الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن18%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128713 / تحميل: 6809
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

( سورة القصص مكّيّة و هي ثمان و ثمانون آية)

( سورة القصص الآيات ١ – ١٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ طسم ( ١ ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( ٢ ) نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٣ ) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ  إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( ٤ ) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( ٥ ) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ( ٦ ) وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ  فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي  إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( ٧ ) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا  إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ( ٨ ) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ  لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ٩ ) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا  إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ١٠ ) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ  فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ١١ ) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ

٢

لَهُ نَاصِحُونَ ( ١٢ ) فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ١٣ ) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ١٤ )

( بيان)

غرض السورة الوعد الجميل للمؤمنين و هم بمكّة قبل الهجرة شرذمة قليلون يستضعفهم فراعنة قريش و طغاتها و اليوم يوم شدّة و عسرة و فتنة بأنّ الله سيمنّ عليهم و يجعلهم أئمّة و يجعلهم الوارثين و يمكّن لهم و يرى طغاة قومهم منهم ما كانوا يحذرون يقصّ تعالى للمؤمنين من قصّة موسى و فرعون أنّه خلق موسى في حين كان فرعون في أوج قدرته يستضعف بني إسرائيل يذبّح أبناءهم و يستحيي نساءهم فربّاه في حجر عدوّ، حتّى إذا استوى و بلغ أشدّه نجّاه و أخرجه من بينهم إلى مدين ثمّ ردّه إليهم رسولاً منه بسلطان مبين حتّى إذا أغرق فرعون و جنوده أجمعين و جعل بني إسرائيل هم الوارثين و أنزل التوراة على موسى هدى و بصائر للمؤمنين.

و على هذا المجرى يجري حال المؤمنين و فيه وعدٌ لهم بالملك و العزّة و السلطان و وعد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بردّه إلى معاد.

و انتقل من القصّة إلى بيان أنّ من الواجب في حكمة الله أن ينزّل كتاباً من عنده للدعوة الحقّة ثمّ ذكر طعنهم في دعوة القرآن بقولهم: لو لا اُوتي مثل ما اُوتي موسى و الجواب عنه، و تعلّلهم عن الإيمان بقولهم: إن نتّبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا و الجواب عنه و فيه التمثّل بقصّة قارون و خسفه.

و السورة مكّيّة كما يشهد بذلك سياق آياتها، و ما أوردناه من الآيات فصل من قصّة موسى و فرعون من يوم ولد موسى إلى بلوغه أشدّه.

قوله تعالى: ( طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) تقدّم الكلام فيه في نظائره.

٣

قوله تعالى: ( نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى‏ وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( مِنْ ) للتبعيض و( بِالْحَقِّ ) متعلّق بقوله:( نَتْلُوا ) أي نتلو تلاوة متلبّسة بالحقّ فهو من عندنا و بوحي منّا من غير أن يداخل في إلقائه الشياطين، و يمكن أن يكون متعلّقاً بنبإ أي حال كون النبإ الّذي نتلوه عليك متلبّساً بالحقّ لا مرية فيه.

و قوله:( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) اللّام فيه للتعليل و هو متعلّق بقوله:( نَتْلُوا ) أي نتلو عليك من نبإهما لأجل قوم يؤمنون بآياتنا.

و محصّل المعنى: نتلو عليك بعض نبإ موسى و فرعون تلاوة بالحقّ لأجل أن يتدبّر فيه هؤلاء الّذين يؤمنون بآياتنا ممّن اتّبعوك و هم طائفة أذلّاء مستضعفون في أيدي فراعنة قريش و طغاة قومهم فيتحقّقوا أنّ الله الّذي آمنوا به و برسوله و تحمّلوا كلّ أذى في سبيله هو الله الّذي أنشأ موسىعليه‌السلام لإحياء الحقّ و إنجاء بني إسرائيل و إعزازهم بعد ذلّتهم هاتيك الذلّة يذبّح أبناءهم و يستحيي نساءهم و قد علا فرعون و أنشب فيهم مخالب قهره و أحاط بهم بجوره.

أنشأه و الجوّ ذلك الجوّ المظلم الّذي لا مطمع فيه فربّاه في حجر عدوّه ثمّ أخرجه من مصر ثمّ أعاده إليهم بسلطان فأنجا به بني إسرائيل و أفنى بيده فرعون و جنوده و جعلهم أحاديث و أحلاما.

فهو الله جلّ شأنه يقصّ على نبيّه قصّتهم و يرمز له و لهم بقوله:( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) أنّه سيفعل بهؤلاء مثل ما فعل باُولئك و يمنّ على هؤلاء المستضعفين و يجعلهم أئمّة و يجعلهم الوارثين حذو ما صنع ببني إسرائيل.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ ) إلخ، العلوّ في الأرض كناية عن التجبّر و الاستكبار، و الشيع جمع شيعة و هي الفرقة، قال في المجمع: الشيع: الفرق و كلّ فرقة شيعة و سمّوا بذلك لأنّ بعضهم يتابع بعضاً. انتهى. و كأنّ المراد بجعل أهل الأرض - و كأنّهم أهل مصر و اللّام للعهد - فرقاً إلقاء الاختلاف بينهم لئلّا يتّفق كلمتهم فيثوروا عليه و يقلبوا عليه الأمور على ما هو من دأب الملوك في بسط القدرة و تقوية السلطة، و استحياء النساء إبقاء حياتهنّ.

٤

و محصّل المعنى: أنّ فرعون علا في الأرض و تفوّق فيها ببسط السلطة على الناس و إنفاذ القدرة فيهم و جعل أهلها شيعاً و فرقاً مختلفة لا تجتمع كلمتهم على شي‏ء و بذلك ضعّف عامّة قوّتهم على المقاومة دون قوّته و الامتناع من نفوذ إرادته.

و هو يستضعف طائفة منهم و هم بنو إسرائيل و هم أولاد يعقوبعليه‌السلام و قد قطنوا بمصر منذ أحضر يوسفعليه‌السلام أباه و إخوته و أشخصهم هناك فسكنوها و تناسلوا بها حتّى بلغوا الاُلوف.

و كان فرعون هذا و هو ملك مصر المعاصر لموسىعليه‌السلام يعاملهم معاملة الاُسراء الأرقّاء و يزيد في تضعيفهم حتّى بلغ من استضعافه لهم أن أمر بتذبيح أبنائهم و استبقاء نسائهم و كان فيه إفناء رجالهم بقتل الأبناء الذكور و فيه فناء القوم.

و السبب في ذلك أنّه كان من المفسدين في الأرض فإنّ الخلقة العامّة الّتي أوجدت الإنسان لم يفرّق في بسط الوجود بين شعب و شعب من الشعوب الإنسانيّة ثمّ جهّز الكلّ بما يهديهم إلى حياة اجتماعيّة بالتمتّع من أمتعة الحياة الأرضيّة و لكلّ ما يعادل قيمته في المجتمع و ما يساوي زنته في التعاون.

هذا هو الإصلاح الّذي يهتف به الصنع و الإيجاد، و التعدّي عن ذلك بتحرير قوم و تعبيد آخرين و تمتيع شعب بما لا يستحقّونه و تحريم غيرهم ما يصلحون له هو الإفساد الّذي يسوق الإنسانيّة إلى البيد و الهلاك.

و في الآية تصوير الظرف الّذي ولد فيه موسىعليه‌السلام و قد أحدقت الأسباب المبيدة لبني إسرائيل على إفنائه.

قوله تعالى: ( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ - إلى قوله -ما كانُوا يَحْذَرُونَ ) الأصل في معنى المنّ - على ما يستفاد من كلام الراغب - الثقل و منه تسمية ما يوزن به منّا، و المنّة النعمة الثقيلة و منّ عليه منّا أي أثقله بالنعمة. قال: و يقال ذلك على وجهين أحدهما بالفعل كقوله:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ) أي نعطيهم من النعمة ما يثقلهم و الثاني بالقول كقوله:( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) و هو مستقبح إلّا عند كفران النعمة. انتهى ملخصّاً.

٥

و تمكينهم في الأرض إعطاؤهم فيها مكاناً يملكونه و يستقرّون فيه، و عن الخليل أنّ المكان مفعل من الكون و لكثرته في الكلام اُجري مجرى فعال. فقيل: تمكن و تمسكن نحو تمنزل انتهى.

و قوله:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ ) إلخ الأنسب أن يكون حالاً من( طائِفَةً ) و التقدير يستضعف طائفة منهم و نحن نريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا إلخ و قيل: معطوف على قوله:( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) و الأوّل أظهر، و( نُرِيدُ ) على أيّ حال لحكاية الحال الماضية.

و قوله:( وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) عطف تفسير على قوله:( نَمُنَّ ) و كذا ما بعده من الجمل المتعاقبة.

و المعنى: أنّ الظرف كان ظرف علوّ فرعون، و تفريقه بين الناس و استضعافه لبني إسرائيل استضعافاً يبيدهم و يفنيهم و الحال أنّا نريد أن ننعم على هؤلاء الّذين استضعفوا من كلّ وجه نعمة تثقلهم و ذلك بأن نجعلهم أئمّة يقتدى بهم فيكونوا متبوعين بعد ما كانوا تابعين، و نجعلهم الوارثين لها بعد ما كانت بيد غيرهم و نمكّن لهم في الأرض بأن نجعل لهم مكاناً يستقرّون فيه و يملكونه بعد ما لم يكن لهم من المكان إلّا ما أراد غيرهم أن يبوّئهم فيه و يقرّهم عليه، و نري فرعون و هو ملك مصر و هامان و هو وزيره و جنودهما منهم أي من هؤلاء الّذين استضعفوا ما كانوا يحذرون و هو أن يظهروا عليهم فيذهبوا بملكهم و مالهم و سنّتهم كما قالوا في موسى و أخيه لمّا اُرسلاً إليهم:( يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) طه: ٦٣.

و الآية تصوّر ما في باطن هذا الظرف الهائل الّذي قضى على بني إسرائيل أن لا يعيش منهم متنفّس و لا يبقى منهم نافخ نار و قد أحاطت بهم قدرة فرعون الطاغية و ملأ أقطار وجودهم رعبه و هو يستضعفهم حتّى يقضي عليهم بالبيد هذا ظاهر الأمر و في باطنه الإرادة الإلهيّة تعلّقت بأن تنجيهم منهم و تحوّل ثقل النعمة من آل فرعون الأقوياء العالين إلى بني إسرائيل الأذلّاء المستضعفين و تبدّل من الأسباب ما كان على بني إسرائيل لهم و ما كان لآل فرعون عليهم و الله يحكم لا معقّب لحكمه.

٦

قوله تعالى: ( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ) إلى آخر الآية، الإيحاء هو التكليم الخفيّ و يستعمل في القرآن في تكليمه تعالى بعض خلقه بنحو الإلهام و الإلقاء في القلب كما في قوله:( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها ) الزلزال: ٥ و قوله:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) النحل: ٦٨ و قوله في اُمّ موسى:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى) الآية أو بنحو آخر كما في الأنبياء و الرسل، و في غيره تعالى كما في قوله:( إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ ) الأنعام: ١٢١، و الإلقاء الطرح، و اليمّ البحر و النهر الكبير.

و قوله:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى) في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير و حبلت اُمّ موسى به - و الحال هذه الحال من الشدّة و الحدّة - و وضعته و أوحينا إليها إلخ.

و المعنى: و قلنا بنوع من الإلهام لاُمّ موسى لمّا وضعته: أرضعيه ما دمت لا تخافين عليه من قبل فرعون فإذا خفت عليه - أن يطّلع عليه آل فرعون فيأخذوه و يقتلوه - فألقيه في البحر و هو النيل على ما وردت به الرواية و لا تخافي عليه القتل و لا تحزني لفقده و مفارقته إيّاك إنّا رادّوه إليك بعد ذلك و جاعلوه من المرسلين فيكون رسولاً إلى آل فرعون و بني إسرائيل.

فقوله:( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ) تعليل للنهي في قوله:( وَ لا تَحْزَنِي ) كما يشهد به أيضاً قوله بعد:( فَرَدَدْناهُ إِلى‏ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ ) و الفرق بين الخوف و الحزن بحسب المورد أنّ الخوف إنّما يكون في مكروه محتمل الوقوع و الحزن في مكروه قطعيّ الوقوف.

قوله تعالى: ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) الالتقاط أصابه الشي‏ء و أخذه من غير طلب، و منه اللقطة و اللّام في قوله:( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً ) للعاقبة - على ما قيل - و الحزن بفتحتين و الحزن بالضمّ فالسكون بمعنى واحد كالسقم و السقم، و المراد بالحزن سبب الحزن فإطلاق الحزن عليه مبالغة في سببيّته لحزنهم.

و الخاطئين اسم فاعل من خطئ يخطأ خطأً كعلم يعلم علما كما أنّ المخطئ

٧

اسم فاعل من أخطأ يخطئ إخطاءً، و الفرق بين الخاطئ و المخطئ - على ما ذكره الراغب - أنّ الخاطئ يطلق على من أراد فعلاً لا يحسنه ففعله قال تعالى:( إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) ، و قال:( وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) ، و المخطئ يستعمل فيمن أراد فعلاً يحسنه فوقع منه غيره و اسم مصدره الخطأ بفتحتين، قال تعالى:( وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً ) النساء: ٩٢ و المعنى الجامع هو العدول عن الجهة. انتهى ملخّصاً.

فقوله:( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) أي فيما كانوا يفعلونه في أبناء بني إسرائيل و موسى تحذّرا من انهدام ملكهم و ذهاب سلطانهم بيدهم إرادة لتغيير المقادير عن مجاريها فقتلوا الجمّ الغفير من الأبناء و لا شأن لهم في ذلك و تركوا موسى حيث التقطوه و ربّوه في حجورهم و كان هو الّذي بيده انقراض دولتهم و زوال ملكهم.

و المعنى: فأصابه آل فرعون و أخذوه من اليمّ و كان غاية ذلك أن يكون لهم عدوّاً و سبب حزن إنّ فرعون و هامان و جنودهما كانوا خاطئين في قتل الأبناء و ترك موسى: أرادوا أن يقضوا على من سيقضي عليهم فعادوا يجتهدون في حفظه و يجدّون في تربيته.

و بذلك يظهر أنّ تفسير بعضهم كونهم خاطئين بأنّهم كانوا مذنبين فعاقبهم الله أن ربّي عدوّهم على أيديهم ليس بسديد.

قوله تعالى: ( وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) شفاعة من امرأة فرعون و قد كانت عنده حينما جاؤا إليه بموسى - و هو طفل ملتقط من اليمّ - تخاطب فرعون بقوله:( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ ) أي هو قرّة عين لنا( لا تَقْتُلُوهُ ) و إنّما خاطب بالجمع لأنّ شركاء القتل كانوا كثيرين من سبب و مباشر و آمر و مأمور.

و إنّما قالت ما قالت لأنّ الله سبحانه ألقى محبّة منه في قلبها فعادت لا تملك نفسها دون أن تدفع عنه القتل و تضمّه إليها، قال تعالى فيما يمنّ به على موسىعليه‌السلام :( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى‏ عَيْنِي ) طه: ٣٩.

و قوله:( عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) قالته لمّا رأت في وجهه من آثار الجلال

٨

و سيماء الجذبة الإلهيّة، و في قولها:( أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) دلالة على أنّهما كانا فاقدين للإبن.

و قوله:( وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) جملة حاليّة أي قالت ما قالت و شفعت له و صرفت عنه القتل و القوم لا يشعرون ما ذا يفعلون و ما هي حقيقة الحال و ما عاقبته؟

قوله تعالى: ( وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى‏ فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى‏ قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الإبداء بالشي‏ء إظهاره، و الربط على الشي‏ء شدّة و هو كناية عن التثبيت.

و المراد بفراغ فؤاد اُمّ موسى فراغه و خلوّة من الخوف و الحزن و كان لازم ذلك أن لا يتوارد عليه خواطر مشوّشة و أوهام متضاربة يضطرب بها القلب فيأخذها الجزع فتبدي ما كان عليها أن تخفيه من أمر ولدها.

و ذلك أنّ ظاهر السياق أنّ سبب عدم إبدائها له فراغ قلبها و سبب فراغ قلبها الربط على قلبها و سبب الربط هو قوله تعالى لها فيما أوحى إليها:( لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ) إلخ.

و قوله:( إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا ) إلخ،( إِنْ ) مخفّفة من الثقيلة أي إنّها قربت من أن تظهر الأمر و تفشي السرّ لو لا أن ثبّتنا قلبها بالربط عليه، و قوله:( لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي الواثقين بالله في حفظه فتصبر و لا تجزع عليه فلا يبدو أمره.

و المجموع أعني قوله:( إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) إلى آخر الآية في مقام البيان لقوله:( وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى‏ فارِغاً ) و محصّل معنى الآية و صار قلب اُمّ موسى بسبب وحينا خالياً من الخوف و الحزن المؤدّيين إلى إظهار الأمر، لو لا أن ثبّتنا قلبها بسبب الوحي لتكون واثقة بحفظ الله له لقربت من أن تظهر أمره لهم بالجزع عليه.

و بما تقدّم يظهر ضعف بعض ما قيل في تفسير جمل الآية كقول بعضهم في( وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى‏ فارِغاً ) أي صفراً من العقل لما دهمها من الخوف و الحيرة حين سمعت بوقوع الطفل في يد فرعون، و قول آخرين: أي فارغاً من الوحي الّذي اُوحي إليها بالنسيان، و ما قيل: أي فارغاً من كلّ شي‏ء إلّا ذكر موسى أي صار فارغاً له. فإنّها

٩

جميعاً وجوه لا يحتمل شيئاً منها السياق.

و نظير ذلك في الضعف قولهم: إنّ جواب لو لا محذوف و التقدير لو لا أن ربطنا على قلبها لأبدته و أظهرته، و الوجه في تقديرهم ذلك ما قيل: إنّ لو لا شبيهه بأدوات الشرط فلها الصدر و لا يتقدّم جوابها عليها. و قد تقدّمت المناقشة فيه في الكلام على قوله تعالى:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) يوسف: ٢٤.

قوله تعالى: ( وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) قال في المجمع: القصّ اتّباع الأثر و منه القصص في الحديث لأنّه يتّبع فيه الثاني الأوّل. و قال: و معنى بصرت به عن جنب أبصرته عن جنابة أي عن بعد. انتهى.

و المعنى: و قالت اُمّ موسى لاُخته اتّبعي أثر موسى حتّى ترين إلام يؤل أمره فرأته عن بعد و قد أخذه خدم فرعون و هم لا يشعرون بأنّها تقصّه و تراقبه.

قوله تعالى: ( وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) التحريم في الآية تكوينيّ لا تشريعيّ و معناه جعله بحيث لا يقبل ثدي مرضع و يمتنع من ارتضاعها.

و قوله:( مِنْ قَبْلُ ) أي من قبل حضورها هناك و مجيئها إليهم و المراضع جمع مرضعة كما قيل.

و قوله:( فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) تفريع على ما تقدّمه غير أنّ السياق يدلّ على أنّ هناك حذفاً كأنّه قيل: و حرّمنا عليه المراضع غير اُمّه من قبل أن تجي‏ء اُخته فكلّما أتوا له بمرضع لترضعه لم يقبل ثديها فلمّا جاءت اُخته و رأت الحال قالت عند ذلك لآل فرعون: هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لنفعكم و هم له ناصحون.

قوله تعالى: ( فَرَدَدْناهُ إِلى‏ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) تفريع على ما تقدّمه مع تقدير مّا يدلّ عليه السياق، و المحصّل أنّها قالت: هل أدلّكم على أهل بيت كذا فأنعموا لها بالقبول فدلّتهم على اُمّه فسلّموه إليها فرددناه إلى اُمّه بنظم هذه الأسباب.

١٠

و قوله:( كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ ) إلخ، تعليل للردّ و المراد بالعلم هو اليقين بالمشاهدة فإنّها كانت تعلم من قبلُ أنّ وعد الله حقّ و كانت مؤمنة و إنّما اُريد بالردّ أن توقن بالمشاهدة أنّ وعد الله حقّ.

و المراد بوعد الله مطلق الوعد الإلهيّ بدليل قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي لا يوقنون بذلك و يرتابون في مواعده تعالى و لا تطمئنّ إليها نفوسهم، و محصّله أن توقع بمشاهدة حقيّة هذا الّذي وعدها الله به أنّ مطلق وعده تعالى حقّ.

و ربّما يقال: إنّ المراد بوعد الله خصوص الوعد المذكور في الآية السابقة:( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) و لا يلائمه قوله بعد:( وَ لكِنَّ ) إلخ على ما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى‏ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) بلوغ الأشدّ أن يعمّر الإنسان ما تشتدّ عند ذلك قواه و يكون في الغالب في الثمان عشرة، و الاستواء الاعتدال و الاستقرار فالاستواء في الحياة استقرار الإنسان في أمر حياته و يختلف في الأفراد و هو على الأغلب بعد بلوغ الأشدّ، و قد تقدّم الكلام في معنى الحكم و العلم و إيتائهما و معنى الإحسان في مواضع من الكتاب.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ) قال: يوسف و ولده.

أقول: لعلّ المراد بنو إسرائيل، و إلّا فظهور الآية في خلافه غير خفيّ.

و في معاني الأخبار، بإسناده عن محمّد بن سنان عن المفضّل بن عمر قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظر إلى عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام فبكى و قال: أنتم المستضعفون بعدي. قال المفضّل: فقلت له: ما معنى ذلك؟ قال: معناه أنّكم الأئمّة بعدي إنّ الله عزّوجلّ يقول:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي

١١

الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة.

أقول: و الروايات من طرق الشيعة في كون الآية في أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كثيرة و بهذه الرواية يظهر أنّها جميعاً من قبيل الجري و الانطباق.

و في نهج البلاغة: لتعطفنّ الدنيا عليا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها و تلا عقيب ذلك( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى) إلى آخر الآية: حدّثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إنّه لمّا حملت به اُمّه لم يظهر حملها إلّا عند وضعها له و كان فرعون قد وكّل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهنّ و ذلك أنّه كان لمّا بلغه عن بني إسرائيل أنّهم يقولون: إنّه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده فقال فرعون عند ذلك: لأقتلنّ ذكور أولادهم حتّى لا يكون ما يريدون و فرّق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس.

فلمّا وضعت اُمّ موسى بموسى نظرت إليه و حزنت عليه و اغتمّت و بكت و قالت: يذبح الساعة فعطف الله عزّوجلّ قلب الموكّلة بها عليه فقالت لاُمّ موسى: ما لك قد اصفرّ لونك؟ فقالت أخاف أن يذبح ولدي فقالت: لا تخافي و كان موسى لا يراه أحد إلّا أحبّه و هو قول الله:( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) .

فأحبّته القبطيّة الموكّلة بها و أنزل الله على اُمّ موسى التابوت، و نوديت ضعيه في التابوت فألقيه في اليمّ و هو البحر( وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) فوضعته في التابوت و أطبقته عليه و ألقته في النيل.

و كان لفرعون قصر على شطّ النيل متنزّه فنظر من قصره - و معه آسية امرأته - إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج و الرياح تضربه حتّى جاءت به إلى باب قصر فرعون فأمر فرعون بأخذه فاُخذ التابوت و رفع إليه فلمّا فتحه وجد فيه صبيّاً فقال: هذا إسرائيليّ فألقى الله في قلب فرعون محبّة شديدة و كذلك في قلب آسية.

١٢

و أراد فرعون أن يقتله فقالت آسية:( لا تَقْتُلُوهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أنّه موسى.

و في المجمع: في قوله تعالى:( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ ) إلخ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الّذي يحلف به لو أقرّ فرعون بأن يكون له قرّة عين كما أقرّت امرأته لهداه الله به كما هداها و لكنّه أبى للشقاء الّذي كتبه الله عليه.

و في المعاني، بإسناده عن محمّد بن نعمان الأحول عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى) قال: أشدّه ثمان عشرة سنة( وَ اسْتَوى) التحى.

١٣

( سورة القصص الآيات ١٥ - ٢١)

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ  فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ  قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ  إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ( ١٥ ) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ  إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ١٦ ) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ( ١٧ ) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ  قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ( ١٨ ) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ  إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ( ١٩ ) وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ( ٢٠ ) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ  قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٢١ )

( بيان)

فصل ثان من قصّة موسىعليه‌السلام فيه ذكر بعض ما وقع بعد بلوغه أشدّه فأدّى إلى خروجه من مصر و قصده مدين.

قوله تعالى: ( وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى‏ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) إلخ، لا ريب أنّ المدينة الّتي دخلها على حين غفلة من أهلها هي مصر، و أنّه كان يعيش عند فرعون،

١٤

و يستفاد من ذلك أنّ القصر الملكيّ الّذي كان يسكنه فرعون كان خارج المدينة و أنّه خرج منه و دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، و يؤيّد ما ذكرنا ما سيأتي من قوله:( وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) على ما سيجي‏ء من الاستظهار.

و حين الغفلة من أهل المدينة هو حين يدخل الناس بيوتهم فتتعطّل الأسواق و تخلو الشوارع و الأزقّة من المارّة كالظهيرة و أواسط الليل.

و قوله:( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ ) أي يتنازعان و يتضاربان، و قوله:( هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ ) حكاية حال تمثّل به الواقعة، و معناه: أنّ أحدهما كان إسرائيليّاً من متّبعيه في دينه - فإنّ بني إسرائيل كانوا ينتسبون يومئذ إلى آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوبعليهم‌السلام في دينهم و إن كان لم يبق لهم منه إلّا الاسم و كانوا يتظاهرون بعبادة فرعون - و الآخر قبطيّاً عدوّاً له لأنّ القبط كانوا أعداء بني إسرائيل، و من الشاهد أيضاً على كون هذا الرجل قبطيّاً قوله في موضع آخر يخاطب ربّه:( وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) الشعراء: ١٤.

و قوله:( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) الاستغاثة: الاستنصار من الغوث بمعنى النصرة أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على عدوّه القبطيّ.

و قوله:( فَوَكَزَهُ مُوسى‏ فَقَضى‏ عَلَيْهِ ) ضميراً( فَوَكَزَهُ ) و( عَلَيْهِ ) للّذي من عدوّه و الوكز - على ما ذكره الراغب و غيره - الطعن و الدفع و الضرب بجمع الكفّ، و القضاء هو الحكم و القضاء عليه كناية عن الفراغ من أمره بموته، و المعنى: فدفعه أو ضربه موسى بالوكز فمات، و كان قتل خطإ و لو لا ذلك لكان من حقّ الكلام أن يعبّر بالقتل.

و قوله:( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) الإشارة بهذا إلى ما وقع بينهما من الاقتتال حتّى أدّى إلى موت القبطي و قد نسبه نوع نسبة إلى عمل الشيطان إذ قال:( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) و( مِنْ ) ابتدائيّة تفيد معنى الجنس أو نشوئيّة، و المعنى: هذا الّذي وقع من المعاداة و الاقتتال من جنس العمل المنسوب إلى

١٥

الشيطان أو ناش من عمل الشيطان فإنّه هو الّذي أوقع العداوة و البغضاء بينهما و أغرى على الاقتتال حتّى أدّى ذلك إلى مداخلة موسى و قتل القبطي بيده فأوقعه ذلك في خطر عظيم و قد كان يعلم أنّ الواقعة لا تبقى خفيّة مكتومة و أنّ القبط سيثورون عليه و أشرافهم و ملاؤهم و على رأسهم فرعون سينتقمون منه و من كلّ من تسبّب إلى ذلك أشدّ الانتقام.

فعند ذلك تنبّهعليه‌السلام أنّه أخطأ فيما فعله من الوكز الّذي أورده مورد الهلكة و لا ينسب الوقوع في الخطإ إلى الله سبحانه لأنّه لا يهدي إلّا إلى الحقّ و الصواب فقضي أنّ ذلك منسوب إلى الشيطان.

و فعله ذاك و إن لم يكن معصية منه لوقوعه خطأ و كون دفاعه عن الإسرائيلي دفعاً لكافر ظالم، لكنّ الشيطان كما يوقع بوسوسته الإنسان في الإثم و المعصية كذلك يوقعه في أيّ مخالفة للصواب يقع بها في الكلفة و المشقّة كما أوقع آدم و زوجه فيما أوقع من أكل الشجرة المنهيّة فأدّى ذلك إلى خروجهما من الجنّة.

فقوله:( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) انزجار منه عمّا وقع من الاقتتال المؤدّي إلى قتل القبطيّ و وقوعه في عظيم الخطر و ندم منه على ذلك، و قوله:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) إشارة منه إلى أنّ فعله كان من الضلال المنسوب إلى الشيطان و إن لم يكن من المعصية الّتي فيها إثم و مؤاخذة بل خطأ محضاً لا ينسب إلى الله بل إلى الشيطان الّذي هو عدوّ مضلّ مبين، فكان ذلك منه نوعاً من سوء التدبير و ضلال السعي يسوقه إلى عاقبة وخيمة و لذا لمّا اعترض عليه فرعون بقوله:( وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ‏ ) أجابه بقوله:( فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) الشعراء: ٢٠.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) اعتراف منه عند ربّه بظلمه نفسه حيث أوردها مورد الخطر و ألقاها في التهلكة، و منه يظهر أنّ المراد بالمغفرة المسؤولة في قوله:( فَاغْفِرْ لِي ) هو إلغاء تبعة فعله و إنجاؤه من الغمّ و تخليصه من شرّ فرعون و ملإه، كما يظهر من قوله تعالى:( وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ ) طه: ٤٠.

١٦

و هذا الاعتراف بالظلم و سؤال المغفرة نظير ما وقع من آدم و زوجه المحكيّ في قوله تعالى:( قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) الأعراف: ٢٣.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) قيل: الباء في قوله:( بِما أَنْعَمْتَ ) للسببيّة و المعنى ربّ بسبب ما أنعمت عليّ، لك عليّ أن لا أكون معيناً للمجرمين فيكون عهداً منه لله تعالى و قيل: الباء للقسم و الجواب محذوف و المعنى: اُقسم بما أنعمت عليّ لأتوبنّ أو لأمتنعنّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين، و قيل: القسم استعطافيّ و هو القسم الواقع في الإنشاء كقولك بالله زرني، و المعنى اُقسمك أن تعطف عليّ و تعصمني فلن أكون ظهيراً للمجرمين.

و الوجه الأوّل هو الأوجه لأنّ المراد بقوله:( بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) - على ما ذكروه - إمّا إنعامه تعالى عليه إذ حفظه و خلّصه من قتل فرعون و ردّه إلى اُمّه، و إمّا إنعامه عليه إذ قبل توبته من قتل القبطيّ و غفر له بناء على أنّه علم مغفرته تعالى بإلهام أو رؤيا أو نحوهما و كيف كان فهو إقسام بغيره تعالى، و المعنى اُقسم بحفظك إيّاي أو اُقسم بمغفرتك لي، و لم يعهد في كلامه تعالى حكاية قسم من غيره بغيره بهذا النحو.

و قوله:( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) قيل: المراد بالمجرم من أوقع غيره في الجرم أو من أدّت إعانته إلى جرم كالإسرائيليّ الّذي خاصمه القبطيّ فأوقعت إعانته موسى في جرم القتل فيكون في لفظ المجرمين مجاز في النسبة من حيث تسمية السبب الموقع في الجرم مجرماً.

و قيل: المراد بالمجرمين فرعون و قومه و المعنى: اُقسم بإنعامك عليّ لأتوبنّ فلن أكون معيناً لفرعون و قومه بصحبتهم و ملازمتهم و تكثير سوادهم كما كنت أفعله إلى هذا اليوم.

و ردّ هذا الوجه الثاني بأنّه لا يناسب المقام.

و الحقّ أنّ قوله:( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) عهد من

١٧

موسىعليه‌السلام أن لا يعين مجرماً على إجرامه شكراً لله تعالى على ما أنعم عليه، و المراد بالنعمة و قد اُطلقت إطلاقاً الولاية الإلهيّة على ما يشهد به قوله تعالى:( فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ ) النساء: ٦٩.

و هؤلاء أهل الصراط المستقيم مأمونون من الضلال و الغضب لقوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ ) الفاتحة: ٧ و ترتّب الامتناع عن إعانة المجرمين على الإنعام بهذا المعنى ظاهر لا سترة عليه.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالمجرمين أمثال فرعون و قومه دون أمثال الإسرائيلي الّذي أعانه فلم يكن في إعانته جرم و لا كان وكز القبطيّ جرماً حتّى يتوبعليه‌السلام منه كيف؟ و هوعليه‌السلام من أهل الصراط المستقيم الّذين لا يضلّون بمعصيته، و قد نصّ تعالى على كونه من المخلصين الّذين لا سبيل للشيطان إليهم بالإغواء حيث قال:( إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) مريم: ٥١.

و قد نصّ تعالى أيضاً آنفاً بأنّه آتاه حكماً و علماً و أنّه من المحسنين و من المتيقّن من أمره أن لا تستخفّه عصبيّة قوميّة أو غضب في غير ما ينبغي أو إعانة و نصرة لمجرم في إجرامه.

و قد كرّر( قالَ ) ثلاثاً حيث قيل:( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) ( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) ( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) و ذلك لاختلاف السياق في الجمل الثلاث فالجملة الاُولى قضاء منه و حكم، و الجملة الثانية استغفار و دعاء، و الجملة الثالثة عهد و التزام.

قوله تعالى: ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى‏ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) تقييد( فَأَصْبَحَ ) بقوله:( فِي الْمَدِينَةِ ) دليل على أنّه بقي في المدينة و لم يرجع إلى قصر فرعون، و الاستصراخ الاستغاثة برفع الصوت من الصراخ بمعنى الصياح، و الغواية إخطاء الصواب خلاف الرشد.

و المعنى: فأصبح موسى في المدينة - و لم يرجع إلى بلاط فرعون - و الحال أنّه خائف من فرعون ينتظر الشرّ ففاجأه أنّ الإسرائيليّ الّذي استنصره على القبطيّ

١٨

بالأمس يستغيث به رافعاً صوته على قبطيّ آخر قال موسى للإسرائيليّ توبيخاً و تأنيباً: إنّك لغويّ مبين لا تسلك سبيل الرشد و الصواب لأنّه كان يخاصم و يقتتل قوماً ليس في مخاصمتهم و المقاومة عليهم إلّا الشرّ كلّ الشرّ.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى‏ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ) إلى آخر الآية، ذكر جلّ المفسّرين أنّ ضمير( قالَ ) للإسرائيلي الّذي كان يستصرخه و ذلك أنّه ظنّ أنّ موسى إنّما يريد أن يبطش به لمّا سمعه يعاتبه قبل بقوله:( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) فهاله ما رأى من إرادته البطش فقال:( يا مُوسى‏ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ) إلخ، فعلم القبطيّ عند ذلك أنّ موسى هو الّذي قتل القبطيّ بالأمس فرجع إلى فرعون فأخبره الخبر فأتمروا بموسى و عزموا على قتله.

و ما ذكروه في محلّه لشهادة السياق بذلك فلا يعبوء بما قيل: إنّ القائل هو القبطيّ دون الإسرائيليّ، هذا و معنى باقي الآية ظاهر. و في قوله:( أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما ) تعريض للتوراة الحاضرة حيث تذكر أنّ المتقاتلين هذين كانا جميعاً إسرائيليّين، و فيه أيضاً تأييد أنّ القائل:( يا مُوسى‏ أَ تُرِيدُ ) إلخ، الإسرائيلي دون القبطيّ لأنّ سياقه سياق اللّوم و الشكوى.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى‏ قالَ يا مُوسى‏ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ) إلخ، الائتمار المشاورة، و النصيحة خلاف الخيانة.

و الظاهر كون قوله:( مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ) قيداً لقوله:( جاءَ ) فسياق القصّة يعطي أنّ الائتمار كان عند فرعون و بأمر منه، و أنّ هذا الرجل جاء من هناك و قد كان قصر فرعون في أقصى المدينة و خارجها فأخبر موسى بما قصدوه من قتله و أشار عليه بالخروج من المدينة.

و هذا الاستئناس من الكلام يؤيّد ما تقدّم أنّ قصر فرعون الّذي كان يسكنه كان خارج المدينة، و معنى الآية ظاهر.

١٩

قوله تعالى: ( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فيه تأييد أنّه ما كان يرى قتله القبطيّ خطأ جرماً لنفسه.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، قال: فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتّى بلغ مبلغ الرجال و كان ينكر عليه ما يتكلّم به موسىعليه‌السلام من التوحيد حتّى همّ به فخرج موسى من عنده و دخل المدينة فإذا رجلان يقتتلان أحدهما يقول بقول موسى و الآخر يقول بقول فرعون فاستغاثه الّذي من شيعته فجاء موسى فوكز صاحب فرعون فقضى عليه و توارى في المدينة.

فلمّا كان الغد جاء آخر فتشبّث بذلك الرجل الّذي يقول بقول موسى فاستغاث بموسى فلمّا نظر صاحبه إلى موسى قال له:( أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ) فخلّى عن صاحبه و هرب.

و في العيون، بإسناده إلى عليّ بن محمّد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضاعليه‌السلام فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى. قال: فأخبرني عن قول الله:( فَوَكَزَهُ مُوسى‏ فَقَضى‏ عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) قال الرضاعليه‌السلام : إنّ موسىعليه‌السلام دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها و ذلك بين المغرب و العشاء فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته و هذا من عدوّه فقضى على العدوّ بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات، قال:( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) يعني الاقتتال الّذي وقع بين الرجلين لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله( إِنَّهُ ) يعني الشيطان( عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

قال المأمون: فما معنى قول موسى:( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) ؟ قال: يقول: وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلّا يظفروا بي فيقتلوني فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم. قال موسى: ربّ بما أنعمت

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

وإن لم يحتمله ، كما لو باع شقصاً مستوعباً يساوي ألفين بألف ، فإن ردّه الورثة ، بطل البيع في بعض المحاباة ، وهو ما زاد على الثلث. وفي صحّة البيع في الباقي للشافعيّة طريقان :

أحدهما : التخريج على الخلاف في تفريق الصفقة.

والثاني : القطع بالصحّة(١) .

وهو مذهبنا ، لكنّ المشتري بالخيار ؛ لتبعّض الصفقة عليه ، فإن اختار الشفيع أن يأخذه ، لم يكن للمشتري الردُّ. وإن لم يرض الشفيع بالأخذ ، فللمشتري الخيارُ بين أخذ الباقي وبين الردّ.

وعلى الصحّة ففيما يصحّ البيع؟ للشافعيّة قولان :

أحدهما : أنّه يصحّ في قدر الثلث والقدر الذي يوازي الثمن بجميع الثمن.

والثاني : أنّه لا يسقط من المبيع شي‌ء إلّا ويسقط ما يقابله من الثمن(٢) .

وهذا الأخير هو الأقوى عندي ، وقد تقدّم(٣) بيانه.

فإن قلنا بالأوّل ، صحّ البيع - في الصورة المفروضة - في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن. وإن قلنا بالثاني ، دارت المسألة.

وطريقه أن نقول : صحّ البيع في شي‌ء من الشقص بنصف شي‌ء ، يبقى مع الورثة ألفان يعادل شيئاً ونصفاً والشي‌ء من شي‌ء ونصف ثلثاه ، فعلمنا صحّة البيع في ثلثي الشقص ، وقيمته ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث بثلثي الثمن ، وهو نصف هذا ، فتكون المحاباة بستّمائة وستّة وستّين‌

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦.

(٣) في ص ٢٤ ، المسألة ٥٦٠.

٢٤١

وثلثين ، يبقي للورثة ثلث الشقص وثلثا الثمن وهُما ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث ، وذلك ضِعْف المحاباة.

وعلى القولين(١) للمشتري الخيارُ حيث لم يسلم له جميع المثمن(٢) . فإن اختار ، أخذ الشفيع خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن على الأوّل ، وثلثيه بثلثي الثمن على الثاني.

ولو فسخ المشتري قبل طلب الشفيع ، لم تبطل الشفعة عندنا. وللشافعي قولان(٣) .

ولو أجاز الورثة ، صحّ البيع في الجميع.

ثمّ إن قلنا : إنّ إجازتهم تنفيذ لما فعله المورّث ، أخذ الشفيع الكلَّ بكلّ الثمن. وإن قلنا : إنّها ابتداء عطيّة منهم ، لم يأخذ الشفيع القدر النافذ بإجازتهم ، وأخذ القدر المستثنى عن إجازتهم. وفيه القولان المذكوران عند الردّ.

وإن كانا وارثين أو كان المشتري وارثاً ، فهي محاباة للوارث ، وهي عندنا صحيحة ، فالحكم فيه كما في الأجنبيّ.

أمّا الجمهور : فإنّهم منعوا من المحاباة للوارث ، فتكون المحاباة مردودةً(٤) .

ثمّ للشافعي قولان ، فإن لم يفرّق الصفقة ، بطل البيع في الجميع. وإن قال بالتفريق ، فإن قال في القسم الأوّل على ما سبق من التصوير : إنّ البيع‌

____________________

(١) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « التفريق » بدل « القولين ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة : « الثمن » بدل « المثمن ». والصحيح ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٦ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٤ ، المغني ٥ : ٤٧٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٣٥.

٢٤٢

يصحّ في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن ، فهنا في مثل تلك الصورة يصحّ البيع في نصفه بجميع الثمن. وإن قلنا هناك : يصحّ في ثلثيه بثلثي الثمن ، فهنا يبطل البيع في الكلّ ؛ لأنّ البيع لا يبطل في شي‌ء إلاّ ويسقط بقدره من الثمن ، فما من جزء يصحّ فيه البيع إلاّ ويكون بعضه محاباةً ، وهي مردودة.

وفيه كلامان :

أحدهما : أنّ المفهوم من هذا التوجيه شيوع المعاوضة والمحاباة في جميع الشقص ، وذلك لا يمنع تخصيص قدر المحاباة بالإبطال ، كما أنّه لم يمنع في القسم الأوّل تخصيص ما وراء القدر المحتمل من المحاباة بالإبطال.

والثاني : أنّ الوصيّة للوارث - عندهم(١) - موقوفة على إجازة باقي الورثة على رأي ، كما أنّ الوصيّة بما زاد على الثلث موقوفة على إجازة الورثة على رأي ، فلنفرّق هنا أيضاً بين الإجازة والردّ ، كما في الأوّل.

إذا عرفت هذا وقلنا بالأوّل ، تخيّر المشتري بين أن يأخذ النصف بكلّ وبين أن يفسخ ، لأنّ الصفقة تفرّقت عليه ، ويكون للشفيع أن يأخذ ذلك وإن كان وارثا ، لأنّه لا محاباة فيه.

وإن أراد المشتري الردَّ وأراد الشفيع الأخذَ ، كان حقّ الشفيع مقدّماً ؛ لأنّه لا ضرر على المشتري ، وجرى مجرى المبيع المعيب إذا رضيه الشفيع لم يكن للمشتري ردّه.

وإن كان الشفيع وارثاً دون المشتري ، فعندنا يصحّ البيع فيما يحتمل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢

٢٤٣

الثلث ، ويكون للشفيع أخذه بالشفعة.

وقالت الشافعيّة : إن احتمل الثلث المحاباة أو لم يحتمل وصحّحنا البيع في بعض المحاباة في القسم الأوّل ومكّنّا الشفيع من أخذه ، ففيه وجوه :

أ - أنّه يصحّ البيع في الجميع ، ولا يأخذه الوارث بالشفعة ، وهو مذهب أصحاب أبي حنيفة.

أمّا صحّة البيع : فلأنّ المشتري أجنبيّ.

وأمّا بطلان الشفعة : فلأنّها لو ثبتت ، لكان المريض قد نفع وارثه بالمحاباة ؛ لأنّ الشفعة تستحقّ بالبيع ، فقد تعذّرت الشفعة ، فلم نعد ذلك بإبطال البيع ، لأنّها فرع عليه ، وإذا بطل بطلت ، فلم تبطل لأجلها - وهو أصحّ الوجوه عندهم - لأنّا إذا أثبتنا الشفعة ، فقد جعلنا للوارث سبيلاً إلى إثبات حقٍّ له في المحاباة. ويفارق الوصيّة ممّن له عليه دَيْنٌ ؛ لأنّ استحقاقه للآخَر إنّما هو بدَيْنه ، لا من جهة الوصيّة ، وهذا استحقاقه حصل بالبيع ، فافترقا.

ب - أنّه يصحّ البيع ويأخذه الوارث بالشفعة ؛ لأنّ محاباة البائع مع المشتري ، وهو أجنبيّ عنه ، والشفيع يتملّك على(١) المشتري ، ولا محاباة معه من المريض.

ج - أنّه لا يصحّ البيع أصلاً ؛ لأنّه لو صحّ لتقابلت فيه أحكام متناقضة ؛ لأنّا إن لم نثبت الشفعة ، أضررنا بالشفيع ، وإن أثبتناها ، أوصلنا إليه المحاباة.

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مع » بدل « على ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

٢٤٤

د - يصحّ البيع في الجميع ويأخذ الشفيع ما يقابل الثمن منه ، ويبقى الباقي للمشتري مجّاناً ؛ لأنّ المحاباة تصحّ مع الأجنبيّ دون الوارث ، ويُجعل كأنّه باع بعض الشقص منه ووهب بعضه ، فيأخذ المبيع دون الموهوب.

ه- أنّه لا يصحّ البيع إلّا في القدر الموازي للثمن ؛ لأنّه لو صحّ في الكلّ فإن أخذه الشفيع ، وصلت إليه المحاباة ، وإن أخذ ما وراء قدر المحاباة ، كان إلزاماً بجميع الثمن ببعض المبيع ، وهو على خلاف وضع الشفعة(١) .

ويضعّف بأنّ صحّة البيع لا تقف على اختيار الشفيع للشفعة.

وقد يقال في العبارة عن هذا الوجه : إن ترك الشفيع الشفعة ، صحّت المحاباة مع المشتري ، وإلّا فهو كما لو كان المشتري وارثاً ، فلا تصحّ المحاباة.

ووجه ترتيب هذه الأقوال أن يقال : في صحّة البيع وجهان ، إن صحّ فيصحّ في الجميع أو فيما وراء قدر المحاباة؟ وجهان ، إن صحّ في الجميع فيأخذ الجميع بالشفعة أو ما وراء قدر المحاباة أو لا يأخذ شيئاً؟ ثلاثة أوجه(٢) .

وهذا - عندنا - كلّه ساقط.

مسالة ٧٣٥ : من شرط الشفعة : تقدّم ملك الآخذ على ملك المأخوذ منه على ما سبق ، فلو كان في يد اثنين ملك اشترياه بعقدين وادّعى كلٌّ

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٧٨ - ٧٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٧ - ٣٦٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٢ - ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٣.

٢٤٥

منهما سبق عقده على عقد صاحبه ، وأنّه يستحقّ الشفعة عليه ، فمن أقام البيّنة منهما على دعواه حُكم له بها ، وسقطت دعوى الآخر.

ولو أقاما بيّنتين على السبق - بأن شهدت بيّنة هذا بسبق عقده على عقد صاحبه ، وشهدت بيّنة صاحبه بسبق عقده على العقد الأوّل ، أو شهدت إحداهما لأحدهما أنّه اشترى يوم السبت وصاحبه اشترى يوم الأحد ، وشهدت الاُخرى للآخَر أنّه اشترى يوم السبت والآخَر يوم الأحد - تعارضتا ، وينبغي أن يُحكم لأكثرهما عدداً وعدالةً ، فإن تساويا ، احتُمل القرعة ؛ لأنّه أمر مشكل ، وكلّ أمر مشكل ففيه القرعة ، والقسمة بينهما.

وللشافعي هنا قولان :

أحدهما : تساقط البيّنتين كأنّه لا بيّنة لواحد منهما.

والثاني : أنّهما تُستعملان ، وفي كيفيّته أقوال :

أحدها : القرعة ، فعلى هذا مَنْ خرجت قرعته أخذ نصيب الآخَر بالشفعة.

والثاني : القسمة ، ولا فائدة لها إلاّ مع تفاوت الشركة ، فيكون التنصيف تعبّدا(١) .

والثالث : الوقف ، وعلى هذا يوقف حقّ التملّك إلى أن يظهر الحال(٢) .

ومن الشافعيّة مَنْ لا يجري قول الوقف هنا ؛ لانتفاء معناه مع كون الملك في يدهما(٣) .

____________________

(١) كذا ، وفي المصدر : « مقيّداً » بدل « تعبّداً ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٣ - ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٧ - ١٦٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٦

ولو عيّنت كلّ واحدة من البيّنتين وقتاً واحداً ، فلا تنافي بينهما ؛ لاحتمال وقوع العقدين معاً ، ولا شفعة لواحدٍ منهما ؛ لأنّا تبيّنّا وقوع العقدين دفعةً.

وللشافعيّة وجه : أنّهما تسقطان ؛ لأنّ كلّ واحدة منهما لم تتعرّض لمقصود مقيمها فكأنّه لا بيّنة(١) .

البحث الرابع : في كيفيّة الأخذ بالشفعة.

مسالة ٧٣٦ : يملك الشفيع الأخذ بالعقد إمّا بالفعل بأن يأخذ الحصّة ويدفع الثمن إلى المشتري ، أو يرضى بالصبر فيملكه حينئذٍ ، وإمّا باللفظ ، كقوله : أخذته ، أو : تملّكه ، أو : اخترت الأخذ ، وما أشبه ذلك ؛ عملاً بالأصل من عدم اشتراط اللفظ.

وقال بعض الشافعيّة : لا بدّ من لفظٍ ، ك‍ « تملّكت » وما تقدّم ، وإلّا فهو من باب المعاطاة(٢) .

وهو ممنوع ؛ لأنّ المعاطاة تتوقّف على رضاهما ، ولا يتوقّف الأخذ بالشفعة على رضا المشتري.

ولا يكفي أن يقول : لي حقّ الشفعة وأنا مطالب بها ، عنده(٣) ؛ لأنّ المطالبة رغبة في الملك ، والملك(٤) لا يحصل بالرغبة المجرّدة(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٣) أي : عند البعض من الشافعيّة ، المتقدّم قوله آنفاً.

(٤) في جميع النسخ الخطّيّة والحجريّة : « فالملك ». وما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٧

وقال بعضهم(١) بقولنا.

ولا يملك الشفيع بمجرّد اللفظ ، بل يعتبر مع ذلك أحد اُمور :

إمّا أن يسلّم العوض إلى المشتري ، فيملك به إن تسلّمه ، وإلّا خلّى بينه وبينه ، أو رفع الأمر إلى الحاكم حتى يلزمه التسليم.

و [إمّا ](٢) أن يسلّم المشتري الشقص ، ويرضى بكون الثمن في ذمّته.

ولو كان المبيع داراً عليها صفائح من أحد النقدين والثمن من الآخَر ، وجب التقابض فيما قابَلَه خاصّةً.

ولو رضي بكون الثمن في ذمّته ولم يسلّم الشقص ، حصل الملك عندنا - وهو أحد وجهي الشافعيّة - لأنّه معاوضة ، والملك في المعاوضات لا يتوقّف على القبض.

والثاني لهم : لا يحصل الملك ، وقول المشتري ما لم يتّصل به القبض في حكم الوعد.

وإمّا أن يحضر في مجلس القاضي ، ويثبت حقّه في الشفعة ، ويختار التملّك ويقضي القاضي له بالشفعة - وهو أصحّ وجهي الشافعيّة - لأنّ الشرع نزّل الشفيع منزلة المشتري حتى كأنّ العقد له ، إلّا أنّه مخيّر بين الأخذ والترك ، فإذا طلب وتأكّد طلبه بالقضاء ، وجب أن يحكم له بالملك.

والثاني لهم : لا يحصل الملك ، ويستمرّ ملك المشتري إلى أن يصل إليه عوضه ، أو يرضى بتأخيره.

وإمّا أن يشهد عدلان على الطلب واختيار الشفعة ، فإن لم نثبت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٢) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

٢٤٨

الملك بحكم القاضي ، فهنا أولى ، فإن(١) أثبتناه ، فوجهان لهم ؛ لقوّة قضاء القاضي(٢) .

وهذا كلّه غير معتبر عندنا.

مسالة ٧٣٧: لا يشترط في تملّك الشفيع بالشفعة حكمُ الحاكم ولا حضور الثمن أيضاً ولا حضور المشتري ورضاه ، عند علمائنا - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّ حكم الشفعة يثبت بالنصّ والإجماع ، فيستغني عن حكم الحاكم ، كمدّة الإيلاء والردّ بالعيب. ولأنّه تملّك بعوض ، فلا يفتقر إلى إحضار العوض ، كالبيع ، ولا إحضار المشتري ورضاه به ، كالردّ بالعيب.

وقال أبو حنيفة : يعتبر حضور المشتري أو حكم الحاكم ، ولا يحكم الحاكم إلّا إذا اُحضر الثمن(٤) .

وعن الصعلوكي أنّ حضور المأخوذ منه أو وكيله شرط(٥) . وهو ممنوع.

وإذا ملك الشفيع بغير تسليم الثمن - بل إمّا بتسليم المشتري الشقص ويرضى بكون الثمن في ذمّته ، أو بحضوره في مجلس القاضي وإثبات حقّه في الشفعة ويختار الملك فيقضي له القاضي - لم يكن له أن يتسلّم الشقص حتى يؤدّي الثمن إلى المشتري وإن سلّمه المشتري قبل أداء الثمن ، ولا يلزمه أن يؤخّر حقّه بأن أخّر البائع حقّه.

مسالة ٧٣٨ : يجب على الشفيع دفع الثمن معجّلاً ، فإن تعذّر تعجيله‌

____________________

(١) الظاهر : « وإن ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٤.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٨.

٢٤٩

أو ادّعى غيبته ، اُجّل ثلاثة أيّام لإحضاره ؛ لأنّ تحصيله في الحال يتعذّر في غالب العادات ، فلو شرط إحضاره في الحال ، أدّى إلى إسقاط الشفعة ، وذلك إضرار بالشفيع ، فإن أحضر الثمن في مدّة الثلاثة ، فهو أحقّ ، وإلاّ بطلت شفعته بعدها.

ولو ذكر أنّ الثمن في بلد آخر ، أجّل بقدر وصوله من ذلك البلد وثلاثة أيّام بعده ما لم يتضرّر المشتري.

ولو هرب الشفيع بعد الأخذ ، كان للحاكم فسخ الأخذ ، وردّه إلى المشتري وإن لم يكن له ذلك في البيع لو هرب المشتري أو أخّر الدفع ؛ لأنّ البيع حصل باختيارهما ، فلهذا لم يكن للحاكم فسخه عليهما ، وهنا أخذه الشفيع بغير اختيار المشتري لإزالة الضرر عن نفسه ، فإذا اشتمل على إضرار بالمشتري ، مَنَعه الحاكم وردّه.

ولو هرب قبل الأخذ ، فلا شفعة له ، وكذا العاجز عن الثمن.

وقال بعض الشافعيّة : إذا قصّر في الأداء ، بطل حقّه من الشفعة. وإن لم يوجد ، رفع إلى الحاكم ( وفسخ منه )(١) (٢) .

والمعتمد : الأوّل ؛ لما قلناه.

ولما روى عليّ بن مهزيار أنّه سأل الجوادَعليه‌السلام : عن رجل طلب شفعة أرض ، فذهب على أن يحضر المال فلم ينضّ ، فكيف يصنع صاحب الأرض إن أراد بيعها أيبيعها أو ينتظر مجي‌ء شريكه صاحب الشفعة؟ قال : « إن كان معه بالمصر فلينتظر به ثلاثة أيّام ، فإن أتاه بالمال‌

____________________

(١) ورد ما بين القوسين سهواً في النسخ الخطّيّة والحجريّة بعد تمام الرواية الآتية في نفس المسألة. وموضعه هنا تتمّةً لقول بعض الشافعيّة كما في « العزيز شرح الوجيز » و « روضة الطالبين ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

٢٥٠

وإلّا فليبع وبطلت شفعته في الأرض ، وإن طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلد إلى آخر فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف وزيادة ثلاثة أيّام إذا قدم ، فإن وافاه ، وإلّا فلا شفعة له »(١) .

مسالة ٧٣٩ : ولا يثبت في الشفعة خيار المجلس عند علمائنا‌ ؛ للأصل الدالّ على عدمه.

ولدلالة قولهعليه‌السلام : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا »(٢) على اختصاص الخيار بالبيع ؛ لأنّه وصف علّق عليه حكم ، فينتفي بانتفائه.

ولأنّ الخيار لا يثبت للمشتري ؛ لأنّه يؤخذ الملك منه قهراً ، ولا للآخذ ؛ لأنّ له العفو والإسقاط.

نعم ، لو أخذ وثبت الملك له ، لم يكن له الخيار في الفسخ ؛ للأصل.

وللشافعي قولان :

أظهرهما : ثبوت الخيار - وقد تقدّم(٣) - بأن يترك بعد ما أخذ ، أو يأخذ بعد ما ترك ما دام في المجلس ؛ لأنّ ذلك معاوضة ، فكان في أخذها وتركها خيار المجلس ، كالبيع(٤) .

وله قولٌ آخَر : إنّه يسقط ؛ لأنّ الشفعة حقّ له ثبت ، فإذا أخّره أو تركه ، سقط ، كغيره من الحقوق(٥) .

فعلى قوله بالخيار يمتدّ إلى مفارقة المجلس.

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٦٧ / ٧٣٩.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٨٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١١٦٤ / ١٥٣٢ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٤٧ / ١٢٤٥ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٥.

(٣) في ج ١١ ص ١٥ ، ضمن المسألة ٢٢٧.

(٤) الوسيط ٤ : ٨١ ، العزيز ٤ : ١٧٢ ، و ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٧٢ ، و ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩ ، المجموع ٩ : ١٧٧.

٢٥١

وهل ينقطع بأن يفارقه المشتري؟ وجهان : المنع ؛ لأنّه لا حظّ له في الخيار ، فلا اعتبار بمفارقته. والانقطاع ؛ لحصول التفريق(١) .

مسالة ٧٤٠ : يجوز للمشتري التصرّف في الشقص قبل أن يأخذه الشفيع وقبل علمه بالبيع ، فإذا تصرّف ، صحّ تصرّفه ؛ لأنّ ملكه بالعقد إجماعاً ، وفائدة الملك استباحة وجوه الانتفاعات ، وصحّ قبض المشتري له ، ولم يبق إلّا أنّ الشفيع ملك عليه أن يملك ، وذلك لا يمنع تصرّفه ، كما لو كان الثمن معيباً فتصرّف المشتري في المبيع.

وكذا الموهوب له إذا كان الواهب ممّن له الرجوع فيها ، فإنّ تصرّفه يصحّ وإن ملك الواهب [ الرجوع ](٢) فيها.

إذا ثبت هذا ، فإنّ تصرّفه إن كان ممّا تجب به الشفعة - كالبيع خاصّةً عندنا ، وكلّ معاوضة عند الشافعي(٣) ، كجَعْله عوض الصداق أو الخلع أو غير ذلك من المعاوضات - تخيّر الشفيع إن شاء فسخ تصرّفه وأخذ بالثمن الأوّل ؛ لأنّ حقّه أسبق ، وسببه متقدّم ، فإنّ الشفعة وجبت له قبل تصرّف المشتري. وإن شاء أمضى تصرّفه ، وأخذ بالشفعة من المشتري الثاني ؛ لأنّ هذا التصرّف يُثبت الشفعة ، فلو باعه المشتري بعشرة بعشرين فباعه الآخَر بثلاثين ، فإن أخذ من الأوّل ، دفع عشرة ، ورجع الثالث على الثاني بثلاثين ، والثاني على الأوّل بعشرين ، لأنّ الشقص يؤخذ من الثالث وقد انفسخ عقده ، وكذا الثاني. ولو أخذ من الثاني ، صحّ ، ودفع عشرين ؛ وبطل‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٩.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٩.

٢٥٢

الثالث ، فيرجع بثلاثين. ولو أخذ من الثالث ، صحّت العقود ، ودفع ثلاثين.

وإن كان تصرّفه لا تثبت به الشفعة كالهبة والوقف وجَعْلِه مسجداً ، فإنّ للشفيع إبطالَ ذلك التصرّف ، ويأخذ بالثمن الأوّل ، ويكون الثمن للمشتري ، وبه قال الشافعي(١) .

وقال مالك : إنّه يكون الثمن للموهوب له(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّ الشفيع أبطل الهبة ، وأخذ الشقص بحكم العقد الأوّل ، ولو لم يكن وهب كان الثمن له ، كذا بعد الهبة المفسوخة.

وكذا للشفيع فسخ الوقف وكونه مسجدا أو غير ذلك من أنواع التصرّفات ، وبه قال أكثر الشافعيّة(٣) .

وقال بعضهم : إنّ الوقف يُبطل الشفعة ؛ لأنّ الشفعة إنّما تثبت في المملوك وقد خرج من أن يكون مملوكاً(٤) .

وهو غلط ؛ لأنّ ذلك الاستحقاق سابق والوقف متأخّر ، فلا يبطل السابق ، ولا يمتنع أن يبطل الوقف لأجل حقّ الغير ، كما لو وقف المريض أملاكه أو أعتق عبيده وعليه دَيْنٌ مستوعب ، فإنّ العتق والوقف صحيحان ، وإذا مات ، فسخا لحقّ الغرماء ، كذا هنا.

مسالة ٧٤١ : إذا ملك الشفيع ، امتنع تصرّف المشتري. ولو طلب الشفيع ولم يثبت الملك بَعْدُ ، لم يمنع الشريك من التصرّف ؛ لبقائه في ملكه.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٩ ، الوسيط ٤ : ٩١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٨ - ١٧٩ ، المغني ٥ : ٤٩٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٥.

(٢) المغني ٥ : ٤٩١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٦.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٩.

(٤) المغني ٥ : ٤٩٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٠٥.

٢٥٣

ويحتمل قويّاً المنع ؛ لتعلّق حقّ الشفيع به وتأكّده بالطلب.

وكلاهما للشافعيّة(١) أيضاً.

ولو تصرّف الشفيع قبل القبض بعد أن سلّم الثمن إلى المشتري ، نفذ.

وللشافعيّة وجهان ، أظهرهما : المنع ، كتصرّف المشتري قبل القبض(٢) .

وهو باطل ؛ لاختصاص ذلك بالبيع ، والشفعة ليست بيعاً. ولأنّه ملك قهريّ كالإرث ، فصحّ تصرّفه فيه ، كالوارث قبل القبض.

ولو ملك بالإشهاد أو بقضاء القاضي ، نفذ تصرّفه.

وقالت الشافعيّة : لا ينفذ(٣) .

وكذا لو ملك برضا المشتري بكون الثمن عنده.

مسالة ٧٤٢ : لا يشترط علم الشفيع بالثمن ولا بالشقص في طلب الشفعة‌ ، بل في الأخذ ، فلا يملك الشقص الذي لم يره بالأخذ ولا بالطلب ؛ لأنّه غرر والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنه(٤) ، بل يشترط علم الشفيع في التملّك بالثمن والمثمن معاً ، فلو جهل أحدهما ، لم يصح الأخذ ، وله المطالبة بالشفعة.

ولو قال : أخذته بمهما كان ، لم يصح مع جهالته بالقدر.

وقالت الشافعيّة : في تملّك الشفيع الشقص الذي لم يره طريقان :

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٢و٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٤) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٣ / ١٥١٣ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٣٩ / ٢١٩٤ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٥٤ / ٣٣٧٦ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٣٢ / ١٢٣٠ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٥١ ، الموطّأ ٢ : ٦٦٤ / ٧٥.

٢٥٤

أظهرهما : أنّه على قولي(١) بيع الغائب إن منعناه ، لم يتملّكه قبل الرؤية ، وليس للمشتري منعه من الرؤية. وإن صحّحناه ، فله التملّك.

[ ثمّ ](٢) منهم مَنْ جَعَل خيار الرؤية على الخلاف في خيار المجلس.

ومنهم مَنْ قطع به وقال : المانع هناك - على رأي - بُعْدُ اختصاص ذلك الخيار بأحد الجانبين.

والثاني : المنع ، سواء صحّحنا بيع الغائب أو أبطلناه ؛ لأنّ البيع جرى بالتراضي فأثبتنا الخيار فيه ، وهنا الشفيع يأخذ من غير رضا المشتري ، فلا يمكن إثبات الخيار فيه.

نعم ، لو رضي المشتري بأن يأخذه الشفيع ويكون بالخيار ، فعلى قولي بيع الغائب ، فإذا جوّزنا له التملّك وأثبتنا الخيار ، فللمشتري أن يمتنع من قبض الثمن وإقباض المبيع(٣) حتى يراه ليكون على ثقة فيه(٤) .

وإذا بلغه البيع فقال : قد اخترت أخذ الشقص بالثمن الذي تمّ عليه العقد ، وعلم قدره ونظر إلى الشقص أو وُصف له وصفاً يرفع الجهالة ، صحّ الأخذ وإن لم يجز المشتري ولا حضر.

وقال أبو حنيفة : لا يأخذ بالشفعة حتى يحضر الثمن ، ولا يقضي له القاضي بها حتى يحضر الثمن(٥) .

وقال محمد : إنّ القاضي يؤجّله يومين أو ثلاثة ، ولا يأخذه إلّا بحكم‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة المعتمدة في التحقيق : « قول ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة المعتمدة في التحقيق : « البائع » بدل « المبيع ».

والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧٠.

(٥) المغني ٥ : ٥١٠ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢١.

٢٥٥

الحاكم أو رضا المشتري ؛ لأنّ الشفيع يأخذ الشقص بغير اختيار المشتري ، فلا يستحقّ ذلك إلّا بعد إحضار الثمن ، ولهذا كان المشتري لمـّا كان يستحقّ تسلّم المبيع بغير اختيار البائع لم يكن له إلّا بعد إحضار الثمن(١) .

وقد بيّنّا أنّ الشفيع يأخذ بالعوض ، فلا يشترط حضوره ، كالبيع ، والتسليم في الشفعة كالتسليم في البيع ، فإنّ الشفيع لا يتسلّم الشقص إلّا بعد إحضار الثمن ، وكون التملّك بغير اختياره يدلّ على قوّته ، فلا يمنع من اعتباره في الصحّة بالبيع.

وإذا كان الثمن مجهولاً عند الشفيع ، لم يصح الأخذ ؛ لأنّه تملّك بعوض ، فلا يصحّ مع جهالة العوض ، كالبيع.

ولو قال : أخذته بالثمن إن كان مائةً فما دونها ، لم يصح الأخذ ؛ لأنّ مثل هذا لا يجوز أن يكون ثمناً في البيع ، كذا الشفعة.

ولو لم يشاهد الشقص ولا وُصف له بما يرتفع معه الجهالة ، لم يكن له أخذه ، وبه قال بعض الشافعيّة ، سواء قالوا بجواز بيع خيار الرؤية أو لا ؛ لأنّ مع القول بالجواز أثبتوا فيه خيار الرؤية برضا البائع ، لأنّه دخل على ذلك ، وفي مسألتنا يأخذه الشفيع بغير رضا المشتري ، فلا يثبت الخيار(٢) .

و(٣) قال ابن سريج : إلّا أن يرضى المشتري بخيار الرؤية ، فيجوز ذلك على القول الذي يجيز البيع بها(٤) .

وقال بعض الشافعيّة : مَنْ قال من أصحابنا : إنّه يثبت في الشفعة خيار المجلس يجيز أيضاً خيار الرؤية فيها على أحد القولين(٥) .

إذا عرفت هذا ، فإذا أخذ الشقص بالشفعة ، وجب عليه الثمن ،

____________________

(١) بدائع الصنائع ٥ : ٢٤ ، وانظر : المغني ٥ : ٥١٠ ، والشرح الكبير ٥ : ٥٢١.

(٢و٤و٥) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر.

(٣) في « س ، ي » لم ترد كلمة « و».

٢٥٦

ولا يجب على المشتري تسليم الشقص حتى يقبض الثمن.

مسالة ٧٤٣ : إذا كان الشقص في يد البائع ، فقال الشفيع : لا أقبضه إلّا من المشتري‌ ، لم يكن له ذلك ، ولم يكلّف المشتري أخذه من البائع ، بل يأخذه الشفيع من يد البائع ؛ لأنّ هذا الشقص حقّ الشفيع ، فحيثما وجده أخذه. ولأنّ يد الشفيع كيد المشتري ؛ لأنّه استحقّ قبض ذلك من جهته ، كما لو وكّل وكيلاً في القبض ، ألا ترى أنّه لو قال : أعتق عبدك عن ظهاري ، فأعتقه ، صحّ ، وكان الآمر كالقابض له ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.

والثاني : أنّ للشفيع ذلك ؛ لأنّ الشفيع بمنزلة المشتري من المشتري ، فيلزمه أن يسلّمه بعد قبضه ، وعلى الحاكم تكليف المشتري أن يتسلّم ويُسلّم ، أو يوكّل في ذلك ، فإن كان المشتري غائباً ، نصب الحاكم مَنْ يقبضه من البائع عن المشتري ويسلّمه إلى الشفيع ، وإذا أخذه الشفيع من المشتري أو من البائع ، فإنّ عهدته على المشتري خاصّةً(١) .

ولو أفلس الشفيع وكان المشتري قد سلّم الشقص إليه راضياً بذمّته ، جاز له الاسترداد ، وكان أحقَّ بعينه من غيره.

مسالة ٧٤٤ : إنّما يأخذ الشفيع بالثمن الذي وقع عليه العقد‌ ؛ لما روى العامّة عن جابر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « فهو أحقّ به بالثمن »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « فهو أحقّ بها من غيره بالثمن »(٣) .

ولأنّ الشفيع إنّما يستحقّ الشفعة بسبب البيع ، فكان مستحقّا له‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٤٥ - ٥٤٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٩٢.

(٢) سنن البيهقي ٦ : ١٠٤ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٠.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٨.

٢٥٧

بالثمن ، كالمشتري.

لا يقال : الشفيع استحقّه بغير اختيار مالكه ؛ لحاجته إليه ، فكان يجب أن يستحقّه بالقيمة ، كالمضطرّ إلى طعام الغير.

لأنّا نقول : المضطرّ إنّما استحقّه بسبب الحاجة خاصّةً ، فكان المرجع في بدله إلى القيمة ، والشفيع يستحقّه لأجل البيع ، فإنّه لو كان انتقاله في الهبة أو الميراث ، لم يستحقّ فيه الشفعة ، وإذا اختصّ ذلك بالبيع ، وجب أن يكون بالعوض الثابت بالبيع.

إذا ثبت هذا ، فإن بِيع بمثليٍّ - كالنقدين والحبوب - أخذه بمثله.

ثمّ إن قُدِّر بمعيار الشرع ، أخذه به. وإن قُدِّر بغيره كما لو باع بمائة رطل من الحنطة ، أخذه بمثله وزناً تحقيقاً للمماثلة.

وللشافعي قولان ، هذا أحدهما. والثاني : أنّه يأخذه بالكيل(١) .

ولو تعذّر المثل وقت الأخذ ؛ لانقطاعه أو لغيره ، عدل إلى القيمة ، كما في الغصب.

تذنيب : لا يجب على الشفيع دفع ما غرمه المشتري من دلالة واُجرة وزّان ونقّاد وكيل وغير ذلك من المؤن.

مسالة ٧٤٥ : ولو لم يكن الثمن مثليّاً بل مقوَّماً - كالعبد والثوب وشبههما - أخذه الشفيع بقيمة السلعة التي جُعلت ثمناً - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك(٢) - لأنّه أحد نوعي الثمن ، فجاز أن تثبت الشفعة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٦ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١ ، بدائع الصنائع ٥ : ٢٦ ، المعونة ٢ : ١٢٧٦ ، التفريع ٢ : ٣٠٢ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

٢٥٨

بالمشتري به ، كالذي له مِثْلٌ.

وقال الشيخرحمه‌الله : تبطل الشفعة(١) - وبه قال الحسن البصري وسوار القاضي(٢) - لما رواه عليّ بن رئاب عن الصادقعليه‌السلام في رجل اشترى داراً برقيق ومتاع وبزّ وجوهر ، قال : « ليس لأحد فيها شفعة »(٣) .

ولأنّ الشفعة إنّما تجب بمثل الذي ابتاعه به ، وهذا لا مثل له ، فلم تجب.

والرواية ضعيفة السند ؛ لأنّ في طريقها الحسن بن محمد بن سماعة وليس منّا.

والمثل قد يكون من طريق الصورة وقد يكون من طريق القيمة ، كما في بدل الإتلاف والغصب.

وتُعتبر القيمة يوم البيع ؛ لأنّه يوم إثبات العوض واستحقاق الشفعة ، فلا اعتبار بالزيادة بعد ذلك ولا النقصان ، وبه قال الشافعي(٤) .

وقال ابن سريج : تُعتبر قيمته يوم استقرار العقد بانقطاع الخيار(٥) .

وقال مالك : الاعتبار بقيمته يوم المحاكمة(٦) .

وليس بجيّد ؛ لما تقدّم من أنّ وقت الاستحقاق وقت العقد‌

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٤٣٢ ، المسألة ٧.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، المغني ٥ : ٥٠٥ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٧ / ٧٤٠.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٥) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٧ - ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٦) حلية العلماء ٥ : ٢٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، المغني ٥ : ٥٠٧ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٢٤.

٢٥٩

للمشتري. ولأنّ الثمن صار ملكاً للبائع ، فلا تُعتبر زيادته في حقّ المشتري.

ولو اختلفا في القيمة في ذلك الوقت ، قُدّم قول المشتري مع اليمين.

مسالة ٧٤٦ : لو جعل الشقص رأس مال سَلَمٍ ، أخذ الشفيع بمثل الـمُسْلَم فيه إن كان مثليّاً ، وبقيمته إن كان متقوَّماً.

ولو صالح من دَيْنٍ على شقص ، لم تكن له شفعة.

وعند الشافعي يأخذه بمثل ذلك الدَّيْن إن كان مثليّاً ، وبقيمته إن كان متقوَّماً(١) .

ولا فرق بين أن يكون دَيْن إتلافٍ أو دَيْن معاملة.

ولو أمهرها شقصاً ، فلا شفعة عندنا.

وعند الشافعي يأخذ بمهر مثل المرأة ؛ لأنّ البُضْع متقوَّم ، وقيمته مهر المثل. وكذا إذا خالعها على شقص. والاعتبار بمهر مثلها يوم النكاح أو يوم جريان البينونة(٢) .

وخرّج بعض الشافعيّة وجهاً أنّه يأخذه بقيمة الشقص(٣) . والأصل فيه أنّ المرأة إذا وجدت بالصداق عيباً وردّته ، ترجع بقيمته على أحد القولين ، فإذا كان المستحقّ عند الردّ بالعيب بدل المسمّى ، كذا عند الأخذ بالشفعة ، وبه قال مالك(٤) .

ولو متَّع المطلّقة بشقص ، فلا شفعة عندنا.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

(٣) في « العزيز شرح الوجيز » : « بقيمته يوم القبض ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٠٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٧١.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425