الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128779 / تحميل: 6816
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

(الأغناء المترفين) وتقريبه للمجموعة الثّانية (الفقراء المؤمنين) شكّل مجتمعا توحيديا بمعنى الكلمة ، مجتمعا تفجّرت فيه الطاقات الكامنة ، وأصبحت فيه معايير الشخصية والقيم والنبوغ ، هي التقوى والعلم والإيمان والجهاد والعمل الصالح.

واليوم ما لم نسع لبناء مثل هذا المجتمع والاقتداء بالنموذج الإسلامي الذي شيّده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهده ، وبدون نبذ الفكر الطبقي من العقول عن طريق التعليم والتربية وتدوين القوانين الصحيحة والسهر على تنفيذها بدقّة ـ بالرغم من رفض الاستكبار العالمي وتعويقه لذلك ـ فسوف لن نملك مجتمعا إنسانيا سليما أبدا.

2 ـ المقارنة بين الحياة في هذا العالم وعالم الآخرة :

لقد قلنا مرارا : إنّ تجسّد الأعمال هو من أهم القضايا المرتبطة بالمعاد. يجب أن نعلم أنّ ما هو موجود في ذلك العالم هو انعكاس واسع ومتكامل لهذا العالم ، فأعمالنا وأفكارنا وأساليبنا الاجتماعية وصفاتنا الأخلاقية المختلفة سوف تتجسّم وتتجسّد أمامنا في ذلك العالم وستبقى قرينة لنا دائما.

الآيات ـ أعلاه ـ دليل حي على هذه الحقيقة ، فالمترفون الظالمون الذين كانوا يعيشون في هذه الدنيا في ظل سرادق عالية ، وكانوا سكارى بهواهم ، وسعوا إلى فصل كل شيء يخصّهم عن المؤمنين الفقراء ، هؤلاء يملكون في ذلك العالم أيضا (سرادق) ولكنّها من النار الحارقة ، لأنّ الظلم في حقيقته نار حارقة تحرق الحياة وتذروا آمال المستضعفين المظلومين.

هناك يشربون من شراب يجسّد باطن شراب الدنيا ، وهو بالنسبة للظالمين الطغاة شراب من دماء قلوب المحرومين ، ومثل هذا الشراب يقدّم للظالمين في ذلك العالم ، وهو لا يحرق أمعاءهم وأحشاءهم فحسب ، بل يكون كالمعدن

٢٦١

المذاب الذي يشوي الوجوه قبل شربه من شدّة حرارته.

وعلى العكس من ذلك أولئك الذين تركوا الشهوات في سبيل حفظ طهارة وجودهم ورعاية أصول العدالة ، والذين اقتنعوا بحياة بسيطة ، وتحمّلوا كل الصعوبات والمنغصات في هذه الدنيا من أجل تنفيذ أصول العدالة هؤلاء تنتظرهم هناك بساتين الجنّة مع الأنهار الجارية ، وأفضل أنواع الزينة وأفخر الألبسة ، وأحبّ المجالس. وهذا في الواقع تجسيد لنياتهم النزيهة حيث كانوا يريدون كل الخير لجميع عباد الله.

3 ـ العلاقة بين عبادة الهوى والغفلة عن الله

الروح الإنسانية تخضع إمّا لله تعالى أو للأهواء ، حيث لا يمكن الجمع بين الإثنين ، فعبادة الأهواء أساس الغفلة عن الله وعبادة الله ، عبادة الهوى هي سبب الابتعاد عن جميع الأصول الأخلاقية ؛ وأخيرا فإنّ عبادة الهوى تدخل الإنسان في ذاته وتبعده عن جميع حقائق العالم.

إنّ الإنسان الذي يعبد هواه لا يفكّر إلّا في إشباع شهواته ، ولا يوجد لديه معنى للفتوّة والعفو والإيثار والتضحية والشيم المعنوية الأخرى.

وقد أوضحت الآيات محل البحت الربط والعلاقة بين الإثنين بشكل جلي في قوله تعالى :( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) .

لقد طرحت الآية أوّلا (الغفلة) عن الله تعالى ، ثمّ ذكرت بعدها (أتباع الهوى) ، والطريف أنّ نتيجة هذا الأمر هو الإفراط وبالشكل المطلق الذي ذكرته الآية.

لماذا يكون عابد الهوى مصابا بالإفراط دائما؟

قد يكون السبب أنّ الطبيعة الإنسانية تتجه في الملذات المادية نحو الزيادة دوما ، فالذي كان يشعر بالنشوة بمقدار معين من المخدرات ، لا يكفيه نفس

٢٦٢

المقدار في اليوم التالي لبلوغ نفس درجة النشوة ، بل عليه زيادة الكمية بالتدريج ، والشخص الذي كان يكفيه في السابق قصر واحد مجهّز بجميع الإمكانات وبمساحه عدة آلاف بين الأمتار ، يصبح اليوم إحساسه بهذا القصر عاديا ، فينشد الزيادة. وهكذا في جميع مصاديق الهوى والشهوة حيث أنّها دائما تنشد الزيادة حتى تهلك الإنسان نفسه.

4 ـ ملابس الزينة في العالم الآخر

قد يطرح البعض هذا السؤال : لقد ذمّ الله تعالى الزينة والتزيّن في القرآن بالنسبة لهذه الحياة ، إلّا أنّه يعد المؤمنين بمثل هذه الأمور في ذلك العالم ، إذ تنص الآيات على الذهب وملابس الحرير والإستبرق والسرر المساند الجميلة؟

قبل الإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نوضّح بأنّنا لا نوافق على توجيه هذه الكلمات على أنّها كناية عن مفاهيم معنوية ويفسّرون الآيات على هذا الأساس ، لقد تعلمنا من القرآن الكريم أنّ المعاد ذو جانبين : معاد روحاني ومعاد جسماني.

وعلى هذا الأساس ، فإنّ لذات ذلك العالم يجب أن تكون موجودة في المجالين ، واللذات الروحية ـ طبعا ـ لا يمكن مقايستها باللذات الجسمية. ولكن لا بدّ من الاعتراف بأنّنا لا نعرف من نعم ذلك العالم سوى أشباح بعيدة ، ونسمع كلاما يشير إليها.

لماذا؟ لأنّ نسبة ذلك العالم إلى عالمنا هذا كنسبة عالمنا إلى عالم الجنين في بطن الأم ، فإذا قدّر للأم أن تقيم رابطة بينها وبين الجنين ، فلا يسعها إلّا أن توضح للجنين بالإشارات جمال هذه الدنيا بشمسها الساطعة وقمرها المنير ، والعيون الفوّارة ، والبساتين والورود وما شابهها ، حيث لا توجد ألفاظ كافية لتبيان كل هذه المفاهيم للجنين في رحم الأم كي يفهمها ويستوعبها.

كذلك فإنّ النعم المادية والمعنوية لعالم الآخرة لا يمكن توضيحها لنا بشكل

٢٦٣

كامل ونحن محاصرون في أبعاد رحم هذه الدنيا.

ومع وضوح هذه المقدمة نجيب على السؤال ونقول : إن ذم الله عز اسمه لحياة الزينة والترف في هذه الدنيا يعود إلى أن محدودية هذا العالم تسبب أن تقترن الزينة والترف مع أنواع الظلم والانحراف الذي يكون بدوره سببا للغفلة والانقطاع عن الله.

إنّ الاختلافات التي تبرز خلال هذا الطريق ستكون سببا للحقد والحسد والعداوة والبغضاء ، وأخيرا إراقة الدماء والحروب.

أمّا في ذلك العالم اللامحدود من جميع الجهات ، فإنّ الحصول على هذه الزينة لا يسبّب مشكلة ولا يكون سببا للتمييز والحرمان ، ولا للحقد والنفرة ، ولا يبعد الإنسان عن الله في ذلك المحيط المملوء بالمعنويات حيث لا حسد ولا تنافس ولا كبر ولا غرور تؤدي ابتعاد خلق الله عن الله ، كما في زينة الحياة الدنيا.

فإذا كان الحال كذلك فلما ذا يحرم أهل الجنة من هذه المواهب والعطايا الإلهية التي هي لذّات جسمية إلى جانب كونها مواهب معنوية كبيرة!

5 ـ الاقتراب من الأثرياء بسبب ثروتهم :

الدرس الآخر الذي نتعلمه من الآيات الآنفة ، هو أنّه يجب علينا أن لا نمتنع عن إرشاد وتوجيه هذه المجموعة ـ أو تلك ـ بسبب كونها ثرية أو ذات حياة مرّفهة ، بل إنّ الشيء المذموم هو أن نذهب لهؤلاء لأجل ثروتهم ودنياهم المادية ، ونصبح مصداقا لقوله تعالى :( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) أمّا إذا كان الهدف هو الهداية والإرشاد ، أو حتى الاستفادة من إمكانياتهم من أجل تنفيذ النشاطات الإيجابية والمهمّة اجتماعيا ، فانّ مثل هذا الهدف لا يعتبر غير مذموم وحسب ، بل هو واجب.

* * *

٢٦٤

الآيات

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) )

التّفسير

تجسيد لموقف المستكبرين من المستضعفين :

في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ عبيد الدنيا كانوا يحاولون الابتعاد في كل شيء عن رجال الحق وأهله المستضعفين ، ثمّ عرّفتنا الآيات جزاءهم في الحياة الأخرى.

الآيات التي نبحثها تشير إلى حادثة اثنين من الأصدقاء أو الإخوة الذين

٢٦٥

يعتبر كل واحد منهم نموذجا لإحدى المجموعتين ، ويوضحان طريقة تفكير وقول وعمل هاتين المجموعتين.

في البداية تخاطب الآيات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقول :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً ) .

البستان والمزرعة كان فيهما كل شيء : العنب والتمر والحنطة وباقي الحبوب ، لقد كانت مزرعة كاملة ومكفية من كل شيء :( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ) .

والأهم من ذلك هو توفّر الماء الذي يعتبر سر الحياة ، وأمرا مهمّا لا غنى للبستان والمزرعة عنه ، وقد كان الماء بقدر كاف :( وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً ) .

على هذا الأساس كانت لصاحب البستان كل أنواع الثمار :( وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ ) .

ولأنّ الدنيا قد استهوته فقد أصيب بالغرور لضعف شخصيته ورأي أن الإحساس العميق بالأفضلية والتعالي على الآخرين ، حيث التفت وهو بهذه الحالة إلى صاحبه :( فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

بناء على هذا فأنا أملك قوّة إنسانية كبيرة وعندي مال وثروة ، وأنا أملك ـ أيضا ـ نفوذا وموقعا اجتماعيا ، أمّا أنت (والخطاب لصاحبه) فما ذا تستطيع أن تقول ، وهل لديك ما تتكلم عنه؟!

لقد تضخّم هذا الإحساس ونما تدريجيا ـ كما هو حاله ـ ووصل صاحب البستان إلى حالة بدأ يظن معها أنّ هذه الثروة والمال والجاه والنفوذ إنّما هي أمور أبديّة ، فدخل بغرور إلى بستانه (في حين أنّه لا يعلم بأنّه يظلم نفسه) ونظر إلى أشجاره الخضراء التي كادت أغصانها أن تنحني من شدّة ثقل الثمر ، وسمع صوت الماء الذي يجري في النهر القريب من البستان والذي كان يسقي أشجاره ، وبغفلة قال : لا أظن أن يفنى هذا البستان ، وبلسان الآية وتصوير القرآن الكريم :( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) .

٢٦٦

بل عمد إلى ما هو أكثر من هذا ، إذ بما أنّ الخلود في هذا العالم بتعارض مع البعث والمعاد ، لذا فقد فكّر في إنكار القيامة وقال :( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) وهذا كلام يعكس وهم قائلة وتمنياته!

ثمّ أضاف! حتى لو فرضنا وجود القيامة فإنّي بموقعي ووجاهتي سأحصل عند ربّي ـ إذا ذهبت إليه ـ على مقام وموقع أفضل. لقد كان غارقا في أوهامه( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) .

لقد أخذ صاحب البستان ضمن الحالة النفسية التي يعيشها والتي صورها القرآن الكريم ، يضيف إلى نفسه في كل فترة وهما بعد آخر من أمثال ما حكت عنه الآيات آنفا ، وعند هذا الحد انبرى له صديقه المؤمن وأجابه بكلمات يشرحهما لنا القرآن الكريم.

* * *

٢٦٧

الآيات

( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) )

التّفسير

جواب المؤمن :

هذه الآيات هي ردّ على ما نسجه من أوهام ذلك الغني المغرور العديم الإيمان ، نسمعها تجري على لسان صاحبه المؤمن.

لقد بدأ الكلام بعد أن ظلّ صامتا يستمع إلى كلام ذلك الرجل ذي الأفق الضيق والفكر المحدود ، حتى ينتهي من كلامه ، ثمّ قال له :( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ

٢٦٨

يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) .

وهنا قد يثار هذا السؤال ، وهو : إنّ كلام ذلك الرجل المغرور المتكبر الذي مرّ ذكره في الآيات الآنفة ، لم يصرّح فيه بإنكار الحق جلّ وعلا ، في حين أنّ جواب الإنسان المؤمن ركزّ فيه أوّلا على إنكاره للخالق!؟ لذلك فإنّه وجّه نظره أوّلا إلى قضية خلق الإنسان التي هي من أبرز أدلة التوحيد والتوجّه نحو الخالق العالم القادر. الله الذي خلق الإنسان من تراب ، حيث امتصت جذور الأشجار المواد الغذائية الموجودة في الأرض ، والأشجار بدورها أصبحت طعاما للحيوانات ، والإنسان استفاد من هذا النبات ولحم الحيوان ، وانعقدت نطفته من هذه المواد ، ثمّ سلكت النطفة طريق التكامل في رحم الأم حتى تحوّلت إلى إنسان كامل ، الإنسان الذي هو أفضل من جميع موجودات الأرض ، فهو يفكّر ويصمّم ويسخّر كلّ شيء لأجله.

نعم ، إنّ هذا التراب عديم الأهمية يتحوّل إلى هذا الموجود العجيب ، مع هذه الأجهزة المعقدة الموجودة في جسم الإنسان وروحه ، وهذا من الدلائل العظيمة على التوحيد.

وفي الجواب على السؤال المثار ذكر المفسّرون تفاسير معتدّدة نجملها فيما يلي :

1 ـ قالت مجموعة منهم : بما أنّ هذا الرجل المغرور أنكر بصراحة المعاد والبعث أو شكك فيه ، فإنّه يلزم من ذلك إنكار الخالق ، لأنّ منكر المعاد الجسماني ينكر في الواقع قدرة الله ، ولا يصدّق بأنّ هذا التراب المتلاشي سوف تعود له الحياة مرّة أخرى ، لذا فإنّ الرجل المؤمن مع ذكره للخلق الأوّل من تراب ، ثمّ من نطفة ، ثمّ بإشارته للمراحل الأخرى ـ أراد أن يلفت نظره إلى القدرة غير المتناهية للخالق حتى يعلم بأنّ قضية المعاد يمكن مشاهدتها هنا وتمثّلها بأعيننا في واقع هذه الأرض.

٢٦٩

2 ـ وقال آخرون : إنّ شركه وكفره كانا بسبب ما رآه لنفسه من استقلال في المالكية وما تصوره من دوام وأبدية هذه الملكية.

3 ـ الاحتمال الثّالث أنّه لا يبعد أن يكون الرجل قد أنكر الخالق في بعض كلامه ولم يذكر القرآن هذا المقطع من كلامه. وقد يتوضح الأمر بقرينة جواب الرجل المؤمن ، لذا نرى في الآية التي بعدها أنّ الرجل المؤمن قال لصاحب البستان ما مضمونه : إن كنت أنكرت وجود خالقك وسلكت طريق الشرك ، إلّا أنّني لا أفعل ذلك أبدا.

على أي حال ، ثمّة علاقة واضحة تربط بين الاحتمالات الثلاثة ، ويمكن أن يكون كلام الرجل المؤمن الموحّد إشارة الى هذه الاحتمالات جميعا.

ثمّ عمد الرجل الموحّد المؤمن إلى تحطيم كفر وغرور ذلك الرجل (صاحب البستان) فقال :( لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي ) (1) . وإنّي أفتخر بهذا الإعتقاد وأتباهى به ، إنّك تفتخر بأنّك تملك بستانا ومزرعة وفواكه وماءا كثيرا ؛ إلّا أنّني أفتخر بأنّ الله ربّي ، إنّه خالقي ورازقي؛إنّك تتباهى بدنياك وأنا أفتخر بعقيدتي وإيماني وتوحيدي :( وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ) .

وبعد أن أشار إلى قضية التوحيد والشرك اللذين يعتبران من أهم المسائل المصيرية ، جدّد لومه لصاحبه قائلا :( وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ ) (2) .

فلما ذا لا تعتبر كل هذه النعم من الخالق جلّ وعلا ، ولماذا لم تشكره عليها. ولماذا لم تقل :( لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ ) .

فإذا كنت قد هيّأت الأرض وبذرت البذور وزرعت الغرس وربيت الأشجار ، وفعلت كلّ شيء في وقته المناسب حتى وصل الأمر إلى ما وصل إليه ؛

__________________

(1) كلمة (لكنّا) في الأصل كانت (لكن إنّ) ثمّ دمجت وأصبحت هكذا.

(2) جمله( ما شاءَ اللهُ ) لها محذوف إذ تكون مع التقدير : ما شاء الله كان ، أو : ما شاء الله ، فإنّ هذا هو الشيء الذي يريده الله.

٢٧٠

فإنّ كل هذه الأمور هي من قدرة الخالق جلّ وعلا ، وقد وضع سبحانه وتعالى الوسائل والإمكانات تحت تصرفك ، حيث أنّك لا تملك شيئا من عندك ، وبدونه تكون لا شيء!

ثمّ يقول له : ليس من المهم أن أكون أقل منك مالا وولدا :( إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً ) .

( فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ) .

وليس فقط أن يعطيني أفضل ممّا عندك ، بل ويرسل صاعقة من السماء على بستانك، فتصبح الأرض الخضراء أرض محروقة جرداء :( وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ) .

أو أنّه سبحانه وتعالى يعطي أوامره إلى الأرض كي تمنعك الماء :( أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ) .

«حسبان» على وزن «لقمان» وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «حساب» ، ثمّ وردت بعد ذلك بمعنى السهام التي تحسب عند رميها ، وتأتي أيضا بمعنى الجزاء المرتبط بحساب الأشخاص ، وهذا هو ما تشير إليه الآية أعلاه.

«صعيد» تعني القشرة التي فوق الأرض. وهي في الأصل مأخوذة من كلمة صعود.

«زلق» بمعنى الأرض الملساء بدون أي نباتات بحيث أنّ قدم الإنسان تنزلق عليها (الطريف ما يقوم به الإنسان اليوم حيث تتمّ عملية تثبيت الأرض والرمال المتحركة ، ومنع القرى من الاندثار تحت هذه الرمال عند هبوب العواصف الرملية ، وذلك من خلال زراعتها بالنباتات والأشجار ، أو ـ كما يصطلح عليه ـ إخراجها من حال الزلق والانزلاق).

في الواقع ، إنّ الرجل المؤمن والموحّد حذّر صديقه المغرور أن لا يطمأن لهذه النعم ، لأنّها جميعا في طريقها إلى الزوال وهي غير قابلة للاعتماد.

٢٧١

إنّه أراد أن يقول لصاحبه : لقد رأيت بعينيك ـ أو على الأقل سمعت بأذنك ـ كيف أنّ الصواعق السماوية جعلت من البساتين والبيوت والمزروعات ـ وخلال لحظة واحدة ـ تلّا من التراب والدمار وأصبحت أرضهم يابسة عديمة الماء والكلأ.

وأيضا سمعت أو رأيت بقيام هزة أرضية تطمس الأنهار وتجفّف العيون ، بحيث تكون غير قابلة للإصلاح والترميم.

وبمعرفتك لكل هذ الأمور فلم هذا الغرور؟!

أنت الذي شاهدت أو سمعت كل هذا، فلم هذا الانشداد للأرض والهوى؟

ثمّ لماذا تقول : لا أعتقد أن تزول هذه النعم وأنّها باقية وخالدة ؛ فلما ذا هذا الجهل والبلاهة!!!؟

* * *

٢٧٢

الآيات

( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) )

التّفسير

العاقبة السوداء :

أخيرا انتهى الحوار بين الرجلين دون أن يؤثر الشخص الموحّد المؤمن في أعماق الغني المغرور ، الذين رجع إلى بيته وهو يعيش نفس الحالة الروحية والفكرية ، وغافل أنّ الأوامر الإلهية قد صدرت بإبادة بساتينه ومزروعاته الخضراء ، وأنّه وجب أن ينال جزاء غروره وشركه في هذه الدنيا ، لتكون عاقبته عبرة للآخرين.

ويحتمل أنّ العذاب الإلهي قد نزل في تلك اللحظة من الليل عند ما خيّم الظلام ، على شكل صاعقة مميتة أو عاصفة هو جاء مخيفة ، أو على شكل زلزال مخرّب ومدمّر. وأيّا كان فقد دمّرت هذه البساتين الجميلة والأشجار العالية

٢٧٣

والزرع المثمر ، حيث أحاط العذاب الإلهي بتلك المحصولات من كل جانب :( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) .

«أحيط» مشتقّة من «إحاطة» وهي في هذه الموارد تأتي بمعنى (العذاب الشامل) الذي تكون نتيجته الإبادة الكاملة.

وعند الصباح جاء صاحب البستان وتدور في رأسه الأحلام العديدة ليتفقد ويستفيد من محصولات البستان ، ولكنّه قبل أن يقترب منه واجهه منظر مدهش وموحش ، بحيث أنّ فمه بقي مفتوحا من شدة التعجّب ، وعيناه توقفتا عن الحركة والاستدارة.

لم يكن يعلم بأنّ هذا المنظر يشاهده في النوم أم في اليقظة! الأشجار جميعها ساقطة على التراب ، النباتات مدمّرة ، وليس ثمّة أي أثر للحياة هناك!

كان الأمر بشكل وكأنّه لم يكن هناك بستان ولا أراضي مزروعة ، كانت أصوات (البوم) ـ فقط ـ تدوي في هذه الخرائب ، قلبه بدأ ينبض بقوّة ، بهت لونه ، يبس الماء في فمه ، وتحطّم الكبرياء والغرور اللذان كانا يثقلان نفسه وعقله.

كأنّه صحا من نوم عميق :( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ) .

وفي هذه اللحظة ندم على أقواله وأفكاره الباطلة :( وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) .

والأكثر حزنا وأسفا بالنسبة له هو ما أصبح عليه من الوحدة في مقابل كل هذه المصائب والابتلاءات :( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

ولأنّه فقد ما كان يملكه من رأس المال ولم يبقي لديه شيء آخر ، فإنّ مصيره :( وَما كانَ مُنْتَصِراً ) .

لقد انهارت جميع آماله وظنونه الممزوجة بالغرور ، لقد أدت الحادثة إلى انتهاء كل شيء ، فهو من جانب كان يقول : إنّي لا أصدق بأنّ هذه الثروة العظيمة

٢٧٤

من الممكن أن تفنى ، إلّا أنّني رأيت فناءها بعيني!

ومن جانب آخر فقد كان يتعامل مع رفيقه المؤمن بكبر ويقول : إنّني أقوى منك وأكثر أنصارا ومالا ، ولكنّه بعد هذه الحادثة اكتشف أن لا أحد ينصره!

ومن جانب ثالث فإنّه كان يعتمد على قوته وقدرته الذاتية ، ويعتقد بأنّ غير قدرته محدودة ، لكنّه بعد هذه الحادثة ، وبعد أن لم يكن بمقدوره الحصول على شيء ، انتبه إلى خطئه الكبير ، لأنّه لم يعد يتملك شيئا يعوضه جانبا من تلك الخسارة الكبرى.

وعادة ، فإنّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان لأجل المال والثروة مثلهم كمثل الذباب حول الحلوى ، وقد يفكّر الإنسان أحيانا بالاعتماد عليهم في الأيّام الصعبة ، ولكن عند ما يصاب فيما يملك يتفرق هؤلاء الخلّان من حوله ، لأنّ صداقتهم له لم تكن لرابط معنوي ، بل كانت لأسباب مادية ، فإذا زالت هذه الأسباب انتفت الرفقة!

وهكذا انتهي كل شيء ولا ينفع الندم ، لأنّ مثل هذه اليقظة الإجبارية التي تحدث عند نزول الابتلاءات العظيمة يمكن ملاحظتها حتى عند أمثال فرعون ونمرود ، وهي بلا قيمة ، لهذا فإنّها لا تؤثّر على حال من ينتبه.

صحيح أنّه ذكر عبارة( لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) وهي نفس الجملة التي كان قد قالها له صديقه المؤمن ، إلّا أنّ المؤمن قالها في حالة السلامة وعدم الابتلاء ، بينما ردّدها صاحب البستان في وقت الضيق والبلاء.

( هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ ) نعم ، لقد اتضح أنّ جميع النعم منه تعالى ، وأنّ كل ما يريده تعالى يكون طوع إرادته ، وأنّه بدون الاعتماد على لطفه لا يمكن إنجاز عمل :( هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً ) .

إذن ، لو أراد الإنسان أن يحب أحدا ويعتمد على شيء ما ، أو يأمل بهديه من

٢٧٥

شخص ما ، فمن الأفضل أن يكون الله سبحانه محط أنظاره ، وموقع آماله ، ومن الأفضل أن يتعلق بلطفه تعالى وإحسانه.

* * *

بحثان

1 ـ غرور الثروة

في هذه القصّة نشاهد تجسيدا حيا لما نطلق عليه اسم غرور الثروة ، وقد عرفنا أنّ هذا الغرور ينتهي أخيرا إلى الشرك والكفر. فعند ما يصل الأفراد الذين يعيشون حياتهم بلا غاية وهدف إيماني إلى منزلة معينة من القدرة المالية أو الوجاهة الاجتماعية ، فإنّهم في الغالب يصابون بالغرور. وفي البداية يسعون إلى التفاخر بإمكاناتهم على الآخرين ويعتبرونها وسيلة تفوّق ، ويرون من التفاف أصحاب المصالح حولهم دليلا على محبوبيتهم ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله :( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

ويتبدّل حبّ هؤلاء للدنيا تدريجيا بفكرة الخلود فيها :( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) .

إنّ ظنّهم بخلود ثرواتهم المادية يجعلهم ينكرون المعاد للتضاد الواضح بين ما هم فيه وبين مبدأ البعث والمعاد ، فيكون لسان حالهم :( وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) .

والأنكى من ذلك هو أنّهم يعتبرون مقامهم ووجاهتهم في هذه الدنيا دليلا على قرب مقامهم من محضر القدس الإلهي ، فيقولون :( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) .

هذه المراحل الأربع نجدها واضحة في حياة أصحاب القدرة من عبيد الدنيا ، مع فوارق نسبية فيما بينهم ، فيبدأ مسيرهم الانحرافي من الاغترار بما

٢٧٦

لديهم من قوة وقدرة ، ويتصاعد انحرافهم إلى الشرك وعبادة الأصنام والكفر وإنكار المعاد ، لأنّهم يعبدون القدرة المادية ويجعلونها صنما دون سواها.

2 ـ دروس وعبر

هذا المصير المقترن بالعبرة والذي ذكر هنا بشكل سريع يتضمّن بالإضافة إلى الدرس الآنف ، دروسا أخرى ينبغي أن نتعلمها ، وهذه الدروس هي :

أ: مهما كانت نعم الدنيا المادية كبيرة وواسعة ، فإنّها غير مطمئنة وغير ثابتة ، فصاعقة واحدة تستطيع في ليلة أو في لحظات معدودة أن تبيد البساتين والمزارع التي يكمن فيها جهد سنين طويلة من عمر الإنسان ، وتحيلها إلى تل من تراب ورماد وأرض يابسة زلقة.

إنّ زلزلة واحدة خفيفة يمكن أن تقضي على العيون الفّوارة التي هي الأصل في هذه الحياة ، بالشكل الذي لا يمكن معه ترميمها أبدا.

ب : إنّ الأصدقاء الذين يلتفون حول الإنسان بغرض الإفادة من إمكاناته المادية هم بدرجة من اللامبالاة وعلى قدر من الغدر والخيانة بحيث أنّهم يتخلّون عنه في نفس اللحظة التي تزول فيها إمكاناته المادية ويتركونه وحيدا لهمومه :( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

هذا النوع من الأحداث الذي طالما سمعنا ورأينا له نماذج تبرهن على أنّ الإنسان لا يملك سوى التعلق بالله وحده ، وأنّ الأصدقاء الحقيقيين والأوفياء للإنسان هم الذين تصنعهم الروابط والعلائق المعنوية ، إذ يستمر ودّ هؤلاء في حال الفقر والثروة ، في الشباب والشيبة ، في الصحة والمرض ، في العز والذلة ، بل وتستمر مودّة هؤلاء إلى ما بعد الموت!

ج : لا فائدة من الصحوة بعد نزول البلاء :

لقد أشرنا مرارا إلىّ أنّ اليقظة الإجبارية لدى الإنسان ليست دليلا على يقظة

٢٧٧

داخلية حقيقية هادية ، وليست علامة على تغيير مسير الإنسان ، أو ندمه على أعماله السابقة وعلى ما كان فيها من معصية وانحراف ، بل كل ما في الأمر هو أنّ الإنسان عند ما ينزل بساحته البلاء أو يرى عمود المشنقة ، أو تحيط به أمواج البلاء والعواصف ، فهو يتأثر للحظات لا تتعدى مدة البلاء ويتخذ قرارا بتغيير مصيره ، ولكن لأنّه لا يملك أساسا متينا في أعماقه ، فإنّه بانتهاء البلاء يغفل عن صحوته هذه ويعود إلى خطّة ومسيره الأوّل.

لو تأملنا الآية (18) من سورة النساء لرأينا من خلالها أنّ أبواب التوبة تغلق أمام الإنسان عند رؤية علائم الموت ، وسبب هذا الأمر هو ما ذكرناه أعلاه.

وفي الآيات (90 ـ 91) من سورة يونس يقول القرآن حول فرعون عند ما صار مصيره إلى الغرق وعصفت به الأمواج ، فإذا به يصرخ ويقول :( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ ) إلّا أنّ هذه التوبة ترد عليه ولا تقبل منه :( آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ ) !

د : لا الفقر دليل الذلة ولا الثروة دليل العزة :

وهذا درس آخر نتعلمه من الآيات أعلاه ، طبيعي أنّ المجتمعات المادية والمذاهب النفعية غالبا ما تتوهم بأنّ الفقر والثروة هما دليل الذلة والعزة ، لهذا السبب لاحظنا أنّ مشركي العصر الجاهلي يعجبون من يتمّ رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقره ويقولون :( وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (1) .

ه : أسلوب تحطيم الغرور :

عند ما تبدأ بواعث الغرور تقترب من الإنسان وتناجي أعماقه بسبب المال والمنصب، فيجب عليه أن يقطع تلك الوسوسة من جذورها ، عليه أن يتذكر ذلك اليوم الذي كان فيه ترابا لا قيمة له ، وذلك اليوم الذي كان فيه نطفة لا قيمة لها ، عليه أن يعي اللحظة التي كان فيها وليدا ضعيفا لا يقدر على الحركة.

__________________

(1) الزخرف ، 31.

٢٧٨

لاحظنا القرآن في الآيات الآنفة كيف يعيد من خلال خطاب الرجل المؤمن ، صاحب البستان إلى وضعه العادي :( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) .

و: درس من عالم الطبيعة :

القرآن عند ما يصف البساتين المثمرة يقول :( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ) ولكنّه عند ما يتحدث عن صاحب البستان يقول :( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ) .

يعني : أيّها الإنسان ، أنظر إلى الوجود من حولك ، ولا حظ أنّ هذه الأشجار المثمرة والزراعة المباركة كيف آتت كل ما عندها بأمانة وقدمته لك ، فلا مجال عندها للاحتكار والحسد والبخل ، فعالم الوجود هو ساحة للإيثار والبذل والعفو ، فما تمتلكه الأرض تقدمه بإيثار إلى الحيوانات والنباتات ، وتضع الأشجار والنباتات كل ثمارها ومواهبها في إختيار الإنسان والأحياء الأخرى ، وقرص الشمس يضعف يوما بعد آخر وهو يشع النور والدفء والحرارة ، الغيوم تمطر والرياح تهب ، لتتسع أمواج الحياة في كل مكان.

هذا هو نظام الوجود ، ولكنّك أيّها الإنسان تريد أن تكون سيد الوجود ومع ذلك تسحق قوانينه الثابتة البيّنة. فتكون رقعة نشاز غير متناسقة في عالم الوجود تريد أن تستحوذ على كل شيء وتصادر حقوق الآخرين!

* * *

٢٧٩

الآيتان

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) )

التّفسير

بداية ونهاية الحياة في لوحة حيّة :

الآيات السابقة تحدّثت عن عدم دوام نعم الدنيا ، ولأنّ إدراك هذه الحقيقة لعمر بطول (60 ـ 80) سنة يعتبر أمرا صعبا بالنسبة للأفراد العاديين ، لذا فإنّ القرآن قد جسّد هذه الحقيقة من خلال مثال حي ومعبّر كي يستيقظ الغافلون المغرورون من غفلتهم ونومهم عند ما يشاهدون تكرار هذا الأمر عدّة مرّات خلال عمرهم.

يقول تعالى :( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) هذه القطرات الواهبة للحياة تسقط على الجبال والصحراء ، وتعيد الحياة للبذور

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) إلخ، يشهد السياق على أنّ المراد بالقضاء هو القضاء التشريعيّ دون التكوينيّ فقضاء الله تعالى حكمه التشريعيّ في شي‏ء ممّا يرجع إلى أعمال العباد أو تصرّفه في شأن من شؤنهم بواسطة رسول من رسله، و قضاء رسوله هو الثاني من القسمين و هو التصرّف في شأن من شؤن الناس بالولاية الّتي جعلها الله تعالى له بمثل قوله:( النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) .

فقضاؤهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضاء منه بولايته و قضاء من الله سبحانه لأنّه الجاعل لولايته المنفذ أمره، و يشهد سياق قوله:( إِذا قَضَى اللهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً ) حيث جعل الأمر الواحد متعلّقاً لقضاء الله و رسوله معاً، على أنّ المراد بالقضاء التصرّف في شؤن الناس دون الجعل التشريعيّ المختصّ بالله.

و قوله:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ ) أي ما صحّ و لا يحقّ لأحد من المؤمنين و المؤمنات أن يثبت لهم الاختيار من أمرهم بحيث يختارون ما شاؤا و قوله:( إِذا قَضَى اللهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً ) ظرف لنفي الاختيار.

و ضميراً الجمع في قوله:( لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) للمؤمن و المؤمنة المراد بهما جميع المؤمنين و المؤمنات لوقوعهما في حيّز النفي و وضع الظاهر موضع المضمر حيث قيل:( مِنْ أَمْرِهِمْ ) و لم يقل: أن يكون لهم الخيرة فيه للدلالة على منشأ توهّم الخيرة و هو انتساب الأمر إليهم.

و المعنى: ليس لأحد من المؤمنين و المؤمنات إذا قضى الله و رسوله بالتصرّف في أمر من اُمورهم أن يثبت لهم الاختيار من جهته لانتسابه إليهم و كونه أمراً من اُمورهم فيختاروا منه غير ما قضى الله و رسوله بل عليهم أن يتّبعوا إرادة الله و رسوله.

و الآية عامّة لكنّها لوقوعها في سياق الآيات التالية يمكن أن تكون كالتمهيد لما سيجي‏ء من قوله:( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ) الآية، حيث يلوح منه أنّ بعضهم كان قد اعترض على تزوّج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزوج زيد و تعييره بأنّها كانت زوج ابنه المدعوّ له بالتبنّي و سيجي‏ء في البحث الروائيّ بعض ما يتعلّق بالمقام.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ

٣٤١

وَ اتَّقِ اللهَ ) إلى آخر الآية المراد بهذا الّذي أنعم الله عليه و أنعم النبيّ عليه زيد بن حارثة الّذي كان عبداً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ حرّره و اتّخذه ابناً له و كان تحته زينب بنت جحش بنت عمّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى زيد النبيّ فاستشاره في طلاق زينب فنهاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الطلاق ثمّ طلّقها زيد فتزوّجها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نزلت الآيات.

فقوله:( أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) أي بالهداية إلى الإيمان و تحبيبه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قوله:( وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) أي بالإحسان إليه و تحريره و تخصيصه بنفسك، و قوله:( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللهَ ) كناية عن الكفّ عن تطليقها، و لا يخلو من إشعار بإصرار زيد على تطليقها.

و قوله:( وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ ) أي مظهره( وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) ذيل الآيات أعني قوله:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) دليل على أنّ خشيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس لم تكن خشية على نفسه بل كان خشية في الله فأخفى في نفسه ما أخفاه استشعاراً منه أنّه لو أظهره عابه الناس و طعن فيه بعض من في قلبه مرض فأثّر ذلك أثّراً سيّئاً في إيمان العامّة، و هذا الخوف - كما ترى - ليس خوفاً مذموماً بل خوف في الله هو في الحقيقة خوف من الله سبحانه.

و قوله:( وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) الظاهر في نوع من العتاب ردع عن نوع من خشية الله و هي خشيته عن طريق الناس و هداية إلى نوع آخر من خشيته تعالى و أنّه كان من الحريّ أن يخشى الله دون الناس و لا يخفي ما في نفسه ما الله مبديه و هذا نعم الشاهد على أنّ الله كان قد فرض له أن يتروّج زوج زيد الّذي كان تبنّاه ليرتفع بذلك الحرج عن المؤمنين في التزوّج بأزواج الأدعياء و هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخفيه في نفسه إلى حين مخافة سوء أثره في الناس فآمّنه الله ذلك بعتابه عليه نظير ما تقدّم في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ - إلى قوله -وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) الآية.

فظاهر العتاب الّذي يلوح من قوله:( وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ )

٣٤٢

مسوق لانتصاره و تأييد أمره قبال طعن الطاعنين ممّن في قلوبهم مرض نظير ما تقدّم في قوله:( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ ) التوبة: ٤٣.

و من الدليل على أنّه انتصار و تأييد في صورة العتاب قوله بعد:( فَلَمَّا قَضى‏ زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها ) حيث أخبر عن تزويجه إيّاها كأنّه أمر خارج عن إرادة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اختياره ثمّ قوله:( وَ كانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا ) .

فقوله:( فَلَمَّا قَضى‏ زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها ) متفرّع على ما تقدّم من قوله:( وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ ) و قضاء الوطر منها كناية عن الدخول و التمتّع، و قوله:( لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً ) تعليل للتزويج و مصلحة للحكم، و قوله:( وَ كانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا ) مشير إلى تحقّق الوقوع و تأكيد للحكم.

و من ذلك يظهر أنّ الّذي كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخفيه في نفسه هو ما فرض الله له أن يتزوّجها لا هواها و حبّه الشديد لها و هي بعد مزوّجة كما ذكره جمع من المفسّرين و اعتذروا عنه بأنّها حالة جبلّيّة لا يكاد يسلم منها البشر فإنّ فيه أوّلاً: منع أن يكون بحيث لا يقوى عليه التربية الإلهيّة، و ثانياً: أنّه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه و إخفائه في نفسه فلا مجوّز في الإسلام لذكر حلائل الناس و التشبّب بهنّ.

قوله تعالى: ( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ ) إلخ، الفرض هو التعيين و الاسهام يقال: فرض له كذا أي عيّنه له و أسهمه به، و قيل: هو في المقام بمعنى الإباحة و التجويز، و الحرج الكلفة و الضيق، و المراد بنفي الحرج نفي سببه و هو المنع عمّا فرض له.

و المعنى: ما كان على النبيّ من منع فيما عيّن الله له أو أباح الله له حتّى يكون عليه حرج في ذلك.

و قوله:( سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) اسم موضوع موضع المصدر فيكون

٣٤٣

مفعولاً مطلقاً و التقدير سنّ الله ذلك سنّة، و المراد بالّذين خلوا من قبل هم الأنبياء و الرسل الماضون بقرينة قوله بعد:( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ ) إلخ.

و قوله:( وَ كانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) أي يقدّر من عنده لكلّ أحد ما يلائم حاله و يناسبها، و الأنبياء لم يمنعوا ممّا قدّره الله و أباحه لغيرهم حتّى يمنع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعض ما قدّر و اُبيح.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) إلخ، الموصول بيان للموصول المتقدّم أعني قوله:( الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ) .

و الخشية هي تأثّر خاصّ للقلب عن المكروه و ربّما ينسب إلى السبب الّذي يتوقّع منه المكروه، يقال: خشيت أن يفعل بي فلان كذا أو خشيت فلاناً أن يفعل بي كذا، و الأنبياء يخشون الله و لا يخشون أحداً غيره لأنّه لا مؤثّر في الوجود عندهم إلّا الله.

و هذا غير الخوف الّذي هو توقّع المكروه بحيث يترتّب عليه الاتّقاء عملاً سواء كان معه تأثّر قلبيّ أو لا فإنّه أمر عمليّ ربّما ينسب إلى الأنبياء كقوله تعالى حكاية عن موسىعليه‌السلام :( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ) الشعراء: ٢١ و قوله في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ) الأنفال: ٥٨ و هذا هو الأصل في معنى الخوف و الخشية و ربّما استعملاً كالمترادفين.

و ممّا تقدّم يظهر أنّ الخشية منفيّة عن الأنبياءعليهم‌السلام مطلقاً و إن كان سياق قوله:( يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَ يَخْشَوْنَهُ ) إلخ، يلوّح إلى أنّ المنفيّ هو الخشية في تبليغ الرسالة. على أنّ جميع أفعال الأنبياء كأقوالهم من باب التبليغ فالخشية في أمر التبليغ مستوعبة لجميع أعمالهم.

و قوله:( وَ كَفى‏ بِاللهِ حَسِيباً ) أي محاسباً يحاسب على الصغيرة و الكبيرة فيجب أن يخشى و لا يخشى غيره.

قوله تعالى: ( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ )

٣٤٤

إلخ، لا شكّ في أنّ الآية مسوقة لدفع اعتراضهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه تزوّج زوج ابنه و محصّل الدفع أنّه ليس أبا زيد و لا أبا أحد من الرجال الموجودين في زمن الخطاب حتّى يكون تزوّجه بزوج أحدهم بعده تزوّجاً بزوج ابنه فالخطاب في قوله:( مِنْ رِجالِكُمْ ) للنّاس الموجودين في زمن نزول الآية، و المراد بالرجال ما يقابل النّساء و الولدان و نفي الاُبوّة نفي تكوينيّ لا تشريعيّ و لا تتضمّن الجملة شيئاً من التشريع.

و المعنى: ليس محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا أحد من هؤلاء الرجال الّذين هم رجالكم حتّى يكون تزوّجه بزوج أحدهم بعده تزوّجاً منه بزوج ابنه و زيد أحد هؤلاء الرجال فتزوّجه بعد تطليقه ليس تزوّجاً بزوج الابن حقيقة و أمّا تبنيه زيداً فإنّه لا يترتّب عليه شي‏ء من آثار الاُبوّة و البنوّة و ما جعل أدعياءكم أبناءكم.

و أمّا القاسم و الطيّب و الطاهر(١) و إبراهيم فإنّهم أبناؤه حقيقة لكنّهم ماتوا قبل أن يبلغوا فلم يكونوا رجالاً حتّى ينتقض الآية و كذا الحسن و الحسين و هما ابناً رسول الله فإنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبض قبل أن يبلغا حدّ الرجال.

و ممّا تقدّم ظهر أنّ الآية لا تقتضي نفي اُبوّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للقاسم و الطيّب و الطاهر و إبراهيم و كذا للحسنين لما عرفت أنّها خاصّة بالرجال الموجودين في زمن النزول على نعت الرجوليّة.

و قوله:( وَ لكِنْ رَسُولَ اللهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الخاتم بفتح التاء ما يختم به كالطابع و القالب بمعنى ما يطبع به و ما يقلب به و المراد بكونه خاتم النبيّين أنّ النبوّة اختتمت بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا نبيّ بعده.

و قد عرفت فيما مرّ معنى الرسالة و النبوّة و أنّ الرسول هو الّذي يحمل رسالة من الله إلى الناس و النبيّ هو الّذي يحمل نبأ الغيب الّذي هو الدين و حقائقه و لازم ذلك أن يرتفع الرسالة بارتفاع النبوّة فإنّ الرسالة من أنباء الغيب، فإذا انقطعت هذه

____________________

(١) هذا على ما هو المعروف و قال بعضهم: إنّ الطيّب و الطاهر لقبان للقاسم.

٣٤٥

الأنباء انقطعت الرسالة.

و من هنا يظهر أنّ كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيّين يستلزم كونه خاتماً للرسل.

و في الآية إيماء إلى أنّ ارتباطهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تعلّقه بكم تعلّق الرسالة و النبوّة و أنّ ما فعله كان بأمر من الله سبحانه.

و قوله:( وَ كانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً ) أي ما بيّنه لكم إنّما كان بعلمه.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاستنكفت منه و قالت: أنا خير منه حسباً و كانت امرأة فيها حدّة فأنزل الله( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ ) الآية كلّها.

أقول: و في معناها روايات اُخر.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: نزلت في اُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط و كانت أوّل امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزوّجها زيد بن حارثة فسخطت هي و أخوها و قالت إنّما أردنا رسول الله فزوّجنا عبده فنزلت.

أقول: و الروايتان أشبه بالتطبيق منهما بسبب النزول.

و في العيون،: في باب مجلس الرضاعليه‌السلام عند المأمون مع أصحاب الملل في حديث يجيب فيه عن مسألة عليّ بن الجهم في عصمة الأنبياء:

قال: و أمّا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قول الله عزّوجلّ:( وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) فإنّ الله عزّوجلّ عرف نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسماء أزواجه في دار الدنيا و أسماء أزواجه في الآخرة و أنّهنّ اُمّهات المؤمنين و أحد من سمّي له زينب بنت جحش و هي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اسمها في نفسه و لم يبده لكيلاً يقول أحد من المنافقين: إنّه قال في امرأة في بيت رجل: إنّها أحد أزواجه

٣٤٦

من اُمّهات المؤمنين و خشي قول المنافقين.

قال الله عزّوجلّ:( وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ) يعني في نفسك.‏ الحديث.

أقول: و روي ما يقرب منه فيه عنهعليه‌السلام في جواب مسألة المأمون عنه في عصمة الأنبياء.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ ) قيل: إنّ الّذي أخفاه في نفسه هو أنّ الله سبحانه أعلمه أنّها ستكون من أزواجه و أنّ زيداً سيطلّقها فلمّا جاء زيد و قال له: اُريد أن اُطلّق زينب قال له: أمسك عليك زوجك، فقال سبحانه: لم قلت: أمسك عليك زوجك و قد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجك؟ و روي ذلك عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و الترمذيّ و ابن المنذر و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في سننه عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو زينب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: اتّق الله و أمسك عليك زوجك فنزلت:( وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ ) .

قال أنس: فلو كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه الآية، فتزوّجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديث.

أقول: و الروايات كثيرة في المقام و إن كان كثير منها لا يخلو من شي‏ء و في الروايات: ما أولم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب ذبح شاة و أطعم الناس الخبز و اللحم، و في الروايات أنّها كانت تفتخر على سائر نساء النبيّ بثلاث أنّ جدّها و جدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحد فإنّها كانت بنت اُميمة بنت عبدالمطّلب عمّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنّ الّذي زوّجها منه هو الله سبحانه و أنّ السفير جبريل.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ لكِنْ رَسُولَ اللهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ ) : و صحّ الحديث عن جابر بن عبدالله عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها و حسنها إلّا موضع لبنة، فكان من دخلها و نظر إليها فقال: ما أحسنها إلّا

٣٤٧

موضع هذه اللبنة. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء: أورده البخاريّ و مسلم في صحيحيهما.

أقول: و روى هذا المعنى غيرهما كالترمذيّ و النسائيّ و أحمد و ابن مردويه عن غير جابر كأبي سعيد و أبي هريرة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن الأنباريّ في المصاحف عن أبي عبدالرحمن السلميّ قال: كنت اُقرئ الحسن و الحسين فمرّ بي عليّ بن أبي طالب و أنا اُقرئهما فقال لي: أقرئهما و خاتم النبيّين بفتح التاء.

٣٤٨

( سورة الأحزاب الآيات ٤١ - ٤٨)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ( ٤١ ) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٤٢ ) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ  وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ( ٤٣ ) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ  وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ( ٤٤ ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٤٥ ) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ( ٤٦ ) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيرًا ( ٤٧ ) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ  وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلًا ( ٤٨ )

( بيان‏)

آيات تدعو المؤمنين إلى الذكر و التسبيح و تبشّرهم و تعدهم الوعد الجميل و تخاطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصفاته الكريمة و تأمره أن يبشّر المؤمنين و لا يطيع الكافرين و المنافقين، و يمكن أن يكون القبيلان مختلفين في النزول زماناً.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ) الذكر ما يقابل النسيان و هو توجيه الإدراك نحو المذكور و أمّا التلفّظ بما يدلّ عليه من أسمائه و صفاته فهو بعض مصاديق الذكر.

قوله تعالى: ( وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) التسبيح هو التنزيه و هو مثل الذكر لا يتوقّف على اللفظ و إن كان التلفّظ بمثل سبحان الله بعض مصاديق التسبيح.

٣٤٩

و البكرة أوّل النهار و الأصيل آخره بعد العصر و تقييد التسبيح بالبكرة و الأصيل لما فيهما من تحوّل الأحوال فيناسب تسبيحه و تنزيهه من التغيّر و التحوّل و كلّ نقص طار، و يمكن أن يكون البكرة و الأصيل معاً كناية عن الدوام كاللّيل و النهار في قوله:( يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ ) حم السجدة: ٣٨.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) المعنى الجامع للصلاة على ما يستفاد من موارد استعمالها هو الانعطاف فيختلف باختلاف ما نسب إليه و لذلك قيل: إنّ الصلاة من الله الرحمة و من الملائكة الاستغفار و من الناس الدعاء لكنّ الّذي نسب من الصلاة إلى الله سبحانه في القرآن هو الصلاة بمعنى الرحمة الخاصّة بالمؤمنين و هي الّتي تترتّب عليها سعادة العقبى و الفلاح المؤبّد و لذلك علّل تصليته عليهم بقوله:( لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) .

و قد رتّب سبحانه في كلامه على نسيانهم له نسيانه لهم و على ذكرهم له ذكره لهم فقال:( نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ) التوبة: ٦٧ و قال:( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) البقرة: ١٥٢ و تصليته عليهم ذكر منه لهم بالرحمة فإن ذكروه كثيراً و سبّحوه بكرة و أصيلاً صلّى عليهم كثيراً و غشيهم بالنور و أبعدهم من الظلمات.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ) إلخ، في مقام التعليل لقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ) و تفيد التعليل أنّكم إن ذكرتم الله كثيراً ذكركم برحمته كثيراً و بالغ في إخراجكم من الظلمات إلى النور و يستفاد منه أنّ الظلمات إنّما هي ظلمات النسيان و الغفلة و النور نور الذكر.

و قوله:( وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) وضع الظاهر موضع المضمر، أعني قوله:( بِالْمُؤْمِنِينَ ) و لم يقل: و كان بكم رحيماً، ليدلّ به على سبب الرحمة و هو وصف الإيمان.

قوله تعالى: ( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ) ظاهر السياق أنّ( تَحِيَّتُهُمْ ) مصدر مضاف إلى المفعول أي إنّهم يحيّون - بالبناء للمفعول - يوم

٣٥٠

يلقون ربّهم من عند ربّهم و من ملائكته بالسلام أي إنّهم يوم اللقاء في أمن و سلام لا يصيبهم مكروه و لا يمسّهم عذاب.

و قوله:( وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ) أي و هيّأ الله لهم ثواباً جزيلاً.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) شهادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأعمال أن يتحمّلها في هذه النشأة و يؤدّيها يوم القيامة و قد تقدّم في قوله:( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) البقرة: ١١٢ و غيره من آيات الشهادة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهيد الشهداء.

و كونه مبشّراً و نذيراً تبشيره المؤمنين المطيعين لله و رسوله بثواب الله و الجنّة و إنذاره الكافرين و العاصين بعذاب الله و النار.

قوله تعالى: ( وَ داعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً ) دعوته إلى الله هي دعوته الناس إلى الإيمان بالله وحده، و لازمه الإيمان بدين الله و تقيّد الدعوة بإذن الله يجعلها مساوقة للبعثة.

و كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سراجاً منيراً هو كونه بحيث يهتدي به الناس إلى سعادتهم و ينجون من ظلمات الشقاء و الضلالة فهو من الاستعارة، و قول بعضهم: إنّ المراد بالسراج المنير القرآن و التقدير ذا سراج منير تكلّف من غير موجب.

قوله تعالى: ( وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيراً ) ، الفضل من العطاء ما كان من غير استحقاق ممّن يأخذه و قد وصف الله عطاءه فقال:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) الأنعام: ١٦٠ و قال:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) ق: ٣٥ فبيّن أنّه يعطي من الثواب ما لا يقابل العمل و هو الفضل و لا دليل في الآية يدلّ على اختصاصه بالآخرة.

قوله تعالى: ( وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) إلخ، تقدّم معنى طاعة الكافرين و المنافقين في أوّل السورة.

و قوله:( وَ دَعْ أَذاهُمْ ) أي اترك ما يؤذونك بالإعراض عنه و عدم الاشتغال به و الدليل على هذا المعنى قوله:( وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) أي لا تستقلّ بنفسك في دفع

٣٥١

أذاهم بل اجعل الله وكيلاً في ذلك و كفى بالله وكيلاً.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن ابن القدّاح عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما من شي‏ء إلّا و له حدّ ينتهي إليه إلّا الذكر فليس له حدّ ينتهي إليه فرض الله عزّوجلّ الفرائض فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ و شهر رمضان فمن صامه فهو حدّه و الحجّ فمن حجّ فهو حدّه إلّا الذكر فإنّ الله عزّوجلّ لم يرض منه بالقليل و لم يجعل له حدّاً ينتهي إليه ثمّ تلا:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) فقال: لم يجعل الله له حدّاً ينتهي إليه.

قال: و كان أبي كثير الذكر لقد كنت أمشي معه و إنّه ليذكر الله و آكل معه الطعام و إنّه ليذكر الله و لقد كان يحدّث القوم ما يشغله ذلك عن ذكر الله و كنت أرى لساناً لازقاً بحنكه يقول: لا إله إلّا الله.

و كان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتّى تطلع الشمس و يأمر بالقراءة من كان يقرأ منّا و من كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر، و البيت الّذي يقرأ فيه القرآن و يذكر الله عزّوجلّ فيه يكثر بركته و يحضره الملائكة و يهجره الشياطين و يضي‏ء لأهل السماء كما يضي‏ء الكوكب لأهل الأرض و البيت الّذي لا يقرأ فيه القرآن و لا يذكر الله يقلّ بركته و يهجره الملائكة و يحضره الشياطين.

و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أ لا اُخبركم بخير أعمالكم أرفعها في درجاتكم و أزكاها عند مليككم و خير لكم من الدينار و الدرهم و خير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتقتلوهم و يقتلوكم؟ فقالوا: بلى. قال: ذكر الله عزّوجلّ كثيراً.

ثمّ قال: جاء رجل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: من خير أهل المسجد؟ فقال: أكثرهم لله ذكراً.

و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من اُعطي لساناً ذاكراً فلقد اُعطي خير الدنيا و الآخرة.

و قال في قوله تعالى:( وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) قال: لا تستكثر ما عملت من خير لله.

٣٥٢

و فيه، بإسناده عن أبي المعزى رفعه قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : من ذكر الله في السرّ فقد ذكر الله كثيراً إنّ المنافقين كانوا يذكرون الله علانية و لا يذكرونه في السرّ فقال الله عزّوجلّ:( يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا ) .

أقول: و هو استفادة لطيفة.

و في الخصال، عن زيد الشحّام قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : ما ابتلي المؤمن بشي‏ء أشدّ عليه من ثلاث خصال يحرمها. قيل: و ما هي؟ قال: المواساة في ذات يده، و الإنصاف من نفسه، و ذكر الله كثيراً. أمّا إنّي لا أقول: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر و إن كان منه و لكن ذكر الله عند ما أحلّ له و ذكر الله عند ما حرّم عليه.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و الترمذيّ و البيهقيّ عن أبي سعيد الخدريّ: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل أيّ العباد أفضل درجة عندالله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيراً. قلت: يا رسول الله و من الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفّار و المشركين حتّى ينكسر و يختضب دماً لكان الذاكرون الله أفضل درجة منه.

و في العلل، بإسناده عن عبدالله بن الحسن عن أبيه عن جدّه الحسن بن عليّعليه‌السلام قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله أعلمهم فيما سأله فقال: لأيّ شي‏ء سمّيت محمّداً و أحمد و أباالقاسم و بشيراً و نذيراً و داعياً؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا الداعي فإنّي أدعو الناس إلى دين ربّي عزّوجلّ، و أمّا النذير فإنّي اُنذر بالنار من عصاني، و أمّا البشير فإنّي اُبشّر بالجنّة من أطاعني. الحديث.

و في تفسير القمّيّ، في قوله:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ - إلى قوله -وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَ كَفى‏ بِاللهِ وَكِيلًا ) أنّها نزلت بمكّة قبل الهجرة بخمس سنين.

٣٥٣

( سورة الأحزاب الآيات ٤٩ - ٦٢)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا  فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ( ٤٩ ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ  قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ  وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٥٠ ) تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ  وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ  ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ  وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ  وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ( ٥١ ) لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ  وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا ( ٥٢ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ  إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ  وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ  

٣٥٤

وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ  ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ  وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا  إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيمًا ( ٥٣ ) إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٥٤ ) لَّا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ  وَاتَّقِينَ اللهَ  إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ( ٥٥ ) إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ( ٥٦ ) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ( ٥٧ ) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ( ٥٨ ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ  ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ  وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ٥٩ ) لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ( ٦٠ ) مَّلْعُونِينَ  أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ( ٦١ ) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ  وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا ( ٦٢ )

٣٥٥

( بيان)

تتضمّن الآيات أحكاماً متفرّقة بعضها خاصّة بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أزواجه و بعضها عامّة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا ) المراد بنكاحهنّ العقد عليهنّ بالنكاح، و بالمسّ الدخول، و بالتمتيع إعطاؤهنّ شيئاً من المال يناسب شأنهنّ و حالهنّ و التسريح بالجميل إطلاقهنّ من غير خصومة و خشونة.

و المعنى: إذا طلّقتموا النساء بعد النكاح و قبل الدخول فلا عدّة لهنّ للطلاق و يجب تمتيعهنّ بشي‏ء من المال و السراح الجميل.

و الآية مطلقة تشمل ما إذا فرض لهنّ فريضة المهر و ما إذا لم يفرض فيقيّدها قوله:( وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) البقرة: ٢٣٧ و تبقى حجّة فيما لم يفرض لهنّ فريضة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) إلى آخر الآية، يذكر سبحانه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإحلال سبعة أصناف من النساء: الصنف الأوّل ما في قوله:( أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) و المراد بالاُجور المهور، و الثاني ما في قوله:( وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ ) أي من يملكه من الإماء الراجعة إليه من الغنائم و الأنفال، و تقييد ملك اليمين بكونه ممّا أفاء الله عليه كتقييد الأزواج بقوله:( اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ) للتوضيح لا للاحتراز.

و الثالث و الرابع ما في قوله:( وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ ) قيل: يعني نساء قريش، و الخامس و السادس ما في قوله:( وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ ) قيل: يعني نساء بني زهرة، و قوله:( اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ) قال في المجمع: هذا إنّما كان قبل تحليل غير المهاجرات ثمّ نسخ شرط الهجرة في التحليل.

و السابع ما في قوله:( وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها ) و هي المرأة المسلمة الّتي بذلت نفسها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعنى أن ترضى أن

٣٥٦

يتزوّج بها من غير صداق و مهر فإنّ الله أحلّها له إن أراد أن يستنكحها، و قوله:( خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) إيذان بأنّ هذا الحكم - أي حلّيّة المرأة للرجل ببذل النفس - من خصائصه لا يجري في المؤمنين، و قوله بعده:( قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) تقرير لحكم الاختصاص.

و قوله:( لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ) تعليل لقوله في صدر الآية:( إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ ) أو لما في ذيلها من حكم الاختصاص و الأوّل أظهر و قد ختمت الآية بالمغفرة و الرحمة.

قوله تعالى: ( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ) إلخ، الإرجاء التأخير و التبعيد، و هو كناية عن الردّ، و الإيواء: الإسكان في المكان و هو كناية عن القبول و الضمّ إليه.

و السياق يدلّ على أنّ المراد به أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خيرة من قبول من وهبت نفسها له أو ردّه.

و قوله:( وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ) ، الابتغاء هو الطلب أي و من طلبتها من اللّاتي عزلتها و لم تقبلها فلا إثم عليك و لا لؤم أي يجوز لك أن تضمّ إليك من عزلتها و رددتها من النساء اللّاتي وهبن أنفسهنّ لك بعد العزل و الردّ.

و يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسم بين نسائه و أن يترك القسم فيؤخّر من يشاء منهنّ و يقدّم من يشاء و يعزل بعضهنّ من القسم فلا يقسم لها أو يبتغيها فيقسم لها بعد العزل و هو أوفق لقوله بعده:( وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى‏ - أي أقرب -أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ - أي يسررن -وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ ) و ذلك لسرور المتقدّمة بما قسمت له و رجاء المتأخّرة أن تتقدّم بعد.

و قوله:( وَ كانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً ) أي يعلم مصالح عباده و لا يعاجل في العقوبة.

و في الآية أقوال مختلفة اُخر و الّذي أوردناه هو الأوفق لوقوعها في سياق سابقتها متّصلة بها و به وردت الأخبار عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كما سيجي‏ء.

٣٥٧

قوله تعالى: ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ) إلخ، ظاهر الآية لو فرضت مستقلّة في نفسها غير متّصلة بما قبلها تحريم النساء لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا من خيرهنّ فاخترن الله و نفي جواز التبدّل بهنّ يؤيّد ذلك.

لكن لو فرضت متّصلة بما قبلها و هو قوله:( إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ ) إلخ، كان مدلولها تحريم ما عداً المعدودات و هي الأصناف الستّة الّتي تقدّمت.

و في بعض الروايات عن بعض أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد بالآية محرّمات النساء المعدودة في قوله:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ ) الآية النساء: ٢٣.

فقوله:( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ) أي من بعد اللّاتي اخترن الله و رسوله و هي التسعة على المعنى الأوّل أو من بعد من عددناه في قولنا:( إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ ) على المعنى الثاني أو من بعد المحلّلات و هي المحرّمات على المعنى الثالث.

و قوله:( وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ) أي أن تطلّق بعضهنّ و تزوّج مكانها من غيرهنّ، و قوله:( إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) يعني الإماء و هو استثناء من قوله في صدر الآية( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ ) .

و قوله:( وَ كانَ اللهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ رَقِيباً ) معناه ظاهر و فيه تحذير عن المخالفة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ - إلى قوله -مِنَ الْحَقِّ ) بيان لأدب الدخول في بيوت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قوله:( إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ) استثناء من النهي، و قوله:( إِلى‏ طَعامٍ ) متعلّق بالإذن، و قوله:( غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ) أي غير منتظرين لورود إناء الطعام بأن تدخلوا من قبل فتطيلوا المكث في انتظار الطعام و يبيّنه قوله:( وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ أي أكلتم فَانْتَشِرُوا ) ، و قوله:( وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ) عطف على قوله:( غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ) و هو حال بعد حال، أي غير ماكثين في حال انتظار الإناء قبل الطعام و لا في حال الاستئناس لحديث بعد الطعام.

و قوله:( إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ) تعليل للنهي أي لا تمكثوا كذلك لأنّ مكثكم ذلك كان يتأذّى منه النبيّ فيستحيي منكم أن يسألكم

٣٥٨

الخروج و قوله:( وَ اللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ) أي من بيان الحقّ لكم و هو ذكر تأذّيه و التأديب بالأدب اللائق.

قوله تعالى: ( وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ ) ، ضمير( سَأَلْتُمُوهُنَّ ) لأزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سؤالهنّ متاعاً كناية عن تكليمهنّ لحاجة أي إذا مسّت الحاجة إلى تكليمكم أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكلّموهنّ من وراء حجاب، و قوله:( ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ ) بيان لمصلحة الحكم.

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً ) إلخ، أي ليس لكم إيذاؤه بمخالفة ما اُمرتم في نسائه و في غير ذلك و ليس لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إنّ ذلكم أي نكاحكم أزواجه من بعده كان عند الله عظيماً، و في الآية إشعار بأنّ بعضهم ذكر ما يشير إلى نكاحهم أزواجه بعده و هو كذلك كما سيأتي في البحث الروائيّ الآتي.

قوله تعالى: ( إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً ) معناه ظاهر و هو في الحقيقة تنبيه تهديديّ لمن كان يؤذي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو يذكر نكاح أزواجه من بعده.

قوله تعالى: ( لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ ) إلى آخر الآية ضمير( عَلَيْهِنَّ ) لنساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب و قد استثنى الآباء و الأبناء و الإخوان و أبناء الإخوان و أبناء الأخوات و هؤلاء محارم، قيل: و لم يذكر الأعمام و الأخوال لأنّهم من الممكن أن يصفوهنّ لأبنائهم.

و استثنى أيضاً نساءهنّ و إضافة النساء إلى ضمير هنّ يلوّح إلى أنّ المراد النساء المؤمنات دون الكوافر كما مرّ في قوله تعالى:( أَوْ نِسائِهِنَّ ) النور: ٣١ و استثنى أيضاً ما ملكت أيمانهنّ من العبيد و الإماء.

و قوله:( وَ اتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيداً ) فيه تأكيد الحكم و خاصّة من جهة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في( اتَّقِينَ اللهَ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا

٣٥٩

عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً ) قد تقدّم أنّ أصل الصلاة الانعطاف فصلاته تعالى انعطافه عليه بالرحمة انعطافاً مطلقاً لم يقيّد في الآية بشي‏ء دون شي‏ء و كذلك صلاة الملائكة عليه انعطاف عليه بالتزكية و الاستغفار و هي من المؤمنين الدعاء بالرحمة.

و في ذكر صلاته تعالى و صلاة ملائكته عليه قبل أمر المؤمنين بالصلاة عليه دلالة على أنّ في صلاة المؤمنين له اتّباعاً لله سبحانه و ملائكته و تأكيداً للنهي الآتي.

و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنّة أنّ طريق صلاة المؤمنين أن يسألوا الله تعالى أن يصلّي عليه و آله.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً ) من المعلوم أنّ الله سبحانه منزّه من أن يناله الأذى و كلّ ما فيه وصمة النقص و الهوان فذكره مع الرسول و تشريكه في إيذائه تشريف للرسول و إشارة إلى أنّ من قصد رسوله بسوء فقد قصده أيضاً بالسوء إذ ليس للرسول بما أنّه رسول إلّا ربّه فمن قصده فقد قصد ربّه.

و قد أوعدهم باللّعن في الدنيا و الآخرة و اللعن هو الإبعاد من الرحمة و الرحمة الخاصّة بالمؤمنين هي الهداية إلى الاعتقاد الحقّ و حقيقة الإيمان، و يتبعه العمل الصالح فالإبعاد من الرحمة في الدنيا تحريمه عليه جزاء لعمله فيرجع إلى طبع القلوب كما قال:( لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ) المائدة: ١٣ و قال:( وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) النساء: ٤٦ و قال:( أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى‏ أَبْصارَهُمْ ) سورة محمّد: ٢٣.

و أمّا اللعن في الآخرة فهو الإبعاد من رحمة القرب فيها و قد قال تعالى:( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: ١٥.

ثمّ أوعدهم بأنّه أعدّ لهم - أي في الآخرة - عذاباً مهيناً و وصف العذاب بالمهين لأنّهم يقصدون باستكبارهم في الدنيا إهانة الله و رسوله فقوبلوا في الآخرة بعذاب يهينهم.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425