الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128786 / تحميل: 6817
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الإنسان أنّه مادّيّ محض ليس له من الحياة إلّا الحياة المعجّلة المؤجّلة بالموت و أن ليس في دار الوجود إلّا السبب المادّيّ الكائن الفاسدة ينظمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤدّيهم إلى اللذائذ المحسوسة و الكمالات المادّيّة ما وراءها شي‏ء.

و المعتقدون بصانع وراء المادّة كالوثنيّة يبنون سننهم و قوانينهم على إرضاء الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيويّة و المعتقدون بالمبدإ و المعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدنيويّة ثمّ في الحياة المؤبّدة الّتي بعد الموت فصور الحياة الاجتماعيّة تختلف باختلاف الاُصول الاعتقاديّة في حقيقة العالم و الإنسان الّذي هو جزء من أجزائه.

و أمّا القوانين و السنن الاجتماعيّة فلو لا وجود قوانين و سنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو أكثرهم و يتسلّمونها تفرّق الجمع و انحلّ المجتمع.

و هذه السنن و القوانين قضايا كلّيّة عمليّة صورها: يجب أن يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز و هي أيّاً ما كانت معتبرة في العمل لغايات مُصلحة للاجتماع و المجتمع تترتّب عليها تسمّى مصالح الأعمال و مفاسدها.

٣- قد عرفت أنّ الإنسان إنّما ينال ما قدّر له من كمال و سعادة بعقد مجتمع صالح يحكم فيه سنن و قوانين صالحة تضمن بلوغه و نيله سعادته الّتي تليق به و هذه السعادة أمر أو اُمور كماليّة تكوينيّة تلحق الإنسان الناقص الّذي هو أيضاً موجود تكوينيّ فتجعله إنساناً كاملاً في نوعه تامّاً في وجوده.

فهذه السنن و القوانين - و هي قضايا عمليّة اعتبارية - واقعة بين نقص الإنسان و كماله متوسّطة كالعبرة بين المنزلتين و هي كما عرفت تابعة للمصالح الّتي هي كمال أو كمالات إنسانيّة، و هذه الكمالات اُمور حقيقيّة مسانخة ملائمة للنواقص الّتي هي مصاديق حوائج الإنسان الحقيقيّة.

فحوائج الإنسان الحقيقيّة هي الّتي وضعت هذه القضايا العمليّة و اعتبرت هذه النواميس الاعتباريّة، و المراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الإنسانيّة بأميالها

٢٠١

و عزائمها و يصدّقه العقل الّذي هو القوّة الوحيدة الّتي تميّز بين الخير و النافع و بين الشرّ و الضارّ دون ما تطلبه الأهواء النفسانيّة ممّا لا يصدّقه العقل فإنّه كمال حيوانيّ غير إنسانيّ.

فاُصول هذه السنن و القوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقيّة الّتي هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانيّة.

و قد عرفت أنّ الصنع و الإيجاد قد جهّز كلّ نوع من الأنواع - و منها الإنسان - من القوى و الأدوات بما يرتفع بفعّاليّته حوائجه و يسلك به سبيل الكمال و منه يستنتج أنّ للجهازات التكوينيّة الّتي جهّز بها الإنسان اقتضاءات للقضايا العمليّة المسمّاة بالسنين و القوانين الّتي بالعمل بها يستقرّ الإنسان في مقرّ كماله مثل السنن و القوانين الراجعة إلى التغذّي المعتبرة بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التغذّي و الراجعة إلى النكاح بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التوالد و التناسل.

فتبيّن أنّ من الواجب أن يتّخذ الدين - أي الاُصول العلميّة و السنن و القوانين العمليّة الّتي تضمن باتّخاذها و العمل بها سعادة الإنسان الحقيقيّة - من اقتضاءات الخلقة الإنسانيّة و ينطبق التشريع على الفطرة و التكوين، و هذا هو المراد بكون الدين فطرياً و هو قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) .

٤- قد عرفت معنى كون الدين فطريّاً فالإسلام يسمّى دين الفطرة لما أنّ الفطرة الإنسانيّة تقتضيه و تهدي إليه.

و يسمّى إسلاماً لما أنّ فيه تسليم العبد لإرادة الله سبحانه منه، و مصداق الإرادة و هي صفة الفعل تجمّع العلل المؤلّفة من خصوص خلقة الإنسان و ما يحتفّ به من مقتضيات الكون العامّ على اقتضاء الفعل أو الترك قال تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) .

و يسمّى دين الله لأنّه الّذي يريده الله من عباده من فعل أو ترك، بما مرّ من معنى الإرادة.

٢٠٢

و يسمّى سبيل الله لما أنّه السبيل الّتي أرادها الله أن يسلكها الإنسان لتنتهي به إلى كماله و سعادته، قال تعالى:( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً ) الأعراف: ٤٥.

و أمّا أنّ الدين الحقّ يجب أن يؤخذ من طريق الوحي و النبوّة و لا يكفي فيه العقل فقد تقدّم بيانه في مباحث النبوّة و غيرها من مباحث الكتاب.

٢٠٣

( سورة الروم الآيات ٤٠ - ٤٧)

اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ  هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٤٠ ) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٤١ ) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ  كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ( ٤٢ ) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ  يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( ٤٣ ) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ  وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( ٤٤ ) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( ٤٥ ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٤٦ ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا  وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ )

( بيان)

هذا هو الفصل الثاني من الفصول الأربعة الّتي يحتجّ فيها بالأفعال الخاصّة به و إن شئت فقل: بأسماء الأفعال على إبطال الشركاء و نفي ربوبيّتهم و اُلوهيّتهم و على إثبات المعاد.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ

٢٠٤

شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، اسم الجلالة مبتدأ و( الَّذِي خَلَقَكُمْ ) خبره، و كذا قوله:( مَنْ يَفْعَلُ ) إلخ مبتدأ خبره( مِنْ شُرَكائِكُمْ ) المقدّم عليه و الاستفهام إنكاريّ و قد ذكر في تركيب الآية احتمالات اُخر.

و المعنى: أنّ الله سبحانه هو الّذي اتّصف بكذا و كذا وصفاً من أوصاف الاُلوهيّة و الربوبيّة فهل من الآلهة الّذين تدّعون أنّهم آلهة من يفعل شيئاً من ذلكم يعني من الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء و إذ ليس منهم من يفعل شيئاً من ذلكم فالله سبحانه هو إلهكم و ربّكم لا إله إلّا هو.

و لعلّ الوجه في ذكر الخلق مع الرزق و الإحياء و الإماتة مع تكرّر تقدّم ذكره في سلك الاحتجاجات السابقة الإشارة إلى أنّ الرزق لا ينفكّ عن الخلق بمعنى أنّ بعض الخلق يسمّى بالقياس إلى بعض آخر يديم بقاءه به رزقاً فالرزق في الحقيقة من الخلق فالّذي يخلق الخلق هو الّذي يرزق الرزق.

فليس لهم أن يقولوا: إنّ الرازق و كذا المحيي و المميت بعض آلهتنا كما ربّما يدّعيه بعضهم أنّ مدبّر عالم الإنسان بعض الآلهة و مدبّر كلّ شأن من شؤن العالم من الخيرات و الشرور بعضهم لكنّهم لا يختلفون أنّ الخلق و الإيجاد منه تعالى لا يشاركه في ذلك أحد فإذا سلّم ذلك و من المسلّم أنّ الرزق مثلاً خلق و كذا سائر الشؤن لا تنفكّ عن الخلق رجع الأمر كالخلق إليه تعالى و لم يبق لآلهتهم شأن من الشؤن.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن شركهم فقال:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

قوله تعالى: ( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الآية بظاهر لفظها عامّة لا تختصّ بزمان دون زمان أو بمكان أو بواقعة خاصّة، فالمراد بالبرّ و البحر معناهما المعروف و يستوعبان سطح الكرة الأرضيّة.

و المراد بالفساد الظاهر المصائب و البلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق الأرض من الزلازل و قطع الأمطار و السنين و الأمراض السارية و الحروب و الغارات و ارتفاع الأمن و بالجملة كلّ ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الأرضيّ سواء

٢٠٥

كان مستنداً إلى اختيار الناس أو غير مستند إليه. فكلّ ذلك فساد ظاهر في البرّ أو البحر مخلّ بطيب العيش الإنسانيّ.

و قوله:( بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) أي بسبب أعمالهم الّتي يعملونها من شرك أو معصية و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) الآية الأعراف: ٩٦ و أيضاً في مباحث النبوّة من الجزء الثاني من الكتاب أنّ بين أعمال الناس و الحوادث الكونيّة رابطة مستقيمة يتأثّر إحداهما من صلاح الاُخرى و فسادها.

و قوله:( لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ) اللّام للغاية، أي ظهر ما ظهر لأجل أن يذيقهم الله وبال بعض أعمالهم السيّئة بل ليذيقهم نفس ما عملوا و قد ظهر في صورة الوبال و إنّما كان بعض ما عملوا لأنّ الله سبحانه برحمته يعفو عن بعض كما قال:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: ٣٠.

و الآية ناظرة إلى الوبال الدنيويّ و إذاقة بعضه لأكّله من غير نظر إلى وبال الأعمال الاُخروي فما قيل: إنّ المراد إذاقة الوبال الدنيويّ و تأخير الوبال الاُخرويّ إلى يوم القيامة لا دليل عليه و لعلّه جعل تقدير الكلام:( ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا) مع أنّ التقدير( ليذيقهم جزاء بعض ما عملوا) ، لأنّ الّذي يحوجنا إلى تقدير المضاف - لو أحوجنا - هو أنّ الراجع إليهم ثانياً في صورة الفساد هو جزاء أعمالهم لا نفس أعمالهم فالّذي اُذيقوا هو جزاء بعض ما عملوا لا بعض جزاء ما عملوا.

و قوله:( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي يذيقهم ما يذيقهم رجاء أن يرجعوا من شركهم و معاصيهم إلى التوحيد و الطاعة.

و وجه اتّصال الآية بما قبلها أنّه لمّا احتجّ في الآية السابقة على التوحيد و نزّهه عن شركهم أشار في هذه الآية إلى ما يستتبع الشرك - و هو معصية - من الفساد في الأرض و إذاقة وبال السيّئات فبيّن ذلك بيان عامّ.

و لهم في الآية تفاسير مختلفة عجيبة كقول بعضهم المراد بالأرض أرض مكّة و قول بعضهم: المراد بالبرّ القفار الّتي لا يجري فيها نهر و بالبحر كلّ قرية على شاطئ نهر

٢٠٦

عظيم، و قول بعضهم: البرّ الفيافي و مواضع القبائل و البحر السواحل و المدن الّتي عند البحر و النهر، و قول بعضهم: البرّ البريّة و البحر المواضع المخصبة الخضرة، و قول بعضهم: إنّ هناك مضافاً محذوفاً و التقدير في البرّ و مدن البحر، و لعلّ الّذي دعاهم إلى هذه الأقاويل ما ورد أنّ الآية ناظرة إلى القحط الّذي وقع بمكّة إثر دعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قريش لمّا لجّوا في كفرهم و داموا على عنادهم فأرادوا تطبيق الآية على سبب النزول فوقعوا فيما وقعوا من التكلّف.

و قول بعضهم: إنّ المراد بالفساد في البرّ قتل ابن آدم أخاه و في البحر أخذ كلّ سفينة غصباً و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار الّذين كانوا من قبل حيث خربت ديارهم و عفت آثارهم و بادوا عن آخرهم و انقطع دابرهم بأنواع من النوائب و البلايا كان أكثرهم مشركين فأذاقهم الله بعض ما عملوا ليعتبر به المعتبرون فيرجعوا إلى التوحيد، فالآية في مقام الاستشهاد لمضمون الآية السابقة.

قوله تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) تفريع على ما تقدّمه أي إذا كان الشرك و الكفر بالحقّ بهذه المثابة و له وبال سيلحق بالمتلبّس به فأقم وجهك للدين القيّم.

و قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) متعلّق بقوله:( فَأَقِمْ ) و المرد مصدر ميميّ بمعنى الردّ و هو بمعنى الرادّ و اليوم الّذي لا مردّ له من الله يوم القيامة.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) أصله يتصدّعون، و التصدّع في الأصل تفرّق أجزاء الأواني ثمّ استعمل في مطلق التفرّق كما قيل، و المراد به - كما قيل - تفرّقهم يومئذ إلى الجنّة و النار.

و قيل: المراد تفرّق الناس بأشخاصهم كما يشير إليه قوله تعالى:( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) القارعة: ٤ و لكلّ وجه، و لعلّ الأظهر امتياز الفريقين كما سيأتي.

قوله تعالى: ( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) الظاهر

٢٠٧

أنّه تفسير لقوله في الآية السابقة:( يَتَفَرَّقُونَ ) و قوله:( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) أي وبال كفره بتقدير المضاف أو نفس كفره الّذي سينقلب عليه ناراً يخلّد فيها و هذا أحد الفريقين.

و قوله:( وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) مهد الفراش بسطه و إيطاؤه، و هؤلاء الفريق الآخر الّذين آمنوا و عملوا الصالحات، و قد جي‏ء بالجزاء( فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) جمعاً نظراً إلى المعنى، كما أنّه جي‏ء به مفرداً في الشرطيّة السابقة( فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) نظراً إلى اللفظ، و اكتفى في الشرط بذكر العمل الصالح و لم يذكر الإيمان معه لأنّ العمل إنّما يصلح بالإيمان على أنّه مذكور في الآية التالية.

و المعنى: و الّذين عملوا عملاً صالحاً - بعد الإيمان - فلأنفسهم يوطئون ما يعيشون به و يستقرّون عليه.

قوله تعالى: ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) قال الراغب: الجزاء الغناء و الكفاية، قال الله تعالى:( لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ) ، و قال:( لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ) و الجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ، يقال: جزيته كذا و بكذا. انتهى.

و قوله:( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ ) اللّام للغاية و لا ينافي عدّ ما يؤتيهم جزاء - و فيه معنى المقابلة - عدّه من فضله و فيه معنى عدم الاستحقاق و ذلك لأنّهم بأعيانهم و ما يصدر عنهم من أعمالهم ملك طلق لله سبحانه فلا يملكون لأنفسهم شيئاً حتّى يستحقّوا به أجراً، و أين العبوديّة من الملك و الاستحقاق فما يؤتونه من الجزاء فضل من غير استحقاق.

لكنّه سبحانه بفضله و رحمته اعتبر لهم ملكاً لأعمالهم في عين أنّه يملكهم و يملك أعمالهم فجعل لهم بذلك حقّاً يستحقّونه، و جعل ما ينالونه من الجنّة و الزلفى أجراً مقابلاً لأعمالهم و هذا الحقّ المجعول أيضاً فضل آخر منه سبحانه.

و منشأ ذلك حبّه تعالى لهم لأنّهم لمّا أحبّوا ربّهم أقاموا وجوههم للدين القيّم و اتّبعوا الرسول فيما دعا إليه فأحبّهم الله كما قال:( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي

٢٠٨

يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) آل عمران: ٣١.

و لذا كانت الآية تعدّ ما يؤتيهم الله من الثواب جزاء و فيه معنى المقابلة و المبادلة و تعدّ ذلك من فضله نظراً إلى أنّ نفس هذه المقابلة و المبادلة فضل منه سبحانه و منشأه حبّه تعالى لهم كما يومئ إليه تذييل الآية بقوله:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) .

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) ، يفيد التعليل بالنسبة إلى جانبي النفي و الإثبات جميعاً أي إنّه تعالى يخصّ المؤمنين العاملين للصالحات بهذا الفضل و يحرم الكافرين منه لأنّه يحبّ هؤلاء و لا يحبّ هؤلاء.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ، المراد بكون الرياح مبشّرات تبشيرها بالمطر حيث تهبّ قبيل نزوله.

و قوله:( وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) عطف على موضع مبشّرات لما فيه من معنى التعليل و التقدير يرسل الرياح لتبشّركم و ليذيقكم من رحمته و المراد بإذاقة الرحمة إصابة أنواع النعم المترتّبة على جريان الرياح كتلقيح الأشجار و دفع العفونات و تصفية الأجواء و غير ذلك ممّا يشمله إطلاق الجملة.

و قوله:( وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ) أي لجريان الرياح و هبوبها. و قوله:( وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) أي لتطلبوا من رزقه الّذي هو من فضله.

و قوله:( وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ، غاية معنويّة كما أنّ الغايات المذكورة من قبل غايات صوريّة، و الشكر هو استعمال النعمة بنحو ينبئ عن إنعام منعمه أو الثناء اللفظيّ عليه بذكر إنعامه، و ينطبق بالأخرة على عبادته و لذلك جي‏ء بلعلّ المفيدة للرجاء فإنّ الغايات المعنويّة الاعتباريّة ربّما تخلّفت.

قوله تعالى: ( لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى‏ قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) قال الراغب: أصل الجرم - بالفتح فالسكون - قطع الثمرة عن الشجر - إلى أن قال - و أجرم صار ذا جرم نحو أثمر و أتمر و ألبن و أستعير ذلك لكلّ اكتساب مكروه، و لا يكاد يقال في عامّة كلامهم للكيّس المحمود انتهى.

٢٠٩

و الآية كالمعترضة و كأنّها مسوقة لبيان أنّ للمؤمنين حقّاً على ربّهم و هو نصرهم في الدنيا و الآخرة و منه الانتقام من المجرمين، و هذا الحقّ مجعول من قبله تعالى لهم على نفسه فلا يرد عليه محذور لزوم كونه تعالى مغلوباً في نفسه مقهوراً محكوماً لغيره.

و قوله:( فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) الفاء فصيحة أي فآمن بعضهم و أجرم آخرون فانتقمنا من المجرمين و كان حقّاً علينا نصر المؤمنين بإنجائهم من العذاب و إهلاك مخالفيهم، و في الآية بعض الإشعار بأنّ الانتقام من المجرمين لأجل المؤمنين فإنّه من النصر.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) قال: في البرّ فساد الحيوان إذا لم يمطر و كذلك هلاك دوابّ البحر بذلك. و قال الصادقعليه‌السلام : حياة دوابّ البحر بالمطر فإذا كفّ المطر ظهر الفساد في البرّ و البحر، و ذلك إذا كثرت الذنوب و المعاصي.

أقول: و هو من الجري.

و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي الربيع الشاميّ قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ) فقال: عنى بذلك أي انظروا في القرآن فانظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلكم.

و في المجمع في قوله:( وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) روى منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنّة فيمهد له كما يمهد لأحدهم خادمه فراشه.

و فيه، و جاءت الرواية عن اُمّ الدرداء أنّها قالت: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ما من امرئ يردّ عن عرض أخيه إلّا كان حقّاً على الله أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة ثمّ قرأ:( كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) .

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء.

٢١٠

( سورة الروم الآيات ٤٨ - ٥٣)

اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ  فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( ٤٨ ) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ( ٤٩ ) فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ  وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٥٠ ) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ( ٥١ ) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ( ٥٢ ) وَمَا أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ  إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ( ٥٣ )

( بيان)

هذا هو الفصل الثالث من الآيات المحتجّة من طريق أفعاله تعالى و إن شئت فقل: أسماء أفعاله و عمدة غرضها الاحتجاج على المعاد، و لمّا كان عمدة إنكارهم و جحودهم متوجّها إلى المعاد و بإنكاره يلغو الأحكام و الشرائع فيلغو التوحيد عقّب الاحتجاج بإيئاس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمره بأن يشتغل بدعوة في نفسه استعداد الإيمان و صلاحية الإسلام و التسليم للحقّ.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ) إلى آخر الآية، الإثارة التحريك و النشر و السحاب الغمام و السماء جهة العلو فكلّ ما علاك و أظلّك فهو سماء و الكسف بالكسر فالفتح جمع كسفة و هي القطعة و الودق

٢١١

القطر من المطر و الخلال جمع خلّة و هي الفرجة.

و المعنى: الله الّذي يرسل الرياح فتحرّك و تنشر سحاباً و يبسط ذلك السحاب في جهة العلو من الجوّ كيف يشاء سبحانه و يجعله قطعات متراكبة متراكمة فترى قطر المطر يخرج من فرجه فإذا أصاب بذلك المطر من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون لأنّه مادّة حياتهم و حياة الحيوان و النبات.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ) الإبلاس: اليأس و القنوط.

و ضمير( يُنَزَّلَ ) للمطر و كذا ضمير( مِنْ قَبْلِهِ ) على ما قيل، و عليه يكون( مِنْ قَبْلِهِ ) تأكيداً لقوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ) و فائدة التأكيد - على ما قيل - الاعلام بسرعة تقلّب قلوب البشر من اليأس إلى الاستبشار، و ذلك أنّ قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ) يحتمل الفسحة في الزمان فجاء( مِنْ قَبْلِهِ ) للدلالة على الاتّصال و دفع ذلك الاحتمال.

و في الكشّاف، أنّ قوله:( مِنْ قَبْلِهِ ) من باب التكرير و التوكيد كقوله تعالى:( فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها ) و معنى التوكيد فيه الدلالة على أنّ عهدهم بالمطر قد تطاول و بعد فاستحكم يأسهم و تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. انتهى.

و ربّما قيل: إنّ ضمير( مِنْ قَبْلِهِ ) لإرسال الرياح، و المعنى: و إن كانوا من قبل أن ينزّل عليهم المطر من قبل إرسال الرياح لآيسين قانطين.

قوله تعالى: ( فَانْظُرْ إِلى‏ آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى‏ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) الآثار جمع الأثر و هو ما يبقى بعد الشي‏ء فيدلّ عليه كأثر القدم و أثر البناء و أستعير لكلّ ما يتفرّع على شي‏ء، و المراد برحمة الله المطر النازل من السحاب الّذي بسطته الرياح، و آثارها ما يترتّب على نزول المطر من النبات و الأشجار و الأثمار و هي بعينها آثار حياة الأرض بعد موتها.

و لذا قال:( فَانْظُرْ إِلى‏ آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) فجعل

٢١٢

آثار الرحمة الّتي هي المطر كيفيّة إحياء الأرض بعد موتها، فحياة الأرض بعد موتها من آثار الرحمة و النبات و الأشجار و الأثمار من آثار حياتها و هي أيضاً من آثار الرحمة و التدبير تدبير إلهيّ يتفرّع على خلقة الرياح و السحاب و المطر.

و قوله:( إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) الإشارة بذلك إليه تعالى بما له من الرحمة الّتي من آثارها إحياء الأرض بعد موتها، و في الإشارة البعيدة تعظيم، و المراد بالموتى موتى الإنسان أو الإنسان و غيره من ذوي الحياة.

و المراد بقوله:( إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) الدلالة على المماثلة بين إحياء الأرض الميتة و إحياء الموتى إذ في كلّ منهما موت هو سقوط آثار الحياة من شي‏ء محفوظ و حياة هي تجدّد تلك الآثار بعد سقوطها، و قد تحقّق الإحياء في الأرض و النبات و حياة الإنسان و غيره من ذوي الحياة مثلها و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، فإذا جاز الإحياء في بعض هذه الأمثال و هو الأرض و النبات فليجز في البعض الآخر.

و قوله:( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) تقرير للإحياء المذكور ببيان آخر و هو عموم القدرة فإنّ القدرة غير محدودة و لا متناهية فيشمل الإحياء بعد الموت و إلّا لزم تقيّدها و قد فرضت مطلقة غير محدودة.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ) ضمير( فَرَأَوْهُ ) للنبات المفهوم من السياق، و قوله( لَظَلُّوا ) جواب للقسم قائم مقام الجزاء، و المعنى: و اُقسم لئن أرسلنا ريحاً باردة فضربت زروعهم و أشجارهم بالصفار و رأوه لظلّوا بعده كافرين بنعمه.

ففي الآية توبيخهم بالتقلّب السريع في النعمة و النقمة، فإذا لاحت لهم النعمة بادروا إلى الاستبشار، و إذا اُخذ بعض ما أنعم الله به من فضله لم يلبثوا دون أن يكفروا بالمسلّمات من النعم.

و قيل: ضمير( فَرَأَوْهُ ) للسحاب لأنّ السحاب إذا كان أصفر لم يمطر، و قيل: للريح فإنّه يذكّر و يؤنّث، و القولان بعيدان.

٢١٣

قوله تعالى: ( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى -‏ إلى قوله -فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) تعليل لما يفهم من السياق السابق كأنّه قيل: لا تشتغل و لا تحزن بهؤلاء الّذين تتبدّل بهم الأحوال من إبلاس و استبشار و كفر و من عدم الإيمان بآياتنا و عدم تعقّلها فإنّهم موتى و صمّ و عمي و أنت لا تقدر على إسماعهم و هدايتهم و إنّما تسمع و تهدي من يؤمن بآياتنا أي يعقل هذه الحجج و يصدّقها فهم مسلمون. و قد تقدّم تفسير الآيتين في سورة النمل.

٢١٤

( سورة الروم الآيات ٥٤ - ٦٠)

اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً  يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ  وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ( ٥٤ ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ  كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ( ٥٥ ) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ  فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٥٦ ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( ٥٧ ) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ  وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ( ٥٨ ) كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ( ٥٩ ) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ  وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ( ٦٠ )

( بيان)

هذا هو الفصل الرابع من الآيات و هو كسابقه و فيها ختام السورة.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً ) إلخ، الضعف و القوّة متقابلان، و( مِنْ ) في قوله:( مِنْ ضَعْفٍ‏ ) للابتداء أي ابتداء خلقكم من ضعف أي ابتدأكم ضعفاء، و مصداقه على ما تفيده المقابلة أوّل الطفوليّة و إن أمكن صدقه على النطفة.

و المراد بالقوّة بعد الضعف بلوغ الأشدّ و بالضعف بعد القوّة الشيخوخة و لذا عطف عليه( شَيْبَةً ) عطف تفسير، و تنكير( ضَعْفٍ ) و( قُوَّةً ) للدلالة على الإبهام و عدم

٢١٥

تعيّن المقدار لاختلاف الأفراد في ذلك.

و قوله:( يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) أي كما شاء الضعف فخلقه ثمّ القوّة بعده فخلقها ثمّ الضعف بعدها فخلقه و في ذلك أتمّ الإشارة إلى أنّ تتالي هذه الأحوال من الخلق و إذ كان هذا النقل من حال إلى حال في عين أنّه تدبير خلقاً فهو لله الخالق للأشياء فليس لقائل منهم أن يقول: إنّ ذلك من التدبير الراجع إلى إله الإنسان، مثلاً كما يقوله الوثنيّة.

ثمّ تمّم الكلام بالعلم و القدرة فقال:( وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) .

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ) ، هذه الآيات كالذنابة للآيات السابقة العادّة للآيات و الحجج على وحدانيّته تعالى و البعث، و كالتمهيد و التوطئة للآية الّتي تختتم بها السورة فإنّه لما عدّ شيئاً من الآيات و الحجج و أشار إلى أنّهم ليسوا ممّن يترقّب منهم الإيمان أو يطمع في إيمانهم أراد أن يبيّن أنّهم في جهل من الحقّ يتلقّون الحديث الحقّ باطلاً و الآيات الصريحة الدلالة منعزلة عن دلالتها و كذلك يؤفكون و لا عذر لهم يعتذرون به.

و هذا الإفك و التقلّب من الحقّ إلى الباطل يدوم عليهم و يلازمهم حتّى قيام الساعة فيظنّون أنّهم لم يلبثوا في قبورهم فيما بين الموت و البعث غير ساعة من نهار فاشتبه عليهم أمر البعث كما اشتبه عليهم كلّ حقّ فظنّوه باطلاً.

فقوله:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) ، يحكي عنهم اشتباه الأمر عليهم في أمر الفصل بين الدنيا و يوم البعث حتّى ظنّوه ساعة من ساعات الدنيا.

و قوله:( كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ) أي يصرفون من الحقّ إلى الباطل فيدعون إلى الحقّ و يقام عليه الحجج و الآيات فيظنّونه باطلاً من القول و خرافة من الرأي.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ) إلخ، ردّ منهم لقول المجرمين:( ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) فإنّ المجرمين لإخلادهم إلى الأرض و توغّلهم في نشأة الدنيا يرون يوم البعث و الفصل بينه

٢١٦

و بين الدنيا محكوماً بنظام الدنيا فقدّروا الفصل بساعة و هو مقدار قليل من الزمان كأنّهم ظنّوا أنّهم بعد في الدنيا لأنّه مبلغ علمهم.

فردّ عليهم أهل العلم و الإيمان أنّ اللبث مقدّر بالفصل بين الدنيا و يوم البعث و هو الفصل الّذي يشير إليه قوله:( وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) المؤمنون: ١٠٠.

فاستنتجوا منه أنّ اليوم يوم البعث و لكنّ المجرمين لمّا كانوا في ريب من البعث و لم يكن لهم يقين بغير الدنيا ظنّوا أنّهم لم يمرّ بهم إلّا ساعة من ساعات الدنيا و هذا معنى قولهم:( لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ، أي كنتم جاهلين مرتابين لا يقين لكم بهذا اليوم و لذلك اشتبه عليكم أمر اللبث.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله:( أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ ) ، اليقين و الالتزام بمقتضاه و أنّ العلم بمعنى اليقين بالله و بآياته و الإيمان بمعنى الالتزام بمقتضى اليقين من الموهبة الإلهيّة، و من هنا يظهر أيضاً أنّ المراد بكتاب الله الكتب(١) السماويّة أو خصوص القرآن لا غيره و قول بعضهم: إنّ في الآية تقديماً و تأخيراً و التقدير و قال الّذين اُوتوا العلم و الإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث لا يعتدّ به.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) الاستعتاب طلب العتبى، و العتبى إزالة العتاب أي لا ينفعهم المعذرة عن ظلمهم و لا يطلب منهم أن يزيلوا العتاب عن أنفسهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ) إلخ، إشارة إلى كونهم مأفوكين مصروفين عن الحقّ حيث لا ينفعهم مثل يقرّب الحقّ من قلوبهم لأنّها مطبوع عليها، و لذا عقّبه بقوله:( وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) أي جاؤن بالباطل و هذا القول منهم لأنّهم مصروفون عن الحقّ يرون كلّ حقّ باطلاً، و وضع الموصول و الصلة موضع الضمير للدلالة على سبب القول.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ، أي يجهلون بالله

____________________

(١) و يمكن أن يكون المراد بكتاب الله اللوح المحفوظ فيكون ذلك استدلالاً على قولهم بكتاب الله و يكون نظير ما في قوله: ( هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ) الجاثية: ٢٩ بناء على ما سيأتي من معناه منه.

٢١٧

و آياته و منها البعث و هم يصرّون على جهلهم و ارتيابهم.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) ، أي فاصبر على ما يواجهونك به من قولهم:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) و سائر تهكّماتهم، إنّ وعد الله أنّه ينصرك حقّ كما أومأ إليه بقوله:( كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) ، و لا يستخفّنّك الّذين لا يوقنون بوعد الله سبحانه.

و قول بعضهم: إنّ المعنى لا يوقنون بما تتلو عليهم من الآيات البيّنات بتكذيبهم لها و إيذائهم لك بأباطيلهم، ليس بشي‏ء و قد بدأت السورة بالوعد و ختمت بالوعد و الوعدان جميعاً بالنصرة.

٢١٨

( سورة لقمان مكّيّة، و هي أربع و ثلاثون آية)

( سورة لقمان الآيات ١ - ١١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم ( ١ ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( ٢ ) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ( ٣ ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( ٤ ) أُولَئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٥ ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا  أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( ٦ ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا  فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٧ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ( ٨ ) خَالِدِينَ فِيهَا  وَعْدَ اللهِ حَقًّا  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٩ ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا  وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ  وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( ١٠ ) هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ  بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ١١ )

( بيان)

غرض السورة كما يومئ إليه فاتحتها و خاتمتها و يشير إليه سياق عامّة آياتها الدعوة إلى التوحيد و الإيقان بالمعاد و الأخذ بكلّيّات شرائع الدين.

و يلوح من صدر السورة أنّها نزلت في بعض المشركين حيث كان يصدّ الناس عن استماع القرآن بنشر بعض أحاديث مزوّقة ملهية كما ورد فيه الأثر في سبب نزول قوله:

٢١٩

( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) الآية، و سيوافي حديثه. فنزلت السورة تبيّن اُصول عقائد الدين و كلّيّات شرائعه الحقّة و قصّت شيئاً من خبر لقمان الحكيم و مواعظه تجاه أحاديثهم الملهية.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها. و من غرر الآيات فيها قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ ) الآية.

قوله تعالى: ( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ - إلى قوله -يُوقِنُونَ ) تقدّم تفسير مفردات هذه الآيات في السور السابقة.

و قد وصف الكتاب بالحكيم إشعاراً بأنّه ليس من لهو الحديث من شي‏ء بل كتاب لا انثلام فيه ليداخله لهو الحديث و باطل القول، و وصفه أيضاً بأنّه هدى و رحمة للمحسنين تتميماً لصفة حكمته فهو يهدي إلى الواقع الحقّ و يوصل إليه لا كاللهو الشاغل للإنسان عمّا يهمّه، و هو رحمة لا نقمة صارفة عن النعمة.

و وصف المحسنين بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة اللتين هما العمدتان في الأعمال و بالإيقان بالآخرة و يستلزم التوحيد و الرسالة و عامّة التقوى، كلّ ذلك مقابلة الكتاب للهو الحديث المصغي إليه لمن يستمع لهو الحديث.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً ) إلخ، اللّهو ما يشغلك عمّا يهمّك، و لهو الحديث: الحديث الّذي يلهي عن الحقّ بنفسه كالحكايات الخرافيّة و القصص الداعية إلى الفساد و الفجور، أو بما يقارنه كالتغنّي بالشعر أو بالملاهي و المزامير و المعازف فكلّ ذلك يشمله لهو الحديث.

و قوله:( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) مقتضى السياق أن يكون المراد بسبيل الله القرآن الكريم بما فيه من المعارف الحقّة الاعتقاديّة و العلميّة و خاصّة قصص الأنبياء و اُممهم الخالية فإنّ لهو الحديث و الأساطير المزوّقة المختلقة تعارض أوّلاً هذه القصص ثمّ تهدم بنيان سائر المعارف الحقّة و توهنها في أنظار الناس.

و يؤيّد ذلك قوله بعد:( وَ يَتَّخِذَها هُزُواً ) فإنّ لهو الحديث بما أنّه حديث

٢٢٠

مساعدة اضافية من بيت المال قال له الامام علي (عليه السلام) « اتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرني الى نارٍ سجرها جبّارها لغضبه »(١) .

وقال امير المؤمنين علي (عليه السلام) في خطبة اخرى: « واتقوا ناراً حرها شديد وقعرها بعيد وحليتها حديد، وشرابها صديد »(٢) .

صاحب سلمان:

« مر سلمان يوماً على سوق الحدادين في الكوفة فرأى شاباً قد صعق، والناس قد اجتمعوا حوله، فقالوا له: يا أبا عبدالله هذا الشباب قد صرع، فلو قرأت في اذنه، قال: فدنا منه سلمان فلما رآه الشاب أفاق وقال: يا ابا عبدالله ليس بي ما يقول هؤلاء القوم، ولكني مررت بهؤلاء الحدادين وهم يضربون المرزبات فذكرت قوله تعالى: (ولهم مقامع من حديدٍ) فذهب عقلي خوفاً من عقاب الله تعالى، فاتخذه سلمان أخاً، ودخل قلبه حلاوة محبته في الله تعالى فلم يزل معه حتى مرض الشاب فجاءه، سلمان فجلس عند رأسه وهو يجود بنفسه فقال: (يا ملك الموت ارفق بأخي)، قال: يا ابا عبدالله اني بكل مؤمن رفيق »(٣) .

____________________

(١) نهج البلاغة خطبة ٢٢٤.

(٢) نهج البلاغة خطبة ١٢٠.

(٣) بحار الانوار ج ٢٢ ص ٣٨٥.

٢٢١

٥ - عرض الاعمال:

إنّ احدى المعتقدات الاسلامية التي لها الاثر البالغ في منع الذنب هي مسألة « عرض الأعمال على الصالحين (عليهم السلام) » ومعناه ان الله سبحانه وتعالى - من طرق خاصة - يعرض الاعمال في كل يوم او في كل اسبوع مرة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة الطاهرين (عليهم السلام) فاذا كانت حسنة تفرحهم واذا كانت سيئة يحزنون لشيعتهم. فعندما يعرف الانسان وقوع هذا الامر يحتاط ويراقب نفسه اكثر حتى يترك الذنب ليسعد الرسول والائمة (عليهم السلام). مثلهم كمثل الذين يعملون في مؤسسة ما، فلو علموا ان اعمالهم تعرض كل يومٍ او كل اسبوع مرة على المسؤولين الكبار فانهم يزيدون من سعيهم لارضاء المسؤولين باعمالهم الحسنة. (وفي الآية ١٠٥) من سورة التوبة نقرأ قوله تعالى:

(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشّهادة فينبئكم بما كنتم تعملون).

وحول مسألة عرض الاعمال فقد وردت روايات كثيرة عن الائمة (عليهم السلام) في كتاب اصول الكافي وتذكر في باب (عرض الاعمال على النبي والائمة (عليهم السلام)) ويحتوي على ستة احاديث:

وقد جاء في بعض الروايات: ان الاعمال الصالحة والسيئة للانسان تعرض على الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كل صباح وفي بعضها

٢٢٢

تعرض كل عصر يوم خميس. وتذكر بعض الروايات ان الاعمال تعرض على الائمة الاطهار (عليهم السلام) وفي بعضها تعرض على امير المؤمنين علي (عليه السلام)(١) .

٦ - ذكر الموت:

ان ذكر الموت يكسر غرور الانسان وبالتالي يهيىء الارضية لترك الذنب، وهو عامل مهم للامتناع عن ارتكاب الذنب والسيطرة عليه، وحول هذا الموضوع قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« أكثروا ذكر الموت فأنّه يمحّص الذنوب »(٢) .

قال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

« الموت الزم لكم من ظلكم »(٣) .

٧ - الخوف من الله ومن عاقبة الذنب:

إنّ احد العوامل التي تمكّن الانسان من السيطرة على اقتراف الذنب هو الخوف من الله سبحانه ومن عاقبة الذنب.

قال الامام الصادق (عليه السلام):

____________________

(١) اصول الكافي المجلد الاول ص ٢١٩، وفي كتاب وسائل الشيعة المجلد ١١ ص ١٠١ و كذلك ذكر باب فيه ٢٥ حديثاً، وكتاب ميزان الحكمة ج ٧ ص ٣٢ - ٣٥.

(٢) نهج الفصاحة الحديث ٤٤٤ - ميزان الحكمة ج ٩ ص ٢٤٦.

(٣) فهرس الغرر (الموت).

٢٢٣

« من علم أن الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يعمله من خير أو شر فيحجزه ذلك عن القبيح من الاعمال فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى »(١) .

وقال الامام الصادق (عليه السلام) أيضاً:

« يا اسحق خف الله فانك تراه وان كنت لا تراه يراك »(٢) .

وقال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« يا أبا ذر إياك إياك أن تدركك الصرعة عند العثرة، فلا تقال العثرة ولا تمكّن من الرجعة، ولا يحمدك من خلّفت بما تركت، ولا يعذرك من تقدم عليه بما اشتغلت به »(٣) .

وقال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

« لا تخف الاّ ذنبك »(٤) .

وقال الامام الصادق (عليه السلام):

« العجب ممن يخاف العقاب ولم يكف »(٥) .

ويعني انّ الابتعاد عن الذنب دليل الخوف من عذاب

____________________

(١) اصول الكافي ج ٢ ص ٧٠.

(٢) اصول الكافي ج ٢ ص ٦٧ - ٦٨.

(٣) بحار الانوار ج ٧٧ ص ٧٥ يعني واظب على نفسك أن لا يدركك الموت حين غفلتك واشتغالك بالدنيا فلا تتمكن من الاقالة والرجعة ووارثك لا يحمدك بما تركت له. ولا يقبل الله العذر منك باشتغالك بامور الدنيا.

(٤) غرر الحكم - ميزان الحكمة ج ٣ ص ١٨٢.

(٥) بحار الانوار ج ٧٧ ص ٢٣٧.

٢٢٤

الله سبحانه.

٨ - تأثير العبادة في الامتناع عن ارتكاب الذنب:

انّ العبادات في الاسلام اذا اقيمت بشرائطها وصحتها فاضافة الى فوائدها المعنوية لها دور فعال في السيطرة على الذنب. والهدف الاصلي من العبادات بعد معرفة الله سبحانه وتعالى هو تطهير النفس والحصانة من الذنب مع الانتباه الى ان النية في قصد القربة الى الله سبحانه دليل على صحة العبادة. وللعبادة نور يبعث الاخلاص والصفاء في روح الانسان. والاستمرار بها يقوي ارتباط الانسان بالله سبحانه وتعالى.

جاء في الآية ١٨٣ من سورة البقرة قوله تعالى:

(يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون).

وجاء في (الآية ٤٥ من سورة العنكبوت) قوله تعالى:

(أتل ما أوحي اليك من الكتاب وأقم الصلاة إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر أكبر والله يعلم ما تصنعون).

وجاء في الروايات حول هذا الموضوع بشكل واضح وصريح ما يلي:

١ - قال الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):

« مثل الصلاة كمثل النهر الجاري، كلّما صلى صلاة كفرت ما

٢٢٥

بينهما »(١) .

٢ - وقال الامام الصادق (عليه السلام):

« من أحبّ أنّ يعلم أقبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر: هل منعت صلاته عن الفحشاء والمنكر؟ فبقدر ما منعته قبلت منه »(٢) .

٣ - وقال امير المؤمنين علي (عليه السلام)

« والصلاة تنزيها عن الكبر... والنهي عن المنكر ردعاً للسّفهاء »(٣) .

عند القيام بالعبادات مثل: الصلاة، والصوم، والحج و... نرى ان هناك اموراً تبطل هذه العبادات فيجب مراعاتها والانتباه الى مبطلاتها لتكون مقبولة وعلى الوجه الصحيح. فهذه المراعات هي نوع من انواع الترويض لتقوية الارادة لتربية النفس للوقوف امام الذنوب، لان ترك الذنب يحتاج الى مقدار من الارادة واستقامة الانسان، والمسألة الاخرى هي موضوع علاج الذنب لتطهير الانسان منه. فيجب الانتباه اليه بعمق ودقة، وقد ذكر علماء الاخلاق الطرق الواضحة في معالجة الذنوب حيث بينوا لنا ان لكل ذنب علاجاً خاصاً ودواء شافياً للصدور، حيث جاءت في الروايات جملة من هذه الأدوية لعلاج الذنوب(٤) . فعلى سبيل المثال نذكر نماذج منها:

____________________

(١) وسائل الشيعة ج ٣ ص ٧.

(٢) مجمع البيان ذيل آية ٤٥ عنكبوت.

(٣) نهج البلاغة حكمة ٢٥٢.

(٤) في كتاب معراج السعادة للمحقق النراقي طرق معالجة بعض الذنوب.

٢٢٦

١ - قال عمار بن ياسر(١) سمعت امير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول:

« ولا وجع أوجع للقلوب من الذنوب »(٢) .

٢ - وقال الامام الباقر (عليه السلام):

« لكل داءٍ دواء، ودواء الذنوب الاستغفار »(٣) .

٣ - وقال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

« داووا بالتقوى الاسقام »(٤) .

طريقة العلاج:

ولاجل توضيح الطرق لعلاج الذنوب نذكر نموذجاً واحداً:

مثلاً: اذا ابتلي لسان الانسان بمرض الغيبة فعلاجه على نحوين:

« على الجملة والآخر على التفصيل، أما على الجملة فهو أن يعلم تعرضه لسخط الله بغيبته بالأخبار والروايات، وأما على التفصيل فهو أن ينظر الى السبب الباعث على الغيبة فان علاج العلة بقطع سببها ومن اسبابها (الغضب، الخيانة، تزكية النفس، الحسد، التكبر)

____________________

(١) مستدرك الوسائل ٢ ص ٣٥٦.

(٢) اصول الكافي ج ٢ ص ٢٧٥.

(٣) نفس المصدر السابق ج ١ ص ٢٨٧.

(٤) نهج البلاغة خطبة ١٩١.

٢٢٧

وعلاجها بالمعرفة فقط والتحقق بهذه الامور التي تؤدي الى ابواب الايمان فمن قوي ايمانه بجميع ذلك انكفأ لسانه عن الغيبة لا محالة »(١) .

____________________

(١)نقلاً عن المحجة البيضاء ج ٥ ص ٢٦٤.

٢٢٨

موقف الاسلام من المذنب

ان الاسلام يرى ان الواجب على كل الناس بالقلب واللسان والقدرة ان يقفوا أمام المذنب وان يهتموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال الامام الصادق (عليه السلام):

« ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الانبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الارض وينتصف من الاعداء ويستقيم الأمر » (١).

قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم):

(ادع الى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن). (النحل الآية ١٢٥)

____________________

(١) وسائل الشيعة ج ١١ ص ٣٩٥.

٢٢٩

وقال الله سبحانه وتعالى ايضاً:

(ادفع بالّتي هي أحسن السّيّئة). (المؤمنون الآية ٩٦).

التأديب الاجتماعي والاساليب الاخرى:

يرى الاسلام ان التعامل مع المذنب طريقة من طرق التأديب الاجتماعي، وحول هذا الموضوع نذكر بعض النماذج:

١ - (الآية ٣ من سورة النور) قوله تعالى:

(الزّاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركةً والزّانية لا ينكحها إلاّ زانٍ أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين).

٢ - (الآية ٤ من سورة النور):

(والذّين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون).

٣ - (التوبة الآية ٢٨):

(يا أيّها الّذين آمنوا إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا....).

٤ - (الآية ١١٨ من سورة التوبة):

(وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه ثمّ تاب عليهم ليتوبوا إنّ الله هو التوّاب الرّحيم).

٢٣٠

٥ - (الآية ١٤٠ من سورة النساء):

(وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفربها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنّكم إذاً مثلهم إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً).

الروايات ومواجهة المذنب:

ذكرت في الروايات الاسلامية أساليب كثيرة في كيفية التعامل مع المذنب، نذكر منها عدة نماذج:

١ - قال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

« ادنى الانكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرةٍ »(١) .

٢ - قول الامام الصادق (عليه السلام) لاحد اصحابه الذي يدعى (الحارث بن المغيرة) الذي قال: « قال الامام الصادق (عليه السلام)... أما لاحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم فدخلني من ذلك أمر عظيم، قال (عليه السلام): ما يمنعكم اذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون وما يدخل علينا به الاذى أن تأتوه فتؤنبوه وتذلوه وتقولوا له قولاً بليغاً، فقلت: جعلت فداك اذا لا يطيعوننا ولا يقبلون منا، فقال: اهجروهم واجتنبوا مجالسهم »(٢) .

____________________

(١) وسائل الشيعة ج ١١ ص ٤١٣.

(٢) روضة الكافي ص ١٦٢.

٢٣١

٣ - قال الامام الكاظم (عليه السلام) في كلامه حول التعامل مع الطواغيت والظالمين:

« يا زياد لئن اسقط من حالق فاتقطع قطعة قطعة أحبّ اليّ من أن أتولى لأحد منهم عملاً أو أطأ بساط رجل منهم... »(١) .

غضب الامام الصادق (عليه السلام):

يعتبر دواد بن علي أحد ولاة بني العباس المجرمين الذي كان والياً على المدينة. ارسل على (معلّى بن خنيس) أحد الموالين والتلامذة المخلصين للامام الصادق (عليه السلام) فقتله وصادر امواله. فتأثر الامام الصادق (عليه السلام) تأثراً شديداً على قتله وذهب الى داود وقال (عليه السلام) له:

« قتلت مولاي وأخذت مالي، أما علمت أن الرجل ينام على الثكل ولا ينام على الحرب، أما ولله لادعونّ الله عليك »(٢) .

فسخر داود عن كلام الامام (عليه السلام) وقال له: اتهددني بدعائك؟ فرجع الامام (عليه السلام) الى بيته وقضى ليلته بالصلاة فلما جاء السحر ناجى الامام الصادق ربّه وقال (عليه السلام): « يا ذا القوة القوية وياذا المحال الشديد ويا ذا العزة التي كل خلقك لها ذليل اكفني هذا الطاغية وانتقم لي منه ».

____________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٢ ص ١٤٠.

(٢) الارشاد للمفيد ج ٢ ص ١٨٤.

٢٣٢

وما مرت الاّ ساعة حتى تعالت الاصوات في المدينة بموت داود.

موقف الامام الكاظم (عليه السلام):

احياناً يكون التعامل الحسن مع المذنب موجباً لهدايته كما في القصة التالية:

« كان أحد المنسوبين للخلفاء كلما يرى الامام الكاظم (عليه السلام) يذكره ويذكر امير المؤمنين علياً (عليه السلام) بالكلام البذيء وذات يوم جاء جمع من محبي الامام الكاظم (عليه السلام) وطلبوا منه الاجازة في قتله، فلما سمع الامام (عليه السلام) بكلامه قال لهم: لا تقدموا على هذا العمل ولكن قولوا لي اين مكان هذا الرجل؟ فقالوا له: انه مشغول في بستانه.

فركب اليه فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لاتطأ زرعنا فوطأه ابوالحسن (عليه السلام) بالحمار حتى وصل اليه فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له: كم غرمت في زرعك هذا؟ فقال: مائة دينار، قال: وكم ترجو ان تصيب؟ قال: لست أعلم الغيب، قال: انما قلت لك ترجو ان يجيئك فيه، قال: ارجو ان يجيئني فيه مائتا دينار قال: فأخرج ابوالحسن (عليه السلام) صرة فيها ثلاثمائة دينار وقال: هذا زرعك على حاله والله يرزقك فيه ما ترجو قال: فقام العمري فقبّل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه فتبسم اليه ابو الحسن (عليه السلام) وانصرف وراح الى المسجد فوجد العمري جالساً فلما

٢٣٣

نظر اليه قال: « الله اعلم حيث يجعل رسالته »... فلما رجع ابو الحسن (عليه السلام) الى داره قال لجلسائه الذين سألوه عن قتل العمري:

« ايما كان خيراً ما اردتم او ما اردت انني اصلحت امره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت به شره »(١) .

موقف الاحكام الشرعية من المذنب:

في الفقه الاسلامي قوانين واوامر في التعامل مع المذنب ومنعه من اقتراف الذنب. ونرى هناك اوامر دقيقة جداً للوقوف أمام اقتراف الذنب. فمثلاً: احكام الحدود والديات والتعزيرات اذا اجريت بالنحو المرسوم لها والكامل فانها عامل مهم في الوقوف امام الذنب، او مثلاً الاوامر الاسلامية المؤكدة على ان شارب الخمر، لا يزوجونه او ان المذنب لا يعطى الزكاة او ان سفر المعصية موجب لصلاة القصر. او المرأة المحصنة او المرأة غير المحصنة فالمحصنة ان زنت فحكمها القتل (وفرق بين المحصنة وغير المحصنة) او المرأة الناشزة التي لا تطيع زوجها فليس لها حق النفقة او قطع يد السارق او الجلوس مع الخمارين والأكل معهم على مائدة واحدة حرام، كل هذه القوانين والاوامر في الاسلام تبين لنا تعامل الاسلام مع المذنب، وكل واحدة من هذه الاوامر مانع ومسيطر على اقتراف الذنب في الفرد والمجتمع(٢) .

____________________

(١) الارشاد للمفيد ص ٢٩٧.

(٢) في هذه المسالة يراجع تحرير الوسيلة ج ١ ص (٤٧٦ - ٤٨٠) مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٢٣٤

القسم الخامس

الآثار السلبية التي يخلفها الذنب

التوبة والتطهير وجبران الذنب

الآثار السلبية التي يخلفها الذنب:

من المسلّمات في الدين والعلم والتجربة ان اعمال الانسان الحسنة والسيئة لها نتائج دنيوية واخروية. كزارع البذور فلو زرع احد بذر الورد لجنى ثماوه ورداً، وزارع الشوك لا يجني الاّ شوكاً.

وبعبارة اخرى لكل عمل رد عمل رد فعل معاكس كالذي يضرب الكرة على الارض فترجع الكرة اليه، ويجب الانتباه ايضاً الى ان جزاء العمل يراه في الدنيا والاخرة. ولكن نسبة الجزاء في الدنيا الى جزاء الاخرة قليل. وكذلك فان اعمال الانسان تاتي عليه بصور مختلفة ويجب ان لا نستبعد ان المصائب المختلفة التي تصيب الانسان في الدنيا أحياناً تكون جزاءً لعمل ما واحياناً امتحان الله سبحانه للانسان ولاجل ارتقائه سلم التكامل، وله ثواب اضافي ومضاعف، وفي (الاية ١٥٥)

٢٣٥

من سورة البقرة اشارة الى هذا المطلب.

(ولنبلونكم بشيءٍ من الخوف والجوع....).

وهناك روايات كثيرة تدل على ذلك، فمن جملتها قول الامام الصادق (عليه السلام):

« إنّ أشدّ الناس بلاءً الانبياء ثم الذين يلونهم ثمّ الامثل فالامثل »(١) .

الآثار الدنيوية للذنب في نظر القرآن الكريم:

وردت في القرآن الكريم عشرات الآيات في الآثار والنتائج التي يخلفها الذنب ونذكر هنا عدة نماذج:

١ - في الآية ٥٩ من سورة البقرة:

(فأنزلنا على الّذين ظلموا رجزاً من السّماء بما كانوا يفسقون).

٢ - في الآية ٤٩ من سورة المائدة:

(يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم).

٣ - في الآية ٦ من سورة الانعام:

(.... فأهلكناهم بذنوبهم).

٤ - في الآية ٩٦ من سورة الأعراف:

(..... فأخذناهم بما كانوا يكسبون).

____________________

(١) اصول الكافي ج ٢ ص ٢٥٢.

٢٣٦

٥ - في الآية ٢٥ من سورة نوح:

(ممّا خطيئاتهم أغرقوا).

٦ - في الآية ١٤ من سورة الشمس:

(فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسوّاها).

٧ - في الآية ١١ من سورة الرعد:

(إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم).

٨ - في الآية ١٤ من سورة المطففين:

(كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).

٩ - في الآية ٣٠ من سورة الشورى: (وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثيرٍ).

قال امير المؤمنين (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):« خير آية في كتاب الله هذه الآية ».

ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): « يا علي! ما من خدش عودٍ ولا نكبة قدمٍ الاّ بذنب »(١) .

بعض الآيات حول آثار الذنب في الآخرة:

١ - (ومن جاء بالسّيئة فكبّت وجوههم في النّار هل تجزون إلاّ ما كنتم تعملون). (النمل / ٩٠)

____________________

(١) مجمع البيان ونفس المطلب ذكر عن الامام الصادق (عليه السلام) في الكافي ج ٢ ص ٢٦٩.

٢٣٧

٢ - وفي الآية ٢٣ من سورة الجن:

(ومن يعص الله ورسوله فانّ له نار جهنّم خالدين فيها أبداً).

٣ - في الآية (١١ - ١٦) من سورة المعارج:

(يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته الّتي تؤيه ومن في الأرض جميعاً ثمّ ينجيه كلاّ إنّها لظى نزّاعةً للشّوى).

٤ - الآية ١٠٤ من سورة المؤمنون:

(تلفح وجوههم النّار وهم فيها كالحون).

احباط الاعمال الحسنة:

أحد الآثار السيئة التي يخلفها الذنب هو احباط الاعمال الحسنة. ومعناه أن المذنبين اذا عملوا عملاً صالحاً فانه لا نتيجة ولا جزاء له. وقد وردت كلمة (الاحباط) ستة عشر مرة في القرآن الكريم. وبهذا نحصل على نتيجة بان الذنوب الكبيرة مثل الكفر، الشرك، تكذيب الآيات الالهية وانكار المعاد، الارتداد، مخالفة الانبياء، كل هذه الامور تحبط الاعمال.

فعلى سبيل المثال: اذا رفع شخص حجارة عن طريق المارة لئلا يصاب احد بضرر (فان هذا العمل حسن) ولكن لو ان نفس هذا الرجل القى الصخرة في مكان قريب وضيق على المارة ففي هذه

٢٣٨

الحالة يكون قد ارتكب ذنباً كبيراً وهو (خراب الطريق). اذن فان عمله الحسن رفع الصخرة عن الطريق لا اعتبار له ولا اثر له وقد احبطه بعمله السيء الآخر. وعلى هذا الاساس فان الذنوب الكبيرة تحبط الاعمال الحسنة. كما تكبر ابليس ولم يسجد لأمر الله سبحانه (في مسألة السجود لآدم) فقد احبط « ستة آلاف سنة من العبادة »(١) التي عبد بها ابليس الله سبحانه وتعالى. فيجب الانتباه الى ان الانسان المذنب لا يستطيع ان يغتر باعماله الحسنة، اذ سرعان ما تحبط بسبب الذنوب التي يرتكبها.

الآثار المعنوية الرديئة التي يخلفها الذنب:

إنّ تكرار الذنب والاستمرار عليه يؤدي الى ظلمة القلب ومسخ الانسان عن انسانيته وتحوليه الى حيوانٍ يملك الصفات الحيوانية كلها، ويكون مقترفاً للذنوب الكبيرة. فعلى سبيل المثال: ان المذنب اذا شرب الخمر لاول وهلة تراه يتردد ويتعذب وجدانه لانه مسلم، ولكن في الوهلة الثانية يكون الشرب ابسط بكثير من الوهلة الاولى وهكذا الى ان يعتاد عليه. نعم الاستمرار على ارتكاب الذنب يجعل المذنب يقترف الذنوب الكبيرة بكل سهولة.

في الآية ١٠٨ من سورة النحل نقرأ:

(أولئك الّذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم

____________________

(١) جاء في نهج البلاغة الخطبة ١٩٢ (.... إذ حبط عمله الطويل....).

٢٣٩

وأولئك هم الغافلون).

وفي الآية ٥ من سورة الصف نقرأ:

(فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم).

وفي الآية ١٠ من سورة الروم نقرأ:

(ثمّ كان عاقبة الّذين أساؤوا السؤأى أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن).

ونرى كثيراً في التاريخ ان الطواغيت الذين استمروا على اقتراف الذنوب قد تجاوزوا حد الكفر والانكار والتنكيل بالأنبياء والاستهزاء بهم، وكل هذه الآثار السيئة قد خلفها الذنب، وعلى العكس فالاستمرار على الاعمال الصالحة يعطي للقلب صفاءاً ويعطي نورانية للروح. وحول هذا الموضوع نأتي بالروايات التالية:

١ - قال الامام الصادق (عليه السلام) قال ابي (عليه السلام):

« ما من شيء أفسد للقلب من خطيئةٍ، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله »(١) .

٢ - وقال الامام الكاظم (عليه السلام):

« أذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فان تاب إنمحت وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً »(٢) .

وقال امير المؤمنين علي (عليه السلام):

____________________

(١) اصول الكافي ج ٢ ص ٢٦٨.

(٢) بحار الانوار ج ٧٣ ص ٣٢٧ - ميزان الحكمة ج ٣ ص ٤٦٤.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425