الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128788 / تحميل: 6817
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

يده مع يد الذّابح، ويسمّي الله تعالى، ويقول « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ » إلى قوله « وأنا من المسلمين » ثمَّ يقول: « اللهم منك ولك. بسم الله، والله أكبر. اللهمّ تقبّل منّي » ثمَّ يمرّ السّكين. ولا ينخعه حتّى يموت. ومن أخطأ في الذّبيحة، فذكر غير صاحبها، كانت مجزئة عنه بالنّيّة. وينبغي أن يبدأ أيضا بالذّبح قبل الحلق، وفي العقيقة بالحلق قبل الذّبح. فإن قدّم الحلق على الذّبح ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء.

ومن السّنّة أن يأكل الإنسان من هديه لمتعته، ومن الأضحيّة ويطعم القانع والمعترّ: يأكل ثلثه، ويطعم القانع والمعترّ ثلثه، ويهدي لأصدقائه الثّلث الباقي. وقد بيّنّا أنه لا يجوز أن يأكل من الهدي المضمون إلّا إذا كان مضطرّا. فإن أكل منه من غير ضرورة، كان عليه قيمته. ولا بأس بأكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام وادّخارها. ولا يجوز أن يخرج من منى من لحم ما يضحّيه. ولا بأس بإخراج السّنام منه. ولا بأس أيضا بإخراج لحم قد ضحّاه غيره. ويستحبّ أن لا يأخذ شيئا من جلود الهدي والأضاحي، بل يتصدّق بها كلّها. ولا يجوز أيضا أن يعطيها الجزّار. وإذا أراد أن يخرج شيئا منها لحاجته إلى ذلك، تصدّق بثمنه.

ولا يجوز أن يحلق الرّجل رأسه، ولا أن يزور البيت، إلا بعد الذّبح، أو أن يبلغ الهدي محلّه. وهو أن يحصل في رحله

٢٦١

فإذا حصل في رحله بمنى، وأراد أن يحلق، جاز له ذلك. ومتى فعل ذلك ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء. ومن وجبت عليه بدنة في نذر أو كفّارة، ولم يجدها، كان عليه سبع شياه. فإن لم يجد، صام ثمانية عشر يوما إمّا بمكّة أو إذا رجع إلى أهله.

والصّبيّ إذا حجّ به متمتّعا، وجب على وليّه أن يذبح عنه.

ومن لم يتمكّن من شراء هدي، إلّا يبيع بعض ثيابه التي يتجمّل بها، لم يلزمه ذلك، وكان الصوم مجزئا عنه.

ويجزي الهدي عن الأضحيّة. وإن جمع بينهما، كان أفضل. ومن لم يجد الأضحيّة، جاز له أن يتصدّق بثمنها. فإن اختلفت أثمانها، نظر إلى الثّمن الأوّل والثّاني والثّالث، وجمعها ثمَّ يتصدّق بثلثها، وليس عليه شي‌ء.

ومن نذر لله تعالى أن ينحر بدنة، فإن سمّى الموضع الذي ينحرها فيه، وجب عليه الوفاء به، وإن لم يسمّ الموضع، لم يجز له أن ينحرها إلّا بفناء الكعبة. ويكره للإنسان أن يضحّي بكبش قد تولّى تربيته، ويستحبّ أن يكون ذلك ممّا يشتريه.

باب الحلق والتقصير

يستحبّ أن يحلق الإنسان رأسه بعد الذّبح. وإن كان صرورة، لا يجزئه غير الحلق. وإن كان ممّن حجّ حجّة الإسلام، جاز له التّقصير، والحلق أفضل. اللهمّ إلّا أن يكون قد لبّد

٢٦٢

شعره. فإن كان كذلك، لم يجزئه غير الحلق في جميع الأحوال.

ومن ترك الحلق عامدا أو التّقصير إلى أن يزور البيت، كان عليه دم شاة. وإن فعله ناسيا، لم يكن عليه شي‌ء، وكان عليه إعادة الطّواف. ومن رحل من منى قبل الحلق، فليرجع إليها، ولا يحلق رأسه إلّا بها مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من الرّجوع إليها، فليحلق رأسه في مكانه، ويردّ شعره إلى منى، ويدفنه هناك فإن لم يتمكّن من ردّ الشعر، لم يكن عليه شي‌ء.

والمرأة ليس عليها حلق، ويكفيها من التّقصير مقدار أنملة.

وإذا أراد أن يحلق، فليبدأ بناصيته من القرن الأيمن ويحلق إلى العظمين ويقول إذا حلق: « اللهمّ أعطني بكلّ شعرة نورا يوم القيامة ». ومن لم يكن على رأسه شعر، فليمرّ الموسى عليه. وقد أجزأه. وإذا حلق رأسه، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء والطّيب، إن كان متمتّعا. فإن كان حاجّا غير متمتّع، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف الزّيارة، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء. فإذا طاف طواف النّساء، حلّت له أيضا النّساء.

ويستحبّ ألا يلبس الثّياب إلّا بعد الفراغ من طواف الزّيارة، وليس ذلك بمحظور. وكذلك يستحبّ ألّا يمسّ الطّيب إلّا بعد الفراغ من طواف النّساء، وإن لم يكن ذلك محظورا على ما قدّمناه.

٢٦٣

باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار

فإذا فرغ من مناسكه بمنى، فليتوجّه إلى مكّة، وليزر البيت يوم النّحر، ولا يؤخره إلّا لعذر. فإن أخّره لعذر، زار من الغد ولا يؤخر أكثر من ذلك. هذا إذا كان متمتّعا. فإن كان مفردا أو قارنا، جاز له أن يؤخر الى أيّ وقت شاء، غير أنّه لا تحلّ له النّساء. وتعجيل الطّواف للقارن والمفرد أفضل من تأخيره.

ويستحبّ لمن أراد زيارة البيت أن يغتسل قبل دخول المسجد والطّواف بالبيت، ويقلّم أظفاره، ويأخذ من شاربه، ثمَّ ثمَّ يزور. ولا بأس أن يغتسل الإنسان بمنى، ثمَّ يجي‌ء إلى مكّة، فيطوف بذلك الغسل بالبيت. ولا بأس أن يغتسل بالنّهار ويطوف بالليل ما لم ينقض ذلك الغسل بحدث أو نوم. فإن نقضه بحدث أو نوم، فليعد الغسل استحبابا، حتّى يطوف وهو على غسل. ويستحبّ للمرأة أيضا أن تغتسل قبل الطّواف.

وإذا أراد أن يدخل المسجد، فليقف على بابه، ويقول: « اللهمّ أعنّي على نسكك » إلى آخر الدّعاء الذي ذكرناه في الكتاب المقدّم ذكره. ثمَّ يدخل المسجد، ويأتي الحجر الأسود فيستلمه ويقبّله. فإن لم يستطع، استلمه بيده وقبّل يده. فإن لم يتمكّن من ذلك أيضا، استقبله، وكبّر، وقال ما قال حين طاف بالبيت يوم قدم مكّة. ثمَّ يطوف بالبيت أسبوعا كما قدّمنا وصفه

٢٦٤

ويصلّي عند المقام ركعتين. ثمَّ ليرجع الى الحجر الأسود فيقبّله، إن استطاع، ويستقبله ويكبّر. ثمَّ ليخرج إلى الصّفا، فيصنع عنده ما صنع يوم دخل مكّة. ثمَّ يأتي المروة، ويطوف بينهما سبعة أشواط، يبدأ بالصّفا ويختم بالمروة.

فإذا فعل ذلك، فقد حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النّساء. ثمَّ ليرجع الى البيت، فيطوف به طواف النّساء أسبوعا، يصلّي عند المقام ركعتين، وقد حلّ له النّساء.

وأعلم أنّ طواف النّساء فريضة في الحجّ وفي العمرة المبتولة. وليس بواجب في العمرة التي يتمتّع بها الى الحج. فإن مات من وجب عليه طواف النّساء. كان على وليّه القضاء عنه. وإن تركه وهو حيّ، كان عليه قضاؤه. فإن لم يتمكّن من الرّجوع الى مكّة، جاز له أن يأمر من يتوب عنه. فإذا طاف النّائب عنه، حلّت له النّساء. وطواف النّساء فريضة على النّساء والرّجال والشّيوخ والخصيان، لا يجوز لهم تركه على حال.

فإذا فرغ الإنسان من الطّواف فليرجع إلى منى ولا يبيت ليالي التّشريق إلّا بها. فإن بات في غيرها، كان عليه دم شاة. فإن بات بمكّة ليالي التّشريق، ويكون مشتغلا بالطّواف والعبادة، لم يكن عليه شي‌ء. وإن لم يكن مشتغلا بهما، كان عليه ما ذكرناه، وان خرج من منى بعد نصف اللّيل، جاز له أن يبيت بغيرها، غير أنّه لا يدخل مكّة إلّا بعد طلوع الفجر. وإن تمكّن ألّا يخرج

٢٦٥

منها إلّا بعد طلوع الفجر، كان أفضل. ومن بات الثّلاث ليال بغير منى متعمّدا، كان عليه ثلاثة من الغنم. والأفضل أن لا يبرح الإنسان أيّام التّشريق من منى. فإن أراد أن يأتي مكّة للطّواف بالبيت تطوّعا، جاز له ذلك، غير أنّ الأفضل ما قدّمناه.

وإذا رجع الإنسان إلى منى لرمي الجمار، كان عليه أن يرمي ثلاثة أيّام: الثّاني من النّحر والثّالث والرّابع، كلّ يوم بإحدى وعشرين حصاة. ويكون ذلك عند الزّوال، فإنّه الأفضل. فإن رماها ما بين طلوع الشمس الى غروبها، لم يكن به بأس.

فإذا أراد أن يرمي، فليبدأ بالجمرة الأولى، فليرمها عن يسارها من بطن المسيل بسبع حصيات يرميهنّ خذفا. ويكبّر مع كلّ حصاة، ويدعوا بالدّعاء الذي قدّمناه. ثمَّ يقوم عن يسار الطّريق ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويثني عليه، ويصلّي على النّبيّ وآله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمَّ ليتقدم قليلا ويدعوا ويسأله أن يتقبّل منه. ثمَّ يتقدّم أيضا ويرمي الجمرة الثّانية، ويصنع عندها كما صنع عند الأولى، ويقف ويدعوا، ثمَّ يمضي إلى الثّالثة فيرميها كما رمى الأوليين، ولا يقف عندها.

وإذا غابت الشّمس، ولم يكن قد رمى بعد، فلا يجوز له أن يرمي إلّا في الغد. فإذا كان من الغد، رمى ليومه مرّة، ومرّة قضاء لما فاته، ويفصل بينهما بساعة. وينبغي أن يكون الذي يرمي لأمسه بكرة، والذي ليومه عند الزّوال. فإن فاته رمي يومين،

٢٦٦

رماها كلّها يوم النّفر، وليس عليه شي‌ء. وقد بينا أنّه لا يجوز الرّمي باللّيل. وقد رخّص للعليل والخائف والرّعاة والعبيد الرّمي باللّيل. ومن نسي رمي الجمار الى أن أتى مكّة، عاد إلى منى، ورماها، وليس عليه شي‌ء. وحكم المرأة في جميع ما ذكرناه حكم الرّجل سواء.

فإن لم يذكر الى أن يخرج من مكّة، لم يكن عليه شي‌ء. إلّا أنّه إن حجّ في العام المقبل، أعاد ما كان قد فاته من رمي الجمار. وإن لم يحجّ أمر وليّه أن يرمي عنه. فإن لم يكن له وليّ، استعان برجل من المسلمين في قضاء ذلك عنه.

والترتيب واجب في الرّمي. يجب أن يبدأ بالجمرة العظمى ثمَّ الوسطى ثمَّ جمرة العقبة. فمن خالف شيئا منها، أو رماها منكوسة، كان عليه الإعادة. ومن بدأ بجمرة العقبة ثمَّ الوسطى ثمَّ الأولى، أعاد على الوسطى ثمَّ جمرة العقبة وقد أجزأه. فإن نسي فرمى الجمرة الأولى بثلاث حصيات، ورمى الجمرتين الأخريين على التّمام، كان عليه ان يعيد عليها كلّها. وإن كان قد رمى من الجمرة الأولى بأربع حصيات ثمَّ رمى الجمرتين على التّمام، كان عليه أن يعيد على الأولى بثلاث حصيات. وكذلك إن كان قد رمى على الوسطى أقل من أربعة، أعاد عليها وعلى ما بعدها. وإن رماها بأربعة، تمّمها، وليس عليه شي‌ء من الإعادة على الثّالثة. ومن رمى جمرة بست حصيات، وضاعت عنه واحدة،

٢٦٧

أعاد عليها بحصاة، وإن كان من الغد. ولا يجوز له أن يأخذ من حصى الجمار فيرمي بها. ومن علم أنّه قد نقص حصاة واحدة، ولم يعلم من أي الجمار هي، أعاد على كلّ واحدة منها بحصاة. فإن رمى بحصاة، فوقعت في محمله، أعاد مكانها حصاة أخرى. فإن أصابت إنسانا أو دابّة، ثمَّ وقعت على الجمرة، فقد أجزأه.

ولا بأس أن يرمي الإنسان راكبا. وإن رمى ماشيا، كان أفضل ولا بأس أن يرمى عن العليل والمبطون والمغمى عليه والصّبيّ.

وينبغي أن يكبّر الإنسان بمنى عقيب خمس عشرة صلاة. يبدأ بالتّكبير يوم النّحر من بعد الظّهر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّالث من أيّام التّشريق، وفي الأمصار عقيب عشر صلوات، يبدأ عقيب الظّهر من يوم النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّاني من أيّام التّشريق، ويقول في التّكبير: « الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلّا الله، والله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام ».

باب النفر من منى ودخول الكعبة ووداع البيت

لا بأس أن ينفر الإنسان من منى اليوم الثّاني من أيّام التّشريق وهو اليوم الثّالث من يوم النّحر. فإن أقام إلى النّفر الأخير، وهو اليوم الثّالث من أيّام التّشريق والرّابع من يوم النّحر، كان أفضل. فإن كان ممّن أصاب النّساء في إحرامه أو صيدا، لم يجز له أن

٢٦٨

ينفر في النّفر الأوّل. ويجب عليه المقام الى النّفر الأخير. وإذا أراد أن ينفر في النّفر الأوّل، فلا ينفر إلّا بعد الزّوال، إلّا أن تدعوه ضرورة إليه من خوف وغيره، فإنّه لا بأس أن ينفر قبل الزّوال، وله أن ينفر بعد الزّوال ما بينه وبين غروب الشّمس. فإذا غابت الشّمس، لم يجز له النّفر، وليبت بمنى الى الغد. وإذا نفر في النّفر الأخير، جاز له أن ينفر من بعد طلوع الشّمس أيّ وقت شاء. فإن لم ينفر وأراد المقام بمنى، جاز له ذلك، إلّا الإمام خاصّة، فإنّ عليه أن يصلّي الظّهر بمكّة.

ومن نفر من منى، وكان قد قضى مناسكه كلّها، جاز له أن لا يدخل مكّة. وإن كان قد بقي عليه شي‌ء من المناسك، فلا بدّ له من الرّجوع إليها. والأفضل على كلّ حال الرّجوع إليها لتوديع البيت وطواف الوداع.

ويستحبّ أن يصلّي الإنسان بمسجد منى، وهو مسجد الخيف. وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مسجده عند المنارة التي في وسط المسجد، وفوقها إلى القبلة نحوا من ثلاثين ذراعا، وعن يمينها وعن يسارها مثل ذلك. فإن استطعت أن يكون مصلّاك فيه، فافعل. ويستحبّ أن يصلّي الإنسان ستّ ركعات في مسجد منى. فإذا بلغ مسجد الحصباء، وهو مسجد رسول الله،صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليدخله وليسترح فيه قليلا وليستلق على قفاه.

٢٦٩

فإذا جاء إلى مكّة فليدخل الكعبة، إن تمكّن من ذلك سنّة واستحبابا. والصّرورة لا يترك دخولها على حال مع الاختيار. فإن لم يتمكّن من ذلك، لم يكن عليه شي‌ء.

فإذا أراد دخول الكعبة فليغتسل قبل دخولها سنّة مؤكّدة. فإذا دخلها، فلا يمتخط فيها، ولا يبصق. ولا يجوز دخولها بحذاء. ويقول إذا دخلها: « اللهمّ إنّك قلت: ومن دخله كان آمنا، فآمنّى من عذابك عذاب النار ».

ثمَّ يصلّي بين الأسطوانتين على الرّخامة الحمراء ركعتين، يقرأ في الأولى منهما « حم السّجدة » وفي الثّانية عدد آياتها، ثمَّ ليصلّ في زوايا البيت كلّها، ثمَّ يقول: « اللهمّ من تهيّأ وتعبّأ » إلى آخر الدّعاء. فإذا صلّى عند الرّخامة على ما قدّمناه، وفي زوايا البيت، قام فاستقبل الحائط بين الرّكن اليمانيّ والغربيّ، ويرفع يديه، ويلتصق به، ويدعوا. ثمَّ يتحوّل الى الرّكن اليمانيّ، فيفعل به مثل ذلك. ثمَّ يأتي الرّكن الغربيّ، ويفعل به أيضا مثل ذلك، ثمَّ ليخرج. ولا يجوز أن يصلّي الإنسان الفريضة جوف الكعبة مع الاختيار. فإن اضطرّ الى ذلك، لم يكن عليه بأس بالصّلاة فيها. فأمّا النّوافل فالصّلاة فيها مندوب اليه.

فإذا خرج من البيت ونزل عن الدرجة، صلّى عن يمينه ركعتين. فإذا أراد الخروج من مكّة، جاء الى البيت، فطاف به أسبوعا طواف الوداع سنّة مؤكّدة. فإن استطاع أن يستلم الحجر

٢٧٠

والرّكن اليمانيّ في كل شوط، وفعل. وإن لم يتمكّن، افتتح به، وختم به، وقد أجزأه. فإن لم يتمكن من ذلك أيضا، لم يكن عليه شي‌ء. ثمَّ يأتي المستجار، فيصنع عنده كما صنع يوم قدم مكّة. ويتخيّر لنفسه من الدّعاء ما أراد. ثمَّ يستلم الحجر الأسود، ثمَّ يودّع البيت ويقول: « اللهمّ لا تجعله آخر العهد من بيتك » ثمَّ ليأت زمزم فيشرب منه، ثمَّ ليخرج، ويقول: « آئبون تائبون، عابدون، لربّنا حامدون، الى ربّنا راغبون، الى ربّنا راجعون ». فإذا خرج من باب المسجد، فليكن خروجه من باب الحنّاطين. فيخرّ ساجدا، ويقوم مستقبل الكعبة، فيقول: « اللهمّ إني أنقلب على لا إله إلا الله ».

ومن لم يتمكّن من طواف الوداع، أو شغله شاغل عن ذلك حتى خرج، لم يكن عليه شي‌ء. فإذا أراد الخروج من مكّة، فليشتر بدرهم تمرا، وليتصدّق به، ليكون كفّارة لما دخل عليه في الإحرام، إن شاء الله.

باب فرائض الحج

فرائض الحجّ: الإحرام من الميقات، والتّلبيات الأربع، والطّواف بالبيت، إن كان متمتّعا، ثلاثة أطواف: طواف للعمرة، وطواف للزيارة، وطواف للنّساء، وإن كان قارنا أو مفردا، طوافان: طواف للحجّ، وطواف للنّساء، ويلزمه مع

٢٧١

كلّ طواف ركعتان عند المقام، وهما أيضا فرضان، والسّعي بين الصّفا والمروة، والوقوف بالموقفين: عرفات والمشعر الحرام وإن كان متمتّعا، كان الهدي أيضا واجبا عليه أو ما يقوم مقامه.

فمن ترك الإحرام متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا حتّى يجوز الميقات، كان عليه أن يرجع إليه، ويحرم منه، إذا تمكّن منه. فإن لم يتمكّن لضيق الوقت أو الخوف أو ما جرى مجراهما من أسباب الضّرورات، أحرم من موضعه وقد أجزأه. فإن كان قد دخل مكّة، وأمكنه الخروج الى خارج الحرم، فليخرج وليحرم منه. فإن لم يستطع ذلك، أحرم من موضعه.

ومن ترك التّلبية متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركها ناسيا، ثمَّ ذكر، فليجدّد التّلبية، وليس عليه شي‌ء.

ومن ترك طواف الزّيارة متعمّدا، فلا حجّ له. وإن تركه ناسيا، أعاد الطّواف أيّ وقت ذكره.

ومن ترك طواف النّساء متعمّدا، لم يبطل حجّة، إلّا أنّه لا تحلّ له النّساء، حتى يطوف عنه حسب ما قدّمناه. وركعتا الطّواف متى تركهما ناسيا، كان عليه قضاءهما حسب ما قدّمناه.

ومن ترك السّعي متعمّدا، فلا حجّ له. فإن تركه ناسيا،

٢٧٢

عليه قضاؤه حسب ما قدّمناه.

ومن ترك الوقوف بعرفات متعمّدا، أو بالمشعر الحرام، فلا حجّ له. فإن ترك الوقوف بعرفات ناسيا، كان عليه أن يعود، فيقف بها ما بينه وبين طلوع الفجر من يوم النّحر. فإن لم يذكر إلّا بعد طلوع الفجر، وكان قد وقف بالمشعر، فقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

وإذا ورد الحاجّ ليلا، وعلم: أنّه مضى الى عرفات، وقف بها وإن كان قليلا، ثمَّ عاد الى المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، وجب عليه المضيّ إليها والوقوف بها، ثمَّ يجي‌ء إلى المشعر الحرام. فإن غلب على ظنّه أنّه إن مضى الى عرفات، لم يلحق المشعر قبل طلوع الشّمس، اقتصر على الوقوف بالمشعر، وقد تمَّ حجّه، وليس عليه شي‌ء.

ومن أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشّمس، فقد أدرك الحجّ. وإن أدركه بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ.

ومن وقف بعرفات، ثمَّ قصد المشعر، فعاقه في الطّريق عائق، فلم يلحق الى قرب الزّوال، فقد تمَّ حجّه، ويقف قليلا بالمشعر ويمضي إلى منى. ومن لم يكن قد وقف بعرفات، وأدرك المشعر بعد طلوع الشّمس، فقد فاته الحجّ، لأنّه لم يلحق أحد الموقفين في وقته.

ومن فاته الحجّ، فليقم على إحرامه الى انقضاء أيّام

٢٧٣

التّشريق، ثمَّ يجي‌ء، فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصّفا والمروة، ويجعل حجّته عمرة. وإن كان قد ساق معه هديا، فلينحره بمكّة وكان عليه الحجّ من قابل إن كانت حجته حجّة الإسلام. وإن كانت حجّة التّطوّع، كان بالخيار: إن شاء حجّ، وإن شاء لم يحجّ. ومن حضر المناسك كلّها ورتّبها في مواضعها. إلّا أنّه كان سكرانا، فلا حجّ له، وكان عليه الحجّ من قابل.

باب مناسك النساء في الحج والعمرة

قد بيّنّا فيما تقدّم من أن الحجّ واجب على النّساء كوجوبه على الرّجال. فمتى كانت المرأة لها زوج، فلا تخرج إلّا معه. فإن منعها زوجها من الخروج في حجّة الإسلام، جاز لها خلافه. ولتخرج، وتحجّ حجّة الإسلام. وإن أرادت أن تحجّ تطوّعا، فمنعها زوجها، فليس لها مخالفته.

وينبغي أن لا تخرج إلّا مع ذي محرم لها من أب أو أخ أو عمّ أو خال. فإن لم يكن لها أحد ممّن ذكرناه. جاز لها أن تخرج مع من تثق بدينه من المؤمنين.

وإذا كانت المرأة في عدّة الطّلاق، جاز لها أن تخرج في حجّة الإسلام، سواء كان للزّوج عليها رجعة أو لم تكن. وليس لها أن تخرج إذا كانت حجّتها تطوّعا، إلّا أن تكون العدّة

٢٧٤

لزوجها عليها فيها رجعة. فأمّا عدّة المتوفّى عنها زوجها، فلا بأس بها أن تخرج فيها الى الحجّ فرضا كان أو نفلا.

وإذا خرجت المرأة، وبلغت ميقات أهلها، فعليها أن تحرم منه، ولا تؤخره. فإن كانت حائضا، توضّأت وضوء الصّلاة واحتشت واستثفرت وأحرمت، إلّا أنها لا تصلّي ركعتي الإحرام فإن تركت الإحرام ظنّا منها أنّه لا يجوز لها ذلك، وجازت الميقات، كان عليها أن ترجع الى الميقات، فتحرم منه، إذا أمكنها ذلك. فإن لم يمكنها، أحرمت من موضعها. إذا لم تكن قد دخلت مكّة. فإن كانت قد دخلت مكّة، فلتخرج الى خارج الحرم، وتحرم من هناك. فإن لم يمكنها ذلك، أحرمت من موضعها، وليس عليها شي‌ء.

فإذا دخلت المرأة مكّة، وكانت متمتّعة، طافت بالبيت، وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت. وقد أحلّت من كلّ ما أحرمت منه مثل الرّجل سواء.

فإن حاضت قبل الطّواف، انتظرت ما بينها وبين الوقت الذي تخرج الى عرفات. فإن طهرت، طافت وسعت. وإن لم تطهر، فقد مضت متعتها، وتكون حجّة مفردة، تقضي المناسك كلّها ثمَّ تعتمر بعد ذلك عمرة مبتولة. فإن طافت بالبيت ثلاثة أشواط ثمَّ حاضت، كان حكمها حكم من لم يطف. وإذا طافت أربعة أشواط، ثمَّ حاضت، قطعت الطّواف،

٢٧٥

وسعت بين الصّفا والمروة، وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وقد تمّت متعتها.

فإذا فرغت من المناسك، وطهرت تمّمت الطّواف. وإن كانت قد طافت الطّواف كلّه، ولم تكن قد صلّت الرّكعتين عند المقام، فلتخرج من المسجد، ولتسع، وتعمل ما قدّمناه من الإحرام بالحجّ وقضاء المناسك، ثمَّ تقضي الرّكعتين إذا طهرت. وإذا طافت بالبيت بين الصّفا والمروة وقصّرت، ثمَّ أحرمت بالحجّ، وخافت أن يلحقها الحيض فيما بعد، فلا تتمكّن من طواف الزّيارة وطواف النّساء، فجائز لها أن تقدّم الطّوافين معا، والسّعي بين الصّفا والمروة، ثمَّ تخرج فتقضي المناسك كلّها، ثمَّ ترجع الى منزلها.

فإن كانت قد طافت طواف الزّيارة، وبقي عليها طواف النّساء، فلا تخرج من مكّة إلّا بعد أن تقضيه. وإن كانت قد طافت منه أربعة أشواط وأرادت الخروج، جاز لها أن تخرج وإن لم تتمّ الطّواف.

والمستحاضة لا بأس بها أن تطوف بالبيت، وتصلّي عند المقام، وتشهد المناسك كلّها، إذا فعلت ما تفعله المستحاضة. والفرق بينها وبين الحائض، أنّ الحائض لا يحلّ لها دخول المسجد، فلا تتمكّن من الطّواف، ولا يجوز لها أيضا الصّلاة، والطّواف لا بدّ فيه من الصّلاة، وليس هذا حكم المستحاضة.

٢٧٦

وإذا أرادت الحائض وداع البيت، فلا تدخل المسجد، ولتودّع من أدنى باب من أبواب المسجد، وتنصرف، إن شاء الله.

وإذا كانت المرأة عليلة لا تقدر على الطّواف، طيف بها، وتستلم الأركان والحجر. فإن كان عليها زحمة، فتكفيها الإشارة. ولا تزاحم الرّجال. وإن كان بها علّة تمنع من حملها والطّواف بها، طاف عنها وليّها، وليس عليها شي‌ء. وكذلك إذا كانت عليلة لا تعقل عند الإحرام، أحرم عنها وليّها، وجنّبها ما يجتنب المحرم، وقد تمَّ إحرامها. وليس على النّساء حلق ولا دخول البيت. فإن أرادت دخول البيت، فلتدخله إذا لم يكن هناك زحام. ولا يجوز للمستحاضة دخول البيت على حال.

باب من حج عن غيره

من وجب عليه الحجّ، لا يجوز له أن يحجّ عن غيره إلّا بعد أن يقضي حجّته التي وجبت عليه. فإذا قضاها، جاز له بعد ذلك أن يحجّ عن غيره. ومن ليس له مال يجب عليه الحجّ، جاز له أن يحجّ عن غيره. فإن تمكّن بعد ذلك من المال، كان عليه أن يحجّ عن نفسه، وقد أجزأت الحجّة التي حجّها عمّن حجّ عنه.

وينبغي لمن يحجّ عن غيره أن يذكره في المواضع كلّها،

٢٧٧

فيقول عند الإحرام: اللهمّ ما أصابني من تعب أو نصب أو لغوب فأجر فلان بن فلان، وأجرني في نيابتي عنه. وكذلك يذكره عند التّلبية والطّواف والسّعي وعند الموقفين وعند الذّبح وعند قضاء جميع المناسك، فإن لم يذكره في هذه المواضع، وكانت نيته الحجّ عنه، كان جائزا.

ومن أمر غيره أن يحجّ عنه متمتّعا، فليس له أن يحجّ عنه مفردا ولا قارنا. فإن حجّ عنه كذلك، لم يجزئه، وكان عليه الإعادة. وإن أمره أن يحجّ عنه مفردا أو قارنا، جاز له أن يحجّ عنه متمتّعا، لأنه يعدل الى ما هو الأفضل. ومن أمر غيره أن يحجّ عنه على طريق بعينها، جاز له أن يعدل عن ذلك الطّريق الى طريق آخر. وإذا أمره أن يحجّ عنه بنفسه، فليس له أن يأمر غيره بالنّيابة عنه. فإن جعل الأمر في ذلك اليه، جاز له أن يستنيب غيره فيه. وإذا أخذ حجة عن غيره، لا يجوز له أن يأخذ حجة أخرى، حتى يقضي التي أخذها.

وإذا حجّ عن غيره، فصدّ عن بعض الطّريق، كان عليه ممّا أخذه بمقدار ما بقي من الطّريق. اللهم إلّا أن يضمن الحجّ فيما يستأنف، ويتولّاه بنفسه.

فإن مات النّائب في الحجّ، وكان موته بعد الإحرام ودخول الحرم، فقد سقطت عنه عهدة الحجّ، وأجزأ عمّن حجّ عنه وإن مات قبل الإحرام ودخول الحرم، كان على ورثته، إن

٢٧٨

خلّف في أيديهم شيئا، مقدار ما بقي عليه من نفقة الطّريق. وإذا أخذ حجة، فأنفق ما أخذه في الطّريق من غير إسراف، واحتاج الى زيادة، كان على صاحب الحجّة أن يتمّمه استحبابا. فإن فضل من النّفقة شي‌ء، كان له، وليس لصاحب الحجّة الرّجوع عليه بالفضل. ولا يجوز للإنسان أن يطوف عن غيره وهو بمكّة، إلّا أن يكون الذي يطوف عنه مبطونا لا يقدر على الطّواف بنفسه، ولا يمكن حمله والطّواف به. وإن كان غائبا، جاز أن يطوف عنه.

وإذا حجّ الإنسان عن غيره من أخ له أو أب أو ذي قرابة أو مؤمن، فإن ثواب ذلك يصل الى من حجّ عنه من غير أن ينقض من ثوابه شي‌ء. وإذا حجّ الإنسان عمّن يجب عليه الحجّ بعد موته تطوّعا منه بذلك، فإنّه يسقط عن الميّت بذلك فرض الحجّ.

ومن كان عنده وديعة، فمات صاحبها، وله ورثة، ولم يكن قد حجّ حجّة الإسلام، جاز له أن يأخذ منها بقدر ما يحجّ عنه، ويردّ الباقي على ورثته، إذا غلب على ظنّه أنّ ورثته لا يقضون عنه حجّة الإسلام. فإن غلب على ظنّه أنّهم يتولّون القضاء عنه، فلا يجوز له أن يأخذ منها شيئا إلّا بأمرهم.

ولا بأس أن تحجّ المرأة عن الرّجل إذا كانت قد حجّت

٢٧٩

حجّة الإسلام، وكانت عارفة. وإذا لم تكن حجّت حجّة الإسلام، وكانت صرورة، لم يجز لها أن تحجّ عن غيرها على حال.

ولا يجوز لأحد أن يحجّ عن غيره إذا كان مخالفا له في الاعتقاد، اللهمّ إلّا أن يكون أباه، فإنّه يجوز له أن يحجّ عنه.

باب العمرة المفردة

العمرة فريضة مثل الحجّ، لا يجوز تركها. ومن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، سقط عنه فرضها. وإن لم يتمتّع، كان عليه أن يعتمر بعد انقضاء الحجّ، إن أراد، بعد انقضاء أيّام التّشريق، وإن شاء أخّرها إلى استقبال المحرّم. ومن دخل مكّة بالعمرة المفردة في غير أشهر الحجّ، لم يجز له أن يتمتّع بها الى الحجّ. فإن أراد التّمتّع كان عليه تجديد عمرة في أشهر الحجّ. وإن دخل مكّة بالعمرة المفردة في أشهر الحجّ، جاز له أن يقضيها، ويخرج الى بلده أو أيّ موضع شاء. والأفضل له أن يقيم حتى يحجّ، ويجعلها متعة. وإذا دخلها بنيّة التّمتّع، لم يجز له أن يجعلها مفردة، وأن يخرج من مكّة، لأنّه صار مرتبطا بالحجّ. وأفضل العمرة ما كانت في رجب، وهي تلي الحجّ في الفضل.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

و التمزيق التقطيع و التفريق، و كونهم في خلق جديد استقرارهم فيه أي تجديد خلقتهم بإحيائهم بعد موتهم و وجودهم ثانياً بعد عدمهم، و قوله:( إِذا مُزِّقْتُمْ ) ظرف لقوله:( إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .

و المعنى: و قال الّذين كفروا بعضهم لبعض على طريق الاستهزاء بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإنذاره إيّاهم بالبعث و الجزاء: هل ندلّكم على رجل و المراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينبّئكم و يخبركم أنّكم ستستقرّون في خلق جديد و يتجدّد لكم الوجود إذا فرّقت أبدانكم كلّ التفريق و قطّعت بحيث لا يتميّز شي‏ء منها من شي‏ء.

قوله تعالى: ( أَفْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) إلخ، الاستفهام للتعجيب فإنّ القول ببعث الأجساد بعد فنائها عجيب عندهم لا يقول به عاقل إلّا لتلبيس الأمر على الناس و إضلالهم لينال بعض ما عندهم و إلّا فكيف يلتبس فيه الأمر على عاقل، و لهذا ردّدوا الأمر بين الافتراء و الجنّة في الاستفهام و المعنى: أ هو عاقل يكذب على الله افتراء عليه بالقول بالبعث أم به نوع جنون يتفوّه بما بدا له من غير فكر مستقيم.

و قوله:( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ ) ردّ لقولهم و إضراب عن الترديد الّذي أتوا به مستفهمين، و محصّله أنّ ذلك ليس افتراء على الله و لا جنون فيه بل هؤلاء الكفّار مستقرّون في عذاب سيظهر لهم و قد أبعدهم ذلك عن الحقّ فكانوا في ضلال بعيد لا يسعهم مع ذلك أن يعقلوا الحقّ و يذعنوا به.

و وضع الموصول موضع الضمير في قوله:( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ) للدلالة على أنّ علّة وقوعهم فيما وقعوا فيه من العذاب و الضلال عدم إيمانهم بالآخرة.

قوله تعالى: ( أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ) إلخ، وعظ و إنذار لهم باستعظام ما اجترؤا عليه من تكذيب آيات الله و الاستهزاء برسوله فالمراد بقوله:( ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) إحاطة السماء و الأرض بهم من بين أيديهم و من خلفهم فأينما نظروا وجدوا سماء تظلّهم و أرضاً تقلّهم لا مفرّ لهم منهما.

و قوله:( إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ) أي إذ

٣٨١

أحاط بهم الأرض و السماء و هما مدبّرتان بتدبيرنا منقادتان مسخّرتان لنا أن نشأ نخسف بهم الأرض فنهلكهم أو نسقط عليهم قطعة من السماء فنهلكهم فما لهم لا ينتهون عن هذه الأقاويل؟.

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) ، أي فيما ذكر من إحاطة السماء و الأرض و كونهما مدبّرتين لله سبحانه أن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم كسفا من السماء لآية لكلّ عبد منيب، راجع إلى ربّه بالطاعة، فهؤلاء لا يستهينون بهذه الاُمور و لا يجترؤن على تكذيب هذه الآيات إلّا لكونهم مستكبرين عاتين لا يريدون إنابة إلى ربّهم و رجوعاً إلى طاعته.

٣٨٢

( سورة سبإ الآيات ١٠ - ٢١)

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا  يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ  وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ( ١٠ ) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ  وَاعْمَلُوا صَالِحًا  إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ١١ ) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ  وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ  وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ  وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ( ١٢ ) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ  اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا  وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ( ١٣ ) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ  فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ( ١٤ ) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ  جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ  كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ  بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( ١٥ ) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ( ١٦ ) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا  وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ( ١٧ ) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ  سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا

٣٨٣

آمِنِينَ ( ١٨ ) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( ١٩ ) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢٠ ) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ  وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ( ٢١ )

( بيان)

تشير الآيات إلى نبذة من قصص داود و سليمان إذ آتاهما الله من فضله إذ أنعم على داود بتسخير الجبال و الطير معه و تليين الحديد له، و سخّر لسليمان الريح غدوّها شهر و رواحها شهر و سخّر الجنّ يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و غيرها و أمرهما بالعمل الصالح شكراً و كانا عبدين شكورين.

ثمّ إلى قصّة سبإ حيث أنعم عليهم بجنّتين عن اليمين و الشمال ليعيشوا فيها عيشاً رغداً فكفروا بالنعمة و أعرضوا عن الشكر فأرسل عليهم سيل العرم و بدّل جنّتيهم جنّتين دون ذلك و قد كان عمّر بلادهم فكفروا فجعلهم أحاديث و مزّقهم كلّ ممزّق، كلّ ذلك لكفرهم النعمة و إعراضهم عن الشكر و لا يجازى إلّا الكفور.

وجه اتّصال القصص على ما تقدّم من حديث البعث أنّ الله هو المدبّر لاُمور عباده و هم مغمورون في أنواع نعمه و للمنعم على المنعم عليه الشكر على نعمته و عليه أن يميّز بين الشاكرين لنعمته و الكافر بها و إذ لا ميز في هذه النشأة فهناك نشأة اُخرى يتميّز فيها الفريقان فالبعث لا مفرّ عنه.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) الفضل العطيّة و التأويب الترجيع من الأوب بمعنى الرجوع و المراد به ترجيع

٣٨٤

الصوت بالتسبيح بدليل قوله فيه في موضع آخر:( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) ص: ١٩ و الطير معطوف على محلّ الجبال و منه يظهر فساد قول بعضهم: أنّ الأوب بمعنى السير و أنّ الجبال كانت تسير معه حيثما سار.

و قوله:( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ ) بيان للفضل الّذي اُوتي داود و قد وضع فيه الخطاب الّذي خوطبت به الجبال و الطير فسخّرتا به موضع نفس التسخير الّذي هو العطيّة و هو من قبيل وضع السبب موضع المسبّب و المعنى: سخّرنا الجبال له تؤوّب معه و الطير، و هذا هو المتحصّل من تسخير الجبال و الطير له كما يشير إليه قوله:( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) ص: ١٩.

و قوله:( وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) أي و جعلناه ليّنا له على ما به من الصلابة.

قوله تعالى: ( أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) إلخ، السابغات جمع سابغة و هي الدرع الواسعة، و السرد نسج الدرع، و تقديره الاقتصاد فيه بحيث تتناسب حلقه أي اعمل دروعا واسعة و أجعلها متناسبة الحلق، و جملة( أَنِ اعْمَلْ ) إلخ، نوع تفسير لا لأنة الحديد له.

و قوله:( وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) معنى الجملة في نفسها ظاهر و هي لوقوعها في سياق بيان إيتاء الفضل و عدّ النعم تفيد معنى الأمر بالشكر كأنّه قيل: و قلنا اشكر النعم أنت و قومك بالعمل الصالح.

قوله تعالى: ( وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ ) إلخ، أي و سخّرنا لسليمان الريح مسير غدوّ تلك الريح - و هو أوّل النهار إلى الظهر - مسير شهر و رواح تلك الريح - و هو من الظهر إلى آخر النهار - مسير شهر أي إنّها تسير في يوم مسير شهرين.

و قوله:( وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ) الإسالة إفعال من السيلان بمعنى الجريان

٣٨٥

و القطر النحاس أي و أذبنا له القطر فسالت كالعين الجارية.

قوله:( وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) ، أي و جمع من الجنّ - بدليل قوله بعد:( يَعْمَلُونَ لَهُ ) - يعمل بين يديه بإذن ربّه مسخّرين له( وَ مَنْ يَزِغْ ) أي ينحرف( عَنْ أَمْرِنا ) و لم يطع سليمان( نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ ) ظاهر السياق أنّ المراد به عذاب النار في الدنيا دون الآخرة، و في لفظ الآية دلالة على أنّ المسخّر له كان بعض الجنّ لا جميعهم.

قوله تعالى: ( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ ) إلخ، المحاريب جمع محراب و هو مكان إقامة الصلاة و العبادة، و التماثيل جمع تمثال و هي الصورة المجسّمة من الشي‏ء و الجفان جمع جفنة و هي صحفة الطعام، و الجوابي جمع جابية الحوض الّذي يجبى أي يجمع فيه الماء، و القدور جمع قدر و هو ما يطبخ فيه الطعام، و الراسيات الثابتات و المراد بكون القدور راسيات كونها ثابتات في أمكنتها لا يزلن عنها لعظمها.

و قوله:( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ) خطاب لسليمان و سائر من معه من آل داود أن يعملوا و يعبدوا الله شكراً له، و قوله:( وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) أي الشاكر لله شكراً بعد شكر و الجملة إمّا في مقام ترفيع مقام أهل الشكر بأنّ المتمكّنين في هذا المقام قليلون و هم الأوحديّون من الناس، و إمّا في مقام التعليل كأنّه قيل: إنّهم قليل فكثّروا عدّتهم.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى‏ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ) المراد بدابّة الأرض الأرضة على ما وردت به الروايات و المنسأة العصا و قوله:( فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ ) الخرور السقوط على الأرض.

و يستفاد من السياق أنّهعليه‌السلام لمّا قبض كان متكّئا على عصاه فبقي على تلك الحال قائماً متّكئا على عصاه زماناً لا يعلم بموته إنس و لا جنّ فبعث الله عزّوجلّ أرضة فأخذت

٣٨٦

في أكل منسأته حتّى إذا أكلت انكسرت العصا و سقط سليمان على الأرض فعلموا عند ذلك بموته و تبيّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان المستور عنهم و ما لبثوا هذا المقدار من الزمان - و هو من حين قبضه إلى خروره - في العذاب المهين المذلّ لهم.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ ) إلخ، سبأ العرب العاربة باليمن سمّوا - كما قيل - باسم أبيهم سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و قوله:( عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ ) أي عن يمين مسكنهم و شماله.

و قوله:( كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ ) أمر بالأكل من جنّتين و هو كناية عن رزقهم منهما، ثمّ بالشكر له على نعمته و رزقه، و قوله:( بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ ) أي بلدة ملائمة صالحة للمقام و ربّ كثير الغفران لا يؤاخذكم بسيّئاتكم.

قوله تعالى: ( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ‏ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ) العرم المسنّاة الّتي تحبس الماء، و قيل: المطر الشديد و قيل غير ذلك، و الاُكل بضمّتين كلّ ثمرة مأكولة، و الخمط - على ما قيل - كلّ نبت أخذ طعماً من المرارة، و الأثل الطرفاء و قيل: شجر يشبهها أعظم منها لا ثمرة له، و السدر معروف، و الأثل و شي‏ء معطوفان على( أُكُلٍ ) لا على خمط.

و المعنى: فأعرضوا أي قوم سبإ عن الشكر الّذي اُمروا به فجازيناهم و أرسلنا عليهم سيل العرم فأغرق بلادهم و ذهب بجنّتيهم و بدّلناهم بجنّتيهم جنّتين ذواتي ثمرة مرّة و ذواتي طرفاء و شي‏ء قليل من السدر.

قوله تعالى: ( ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) ( ذلِكَ ) إشارة إلى ما ذكر من إرسال السيل و تبديل الجنّتين و محلّه النصب مفعولاً ثانياً لجزيناهم و الفرق بين الجزاء و المجازاة - كما قيل - أنّ المجازاة لا تستعمل إلّا في الشرّ و الجزاء أعمّ.

و المعنى: جزينا سبأ ذلك الجزاء بسبب كفرهم و إعراضهم عن الشكر - أو في مقابلة

٣٨٧

ذلك - و لا نجازي بالسوء إلّا من كان كثير الكفران لأنعم الله.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً ) إلخ، ضمير( بَيْنَهُمْ ) لسبإ و الكلام مسوق لبيان تتمّة قصّتهم المطلوب ذكرها و هو عطف على قوله:( كانَ لِسَبَإٍ ) و المراد بالقرى الّتي باركنا فيها القرى الشاميّة، و المراد بكون القرى ظاهرة كونها متقاربة يرى بعضها من بعض.

و قوله:( وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ ) أي جعلنا السير فيها على نسبة مقدّرة متناسبة غير مختلفة فالنسبة بين واحدة منها و ما يليها كالنسبة بين ما يليها و ما يليه، و قوله:( سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ ) على تقدير القول أي و قلنا: سيروا في هذه القرى على أمن إن شئتم ليالي و إن شئتم أيّاماً، و المراد قرّرنا فيها الأمن يسيرون فيها متى ما شاؤا من غير خوف و قلق.

قوله تعالى: ( فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) إلخ، أي أنعمنا عليهم ما أنعمنا من وفور الفواكه و قرب المنازل و أمن الطرق و سهولة السير و رغد العيش فملّوا ذلك و سئموه و قالوا:( رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) أي اجعل أسفارنا ذوات مسافات بعيدة نركب فيها الرواحل و نقطع المفاوز و البوادي و هذا بغي منهم و كفران كما طلبت بنوإسرائيل الثوم و البصل مكان المنّ و السلوى.

و بالجملة أتمّ الله نعمه عليهم في السفر بقرب المنازل و أمن الطرق و وفور النعمة كما أتمّ نعمه عليهم في الحضر و أراد منهم الشكر على ذلك فكفروا بنعمه في السفر كما كفروا بها في الحضر، فأسرع الله في إسعاف ما اقترحوه فخرّب بلادهم و فرّق جمعهم و شتّت شملهم.

فقوله:( فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) اقتراح ضمنيّ لتخريب بلادهم، و قوله:( وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) أي بالمعاصي.

و قوله:( فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) أي أزلنا أعيانهم و آثارهم فلم يبق منهم إلّا أحاديث يحدّث بها فيما يحدّث فعادوا أسماء لا مسمّى لهم إلّا في وهم المتوهّم و خيال المتخيّل و فرّقناهم كلّ تفرّق فلم يبق من أجزاء وجودهم جزءان

٣٨٨

مجتمعان إلّا فرّقنا بينهما فصاروا كسدى لا شبح له بعد ما كانوا مجتمعاً ذا قوّة و شوكة حتّى ضرب بهم المثل( تفرّقوا أيادي سبإ) .

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) أي في هذا الّذي ذكر من قصّتهم لآيات لكلّ من كثر صبره في جنب الله و كثر شكره لنعمه الّتي لا تحصى يستدلّ بتلك الآيات على أنّ على الإنسان أن يعبد ربّه شكراً لنعمه و أنّ وراءه يوماً يبعث فيه و يجزى بعمله.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي حقّق إبليس عليهم ظنّه أو وجد ظنّه صادقاً عليهم إذ قال لربّه:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ و لَأُضِلَّنَّهُمْ ) ( وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) ، و قوله:( فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) بيان لتصديقه ظنّه.

و منه يظهر أنّ ضمير الجمع في( عَلَيْهِمْ ) ههنا و كذا في الآية التالية لعامّة الناس لا لسبإ خاصّة و إن كانت الآية منطبقة عليهم.

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ ) ظاهر السياق أنّ المراد أنّهم لم يتّبعوه عن سلطان له عليهم يضطرّهم إلى اتّباعه حتّى يكونوا معذورين بل إنّما اتّبعوه عن سوء اختيارهم فهم يختارون اتّباعه فيتسلّط عليهم لا أنّه يتسلّط فيتّبعونه، قال تعالى:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: ٤٢ و قال حاكياً عن إبليس يوم القيامة:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) إبراهيم: ٢٢.

و منشأ اتّباعهم له ريب و شكّ في قلوبهم من الآخرة يظهر منهم بظهور أثره الّذي هو الاتّباع لإبليس، فإذنه سبحانه لإبليس أن يتسلّط عليهم من طريق اختيارهم هذا المقدار من التسلّط ليمتاز به أهل الشكّ في الآخرة من أهل الإيمان به و لا يرفع ذلك مسئوليّتهم في اتّباعه لكونه عن اختيار منهم.

٣٨٩

فقوله:( وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ ) نفي لكلّ سلطان، و قوله:( إِلَّا لِنَعْلَمَ ) أي لنميّز( مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ ) استثناء لسلطانه عليهم من طريق اتّباعهم له عن اختيار منهم، و قد وضع فيه الغاية موضع ذي الغاية أي التمييز المذكور موضع التسلّط من طريق الاتّباع الاختياريّ.

و تقييد الإيمان و الشكّ بالآخرة في الآية لمكان أنّ الرادع الوحيد عن المعصية و الداعي إلى الطاعة هو الإيمان بالآخرة دون الإيمان بالله و رسوله لو لا الآخرة كما قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) ص: ٢٦.

و قوله:( وَ رَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ ) أي عالم علماً لا يفوته المعلوم بنسيان أو سهو أو غير ذلك و فيه تحذير عن الكفران و المعصية و إنذار لأهل الكفر و المعصية.

( بحث روائي)

في كمال الدين، بإسناده إلى هشام بن سالم عن الصادقعليه‌السلام : في حديث يذكر فيه قصّة داودعليه‌السلام قال: إنّه خرج يقرأ الزبور و كان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر إلّا أجابه.

و في تفسير القمّيّ، قوله عزّوجلّ:( أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ ) قال: الدروع( وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) قال: المسامير الّتي في الحلقة، و قوله عزّوجلّ:( وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ ) قال: كانت الريح تحمل كرسيّ سليمان فتسير به في الغداة مسيرة شهر و بالعشيّ مسيرة شهر.

و في الكافي، بإسناده عن داود بن الحصين و عن أبان بن عثمان عن الفضل أبي العبّاس قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام :( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ ) قال: ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها تماثيل الشجر و شبهه.

و فيه، عن بعض أصحابنا مرفوعاً عن هشام بن الحكم قال: قال أبوالحسن

٣٩٠

موسى بن جعفرعليه‌السلام : يا هشام ثمّ مدح الله القلّة فقال:( وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) .

أقول: و قد وقع هذا المعنى في عدّة روايات و هو ينطبق على أحد المعنيين المتقدّمين في ذيل الآية.

و في العلل، بإسناده عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: أمر سليمان بن داود الجنّ فصنعوا له قبّة من قوارير فبينا هو متكّئ على عصاه في القبّة ينظر إلى الجنّ كيف ينظرون إليه إذ حانت منه التفاتة فإذا رجل معه في القبّة قال له: من أنت؟ قال: أنا الّذي لا أقبل الرشا و لا أهاب الملوك أنا ملك الموت. فقبضه و هو قائم متكّئ على عصاه في القبّة و الجنّ ينظرون إليه.

قال: فمكثوا سنة يدأبون له حتّى بعث الله عزّوجلّ الأرضة فأكلت منسأته و هي العصا، فلمّا خرّ تبيّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‏ الحديث.

أقول: و بقاؤهعليه‌السلام على حال القيام متكّئا على عصاه سنة وارد في عدّة من روايات الشيعة و أهل السنّة.

و في المجمع، في الحديث عن فروة بن مُسيك قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سبإ أ رجل هو أم امرأة؟ فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستّة و تشاءم أربعة فأمّا الّذين تيامنوا فالأزد و كندة و مذحج و الأشعرون و أنمار و حمير فقال رجل من القوم: ما أنمار؟ قال: الّذين منهم خثعم و بجيلة. و أمّا الّذين تشاءموا فعاملة و جذام و لخم و غسّان.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من أرباب الجوامع و السنن عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ‏ و المراد بالتيامن و التشاؤم السكونة باليمن و الشام.

و في الكافي، بإسناده عن سدير قال: سأل رجل أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) الآية فقال: هؤلاء قوم كانت لهم قرى متّصلة ينظر بعضهم إلى بعض و أنهار جارية و أموال ظاهرة فكفروا نعم الله عزّوجلّ

٣٩١

و غيّروا ما بأنفسهم من عافية الله فغيّر الله ما بهم من نعمة و الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم فأرسل الله عليهم سيل العرم ففرّق قراهم و خرّب ديارهم و ذهب بأموالهم و أبدلهم مكان جنانهم جنّتين ذواتي اُكل خمط و أثل و شي‏ء من سدر قليل ثمّ قال:( ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) .

أقول: و ورد في عدّة من الروايات أنّ القرى الّتي بارك الله فيها هم أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و القرى الظاهرة هم الوسائط بينهم و بين الناس من حملة أحاديثهم و غيرهم، و هو من بطن القرآن و ليس من التفسير في شي‏ء.

٣٩٢

( سورة سبإ الآيات ٢٢ - ٣٠)

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ  لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ( ٢٢ ) وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ  حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ  قَالُوا الْحَقَّ  وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( ٢٣ ) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  قُلِ اللهُ  وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ٢٤ ) قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ٢٥ ) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ( ٢٦ ) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاءَ  كَلَّا  بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٢٧ ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( ٢٨ ) وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٢٩ ) قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ( ٣٠ )

( بيان)

آيات مقرّرة للتوحيد و احتجاجات حوله.

قوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) إلى آخر الآية، أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحتجّ على إبطال اُلوهيّة آلهتهم بعدم قدرتهم على استجابة الدعاء، فقوله:( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي ادعوا الّذين زعمتموهم آلهة من دون الله - فمفعولاً( زَعَمْتُمْ ) محذوفان لدلالة السياق عليهما - و دعاؤهم هو

٣٩٣

مسألتهم شيئاً من الحوائج.

و قوله:( لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ ) واقع موقع الجواب كأنّه قيل: فما ذا يكون إذا دعوهم؟ فقيل: لا يستجيبون لهم بشي‏ء لأنّهم( لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ ) و لو ملكوا لاستجابوا، و لا تتمّ الربوبيّة و الاُلوهيّة إلّا بأن يملك الربّ و الإله شيئاً ممّا يحتاج إليه الإنسان فيملّكه له و ينعم عليه به فيستحقّ بإزائه العبادة شكراً له فيعبد، أمّا إذا لم يملك شيئاً فلا يكون ربّاً و لا إلهاً.

و قوله:( وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ ) كان الملك المنفيّ في الجملة السابقة( لا يَمْلِكُونَ ) إلخ، الملك المطلق المنبسط على الجميع و المنفيّ في هذه الجملة الملك المحدود المتبعّض الّذي ينبسط على البعض دون الكلّ إمّا مشاعاً أو مفروزاً، لكنّ المشركين ما كانوا يقولون بالملك المشترك بينهم و بين الله سبحانه مشاعاً بل كانوا يقولون بملك كلّ من آلهتهم لنوع من الخلقة أو بعض منها، و أمّا الله سبحانه فهو ربّ الأرباب و إله الآلهة.

و على هذا كان من الواجب أن يستجيب آلهتهم إذا دعوا فيما يملكونه من الخلقة و عدم استجابتهم كاشف عن عدم ربوبيّتهم و اُلوهيّتهم.

و قوله:( وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ) أي ليس لله سبحانه منهم كلّا أو بعضاً من معين يعينه فيما يفرض فيه عجزه عن القيام بأمر تدبيره إذ لو كان له منهم ظهير يظهره على التدبير كان مالكاً فيستجيب إذا دعي فيما هو ظهير بالنسبة إليه و إذ ليس فليس.

فتبيّن ممّا تقدّم أنّ احتجاج الآية على نفي الملك بانتفاء استجابتهم دعاء الداعي يجري في جميع الصور الثلاث و هي ملكهم لما في السماوات و ما في الأرض مطلقاً و ملكهم على وجه الشركة مع الله سبحانه و كونهم أو بعضهم ظهيراً لله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) المشركون كانوا يقولون بشفاعة آلهتهم كما حكاه الله سبحانه عنهم بقوله:( هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ) يونس: ١٨ و ليس مرادهم بالشفاعة شفاعة يوم القيامة الّتي يثبتها القرآن الكريم فإنّهم ما كانوا يقولون بالمعاد بل الشفاعة في الدنيا لعبّادهم عندالله سبحانه ليسعدهم بقضاء حوائجهم

٣٩٤

و إصلاح شؤونهم بتوسّط آلهتهم.

و إذ كانت الآلهة مخلوقين لله مملوكين له من كلّ وجه فلا يملكون الشفاعة من عند أنفسهم مستقلّين بها إلّا أن يملّكهم الله سبحانه ذلك و هو الإذن لهم في أن يشفعوا فأصل شفاعتهم لو شفعوا بإذن الله سبحانه.

و قوله:( إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) يحتمل أن يكون اللام في( لِمَنْ ) لام الملك و المراد بمن أذن له الشافع من الملائكة، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلّا أن يملكه الشافع بالإذن من الله و أن يكون لام التعليل و المراد بمن أذن له المشفوع له، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلّا لأجل من أذن له من المشفوع لهم، قال في الكشاف: و هذا يعني الوجه الثاني وجه لطيف و هو الوجه. انتهى.

و هو الوجه فإنّ الملائكة على ما يستفاد من كلامه تعالى وسائط لإنفاذ الأمر الإلهيّ و إجرائه، قال تعالى:( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧ و قال:( جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ ) فاطر: ١ و الوساطة المذكورة من الشفاعة كما تقدّم في مباحث الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

فالملائكة جميعاً شفعاء لكن لا في كلّ أمر و لكلّ أحد بل في أمر أذن الله فيه و لمن أذن له فنفي شفاعتهم إلّا مع الإذن يناسب المشفوع لهم دون الشفعاء، فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ ) الأنبياء: ٢٨ لا في معنى قوله:( ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس: ٣.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) التفزيع إزالة الفزع و كشفه و ضمائر الجمع - على ما يعطيه السياق - للشفعاء و هم الملائكة.

و لازم قوله:( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) - و هو غاية - أن يكون هناك أمر مغيّى بها و هو كون قلوبهم في فزع ممتدّ في انتظار أمر الله سبحانه حتّى يرتفع بصدور الأمر منه، فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ - إلى أن قال -وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) النحل: ٥٠ فالفزع هو

٣٩٥

التأثّر و الانقباض من الخوف و هو المراد بسجدتهم تذلّلاً من خوف ربّهم من فوقهم.

و بذلك يظهر أنّ المراد بفزعهم حتّى يفزّع عنهم أنّ التذلّل غشي قلوبهم و هو تذلّلهم من حيث أنّهم أسباب و شفعاء في نفوذ الأوامر الإلهيّة و وقوعه على ما صدر و كما اُريد، و كشف هذا التذلّل هو تلقيهم الأمر الإلهيّ و اشتغالهم بالعمل كأنّهم بحيث لا يظهر من وجودهم إلّا فعلهم و طاعتهم لله فيما أمرهم به و أنّه لا واسطة بين الله سبحانه و بين الفعل إلّا أمره فافهم ذلك.

و إنّما نسب الفزع و التفزيع إلى قلوبهم للدلالة على أنّهم ذاهلون منصرفون عن أنفسهم و عن كلّ شي‏ء إلّا ربّهم و هم على هذه الحالة لا يشعرون بشي‏ء غيره حتّى إذا كشف الفزع عن قلوبهم عند صدور الأمر الإلهيّ بلا مهل و لا تخلّف فليس الأمر بحيث يعطّل أو يتأخّر عن الوقوع، قال تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: ٨٢ فالمستفاد من الآية نظراً إلى هذا المعنى أنّهم في فزع حتّى إذا اُزيل فزعهم بصدور الأمر الإلهيّ.

و قوله:( قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ ) يدلّ على أنّهم طوائف كثيرون يسأل بعضهم بعضاً عن الأمر الإلهيّ بعد صدوره و انكشاف الفزع عن قلوب السائلين.

و يتبيّن منه أنّ كشف الفزع و نزول الأمر إلى بعضهم أسبق منه إلى بعض آخر فإنّ لازم السؤال أن يكون المسؤل عالماً بما سئل عنه قبل السائل.

فلهم مراتب مختلفة و مقامات متفاوتة بعضها فوق بعض تتلقّى الدانية منها الأمر الإلهيّ من العالية من غير تخلّف و لا مهلة و هو طاعة الداني منهم للعالي، كما يستفاد ذلك أيضاً بالتدبّر في قوله تعالى:( وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ) الصافّات: ١٦٤ و قوله في وصف الروح الأمين:( ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) التكوير: ٢١.

فبينهم مطاع و مطيع و لا طاعة مع ذلك إلّا لله سبحانه لأنّ المطاع منهم لا شأن له إلّا إيصال ما وصل إليه من الأمر الإلهيّ إلى مطيعه الّذي دونه، و يمكن أن يستفاد ذلك من توصيف القول بالحقّ في قوله:( قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ ) أي قال القول الثابت الّذي لا سبيل للبطلان و التبدّل إليه.

٣٩٦

و ما ألطف ختم الآية بقوله تعالى:( وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) أي هو العليّ الّذي دونه كلّ شي‏ء و الكبير الّذي يصغر عنده كلّ شي‏ء فليس للملائكة المكرمين إلّا تلقّي قوله الحقّ و امتثاله و طاعته كما يريد.

فقد تحصّل من الآية الكريمة أنّ الملائكة فزعون في أنفسهم متذلّلون في ذواتهم ذاهلون عن كلّ شي‏ء إلّا عن ربّهم محدقون إلى ساحة العظمة و الكبرياء في انتظار صدور الأمر حتّى يكشف عن قلوبهم الفزع، بصدور الأمر و نزوله و هم مع ذلك طوائف مختلفة ذووا مقامات متفاوتة علوّاً و دنوّاً يتوسّط كلّ عال في إيصال الأمر النازل إلى من هو دونه.

فهم مع كونهم شفعاء و أسباباً متوسّطة لا يشفعون و لا يتوسّطون في حدوث حادث من حوادث الخلق و التدبير إلّا بإذن خاصّ من ربّهم في حدوثه فيتحمّلون الأمر النازل إليهم حتّى يحقّقوه في الكون من غير أن يستقلّوا من أنفسهم في شي‏ء أو يستبدّوا برأي، و من كان هذا شأنه لا يشعر بشي‏ء إلّا طاعة ربّه فيما يأمره به كيف يكون ربّاً مستقلّاً في أمره مفوّضاً إليه التدبير يعطي ما يشاء و يمنع ما يشاء؟

و في الآية أقوال مختلفة اُخر:

منها: أنّ ضمير( قُلُوبِهِمْ ) و( قالُوا ) الثاني للمشركين دون الملائكة و ضمير( قالُوا ) الأوّل للملائكة و المعنى: حتّى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين وقت الفزع قالت الملائكة لهم: ما ذا قال ربّكم؟ قالت المشركون لهم: الحقّ فيعترفون بما أنكروه في الدنيا.

و منها: أنّ ضمير( قُلُوبِهِمْ ) للملائكة و المراد أنّ الملائكة الموكّلين بالأعمال إذا صعدوا بأعمال العباد إلى السماء و لهم زجل و صوت عظيم خشيت الملائكة أنّها الساعة فيفزعون و يخرّون سجّداً لله سبحانه حتّى إذا كشف عن قلوبهم الفزع و علموا أنّه ليس الأمر كذلك فسألوا ما ذا قال ربّكم؟ قالوا: الحقّ.

و منها: أنّ الله لمّا بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد فترة بينه و بين عيسىعليهما‌السلام لم ينزل فيها شي‏ء من الوحي أنزل الله سبحانه جبريل بالوحي فلمّا نزل ظنّت الملائكة أنّه نزل

٣٩٧

بشي‏ء من أمر الساعة فصعقوا لذلك فجعل جبريل يمرّ بكلّ سماء و يكشف الفزع عن الملائكة الساكنين فيها فرفعوا رؤسهم و قال بعضهم لبعض: ما ذا قال ربّكم؟ قالوا: الحقّ أي الوحي.

و منها: أنّ الضمير للملائكة و المراد أنّ الله سبحانه إذا أوحى إلى بعض الملائكة غشي على الملائكة عند سماع الوحي و يصعقون و يخرّون سجّداً للآية العظيمة فإذا فزّع عن قلوبهم سألت الملائكة ذلك الملك الّذي اُوحي إليه ما ذا قال ربّك؟ أو سأل بعضهم بعضاً ما ذا قال ربّكم؟ فيعلمون أنّ الأمر في غيرهم.

و أنت بعد التدبّر في الآية الكريمة و التأمّل فيما قدّمناه تعلم وجه الضعف في هذه الأقوال و أنّ شيئاً منها على تقدير صحّته في نفسه لا يصلح تفسيراً لها.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللهُ ) إلخ، احتجاج آخر على المشركين من جهة الرزق الّذي هو الملاك العمدة في اتّخاذهم الآلهة فإنّهم يتعلّلون في عبادتهم الآلهة بأنّها ترضيهم فيوسّعون لهم في رزقهم فيسعدون بذلك.

فأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم من يرزقهم من السماوات و الأرض؟ و الجواب عنه أنّه الله سبحانه لأنّ الرزق خلق في نفسه و لا خالق - حتّى عند المشركين - إلّا الله عزّ اسمه لكنّهم يستنكفون عن الاعتراف به بألسنتهم و إن أذعنت به قلوبهم و لذلك أمر أن ينوبهم في الجواب فقال:( قُلِ اللهُ ) .

و قوله:( وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى‏ هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ، تتمّة قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هذا القول بعد إلقاء الحجّة القاطعة و وضوح الحقّ في مسألة الاُلوهيّة مبنيّ على سلوك طريق الإنصاف، و مفاده أنّ كلّ قول إمّا هدى أو ضلال لا ثالث لهما نفياً و إثباتاً و نحن و أنتم على قولين مختلفين لا يجتمعان فإمّا أن نكون نحن على هدى و أنتم في ضلال و إمّا أن تكونوا أنتم على هدى و نحن في ضلال فانظروا بعين الإنصاف إلى ما اُلقي إليكم من الحجّة و ميّزوا المهديّ من الضالّ و المحقّ من المبطل.

و اختلاف التعبير في قوليه:( لَعَلى‏ هُدىً ) و( فِي ضَلالٍ ) بلفظة على و في - كما قيل - للإشارة إلى أنّ المهتدي كأنّه مستعل على منار يتطلّع على السبيل و غايتها

٣٩٨

الّتي فيها سعادته، و الضالّ منغمر في ظلمة لا يدري أين يضع قدمه و إلى أين يسير و ما ذا يراد به؟.

قوله تعالى: ( قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) أي إنّ العمل و خاصّة عمل الشرّ لا يتعدّى عن عامله و لا يلحق وباله إلّا به فلا يسأل عنه غيره فلا تسألون عمّا أجرمنا بل نحن المسؤلون عنه و لا نسأل عمّا تعملون بل أنتم المسؤلون.

و هذا تمهيد لما في الآية التالية من حديث الجمع و الفتح فإنّ الطائفتين إذا اختلفا في الأعمال خيراً و شرّاً كان من الواجب أن يفتح بينهما و يتميّز كلّ من الاُخرى حتّى يلحق به جزاء عمله من خير أو شرّ أو سعادة أو شقاء و الّذي يفتح و يميّز هو الربّ تعالى.

و في التعبير عن عمل أنفسهم بالإجرام و في ناحية المشركين بقوله:( تَعْمَلُونَ ) و لم يقل تجرمون أخذ بحسن الأدب في المناظرة.

قوله تعالى: ( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ) لمّا كان من الواجب أن يلحق بكلّ من المحسن و المسي‏ء جزاء عمله و كان لازمه التميّز بينهما بالجمع ثمّ الفرق كان ذلك شأن مدبّر الأمر و هو الربّ أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكّرهم أنّ الّذي يجمع بين الجميع ثمّ يفتح بينهم بالحقّ هو الله، فهو ربّ هؤلاء و اُولئك فإنّه هو الفتّاح العليم يفتح بين كلّ شيئين بالخلق و التدبير فيتميّز بذلك الشي‏ء من الشي‏ء كما قال:( أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) الأنبياء: ٣٠ و هو العليم بكلّ شي‏ء.

فالآية تثبت البعث لتمييز المحسن من المسي‏ء أوّلاً ثمّ انحصار التمييز و الجزاء في جانبه تعالى بانحصار الربوبيّة فيه و يبطل بذلك ربوبيّة من اتّخذوه من الأرباب.

و الفتّاح من أسماء الله الحسنى و الفتح إيجاد الفصل بين شيئين لفائدة تترتّب عليه كفتح الباب للدخول بإيجاد الفصل بين مصراعيه و الفتح بين الشيئين ليتميّز كلّ منهما عن الآخر بذاته و صفاته و أفعاله.

قوله تعالى: ( قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )

٣٩٩

أمر آخر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم أن يروه آلهتهم حتّى يختبر هل فيهم الصفات الضروريّة للإله المستحقّ للعبادة من الاستقلال بالحياة و العلم و القدرة و السمع و البصر؟ و هذا معنى قوله:( أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ ) أي ألحقتموهم به شركاء له.

ثمّ ردع بنفسه و قال: كلّا لا يكونون شركاء له لأنّهم إمّا أن يُروه الأصنام بما أنّها معبودة لهم معدودة آلهتهم و هي أجسام ميتة خالية عن الحياة و العلم و القدرة و إمّا أن يُروه أرباب هذه الأصنام و هم الملائكة و غيرهم بجعل الأصنام تماثيل مشيرة إليهم و هم و إن لم يخلوا عن حياة و علم و قدرة إلّا أنّ ما لهم من صفات الكمال مفاضة عليهم من الله سبحانه لا استقلال لهم في شي‏ء من هذه الصفات و لا في الأفعال المتفرّعة عليها فأين الاستقلال في التدبير الّذي يدّعون أنّه مفوّض إليهم فالوجود الواجبي بكماله اللّامتناهي يمنع أن يكون في خلقه من يشاركه في شي‏ء من كماله.

اللّهمّ إلّا أن يدعوا أنّه شاركهم في بعض ما له من الشؤون لتدبير خلقه من غير صلاحية لهم ذاتيّة و هذا ينافي حكمته تعالى.

و قد اُشير إلى هذه الحجّة بقوله:( بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فإنّ عزّته تعالى - و هو منع جانبه أن يعدو إلى حريم كماله عاد لكونه لا يحدّ بحدّ - تمنع أن يشاركه في شي‏ء من صفات كماله كالربوبيّة و الاُلوهيّة المنتهيتين إلى الذات أحد غيره هذا لو كانت الشركة عن صلاحية ذاتيّة من الشريك و لو كانت عن إرادة جزافيّة منه من غير صلاحية حقيقة من الشريك فالحكمة الإلهيّة تمنع ذلك.

و قد تبيّن بذلك أنّ الآية متضمّنة لحجّة قاطعة برهانيّة فأحسن التدبّر فيها.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) قال الراغب في المفردات: الكفّ كفّ الإنسان و هي ما بها يقبض و يبسط و كففته أصبت كفّه، و كففته أصبته بالكفّ و دفعته بها و تعورف الكفّ بالدفع على أيّ وجه كان بالكفّ كان أو غيرها حتّى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره، و قوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) أي كافّاً لهم عن المعاصي و الهاء فيه للمبالغة كقولهم: راوية و علّامة و نسّابة. انتهى.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425