الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 425
المشاهدات: 124187
تحميل: 6111


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124187 / تحميل: 6111
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 16

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( بيان)

قصّة غزوة الخندق و ما عقّبها من أمر بني قريظة و وجه اتّصالها بما قبلها ما فيها من ذكر حفظ العهد و نقضه.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ) إلخ، تذكير للمؤمنين بما أنعم عليهم أيّام الخندق بنصرهم و صرف جنود المشركين عنهم و قد كانوا جنوداً مجنّدة من شعوب و قبائل شتّى كغطفان و قريش و الأحابيش و كنانة و يهود بني قريظة و النضير أحاطوا بهم من فوقهم و من أسفل منهم فسلّط الله عليهم الريح و أنزل ملائكة يخذلونهم.

و هو قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ ) ظرف للنعمة أو لثبوتها( جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ) من طوائف كلّ واحدة منهم جند كغطفان و قريش و غيرهما( فَأَرْسَلْنا ) بيان للنعمة و هو الإرسال المتفرّع على مجيئهم( عَلَيْهِمْ رِيحاً ) و هي الصبا و كانت باردة في ليال شاتية( وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ) و هي الملائكة لخذلان المشركين( وَ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) .

قوله تعالى: ( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) إلخ الجاؤن من فوقهم و هو الجانب الشرقيّ للمدينة غطفان و يهود بني قريظة و بني النضير و الجاؤن من أسفل منهم و هو الجانب الغربيّ لها قريش و من انضمّ إليهم من الأحابيش و كنانة فقوله:( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ) عطف بيان لقوله:( إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ) .

و قوله:( إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ) ، عطف بيان آخر لقوله:( إِذْ جاءَتْكُمْ ) إلخ، و زيغ الأبصار ميلها و القلوب هي الأنفس و الحناجر جمع حنجر و هو جوف الحلقوم.

و الوصفان أعني زيغ الأبصار و بلوغ القلوب الحناجر كنايتان عن كمال

٣٠١

غشيان الخوف لهم حتّى حوّلهم إلى حال المحتضر الّذي يزيغ بصره و تبلغ روحه الحلقوم.

و قوله:( وَ تَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) أي يظنّ المنافقون و الّذين في قلوبهم مرض الظنون فبعضهم يقول: إنّ الكفّار سيغلبون و يستولون على المدينة، و بعضهم يقول: إنّ الإسلام سينمحق و الدين سيضيع، و بعضهم يقول: إنّ الجاهليّة ستعود كما كانت، و بعضهم يقول: إنّ الله غرّهم و رسوله إلى غير ذلك من الظنون.

قوله تعالى: ( هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً ) هنالك إشارة بعيدة إلى زمان أو مكان و المراد الإشارة إلى زمان مجي‏ء الجنود و كان شديداً عليهم لغاية بعيدة، و الابتلاء الامتحان، و الزلزلة و الزلزال الاضطراب، و الشدّة القوّة و تختلفان في أنّ الغالب على الشدّة أن تكون محسوساً بخلاف القوّة، قيل: و لذلك يطلق القويّ عليه تعالى دون الشديد.

و المعنى في ذلك الزمان الشديد امتحن المؤمنون و اضطربوا خوفاً اضطراباً شديداً.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) الّذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان من المؤمنين و هم غير المنافقين الّذين يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر، و إنّما سمّي المنافقون الرسول لمكان إظهارهم الإسلام.

و الغرور حمل الإنسان على الشرّ بإراءته في صورة الخير و الاغترار احتماله له. قال الراغب: يقال: غررت فلاناً أصبت غرّته و نلت منه ما اُريد، و الغرّة - بكسر الغين - غفلة في اليقظة. انتهى.

و الوعد الّذي يعدّونه غروراً من الله و رسوله لهم بقرينة المقام هو وعد الفتح و ظهور الإسلام على الدين كلّه و قد تكرّر في كلامه تعالى كما ورد أنّ المنافقين قالوا: يعدنا محمّد أن يفتح مدائن كسرى و قيصر و نحن لا نأمن أن نذهب إلى الخلاء.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ) يثرب اسم المدينة قبل الإسلام ثمّ غلب عليه اسم مدينة الرسول بعد الهجرة ثمّ المدينة،

٣٠٢

و المقام بضمّ الميم الإقامة، و قولهم:( لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ) أي لا وجه لإقامتكم ههنا قبال جنود المشركين فالغلبة لهم لا محالة فارجعوا ثمّ أتبعه بحكاية ما قاله آخرون فقال عاطفاً على قوله: قالت طائفة:( وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ ) أي من المنافقين و الّذين في قلوبهم مرض( النَّبِيَّ ) في الرجوع( يَقُولُونَ ) استئذاناً( إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ) أي فيها خلل لا يأمن صاحبها دخول السارق و زحف العدوّ( وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ ) أي ما يريدون بقولهم هذا( إِلَّا فِراراً ) .

قوله تعالى: ( وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً ) ضمائر الجمع للمنافقين و المرضى القلوب و الضمير في( دُخِلَتْ ) للبيوت و معنى دخلت عليهم دخل الجنود البيوت حال كونه دخولاً عليهم، و الأقطار جمع قطر و هو الجانب، و المراد بالفتنة بقرينة المقام الردّة و الرجعة من الدين و المراد بسؤالها طلبها منهم، و التلبّث التأخّر.

و المعنى: و لو دخل جنود المشركين بيوتهم من جوانبها و هم فيها ثمّ طلبوا منهم أن يرتدّوا عن الدين لأعطوهم مسؤلهم و ما تأخروا بالردّة إلّا يسيراً من الزمان بمقدار الطلب و السؤال أي إنّهم يقيمون على الدين ما دام الرخاء فإذا هجمت عليهم الشدّة و البأس لم يلبثوا دون أن يرجعوا.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ كانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلًا ) اللّام للقسم، و قوله:( لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ) أي لا يفرّون عن القتال و هو بيان للعهد و لعلّ المراد بعهدهم من قبل هو بيعتهم بالإيمان بالله و رسوله و ما جاء به رسوله و ممّا جاء به: الجهاد الّذي يحرم الفرار فيه و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) إذ لا بدّ لكلّ نفس من الموت لأجل مقضيّ محتوم لا يتأخّر عنه ساعة و لا يتقدّم عليه فالفرار لا يؤثّر في تأخير الأجل شيئاً.

و قوله:( وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) أي و إن نفعكم الفرار فمتّعتم بتأخّر الأجل فرضاً لا يكون ذلك التمتيع إلّا تمتيعاً قليلاً أو في زمان قليل لكونه مقطوع

٣٠٣

الآخر لا محالة.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) كانت الآية السابقة تنبيهاً لهم على أنّ حياة الإنسان مقضيّ مؤجّل لا ينفع معه فرار من الزحف و في هذه الآية تنبيه على أنّ الشرّ و الخير تابعان لإرادة الله محضاً لا يمنع عن نفوذها سبب من الأسباب و لا يعصم الإنسان منها أحد فالحزم إيكال الأمر إلى إرادته تعالى و القرار على أمره بالتوكّل عليه.

و لمّا كانت قلوبهم مرضى أو مشغولة بكفر مستبطن عدل عن أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتكليمهم إلى تكليم نفسه فقال:( وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) .

قوله تعالى: ( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ - إلى قوله -يَسِيراً ) التعويق التثبيط و الصرف، و هلمّ اسم فعل بمعنى أقبل، و لا يثنّى و لا يجمع في لغة الحجاز، و البأس الشدّة و الحرب، و أشحّة جمع شحيح بمعنى البخيل، و الّذي يغشى عليه هو الّذي أخذته الغشوة فغابت حواسّه و أخذت عيناه تدوران، و السلق بالفتح فالسكون الضرب و الطعن.

و معنى الآيتين: إنّ الله ليعلم الّذين يثبّطون منكم الناس و يصرفونهم عن القتال و هم المنافقون و يعلم الّذين يقولون من المنافقين لإخوانهم من المنافقين أو ضعفة الإيمان تعالوا و أقبلوا و لا يحضرون الحرب إلّا قليلاً بخلاء عليكم بنفوسهم.

فإذا جاء الخوف بظهور مخائل القتال تراهم ينظرون إليك من الخوف نظراً لا إرادة لهم فيه و لا استقرار فيه لأعينهم تدور أعينهم كالمغشيّ عليه من الموت فإذا ذهب الخوف ضربوكم و طعنوكم بألسنة حداد قاطعة حال كونهم بخلاء على الخير الّذي نلتموه.

اُولئك لم يؤمنوا و لم يستقرّ الإيمان في قلوبهم و إن أظهروه في ألسنتهم فأبطل الله أعمالهم و أحبطها و كان ذلك على الله يسيراً.

قوله تعالى: ( يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا ) إلى آخر الآية، أي يظنّون من شدّة الخوف أنّ الأحزاب - و هم جنود المشركين المتحزّبون على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم

٣٠٤

يذهبوا بعد( وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ ) مرّة ثانية بعد ذهابهم و تركهم المدينة( يَوَدُّوا ) و يحبّوا( أَنَّهُمْ بادُونَ ) أي خارجون من المدينة إلى البدو( فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ ) و أخباركم( وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ) و لم يخرجوا منها بادين( ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ) أي و لا كثير فائدة في لزومهم إيّاكم و كونهم معكم فإنّهم لن يقاتلوا إلّا قليلاً لا يعتدّ به.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ) الاُسوة القدوة و هي الاقتداء و الاتّباع، و قوله:( فِي رَسُولِ اللهِ ) أي في مورد رسول الله و الاُسوة الّتي في مورده هي تأسّيهم به و اتّباعهم له و التعبير بقوله:( لَقَدْ كانَ لَكُمْ ) الدالّ على الاستقرار و الاستمرار في الماضي إشارة إلى كونه تكليفاً ثابتاً مستمراً.

و المعنى: و من حكم رسالة الرسول و إيمانكم به أن تتأسّوا به في قوله و فعله و أنتم ترون ما يقاسيه في جنب الله و حضوره في القتال و جهاده في الله حقّ جهاده.

و في الكشّاف: فإن قلت: فما حقيقة قوله:( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) ؟ و قرئ اُسوة بالضمّ. قلت: فيه وجهان: أحدهما أنّه في نفسه اُسوة حسنة أي قدوة و هو المؤتسى أي المقتدى به كما تقول: في البيضة عشرون منّا حديد أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. و الثاني: أنّ فيه خصلة من حقّها أن يؤتسى بها و تتّبع و هي المواساة بنفسه انتهى و أوّل الوجهين قريب ممّا قدّمناه.

و قوله:( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ) بدل من ضمير الخطاب في( لَكُمْ ) للدلالة على أنّ التأسّي برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصلة جميلة زاكية لا يتّصف بها كلّ من تسمّى بالإيمان، و إنّما يتّصف بها جمع ممّن تلبّس بحقيقة الإيمان فكان يرجو الله و اليوم الآخر أي تعلّق قلبه بالله فآمن به و تعلّق قلبه باليوم الآخر فعمل صالحاً و مع ذلك ذكر الله كثيراً فكان لا يغفل عن ربّه فتأسّى بالنبيّ في أفعاله و أعماله.

و قيل: قوله:( لِمَنْ كانَ ) إلخ، صلة لقوله:( حَسَنَةٌ ) أو صفة له للمنع عن الإبدال من ضمير الخطاب و مآل الوجوه الثلاثة بحسب المعنى واحد.

٣٠٥

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) ، وصف لحال المؤمنين لمّا شاهدوا الأحزاب و نزول جيوشهم حول المدينة فكان ذلك سبب رشدهم و تبصّرهم في الإيمان و تصديقهم لله و لرسوله على خلاف ما ظهر من المنافقين و الّذين في قلوبهم مرض من الارتياب و سيّئ القول، و بذلك يظهر أنّ المراد بالمؤمنين المخلصون لإيمانهم بالله و رسوله.

و قوله:( قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَ رَسُولُهُ ) الإشارة بهذا إلى ما شاهدوه مجرّداً عن سائر الخصوصيّات، كما في قوله:( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي ) الأنعام: 78.

و الوعد الّذي أشاروا إليه قيل: هو ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وعدهم أنّ الأحزاب سيتظاهرون عليهم فلمّا شاهدوهم تبيّن لهم أنّ ذلك هو الّذي وعدهم.

و قيل: إنّهم كانوا قد سمعوا قوله تعالى في سورة البقرة:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى‏ نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) البقرة: 214 فتحقّقوا أنّهم سيصيبهم ما أصاب الأنبياء و المؤمنين بهم من الشدّة و المحنة الّتي تزلزل القلوب و تدهش النفوس فلمّا رأوا الأحزاب أيقنوا أنّه من الوعد الموعود و أنّ الله سينصرهم على عدوّهم.

و الحقّ هو الجمع بين الوجهين نظراً إلى جمعهم بين الله و رسوله في الوعد إذ قالوا: هذا ما وعدنا الله و رسوله.

و قوله:( وَ صَدَقَ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) شهادة منهم على صدق الوعد، و قوله:( وَ ما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَ تَسْلِيماً ) أي إيماناً بالله و رسوله و تسليماً لأمر الله بنصرة دينه و الجهاد في سبيله.

قوله تعالى: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) ، قال الراغب: النحب النذر المحكوم بوجوبه، يقال: قضى فلان نحبه أي وفى بنذره قال تعالى:( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) ،

٣٠٦

و يعبّر بذلك عمّن مات كقولهم: قضى أجله و استوفى اُكّله و قضى من الدنيا حاجته. انتهى.

و قوله:( صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ) أي حقّقوا صدقهم فيما عاهدوه أن لا يفرّوا إذا لاقوا العدوّ، و يشهد على أنّ المراد بالعهد ذلك أنّ في الآية محاذاة لقوله السابق في المنافقين و الضعفاء الإيمان:( وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ) كما أنّ في الآية السابقة محاذاة لما ذكر سابقاً من ارتياب القوم و عدم تسليمهم لأمر الله.

و قوله:( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏ نَحْبَهُ ) إلخ، أي منهم من قضى أجله بموت أو قتل في سبيل الله و منهم من ينتظر ذلك و ما بدّلوا شيئاً ممّا كانوا عليه من قول أو عهد تبديلاً.

قوله تعالى: ( لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) اللّام للغاية و ما تتضمّنه الآية غاية لجميع من تقدّم ذكرهم من المنافقين و المؤمنين.

فقوله:( لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ) المراد بالصادقين المؤمنين و قد ذكر صدقهم قبل، و الباء في( بِصِدْقِهِمْ ) للسببيّة أي ليجزي المؤمنين الّذين صدقوا عهدهم بسبب صدقهم.

و قوله:( وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) أي و ليعذّب المنافقين إن شاء تعذيبهم و ذلك فيما لو لم يتوبوا أو يتوب عليهم إن تابوا إنّ الله كان غفوراً رحيماً.

و في الآية من حيث كونها بيان غاية نكتة لطيفة هي أنّ المعاصي ربّما كانت مقدّمة للسعادة و المغفرة لا بما أنّها معاص بل لكونها سائقة للنفس من الظلمة و الشقوة إلى حيث تتوحّش النفس و تتنبّه فتتوب إلى ربّها و تنتزع عن معاصيها و ذنوبها فيتوب الله عليها في الغاية.

قوله تعالى: ( وَ رَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ) الغيظ الغمّ و الحنق و المراد بالخير ما كان يعدّه

٣٠٧

الكفّار خيراً و هو الظفر بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين.

و المعنى: و ردّ الله الّذين كفروا مع غمّهم و حنقهم و الحال أنّهم لم ينالوا ما كانوا يتمنّونه و كفى الله المؤمنين القتال فلم يقاتلوا و كان الله قويّاً على ما يريد عزيزاً لا يغلب.

قوله تعالى: ( وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ - إلى قوله -قَدِيراً ) المظاهرة المعاونة، و الصياصي جمع صيصية و هي الحصن الّذي يمتنع به و لعلّ التعبير بالإنزال دون الإخراج لأنّ المتحصّنين يصعدون بروج الحصون و يشرفون منها و من أعالي الجدران على أعدائهم في خارجها و محاصريهم.

و المعنى:( وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ ) أي عاونوا المشركين و هم بنو قريظة( مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) و هم اليهود( مِنْ صَياصِيهِمْ ) و حصونهم( وَ قَذَفَ ) و ألقى( فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) و الخوف( فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) و هم الرجال( وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً ) و هم الذراري و النساء( وَ أَوْرَثَكُمْ ) أي و ملّككم بعدهم( أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها ) و هي أرض خيبر أو الأرض الّتي أفاء الله ممّا لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب، و أمّا تفسيرها بأنّها كلّ أرض ستفتح إلى يوم القيامة أو أرض مكّة أو أرض الروم و فارس فلا يلائمه سياق الآيتين( وَ كانَ اللهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً ) .

( بحث روائي)

في المجمع، ذكر محمّد بن كعب القرظيّ و غيره من أصحاب السير قالوا: كان من حديث الخندق أنّ نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق و حيّي بن أخطب في جماعة من بني النضير الّذين أجلاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرجوا حتّى قدموا على قريش بمكّة فدعوهم إلى حرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قالوا: إنّا سنكون معكم عليهم حتّى نستأصلهم.

فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأوّل فديننا خير أم دين محمّد؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه فأنتم أولى بالحقّ منه فهم الّذين أنزل الله فيهم( أَ لَمْ تَرَ

٣٠٨

إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى‏ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا - إلى قوله -وَ كَفى‏ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ) فسّر قريشاً ما قالوا و نشطوا لما دعوهم إليه فأجمعوا لذلك و اتّعدوا له.

ثمّ خرج اُولئك النفر من اليهود حتّى جاؤا غطفان فدعوهم إلى حرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخبروهم أنّهم سيكونون عليه و أنّ قريشاً قد بايعوهم على ذلك فأجابوهم.

فخرجت قريش و قائدهم أبوسفيان بن حرب، و خرجت غطفان و قائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر في فزارة و الحارث بن عوف في بني مرّة و مسعر بن جبلة الأشجعيّ فيمن تابعه من الأشجع و كتبوا إلى حلفائهم من بني أسد فأقبل طليحة فيمن اتّبعه من بني أسد و هما حليفان أسد و غطفان و كتب قريش إلى رجال من بني سليم فأقبل أبو الأعور السلميّ فيمن اتّبعه من بني سليم مدداً لقريش.

فلمّا علم بذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب الخندق على المدينة و كان الّذي أشار إليه سلمان الفارسي و كان أوّل مشهد شهده سلمان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يومئذ حرّ قال: يا رسول الله إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا فعمل فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمون حتّى أحكموه.

فممّا ظهر من دلائل النبوّة في حفر الخندق‏ ما رواه أبوعبدالله الحافظ بإسناده عن كثير بن عبدالله بن عمر بن عوف المزنيّ قال: حدّثني أبي عن أبيه قال: خطّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخندق عام الأحزاب أربعين ذراعاً بين عشرة فاختلف المهاجرون و الأنصار في سلمان الفارسيّ و كان رجلاً قويّاً فقال الأنصار: سلمان منّا، و قال المهاجرون: سلمان منّا، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سلمان منّا أهل البيت.

قال عمرو بن عوف: فكنت أنا و سلمان و حذيفة بن اليمان و النعمان بن مقرّن و ستّة من الأنصار نقطع أربعين ذراعاً، فحفرنا حتّى إذا بلغنا الثرى أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدوّرة فكسرت حديدنا و شقّت علينا فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره عن الصخرة، فأمّا أن نعدل عنها فإنّ المعدل قريب و

٣٠٩

إمّا أن يأمرنا فيه بأمره فإنّا لا نحبّ أن نجاوز خطّه، فرقي سلمان حتّى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو مضروب عليه قبّة فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء من الخندق مدوّرة فكسرت حديدنا و شقّت علينا حتّى ما يحكّ فيها قليل و لا كثير فمرنا فيها بأمرك فهبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع سلمان في الخندق و أخذ المعول و ضرب بها ضربة فلمعت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها يعني لابتي المدينة حتّى لكان مصباحاً في جوف ليل مظلم فكبّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكبيرة فتح فكبّر المسلمون ثمّ ضرب ضربة اُخرى فلمعت برقة اُخرى ثمّ ضرب به الثالثة فلمعت برقة اُخرى.

فقال سلمان: بأبي أنت و اُمّي يا رسول الله ما هذا الّذي أرى؟ فقال: أمّا الاُولى فإنّ الله عزّوجلّ فتح عليّ بها اليمن و أمّا الثانية فإنّ الله فتح عليّ بها الشام و المغرب و أمّا الثالثة فإنّ الله فتح عليّ بها المشرق فاستبشر المسلمون بذلك و قالوا: الحمد لله موعد صادق.

قال: و طلعت الأحزاب فقال المؤمنون: هذا ما وعدنا الله و رسوله و صدق الله و رسوله، و قال المنافقون: ألا تعجبون؟ يحدّثكم و يعدكم الباطل و يخبركم أنّه يبصر في يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى و أنّها تفتح لكم و أنتم تحفرون الخندق و لا تستطيعون أن تبرزوا.(1)

و ممّا ظهر فيه أيضاً من آيات النبوّة ما رواه أبوعبدالله الحافظ بالإسناد عن عبد الواحد بن أيمن المخزوميّ قال حدّثني، أيمن المخزوميّ قال: سمعت جابر بن عبدالله قال: كنّا يوم الخندق نحفر الخندق فعرضت فيه كدية و هي الجبل فقلنا: يا رسول الله إنّ كدية عرضت فيه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رشّوا عليها ماء ثمّ قام و أتاها و بطنه معصوب الحجر(2) من الجوع فأخذ المعول أو المسحاة فسمّى ثلاثاً ثمّ ضرب فعادت كثيباً(3) أهيل فقلت: ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل ففعل فقلت للمرأة هل عندك من شي‏ء؟

____________________

(1) أي تقضوا حاجتكم بالتخلّي.

(2) الحجر حضن الإنسان و هو ما دون الإبط إلى الكشح.

(3) أي تلا من الرمل.

٣١٠

فقالت: عندي صاع من شعير و عناق(1) فطحنت الشعير فعجنته و ذبحت العناق و سلختها و خلّيت بين المرأة و بين ذلك.

ثمّ أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجلست عنده ساعة ثمّ قلت: ائذن لي يا رسول الله ففعل فأتيت المرأة فإذا العجين و اللحم قد أمكنا فرجعت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: إنّ عندنا طعيماً لنا فقم يا رسول الله أنت و رجلان من أصحابك فقال: و كم هو؟ فقلت: صاع من شعير و عناق فقال للمسلمين جميعاً: قوموا إلى جابر فقاموا فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلّا الله فقلت: جاء بالخلق إلى صاع شعير و عناق.

فدخلت على المرأة و قلت قد افتضحت جاءك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخلق أجمعين فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟ قلت: نعم. فقالت: الله و رسوله أعلم قد أخبرناه ما عندنا فكشفت عنّي غمّاً شديداً.

فدخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: خذي و دعيني من اللّحم فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يثرد و يفرّق اللّحم ثمّ يحمّ هذا و يحمّ هذا فما زال يقرّب إلى الناس حتّى شبعوا أجمعين و يعود التنّور و القدر أملأ ما كانا.

ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلي و أهدي فلم نزل نأكل و نهدي قومنا أجمع أورده البخاريّ في الصحيح.

قالوا: و لمّا فرغ رسول الله من الخندق أقبلت قريش حتّى نزلت بين الجرف(2) و الغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم و من تابعهم من بني كنانة و أهل تهامة، و أقبلت غطفان و من تابعهم من أهل نجد حتّى نزلوا إلى جانب اُحد، و خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمون حتّى جعلوا ظهورهم إلى سلع(3) في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هناك عسكره و الخندق بينه و بين القوم و أمر بالذراري و النساء فرفعوا في الآطام(4) .

____________________

(1) الأنثى من أولاد المعز.

(2) مكان خارج المدينة.

(3) جبل بالمدينة.

(4) حصون لأهل المدينة.

٣١١

و خرج عدوّ الله حيّي بن أخطب النضيري حتّى أتى كعب بن أسد القرظيّ صاحب بني قريظة و كان قد وادع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قومه و عاهده على ذلك فلمّا سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه. فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فناداه يا كعب افتح لي فقال: ويحك يا حيّي إنّك رجل مشؤم، إنّي قد عاهدت محمّداً و لست بناقض ما بيني و بينه، و لم أر منه إلّا وفاء و صدقاً. قال: ويحك افتح لي حتّى اُكلّمك. قال: ما أنا بفاعل. قال: إن أغلقت دوني إلّا على جشيشة تكره أن آكل منها معك.

فأحفظ(1) الرجل ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعزّ الدهر و ببحر طامّ(2) جئتك بقريش على قادتها و سادتها و بغطفان على سادتها و قادتها قد عاهدوني أن لا يبرحوا حتّى يستأصلوا محمّداً و من معه. فقال كعب: جئتني و الله بذلّ الدهر بجهام(3) قد أهراق ماءه يرعد و يبرق و ليس فيه شي‏ء فدعني و محمّداً و ما أنا عليه فلم أر من محمّد إلّا صدقاً و وفاء.

فلم يزل حيّي بكعب يفتل منه في الذروة(4) و الغارب حتّى سمح له على أن أعطاه عهداً و ميثاقاً لئن رجعت قريش و غطفان و لم يصيبوا محمّداً أن أدخل معك في حصنك حتّى يصيبني ما أصابك فنقض كعب عهده و برى‏ء ممّا كان عليه فيما بينه و بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلمّا انتهى الخبر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أحد بني عبد الأشهل و هو يومئذ سيّد الأوس و سعد بن عبادة أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج و هو يومئذ سيّد الخزرج و معهما عبدالله بن رواحة و خوّات بن جبير فقال: انطلقوا حتّى تنظروا أ حقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن‏ كان

____________________

(1) أحفظ الرجل: أغضبه.

(2) الطام: البحر العظيم.

(3) السحاب الّذي لا ماء فيه.

(4) الذروة و الغارب أعلى الشي‏ء و أصله مثل مأخوذ من فتل ذروة البعير المصعب و غاربه لوضع الخطام في أنفه.

٣١٢

حقّاً فالحنوا لنا لحناً نعرفه و لا تفتّوا أعضاد الناس و إن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس.

و خرجوا حتّى أتوهم فوجدوهم على أخبث ممّا بلغهم عنهم. قالوا: لا عقد بيننا و بين محمّد و لا عهد، فشاتمهم سعد بن عبادة و شاتموه، و قال سعد بن معاذ: دع عنك مشاتمتهم فإنّ ما بيننا و بينهم أعظم من المشاتمة.

ثمّ أقبلوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قالوا: عضل و القارة - لغدر عضل و القارة بأصحاب رسول الله خبيب بن عديّ و أصحابه أصحاب الرجيع - فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين، و عظم عند ذلك البلاء و اشتدّ الخوف و أتاهم عدوّهم من فوقهم و من أسفل منهم حتّى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ و ظهر النفاق من بعض المنافقين.

فأقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أقام المشركون عليه بضعاً و عشرين ليلة لم يكن بينهم قتال إلّا الرمي بالنبال إلّا أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ أخو بني عامر بن لويّ و عكرمة بن أبي جهل و ضرار بن الخطّاب و هبيرة بن أبي وهب و نوفل بن عبدالله قد تلبّسوا للقتال و خرجوا على خيولهم حتّى مرّوا بمنازل بني كنانة فقالوا: تهيّؤا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان؟

ثمّ أقبلوا تعنق(1) بهم خيولهم حتّى وقفوا على الخندق فقالوا: و الله إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثمّ تيمّموا مكاناً ضيّقاً من الخندق فضربوا خيولهم فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق و سلع و خرج عليّ بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتّى أخذ عليهم الثغرة الّتي منها اقتحموا و أقبلت الفرسان نحوهم.

و كان عمرو بن عبد ودّ فارس قريش و كان قد قاتل يوم بدر حتّى ارتثّ و أثبته الجراح و لم يشهد اُحداً فلمّا كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مشهده، و كان يعدّ بألف فارس و كان يسمّى فارس يليل لأنّه أقبل في ركب من قريش حتّى إذا كانوا بيليل و هو واد قريب من بدر عرضت لهم بنو بكر في عدد فقال لأصحابه: امضوا فمضوا فقام في وجوه بني بكر حتّى منعهم أن يصلوا إليه فعرف بذلك.

____________________

(1) أعنق به فرسه: سار به سيراً واسعا فسيحاً مسيطراً ممتداً.

٣١٣

و كان اسم الموضع الّذي حفر فيه الخندق المُذاد و كان أوّل من طفره عمرو و أصحابه فقيل في ذلك:

عمرو بن عبد كان أوّل فارس

جزع المذاد و كان فارس يليل

و ذكر ابن إسحاق أنّ عمرو بن عبد ودّ كان ينادي: من يبارز؟ فقام عليّ و هو مقنّع في الحديد فقال: أنا له يا نبيّ الله، فقال: إنه عمرو اجلس. و نادى عمرو: أ لا رجل؟ و هو يؤنّبهم و يقول: أين جنّتكم الّتي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ فقام عليّ فقال: أنا له يا رسول الله. ثمّ نادى الثالثة فقال:

و لقد بححت عن النداء

بجمعكم هل من مبارز

و وقفت إذ جبن المشجّع

موقف البطل المناجز

إنّ السماحة و الشجاعة في

الفتى خير الغرائز

فقام عليّ فقال: يا رسول الله أنا له، فقال: إنّه عمرو، فقال: و إن كان عمراً فاستأذن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأذن له.

قال ابن إسحاق: فمشى إليه و هو يقول:

لا تعجلنّ فقد أتاك

مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة و بصيرة

و الصدق منجي كلّ فائز

إنّي لأرجو أن اُقيم

عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى

ذكرها عند الهزاهز

قال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا عليّ. قال: ابن عبد مناف؟ قال: أنا عليّ بن أبي طالب بن عبدالمطّلب بن هاشم بن عبد مناف. فقال: غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسنّ منك فإنّي أكره أن اُهريق دمك. فقال عليّ: لكنّي و الله ما أكره أن اُهريق دمك. فغضب و نزل و سلّ سيفه كأنّه شعلة نار ثمّ أقبل نحو عليّ مغضباً فاستقبله عليّ بدرقته(1) فضربه عمرو بالدرقة فقدّها و أثبت فيها السيف و أصاب رأسه فشجّه، و ضربه عليّ على حبل العاتق فسقط.

____________________

(1) الدرقة: الجنّة.

٣١٤

و في رواية حذيفة: و تسيّف علىّ رجليه بالسيف من أسفل فوقع على قفاه و ثارت بينهما عجاجة فسمع عليّ يكبّر فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قتله و الّذي نفسي بيده فكان أوّل من ابتدر العجاج عمرو بن الخطّاب و قال: يا رسول الله قتله فجزّ علىّ رأسه و أقبل نحو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وجهه يتهلّل.

قال حذيفة: فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبشر يا عليّ فلو وزن اليوم عملك بعمل اُمّة محمّد لرجح عملك بعملهم و ذلك أنّه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلّا و قد دخله وهن بقتل عمرو، و لم يبق بيت من بيوت المسلمين إلّا و قد دخله عزّ بقتل عمرو.

و عن الحاكم أبي القاسم أيضاً بالإسناد عن سفيان الثوريّ عن زبيد الثاني عن مرّة عن عبدالله بن مسعود قال: كان يقرأ( وَ كَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ) بعليّ.

و خرج أصحابه منهزمين حتّى طفرت خيولهم الخندق و تبادر المسلمون فوجدوا نوفل بن عبد العزّى جوف الخندق فجعلوا يرمونه بالحجارة فقال لهم: قتلة أجمل من هذه ينزل بعضكم اُقاتله فقتله الزبير بن العوّام، و ذكر ابن إسحاق: أنّ عليّاً طعنة في ترقوته حتّى أخرجها من مراقه فمات في الخندق.

و بعث المشركون إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال النبيّ: هو لكم لا نأكل ثمن الموتى، و ذكر عليّ أبياتاً منها:

نصر الحجارة من سفاهة رأيه

و نصرت ربّ محمّد بصواب

فضربته و تركته متجدّلا

كالجذع بين دكادك و رواب

و عففت عن أثوابه لو أنّني

كنت المقطّر بزّني أثوابي

قال ابن إسحاق: و رمى حنان بن قيس بن العرفة سعد بن معاذ بسهم و قال: خذها و أنا ابن العرفة فقطع أكحله فقال سعد: عرف الله وجهك في النار اللّهمّ إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها فإنّه لا قوم أحبّ إليّ أن اُجاهد من قوم آذوا رسولك و كذّبوه و أخرجوه، و إن كنت وضعت الحرب بيننا و بينهم فاجعله لي شهادة و لا تمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة.

قال: و جاء نعيم بن مسعود الأشجعيّ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله

٣١٥

إنّي قد أسلمت و لم يعلم بي أحد من قومي فمرني بأمرك فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنّا ما استطعت فإنّما الحرب خدعة.

فانطلق نعيم بن مسعود حتّى أتى بني قريظة فقال لهم: إنّي لكم صديق، و الله ما أنتم و قريش و غطفان من محمّد بمنزلة واحدة إنّ البلد بلدكم و به أموالكم و أبناؤكم و نساؤكم و إنّما قريش و غطفان بلادهم غيرها و إنّما جاؤا حتّى نزلوا معكم فإن رأوا فرصة انتهزوها و إن رأوا غير ذلك رجعوا إلى بلادهم و خلّوا بينكم و بين الرجل و لا طاقة لكم به فلا تقاتلوا حتّى تأخذوا رهنا من أشرافهم تستوثقون به أن لا يبرحوا حتّى يناجزوا محمّداً. فقالوا له: قد أشرت برأي.

ثمّ ذهب فأتى أباسفيان و أشراف قريش فقال: يا معشر قريش إنّكم قد عرفتم ودّي إيّاكم و فراقي محمّداً و دينه و إنّي قد جئتكم بنصيحة فاكتموا عليّ. فقالوا: نفعل ما أنت عندنا بمتّهم. قال: تعلمون أنّ بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا بينهم و بين محمّد فبعثوا إليه أنّه لا يرضيك عنّا إلّا أن نأخذ من القوم رهنا من أشرافهم و ندفعهم إليك فتضرب أعناقهم ثمّ نكون معك عليهم حتّى نخرجهم من بلادك. فقال: بلى فإن بعثوا إليكم يسألونك نفراً من رجالكم فلا تعطوهم رجلاً واحداً و احذروا.

ثمّ جاء غطفان و قال: يا معشر غطفان إنّي رجل منكم، ثمّ قال لهم ما قال لقريش.

فلمّا أصبح أبو سفيان و ذلك يوم السبت في شوّال سنة خمس من الهجرة بعث إليهم أبوسفيان عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش أنّ أباسفيان يقول لكم: يا معشر اليهود إنّ الكراع و الخفّ قد هلكاً و إنّا لسناً بدار مقام فاخرجوا إلى محمّد حتّى نناجزه.

فبعثوا إليه أنّ اليوم السبت و هو يوم لا نعمل فيه شيئاً و لسناً مع ذلك بالّذين نقاتل معكم حتّى تعطونا رهنا من رجالكم نستوثق بهم لا تذهبوا و تدعونا حتّى نناجز محمّداً.

فقال أبوسفيان: و الله لقد حذّرنا هذا نعيم فبعث إليهم أبوسفيان: إنّا لا نعطيكم رجلاً واحداً فإن شئتم أن تخرجوا و تقاتلوا و إن شئتم فاقعدوا، فقالت اليهود: هذا

٣١٦

و الله الّذي قال لنا نعيم. فبعثوا إليهم إنّا و الله لا نقاتل حتّى تعطونا رهنا، و خذل الله بينهم و بعث سبحانه عليهم الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد حتّى انصرفوا راجعين.

قال محمّد بن كعب قال حذيفة بن اليمان و الله لقد رأيتنا يوم الخندق و بنا من الجهد و الجوع و الخوف ما لا يعلمه إلّا الله و قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي ما شاء الله من الليل ثمّ قال: أ لا رجل يأتينا بخبر القوم يجعله الله رفيقي في الجنّة. قال حذيفة: فوالله ما قام منّا أحد ممّا بنا من الخوف و الجهد و الجوع، فلمّا لم يقم أحد دعاني فلم أجد بدّاً من إجابته. قلت: لبيّك قال: اذهب فجي‏ء بخبر القوم و لا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع.

قال: و أتيت القوم فإذا ريح الله و جنوده تفعل بهم ما تفعل ما يستمسك لهم بناء و لا تثبت لهم نار و لا يطمئنّ لهم قدر فإنّي لكذلك إذ خرج أبوسفيان من رحله ثمّ قال: يا معشر قريش لينظر أحدكم من جليسه؟ قال حذيفة: فبدأت بالّذي عن يميني فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان.

ثمّ عاد أبوسفيان براحلته فقال: يا معشر قريش و الله ما أنتم بدار مقام هلك الخفّ و الحافر و أخلفتنا بنو قريظة و هذه الريح لا يستمسك لنا معها شي‏ء ثمّ عجّل فركب راحلته و إنّها لمعقولة ما حلّ عقالها إلّا بعد ما ركبها.

قال: قلت في نفسي: لو رميت عدوّ الله و قتلته كنت قد صنعت شيئاً فوترت قوسي ثمّ وضعت السهم في كبد القوس و أنا اُريد أن أرميه فأقتله فذكرت قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع. قال فحططت القوس ثمّ رجعت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يصلّي فلمّا سمع حسّي فرّج بين رجليه فدخلت تحته، و أرسل علىّ طائفة من(1) مرطة فركع و سجد ثمّ قال: ما الخبر؟ فأخبرته.

و عن سليمان بن صرد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أجلى عنه الأحزاب: الآن نغزوهم و لا يغزوننا فكان كما قال فلم يغزهم قريش بعد ذلك و كان هو يغزوهم حتّى

____________________

(1) كساء من صوف و نحوه يؤتزر به.

٣١٧

فتح الله عليهم مكّة.

أقول: هذا ما أورده الطبرسيّ في مجمع البيان، من القصّة أوردناه ملخّصاً و روى القمّيّ في تفسيره، قريباً منه و أورده في الدرّ المنثور، في روايات متفرّقة.

و في المجمع، أيضاً روى الزهريّ عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لمّا انصرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخندق و وضع عنه اللأمة و اغتسل و استحمّ تبدّي له جبريل فقال: عذيرك من محارب أ لا أراك أن قد وضعت عنك اللأمة و ما وضعناها بعد.

فوثب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزعاً فعزم على الناس أن لا يصلّوا صلاة العصر حتّى يأتوا قريظة فلبس الناس السلاح فلم يأتوا بني قريظة حتّى غربت الشمس و اختصم الناس فقال بعضهم: إنّ رسول الله عزم علينا أن لا نصلّي حتّى نأتي قريظة فإنّما نحن في عزمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليس علينا إثم، و صلّى طائفة من الناس احتساباً و تركت طائفة منهم الصلاة حتّى غربت الشمس فصلّوها حين جاؤا بني قريظة احتساباً فلم يعنف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحداً من الفريقين.

و ذكر عروة أنّه بعث عليّ بن أبي طالب على المقدّم و دفع إليه اللواء و أمره أن ينطلق حتّى يقف بهم على حصن بني قريظة ففعل و خرج رسول الله على آثارهم فمرّ على مجلس من الأنصار في بني غنم ينتظرون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزعموا أنّه قال: مرّ بكم الفارس آنفاً فقالوا: مرّ بنا دحية الكلبيّ على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس ذلك بدحية و لكنّه جبرائيل اُرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم و يقذف في قلوبهم الرعب.

قالوا: و سار عليّ حتّى إذا دنا من الحصن سمع منهم مقالة قبيحة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرجع حتّى لقي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث قال: أظنّك سمعت لي منهم أذى؟ فقال: نعم يا رسول الله فقال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً، فلمّا دنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حصونهم قال: يا إخوة القردة و الخنازير! هل أخزاكم الله و أنزل بكم نقمته؟ فقالوا: يا أبالقاسم ما كنت جهولاً.

٣١٨

و حاصرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمساً و عشرين ليلة حتّى أجهدهم الحصار و قذف الله في قلوبهم الرعب، و كان حيّي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت قريش و غطفان فلمّا أيقنوا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم قال كعب بن أسد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون و إنّي عارض عليكم خلالاً ثلاثاً فخذوا أيّها شئتم قالوا: ما هنّ؟.

قال: نبايع هذا الرجل و نصدّقه فوالله لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل و أنّه الّذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دمائكم و أموالكم و نسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً، و لا نستبدل به غيره.

قال: فإذا أبيتم عليّ هذا فهلمّوا فلنقتل أبناءنا و نساءنا ثمّ نخرج إلى محمّد رجالاً مصلتين بالسيوف و لم نترك وراءنا ثقلاً يهمّنا حتّى يحكم الله بيننا و بين محمّد فإن نهلك نهلك و لم نترك وراءنا نسلاً يهمّنا و إن نظهر لنجدنّ النساء و الأبناء. فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين؟ فما خير في العيش بعدهم.

قال: فإن أبيتم عليّ هذه فإنّ الليلة ليلة السبت و عسى أن يكون محمّد و أصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا فلعلّنا نصيب منهم غرّة. فقالوا: نفسد سبتنا؟ و نحدث فيه ما أحدث من كان قبلنا فأصابهم ما قد علمت من المسخ؟ فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته اُمّه ليلة واحدة من الدهر حازماً.

قال الزهريّ: و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سألوه أن يحكّم فيهم رجلاً: اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعد بن معاذ فرضي بذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسلاحهم فجعل في قبّته و أمر بهم فكتّفوا و اُوثقوا و جعلوا في دار اُسامة، و بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سعد بن معاذ فجي‏ء به فحكم فيهم بأن يقتل مقاتلوهم و تسبى ذراريهم و نساؤهم و تغنم أموالهم و أنّ عقارهم للمهاجرين دون الأنصار و قال للأنصار: إنّكم ذو عقار و ليس للمهاجرين عقار، فكبّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله عزّوجلّ، و في بعض الروايات: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة و أرقعة جمع رقيع اسم سماء الدنيا.

٣١٩

فقتل رسول الله مقاتليهم، و كانوا فيما زعموا: ستّمائة مقاتل، و قيل: قتل منهم أربعمائة و خمسين رجلاً و سبى سبعمائة و خمسين، و روي أنّهم قالوا لكعب بن أسد و هم يذهب بهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إرسالاً: يا كعب ما ترى يصنع بنا؟ فقال كعب: أ في كلّ موطن تقولون؟ أ لا ترون أنّ الداعي لا ينزع و من يذهب منكم لا يرجع هو و الله القتل.

و اُتي بحيّي بن أخطب عدوّ الله عليه حلّة فاختيّة قد شقّها عليه من كلّ ناحية كموضع الأنملة لئلّا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلمّا بصر برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أما و الله ما لمت نفسي على عداوتك و لكنّه من يخذل الله يخذل ثمّ قال: يا أيّها الناس إنّه لا بأس بأمر الله كتاب الله و قدرة ملحمة كتبت على بني إسرائيل ثمّ جلس فضرب عنقه.

ثمّ قسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءهم و أبناءهم و أموالهم على المسلمين و بعث بسبايا منهم إلى نجد مع سعد بن زيد الأنصاريّ فابتاع بهم خيلاً و سلاحاً، قالوا: فلمّا انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فرجّعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيمته الّتي ضربت عليه في المسجد.

و روي عن جابر بن عبدالله قال: جاء جبرائيل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: من هذا العبد الصالح الّذي مات فتحت له أبواب السماء و تحرّك له العرش فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا سعد بن معاذ قد قبض.

أقول: و روى القصّة القمّيّ في تفسيره، مفصّلة و فيه: فأخرج كعب بن اُسيد مجموعة يداه إلى عنقه فلمّا نظر إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له: يا كعب أ ما نفعك وصيّة ابن الحواس الحبر الذكيّ الّذي قدم عليكم من الشام فقال: تركت الخمر و الخمير و جئت إلى البؤس و التمور لنبيّ يبعث مخرجه بمكّة و مهاجرته في هذه البحيرة يجتزي بالكسيرات و التميرات، و يركب الحمار العريّ، في عينيه حمرة، و بين كتفيه خاتم النبوّة، يضع سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى منكم، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ و الحافر فقال قد كان ذلك يا محمّد و لو لا أنّ اليهود يعيّروني أنّي جزعت عند القتل لآمنت

٣٢٠