل ؛ والنخة : الرقيق ، والكسعة : الحمير(٥) .

وقال ابن قتيبة : هي العوامل من الإِبل والبقر والحمير.

ومن طريق الخاصة قول الباقرعليه‌السلام : « وليس في الحيوان غير هذه الثلاثة الأصناف شي‌ء »(٦) وعنى الإِبل والبقر والغنم.

وللأصل ، ولأنّ كلّ جنس لا تجب الزكاة في ذكورة إذا انفردت لا تجب في إناثه ، ولكونه كالحُمُر.

وقال أبو حنيفة : إن كانت ذكوراً وإناثاً وجب فيها ، وإن كانت إناثاً منفردة فروايتان ، وكذا إن كانت ذكوراً منفردة ؛ لما رواه الصادقعليه‌السلام عن الباقر‌

____________________

(١) الكافي ٣ : ٥١٢ / ٣ ، التهذيب ٤ : ٦٧ / ١٨٢.

(٢) المغني ٢ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، المجموع ٥ : ٣٣٩ ، بداية المجتهد ١ : ٢٥٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ٣٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٣.

(٣) سنن البيهقي ٤ : ١١٨ ، وشرح معاني الآثار ٢ : ٢٨ ، ومسند أحمد ١ : ١٢١ و ١٤٥.

(٤) سنن البيهقي ٤ : ١١٨ ، وغريب الحديث - للهروي - ١ : ٧.

(٥) قاله أبو عبيدة كما في غريب الحديث - للهروي - ١ : ٧.

(٦) التهذيب ٤ : ٢ / ٢ ، الاستبصار ٢ : ٢ / ٢.

٢٣٢

عليه‌السلام عن جابر أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( في الخيل السائمة في كلّ فرس دينار )(١) .

ولأنّه يطلب نماؤه من جهة السوم فأشبه النعم(٢) .

والحديث محمول على الاستحباب ، والنعم يضحّى بجنسها ، وتجب(٣) فيها من عينها ، بخلاف الخيل.

مسألة ١٥٩ : أجمع علماؤنا على استحباب الزكاة في الخيل بشروط ثلاثة : السوم والأنوثة والحول ، لأنّ زرارة قال للصادقعليه‌السلام : هل في البغال شي‌ء؟ قال : « لا » فقلت : فكيف صار على الخيل ولم يصر على البغال؟ فقال : « لأنّ البغال لا تلقح ، والخيل الإِناث ينتجن ، وليس على الخيل الذكور شي‌ء » قال ، قلت : هل على الفرس والبعير يكون للرجل يركبها شي‌ء؟ فقال : « لا ، ليس على ما يعلف شي‌ء ، إنّما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها(٤) عامها الذي يقتنيها فيه الرجل ، فأمّا ما سوى ذلك فليس فيه شي‌ء »(٥) .

مسألة ١٦٠ : قدر المخرج عن الخيل‌ عن كلّ فرس عتيق ديناران في كلّ حول ، وعن البرذون دينار واحد عند علمائنا ، لقول الباقر والصادقعليهما‌السلام : « وضع أمير المؤمنينعليه‌السلام على الخيل العتاق الراعية في كلّ‌

____________________

(١) سنن البيهقي ٤ : ١١٩.

(٢) المغني ٢ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، بدائع الصنائع ٢ : ٣٤ ، حلية العلماء ٣ : ١٣ - ١٤ ، فتح الباري ٣ : ٢٥٥.

(٣) أي : تجب الزكاة.

(٤) ورد في النُسخ الخطية المعتمدة في التحقيق ، والطبعة الحجرية : مراحها. وما أثبتناه من المصادر ، والمرج : الموضع الذي ترعى فيه الدواب. الصحاح ١ : ٣٤٠ ، القاموس المحيط ١ : ٢٠٧ « مرج ».

(٥) الكافي ٣ : ٥٣٠ / ٢ ، التهذيب ٤ : ٦٧ - ٦٨ / ١٨٤.

٢٣٣

فرس في كلّ عام دينارين ، وجعل على البراذين ديناراً »(١) .

وقال أبو حنيفة : يتخيّر صاحبها إن شاء أعطى من كلّ فرس ديناراً ، وإن شاء قوّمها وأعطى ربع عُشر قيمتها ؛ لما رواه جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام عن أبيه الباقرعليه‌السلام عن جابر : ( أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( في الخيل السائمة في كلّ فرس دينار )(٢) .

وهو دليل لنا لا له.

مسألة ١٦١ : العقار المتّخذ للنماء تستحب الزكاة في حاصله‌ ، ولا يشترط فيه الحول ولا النصاب ؛ للعموم ، بل يخرج ممّا يحصل منه ربع العُشر ، فإن بلغ نصاباً وحال عليه الحول وجبت الزكاة ، لوجود المقتضي ، ولا تستحب الزكاة في شي‌ء غير ذلك من الأثاث والأمتعة والأقمشة المتّخذة للقنية بإجماع العلماء.

____________________

(١) الكافي ٣ : ٥٣٠ / ١ ، التهذيب ٤ : ٦٧ / ١٨٣ ، الاستبصار ٢ : ١٢ / ٣٤.

(٢) بدائع الصنائع ٢ : ٣٤ ، المغني ٢ : ٤٨٦ - ٤٨٧ ، فتح الباري ٣ : ٢٥٥ ، حلية العلماء ٣ : ١٤ ، وانظر أيضاً : سنن البيهقي ٤ : ١١٩.

٢٣٤

٢٣٥

المقصد الرابع

في الإِخراج‌

وفيه فصول :

الأول : في من تخرج الزكاة إليه.

وفيه مباحث‌

٢٣٦

٢٣٧

الأول : في الأصناف‌

مسألة ١٦٢ : أصناف المستحقين للزكاة ثمانية‌ بإجماع العلماء ، وهُم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله :( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (١) .

وقد اختلف الفقهاء في الفقراء والمساكين أيّهما أسوأ حالاً ، فقال الشيخ : الفقير : الذي لا شي‌ء له ، والمسكين هو : الذي له بُلغة من العيش لا تكفيه(٢) . فجعل الفقير أسوأ حالاً ، وبه قال الشافعي والأصمعي(٣) ، لأنّه تعالى بدأ به ، والابتداء يدلّ على شدّة العناية والاهتمام في لغة العرب.

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله استعاذ من الفقر(٤) ، وقال : ( اللّهم أحيني مسكيناً ، وأمتني مسكيناً ، واحشرني في زمرة المساكين )(٥) .

____________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) المبسوط للطوسي ١ : ٢٤٦ ، الجمل والعقود ( الرسائل العشر ) : ٢٠٦.

(٣) المجموع ٦ : ١٩٦ - ١٩٧ ، حلية العلماء ٣ : ١٥١ - ١٥٢ ، المغني ٧ : ٣١٣.

(٤) سنن النسائي ٨ : ٢٦١ ، سنن البيهقي ٧ : ١٢ ، المستدرك - للحاكم - ١ : ٥٤٠ - ٥٤١ ، مسند أحمد ٢ : ٣٠٥ ، ٣٢٥ ، ٣٥٤.

(٥) سنن الترمذي ٤ : ٥٧٧ / ٢٣٥٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٨١ / ٤١٢٦ ، سنن البيهقي ٧ : ١٢ ، المستدرك - للحاكم - ٤ : ٣٢٢.

٢٣٨

ولقوله تعالى( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ) (١) وهي تساوي جملة من المال.

ولأنّ الفقر مشتق من كسر الفقار وذلك مهلك.

وقال آخرون : المسكين أسوأ حالاً من الفقير(٢) . وبه قال أبو حنيفة والفراء وثعلب وابن قتيبة ، واختاره أبو إسحاق(٣) ؛ لقوله تعالى( أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ) (٤) وهو المطروح على التراب ، لشدّة حاجته ، ولأنّه يؤكّد به ، ولقول الشاعر :

أمّا الفقير الذي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سبد(٥)

والمروي عن أهل البيتعليهم‌السلام هذا ، قال الصادقعليه‌السلام : « الفقير : الذي لا يسأل ، والمسكين أجهد منه ، والبائس أجهدهم »(٦) .

ولا فائدة للفرق بينهما في هذا الباب ؛ لأنّ الزكاة تدفع إلى كُلّ منهما ، والعرب تستعمل كلّ واحد منهما في معنى الآخر.

نعم يحتاج إلى الفرق بينهما في باب الوصايا والنذور وغيرهما ، والضابط في الاستحقاق : عدم الغنى الشامل لهما.

مسألة ١٦٣ : قد وقع الإِجماع على أنّ الغني لا يأخذ شيئاً من الزكاة‌ من‌

____________________

(١) الكهف : ٧٩.

(٢) منهم : الشيخ المفيد في المقنعة : ٣٩ ، وسلّار في المراسم : ١٣٢.

(٣) المبسوط - للسرخسي - ٣ : ٨ ، اللباب ١ : ١٥٣ - ١٥٤ ، المجموع ٦ : ١٩٦ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٢ ، المغني ٧ : ٣١٣ ، تفسير غريب القرآن - لابن قتيبة - : ١٨٨ ، أحكام القرآن - للجصّاص - ٣ : ١٢٢.

(٤) البلد : ١٦.

(٥) البيت للراعي ، كما في تهذيب اللغة - للأزهري - ٩ : ١١٤.

(٦) الكافي ٣ : ٥٠١ / ١٦ ، التهذيب ٤ : ١٠٤ / ٢٩٧.

٢٣٩

نصيب الفقراء ؛ للآية(١) ، ولقولهعليه‌السلام : ( لا تحلّ الصدقة لغني )(٢) .

ولكن اختلفوا في الغنى المانع من الأخذ ، فللشيخ قولان ، أحدهما : حصول الكفاية حولاً له ولعياله(٣) ، وبه قال الشافعي ومالك(٤) ، وهو الوجه عندي ، لأنّ الفقر هو الحاجة.

قال الله تعالى( يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ ) (٥) أي المحاويج إليه ، ومن لا كفاية له محتاج.

وقولهعليه‌السلام : ( لا تحلّ الصدقة إلّا لثلاثة : رجل أصابته فاقة حتى يجد سداداً من عيش ، أو قواماً من عيش )(٦) .

ومن طريق الخاصة قول الصادقعليه‌السلام : « لا تحل(٧) لغني » يعني الصدقة ، قال هارون بن حمزة فقلت له : الرجل يكون له ثلاثمائة درهم في بضاعته وله عيال ، فإن أقبل عليها أكلها عياله ولم يكتفوا بربحها؟ قال : « فلينظر ما يستفضل منها فيأكله هو ومن يسعه ذلك ، وليأخذ لمن لم يسعه من عياله »(٨) .

____________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ١١٨ / ١٦٣٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٨٩ / ١٨٣٩ ، سنن الترمذي ٣ : ٤٢ / ٦٥٢ ، سنن النسائي ٥ : ٩٩ ، المستدرك - للحاكم - ١ : ٤٠٧ ، مسند أحمد ٢ : ١٦٤ ، ١٩٢ ، ٣٨٩ و ٥ : ٣٧٥.

(٣) الخلاف ، كتاب قسم الصدقات ، المسألة ٢٤ ، المبسوط للطوسي ١ : ٢٥٦.

(٤) المجموع ٦ : ١٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٣ ، المغني ٢ : ٥٢٢ و ٧ : ٣١٥ ، الشرح الكبير ٢ : ٦٨٩.

(٥) فاطر : ١٥.

(٦) صحيح مسلم ٢ : ٧٢٢ / ١٠٤٤ ، سنن أبي داود ٢ : ١٢٠ / ١٦٤٠ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٢٠ / ٢ ، سنن الدارمي ١ : ٣٩٦ ، وفيها بدل ( لا تحل الصدقة ) : ( لا تحل المسألة ).

(٧) في المصدر : « لا تصلح ».

(٨) التهذيب ٤ : ٥١ / ١٣٠.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425