الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128781 / تحميل: 6817
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

والمستفاد من خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار عند ما قصد زيارة الحسين (عليه السّلام) قادماً من الكوفة لأواخر عهد الدولة الاُمويّة ذكر باب الحائر وكرّر لفظه، بينما ابن اُخته الحسين اقتصر على ذكر القبر دون إيراد لفظ الباب(1) .

ومن الممكن إن لم يكن يقصد بالباب حدود حومة الحائر وجود بناء على سبيل الإجمال على التربة الطاهرة، وكلاهما يصرّخان إنّهما كانا على خوف ووجل من القتل، وصرح ابن الثمالي بوجود المسلحة المطوّقة للحفرة الطاهرة من الجند الاُموي للحيلولة دون مَنْ يؤم قصده.

كان لحركة الشيعة في استعراضهم لجند الشام بعين الوردة بزعامة سليمان بن صرد الخزاعي واستماتتهم بطلب ثأر الحسين (عليه السّلام)، وإعادتهم الكرّة تحت لواء إبراهيم الأشتر، واستقصائهم للجندي الاُموي مع زعيمهم ابن زياد، مستهونين غير محتفين بكلّ ما سامهم معاوية من خطوب وخسف، وما أذاقهم من مرّ العذاب وصنوف التنكيل بغارات بسر بن أرطأة، وصلب وقتل وسمل في ولاية زياد بن أبيه وسمرة بن جندب وابن زياد، ممّا خلف أثراً عميقاً سيئاً في نفوس آل مروان ودويّاً هائلاً.

فبعد أن تسنّى لعبد الملك بن مروان وصل حلقات فترة الحكم الذي دهم دور حكم آل أمية بموت يزيد بإقصائه آل الزبير عن منصّة الحكم والإمرة، أراد أن يستأصل الثورة من جذورها؛ لذلك اتّبع سياسة القسوة والشدّة تجاه أهل العراق، وضغط ما لا مزيد عليه لمستزيد، خصوصاً في ولاية الحجاج بن يوسف.

ونهج خلفاؤه عين خططه دون أيّ شذوذ مع تصلّب بالغ؛ كابن هبيرة،

____________________

(1) يقول في خبر طويل بعد أن نزل الغاضرية وقد أدركه الليل، وهدأت العيون ونامت، أقبل بعد أن اغتسل يريد القبر الشريف يقول: حتّى إذا كنت على باب الحير... وساق في خبره وقد كرّر لفظ الباب حيث يقول بعد ذلك: فلمّا انتهيت إلى باب الحائر... (إقبال الأعمال - لابن طاووس / 28)، ومجلد المزار من بحار الأنوار 22 / 120.

٦١

وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف بن عمر.

فترى ممّا تقدّم أنّ من المستحيل إفساحهم المجال بأن يُشيّد بناء على قبر الحسين (عليه السّلام)، ويكون موضعاً للتعظيم والتقدير؛ ممّا يتنافى وسياستهم المبنية على الكراهية لآل البيت (عليهم السّلام) والتنكيل بشيعتهم.

وإن سلّمنا بتحقق خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي على سبيل استدراك الورود لفظ الباب، من الممكن أن نقول: أي وجود بناء في الفترة بين سنة أربع وستين لإحدى وسبعين، ونلتزم بتغاضي المروانيين من التعرّض لهم، وبقائه ليوم ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي لزيارة الضريح الأقدس.

وورد خبر لا يوثق به ولا يعوّل عليه من أنّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي بنى على القبر الشريف وأقام حوله قرية(2) .

وقيل: إنّ سكينة بنت الحسين (عليه السّلام) أقامت بناء على الرمس الأقدس أمد اقترانها بمصعب في ولايته للكوفة، ففي أمد الفترة لسنة ست وستين عندما أمَّ التوّابون (عند مسيرهم للتلاقي مع جند عين الوردة) التربة الزاكية، وازدحموا على القبر

____________________

(1) جاء في مزار بحار الأنوار - للمولى محمّد باقر المجلسي / 120 ما نصه: (عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي قال: خرجت في آخر زمان بني مروان إلى قبر الحسين (عليه السّلام) مستخفياً من أهل الشام حتّى انتهيت إلى كربلاء، فاختفيت في ناحية القرية، حتّى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحو القبر، فلمّا دنوت منه... حتّى كاد يطلع الفجر أقبلت... فقلت له عافاك الله، وأنا أخاف أن أصبح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني ها هنا... وصلّيت الصبح وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام.

(2) ذكر هذا القبر صاحب كنز المصائب دون إسناد، وفضلاً عن ذلك فإنّ هذا الكتاب لا يُعتمد عليه كثيراً؛ لِما حُشي متنه من الأخبار الغير واردة.

وقد ذكر هذا الخبر عند سرده لما دار بين المختار ومصعب بن الزبير، وعدد المواقع التي دارت بينهم والتي انتصر في جميعها المختار، =

٦٢

كازدحام الناس على الحجر الأسود(1) .

لم يكن حينذاك ما يظلل قبره الشريف أيّ ساتر، واستقصوا أمد البقية من الفترة، المختار بن أبي عبيدة الثقفي، ومصعب، وابن أخيه حمزة؛ فالأخبار الواردة في زيارة الحسين (عليه السّلام) عن السجّاد علي، والباقر(2) محمّد بن علي (عليه السّلام) (لكونهما قضيا حياتهما في الدولة المروانية) يشفان عن خوف ووجل.

وممّا يؤيد وجود بناء بسيط (بل له بعض الشأن) على القبر الشريف في زمن ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة للزيارة، ما جاء من الألفاظ في الزيارات الواردة عن الصادق (سلام الله عليه) لجدّه الحسين (عليه السّلام)(3) ، حيث يقول في خبر: «... بعد الغسل بحيال قبره الشريف في الفرات، فتتوجه إلى القبر حتّى تدخل الحير من جانبه الشرقي، وتقول:...، ثمّ إذا استقبلت القبر...، ثمّ اجلس عند رأسه الشريف...، ثمّ تحوّل عند رجليه...، ثمّ تحوّل عند رأس علي بن الحسين...، ثمّ تأتي قبور الشهداء»(4) .

وفي خبر المفضل بن عمر عن الصادق (سلام الله عليه): «إذا أتيت باب الحير

____________________

= وهزيمة مصعب، إلى أن تمكّن مصعب من المختار آخر الأمر.

وإذ لم ترد مثل هذه الأخبار في الكتب التأريخية - والمعروف بل المحقّق أنّه لم يكن بين المختار ومصعب من مواقف سوى ما كان بالمذار، ثمّ تحصّن المختار بقصر إمارة الكوفة إلى أن قُتل -؛ لذا قلّ الاعتماد على ما ورد في هذا الكتاب من قيام المختار بتشييد قبر الحسين (عليه السّلام)، وإن كان المحلّ مناسب لإعطاء مثل هذه النسبة له.

كيف لا وقد قام المختار بأخذ ثأر الحسين (عليه السّلام)، وقتل قاتليه وصلبهم، وأحرق بعضهم بالنار؟ فلا يبعد من أن يقوم بتشييد قبره الشريف، إلاّ أنّنا نحكم بوقوع مثل هذا الأمر وجداناً لا استناداً على ما ورد في هذا الكتاب؛ للأسباب السالفة.

(1) تاريخ الطبري 7 / 70، وكان ذلك سنة 65 هـ.

(2) مجلد المزار 22 / 110.

(3) فقد توفي الصادق (عليه السّلام) سنة 148، والثمالي توفي في زمن المنصور.

(4) مجلد المزار / 145.

٦٣

فكبر الله أربعاً، وقل:...»(1) .

وفي خبر ابن مروان عن الثمالي عند آخر فصول الزيارة يقول: ثمّ تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومئ إليهم، وتقول:...(2) .

وفي خبر صفوان الجمّال عن الصادق (عليه السّلام) يقول: «فإذا أتيت باب الحائر فقف... وقل:... ثمّ تأتي باب القبة وقف من حيث يلي الرأس، وقل:...، ثمّ اخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين (عليه السّلام) وقل:...، ثمّ توجه إلى الشهداء وقل:...»(3) .

وفي خبر آخر عن صفوان يقول: «فإذا أتيت الباب فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر وقل:...، ثمّ ادخل رجلك اليمنى القبر وأخّر اليسرى، ثم ادخل الحائر وقم بحذائه وقل:...»(4) . وهذا ما يدلّك على أنّ له باباً شرقيّاً وغربيّاً.

فخلاصة القول: إنّ المستفاد من هذه الزيارات هو وجود بناء ذو شأن على قبره في عصر الصادق (سلام الله عليه).

ومع هذا فقد كان الاُمويّون يقيمون على قبره المسالح لمنع الوافدين إليه من زيارته، ولم يزل القبر بعد سقوط بني اُميّة وهو بعيد عن كلّ انتهاك؛ وذلك لانشغال الخلفاء العباسيِّين بإدارة شؤون الملك، ولظهورهم بادئ الأمر مظهر القائم بإرجاع سلطة الهاشميِّين، وهو غير خفي أنّ القائمين بالدعوة كانوا من أهل خراسان، وأكثر هؤلاء إن لم نقل كلّهم كانوا من أنصار آل البيت (عليهم السّلام).

ولمّا رسخت قدم العباسيِّين في البلاد، وقمعوا الثورات جاهروا بمعاداة شيعة علي (عليه السّلام)، ولكنّها كانت خفيفة الوطأة أيام السفّاح، فتوارد الزائرون

____________________

(1) المصدر نفسه / 148.

(2) المصدر نفسه / 105.

(3) المصدر نفسه / 159.

(4) المصدر نفسه / 179.

٦٤

لقبر الحسين (عليه السّلام) من شيعته عند سنوح هذه الفرصة جهاراً، واشتدّت الوطأة أيام المنصور بوقيعته بوجوه آل الحسن(1) ، وخفّت ثانية في أيام المهدي والهادي.

فلمّا كانت أيام الرشيد(2) ، وكانت قد استقرّت الأوضاع، وثبتت دعائم الحكم، وقضت على ثورات العلويِّين بما دبّرته من طرق الغدر والخيانة، فأرغمت أنوفهم الحمية، وأخمدت نفوسهم الطاهرة، فأرادت القضاء عليهم في محو قبور أسلافهم، فسلكوا سلوك بني اُميّة؛ إذ أمر الرشيد بهدم قبره الشريف ومحو أثره، فأخذت الشيعة الوسائط بالاهتداء إلى تعيين موضع القبر، وتعيين محلّ الحفرة منها السدرة، فبلغ الرشيد ذلك فأمر بقطعها(3) ، ثمّ وضع المسالح على حدوده إلى أن انتقل إلى طوس ومات فيها.

فلم يتتبع الأمين ذلك لِما كان منشغلاً باللهو والطرب وصنوف المجون والبذل، فاغتنموا الحال وبادروا إلى تشييد قبره الشريف، وقد اتخذوا عليه بناءً عالياً.

ولمّا جاء دور المأمون وتمكّن من سرير الخلافة تنفس الشيعة الصعداء، واستنشقوا ريح الحرية، ولم يتعرّض لذلك، وكان المأمون يتظاهر بحبّه لآل البيت (عليهم السّلام) حبّاً جمّاً حتّى إنّه استعاض بلبس السواد - وهو شعار العباسيِّين - بلبس الخضرة - وهو شعار العلويِّين -، وأوصى بالخلافة من بعده لعلي الرضا

____________________

(1) مروج الذهب - للمسعودي 2 / 171.

(2) الظاهر إنّ الرشيد لم يتعرّض لقبر الحسين (عليه السّلام) إلاّ في اُخريات أيامه، ولعل سبب ذلك غضبه ممّا كان يشاهد من إقبال الناس لزيارة الحسين (عليه السّلام) وتعظيمه والسكنى بجواره، وكان قبل ذلك يجري ما أجرته أمّ موسى من الأموال على الذين يخدمون قبر الحسين في الحير. انظر الطبري 10 / 118. (عادل)

(3) روى ذلك محمّد بن الحسن الطوسي في أماليه / 206 طبع إيران، بسنده إلى جرير بن عبد الحميد، وذكر أنّه عندما سمع جرير بالخبر رفع يديه قائلاً: الله أكبر! جاءنا فيه حديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «لعن الله قاطع السدرة» ثلاثاً. فلم نقف على معناه حتّى الآن.

٦٥

ابن موسى الكاظم (عليه السّلام)، ولعل ذلك كيد منه، وكان هذا الوقوع بعد قتل أخيه الأمين، واسترضاء لمناصريه الخراسانيين.

وقد زعم البعض أنّه هو الذي شيّد قبره الشريف، وبنى عليه لهذه الفترة(1) ، وفي ورود أبي السرايا بن السري بن المنصور إلى قبر الحسين (عليه السّلام) أيام المأمون عام تسعة وتسعين بعد المئة حين قام ببيعة محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل طباطبا بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن السبط، دليل على تشييد قبر الحسين(2) بعد مضي الرشيد إلى طوس.

وبقي الحال على هذا المنوال والشيعة في حالة حسنة حتّى قام حول قبره الشريف سوقاً، واتخذت دوراً حوله، وأخذ الشيعة بالتوافد إلى قبره للسكنى بجواره، إلى أن كان من المغنّية الشهيرة التي قصدت من سامراء في شعبان زيارة قبره الشريف، وكانت تبعث بجواريها إلى المتوكّل قبل أن يلي الخلافة يغنين له إذا شرب، وقد بعث إليها بعد استخلافه فأخبر بغيبتها، فأسرعت بالرجوع عندما أبلغها الخبر بطلب المتوكّل لها، فبعثت إليه بجارية وكان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟

قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها.

فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟

قالت: إلى قبر الحسين (عليه السّلام).

فاستطير غضباً(3) ، وفيه من بغض آل أبي طالب ما هو غني عن البيان، فبعث بالديزج بعد أن استصفى أملاك المغنّية - وكان الديزج يهودياً قد أسلم - إلى قبر الحسين (عليه السّلام)، وأمره بحرث قبره الشريف ومحوه، وهدم كلّ ما حوله من الدور والأسواق، فمضى لذلك وعمل بما أمر به، وقد حرث نحو مئتي جريب من جهات القبر، فلمّا بلغ الحفرة لم يتقدّم

____________________

(1) نزهة الحرمين - للعلاّمة السيد حسن الصدر (مخطوط) نقلاً عن تسلية المجالس.

(2) انظر مقاتل الطالبيِّين - لأبي الفرج الإصبهاني / 341 ط النجف.

(3) المصدر نفسه / 386.

٦٦

إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه، وأجرى الماء عليه(1) ، فحار الماء عند حدود قبره الشريف(2) ، ثمّ وكّل به المسالح بين كلّ مسلحتين ميل، ولا يزوره أحد إلاّ وأخذوه ووجهوا به إلى المتوكّل(3) ، فحصل للشيعة من ذلك كرب عظيم لِما طرأ على قبره من الجور، ولم يعهد مثله إلى هذا الحد.

فضاق بمحمد بن الحسين الأشناني بعد طول عهده بالزيارة، فوطّن نفسه على المخاطر، وساعده رجل من العطّارين، فخرجا يمكثان النهار ويسيران الليل حتّى بلغا الغاضرية، وخرجا منها نصف الليل، فسارا بين مسلحتين وقد ناموا حتّى دنا من القبر الشريف، فخفى عليهما موضعه، فجعلا يتحرّيان موضع القبر حتّى أتياه وقد قُلع الصندوق الذي كان عليه واُحرق، وفي الموضع اللبن قد خُسف وصار الخندق، فزاراه وانكبّا عليه، وقد شمّا من القبر رائحة ما شمّا مثلها قطّ من الطيب.

فقال الأشناني للعطّار: أي رائحة هذه؟

فقال: والله ما شممت مثلها بشيء من العطر.

فودّعاه وجعلا حوله علامات في عدّة مواضع، وبعد قتل المتوكّل حضر مع بعض الطالبيِّين والشيعة فأخرجوا العلامات وأعادوا القبر إلى ما كان عليه أوّلاً.

وقد نالت الشيعة شيء من الحرية على عهد المنتصر، وكان هذا محبّاً لآل البيت (عليهم السّلام)، مقرّباً لهم، رافعاً مكانتهم، معظّماً قدرهم، ومن حسناته إليهم أنّه شيّد قبر الحسين (عليه السّلام)، ووضع ميلاً عالياً يرشد الناس إليه(4) ، وذلك في عام السابع والأربعين بعد المئتين.

ولم يُهدم بناء المنتصر ظلماً؛ لعدم تعرّض أخلافه له؛ لِما ظهر من الوهن في دولتهم، وانحلال أمرهم، وتسلّط الأتراك عليهم، وانشغالهم بأنفسهم.

وفي خلافة المسترشد ضاقت الأرض على رحبها على الشيعة؛ وذلك عندما أمر بأخذ جميع ما اجتمع من هدايا

____________________

(1) المصدر نفسه / 386.

(2) المصدر نفسه / 386.

(3) المصدر نفسه / 387.

(4) فرحة الغري - لعبد الكريم بن طاووس.

٦٧

الملوك والأمراء والوزراء والأشراف من وجوه الشيعة من الأموال والمجوهرات في خزانة الروضة المطهّرة، وأنفقه على العسكر، واعتذر بأنّ القبر لا يحتاج إلى الخزانة(1) ، إلاّ أنّه لم يتعرّض للبناء ولم يمسّه؛ لقصور يده، وضعف شأنه لا لشيء آخر.

وكان البناء الذي شيّد في عهد المنتصر قد سقط في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ومئتين(2) ، فقام إلى تجديده محمّد بن زيد القائم بطبرستان في خلافة المعتضد بالله العباسي(3) لسنة ثلاث وثمانين ومئتين(4) ، وقد أخذ حال القبر الشريف منذ تشييد المنتصر إيّاه بالعروج إلى مدارج العمران يوماً بعد يوم حيث أمن الناس من إتيانه واتخاذ الدور عند رمسه.

وقد زار القبر عضد الدولة بن بويه سنة (370 هـ) بعد أن بالغ في تشييد الأبنية حول الضريح وزخرفتها(5) ، وكان آل بويه يناصرون الشيعة.

وقد استحفل التشيّع على عهدهم حتّى إنّ معزّ الدولة أمر سنة 352 بإقامة المآتم في عاشوراء، وكان ذلك أوّل مأتم أُقيم في بغداد.

____________________

(1) المناقب - لابن شهر آشوب، وكان ذلك سنة 511 هـ.

(2) فرحة الغري / 61.

(3) جاء في بحر الأنساب (العائد لخزانة المرحوم الشيخ عبد الحسين شيخ العراقيين الطهراني) عند ذكره لنسب المعتضد بالله العباسي بقوله: وأمر بعمارة مشهد الغري بالكوفة ومشهد كربلاء، وافتقد الخزائن بدار الخلافة، فأخرج منها ما وجده من نهب الواثق من مال مشهد الحسين بن علي (عليه السّلام) وأعاده إليه.

(4) فرحة الغري، وكان محمّد بن زيد هذا دائم التصدّق على العلويِّين في المشاهد؛ فقد بعث في خلافة المعتضد بالله اثنين وثلاثين ألف دينار لمحمد بن ورد ليفرّقها على العلويِّين. (انظر الكامل 6 / 80، والطبري 12 / 346).

(5) تسلية المجالس - لمحمد المجدي (بالفارسية)، طبع حجر.

٦٨

(وعندما عفا عضد الدولة عن عمران بن شاهين البطائحي بنى الرواق المشهور برواق عمران بن شاهين في المشهدين الشريفين الغروي والحائري (على مشرفهما السّلام»(1) .

وفي سنة سبع وأربعمئة هجـ احترق الحرم الشريف إثر اندلاع حريق عظيم كان سببه إشعال شمعتين كبيرتين سقطتا في الليل على التأزير واحترق، وتعدّت النار بعد الحرق القبة إلى الأروقة(2) ، فكان البناء على القبر الشريف بعد وقوع هذا الحريق ما وصفه الطنجي في رحلته، إلاّ أنّي لم أقف على خبر مَنْ شيّد هذا البناء، وفي أيّ تاريخ كان ذلك(3) ، ولعله كان قد تبقى شيء من البناء الذي

____________________

(1) فرحة الغري / 67.

(2) الكامل - لابن الأثير 9 / 110 ط ليدن، و7 / 295 من ط القاهرة، والمنتظم - لابن الجوزي 7 / 283، البداية - لابن كثير 12 / 4، والنجوم الزاهرة - لابن تغري بردى 4 / 241.

(3) ذكر كلّ من العلاّمة السيد حسن الصدر الكاظمي في نزهة الحرمين / 35، والعلامة السيد محسن الأمين العاملي في أعيان الشيعة 4 / 302، ومن أخذ عنهما، أنّ أبا محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان وزير سلطان الدولة البويهي هو الذي جدّد بناء الحائر بعد وقوع هذا الحريق، لكن المصادر التي عوّلوا عليها لم تنسب إلى ابن سهلان هذا سوى بناء سور الحائر وليس تجديد بنائه، كما في المنتظم 7 / 283، والبداية والنهاية 12 / 16، ومجالس المؤمنين / 211، والنجوم الزاهرة 4 / 259.

هذا فضلاً عن أنّ ابن سهلان بدأ ببناء سور الحائر في سنة 400 هـ، أيّ قبل وقوع الحريق بسبعة أعوام، وهي نفس السنة التي أمر ببناء سور على مشهد أمير المؤمنين(عليه السّلام). (الكامل 7 / 249. ط القاهرة).

فقد ورد في المنتظم 7 / 246: وفي جمادى الأولى (سنة 400 هجـ) بدأ ببناء السور على المشهد بالحائر، وكان أبو محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان قد زار هذا المشهد، وأحبّ أن يؤثر فيه مؤثراً، ثمّ ما نذر لأجله أن يعمل عليه سوراً حصيناً مانعاً؛ لكثرة مَنْ يطرق الموضع من العرب، وشرع في قضاء هذا النذر، ففعل وعمل السور، وأحكم وعرض، ونصبت عليه أبواب وثيقة وبعضها حديد، وتمّم وفرغ منه، وتحسّن المشهد به، وحسن الأثر فيه. (عادل).

٦٩

شيّده عضد الدولة، إلى أن شيّد عليه البناء الموجود اليوم على القبر الشريف، أو إنّه قد جدّده بعد الحريق أخلاف عضد الدولة؛ إذ كانت دولتهم قائمة عند وقوع الحريق.

هذا وكان إكمال بناء الحرم في سنة سبع وستين وسبعمئة، وقد أمر بتشييده السلطان أويس الإيلكاني، وأتمّه وأكمله ولده السلطان حسين(1) .

____________________

(1) زينة المجالس - لمحمد المجدي (مخطوط) باللغة الفارسية / 84، والمجدي من معاصري الشيخ البهائي، وقد صنّف كتابه هذا سنة 1004 هجـ، فقد جاء فيه: إلى أن أمر السلطان أويس الإيلكاني، وابنه السلطان حسين ببناء عمارة عالية.

وللسيد المؤلّف (عبد الحسين) ملاحظة مهمة في هذا الخصوص، خطر لي أن أثبتها هنا، يقول: ذكر سماحة السيد محسن الأمين العاملي في المجلد 3 / 593، من أعيان الشيعة، قال فضيلته عن آخر كتاب الأماقي في شرح الإيلاقي لعبد الرحمن العتايقي الحلّي المجاور بالنجف الأشرف، في نسخته المخطوطة في خزانة العلوية الذي تمّت كتابته في محرّم سنة 755 هجـ، قال: (في هذه السنة احترقت الحضرة الغروية (صلوات الله على مشرّفها)، وعادت العمارة وأحسن منها في سنة 760 سبعمئة وستون). انتهى.

أقول: هذا الحريق هو الذي ذكره ابن مهنا الداودي في العمدة / 5، ولكنّه لم يذكر اسم المجدّد للبناء الذي شيّد على الروضة المطهّرة الحيدرية، حيث المدّة تقارب زمن البناء الذي قام به السلطان أويس، وولده السلطان حسين الإيلكانية في سنة (767) على قبر الحسين (سلام الله عليه) الموجود اليوم على الروضة الطاهرة.

من المقتضي أن يكون السلطان حسين الإيلكاني هو منفرداً أقام البناء على الروضة الطاهرة الحيدرية، وبالخاصة لموقع قبورهم التي ظهرت في سنة الخامس عشر بعد الثلاثمئة والألف هـ وسط الصحن الشريف ما يلي باب الطوسي، أحد أبواب الصحن الشريف، في القسم الشمالي من الروضة الزاكية؛ إذ ظهر سرب فيه ثلاثة قبور على أحدهم في القاشاني مرقوم (توفي الشاهزاده الأعظم معزّ الدين عبد الواسع في 15 جمادى الأوّل سنة 790)، وعلى لوح القبر الثاني (هذا ضريح الطفل الصغير سلالة السلاطين الشاهزادة ابن الشيخ أويس (طاب ثراه). توفي يوم الأربعاء حادي عشر محرّم الحرام سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة).

وعلى لوح القبر الثالث (هذا قبر الشاهزادة سلطان بايزيد (طاب ثراه). توفي في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة هلالية)، وعلى قبر آخر (هذا قبر المرحومة السعيدة بايندة السلطان).

وقد ابتدأ حكم الأسرة الإيلكانية الجلائرية في بغداد وآذربايجان بعد موت أبي سعيد بن أولجياتو محمّد خدابنده بقليل بالشيخ حسن الكبير، تقريباً بين سنة تسع وثلاثين وسبعمئة، أو سنة الأربعون، وكانت وفاته سنة 757 هـ، ثمّ تلاه في الحكم ولده السلطان أويس سنة 757 هـ، وتوفي سنة 776 هـ، ثمّ تلاه ولده السلطان حسين من سنة 776 هـ، إلى أن توفي في سنة 784 هـ، ثمّ تلا السلطان حسين أخوه السلطان أحمد الجلائري ابن أويس، إلى أن قُتل في تبريز بين سنة ثلاث عشرة وثمانمئة وأربع عشرة، وبه تقريباً انتهت أيامهم.

٧٠

وكان تاريخ هذا البناء موجوداً فوق المحراب الذي موضعه اليوم الرخام المنعوت بنخل مريم(1) فيما يلي الرأس الشريف، وقد شاهد ذلك التأريخ بنفسه محمّد بن سليمان بن زوير السليماني، وذكره في كتابه المسمّى بـ (الكشكول).

وقد كان إنزال هذا التاريخ سنة السادس عشر بعد المئتين والألف (1216)، ومن موضعه، عند عمل المرايا والتزيينات للحرم الشريف بأمر محمّد علي خان القواينلو كما تشير إلى ذلك الكتابة

____________________

(1) جاء في كتاب (دلائل الدين) تأليف عبد الله ابن الحاج هادي ما ترجمته: روى عن السجّاد (عليه السّلام): أنّ الله تعالى ذكر في القرآن أنّ السيدة مريم (عليها السّلام) عندما أرادت أن تلد ابنها المسيح ابتعدت عن قومها، وذهبت إلى كربلاء - بصورة معجزة - بجنب نهر الفرات، وقد ولد المسيح قرب مكان ضريح الحسين (عليه السّلام)، وفي نفس الليلة عادت السيدة مريم إلى دمشق.

ومصداق هذا الخبر ما ورد عن الباقر (عليه السّلام) - على ما أتذكر - أنّ صخرة على مقربة من قبر الحسين نُصبت في الحائط قد أجمع ساكنوا هذا المقام على أنّ الرأس الشريف قد حزّ على هذه الصخرة، ويقولون أنّ المسيح قد ولد على نفس تلك الصخرة أيضاً.

٧١

الموجودة في أعلى الباب الثالث من أبواب الحرّم المقابل للشبكة المباركة: (واقفه محمّد علي خان القواينلو سنة 1216) هـ.

وكذلك هذا التأريخ موجود بعينه في الكُتيبة القرآنية داخل القبّة على الضريح المقدّس، وفي سنة 920 هـ أهدى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقاً(1) إلى القبر الشريف،

____________________

(1) عندما دخل الشاه إسماعيل الصفوي الأوّل - مؤسس الدولة الصفوية في إيران والذي يرتقي نسبه إلى الإمام السابع موسى بن جعفر (عليه السّلام) - بغداد فاتحاً سنة 914 هـ كان همّه الأول هو التبرّك بزيارة أجداده الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام)، فقصد زيارة مرقد الحسين (عليه السّلام)، وعمل ثوباً حريرياً لقبره الشريف، وعلّق اثنى عشر قنديلاً من الذهب أطراف القبر، وفرش تلك الحضيرة القدسية بالبسط، وجلّله بأنواع الحرير والإستبرق، وبذل الأموال الكثيرة لللائذين بقبره الشريف، ثمّ خرج قاصداً النجف الأشرف. (وقد ترجم النص المتقدّم العلاّمة المؤلّف عن (حبيب السير) لخواند مير بالفارسية - مخطوط في 3 مجلدات في مكتبة المؤلّف سنة 1008 هـ).

وقد جاء أيضاً في (عالم آراى عباسي) لإسكندر منشي جـ 2 عن زيارة هذا الشاه ما ترجمته: توجه الشاه من بغداد إلى تربة كربلاء بعد إخلاص النيّة، وتشرّف بزيارة مرقد الحسين المنوّر وشهداء كربلاء، وقد زيّن الروضة وأنعم على المجاورين، ثمّ توجه من هناك إلى زيارة علي المرتضى (عليه السّلام) عن طريق الحلّة. راجع أيضاً فارسنامه ناصري 1 / 93.

وزار كربلاء أيضاً الشاه عباس الأول الصفوي، فقد جاء في فارسنامه ناصري ما ترجمته: غادر الشاه عباس الأول الصفوي أصفهان في سنة 1033 هجري متجهاً نحو بغداد، وفي غرّة ربيع الأوّل من نفس السنة دخل بغداد فاتحاً...، ثمّ توجه إلى النجف الأشرف في محرّم الحرام، وعلى بعد (30) كيلو متر ترجّل عن فرسه وخلع نعله، وأنعم على كافة سكنة النجف، وتوجه بعد ذلك مسروراً فرحاً إلى زيارة كربلاء وطاف بالبقعة الطاهرة، ثمّ أقفل راجعاً إلى بغداد وزار الإمامين الكاظمين وسامراء.

وفي ربيع هذه السنة أعاد الكرّة لزيارة كربلاء والنجف الأشرف، وقبل أعتاب هاتين الحضرتين أدّى لوازم الزيارة، وأهدى من الصناديق القيمة والطنافس الحريرية المطرّزة والديباج الشيء الكثير، ورجع مقفلاً إلى بغداد، وأعاد الزيارة مرّة أخرى إلى الروضة الحسينيّة.

وانظر أيضاً =

٧٢

ولم يرد ما يهمّ خبره من أخلافه الصفوية إلاّ الإقدام بأمور طفيفة لا مجال لذكرها، إلاّ أنّه بلغني - ولم أتثبّت من ذلك أنّ الشاه سليمان الصفوي قام ببناء القسم الشمالي من الصحن المطهّر، والإيوان الكبير الذي فيه المسمّى (بصافي صفا) نسبة إلى الصفويِّين، وليس اليوم في هذا الإيوان دليل على ذلك سوى إنّ الكاشي المعرّق الموجود في سقف هذا الإيوان، والزخارف المعمولة من البورق فيه يستدل منها أنّ بناء هذه الجهة أقدم بناء من الجهات الثلاث للصحن الشريف، فضلاً عن أنّ نقوش الكاشي المعرّق وصنعتها تشبه إلى حدّ كبير نقوش الكاشي المعرّق الموجود في روضة الجوادين (سلام الله عليهما)، وحرم حضرة الرضا (عليه السّلام)، ومقبرة خواجه ربيع، والقدم كاه.

وقد كان في حواشي الكاشي المعرّق الموجود في جنبتي هذا الإيوان - الشرقي والغربي - كُتيبة تنص على اسم الباني وتأريخ بنائه، ولكن مع مرور الزمن تلف واندرس أثره، ومع شديد الأسف لم يسعَ أحد بعد

____________________

= عالم آراي عباسي، وهناك مصدر لا بدّ من الإشارة إليه في هذا الخصوص هو (تاريخ دهامر الألماني) الذي تُرجم من اللغة الفرنسية إلى الفارسية باسم: سلطان التواريخ، في تاريخ سلاطين آل عثمان، يقع في ثلاث مجلدات ضخام، تحتوي على 72 باباً، ينتهي به مؤلفه إلى آخر عهد عبد الحميد الأول العثماني، بعد حرب الروس والأتراك وعقد معاهدة (كنارجة).

وفي سنة 1034 هـ أعاد السلطان مراد الرابع العثماني العراق إلى حوزة دولته، وفي 27 جمادى الأولى سنة 1039 هـ احتل بغداد مرّة أخرى الشاه صفي حفيد الشاه عباس الأول، وزار كربلاء في سنة 1048 هـ في يوم عيد، فقبّل أعتاب ضريح سيد الشهداء وأخيه العباس بعد أن أنذر النذور، وأكرم ذوي الحاجة. (روضة الصفاي ناصري المجلد الثامن).

وفي سنة 1156 هـ توجه نادر شاه من النجف الأشرف إلى تقبيل أعتاب الحسين (عليه السّلام) الذي حرمه مطاف ملائكة الرحمن، وقدّمت زوجته رضية سلطان بيكم كريمة الشاه سلطان حسين الصفوي عشرين ألف نادري لتعمير جامع الحرم الشريف (التاريخ النادري).

٧٣

ذلك لإرجاع هذا النص التأريخي المهم إلى موضعه.

وعندما أرادوا دفن ميرزا موسى الوزير فيه(1) عملوا موضعية الكُتيبة

____________________

(1) وقد شيّد هذا الإيوان الكبير في سنة 1281 هـ من قبل المرحوم ميرزا موسى وزير طهران، لتكون مقبرة له ولعائلته، وقد جدّد المرايا والكُتيبة القرآنية، وزوّق جدرانها الداخلية بالكاشي النفيس.

وقد نظم الشاعر (قلزم) الذي كان من الشعراء الشهيرين في تلك الفترة، هذه القصيدة بالمناسبة:

اي نمودار حريمت حرم عرش برين

ظـل دركـاهت خـركه زده بر عليين

قـدسيان بسته بفرمان تو از عرش كمر

آسمان سوده در ايوان تو بر فرش جبين

بـوده دارلـت شـاهنشه اقـليم شهود

بـيشكا رانـت فـرمان ده سرحد يقين

ظل خركاه تو را قبله كند روح القدس

خاك دركاه تو را سجده برد حور العين

از ازل تـاج شـهادة جه نهادي بر سر

شـد ترا ملك شفاعت همه در زير نكين

از بـهاي كـهر باك تو اين توده خاك

كعبه دين شود وشد سجده كه أهل زمين

إلى أن يقول:

قـصة طـور كـليم الله فاخلع نعليك

هـمه از خاك درت مظهر آيات مبين

عكس از شمسه ايوان تو شد شمس فلك

بر تو اوبر همه كون مكان كشت مكين

سـاكـنان حـرم وجـلال مـلكوت

هـه بـرخاك رهـت بايد خاك نشين

=

٧٤

الموجودة اليوم من المرايا، رُقمت بهذه الآية:( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً

____________________

=

بـهر فـراشي حجابت هر شام وسحر

قيصر أز روم كمر بندى وفقفور أز جين

إلى أن يقول:

اين هـمان وادى دوروا تـش شـوق

صـه جـه موسى باميد قبسي خاك نشين

انـدرين عـهد هـمايون از فـو ظـفر

رايـت دولـت اسـلام بر از جرخ برين

شـاه شـاهان جهان ظل خدا كهف زمان

خـسرو مـلك مـلل بـادشاه دولت ودين

شـهـر بـازيكه زأواز كـوي سـخطش

تـااب درشـده در جـحمه كـوه طـنين

مـير فـرخنده نـزادى زد راوكـه بـود

افـتـاب فـلك ورفـعت كـوه وتـمكين

داشـت جـون كوهري آراسته نور صفا

كـرد ايـن صـفه ايـوان صفارا ترين

دولت نـاصرى وسـعى امـام مـلت

أنـدرين عـهد بـود مـحيي آثار جنين

افـتـخار فـضلا قـبله أربـاب فـلاح

بـيشواى دو جـهان بـادشاه شرع مبين

انـكه از بـندكي صـاحب روضـه باك

شـده بـرخا جـكي علم ازل صدر تشين

جون زفيض كف موسى شد اين طور صفا

..........................................

كـلك قـلزم بي تاريخ سخنور شده وكفت

بـا كـف مـوسى آراسـته طـور سنين

٧٥

وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ... ) .

هذا وقام السلطان مراد الرابع العثماني سنة ثمان وأربعين وألف بتعمير وتجديد القبّة السامية، وجصّصها من الخارج(1) .

وفي سنة 1135 هـ نهضت زوجة نادر شاه وكريمة حسين الصفوي إلى تعمير المسجد المطهّر، وأنفقت على ذلك عشرين ألف نادري.

وقام أغا محمّد خان (الخصي) مؤسس الدولة القاجارية في إيران بتذهيب القبّة السامية للسنة السابعة بعد المئتين والألف الهجرية(2) .

وقد نظم بهذه المناسبة الميرزا سليمان خان المشهور بصباحي الشاعر، مؤرّخاً هذا التذهيب بقوله:

كلك صباحي از اين تاريخ أونوشت

در كبند حسين علي زيب بافت زر

1207 هـ

____________________

(1) لم نعثر على مصدر هذا الخبر، ولكنّه قد جاء في كلشن خلفاء (ص 102 وجه) لنظمي زاده بالتركية: أنّ الوالي علي باشا الوند زادة، بأمر من السلطان مراد الثالث العثماني قد جدّد بناء جامع الحسين وقبّته المنوّرة، وذلك سنة 984 هـ.

وقد أرّخ هذا البناء أحد الشعراء المشهورين بأبيات مطلعها:

بـحمد الله كه از عون الهي

نـموده خـدمت شاه شهيدان

شه كشور ستان خاقان اعظم

مـراد بن سليم ابن سليمان

وقد وهم الأستاذ حسن الكليدار في كتابه (مدينة الحسين / 38) إذ ذكر أنّ هذه الأبيات قد قيلت بمناسبة تشييد القبّة من قبل مراد الرابع العثماني، إلاّ أنّ الصحيح ما ذكرناه. (عادل)

(2) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ - للسان الملك سبيهر / 33 سنة 1206 هـ.

٧٦

وفي أوائل القرن التاسع عشر (1214هـ) أهدى فتح علي شاه القاجاري - أحد ملوك إيران - شبكة فضية(1) ، وهي إلى اليوم موجودة على القبر الشريف، وحوالي هذا التاريخ أمرت زوجته بتذهيب المأذنتين حتّى حدّ الحوض.

وفي سنة 1259 هـ قام محمّد علي شاه - ملك أود - سلطان الهند بتذهيب الإيوان الشريف وصياغة بابه بالفضة.

ويوجد اليوم على الفردة اليمنى من باب الفضة في إيوان الذهب: (هو الله الموفّق المستعان، قد أمر بصنع هذا الباب المفتوح لرحمة الملك المنان، وبإتمام تذهب هذا الإيوان الذي هو مختلف ملائكة الرحمن، وبحفر الحسينيّة وبناء قناطرها التي هي معبر أهل الجنان).

وعلى الفردة الثانية، الجانب الأيسر تتمته: (وتعمير بقعة قدوة الناس مولانا وسيدنا أبو الفضل العباس، السلطان ابن السلطان، والخاقان ابن الخاقان، السلطان الأعظم والخاقان الأكرم، سلطان الهند، محمّد على شاه (تغمّده الله بغفرانه، وأسكنه فسيح جناته)، وكان ذلك في سنة 1259 هـ ألف ومئتين وتسعة وخمسين).

وقام بعد ذلك أمراء الأكراد البختيارية إلى تزيين المسجد والأروقة، وقد وسع الضلع الغربي من الصحن الشريف، وجدّد بناءه المتغمّد برحمته المرحوم الشيخ عبد الحسين الطهراني(2) (شيخ العراقين) من قبل شاه

____________________

(1) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ / 63.

(2) جاء في مستدرك الوسائل - للعلاّمة النوري 3 / 397 في ترجمة الشيخ عبد الحسين الطهراني: (شيخي وأستاذي ومَنْ إليه في العلوم الشرعية استنادي، أفقه الفقهاء، وأفضل العلماء، العالم الرباني، الشيخ عبد الحسين الطهراني... حتّى يقول: وجاهد في الله في محو صولة المبتدعين، وأقام أعلام الشعائر في العتبات العاليات، وبالغ مجهوده في عمارة القباب الساميات).

وقد توفي في الكاظمية في 22 شهر رمضان سنة 1286 هـ، ونُقل إلى كربلاء، ودُفن في إحدى حجرات الصحن الحسيني.

٧٧

إيران ناصر الدين شاه القاجاري سنة 1275 هـ، وشيّد إيوانه الكبير وحجر جهتيه.

وقد أنشد الشيخ جابر الكاظمي الشاعر الكبير مؤرّخاً لهذا البناء بالفارسية يقول:

بـنائي ناصر الدين شاه بنا كرد

زخـاك أوست بائين كاخ خضرا

نه صحن وكنبدي جرخي مكوكب

زنـور أو مـنور روي غـبرا

بـراي كـشوار عـرش يـعني

حـسين بـن عـلي دلبند زهرا

بـناي سـال أو جابر همي كوي

أز ايوان شـكست كـسرى

بكو تأريخ ايوانش مؤرخ 1275 هـ

وله تأريخ بالعربية:

لـله إيوانٌ سما رفعةً

فطاول العرشَ به الفرشُ

قال لسانُ الغيب تأريخه

أنت لأملاك السما عرشُ

ولم يحدث بعد ذلك ما يهمّ ذكره سوى ما جدّدت إنشاءه إدارة الأوقاف في العهد الأخير، في القسم الغربي من الصحن؛ لظهور الصدع فيه.

وفي المشهد الحسيني عدّة نقوش وكتابات تدلّ على تواريخ إصلاحه والزيارات فيه؛ ففي أعلى عمود وسط الضلع الجنوبي من شبكة الفولاد المنصوبة على قبر الحسين (عليه السّلام) ما يقابل الوجه الشريف، هذه العبارة: (مَنْ بكى وتباكى على الحسين فله الجنّة صدق الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سنة 1185 هـ).

وما يقابل الزوايا الأربعة من القبر الشريف عبارة: (واقفه الموفّق بتوفيقات الدارين، ابن محمّد تقي خان اليزدي محمّد حسين سنة 1222 هـ).

٧٨

ويوجد في الإيوان الخارج من جدار الرواق الغربي المقابل للشبكة المباركة في الكاشي، فوق الشباك: (عمل أوسته أحمد المعمار سنة 1296 هـ).

ويستفاد من أبيات منظومة بالفارسية فوق شباك المقبرة الشمالية المقابلة للضريح أنّه بمباشرة الحاج عبد الله ابن القوام على نفقة الحاج محمّد صادق التاجر الشيرازي الأصفهاني الأصل، قد قام بتكميل تعمير سرداب الصحن الحسيني، وتطبيق الأروقة الثلاثة الشرقي والشمالي والغربي بالكاشي في سنة ألف وثلاثمئة الهجرية.

إيضاح ما يوجد في خارطة كربلاء من المواقع

أنهار كربلاء

(النهرين): فرعان يشتقان من عمود الفرات، ويتصلان ببعضهما في قرية نينوى في جوار الحاير الحسيني، ويتجهان إلى الشمال الشرقي إلى الكوفة معاً على سبيل توحيد وتفرد؛ وللفارق يعرفان بنهري كربلاء، يتوضّح على ضوء ما سرده أبو الفرج في المقاتل(1) ، ونورد بين قوسين ما تفرّد بإيراده صاحب الدرّ النظيم(2) :

قال أبو الفرج: لمّا قُتل زيد بن علي دفنه ابنه يحيى، تفرّق عنه الناس ولم يبقَ معه إلاّ عشرة نفر. قال سلمة بن ثابت: قلت له: أين تريد؟

قال: أريد النهرين. ومعه الصياد العبدي.

قلت: إن كنت تريد النهرين فقاتل ها هنا حتّى تُقتل.

قال: اُريد نهري كربلاء (وظننت أنّه يريد أن يتشطط الفرات)، فقلت له: النجاء قبل الصبح. فخرجنا فلمّا

____________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 61 ط القاهرة.

(2) الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم - لجمال الدين الشامي جـ 2 خط.

٧٩

جاوزنا الأبيات سمعنا الأذان، فخرجنا مسرعين، فكلّما استقبلني قوم استطعمتهم فيطعموني الأرغفة، فأطعمه إيّاها وأصحابي حتّى أتينا نينوى، فدعوت سابقاً فخرج من منزله ودخله يحيى، ومضى سابق إلى الفيوم فأقام به.

(فلمّا خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذنين فصلّينا الغداة بالنخيلة، ثمّ توجهنا سراعاً قبل نينوى، فقال: اُريد سابقاً مولى بشر بن عبد الملك. فأسرع السير إلى أن انتهينا إلى نينوى وقد أظلمتنا، فأتينا منزل سابق فاستخففت الباب فخرج إلينا).

وذكر ابن كثير في البداية(1) عن محمّد بن عمرو بن الحسن قال: كنّا مع الحسين بنهري كربلاء. وأورد ابن شهر آشوب في المناقب: مضى الحسين قتيلاً يوم عاشوراء بطفّ كربلاء بين نينوى والغاضرية من قرى النهرين(2) .

قال الطبري(3) بعد مهادنة أهل الحيرة لخالد بن الوليد في مفتتح الفتح، وخضوع الدهاقين لأداء جزية وضريبة، وزع بينهم العمال؛ ولتمهيد الأمن أقام مخافر عهد بعمالة النهرين إلى بشر بن الخصاصية، فاتخذ بشر الكويفة ببابنورا قاعدة لعمالته.

وذكر عند حوادث سنة 278 هـ(4) ابتداء أمر القرامطة: وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة، فكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من خوزستان، ومقامه بموضع يُقال له: النهرين، يظهر الزهد والتقشّف، ويسفّ الخوص ويأكل من كسبه، ويكثر الصلاة.

إذا قعد إليه إنسان ذكّره أمر الدين، وزهده في الدنيا، وأعلمه أنّ الصلاة المفروضة

____________________

(1) ج 8 / 188.

(2) المناقب 4 / 83، ط بمبي.

(3) ج 4 / 17، ط ليدن.

(4) ج 8 / 159، ط الاستقامة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

و التمزيق التقطيع و التفريق، و كونهم في خلق جديد استقرارهم فيه أي تجديد خلقتهم بإحيائهم بعد موتهم و وجودهم ثانياً بعد عدمهم، و قوله:( إِذا مُزِّقْتُمْ ) ظرف لقوله:( إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .

و المعنى: و قال الّذين كفروا بعضهم لبعض على طريق الاستهزاء بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإنذاره إيّاهم بالبعث و الجزاء: هل ندلّكم على رجل و المراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينبّئكم و يخبركم أنّكم ستستقرّون في خلق جديد و يتجدّد لكم الوجود إذا فرّقت أبدانكم كلّ التفريق و قطّعت بحيث لا يتميّز شي‏ء منها من شي‏ء.

قوله تعالى: ( أَفْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) إلخ، الاستفهام للتعجيب فإنّ القول ببعث الأجساد بعد فنائها عجيب عندهم لا يقول به عاقل إلّا لتلبيس الأمر على الناس و إضلالهم لينال بعض ما عندهم و إلّا فكيف يلتبس فيه الأمر على عاقل، و لهذا ردّدوا الأمر بين الافتراء و الجنّة في الاستفهام و المعنى: أ هو عاقل يكذب على الله افتراء عليه بالقول بالبعث أم به نوع جنون يتفوّه بما بدا له من غير فكر مستقيم.

و قوله:( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ ) ردّ لقولهم و إضراب عن الترديد الّذي أتوا به مستفهمين، و محصّله أنّ ذلك ليس افتراء على الله و لا جنون فيه بل هؤلاء الكفّار مستقرّون في عذاب سيظهر لهم و قد أبعدهم ذلك عن الحقّ فكانوا في ضلال بعيد لا يسعهم مع ذلك أن يعقلوا الحقّ و يذعنوا به.

و وضع الموصول موضع الضمير في قوله:( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ) للدلالة على أنّ علّة وقوعهم فيما وقعوا فيه من العذاب و الضلال عدم إيمانهم بالآخرة.

قوله تعالى: ( أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ) إلخ، وعظ و إنذار لهم باستعظام ما اجترؤا عليه من تكذيب آيات الله و الاستهزاء برسوله فالمراد بقوله:( ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) إحاطة السماء و الأرض بهم من بين أيديهم و من خلفهم فأينما نظروا وجدوا سماء تظلّهم و أرضاً تقلّهم لا مفرّ لهم منهما.

و قوله:( إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ) أي إذ

٣٨١

أحاط بهم الأرض و السماء و هما مدبّرتان بتدبيرنا منقادتان مسخّرتان لنا أن نشأ نخسف بهم الأرض فنهلكهم أو نسقط عليهم قطعة من السماء فنهلكهم فما لهم لا ينتهون عن هذه الأقاويل؟.

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) ، أي فيما ذكر من إحاطة السماء و الأرض و كونهما مدبّرتين لله سبحانه أن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم كسفا من السماء لآية لكلّ عبد منيب، راجع إلى ربّه بالطاعة، فهؤلاء لا يستهينون بهذه الاُمور و لا يجترؤن على تكذيب هذه الآيات إلّا لكونهم مستكبرين عاتين لا يريدون إنابة إلى ربّهم و رجوعاً إلى طاعته.

٣٨٢

( سورة سبإ الآيات ١٠ - ٢١)

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا  يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ  وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ( ١٠ ) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ  وَاعْمَلُوا صَالِحًا  إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ١١ ) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ  وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ  وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ  وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ( ١٢ ) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ  اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا  وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ( ١٣ ) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ  فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ( ١٤ ) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ  جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ  كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ  بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( ١٥ ) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ( ١٦ ) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا  وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ( ١٧ ) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ  سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا

٣٨٣

آمِنِينَ ( ١٨ ) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( ١٩ ) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢٠ ) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ  وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ( ٢١ )

( بيان)

تشير الآيات إلى نبذة من قصص داود و سليمان إذ آتاهما الله من فضله إذ أنعم على داود بتسخير الجبال و الطير معه و تليين الحديد له، و سخّر لسليمان الريح غدوّها شهر و رواحها شهر و سخّر الجنّ يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و غيرها و أمرهما بالعمل الصالح شكراً و كانا عبدين شكورين.

ثمّ إلى قصّة سبإ حيث أنعم عليهم بجنّتين عن اليمين و الشمال ليعيشوا فيها عيشاً رغداً فكفروا بالنعمة و أعرضوا عن الشكر فأرسل عليهم سيل العرم و بدّل جنّتيهم جنّتين دون ذلك و قد كان عمّر بلادهم فكفروا فجعلهم أحاديث و مزّقهم كلّ ممزّق، كلّ ذلك لكفرهم النعمة و إعراضهم عن الشكر و لا يجازى إلّا الكفور.

وجه اتّصال القصص على ما تقدّم من حديث البعث أنّ الله هو المدبّر لاُمور عباده و هم مغمورون في أنواع نعمه و للمنعم على المنعم عليه الشكر على نعمته و عليه أن يميّز بين الشاكرين لنعمته و الكافر بها و إذ لا ميز في هذه النشأة فهناك نشأة اُخرى يتميّز فيها الفريقان فالبعث لا مفرّ عنه.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) الفضل العطيّة و التأويب الترجيع من الأوب بمعنى الرجوع و المراد به ترجيع

٣٨٤

الصوت بالتسبيح بدليل قوله فيه في موضع آخر:( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) ص: ١٩ و الطير معطوف على محلّ الجبال و منه يظهر فساد قول بعضهم: أنّ الأوب بمعنى السير و أنّ الجبال كانت تسير معه حيثما سار.

و قوله:( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ ) بيان للفضل الّذي اُوتي داود و قد وضع فيه الخطاب الّذي خوطبت به الجبال و الطير فسخّرتا به موضع نفس التسخير الّذي هو العطيّة و هو من قبيل وضع السبب موضع المسبّب و المعنى: سخّرنا الجبال له تؤوّب معه و الطير، و هذا هو المتحصّل من تسخير الجبال و الطير له كما يشير إليه قوله:( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) ص: ١٩.

و قوله:( وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) أي و جعلناه ليّنا له على ما به من الصلابة.

قوله تعالى: ( أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) إلخ، السابغات جمع سابغة و هي الدرع الواسعة، و السرد نسج الدرع، و تقديره الاقتصاد فيه بحيث تتناسب حلقه أي اعمل دروعا واسعة و أجعلها متناسبة الحلق، و جملة( أَنِ اعْمَلْ ) إلخ، نوع تفسير لا لأنة الحديد له.

و قوله:( وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) معنى الجملة في نفسها ظاهر و هي لوقوعها في سياق بيان إيتاء الفضل و عدّ النعم تفيد معنى الأمر بالشكر كأنّه قيل: و قلنا اشكر النعم أنت و قومك بالعمل الصالح.

قوله تعالى: ( وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ ) إلخ، أي و سخّرنا لسليمان الريح مسير غدوّ تلك الريح - و هو أوّل النهار إلى الظهر - مسير شهر و رواح تلك الريح - و هو من الظهر إلى آخر النهار - مسير شهر أي إنّها تسير في يوم مسير شهرين.

و قوله:( وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ) الإسالة إفعال من السيلان بمعنى الجريان

٣٨٥

و القطر النحاس أي و أذبنا له القطر فسالت كالعين الجارية.

قوله:( وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) ، أي و جمع من الجنّ - بدليل قوله بعد:( يَعْمَلُونَ لَهُ ) - يعمل بين يديه بإذن ربّه مسخّرين له( وَ مَنْ يَزِغْ ) أي ينحرف( عَنْ أَمْرِنا ) و لم يطع سليمان( نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ ) ظاهر السياق أنّ المراد به عذاب النار في الدنيا دون الآخرة، و في لفظ الآية دلالة على أنّ المسخّر له كان بعض الجنّ لا جميعهم.

قوله تعالى: ( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ ) إلخ، المحاريب جمع محراب و هو مكان إقامة الصلاة و العبادة، و التماثيل جمع تمثال و هي الصورة المجسّمة من الشي‏ء و الجفان جمع جفنة و هي صحفة الطعام، و الجوابي جمع جابية الحوض الّذي يجبى أي يجمع فيه الماء، و القدور جمع قدر و هو ما يطبخ فيه الطعام، و الراسيات الثابتات و المراد بكون القدور راسيات كونها ثابتات في أمكنتها لا يزلن عنها لعظمها.

و قوله:( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ) خطاب لسليمان و سائر من معه من آل داود أن يعملوا و يعبدوا الله شكراً له، و قوله:( وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) أي الشاكر لله شكراً بعد شكر و الجملة إمّا في مقام ترفيع مقام أهل الشكر بأنّ المتمكّنين في هذا المقام قليلون و هم الأوحديّون من الناس، و إمّا في مقام التعليل كأنّه قيل: إنّهم قليل فكثّروا عدّتهم.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى‏ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ) المراد بدابّة الأرض الأرضة على ما وردت به الروايات و المنسأة العصا و قوله:( فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ ) الخرور السقوط على الأرض.

و يستفاد من السياق أنّهعليه‌السلام لمّا قبض كان متكّئا على عصاه فبقي على تلك الحال قائماً متّكئا على عصاه زماناً لا يعلم بموته إنس و لا جنّ فبعث الله عزّوجلّ أرضة فأخذت

٣٨٦

في أكل منسأته حتّى إذا أكلت انكسرت العصا و سقط سليمان على الأرض فعلموا عند ذلك بموته و تبيّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان المستور عنهم و ما لبثوا هذا المقدار من الزمان - و هو من حين قبضه إلى خروره - في العذاب المهين المذلّ لهم.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ ) إلخ، سبأ العرب العاربة باليمن سمّوا - كما قيل - باسم أبيهم سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و قوله:( عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ ) أي عن يمين مسكنهم و شماله.

و قوله:( كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ ) أمر بالأكل من جنّتين و هو كناية عن رزقهم منهما، ثمّ بالشكر له على نعمته و رزقه، و قوله:( بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ ) أي بلدة ملائمة صالحة للمقام و ربّ كثير الغفران لا يؤاخذكم بسيّئاتكم.

قوله تعالى: ( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ‏ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ) العرم المسنّاة الّتي تحبس الماء، و قيل: المطر الشديد و قيل غير ذلك، و الاُكل بضمّتين كلّ ثمرة مأكولة، و الخمط - على ما قيل - كلّ نبت أخذ طعماً من المرارة، و الأثل الطرفاء و قيل: شجر يشبهها أعظم منها لا ثمرة له، و السدر معروف، و الأثل و شي‏ء معطوفان على( أُكُلٍ ) لا على خمط.

و المعنى: فأعرضوا أي قوم سبإ عن الشكر الّذي اُمروا به فجازيناهم و أرسلنا عليهم سيل العرم فأغرق بلادهم و ذهب بجنّتيهم و بدّلناهم بجنّتيهم جنّتين ذواتي ثمرة مرّة و ذواتي طرفاء و شي‏ء قليل من السدر.

قوله تعالى: ( ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) ( ذلِكَ ) إشارة إلى ما ذكر من إرسال السيل و تبديل الجنّتين و محلّه النصب مفعولاً ثانياً لجزيناهم و الفرق بين الجزاء و المجازاة - كما قيل - أنّ المجازاة لا تستعمل إلّا في الشرّ و الجزاء أعمّ.

و المعنى: جزينا سبأ ذلك الجزاء بسبب كفرهم و إعراضهم عن الشكر - أو في مقابلة

٣٨٧

ذلك - و لا نجازي بالسوء إلّا من كان كثير الكفران لأنعم الله.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً ) إلخ، ضمير( بَيْنَهُمْ ) لسبإ و الكلام مسوق لبيان تتمّة قصّتهم المطلوب ذكرها و هو عطف على قوله:( كانَ لِسَبَإٍ ) و المراد بالقرى الّتي باركنا فيها القرى الشاميّة، و المراد بكون القرى ظاهرة كونها متقاربة يرى بعضها من بعض.

و قوله:( وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ ) أي جعلنا السير فيها على نسبة مقدّرة متناسبة غير مختلفة فالنسبة بين واحدة منها و ما يليها كالنسبة بين ما يليها و ما يليه، و قوله:( سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ ) على تقدير القول أي و قلنا: سيروا في هذه القرى على أمن إن شئتم ليالي و إن شئتم أيّاماً، و المراد قرّرنا فيها الأمن يسيرون فيها متى ما شاؤا من غير خوف و قلق.

قوله تعالى: ( فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) إلخ، أي أنعمنا عليهم ما أنعمنا من وفور الفواكه و قرب المنازل و أمن الطرق و سهولة السير و رغد العيش فملّوا ذلك و سئموه و قالوا:( رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) أي اجعل أسفارنا ذوات مسافات بعيدة نركب فيها الرواحل و نقطع المفاوز و البوادي و هذا بغي منهم و كفران كما طلبت بنوإسرائيل الثوم و البصل مكان المنّ و السلوى.

و بالجملة أتمّ الله نعمه عليهم في السفر بقرب المنازل و أمن الطرق و وفور النعمة كما أتمّ نعمه عليهم في الحضر و أراد منهم الشكر على ذلك فكفروا بنعمه في السفر كما كفروا بها في الحضر، فأسرع الله في إسعاف ما اقترحوه فخرّب بلادهم و فرّق جمعهم و شتّت شملهم.

فقوله:( فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) اقتراح ضمنيّ لتخريب بلادهم، و قوله:( وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) أي بالمعاصي.

و قوله:( فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) أي أزلنا أعيانهم و آثارهم فلم يبق منهم إلّا أحاديث يحدّث بها فيما يحدّث فعادوا أسماء لا مسمّى لهم إلّا في وهم المتوهّم و خيال المتخيّل و فرّقناهم كلّ تفرّق فلم يبق من أجزاء وجودهم جزءان

٣٨٨

مجتمعان إلّا فرّقنا بينهما فصاروا كسدى لا شبح له بعد ما كانوا مجتمعاً ذا قوّة و شوكة حتّى ضرب بهم المثل( تفرّقوا أيادي سبإ) .

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) أي في هذا الّذي ذكر من قصّتهم لآيات لكلّ من كثر صبره في جنب الله و كثر شكره لنعمه الّتي لا تحصى يستدلّ بتلك الآيات على أنّ على الإنسان أن يعبد ربّه شكراً لنعمه و أنّ وراءه يوماً يبعث فيه و يجزى بعمله.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي حقّق إبليس عليهم ظنّه أو وجد ظنّه صادقاً عليهم إذ قال لربّه:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ و لَأُضِلَّنَّهُمْ ) ( وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) ، و قوله:( فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) بيان لتصديقه ظنّه.

و منه يظهر أنّ ضمير الجمع في( عَلَيْهِمْ ) ههنا و كذا في الآية التالية لعامّة الناس لا لسبإ خاصّة و إن كانت الآية منطبقة عليهم.

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ ) ظاهر السياق أنّ المراد أنّهم لم يتّبعوه عن سلطان له عليهم يضطرّهم إلى اتّباعه حتّى يكونوا معذورين بل إنّما اتّبعوه عن سوء اختيارهم فهم يختارون اتّباعه فيتسلّط عليهم لا أنّه يتسلّط فيتّبعونه، قال تعالى:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: ٤٢ و قال حاكياً عن إبليس يوم القيامة:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) إبراهيم: ٢٢.

و منشأ اتّباعهم له ريب و شكّ في قلوبهم من الآخرة يظهر منهم بظهور أثره الّذي هو الاتّباع لإبليس، فإذنه سبحانه لإبليس أن يتسلّط عليهم من طريق اختيارهم هذا المقدار من التسلّط ليمتاز به أهل الشكّ في الآخرة من أهل الإيمان به و لا يرفع ذلك مسئوليّتهم في اتّباعه لكونه عن اختيار منهم.

٣٨٩

فقوله:( وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ ) نفي لكلّ سلطان، و قوله:( إِلَّا لِنَعْلَمَ ) أي لنميّز( مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ ) استثناء لسلطانه عليهم من طريق اتّباعهم له عن اختيار منهم، و قد وضع فيه الغاية موضع ذي الغاية أي التمييز المذكور موضع التسلّط من طريق الاتّباع الاختياريّ.

و تقييد الإيمان و الشكّ بالآخرة في الآية لمكان أنّ الرادع الوحيد عن المعصية و الداعي إلى الطاعة هو الإيمان بالآخرة دون الإيمان بالله و رسوله لو لا الآخرة كما قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) ص: ٢٦.

و قوله:( وَ رَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ ) أي عالم علماً لا يفوته المعلوم بنسيان أو سهو أو غير ذلك و فيه تحذير عن الكفران و المعصية و إنذار لأهل الكفر و المعصية.

( بحث روائي)

في كمال الدين، بإسناده إلى هشام بن سالم عن الصادقعليه‌السلام : في حديث يذكر فيه قصّة داودعليه‌السلام قال: إنّه خرج يقرأ الزبور و كان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر إلّا أجابه.

و في تفسير القمّيّ، قوله عزّوجلّ:( أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ ) قال: الدروع( وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) قال: المسامير الّتي في الحلقة، و قوله عزّوجلّ:( وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ ) قال: كانت الريح تحمل كرسيّ سليمان فتسير به في الغداة مسيرة شهر و بالعشيّ مسيرة شهر.

و في الكافي، بإسناده عن داود بن الحصين و عن أبان بن عثمان عن الفضل أبي العبّاس قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام :( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ ) قال: ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها تماثيل الشجر و شبهه.

و فيه، عن بعض أصحابنا مرفوعاً عن هشام بن الحكم قال: قال أبوالحسن

٣٩٠

موسى بن جعفرعليه‌السلام : يا هشام ثمّ مدح الله القلّة فقال:( وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) .

أقول: و قد وقع هذا المعنى في عدّة روايات و هو ينطبق على أحد المعنيين المتقدّمين في ذيل الآية.

و في العلل، بإسناده عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: أمر سليمان بن داود الجنّ فصنعوا له قبّة من قوارير فبينا هو متكّئ على عصاه في القبّة ينظر إلى الجنّ كيف ينظرون إليه إذ حانت منه التفاتة فإذا رجل معه في القبّة قال له: من أنت؟ قال: أنا الّذي لا أقبل الرشا و لا أهاب الملوك أنا ملك الموت. فقبضه و هو قائم متكّئ على عصاه في القبّة و الجنّ ينظرون إليه.

قال: فمكثوا سنة يدأبون له حتّى بعث الله عزّوجلّ الأرضة فأكلت منسأته و هي العصا، فلمّا خرّ تبيّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‏ الحديث.

أقول: و بقاؤهعليه‌السلام على حال القيام متكّئا على عصاه سنة وارد في عدّة من روايات الشيعة و أهل السنّة.

و في المجمع، في الحديث عن فروة بن مُسيك قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سبإ أ رجل هو أم امرأة؟ فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستّة و تشاءم أربعة فأمّا الّذين تيامنوا فالأزد و كندة و مذحج و الأشعرون و أنمار و حمير فقال رجل من القوم: ما أنمار؟ قال: الّذين منهم خثعم و بجيلة. و أمّا الّذين تشاءموا فعاملة و جذام و لخم و غسّان.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من أرباب الجوامع و السنن عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ‏ و المراد بالتيامن و التشاؤم السكونة باليمن و الشام.

و في الكافي، بإسناده عن سدير قال: سأل رجل أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) الآية فقال: هؤلاء قوم كانت لهم قرى متّصلة ينظر بعضهم إلى بعض و أنهار جارية و أموال ظاهرة فكفروا نعم الله عزّوجلّ

٣٩١

و غيّروا ما بأنفسهم من عافية الله فغيّر الله ما بهم من نعمة و الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم فأرسل الله عليهم سيل العرم ففرّق قراهم و خرّب ديارهم و ذهب بأموالهم و أبدلهم مكان جنانهم جنّتين ذواتي اُكل خمط و أثل و شي‏ء من سدر قليل ثمّ قال:( ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) .

أقول: و ورد في عدّة من الروايات أنّ القرى الّتي بارك الله فيها هم أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و القرى الظاهرة هم الوسائط بينهم و بين الناس من حملة أحاديثهم و غيرهم، و هو من بطن القرآن و ليس من التفسير في شي‏ء.

٣٩٢

( سورة سبإ الآيات ٢٢ - ٣٠)

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ  لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ( ٢٢ ) وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ  حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ  قَالُوا الْحَقَّ  وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( ٢٣ ) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  قُلِ اللهُ  وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( ٢٤ ) قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ٢٥ ) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ( ٢٦ ) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاءَ  كَلَّا  بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٢٧ ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( ٢٨ ) وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٢٩ ) قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ( ٣٠ )

( بيان)

آيات مقرّرة للتوحيد و احتجاجات حوله.

قوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) إلى آخر الآية، أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحتجّ على إبطال اُلوهيّة آلهتهم بعدم قدرتهم على استجابة الدعاء، فقوله:( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي ادعوا الّذين زعمتموهم آلهة من دون الله - فمفعولاً( زَعَمْتُمْ ) محذوفان لدلالة السياق عليهما - و دعاؤهم هو

٣٩٣

مسألتهم شيئاً من الحوائج.

و قوله:( لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ ) واقع موقع الجواب كأنّه قيل: فما ذا يكون إذا دعوهم؟ فقيل: لا يستجيبون لهم بشي‏ء لأنّهم( لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ ) و لو ملكوا لاستجابوا، و لا تتمّ الربوبيّة و الاُلوهيّة إلّا بأن يملك الربّ و الإله شيئاً ممّا يحتاج إليه الإنسان فيملّكه له و ينعم عليه به فيستحقّ بإزائه العبادة شكراً له فيعبد، أمّا إذا لم يملك شيئاً فلا يكون ربّاً و لا إلهاً.

و قوله:( وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ ) كان الملك المنفيّ في الجملة السابقة( لا يَمْلِكُونَ ) إلخ، الملك المطلق المنبسط على الجميع و المنفيّ في هذه الجملة الملك المحدود المتبعّض الّذي ينبسط على البعض دون الكلّ إمّا مشاعاً أو مفروزاً، لكنّ المشركين ما كانوا يقولون بالملك المشترك بينهم و بين الله سبحانه مشاعاً بل كانوا يقولون بملك كلّ من آلهتهم لنوع من الخلقة أو بعض منها، و أمّا الله سبحانه فهو ربّ الأرباب و إله الآلهة.

و على هذا كان من الواجب أن يستجيب آلهتهم إذا دعوا فيما يملكونه من الخلقة و عدم استجابتهم كاشف عن عدم ربوبيّتهم و اُلوهيّتهم.

و قوله:( وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ) أي ليس لله سبحانه منهم كلّا أو بعضاً من معين يعينه فيما يفرض فيه عجزه عن القيام بأمر تدبيره إذ لو كان له منهم ظهير يظهره على التدبير كان مالكاً فيستجيب إذا دعي فيما هو ظهير بالنسبة إليه و إذ ليس فليس.

فتبيّن ممّا تقدّم أنّ احتجاج الآية على نفي الملك بانتفاء استجابتهم دعاء الداعي يجري في جميع الصور الثلاث و هي ملكهم لما في السماوات و ما في الأرض مطلقاً و ملكهم على وجه الشركة مع الله سبحانه و كونهم أو بعضهم ظهيراً لله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) المشركون كانوا يقولون بشفاعة آلهتهم كما حكاه الله سبحانه عنهم بقوله:( هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ) يونس: ١٨ و ليس مرادهم بالشفاعة شفاعة يوم القيامة الّتي يثبتها القرآن الكريم فإنّهم ما كانوا يقولون بالمعاد بل الشفاعة في الدنيا لعبّادهم عندالله سبحانه ليسعدهم بقضاء حوائجهم

٣٩٤

و إصلاح شؤونهم بتوسّط آلهتهم.

و إذ كانت الآلهة مخلوقين لله مملوكين له من كلّ وجه فلا يملكون الشفاعة من عند أنفسهم مستقلّين بها إلّا أن يملّكهم الله سبحانه ذلك و هو الإذن لهم في أن يشفعوا فأصل شفاعتهم لو شفعوا بإذن الله سبحانه.

و قوله:( إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) يحتمل أن يكون اللام في( لِمَنْ ) لام الملك و المراد بمن أذن له الشافع من الملائكة، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلّا أن يملكه الشافع بالإذن من الله و أن يكون لام التعليل و المراد بمن أذن له المشفوع له، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلّا لأجل من أذن له من المشفوع لهم، قال في الكشاف: و هذا يعني الوجه الثاني وجه لطيف و هو الوجه. انتهى.

و هو الوجه فإنّ الملائكة على ما يستفاد من كلامه تعالى وسائط لإنفاذ الأمر الإلهيّ و إجرائه، قال تعالى:( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: ٢٧ و قال:( جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ ) فاطر: ١ و الوساطة المذكورة من الشفاعة كما تقدّم في مباحث الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

فالملائكة جميعاً شفعاء لكن لا في كلّ أمر و لكلّ أحد بل في أمر أذن الله فيه و لمن أذن له فنفي شفاعتهم إلّا مع الإذن يناسب المشفوع لهم دون الشفعاء، فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ ) الأنبياء: ٢٨ لا في معنى قوله:( ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس: ٣.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) التفزيع إزالة الفزع و كشفه و ضمائر الجمع - على ما يعطيه السياق - للشفعاء و هم الملائكة.

و لازم قوله:( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) - و هو غاية - أن يكون هناك أمر مغيّى بها و هو كون قلوبهم في فزع ممتدّ في انتظار أمر الله سبحانه حتّى يرتفع بصدور الأمر منه، فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ - إلى أن قال -وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) النحل: ٥٠ فالفزع هو

٣٩٥

التأثّر و الانقباض من الخوف و هو المراد بسجدتهم تذلّلاً من خوف ربّهم من فوقهم.

و بذلك يظهر أنّ المراد بفزعهم حتّى يفزّع عنهم أنّ التذلّل غشي قلوبهم و هو تذلّلهم من حيث أنّهم أسباب و شفعاء في نفوذ الأوامر الإلهيّة و وقوعه على ما صدر و كما اُريد، و كشف هذا التذلّل هو تلقيهم الأمر الإلهيّ و اشتغالهم بالعمل كأنّهم بحيث لا يظهر من وجودهم إلّا فعلهم و طاعتهم لله فيما أمرهم به و أنّه لا واسطة بين الله سبحانه و بين الفعل إلّا أمره فافهم ذلك.

و إنّما نسب الفزع و التفزيع إلى قلوبهم للدلالة على أنّهم ذاهلون منصرفون عن أنفسهم و عن كلّ شي‏ء إلّا ربّهم و هم على هذه الحالة لا يشعرون بشي‏ء غيره حتّى إذا كشف الفزع عن قلوبهم عند صدور الأمر الإلهيّ بلا مهل و لا تخلّف فليس الأمر بحيث يعطّل أو يتأخّر عن الوقوع، قال تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: ٨٢ فالمستفاد من الآية نظراً إلى هذا المعنى أنّهم في فزع حتّى إذا اُزيل فزعهم بصدور الأمر الإلهيّ.

و قوله:( قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ ) يدلّ على أنّهم طوائف كثيرون يسأل بعضهم بعضاً عن الأمر الإلهيّ بعد صدوره و انكشاف الفزع عن قلوب السائلين.

و يتبيّن منه أنّ كشف الفزع و نزول الأمر إلى بعضهم أسبق منه إلى بعض آخر فإنّ لازم السؤال أن يكون المسؤل عالماً بما سئل عنه قبل السائل.

فلهم مراتب مختلفة و مقامات متفاوتة بعضها فوق بعض تتلقّى الدانية منها الأمر الإلهيّ من العالية من غير تخلّف و لا مهلة و هو طاعة الداني منهم للعالي، كما يستفاد ذلك أيضاً بالتدبّر في قوله تعالى:( وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ) الصافّات: ١٦٤ و قوله في وصف الروح الأمين:( ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) التكوير: ٢١.

فبينهم مطاع و مطيع و لا طاعة مع ذلك إلّا لله سبحانه لأنّ المطاع منهم لا شأن له إلّا إيصال ما وصل إليه من الأمر الإلهيّ إلى مطيعه الّذي دونه، و يمكن أن يستفاد ذلك من توصيف القول بالحقّ في قوله:( قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ ) أي قال القول الثابت الّذي لا سبيل للبطلان و التبدّل إليه.

٣٩٦

و ما ألطف ختم الآية بقوله تعالى:( وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) أي هو العليّ الّذي دونه كلّ شي‏ء و الكبير الّذي يصغر عنده كلّ شي‏ء فليس للملائكة المكرمين إلّا تلقّي قوله الحقّ و امتثاله و طاعته كما يريد.

فقد تحصّل من الآية الكريمة أنّ الملائكة فزعون في أنفسهم متذلّلون في ذواتهم ذاهلون عن كلّ شي‏ء إلّا عن ربّهم محدقون إلى ساحة العظمة و الكبرياء في انتظار صدور الأمر حتّى يكشف عن قلوبهم الفزع، بصدور الأمر و نزوله و هم مع ذلك طوائف مختلفة ذووا مقامات متفاوتة علوّاً و دنوّاً يتوسّط كلّ عال في إيصال الأمر النازل إلى من هو دونه.

فهم مع كونهم شفعاء و أسباباً متوسّطة لا يشفعون و لا يتوسّطون في حدوث حادث من حوادث الخلق و التدبير إلّا بإذن خاصّ من ربّهم في حدوثه فيتحمّلون الأمر النازل إليهم حتّى يحقّقوه في الكون من غير أن يستقلّوا من أنفسهم في شي‏ء أو يستبدّوا برأي، و من كان هذا شأنه لا يشعر بشي‏ء إلّا طاعة ربّه فيما يأمره به كيف يكون ربّاً مستقلّاً في أمره مفوّضاً إليه التدبير يعطي ما يشاء و يمنع ما يشاء؟

و في الآية أقوال مختلفة اُخر:

منها: أنّ ضمير( قُلُوبِهِمْ ) و( قالُوا ) الثاني للمشركين دون الملائكة و ضمير( قالُوا ) الأوّل للملائكة و المعنى: حتّى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين وقت الفزع قالت الملائكة لهم: ما ذا قال ربّكم؟ قالت المشركون لهم: الحقّ فيعترفون بما أنكروه في الدنيا.

و منها: أنّ ضمير( قُلُوبِهِمْ ) للملائكة و المراد أنّ الملائكة الموكّلين بالأعمال إذا صعدوا بأعمال العباد إلى السماء و لهم زجل و صوت عظيم خشيت الملائكة أنّها الساعة فيفزعون و يخرّون سجّداً لله سبحانه حتّى إذا كشف عن قلوبهم الفزع و علموا أنّه ليس الأمر كذلك فسألوا ما ذا قال ربّكم؟ قالوا: الحقّ.

و منها: أنّ الله لمّا بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد فترة بينه و بين عيسىعليهما‌السلام لم ينزل فيها شي‏ء من الوحي أنزل الله سبحانه جبريل بالوحي فلمّا نزل ظنّت الملائكة أنّه نزل

٣٩٧

بشي‏ء من أمر الساعة فصعقوا لذلك فجعل جبريل يمرّ بكلّ سماء و يكشف الفزع عن الملائكة الساكنين فيها فرفعوا رؤسهم و قال بعضهم لبعض: ما ذا قال ربّكم؟ قالوا: الحقّ أي الوحي.

و منها: أنّ الضمير للملائكة و المراد أنّ الله سبحانه إذا أوحى إلى بعض الملائكة غشي على الملائكة عند سماع الوحي و يصعقون و يخرّون سجّداً للآية العظيمة فإذا فزّع عن قلوبهم سألت الملائكة ذلك الملك الّذي اُوحي إليه ما ذا قال ربّك؟ أو سأل بعضهم بعضاً ما ذا قال ربّكم؟ فيعلمون أنّ الأمر في غيرهم.

و أنت بعد التدبّر في الآية الكريمة و التأمّل فيما قدّمناه تعلم وجه الضعف في هذه الأقوال و أنّ شيئاً منها على تقدير صحّته في نفسه لا يصلح تفسيراً لها.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللهُ ) إلخ، احتجاج آخر على المشركين من جهة الرزق الّذي هو الملاك العمدة في اتّخاذهم الآلهة فإنّهم يتعلّلون في عبادتهم الآلهة بأنّها ترضيهم فيوسّعون لهم في رزقهم فيسعدون بذلك.

فأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم من يرزقهم من السماوات و الأرض؟ و الجواب عنه أنّه الله سبحانه لأنّ الرزق خلق في نفسه و لا خالق - حتّى عند المشركين - إلّا الله عزّ اسمه لكنّهم يستنكفون عن الاعتراف به بألسنتهم و إن أذعنت به قلوبهم و لذلك أمر أن ينوبهم في الجواب فقال:( قُلِ اللهُ ) .

و قوله:( وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى‏ هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ، تتمّة قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هذا القول بعد إلقاء الحجّة القاطعة و وضوح الحقّ في مسألة الاُلوهيّة مبنيّ على سلوك طريق الإنصاف، و مفاده أنّ كلّ قول إمّا هدى أو ضلال لا ثالث لهما نفياً و إثباتاً و نحن و أنتم على قولين مختلفين لا يجتمعان فإمّا أن نكون نحن على هدى و أنتم في ضلال و إمّا أن تكونوا أنتم على هدى و نحن في ضلال فانظروا بعين الإنصاف إلى ما اُلقي إليكم من الحجّة و ميّزوا المهديّ من الضالّ و المحقّ من المبطل.

و اختلاف التعبير في قوليه:( لَعَلى‏ هُدىً ) و( فِي ضَلالٍ ) بلفظة على و في - كما قيل - للإشارة إلى أنّ المهتدي كأنّه مستعل على منار يتطلّع على السبيل و غايتها

٣٩٨

الّتي فيها سعادته، و الضالّ منغمر في ظلمة لا يدري أين يضع قدمه و إلى أين يسير و ما ذا يراد به؟.

قوله تعالى: ( قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) أي إنّ العمل و خاصّة عمل الشرّ لا يتعدّى عن عامله و لا يلحق وباله إلّا به فلا يسأل عنه غيره فلا تسألون عمّا أجرمنا بل نحن المسؤلون عنه و لا نسأل عمّا تعملون بل أنتم المسؤلون.

و هذا تمهيد لما في الآية التالية من حديث الجمع و الفتح فإنّ الطائفتين إذا اختلفا في الأعمال خيراً و شرّاً كان من الواجب أن يفتح بينهما و يتميّز كلّ من الاُخرى حتّى يلحق به جزاء عمله من خير أو شرّ أو سعادة أو شقاء و الّذي يفتح و يميّز هو الربّ تعالى.

و في التعبير عن عمل أنفسهم بالإجرام و في ناحية المشركين بقوله:( تَعْمَلُونَ ) و لم يقل تجرمون أخذ بحسن الأدب في المناظرة.

قوله تعالى: ( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ) لمّا كان من الواجب أن يلحق بكلّ من المحسن و المسي‏ء جزاء عمله و كان لازمه التميّز بينهما بالجمع ثمّ الفرق كان ذلك شأن مدبّر الأمر و هو الربّ أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكّرهم أنّ الّذي يجمع بين الجميع ثمّ يفتح بينهم بالحقّ هو الله، فهو ربّ هؤلاء و اُولئك فإنّه هو الفتّاح العليم يفتح بين كلّ شيئين بالخلق و التدبير فيتميّز بذلك الشي‏ء من الشي‏ء كما قال:( أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) الأنبياء: ٣٠ و هو العليم بكلّ شي‏ء.

فالآية تثبت البعث لتمييز المحسن من المسي‏ء أوّلاً ثمّ انحصار التمييز و الجزاء في جانبه تعالى بانحصار الربوبيّة فيه و يبطل بذلك ربوبيّة من اتّخذوه من الأرباب.

و الفتّاح من أسماء الله الحسنى و الفتح إيجاد الفصل بين شيئين لفائدة تترتّب عليه كفتح الباب للدخول بإيجاد الفصل بين مصراعيه و الفتح بين الشيئين ليتميّز كلّ منهما عن الآخر بذاته و صفاته و أفعاله.

قوله تعالى: ( قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )

٣٩٩

أمر آخر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم أن يروه آلهتهم حتّى يختبر هل فيهم الصفات الضروريّة للإله المستحقّ للعبادة من الاستقلال بالحياة و العلم و القدرة و السمع و البصر؟ و هذا معنى قوله:( أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ ) أي ألحقتموهم به شركاء له.

ثمّ ردع بنفسه و قال: كلّا لا يكونون شركاء له لأنّهم إمّا أن يُروه الأصنام بما أنّها معبودة لهم معدودة آلهتهم و هي أجسام ميتة خالية عن الحياة و العلم و القدرة و إمّا أن يُروه أرباب هذه الأصنام و هم الملائكة و غيرهم بجعل الأصنام تماثيل مشيرة إليهم و هم و إن لم يخلوا عن حياة و علم و قدرة إلّا أنّ ما لهم من صفات الكمال مفاضة عليهم من الله سبحانه لا استقلال لهم في شي‏ء من هذه الصفات و لا في الأفعال المتفرّعة عليها فأين الاستقلال في التدبير الّذي يدّعون أنّه مفوّض إليهم فالوجود الواجبي بكماله اللّامتناهي يمنع أن يكون في خلقه من يشاركه في شي‏ء من كماله.

اللّهمّ إلّا أن يدعوا أنّه شاركهم في بعض ما له من الشؤون لتدبير خلقه من غير صلاحية لهم ذاتيّة و هذا ينافي حكمته تعالى.

و قد اُشير إلى هذه الحجّة بقوله:( بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فإنّ عزّته تعالى - و هو منع جانبه أن يعدو إلى حريم كماله عاد لكونه لا يحدّ بحدّ - تمنع أن يشاركه في شي‏ء من صفات كماله كالربوبيّة و الاُلوهيّة المنتهيتين إلى الذات أحد غيره هذا لو كانت الشركة عن صلاحية ذاتيّة من الشريك و لو كانت عن إرادة جزافيّة منه من غير صلاحية حقيقة من الشريك فالحكمة الإلهيّة تمنع ذلك.

و قد تبيّن بذلك أنّ الآية متضمّنة لحجّة قاطعة برهانيّة فأحسن التدبّر فيها.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) قال الراغب في المفردات: الكفّ كفّ الإنسان و هي ما بها يقبض و يبسط و كففته أصبت كفّه، و كففته أصبته بالكفّ و دفعته بها و تعورف الكفّ بالدفع على أيّ وجه كان بالكفّ كان أو غيرها حتّى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره، و قوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) أي كافّاً لهم عن المعاصي و الهاء فيه للمبالغة كقولهم: راوية و علّامة و نسّابة. انتهى.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425