الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 425
المشاهدات: 124148
تحميل: 6111


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124148 / تحميل: 6111
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 16

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من السماء و العروج إلى الله يشعر بأنّ السماء هو مقام الحضور الّذي يصدر منه تدبير الأمر أو أنّ موطن تدبير الأمر الأرضيّ هو السماء و الله المحيط بكلّ شي‏ء ينزّل التدبير الأرضيّ من هذا الموطن، و لعلّ هذا هو الأقرب إلى الفهم بالنظر إلى قوله:( وَ أَوْحى‏ فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) .

و قوله:( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) معناه على أيّ حال أنّه في ظرف لو طبّق على ما في الأرض من زمان الحوادث و مقدار حركتها انطبق على ألف سنة ممّا نعدّه فإنّ من المسلّم أنّ الزمان الّذي يقدّره ما نعدّه من الليل و النهار و الشهور و السنين لا يتجاوز العالم الأرضيّ.

و إذ كان المراد بالسماء هو عالم القرب و الحضور و هو ممّا لا سبيل للزمان إليه كان المراد أنّه وعاء لو طبّق على مقدار حركة الحوادث في الأرض كان مقداره ألف سنة ممّا تعدّون.

و أمّا أنّ هذا المقدار هل هو مقدار النزول و اللبث و العروج أو مقدار مجموع النزول و العروج دون اللبث أو مقدار كلّ واحد من النزول و العروج أو مقدار نفس العروج فقط بناء على أنّ( فِي يَوْمٍ ) قيد لقوله:( يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) فقط كما وقع في قوله:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المعارج: 4.

ثمّ على تقدير كون الظرف قيدا للعروج هل العروج مطلق عروج الحوادث إلى الله أو العروج يوم القيامة و هو مقدار يوم القيامة، و أمّا كونه خمسين ألف سنة فهو بالنسبة إلى الكافر من حيث الشقّة أو أنّ الألف سنة مقدار مشهد من مشاهد يوم القيامة و هو خمسون موقفاً كلّ موقف مقداره ألف سنة.

ثمّ المراد بقوله:( مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) هل هو التحديد حقيقة أو المراد مجرّد التكثير كما في قوله:( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ) البقرة: 96 أي يعمّر عمراً طويلاً جدّاً و إن كان هذا الاحتمال بعيداً من السياق.

و الآية - كما ترى - تحتمل الاحتمالات جميعاً و لكلّ منها وجه و الأقرب من بينها إلى الذهن كون( فِي يَوْمٍ ) قيداً لقوله:( ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) و كون المراد بيوم عروج

٢٦١

الأمر مشهداً من خمسين مشهداً من مشاهد يوم القيامة، و الله أعلم.

قوله تعالى: ( ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) تقدّم تفسير مفردات الآية، و مناسبة الأسماء الثلاثة الكريمة للمقام ظاهرة.

قوله تعالى: ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) قال الراغب: الحسن عبارة عن كلّ مبهج - بصيغة الفاعل - مرغوب فيه و ذلك ثلاثة أضرب: مستحسن من جهة العقل و مستحسن من جهة الهوى و مستحسن من جهة الحسّ. انتهى. و هذا تعريف له من جهة خاصّته و انقسامه بانقسام الإدراكات الإنسانيّة.

و حقيقته ملاءمة أجزاء الشي‏ء بعضها لبعض و المجموع للغرض و الغاية الخارجة منه فحسن الوجه تلاؤم أجزائه من العين و الحاجب و الأنف و الفم و غيرها، و حسن العدل ملائمته للغرض من الاجتماع المدنيّ و هو نيل كلّ ذي حقّ حقّه، و هكذا.

و التدبّر في خلقة الأشياء و كلّ منها في نفسه متلائم الأجزاء بعضها لبعض و المجموع من وجوده مجهّز بما يلائم كماله و سعادته تجهيزاً لا أتمّ و لا أكمل منه يعطي أنّ كلّا منها حسن في نفسه حسناً لا أتمّ و أكمل منه بالنظر إلى نفسه.

و أمّا ما نرى من المساءة و القبح في الأشياء فلأحد أمرين: إمّا لكون الشي‏ء السيّئ ذا عنوان عدميّ يعود إليه المساءة لا لوجوده في نفسه كالظلم و الزنا فإنّ الظلم ليس بسيّئ قبيح بما أنّه فعل من الأفعال بل بما أنّه مبطل لحقّ ثابت و الزنا ليس بسيّئ قبيح من جهة نفس العمل الخارجيّ الّذي هو مشترك بينه و بين النكاح بل بما أنّ فيه مخالفة للنهي الشرعيّ أو للمصلحة الاجتماعيّة.

أو بقياسه إلى شي‏ء آخر فيعرضه المساءة و القبح من طريق المقايسة كقياس الحنظل إلى البطّيخ و قياس الشوك إلى الورد و قياس العقرب إلى الإنسان فإنّ المساءة إنّما تطرأ هذه الأشياء من طريق القياس إلى مقابلاتها ثمّ قياسها إلى طبعنا، و يرجع هذا الوجه من المساءة إلى الوجه الأوّل بالحقيقة.

و كيف كان فالشي‏ء بما أنّه موجود مخلوق لا يتّصف بالمساءة و يدلّ عليه الآية( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) إذا انضمّ إلى قوله:( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الزمر: 62

٢٦٢

فينتجان أوّلاً: أنّ الخلقة تلازم الحسن فكلّ مخلوق حسن من حيث هو مخلوق.

و ثانياً: أنّ كلّ سيّئ و قبيح ليس بمخلوق من حيث هو سيّئ قبيح كالمعاصي و السيّئات من حيث هي معاص و سيّئات و الأشياء السيّئة من جهة القياس.

قوله تعالى: ( وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ) المراد بالإنسان النوع فالمبدوّ خلقه من طين هو النوع الّذي ينتهي أفراده إلى من خلق من طين من غير تناسل من أب و اُمّ كآدم و زوجهعليهما‌السلام ، و الدليل على ذلك قوله بعده:( ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) فالنسل الولادة بانفصال المولود عن الوالدين و المقابلة بين بدء الخلق و بين النسل لا يلائم كون المراد ببدء الخلق بدء خلق الإنسان المخلوق من ماء مهين، و لو كان المراد ذلك لكان حقّ الكلام أن يقال: ثمّ جعله سلالة من ماء مهين فافهمه.

و قوله:( ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) السلالة كما في المجمع، الصفوة الّتي تنسل أي تنزع من غيرها و يسمّى ماء الرجل سلالة لانسلاله من صلبه، و المهين من الهون و هو الضعف و الحقارة و ثمّ للتراخي الزمانيّ.

و المعنى: ثمّ جعل ولادته بطريق الانفصال من صفوة من ماء ضعيف أو حقير.

قوله تعالى: ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) التسوية التصوير و تتميم العمل، و في قوله:( نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) استعارة بالكناية بتشبيه الروح بالنفس الّذي يتنفّس به ثمّ نفخة في قالب من سوّاه، و إضافة الروح إليه تعالى إضافة تشريفيّة، و المعنى: ثمّ صوّر الإنسان المبدوّ خلقه من الطين و المجعول نسله من سلالة من ماء مهين و نفخ فيه من روح شريف منسوب إليه تعالى.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ) امتنان بنعمة الإدراك الحسّيّ و الفكريّ فالسمع و البصر للمحسوسات و القلوب للفكريّات أعمّ من الإدراكات الجزئيّة الخياليّة و الكلّيّة العقليّة.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ) أي تشكرون شكراً قليلاً، و الجملة اعتراضيّة في محلّ التوبيخ و قيل: الجملة حاليّة، و المعنى: جعل لكم الأبصار و الأفئدة و الحال أنّكم تشكرون قليلاً، و الجملة على أيّ حال مسوقة للبثّ و الشكوى و التوبيخ.

٢٦٣

و الالتفات في قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمُ ) إلخ، من الغيبة إلى خطاب الجمع لتسجيل أنّ الإنعام الإلهيّ الشامل للجميع يربو على شكرهم فهم قاصرون أو أكثرهم مقصّرون.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) حجّة من منكري البعث مبنيّة على الاستبعاد. و الضلال في الأرض قيل: هو الضيعة كما يقال: ضلّت النعمة أي ضاعت، و قيل: هو بمعنى الغيبة، و كيف كان فمرادهم به أ إئنّا إذا متنا و انتشرت أجزاء أبداننا في الأرض و صرنا بحيث لا تميّز لأجزائنا من سائر أجزاء الأرض و لا خبر عنّا نقع في خلق جديد و نخلق ثانياً خلقنا الأوّل.؟

و الاستفهام للإنكار، و الخلق الجديد هو البعث.

و قوله:( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) إضراب عن فحوى قولهم:( أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ) كأنّه قيل: إنّهم لا يجحدون الخلق الجديد لجحدهم قدرتنا على ذلك أو لسبب آخر بل هم كافرون بالرجوع إلينا و لقائنا و لذا جي‏ء في الجواب عن قولهم بما يدلّ على الرجوع.

قوله تعالى: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) توفّي الشي‏ء أخذه تامّاً كاملاً كتوفّي الحقّ و توفّي الدين من المديون.

و قوله:( مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) قيل: أي وكّل بإماتتكم و قبض أرواحكم و الآية مطلقة ظاهرة في أعمّ من ذلك.

و قد نسب التوفّي في الآية إلى ملك الموت، و في قوله:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) الزمر: 42 إليه تعالى، و في قوله:( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ) الأنعام: 61 و قوله:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) النحل: 28 إلى الرسل و الملائكة نظراً إلى اختلاف مراتب الأسباب فالسبب القريب الملائكة الرسل أعوان ملك الموت و فوقهم ملك الموت الآمر بذلك المجرى لأمر الله و الله من ورائهم محيط و هو السبب الأعلى و مسبّب الأسباب فذلك بوجه كمثل كتابة الإنسان بالقلم فالقلم كاتب و اليد كاتبة و الإنسان كاتب.

٢٦٤

و قوله:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) هو الرجوع الّذي عبّر عنه في الآية السابقة باللقاء و موطنه البعث المترتّب على التوفّي و المتراخي عنه، كما يدلّ عليه العطف بثمّ الدالّة على التراخي.

و الآية - على أيّ تقدير - جواب عن الاحتجاج بضلال الموتى في الأرض على نفي البعث و من المعلوم أنّ إماتة ملك الموت لهم ليس يحسم مادّة الإشكال فيبقى قوله:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) دعوى خالية عن الدليل في مقابل دعواهم المدلّلة و الكلام الإلهيّ أنزه ساحة أن يتعاطى هذا النوع من المحاجّة.

لكنّه تعالى أمر رسوله أن يجيب عن حجّتهم المبنيّة على الاستبعاد بأنّ حقيقة الموت ليس بطلاناً لكم و ضلالاً منكم في الأرض بل ملك الموت الموكّل بكم يأخذكم تامّين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم بمعنى قطع علاقتها من الأبدان و أرواحكم تمام حقيقتكم فأنتم أي ما يعني بلفظة( كم) محفوظون لا يضلّ منكم شي‏ء في الأرض و إنّما يضلّ الأبدان و تتغيّر من حال إلى حال و قد كانت في معرض التغيّر من أوّل كينونتها. ثمّ إنّكم محفوظون حتّى ترجعوا إلى ربّكم بالبعث و رجوع الأرواح إلى أجسادها.

و بهذا يندفع حجّتهم على نفي المعاد بضلالهم سواء قرّرت على نحو الاستبعاد أو قرّرت على أنّ تلاشي البدن يبطل شخصيّة الإنسان فينعدم و لا معنى لإعادة المعدوم فإنّ حقيقة الإنسان هي نفسه الّتي يحكي عنها بقول( أنا) و هي غير البدن و البدن تابع لها في شخصيّته و هي لا تتلاشى بالموت و لا تنعدم بل محفوظة في قدرة الله حتّى يؤذن في رجوعها إلى ربّها للحساب و الجزاء فيبعث على الشريطة الّتي ذكر الله سبحانه.

و ظهر بما تقدّم أوّلاً وجه اتّصال قوله:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ ) إلخ بقوله:( أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ) إلخ و أنّه جواب حاسم للإشكال قاطع للشبهة، و قد أشكل الأمر على بعض من فسّر التوفّي بمطلق الإماتة من غير التفات إلى نكتة التعبير بلفظ التوفّي فتكلّف في توجيه اتّصال الآيتين بما لا يرتضيه العقل السليم.

و ثانياً: أنّ الآية من أوضح الآيات القرآنيّة الدالّة على تجرّد النفس بمعنى

٢٦٥

كونها غير البدن أو شي‏ء من حالات البدن.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) نكس الرأس إطراقه و طأطأته، و المراد بالمجرمين بقرينة ذيل الآية خصوص المنكرين للمعاد فاللّام فيه لا تخلو من معنى العهد أي هؤلاء الّذين يجحدون المعاد و يقولون:( أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ) إلخ.

و في التعبير عن البعث بقوله:( عِنْدَ رَبِّهِمْ ) محاذاة لما تقدّم من قوله:( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) أي واقفون موقفاً من اللقاء لا يسعهم إنكاره، و قولهم:( أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا ) و مسألتهم الرجوع للعمل الصالح لما ينجلي لهم أنّ النجاة في الإيمان و العمل الصالح و قد حصل لهم الإيمان اليقينيّ و بقي العمل الصالح و لذا يعترفون باليقين و يسألون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحاً فيتمّ لهم سبباً النجاة.

و المعنى: و لو ترى إذ هؤلاء الّذين يجرمون بإنكار لقاء الله مطرقوا رؤسهم عند ربّهم في موقف اللقاء من الخزي و الذلّ و الندم يقولون ربّنا أبصرنا بالمشاهدة و سمعنا بالطاعة فارجعنا نعمل عملاً صالحاً إنّا موقنون و المحصّل أنّك تراهم يجحدون اللقاء و لو تراهم إذ أحاط بهم الخزي و الذلّ فنكسوا رؤسهم و اعترفوا بما ينكرونه اليوم و سألوا العود إلى ههنا و لن يعودوا.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ) إلى آخر الآية أي لو شئنا أن نعطي كلّ نفس أعمّ من المؤمنة و الكافرة الهدى الّذي يختصّ بها و يناسبها لأعطيناه لها بأن نشاء من طريق اختيار الكافر و إرادته أن يتلبّس بالهدى فيتلبّس بها من طريق الاختيار و الإرادة كما شئنا في المؤمن كذلك فتلبّس بالهدى باختيار منه و إرادة من دون أن ينجرّ إلى الإلجاء و الاضطرار فيبطل التكليف و يلغو الجزاء.

و قوله:( وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) أي و لكن هناك قضاء سابق منّي محتوم و هو إملاء جهنّم من الجنّة و الناس أجمعين و هو قوله لإبليس لمّا امتنع من سجدة آدم و قال:( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) :( فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ )

٢٦٦

ص: 85 فقضى أن يدخل متّبعي إبليس العذاب المخلّد.

و لازم ذلك أن لا يهديهم لظلمهم و فسقهم بالخروج عن زيّ العبوديّة كما قال:( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ( وَ اللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) التوبة: 80 إلى غير ذلك من الآيات.

قوله تعالى: ( فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ ) إلى آخر الآية، تفريع على قوله:( وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ) و النسيان ذهول صورة الشي‏ء عن الذاكرة و يكنّى به عن عدم الاعتناء بما يهمّ الشي‏ء و هو المراد في الآية.

و المعنى: فإذا كان من القضاء إذاقة العذاب لمتّبعي إبليس فذوقوا العذاب بسبب عدم اعتنائكم بلقاء هذا اليوم حتّى جحدتموه و لم تعملوا صالحاً تثابون به فيه لأنّا لم نعتن بما يهمّكم في هذا اليوم من السعادة و النجاة، و قوله:( وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) تأكيد و توضيح لسابقه أي إنّ الذوق الّذي أمرنا به ذوق عذاب الخلد و نسيانهم لقاء يومهم هذا أعمالهم السيّئة.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج النحّاس عن ابن عبّاس قال: نزلت سورة السجدة بمكّة سوى ثلاث آيات( أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً ) إلى تمام الآيات الثلاث.

و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة عن عليّ قال: عزائم سجود القرآن الم تنزيل السجدة، و حم تنزيل السجدة، و النجم، و اقرأ باسم ربّك الّذي خلق.

و في الخصال، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ العزائم أربع: اقرأ باسم ربّك الّذي خلق، و النجم، و تنزيل السجدة، و حم السجدة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و الطبرانيّ عن الشريد بن سويد قال: أبصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلاً قد أسبل إزاره فقال له: ارفع إزارك، فقال: يا رسول الله إنّي أحنف تصطكّ ركبتاي. قال: ارفع إزارك كلّ خلق الله حسن.

و في الفقيه سئل الصادقعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) و عن قول الله عزّوجلّ:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ )

٢٦٧

و عن قول الله عزّوجلّ:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) و( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) و عن قول الله عزّوجلّ:( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ) و عن قوله عزّوجلّ:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ) و قد يموت في الدنيا في الساعة الواحدة في جميع الآفاق ما لا يحصيه إلّا الله عزّوجلّ، فكيف هذا؟.

فقال: إنّ الله تبارك و تعالى جعل لملك الموت أعواناً من الملائكة يقبضون الأرواح بمنزلة صاحب الشرطة له أعوان من الإنس يبعثهم في حوائجه فيتوفّاهم الملائكة و يتوفّاهم ملك الموت من الملائكة مع ما يقبض هو، و يتوفّاها الله تعالى من ملك الموت.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبوالشيخ عن أبي جعفر محمّد بن عليّ قال: دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رجل من الأنصار يعوده فإذا ملك الموت عند رأسه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنّه مؤمن فقال: أبشر يا محمّد فإنّي بكلّ مؤمن رفيق.

و اعلم يا محمّد إنّي لأقبض روح ابن آدم فيصرخ أهله فأقوم في جانب من الدار فأقول: و الله ما لي من ذنب و إنّ لي لعودة و عودة الحذر الحذر و ما خلق الله من أهل بيت و لا مدر و لا شعر و لا وبر في برّ و لا بحر إلّا و أنا أتصفحّهم في كلّ يوم و ليلة خمس مرّات حتّى إنّي لأعرف بصغيرهم و كبيرهم منهم بأنفسهم. و الله يا محمّد إنّي لا أقدر أن أقبض روح بعوضة حتّى يكون الله تبارك و تعالى هو الّذي يأمر بقبضه.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ) قال: لو شئنا أن نجعلهم كلّهم معصومين لقدرنا.

أقول: العصمة لا تنافي الاختيار فلا تنافي بين مضمون الرواية و ما قدّمناه في تفسير الآية.

٢٦٨

( كلام في كينونة الإنسان الأولي)

تقدّم في تفسير أوّل سورة النساء كلام في هذا المعنى و كلامنا هذا كالتكملة له.

قدّمنا هناك أنّ الآيات القرآنيّة ظاهرة ظهوراً قريباً من الصراحة في أنّ البشر الموجودين اليوم - و نحن منهم - ينتهون بالتناسل إلى زوج أي رجل و امرأة بعينهما و قد سمّي الرجل في القرآن بآدم و هما غير متكوّنين من أب و اُمّ بل مخلوقان من تراب أو طين أو صلصال أو الأرض على اختلاف تعبيرات القرآن.

فهذا هو الّذي يفيده الآيات ظهوراً معتدّاً به و إن لم تكن نصّة صريحة لا تقبل التأويل و لا المسألة من ضروريّات الدين نعم يمكن عدّ انتهاء النسل الحاضر إلى آدم ضروريّاً من القرآن و أمّا أنّ آدم هذا هل اُريد به آدم النوعيّ أعني الطبيعة الإنسانيّة الفاشية في الأشخاص أو عدّة معدودة من الأفراد هم اُصول النسب و الآباء و الاُمّهات الأوّليّة أو فرد إنسانيّ واحد بالشخص؟.

و على هذا التقدير هل هو فرد من نوع الإنسان تولّد من نوع آخر كالقردة مثلاً على طريق تطوّر الأنواع و ظهور الأكمل من الكامل و الكامل من الناقص و هكذا أو هو فرد من الإنسان كامل بالكمال الفكريّ تولّد من زوج من الإنسان غير المجهّز بجهاز التعقّل فكان مبدأ لظهور النوع الإنسانيّ المجهّز بالتعقّل القابل للتكليف و انفصاله من النوع غير المجهّز بذلك فالبشر الموجودون اليوم نوع كامل من الإنسان ينتهي أفراده إلى الإنسان الأوّل الكامل الّذي يسمّى بآدم، و ينشعب هذا النوع الكامل بالتولّد تطوّراً من نوع آخر من الإنسان ناقص فاقد للتعقّل و هو يسير القهقرى في أنواع حيوانيّة مترتّبة حتّى ينتهي إلى أبسط الحيوان تجهيزاً و أنقصها كمالاً و إن أخذنا من هناك سائرين لم نزل ننتقل من ناقص إلى كامل و من كامل إلى أكمل حتّى ننتهي إلى الإنسان غير المجهّز بالتعقّل ثمّ إلى الإنسان الكامل كلّ ذلك في سلسلة نسبيّة متّصلة مؤلّفة من آباء و أعقاب.

٢٦٩

أو أنّ سلسلة التوالد و التناسل تنقطع بالاتّصال بآدم و زوجه و هما متكوّنان من الأرض من غير تولّد من أب و اُمّ فليس شي‏ء من هذه الصور ضروريّاً.

و كيف كان فظاهر الآيات القرآنيّة هو الصورة الأخيرة و هي انتهاء النسل الحاضر إلى آدم و زوجه المتكوّنين من الأرض من غير أب و اُمّ.

غير أنّ الآيات لم تبيّن كيفيّة خلق آدم من الأرض و أنّه هل عملت في خلقه علل و عوامل خارقة للعادة؟ و هل تمّت خلقته بتكوين إلهيّ آنيّ من غير مهل فتبدّل الجسد المصنوع من طين بدناً عاديّاً ذا روح إنسانيّ أو أنّه عاد إنساناً تامّاً كاملاً في أزمنة معتدّ بها يتبدّل عليه فيها استعداد بعد استعداد و صورة و شكل بعد صورة و شكل حتّى تمّ الاستعداد فنفخ فيه الروح و بالجملة اجتمعت عليه من العلل و الشرائط نظير ما تجتمع على النطفة في الرحم.

و من أوضح الدليل عليه قوله تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: 59 فإنّ الآية نزلت جواباً عن احتجاج النصارى على بنوّة عيسى بأنّه ولد من غير أب بشريّ و لا ولد إلّا بوالد فأبوه هو الله سبحانه، فردّ في الآية بما محصّله أنّ صفته كصفة آدم حيث خلقه الله من أديم الأرض بغير والد يولده فلم لا يقولون بأنّ آدم ابن الله.

و لو كان المراد بخلقه من تراب انتهاء خلقته كسائر المتكوّنين من النطف إلى الأرض كان المعنى: أنّ صفة عيسى و لا أب له كمثل آدم حيث تنتهي خلقته كسائر الناس إلى الأرض، و من المعلوم أن لا خصوصيّة لآدم على هذا المعنى حتّى يؤخذ و يقاس إليه عيسى فيفسد معنى الآية في نفسه و من حيث الاحتجاج به على النصارى.

و بهذا يظهر دلالة جميع الآيات الدالّة على خلق آدم من تراب أو طين أو نحو ذلك، على المطلوب كقوله:( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ) ص: 71 و قوله:( وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ) الم السجدة: 7.

و أمّا قول من قال: إنّ المراد بآدم هو آدم النوعيّ دون الشخصيّ بمعنى الطبيعة الإنسانيّة الخارجيّة الفاشية في الأفراد، و المراد ببنوّة الأفراد له تكثّر الأشخاص

٢٧٠

منه بانضمام القيود إليه و قصّة دخوله الجنّة و إخراجه منها لمعصيته بإغواء من الشيطان تمثيل تخييليّ لمكانته في نفسه و وقوفه موقف القرب ثمّ كونه في معرض الهبوط باتّباع الهوى و طاعة إبليس.

ففيه أنّه مدفوع بالآية السابقة و ظواهر كثير من الآيات كقوله:( الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً ) النساء: 1 فلو كان المراد بالنفس الواحدة آدم النوعيّ لم يبق لفرض الزوج لها محلّ و نظير الآية الآيات الّتي تفيد أنّ الله أدخله و زوجه الجنّة و أنّه و زوجه عصيا الله بالأكل من الشجرة.

على أنّ أصل القول بآدم النوعيّ مبنيّ على قدم الأرض و الأنواع المتأصّلة و منها الإنسان و أنّ أفراده غير متناهية من الجانبين و الاُصول العلميّة تبطل ذلك بتاتاً.

و أمّا القول بكون النسل منتهياً إلى أفراد معدودين كأربعة أزواج مختلفين ببياض اللون و سواده و حمرته و صفرته أو أزواج من الإنسان ناشئين بعضهم بالدنيا القديمة و بعضهم بالدنيا الحديثة و الأراضي المكشوفة أخيراً و فيها بشر قاطنون كإمريكا و أستراليا.

فمدفوع بجميع الآيات الدالّة على انتهاء النسل الحاضر إلى آدم و زوجه فإنّ المراد بآدم فيها إمّا شخص واحد إنسانيّ و إمّا الطبيعة الإنسانيّة الفاشية في الأفراد و هو آدم النوعيّ و أمّا الأفراد المعدودون فلا يحتمل لفظ الآيات ذلك البتّة.

على أنّه مبنيّ على تباين الأصناف الأربعة من الإنسان: البيض و السود و الحمر و الصفر و كون كلّ من هذه الأصناف نوعاً برأسه ينتهي إلى زوج غير ما ينتهي إليه الآخر أو كون قارات الأرض منفصلاً بعضها عن بعض انفصالاً أبديّاً غير مسبوق بالعدم، و قد ظهر بطلان هذه الفرضيّات اليوم بطلاناً كاد يلحقها بالبديهيّات.

و أمّا القول بانتهاء النسل إلى زوج من الإنسان أو أزيد انفصلاً أو انفصلوا من

٢٧١

نوع آخر هو أقرب الأنواع إليه كالقرد مثلاً انفصال الأكمل من الكامل تطوّراً.

ففيه أنّ الآيات السابقة الدالّة على خلق الإنسان الأوّل من تراب من غير أب و اُمّ تدفعه.

على أنّ ما اُقيم عليه من الحجّة العلميّة قاصر عن إثباته كما سنشير إليه في الكلام على القول التالي.

و أمّا القول بانتهاء النسل إلى فردين من الإنسان الكامل بالكمال الفكريّ من طريق التولّد ثمّ انشعابهما و انفصالهما بالتطوّر من نوع آخر من الإنسان غير الكامل بالكمال الفكريّ ثمّ انقراض الأصل و بقاء الفرع المتولّد منهما على قاعدة تنازع البقاء و انتخاب الأصلح.

فيدفعه قوله تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) على التقريب المتقدّم و ما في معناه من الآيات.

على أنّ الحجّة الّتي اُقيمت على هذا القول قاصرة عن إثباته فإنّها شواهد مأخوذة من التشريح التطبيقي و أجنّة الحيوان و الآثار الحفريّة الدالّة على التغيّر التدريجيّ في صفات الأنواع و أعضائها و ظهور الحيوان تدريجاً آخذاً من الناقص إلى الكامل و خلق ما هو أبسط من الحيوان قبل ما هو أشدّ تركيباً.

و فيه أنّ ظهور النوع الكامل من حيث التجهيزات الحيويّة بعد الناقص زماناً لا يدلّ على أزيد من تدرّج المادّة في استكمالها لقبول الصور الحيوانيّة المختلفة فهي قد استعدّت لظهور الحياة الكاملة فيها بعد الناقصة و الشريفة بعد الخسيسة و أمّا كون الكامل من الحيوان منشعباً من الناقص بالتولّد و الاتّصال النسبي فلا و لم يعثر هذا الفحص و البحث على غزارته و طول زمانه على فرد نوع كامل متولّد من فرع نوع آخر على أن يقف على نفس التولّد دون الفرد و الفرد.

و ما وجد منها شاهداً على التغيّر التدريجيّ فإنّما هو تغيّر في نوع واحد بالانتقال من صفة لها إلى صفة اُخرى لا يخرج بذلك عن نوعيّته و المدّعى خلاف ذلك.

٢٧٢

فالّذي يتسلّم أنّ نشأة الحياة ذات مراتب مختلفة بالكمال و النقص و الشرف و الخسّة و أعلى مراتبها الحياة الإنسانيّة ثمّ ما يليها ثمّ الأمثل فالأمثل و أمّا أنّ ذلك من طريق تبدّل كلّ نوع ممّا يجاوره من النوع الأكمل، فلا يفيده هذا الدليل على سبيل الاستنتاج.

نعم يوجب حدساً مّا غير يقينيّ بذلك فالقول بتبدّل الأنواع بالتطوّر فرضيّة حدسيّة تبتني عليها العلوم الطبيعيّة اليوم و من الممكن أن يتغيّر يوماً إلى خلافها بتقدّم العلوم و توسّع الأبحاث.

و ربّما استدلّ على هذا القول بقوله تعالى:( إِنَّ اللهَ اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ) آل عمران: 33 بتقريب أنّ الاصطفاء هو انتخاب صفوة الشي‏ء و إنّما يصدق الانتخاب فيما إذا كان هناك جماعة يختار المصطفى من بينهم و يؤثر عليهم كما اصطفي كلّ من نوح و آل إبراهيم و آل عمران من بين قومهم و لازم ذلك أن يكون مع آدم قوم غيره فيصطفى من بينهم عليهم، و ليس إلّا البشر الأوّليّ غير المجهّز بجهاز التعقّل فاصطفي آدم من بينهم فجهز بالعقل فانتقل من مرتبة نوعيّتهم إلى مرتبة الإنسان المجهّز بالعقل الكامل بالنسبة إليهم ثمّ نسل و كثر نسله و انقرض الإنسان الأوّليّ الناقص.

و فيه أنّ( الْعالَمِينَ ) في الآية جمع محلّى باللّام و هو يفيد العموم و يصدق على عامّة البشر إلى يوم القيامة فهم مصطفون على جميع المعاصرين لهم و الجائين بعدهم كمثل قوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) فما المانع من كون آدم مصطفى مختاراً من بين أولاده ما خلا المذكورين منهم في الآية؟.

و على تقدير اختصاص الاصطفاء بما بين المعاصرين و عليهم ما هو المانع من كونه مصطفى مختاراً من بين أولاده المعاصرين له و لا دلالة في الآية على كون اصطفائه أوّل خلقته قبل ولادة أولاده.

على أنّ اصطفاء آدم لو كان على الإنسان الأوّليّ كما يذكره المستدلّ كان ذلك بما أنّه مجهّز بالعقل و كان ذلك مشتركاً بينه و بين بني آدم جميعاً على الإنسان الأوّليّ

٢٧٣

فكان تخصيص آدم في الآية بالذكر تخصيصاً من غير مخصّص.

و ربّما استدلّ بقوله:( وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) الآية الأعراف: 11 بناء على أنّ( ثمّ ) تدلّ على التراخي الزمانيّ فقد كان للنوع الإنسانيّ وجود قبل خلق آدم و أمر الملائكة بالسجدة له.

و فيه أنّ( ثُمَّ ) في الآية للترتيب الكلاميّ و هو كثير الورود في كلامه تعالى على أنّ هناك معنى آخر أشرنا إليه في تفسير الآية في الجزء الثامن من الكتاب.

و ربّما استدلّ بقوله:( وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) الآيات و تقريبه أنّ الآية الاُولى المتعرّضة لأوّل خلق الإنسان تذكر خلقته الأوّلية من تراب الّتي يشترك فيها جميع الأفراد، و الآية الثالثة تذكر تسويته و نفخ الروح فيه و بالجملة كماله الإنسانيّ و العطف بثمّ تدلّ على توسّط زمان معتدّ به بين أوّل خلقته من تراب و بين ظهوره بكماله.

و ليس هذا الزمان المتوسّط إلّا زمان توسّط الأنواع الاُخري الّتي تنتهي بتغيّرها التدريجيّ إلى الإنسان الكامل و خاصّة بالنظر إلى تنكّر( سُلالَةٍ ) المفيد للعموم.

و فيه أنّ قوله:( ثُمَّ سَوَّاهُ ) عطف على قوله( بَدَأَ ) و الآيات في مقام بيان ظهور النوع الإنسانيّ بالخلق و أنّ بدأ خلقه و هو خلقه و هو خلق آدم كان من طين ثمّ بدّل سلالة من ماء في ظهور أولاده، ثمّ تمّت الخلقة سواء كان فيه أو في أولاده بالتسوية و نفخ الروح.

و هذا معنى صحيح يقبل الانطباق على اللفظ و لا يلزم منه حمل قوله:( ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) على أنواع متوسّطة بين الخلق من الطين و بين التسوية و نفخ الروح، و كون( سُلالَةٍ ) نكرة لا يستلزم العموم فإنّ إفادة النكرة للعموم إنّما هو فيما إذا وقعت في سياق النفي دون الإثبات.

و قد استدلّ بآيات اُخر مربوطة بخلقه الإنسان و آدم بنحو ممّا مرّ يعلم الجواب عنها بما قدّمناه فلا موجب لنقلها و إطالة الكلام بالجواب عنها.

٢٧٤

( سورة السجده الآيات 15 - 30)

إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ   ( 15 ) تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( 16 ) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 17 ) أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا  لَّا يَسْتَوُونَ ( 18 ) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 19 ) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ  كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 20 ) وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 21 ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا  إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ( 22 ) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ  وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ( 23 ) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا  وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ( 24 ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 25 ) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ  

٢٧٥

أَفَلَا يَسْمَعُونَ ( 26 ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ  أَفَلَا يُبْصِرُونَ ( 27 ) وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 28 ) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ( 29 ) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ ( 30 )

( بيان)

الآيات تفرّق بين المؤمنين بحقيقة معنى الإيمان و بين الفاسقين و الظالمين و تذكر لكلّ ما يلزمه من الآثار و التبعات ثمّ تنذر الظالمين بعذاب الدنيا و تأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بانتظار الفتح و عند ذلك تختم السورة.

قوله تعالى: ( إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) لمّا ذكر شطراً من الكلام في الكفّار الّذين يجحدون لقاءه و يستكبرون في الدنيا عن الإيمان و العمل الصالح أخذ في صفة الّذين يؤمنون بآيات ربّهم و يخضعون للحقّ لمّا ذكّروا و وعظوا.

فقوله:( إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا ) حصر للإيمان بحقيقة معناه فيهم و معناه أنّ علامة التهيّؤ للإيمان الحقيقي هو كذا و كذا.

و قوله:( الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً ) ذكر سبحانه شيئاً من أوصافهم و شيئاً من أعمالهم، أمّا ما هو من أوصافهم فتذلّلهم لمقام الربوبيّة و عدم استكبارهم عن الخضوع لله و تسبيحه و حمده و هو قوله:( إِذا ذُكِّرُوا بِها ) أي الدالّة على وحدانيّته في ربوبيّته و اُلوهيّته و ما يلزمها من المعاد و الدعوة النبويّة إلى الإيمان و العمل الصالح( خَرُّوا سُجَّداً ) أي سقطوا على الأرض ساجدين لله تذلّلاً و استكانة( وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ

٢٧٦

رَبِّهِمْ ) أي نزّهوه مقارناً للثناء الجميل عليه. و السجدة و التسبيح و التحميد و إن كانت من الأفعال لكنّها مظاهر لصفة التذلّل و الخضوع لمقام الربوبيّة و الاُلوهيّة، و لذا أردفها بصفة تلازمها فقال:( وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) .

قوله تعالى: ( تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) هذا معرّفهم من حيث أعمالهم كما أنّ ما في الآية السابقة كان معرّفهم من حيث أوصافهم.

فقوله:( تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ) التجافي التنحّي و الجنوب جمع جنب و هو الشقّ، و المضاجع جمع مضجع و هو الفراش و موضع النوم، و التجافي عن المضاجع كناية عن ترك النوم.

و قوله:( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً ) حال من ضمير جنوبهم و المراد اشتغالهم بدعاء ربّهم في جوف الليل حين تنام العيون و تسكن الأنفاس لا خوفاً من سخطه تعالى فقط حتّى يغشيهم اليأس من رحمة الله و لا طمعاً في ثوابه فقط حتّى يأمنوا غضبه و مكره بل يدعونه خوفاً و طمعاً فيؤثرون في دعائهم أدب العبوديّة على ما يبعثهم إليه الهدى و هذا التجافي و الدعاء ينطبق على النوافل اللّيليّة.

و قوله:( وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) عمل آخر لهم و هو الإنفاق لله و في سبيله.

قوله تعالى: ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) تفريع لما لهم من الأوصاف و الأعمال يصف ما أعدّ الله لهم من الثواب.

و وقوع نفس و هي نكرة في سياق النفي يفيد العموم، و إضافة قرّة إلى أعين لا أعينهم تفيد أنّ فيما اُخفي لهم قرّة عين كلّ ذي عين.

و المعنى: فلا تعلم نفس من النفوس - أي هو فوق علمهم و تصوّرهم - ما أخفاه الله لهم ممّا تقرّ به عين كلّ ذي عين جزاء في قبال ما كانوا يعملون في الدنيا.

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) الإيمان سكون علميّ خاصّ من النفس بالشي‏ء و لازمه الالتزام العمليّ بما آمن به و الفسق هو الخروج عن الالتزام المذكور من فسقت التمرة إذا خرجت عن قشرها و مآل معناه الخروج عن

٢٧٧

زيّ العبوديّة.

و الاستفهام في الآية للإنكار، و قوله:( لا يَسْتَوُونَ ) نفي لاستواء الفريقين تأكيداً لما يفيده الإنكار السابق.

قوله تعالى: ( أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى‏ نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ‏ ) المأوى المكان الّذي يأوي إليه و يسكن فيه الإنسان، و النزل بضمّتين كلّ ما يعدّ للنازل في بيت من الطعام و الشراب، ثمّ عمّم كما قيل لكلّ عطيّة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ ) إلى آخر الآية، كون النار مأواهم لازمه خلودهم فيها و لذلك عقّبه بقوله:( كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها ) ، و قوله:( وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) دليل على أنّ المراد بالّذين فسقوا هم منكرو المعاد و خطابهم و هم في النار بهذا الخطاب شماتة بهم و كثيراً ما كانوا يشمتون في الدنيا بالمؤمنين لقولهم بالمعاد.

قوله تعالى: ( وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى‏ دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) لمّا كان غاية إذاقتهم العذاب رجوعهم المرجوّ و الرجوع المرجوّ هو الرجوع إلى الله بالتوبة و الإنابة كان المراد بالعذاب الأدنى هو عذاب الدنيا النازل بهم للتخويف و الإنذار ليتوبوا دون عذاب الاستئصال و دون العذاب الّذي بعد الموت و حينئذ المراد بالعذاب الأكبر عذاب يوم القيامة.

و المعنى: اُقسم لنذيقنّهم من العذاب الأدنى أي الأقرب مثل السنين و الأمراض و القتل و نحو ذلك قبل العذاب الأكبر يوم القيامة لعلّهم يرجعون إلينا بالتوبة من شركهم و جحودهم.

قيل: سمّي عذاب الدنيا أدنى و لم يقل: الأصغر، حتّى يقابل الأكبر لأنّ المقام مقام الإنذار و التخويف و لا يناسبه عدّ العذاب أصغر، و كذا لم يقل دون العذاب الأبعد حتّى يقابل العذاب الأدنى لعدم ملاءمته مقام التخويف.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ

٢٧٨

مُنْتَقِمُونَ ) كأنّه في مقام التعليل لما تقدّم من عذابهم بالعذاب الأكبر بما أنّهم مكذّبون فعلّله بأنّهم ظالمون أشدّ الظلم بالإعراض عن الآيات بعد التذكرة فيكونون مجرمين و الله منتقم منهم.

فقوله:( وَ مَنْ أَظْلَمُ ) إلخ تعليل لعذابهم بأنّهم ظالمون أشدّ الظلم ثمّ قوله:( إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ) ، تعليل لعذاب الظالمين بأنّهم مجرمون و العذاب انتقام منهم، و الله منتقم من المجرمين.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) المراد بالكتاب التوراة و المرية الشكّ و الريب.

و قد اختلفوا في مرجع الضمير في قوله:( مِنْ لِقائِهِ ) و معنى الكلمة فقيل: الضمير لموسى و هو مفعول اللقاء و التقدير فلا تكن في مرية من لقائك موسى و قد لقيه ليلة المعراج كما وردت به الروايات فإن كانت السورة نازلة بعد المعراج فهو تذكرة لما قد وقع و إن كانت نازلة قبله فهو وعد منه تعالى للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سيراه.

و قيل: الضمير لموسى و المعنى: فلا تكن في مرية من لقائك موسى يوم القيامة.

و قيل: الضمير للكتاب و التقدير فلا تكن في مرية من لقاء موسى الكتاب. و قيل: التقدير من لقائك الكتاب أو من لقاء الكتاب إيّاك.

و قيل: الضمير لما لقي موسى من الأذى من قومه و المعنى: فلا تكن في مرية من لقاء الأذى كما لقيه موسى من قومه و أنت خبير بأنّ الطبع السليم لا يقبل شيئاً من هذه الوجوه - على أنّها لا تفي لبيان وجه اتّصال الآية بما قبلها.

و من الممكن - و الله أعلم - أن يرجع ضمير لقائه إليه تعالى و المراد بلقائه البعث بعناية أنّه يوم يحضرون لربّهم لا حجاب بينه و بينهم كما تقدّم، و قد عبّر عنه باللقاء قبل عدّة آيات في قوله:( بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ) ، ثمّ عبّر عنه بما في معناه في قوله:( ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) .

فيكون المعنى: و لقد آتينا موسى الكتاب كما آتيناك القرآن فلا تكن في مرية من البعث الّذي ينطق به القرآن بالشكّ في نفس القرآن و قد اُيّد نزول القرآن

٢٧٩

عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنزول التوراة على موسى في مواضع من القرآن، و يؤيّده قوله بعد:( وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) إلخ.

و يمكن أن يكون المراد بلقائه الانقطاع التامّ إليه تعالى عند وحي القرآن أو بعضه كما في بعض الروايات، فيكون رجوعاً إلى ما في صدر السورة من قوله:( تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) ، و ذيل الآية أشدّ تأييداً لهذا الوجه من سابقه و الله أعلم.

و قوله:( وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) أي هادياً فالمصدر بمعنى اسم الفاعل أو بمعناه المصدريّ مبالغة.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) أي و جعلنا من بني إسرائيل أئمّة يهدون الناس بأمرنا و إنّما نصبناهم أئمّة هداة للناس حين صبروا في الدين و كانوا قبل ذلك موقنين بآياتنا.

و قد تقدّم البحث عن معنى الإمامة و هداية الإمام بأمر الله في تفسير قوله:( قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) البقرة: 124 و قوله:( وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) الأنبياء: 73 و غير ذلك من الموارد المناسبة.

و قد تضمّنت هاتان الآيتان من الرحمة المنبسطة بالتوراة أنّها هدى في نفسه يهدي من اتّبعه إلى الحقّ، و أنّها أنشأت في حجر تربيتها اُناساً اجتباهم الله للإمامة فصاروا يهدون بأمره فهي مباركة للعمل بها و مباركة بعد العمل.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يريد اختلافهم في الدين و إنّما كان ذلك بغياً بينهم كما يذكره في مواضع من كلامه كقوله:( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ - إلى أن قال -فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) الجاثية: 17.

فالمراد بقوله:( يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ) القضاء الفاصل بين الحقّ و الباطل و المحقّ و المبطل و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ )

٢٨٠