الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128740 / تحميل: 6813
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

لا يقول به إلاّ شرذمة من القائلين بالقدم ؛ قال صدر المحقّقين في رسالة اثبات الواجب : وأمّا نسبة التزام هذه التسلسل إلى الحكماء فافتراء ؛ وقال ولده غياث المدقّقين في شرحه : اي قدماء الحكماء المحقّقين ، فانّهم انكروا ذلك كما لا يخفى على من تصفّح الصحف الموروثة عنهم ، وانّما التزمه قوم من المتفلسفين المتأخّرين ممّن لا اعتماد على كلامهم. والمنكرون للتسلسل في الشروط الحادثة بيّنوا كيفية حدوث الحوادث اليومية بوجه آخر ، وهو انّهم اثبتوا حركة سرمدية وهي أمر واحد متّصل وله اجزاء فرضية فكلّ فرد من الحوادث مستند إلى بعض معيّن من تلك الحركة الواحدة ؛(١) انتهى.

وذلك لأنّ التصفّح يعطي بأنّ الفلاسفة متّفقون على التزام التسلسل في الشروط الحادثة ؛ واذعانهم بوجود الحركة السرمدية دليل قاطع على ذلك ، لأنّ الحركة القديمة ذو اجزاء كلّ جزء منها متوقّف على جزء سابق عليه ، فيلزم التسلسل في الأمور المتعاقبة. فجعل استناد الحوادث اليومية إلى الحركة السرمدية دليلا على عدم توقّف الحادث على الشروط الحادثة الغير المتناهية أمر غريب.

وقال بعض أهل التحقيق : انكار كون هذه المقدّمة مسلّمة عند الحكماء غريب جدا ، إذ لا ريب لمن تصفّح كتبهم في انّهم يقولون بها.

وما تخيّله من أنّهم قالوا باستناد الحوادث إلى الحركة وهي موجود واحد قديم بلا توقّف على شرط فلم تكن المقدّمة مسلّمة عندهم ، ففيه : انّ نظرهم إلى انّ الحركة لها أجزاء غير متناهية يتوقّف كلّ جزء منها على سابقه. وحينئذ لا بأس باستناد الحوادث إليها ، إذ توقّف كلّ حادث على شرط حادث على سبيل التسلسل على التعاقب ، فليس في ذلك دلالة على تجويزهم استناد الحادث بالقديم بلا توقّف على شرط حادث. كيف ولو جوّزوا ذلك فما بالهم ارتكبوا تلك الحركة وتورّطوا فيما تورطوا فيه؟!. فظهر انّ تعليل عدم امكان جعل الاستدلال المذكور جدليا والزاميا للحكماء لعدم كون المقدّمة(٢) المذكورة مسلّمة عندهم غير صحيح. فالصحيح تعليله

__________________

(١) ما عثرت على هاتين الرسالتين ، والظاهر انّهما لم تطبعا بعد.

(٢) الاصل : المسألة.

٢٦١

بما ذكروا بانّ الحكيم قائل بتوقّف الحادث على الشرط الحادث مطلقا ، سواء كان الفاعل مختارا أو موجبا ، فعلى تقدير جعله جدليا والزاميا للحكيم يتوجّه على المعتزلة النقض قطعا ؛ هذا.

وقيل في بيان عدم جواز استعمال الدليل المذكور لا برهانيا ولا جدليا من قبل المعتزلة وورود المعارضة عليهم مع انّهم يجوز لهم على الظاهر أن يقولوا ـ لم لا يجوز أن تكون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور وان اعتقدنا بطلانها في نفسها كما في كثير من توالي المتّصلات اللزومية ـ : انّ القول بالمقدمة المذكورة كما انّه لا يصحّ في نفسه عندهم كذلك ليس لازما لفرض الايجاب المذكور في الواقع حتّى يصحّ استعمال المعتزلة لها على فرضه ، وحينئذ لا يجوز لهم استعمالها أصلا.

بيان عدم اللزوم : انّ معنى الايجاب المذكور هو امتناع انفكاك الذات عن ايجاد العالم مطلقا في الازل ، فيلزمه حصول جميع شرائط التأثير فيه في الأزل وعدم توقّفه على شيء اصلا فلا يمكن مع استلزامه عدم التوقّف المذكور أن يستلزم أيضا توقّفه على الشروط للزوم اجتماع النقيضين ، وهو محال ؛ فثبت انّ توقّف العالم حال حدوثه على حادث آخر لا يمكن أن يكون لازما لفرض الايجاب المذكور ؛ انتهى.

وفيه : ما تقدم من انّ بناء الاستدلال على قطع النظر عن استحالة اجتماع الايجاب المذكور مع حدوث الأثر ، ولولاه لم يصحّ للأشعري أيضا نفي مطلق الايجاب. وإذا كان اجتماع هذين الأمرين ـ أعني : القدم والحدوث ـ محالا ومع ذلك فرض وقوعه واستدلّ على تقديره فلا مانع من لزوم محال آخر منه ـ أعني : اجتماع عدم التوقّف على شيء والتوقّف على الشرط ـ ، لأنّ المحال قد يستلزم فرضه محالا آخر والاستدلال بفرض وقوع محال وترتّب محال آخر عليه أمر شائع بينهم ، ولو منعه مانع محتجّا بعدم فائدة فيه وعدم الاحتياج إليه فهو كلام آخر. وسنذكر انّ من وجوه الاختلال في هذا الاستدلال عدم الاحتياج إليه ، للزوم القدم على فرض الايجاب المذكور ضرورة ، ونشير إلى / ٥٩ MB / أنّ من وجوه الاختلال فيه وان كان مندفعا بما ذكر من لزوم اجتماع النقيضين ـ أعني : الايجاب بالمعنى المذكور والحدوث ـ ، والمحال قد يستلزم المحال.

٢٦٢

فلقائل أن يقول : حينئذ لا مانع من لزوم التسلسل في الشروط المتعاقبة لامكان استلزام المحال المحال ، والمطلوب هاهنا انّه مع قطع النظر عن هذه الوجوه من الاختلال يلزم اختلال آخر أيضا ، وهو المعارضة من قبل الحكماء على المعتزلة.

الثاني : انّ المعارضة يرد على الأشعري أيضا. فان أجيب : بانّ للأشعرية الجواب بالتزام التخلّف والترجيح بلا مرجّح ويكون كلامه في الاستدلال على سبيل الجدل والالزام ؛

قلنا : للمعتزلة أيضا التزام عدم توقّف الحادث على شرط حادث ويكون كلامهم في الدليل على سبيل الجدل ؛ انتهى.

ولا يخفى ضعفه على ما بيّناه ، لأنّ الاستدلال المذكور على مذهب الاشعري برهاني لا يتوجّه عليه النقض مطلقا ، لأنّ في صورة الاختيار يجوز الترجيح بلا مرجّح عنده بخلاف صورة الايجاب. وما ذكره من امكان جعل الدليل المذكور جدليا من قبل المعتزلة فقد عرفت فساده.

وبذلك يندفع ما ذكره بعض آخر : انّ الدليل المذكور لا يمكن اجرائه من قبل الأشعري أيضا لا برهانيا / ٥٦ DA / ـ لتجويزه الترجيح بلا مرجّح ـ ولا جدليا ـ لابتنائه على استحالة التسلسل في الشروط المتعاقبة ـ ، مع أنّ الحكماء يجوّزوه ، فلا يصحّ استعماله الزاما عليهم. فالحقّ انّ هذا الدليل لا يصحّ اجرائه اصلا لا من قبل الأشعري ولا من قبل غيره ، لا برهانيا ـ لابتنائه على التوقّف على الشرط الحادث وهو غير ممنوع عند المتكلّمين ، أمّا عند الأشاعرة منهم فلتجويزهم الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا عند غيرهم فلأنّ المرجح عندهم إمّا علم الفاعل وإمّا ذات الوقت ـ ؛ ولا الزاميا ـ لابتنائه على استحالة جميع انحاء التسلسل ، وهو غير ممنوع عند الحكماء ـ أيضا ؛ انتهى.

ووجه الاندفاع ما عرفت من صحّة جعله برهانيا من قبل الأشعري.

والحقّ انّه يمكن أن يكون من قبله جدلا والزاما على الحكماء أيضا. وما استدلّ به على عدم امكان جعله جدليا يرد عليه : انّه لا ريب في أنّ أحد مقدّمات هذا الدليل ـ وهو لزوم التسلسل في الشروط ـ جدليّ للزومه على مذهب الحكيم دون

٢٦٣

الأشعري ، وهو يكفي لكونه جدليا ، ولا يلزم أن يكون باقي مقدّماته أيضا جدليا. ولا يلزم من استعمال مقدّمة في الدليل جدلا أن يكون جميع مقدّماته ممّا يسلّمه الخصم ، بل يجوز أن يكون بعض مقدّماته ممّا يعتقد المستدلّ كونه برهانيا وإن لم يسلّمه الخصم فاذا كان لزوم التسلسل في الشروط مسلّما عند الحكيم لزم كونه جدليا وان كان بطلانه غير مسلّم عنده ، بل كان ممّا اعتقده الأشعري وثبت عنده بالبرهان ، هذا.

وقال بعض الفضلاء : انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة غير تامّ ، إذ هم يجوّزون تخلّف المعلول عن العلّة التامّة واستحالته مأخوذة في الدليل.

واجاب عنه بعض الأعلام : بانّ المذكور في الاستدلال هو التخلّف عن الموجب التامّ وهو باطل باتفاق العقلاء ، لكن الأشاعرة ينفون الموجب مطلقا لا أنّهم يجوّزون التخلّف ؛ كيف وهو في قوّة اجتماع النقيضين؟!. وأمّا تخلف المعلول عن العلّة التامة فهو وان كان جائزا عقلا عندهم لكنّه غير واقع ومستحيل عادة نعم! تخلّف العلّة التامة عن المعلول بمعنى انفكاك ذاته في الأزل عن ايجاد الفعل مطلقا جائز وواقع عند أكثر المتكلّمين ، لأنّ ذاته ـ تعالى ـ مع علمه وارادته علّة تامة في الأزل لوجود العالم عندهم ، بل موجب تامّ عند بعضهم ـ كالمحقق الطوسي واتباعه ـ ، والعالم غير موجود فيه وبناء تجويز ذلك عند كلّ طائفة أمر وعند المحقّق الطوسي هو العلم بالأصلح ؛ انتهى.

وحاصله : انّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ والكلام في الاستدلال انّما هو فيه ، وهو صحيح لا غبار عليه ، كما مرّ غير مرّة من أنّ الأشاعرة لا يجوّزون التخلّف عن الموجب التامّ وإن جوّزوا التخلّف عن الفاعل المختار بسبب الإرادة ، لا بأن يكون التخلّف جائزا بعد تعلّق الإرادة بالفعل ـ لوجوبه حينئذ عندهم ـ ، بل قبل تعلّقها بمعنى انّ تعلّقها بالفعل ليس بواجب ، فيجوز للفاعل المستجمع لجميع الشرائط أن يريد الفعل وأن لا يريد ، لجواز الترجيح بلا مرجّح.

فالتخلّف الجائز عن الفاعل المختار هو التخلّف عن المختار المستجمع للشرائط من الدواعي وغيرها سوى الإرادة ، ومع الإرادة لا يجوّزون التخلّف. ولا ريب انّ الفاعل بدون تعلّق الإرادة ليس علّة تامّة وان حصل جميع ما سواه من شرائط

٢٦٤

التأثير. فما ذكره المجيب المذكور من أنّ التخلّف عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ليس على ما ينبغي!.

قال بعض أهل التحقيق : ان مذهب الاشاعرة في صدور الفعل عن الفاعل المختار انّه يصدر عنه بدون اللزوم والوجوب في الاختيار والإرادة ، كما هو زعم المعتزلة من انّه لا بدّ من مرجّح في الفعل يوجب تعلّق الإرادة مثل كونه أصلح للصدور ، لأنّ الاشاعرة قالوا : المختار مرجّح بإرادته من غير مرجّح يوجب تعلّق الإرادة وان كان صدور الأثر بعد تعلّق الإرادة واجبا. فلا يتوهّم أنّ الأشاعرة ينفون وجوب الفعل والأثر بعد تعلّق الإرادة ، بل القول بانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد متّفق عليه بين الكلّ إلاّ شرذمة قليلة من المتكلّمين القائلين بالأولويّة / ٦٠ MA / الغيرية ، فالوجوب واللزوم اللذان ينفيهما الاشاعرة وجوب تعلّق الإرادة بسبب موجب له ـ كالأصلحية مثلا ـ ، لا وجوب الفعل بغير الإرادة. وقد اعترض عليهم : بانّ ما قيل في وجوب الفعل آت بعينه في تعلّق الإرادة أيضا ؛ انتهى. وقال بعض آخر من الأعاظم : انّ ما نسب إلى الأشعري من انّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة جائز عقلا عندهم ممّا لم أقف على مأخذه! ؛ بل ظاهر كلام المواقف وشرحه انّهم يقولون باستحالة التخلّف عقلا. قال في المواقف : الإرادة القديمة يوجب المراد ؛ وفي شرحه : اي : إذا تعلّقت إرادة الله ـ تعالى ـ بفعل من أفعال نفسه لزم وجود ذلك الفعل وامتنع تخلّفه عن ارادته ، اتفاقا من أهل الملّة والحكماء أيضا(١) ؛ انتهى.

وأيضا اورد في بحث الاختيار من جانب القائلين بايجاب السؤال : بأنّ قدرته ـ تعالى ـ متعلّقة في الأزل بهذا الطرف وبه يجب وجوده ، وحينئذ فما الفرق بين الموجب والمختار؟ ؛

وأجاب : بانّ الفرق انّه بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن تعلّق قدرته يستوي إليه الطرفان ، ووجوب هذا الطرف وجوب بشرط تعلّق القدرة والإرادة به ، لا وجوب ذاتي كما في الموجب بالذات / ٥٦ DB / ؛ ولا يمتنع عقلا تعلّق قدرته بالفعل بدلا

__________________

(١) ما وجدت العبارة في المواقف وشرحه.

٢٦٥

من الترك وبالعكس. وأمّا الموجب فانّه يتعين تأثيره في أحدهما ويمتنع في الاخر عقلا ؛ انتهى.

وتوضيح المقام : انّ مذهب الأشاعرة هو أنّ الفعل بعد تعلّق الإرادة به يصير واجبا ، ومرادهم بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامة هو هذا ـ أي : يمتنع تخلّفه عن الفاعل بعد تعلّق الإرادة واستجماعه لسائر الشرائط ـ. ولكن تعلّق الإرادة به ليس بواجب ، لانّ الفاعل المستجمع لجميع الشرائط يمكن أن يريد الفعل وأن لا يريد ـ بناء على جواز الترجيح بلا مرجّح ـ. والمراد بنفيهم الايجاب هو هذا ؛ أي : ليس شيء من الأفعال ممّا يجب صدوره عن الفاعل ، فانّ عدم ارادته له ممكن وحينئذ لم يصدر ذلك وإن كان بعد تعلّق الإرادة يجب الصدور البتة. وعلى هذا فالوجه في تمشّى الاستدلال المذكور على مذهب الأشاعرة هو انّهم يقولون : إذا كان الفاعل موجبا لا بدّ أن تكون ارادته واجبة الصدور منه ، فحينئذ فجميع الشرائط ان كانت حاصلة في الأزل يجب القدم وإلاّ يتوقّف على شرط حادث ، وأمّا إذا لم يكن موجبا فيجوز أن يكون جميع الشرائط حاصلة في الأزل ، ولكن لم تتعلّق به الإرادة في الأزل ، فلم يوجد الفعل وتعلّقت به فيما لا يزال ، فوجد الفعل ؛ هذا.

وقد بقي في المقام اشتباه ربما يزلّ به بعض الاقدام لا بدّ من الاشارة إلى دفعه. وهو : انّكم قلتم في مقام الاستدلال : لو كان الفاعل موجبا بالمعنى المذكور وكان العالم حادثا لزم التوقّف على شرط حادث لازم لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ؛ فنقول : إن كانت المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب المذكور على الاطلاق كان الاستدلال حينئذ تامّا من قبل المعتزلة ولا يرد عليهم المعارضة ، كما انّه تامّ من قبل الأشاعرة. ولو لم تكن لازمة له على الاطلاق لم يكن الاستدلال المذكور تامّا من قبل الاشاعرة أيضا ، كما انّه ليس تامّا من قبل المعتزلة ، لأنّ المقدّمة المذكورة إذا لم تكن لازمة للايجاب بالمعنى المذكور كيف يجوز للأشعري أن يقول ـ على فرض الايجاب المذكور ـ : إذا كان العالم حادثا لزم التسلسل في الحوادث إن كان تأثيره ـ تعالى ـ في الحادث محتاجا إلى مرجّح غير الإرادة؟! ، وأنّى له أن يدّعى اللزوم بين غير المتلازمين؟!.

٢٦٦

ووجه الدفع فيه : انّ المراد بعدم كون المقدّمة المذكورة لازمة لفرض الايجاب بالمعنى المذكور ـ أي : الايجاب بالمعنى الاخصّ المساوق للقدم في مقام المعارضة ـ انّها ليست لازمة لفرض هذا الايجاب المخصوص على أن يكون للخصوصية دخل في الاستلزام وإن كان لازما لمطلق الايجاب ـ أي : الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء ، وهو الايجاب الخاصّ المذكور المساوق للقدم ـ والايجاب بالاعتبار الّذي قال به المعتزلة ـ أي : وجوب الفعل في آن حدوثه بسبب الداعي ـ ، فالمراد بعدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب المذكور هو انّ تلك المقدمة ليست لازمة لفرض خصوص هذا الايجاب الّذي قصد هاهنا ابطاله ، فلا يمكن استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي قال به المعتزلة ، لأنّه لو كان لخصوصية الايجاب المذكور دخل في استلزام المقدّمة لامكن أن يبطل بها الايجاب المذكور ويثبت بها الايجاب الآخر ، ولكن لم يكن اللزوم لخصوصية الايجاب المذكور ، بل كان لمطلق الايجاب لم يمكن ابطال قسم منه واثبات قسم آخر.

والمراد بلزوم المقدّمة المذكورة للايجاب بالمعنى المذكور في الاستدلال هو لزومها له في ضمن مطلق الايجاب المشترك بين ايجاب الحكماء وايجاب المعتزلة ، وعلى هذا فالايجاب سواء كان بالمعنى المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع / ٦٠ MB / الانفكاك المساوق للقدم ـ أو بالمعنى الّذي اثبته المعتزلة ـ وهو الوجوب بالداعى في آن الحدوث المسمّى بالاختيار المقابل للايجاب المقصود هاهنا ـ مستلزم للمقدّمة المذكورة. فكما يرد حينئذ لزوم المقدّمة المذكورة على الحكيم يرد على المعتزلى أيضا ، فالمعارضة واردة على المعتزلة. ولو كانت المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص ايجاب الحكماء لزم ورودها عليهم فقط لا على المعتزلة ، وكان لهم أن يقولوا : الايجاب الّذي نحن نثبته غير مستلزم لتلك المقدمة ، فلم يتوجّه عليهم المعارضة.

ثمّ لمّا كانت تلك المقدّمة لازمة للايجاب المطلق فيمكن للأشعري ـ الّذي لا يقول بالايجاب اصلا ـ ابطال مطلق الايجاب بلزومها ؛ فانّ للأشاعرة في هذا المقام مطلوبين : أحدهما نفى الايجاب الخاصّ المستلزم للقدم المخصوص بالحكماء ؛ وثانيهما : نفى مطلق

٢٦٧

الايجاب المشترك بين الحكماء والمعتزلة ، بل اثبات الاختيار المستلزم لجواز الترجيح بلا مرجّح المختصّ بهم والمقدمة المذكورة وان كانت غير مسلّمة عندهم أيضا ولا لازمة لفرض الايجاب الأوّل لكنّها لازمة لفرض الايجاب الثاني على زعمهم ، بل لنفي الاختيار المخصوص بهم ، فيصحّ استعمالهم في اثبات المطلوب الثاني دون الأوّل. وعلى ما ذكر يندفع الاشتباه ولا تبقى شبهة أصلا.

والعجب انّ بعض الاعاظم بعد أن / ٥٧ DA / أورد في المقام حاصل ما ذكرناه قال : فان قيل : كيف يجوز عند الأشاعرة لزوم تلك المقدّمة لفرض الايجاب المطلق ولا يجوز للايجاب الخاصّ ؛ واجاب : بانّ عدم لزوم تلك المقدّمة للايجاب الراجع إلى القدم من جهة انّ فرض الحدوث المذكور فيها مناف لفرض ذلك الايجاب ، إذ محصّل الكلام انّه على تقدير قدم العالم لو كان حادثا لتوقّف على شرط حادث ، وبطلانه ظاهر. بخلاف الايجاب المطلق ، فانّه لا منافاة بين فرضه وفرض حدوث العالم ، فيحتمل لزوم تلك المقدّمة على فرضه دون الاول ؛ انتهى.

ووجه التعجّب : عدم توجّه السؤال وازالة الاشتباه بالكلّية بعد ذكر ما أوردناه ، لأنّا ذكرنا انّا لا نقول بعدم لزومها للايجاب الخاصّ ، بل نقول انّه ليس لخصوص ذلك الايجاب دخل في لزومها ، فلا يتمشّى استعمالها في ابطال خصوص ذلك الايجاب واثبات القسم الآخر من الايجاب الّذي تجري المقدّمة المذكورة في ابطاله أيضا. نعم! يمكن استعماله في ابطال مطلق الايجاب كما هو رأي الأشعري ؛ وعلى هذا يتمّ المطلوب ولا يبقى مقام للاشتباه والسؤال ، فلا ايراد.

ثمّ ما ذكره في الجواب فلا يخفى وهنه! ، لانّا ذكرنا مرارا انّ بناء الاستدلال على فرض اجتماع الحدوث مع الايجاب بالمعنى المذكور وقطع النظر عن استحالته. على انّه على ما ذكره تكون المقدّمة المذكورة لازمة لخصوص الايجاب الّذي يقول به المعتزلة لا ما يقول به الحكماء أيضا ، فلا يمكن للأشعري نفي مطلق الايجاب بلزومها ، مع انّه قد صرّح بلزومها للايجاب المطلق ؛ هذا.

وربما يتراءى في المقام أن يقال : انّ للايجاب المقصود هنا ـ أعني : ايجاب

٢٦٨

الحكماء ـ معنى آخر غير الايجاب الّذي يقول به الحكماء والمعتزلة ـ أي : صدور الشيء بالوجوب واللزوم ـ وهو المراد بالايجاب المطلق. وليس الايجاب الأوّل ـ أعني : ايجاب الحكيم ـ فرد ، فلا يلزم من لزوم تلك المقدّمة للايجاب الثاني لزومها للأوّل أيضا. وعلى هذا فلا تكون المقدّمة المذكورة لازمة للايجاب بالمعنى المقصود هاهنا ، لا بخصوصه ولا في ضمن مطلق الايجاب الّذي أثبته الحكيم والمعتزلي ؛ فلا يمكن ابطال الايجاب المذكور بلزومها اصلا.

وهو مردود بأنّ ايجاب الحكيم وإن كان معنى آخر لكن لا شكّ في انّه مستلزم للايجاب بالمعنى الثاني ، إذ امتناع انفكاك الأثر عن المؤثّر لا يكون إلاّ إذا كان صدوره عنه بالوجوب واللزوم ، وإذا كان مستلزما له فيكون مستلزما للازمه أيضا ؛ على انّه لو كان الأمر على ما توهّم لما كان للأشعري أيضا أن يبطل الايجاب المختصّ بالحكماء بلزوم المقدّمة المذكورة.

تنبيه

على ما ذكرنا من تمشّي الدليل المذكور من قبل الأشاعرة في نفي المرجّح ونفي الايجاب المطلق لا يتوهّم أحد منهم انّ كلامهم صحيح واستدلالهم في الواقع ونفس الأمر تامّ! ، بل هو عند التحقيق ساقط.

وتوضيح الكلام في هذا المقام : انّ الاشاعرة جوّزوا الترجيح بلا مرجّح ونفوا الاحتياج إلى المرجّح مطلقا وقالوا بجواز صدور الفعل عن الفاعل بدونه. وانّما أقاموا الدليل المذكور أوّلا على ذلك المطلوب ، وحاصله : انّه لو كان تأثير الواجب في الحادث يحتاج إلى مرجّح غير الإرادة لزم قدم العالم أو التسلسل في الحوادث. ولمّا كان هذا الدليل المذكور أوّلا على نفي الايجاب أيضا استعملوه فيه أيضا ، فان استعملوه في نفي الايجاب المطلق المقصود منه الايجاب بالاختيار أيضا ـ أي : الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة ـ كان حاصل كلامهم حينئذ انّ تأثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى وجوب الفعل ولزومه ، بل بالاختيار بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس

٢٦٩

إرادة الفاعل المختار ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في / ٦١ MA / الحوادث ؛ وان استعملوه في نفي الايجاب المقصود هاهنا ـ أعني : امتناع الانفكاك ـ كان حاصل كلامهم انّ تاثيره ـ تعالى ـ في العالم ليس بالايجاب بمعنى امتناع الانفكاك ، وإلاّ لزم القدم أو التسلسل في الحوادث. ولا ريب انّ قولهم بنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة انّما هو مبني على قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ ، إذ على تقدير جوازه لا يتحقّق لشيء من الفعل والترك وجوب ولا اولوية بالنسبة إلى الفاعل في شيء من الاوقات ، وانّما التعيين والتخصيص من جهة الإرادة من دون وجوب تعلّقها بشيء من الطرفين وإن وجب بعد تعلّقها.

ثمّ لا يخفى انّ قولهم الأوّل ـ أعني : جواز الترجيح بلا مرجّح ـ اصل من اصولهم وليس مبتنيا على أصل آخر مسلّم عندهم ، وهذا الأصل في غاية الفساد ، ودليلهم المذكور في اثباته في غاية الضعف والوهن ؛

أمّا أوّلا : فلأنّه لا يدلّ إلاّ على نفي المرجّح الحادث ، اذ القدم أو التسلسل في الحوادث انّما يلزم إذا كان التأثير في الحوادث موقوفا على مرجّح حادث ، وامّا إذا اكتفى بتوقّفه على مرجّح قديم يرجّح وجود الحادث على عدمه في وقت خاصّ ـ أعني : الداعي القديم ـ كالعلم بالأصلح على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة أو قلنا بانّ المرجّح هو ذات الوقت وعدم وقت قبل وقت الحدوث على ما هو الحقّ ، فلا يلزم قدم ولا تسلسل ، إذ كلّ واحد من الداعي وذات الوقت يكفي لتخصيص ايجاد الحادث.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإرادة المجرّدة من دون انضمام المرجّح لتعلّقها بأحد الطرفين / ٥٧ DB / لا تكفي للترجيح ـ كما مرّ ـ ، فقولهم بنفي الايجاب الخاصّ صحيح على أصولهم.

وأمّا قولهم الثاني ـ أعني : نفي الايجاب الخاصّ ـ فهو مبني على قولهم الأوّل ، فانّه إن كان صحيحا مسلّما لكان هذا أيضا صحيحا ، إلاّ انّه لمّا كان اصلهم الّذي بنى عليه هذا القول فاسدا لكان هذا القول أيضا فاسدا في الواقع ونفس الأمر ، لأنّه إذا لم يجز الترجيح بلا مرجّح لم يجز صدور الفعل بدون الوجوب واللزوم ، فلا بدّ في صدور الفعل حينئذ من

٢٧٠

وجوبه. والوجوب في فعل الواجب يكون عند المليين إمّا بالداعى أو بذات الوقت ، فهما يكفيان لتصحيح الايجاب الخاصّ وتخصيص ايجاد الحادث بوقته لئلاّ يلزم قدم ولا تسلسل ، لأنّ الداعي القديم أو عدم وقت قبل وقت الحدوث اقتضى على سبيل الوجوب ايجاد الحادث في وقته المعين ، فهو كاف للترجيح ولا يفتقر إلى مرجّح آخر ؛ فمع حدوث الحادث بهذا المرجّح لا يلزم قدم ولا تسلسل. فلو استدل الأشعري بالحدوث وجعله وسطا لنفي الايجاب الخاصّ الّذي قال به المعتزلة فلنا أن نقول : الوسط في هذا الدليل يجمع مع الايجاب الخاصّ فلا يدلّ على نفيه ، وحينئذ فيمكن أن يمنع الشرطية القائلة بانّه لو كان حادثا لتوقّف المحال مستندا بانّه مع فرض الايجاب الخاصّ لا يتوقّف الحادث على شيء آخر ، بل يكفى الداعي أو ذات الوقت للتخصيص والترجيح. وحينئذ فيمكن أن يلتزم جواز التخلّف عن الموجب بهذا الايجاب. لانّه لا تخلّف حقيقة عن العلّة التامة حينئذ ، لأنّ العلّة التامة هي الواجب مع الداعي على نحو ما تعلّق. وأيضا لا يقتضي شيء من قواعد الأشاعرة لزوم التوقّف المذكور لفرض الايجاب بالاختيار ، إذ هما متنافيان ظاهرا ، إذ فرضه ـ أي : فرض الايجاب بالاختيار ـ في قوّة فرض عدم احتياج الحادث في التخصيص إلى حادث آخر ، فظهر انّ الدليل المذكور من قبل الأشاعرة على جواز الترجيح بلا مرجّح وعلى نفي الايجاب بالاختيار في ضمن الايجاب المطلق غير تامّ. ولذا لم يتعرّض أكثرهم في اثبات جواز الترجيح بلا مرجّح لهذا الدليل ولم يذكر في الكتب الكلامية دليل من قبلهم على هذا المطلب ، بل ادّعوا فيه الضرورة ونبّهوا عليه ببعض الأمثلة كرغيفي الجائع وطريقي الهارب. وقد ظهر أيضا انّ القول بجواز الترجيح بلا مرجّح يستلزم القول بنفي الايجاب الخاصّ المعتبر عند المعتزلة. وأمّا العكس فغير ثابت ، لأنّ الحكماء قائلون بنفي الخاصّ لقولهم بامتناع الانفكاك المنافي للقول بالايجاب الخاصّ الّذي يعتبر فيه نحو من الانفكاك.

وأمّا القول بامتناع الترجيح بلا مرجّح فلا يستلزم القول بثبوت الايجاب الخاصّ ، لما مرّ من مذهب الحكماء ؛ ولما ذهب إليه محمود الخوارزمي كما نقل عنه فخر الدّين

٢٧١

الرازي في الاربعين بانّه قال : الترجيح يفيد الاولوية دون الوجوب(١) ، وأمّا عكسه فثابت لأنّ كلّ من قال بتحقيق الايجاب الخاصّ قال باستحالة الترجيح بلا مرجّح ، فالقول بنفي الايجاب الخاصّ يدور مع القول بجواز الترجيح بلا مرجّح وجودا لا عدما ، والقول بثبوته يدور مع القول بامتناعه عدما لا وجودا ، وامّا قولهم بنفي الايجاب بمعنى امتناع الانفكاك فهو يدور مع القول بالقدم وجودا وعدما وبالعكس ؛ ولذا جميع القائلين بالحدوث نفوه وبالعكس وجميع القائلين بالقدم اثبتوه وبالعكس. فقولهم بنفي هذا الايجاب صحيح على أصولهم وقواعدهم وصحيح في الواقع ونفس الأمر أيضا ، ودليلهم عليه تمام على الفلاسفة. ولا يمكن للفلاسفة أن يعارضوهم بصورة الاختيار بأنّه يلزم حينئذ أيضا امّا القدم أو التوقّف على الشروط الغير المتناهية ، لأنّهم لمّا جوّزوا الترجيح بلا مرجّح فيجوز لهم أن يقولوا لا يفتقر حدوث الحادث إلى مرجّح سوى الإرادة ليلزم أحد الأمرين ، ولا يمكن للفلاسفة أن يلتزموا مثل ذلك لتتمّ المعارضة ، فدليلهم تامّ على أصلهم هذا لا فى الواقع ونفس الأمر. وأمّا المعتزلة فلمّا لم يجوّزوا الترجيح بلا مرجّح فالدليل المذكور من قبلهم غير تامّ على أصولهم ، لأنّه إذا عارضهم الفلاسفة بصورة الاختيار فان أجابوا بعدم لزوم أحد الأمرين لكفاية الداعي فللفلاسفة أيضا أن يلتزموا مثل ذلك ـ كما تقدّم ـ ، فتتمّ المعارضة عليهم.

ومنها ـ أي : ومن وجوه الاختلال في الاستدلال المذكور / ٦١ MB / إذا جعل دليلا لنفي الايجاب المذكور ، أي : استحالة الانفكاك ـ : انّ المراد من استلزامه القدم انّه مستلزم للقدم بالنوع يعني قدم الفعل المطلق ـ أي : طبيعة الفعل أو الفرد المنتشر ـ ، لا قدم فرد شخصيّ أو جميع الاشخاص. وحينئذ فيرد انّ استلزام الايجاب بالمعنى المذكور لقدم الفعل المطلق بديهى ، لأنّ عدم انفكاك الواجب عن العالم اي فعل ما هو بعينه قدم فعل ، فانّ الاستدلال عليه باستلزام نقيضه التوقّف على الشرط الحادث لغو مستدرك. والمراد بنقيضه هو الحدوث بالنوع ـ أي : حدوث الفعل المطلق ـ ، إلاّ انّا لا نريد هنا بالحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق وأمثالهما حدوث فعل ما أو

__________________

(١) راجع : الاربعين ، ج ١ ، ص ٣٢٠ ، ٣٢١.

٢٧٢

حدوث طبيعة الفعل المتحقّق في ضمن فعل ما أو حدوث طبيعة الفعل / ٥٨ DA / المتحقّق في ضمن فعل ـ أعني : طبيعة ما ـ ، بل المراد حدوث مطلق النوع والطبيعة ـ أي : عموم هذا المفهوم المتحقّق في ضمن جميع الافراد بأن لا تكون طبيعة ما من طبيعة الفعل قديما أيضا ـ. فالمراد من الحدوث بالنوع وحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراد الفعل والسرّ في ذلك انّ المراد بقدم الفعل المطلق ما يطلق عليه الفعل ـ أعني : فردا ما ـ ، والمراد بحدوث الفعل المطلق نفي ذلك القدم ـ أعني : قدم فردا ما ـ ؛ والنفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فيكون المراد حدوث جميع الافراد.

ومنها : انّ التخلّف عن الموجب التامّ أو التسلسل في الشروط الحادثة وإن كان محالا لكن جاز أن يكون لازما ، لاجتماع المتنافيين وهما الموجب بالمعنى المذكور وحدوث أثره المطلق ، أي : عدم كون فعله المطلق قديما بان يكون مجموع افعاله وآثاره حادثا.

وأورد على هذا الوجه : بانّه خارج عن آداب المناظرة ، لانّه إذا سلّم محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور يثبت مطلوب المستدلّ ، إذ ليس غرضه إلاّ انّه على هذا التقدير يلزم القدم ، والمورد قد سلّمه ، فلا ايراد.

فان قيل : المقصود ليس إلاّ ابطال الاستدلال لا ابطال المدّعى ـ أعني : محالية الحدوث على تقدير الايجاب المذكور ـ ، فلا يثبت انّ المدّعى ـ أعني : محالية حدوث الفعل المطلق على تقدير الايجاب بالمعنى المذكور ـ بديهي لا يحتاج إلى الاستدلال ، فالغرض هنا

ليس إلاّ التنبيه على فساد الاستدلال ، وهو يحصل بما ذكر ـ أعني : امكان استلزام المحال المحال ـ ؛

قلنا : للمستدلّ أن يقول : بناء الاستدلال على فرض جواز اجتماع الايجاب المذكور والحدوث ، فانّا فرضنا جواز الحدوث على هذا التقدير وأقمنا الاستدلال ، وليس بناء الاستدلال على فرض الايجاب المذكور ومحالية الحدوث ، فلا يرد علينا شيء إلاّ ما ارتكبنا من التطويل. وأمّا الايراد بانّ الحدوث على هذا التقدير محال فلا يتمّ استدلالكم ، فلا يضرّنا ، بل هو مدّعانا!. نعم! لو أجرينا الدليل على تقدير محالية هذا

٢٧٣

الحدوث لورد علينا مع ارتكاب هذا التطويل هذا الايراد ، لكن ليس كذلك ، بل أجرينا الدليل على فرض جواز الحدوث على ذلك التقدير ، فلا ايراد علينا.

ومنها : انّ توقّف حدوث الفعل المطلق على شرط حادث مستلزم للخلف. بيانه : انّه لو كان الفعل المطلق حادثا والفاعل موجبا فلا ريب في انّ أوّل ما يحدث عن ذلك الفاعل يجب أن يتوقّف على الشرط لئلاّ يلزم التخلّف المحال ، فيلزم أن يكون أوّل ما صدر عنه ذلك الشرط لا المشروط المفروض أوّلا ، هذا خلف!.

وانت تعلم انّ هذا أيضا نافع للمستدل وليس مضرّا له ـ كما لا يخفى ـ.

ومنها : انّ توقّف الحادث على تقدير الايجاب المذكور على شرط حادث مستلزم لتقدّم الشيء على نفسه. بيانه : انّا قلنا انّ المراد بلزوم قدم العالم على فرض الايجاب المذكور هو قدم الفعل المطلق ـ أي : ما يطلق عليه الفعل ، أعني : فردا ما ـ ، فاذا ورد عليه النفي كان المنفي مجموع الافراد ، لأنّ النفي إذا ورد على الفرد المنتشر الّذي هو معنى النكرة يفيد العموم ، فاذا لم يكن الفعل المطلق قديما يكون جميع الأفعال حادثة موقوفة على شرط حادث خارج عنها ، وذلك الشرط أيضا من جملة الافعال الّتي يتوقّف على الشرط المذكور ، فيكون ذلك الشرط موقوفا على نفسه ، فتصير صورة الاستدلال هكذا : لو كان الفاعل موجبا لزم أن يكون فعل ما قديما وإلاّ ـ أي : وإن لم يكن فعل ما قديما ـ يكون كلّ فعل حادثا ، وإذا كان كلّ فعل حادثا يلزم توقّف هذا الحدوث ـ أعني : حدوث المجموع ـ على شرط حادث هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فذلك الشرط لكونه من الفعل المطلق يجب أن يكون داخلا فيه ، ولكونه شرطا له ـ أي : للفعل المطلق ـ يجب أن يكون مقدّما عليه ، فيلزم تقدّمه على نفسه. وعلى ما ذكر فلزوم توقّف الشيء على نفسه ـ أعني : الدور ـ ظاهر لا يقبل المنع ، لأنّه إذا كان المراد بحدوث الفعل المطلق هو حدوث جميع افراده ، والشرط المتوقّف عليه كان من جملة الافراد.

ثمّ ( ان )(١) توقّف مجموع الافراد على الشرط المذكور لكان الشرط المذكور أيضا يتوقّف على نفسه ، فيلزم توقّف شيء شخصى بعينه على نفسه ، وهو الدور.

__________________

(١) لفظة « ان » غير موجودة في النسختين ، ونحن اضفناها لمكان احتياج المعنى إليها.

٢٧٤

وبذلك يظهر ضعف ما أورده بعض الأفاضل : انّه على تقدير حدوث الفعل المطلق لا ريب في لزوم توقّفه على الشرط ، إلاّ انّ اللازم تقدّم فرد من العالم على فرد آخر لا تقدّم الشيء على نفسه.

والظاهر انّ هذا المورد حمل المطلق على الفعل العامّ المشترك بين جميع الافراد ، وفهم حينئذ وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ـ كما فهمه بعض آخر ـ : انّ الشرط الحادث الّذي يتوقّف عليه الفعل المطلق العامّ فرد من أفراد هذا العامّ ، فيكون الفعل العامّ متحقّقا فيه ، فاذا توقّف هذا العامّ المتحقّق في ضمن بعض الافراد على هذا العامّ المتحقّق في ضمن الشرط / ٦٢ MA / المذكور يلزم تحقّق الطبيعة قبل تحقّق الطبيعة ، وهو تقدم الشيء على نفسه ؛ فأورد : بانّ اللازم حينئذ تقدم فرد على فرد وهو كذلك ، فانّ غاية الأمر انّ تحقق هذا المطلق في ضمن فرد يتوقّف على تحقّقه في ضمن فرد آخر ، ولا مانع فيه ، لأنّ الطبيعة ليس لها تحقّق على حدة وتحقّقها انّما هو بتحقّق فرد منها ، فتقدّمها على نفسها بتقدّم فرد منها على فرد آخر إنّما هو في الحقيقة تقدّم فرد منها على فرد آخر ـ كما مرّ / ٥٨ DB / في مباحث اثبات الواجب ـ. فلا يلزم هنا على هذا من توقّف الفعل المطلق على ما حملوه عليه على الشرط إلاّ تقدّم الشرط من أفراد الفعل المطلق على المشروط به منها ، فالصحيح في وجه لزوم تقدّم الشيء على نفسه ما ذكرناه. وحينئذ لا مجال للايراد اصلا.

ثمّ أنت تعلم انّ لزوم تقدّم الشيء على نفسه من فرض الحدوث لا يضرّ المستدلّ ، بل هو مؤكّد لمطلوبه. لأنّ غرضه انّ الحدوث مع فرض الايجاب المذكور يتضمّن مفسدة لزوم التسلسل ، فاذا أورد عليه بانّه يتضمّن تقدّم الشيء على نفسه أيضا ، فله أن يقول : ذلك يؤكّد مطلوبي ، فالواجب عدم حدوث العالم في صورة الايجاب المذكور بل اللازم حينئذ قدمه. وبالجملة هذا الايراد كسابقه خارج عن آداب المناظرة ، لانّ غرض المستدلّ ابطال التوقّف ، فبطلانه من جهة استلزام توقّف الشيء على نفسه أقوى دليل على مطلوبه.

ثمّ مع لزوم تقدّم الشيء على نفسه إن كان التسلسل أيضا لازما فيلزم فيه

٢٧٥

محذوران ، وأن منع لزوم التسلسل.

وقيل : انّ ذلك الشرط الحادث يتوقّف على نفسه لا على شرط حادث آخر ، فلا يلزم إلاّ تقدّم الشيء على نفسه دون التسلسل ، وحينئذ يلزم محذور واحد نعم! لو قيل في صورة التسلسل : لا يلزم تقدّم الشيء على نفسه ـ لأنّ التسلسل وتقدّم الشيء على نفسه لا يجتمعان ـ ، لكان له وجه ولم يكن لهذا الايراد مجال.

ومن الأفاضل من حكم بصحّة اجراء الدليل المذكور إن جعل المفسدة فيه لزوم تقدّم الشيء على نفسه لا لزوم التسلسل ، حيث قال بعد أن جزم بأنّ الاستدلال المذكور لا يصحّ اجرائه من قبل المعتزلة ولا من قبل الاشاعرة برهانيا ولا الزاميا لبعض الوجوه السابقة : نعم! يمكن اجرائه الزاميا على تقرير آخر على تقدير حدوث الفعل المطلق بأن يقال : لو كان الفاعل موجبا لزم قدم الفعل المطلق وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، لأنّه لو كان الفعل المطلق حادثا لتوقّف حدوثه على شرط هو أيضا فعله ـ تعالى ـ ، فهو من حيث انّه داخل في الفعل المطلق متأخّر ومن حيث انّه شرط لحدوث الفعل المطلق متقدّم ، فيلزم تقدّمه على نفسه ؛ انتهى.

وما ذكره من عدم صحّة اجرائه من قبل الأشاعرة قد علمت خلافه ممّا تقدّم ؛ هذا.

وقد بيّن بعض الأفاضل لزوم تقدّم الشيء على نفسه في الاستدلال المذكور بوجه آخر سوى ما ذكرناه ، وهو : انّ الحادث المذكور ـ أي : الّذي كلامنا فيه ـ بانه يتوقّف على شرط حادث هو أوّل الحوادث ، فالشرط الحادث إمّا أن يكون عينه أو متأخّرا عنه. وهذا على تقدير الحدوث بالنوع ـ بأن يكون الفعل المطلق حادثا لحدوث مجموع الأشخاص ـ ظاهر جدّا ، إذ لا يبقى شيء يكون خارجا عنها حتّى يكون شرطا لها متقدّما عليها ، وحينئذ يلزم إمّا تقدّم الشيء على نفسه أو على ما يتقدّم عليه.

وأورد عليه : بانّ الحادث المذكور لعلّه لا يكون أوّل حادث بل يوجد في مرتبة واحدة أمور غير متناهية على سبيل الاجتماع ، ويكون كلّ واحد منها موقوفا على واحد آخر ، وحينئذ فكلّ واحد حادث يتوقّف على شرط حادث آخر وهكذا ، و

٢٧٦

لا ينتهي إلى أمر يكون أوّل الحوادث ـ أعني : يكون متأخّرا عن نفسه أو عمّا يتأخّر عنه ـ ، فلا يلزم إلاّ التسلسل على سبيل الاجتماع ، لا توقّف الشيء على نفسه.

ومنها : انّه اذا كان أثر الموجب بالمعنى المذكور حادثا بشخصه أو بنوعه يلزم التخلّف البتة ـ سواء توقّف على الشرط أم لا ـ ، فلا حاجة إلى اعتبار توقّفه على شرط حادث والتزام التسلسل. وتوضيح ذلك : انّ الموجب إمّا تامّ أو ناقص ؛ والتامّ مشترك بين الموجبين : أحدهما ما هو معتبر عند الحكماء ـ وهو ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ ، وثانيهما ما هو معتبر عند المعتزلة ـ وهو ما يوجب الفعل في وقته الّذي تعلّق ارادته به للعلم بالأصلح ـ. والناقص ما يتوقّف صدور الفعل منه على شرط. والموجب بالمعنى المشهور ـ أي : ما يجب صدور الفعل عنه ـ مشترك بين التامّ والناقص. ولا ريب أنّ الموجب المراد هنا هو الموجب التامّ المعتبر عند الحكيم ، والتخلّف عنه غير جائز مطلقا ، واذا توقّف فعله على شرط يتحقّق التخلف ويكون ناقصا لا تامّا.

واعترض بعض الأفاضل على ذلك بانّ الايجاب المقصود هنا لا ينافي عدم وقوع ما يقتضيه الفاعل الموجب بهذا الايجاب لمانع عائد إلى غيره ، إذ حاصل معنى هذا الايجاب هو اقتضاء الذات من جهة لزوم الداعي ، ونحوه امتناع الانفكاك عن الفعل وذلك لا ينافي جواز الانفكاك ، فلا مانع عائد إلى غير ذات الفاعل كعدم امكان الأثر وعدم وقت له قبل وقت حدوثه ، فيجوز أن يكون الموجب بهذا الايجاب غير مستجمع للشرائط المعتبرة في التأثير بحسب نفس الأمر ، فلا يكون تامّا. فلا يستحيل التخلّف عنه ، إذ المحال انّما هو التخلّف عن الموجب التامّ والموجب بهذا المعنى لوجود المانع عن التأثير ليس تامّا ؛ انتهى.

ولا يخفى انّ الموجب / ٦٢ MB / بالمعنى المقصود هنا ـ أعني : ما يمتنع انفكاك الفعل عنه ـ هو الذي قال به الحكماء ، وصرّحوا بأنّه يلزمه قدم فعله وجزموا بانّ الايجاب بهذا المعنى مساوق للقدم ، فهو ما يستحيل انفكاك الفعل عنه بالنظر إلى الداعي مطلقا سواء كان عائدا إلى الذات أو إلى الغير. ومقابله ما لا يمتنع عنه الانفكاك ولو بالنظر إلى الداعي الخارجي كعدم امكان الأثر وعدم / ٥٩ DA / تحقّق وقت قبل وقت

٢٧٧

الحدوث ؛ كيف ولو كان الايجاب المقصود هنا غير مناف لعدم وقوع ما يقتضيه الفاعل لمانع عائد إلى الغير ـ كعدم الوقت وغيره ـ لكان هو بعينه الايجاب الّذي قال به المعتزلة! ، ـ كما اخترناه أيضا ـ.

* * *

( بيان حقيقة معنى الايجاب والموجب )

ولما بلغ الكلام إلى هنا فلا بأس بأن نشير إلى حقيقة معنى الايجاب والموجب.

فنقول : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل لا بقدرة واختيار ـ كلفظ المضطرّ ـ ، فلا يطلق إلاّ على الطبائع كالماء والنار بالنسبة إلى مقتضى طبائعها. والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ يطلق على فاعل يجب عنه الفعل بقدرة واختيار.

وكلّ منهما قد يكون تامّا ويكون ناقصا. امّا الموجب ـ بالفتح ـ كالطبائع الّتي لا يتوقّف تاثيرها على حصول بعض الشرائط أو رفع بعض الموانع. وان توقّف وحصل الشرائط وارتفع الموانع تكون العلّة التامّة حينئذ هو الفاعل مع تلك الشروط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل فقط ناقص وناقصة ـ كالطبائع الّتي يتوقّف تأثيرها على أحدهما ـ. وأمّا الموجب ـ بالكسر ـ فتامّة كلّ فاعل يفعل بقدرة واختيار من دون توقّف فعله على شرط أو رفع مانع ؛ وناقصة ما توقّف فعله على أحدهما بعد حصول الشرط أو رفع المانع لا يخرج الفاعل عن النقصان ، لأنّ التمامية حينئذ للفاعل مع تلك الشرائط ورفع تلك الموانع ، فالفاعل بمجرّده ناقص.

ثمّ الحكماء لمّا قالوا بوجوب الفعل عنه ـ تعالى ـ بقدرة وإرادة غير منفكّة عنه ـ تعالى ـ وغير زائدة على ذاته لزمهم القول بعدم انفكاكه ـ تعالى ـ عن الفعل ، فيكون الواجب عندهم فاعلا موجبا ـ بالكسر ـ تامّا.

وأمّا المتكلّمون ؛ فالأشاعرة منهم قالوا : انّ القدرة والاختيار والإرادة زائدة على الذات ومنفكّة عنها في الأزل. لا أنّ تلك الصفات منفكّة عنها. بل بمعنى أنّ متعلّقها منفكّ عنها وقتا ما ؛ والمعتزلة منهم قالوا : انّ تلك الصفات ليست زائدة على الذات بل

٢٧٨

هي عينها ، إلاّ أنّ متعلّقها منفك عنها في الأزل لتعلّقها في الأزل بحصول المتعلّق فيما لا يزال نظرا إلى العلم بالمصلحة ؛ فعلى هذين المذهبين ـ أي : مذهب الأشاعرة والمعتزلة ـ لا يكون الواجب موجبا تامّا ، لتحقق الانفكاك المستلزم لتوقّف فعله ـ تعالى ـ على أمر آخر سوى ذاته. إلاّ أنّ ذلك لا يصير منشئا لنقصانه وعدم تماميته ، لأنّ الاصطلاح على أنّ التمامية هنا بمعنى عدم انفكاك الأثر. والانفكاك هنا إمّا لمراعات الأصلح أو لعدم الكماليّة في الأثر ، فلا يتطرّق شوب نقص على حريم كبريائه ـ تعالى ـ.

ويمكن أن يقال : انّ التامّ ما كان صدور الفعل عنه غير متوقّف على شرط خارج عنه ولا يخرج عن التمامية بالتوقّف على أمر داخل ولو حصل به الانفكاك بينه وبين الأثر ؛ والناقص ما توقّف صدور الفعل عنه على شرط خارج. وعلى هذا يكون الواجب عند المعتزلة موجبا تامّا لا ناقصا ، لعدم توقّف فعله على شيء سوى العلم بالأصلح وهو ليس خارجا عن ذاته ، بل عين ذاته عندهم. وعلى مذهب الأشاعرة لا يكون موجبا تامّا ، لكون الصفات عندهم زائدة على الذات.

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره بعض الأفاضل(١) حيث قال : الموجب ـ بصيغة المفعول ـ يكون معناه ما أثبت له الايجاب ، وهذا لا يكون إلاّ تامّا ؛ والموجب ـ بصيغة الفاعل ـ هو ما يفيض الوجوب إلى الغير ـ أي : إلى اثره ـ ، والموجب بهذا المعنى قد يكون تامّا وقد يكون ناقصا ؛ انتهى.

ووجه الضعف ما علمت من انّ كلاّ منهما يكون تامّا وناقصا.

ومن الفضلاء(٢) من أورد على ما نقلناه من بعض الأفاضل ، حيث قال : الظاهر من إطلاقاتهم أنّ لفظ الموجب انّما يطلق على كلّ فاعل مؤثّر في غيره ـ أي : باعتبار تأثيره في الغير لا باعتبار تأثيره عن الغير ـ. وعلى هذا لا يناسب اطلاق صيغة المفعول الّتي حاصل معناها ما اثبت له الايجاب على فاعل مؤثّر ، سواء كان من الطبائع أولا ؛

__________________

(١) هامش دال : هو ملاّ شمسا الجيلاني ـ ره ـ. منه.

(٢) هامش دال : آقا رضي القزويني ـ ره ـ. منه.

٢٧٩

اللهم إلاّ على المجاز.

وهو كما ترى.

ثمّ إنّ منشأ تكفير المتكلّمين للحكماء في الايجاب إمّا لزوم القدم لايجابهم ، وإمّا لزعمهم انّ الواجب ـ تعالى ـ عند الحكماء موجب بالفتح ـ وفاعليته ـ تعالى ـ عندهم كفاعلية النار في الاحراق والشمس في الإضاءة ـ تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ـ. وهذا الزعم غلط. فانّ الحكماء لا يطلقون عليه ـ تعالى ـ لفظ الموجب ـ بالفتح ـ ، ولو اطلقوه عليه احيانا فالظاهر انّهم يريدون منه كون الفاعل محكوما عليه بوجوب الفعل عنه ، لا كونه مضطرّا ؛ بل هو عندهم موجب ـ بالكسر ـ بمعنى انّه يجب الفعل بالقدرة والاختيار ، فهو موجب ـ أي : مفيض لوجوب المانع قاهر لجميع انحاء عدمه حتّى يصير موجودا ـ ؛ هذا.

واعترض بعض الأعاظم على هذا الايراد أيضا : بانّه لم يثبت فيما سبق حدوث جميع ما سوى الله ـ تعالى ـ مطلقا وإن كان بالنوع ، بل ذلك ممّا لا سبيل إليه عقلا. ولو سلّم ذلك لا يلزم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة وان كان يلزم التخلّف ، وذلك غير المدّعى في الايراد. وأيضا بناء الاستدلال ليس على فرض الايجاب في الأزل ، بل على الايجاب مطلقا والتخلّف مطلقا إنّما يلزم على فرض الايجاب في الأزل ـ أي : الايجاب بمعنى / ٥٩ DB / امتناع الانفكاك مطلقا ـ ، دون الايجاب المطلوب الّذي يشمل الايجاب بالاختيار الّذي قال به المعتزلة ؛

وفيه : انّ حدوث الأجسام والأعراض ثابت بالفعل شخصا ونوعا ـ كما تقدّم ـ.

وأمّا المجرّدات وإن لم يثبت حدوثها بالفعل شخصا ونوعا ولكن العمدة في اثبات حدوثها هو الاجماع والنقل ، وهما كما يدلاّن على حدوثها شخصا فكذلك يدلاّن على حدوثها نوعا أيضا ؛ وقد تقدّم ذلك مفصّلا.

وما ذكره من عدم لزوم التخلّف على تقدير التوقّف على الشروط المتعاقبة ـ نظرا إلى عدم صدق / ٦٣ MA / الانفكاك حينئذ لعدم تحقّق القدم بالنوع في الشروط المتعاقبة ـ ؛

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

و يؤيّد هذا المعنى توصيفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبشير و النذير، فقوله:( بَشِيراً وَ نَذِيراً ) حالان يبيّنان صفته لقوله:( كَافَّةً لِلنَّاسِ ) .

و ربّما قيل: إنّ التقدير و ما أرسلناك إلّا إرساله كافّة للناس و لا يخلو من تكلّف و بعد.

و أمّا كون كافة بمعنى جميعاً و حالاً من الناس، و المعنى: و ما أرسلناك إلّا للناس جميعاً فهم يمنعون عن تقدّم الحال على صاحبه المجرور.

و اعلم أنّ منطوق الآية و إن كان راجعاً إلى النبوّة و فيها انتقال من الكلام في التوحيد إلى الكلام في النبوّة على حدّ الآيات التالية، لكن في مدلولها حجّة اُخرى على التوحيد و ذلك أنّ الرسالة من لوازم الربوبيّة الّتي شأنها تدبير الناس في طريق سعادتهم و مسيرهم إلى غايات وجودهم فعموم رسالتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو رسول الله تعالى لا رسول غيره دليل على أنّ الربوبيّة منحصرة في الله سبحانه فلو كان هناك ربّ غيره لجاءهم رسوله و لم يعمّ رسالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عمّتهم و احتاجوا معه إلى غيره، و هذا معنى قول عليّعليه‌السلام - على ما روي - لو كان لربّك شريك لأتتك رسله.

و يؤيّده ما في ذيل الآية من قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) فإنّ دلالة انحصار الرسالة في رسل الله على انحصار الربوبيّة في الله عزّ اسمه أمسّ بجهل الناس من كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولاً كافّاً لهم عن المعاصي بشيراً و نذيراً.

فمفاد الآية على هذا: لا يمكنهم أن يُروك شريكاً له و الحال أنّا لم نرسلك إلّا كافّاً لجميع الناس بشيراً و نذيراً و لو كان لهم إله غيرنا لم يسع لنا أن نرسلك إليهم و هم عباد لإله آخر و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) سؤال عن وقت الجمع و الفتح و هو البعث فالآية متّصلة بقوله السابق:( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ) الآية، و هذا أيضاً من شواهد ما قدّمنا من المعنى لقوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً ) و إلّا كانت هذه الآية و الّتي بعدها متخلّلتين بين قوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ ) الآية، و الآيات التالية المتعرّضة لمسألة النبوّة.

٤٠١

قوله تعالى: ( قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ ) أمر منه تعالى أن يجيبهم بأنّ لهم ميعاد يوم مقضيّ محتوم لا يتخلّف عن الوقوع فهو واقع قطعاً و لا يختلف وقت وقوعه البتّة أي إنّ الله وعد به وعداً لا يخلفه إلّا أن وقت وقوعه مستور لا يعلمه إلّا الله سبحانه.

و ما قيل: إنّ المراد به يوم الموت غير سديد فإنّهم لم يسألوا إلّا عمّا تقدّم وعده و هو يوم الجمع و الفتح و الجمع ثمّ الفتح من خصائص يوم القيامة دون يوم الموت.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) و ذلك أنّ أهل السماوات لم يسمعوا وحياً فيما بين أن بعث عيسى بن مريم إلى أن بعث محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا بعث الله جبرئيل إلى محمّد سمع أهل السماوات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصفا فصعق أهل السماوات.

فلمّا فرغ عن الوحي انحدر جبرئيل كلّما مرّ بأهل سماء فزّع عن قلوبهم يقول: كشف عن قلوبهم، فقال بعض لبعض: ما ذا قال ربّكم؟ قالوا: الحقّ و هو العليّ الكبير.

أقول: و روي مثله من طرق أهل السنّة موصولاً و موقوفاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و مدلول الرواية على أيّ حال مصداق من مصاديق الآية و لا تصلح لتفسيرها البتّة.

و في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عبّاس و في المجمع عنه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُعطيت خمساً لم يعطهنّ نبيّ قبلي. بعثت إلى الناس كافّة الأحمر و الأسود و إنّما كان النبيّ يبعث إلى قومه، و نصرت بالرعب يرعب منّي عدوّي على مسيرة شهر، و اُطعمت المغنم، و جعلت لي الأرض مسجداً و طهوراً، و اُعطيت الشفاعة فادّخرتها لاُمّتي إلى يوم القيامة و هي إن شاء الله نائلة من لا يشرك بالله شيئاً.

٤٠٢

أقول: و روي أيضاً هذا المعنى عن ابن المنذر عن أبي هريرة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و الرواية معارضة لما ورد مستفيضاً أنّ نوحاً كان مبعوثاً إلى الناس كافّة و ذكر في بعضها إبراهيمعليه‌السلام و في بعضها أنّ اُولي العزم كلّهم مبعوثون إلى الدنيا كافّة، و تخالف أيضاً عموم الشفاعة للأنبياء المستفاد من عدّة من الروايات و قد قال تعالى:( وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦ و قد شهد القرآن بأنّ المسيحعليه‌السلام من الشهداء قال تعالى:( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) النساء: ١٥٩.

و الروايات من طرق العامّة و الخاصّة كثيرة في عموم رسالته للناس كافّة و ظاهر كثير منها أخذ( كَافَّةً ) في قوله تعالى:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) حالاً من( لِلنَّاسِ ) قدّم عليه و يمنعه البصريّون من النحاة و يجوّزه الكوفيّون.

٤٠٣

( سورة سبإ الآيات ٣١ - ٥٤)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ  وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ( ٣١ ) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم  بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ( ٣٢ ) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا  وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا  هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٣٣ ) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ( ٣٤ ) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ( ٣٥ ) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( ٣٦ ) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ( ٣٧ ) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ( ٣٨ ) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ  وَمَا أَنفَقْتُم

٤٠٤

مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ  وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( ٣٩ ) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ( ٤٠ ) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم  بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ  أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ( ٤١ ) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ( ٤٢ ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُّفْتَرًى  وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ٤٣ ) وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا  وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ ( ٤٤ ) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي  فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( ٤٥ ) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ  أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا  مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ  إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ( ٤٦ ) قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ  إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ  وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( ٤٧ ) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( ٤٨ ) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ( ٤٩ ) قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي  وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي  إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ( ٥٠ ) وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَ

٤٠٥

أُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( ٥١ ) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ( ٥٢ ) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ  وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ( ٥٣ ) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ  إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ ( ٥٤ )

( بيان)

فصل آخر من آيات السورة تتكلّم في أمر النبوّة و ما يرجع إليها و ما يقول المشركون فيها و تتخلّص في خلالها بما يجري عليهم يوم الموت أو يوم القيامة، و قد اتّصلت بقوله في الفصل السابق:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) الآية، و قد عرفت أنّ الآية كالبرزخ بين الفصلين تذكر الرسالة و تجعلها دليلاً على التوحيد.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) المراد بالّذين كفروا المشركون و المراد بالّذي بين يديه الكتب السماويّة من التوراة و الإنجيل و ذلك أنّ المشركين و هم الوثنيّون ليسوا قائلين بالنبوّة و يتبعها الكتاب السماويّ.

و قول بعضهم: إنّ المراد بالّذي بين يديه هو أمر الآخرة ممّا لا دليل يساعده، و قد أكثر القرآن الكريم من التعبير عن التوراة و الإنجيل بالّذي بين يديه، و من الخطإ قول بعضهم: إنّ المراد بالّذين كفروا هم اليهود.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) إلخ، الظاهر أنّ اللّام في( الظَّالِمُونَ ) للعهد، و هذه الآية و الآيتان بعدها تشير إلى أنّ وبال هذا الكفر - و أساسه ضلال أئمّة الكفر و إضلالهم تابعيهم - سيلحق بهم و سيندمون عليه و لن ينفعهم الندم.

٤٠٦

فقوله:( وَ لَوْ تَرى‏ ) خطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ هم بمعزل عن فهم الخطاب( إِذِ الظَّالِمُونَ ) و هم الكافرون بكتب الله و رسله، الّذين ظلموا أنفسهم بالكفر( مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) للحساب و الجزاء يوم القيامة( يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ الْقَوْلَ ) أي يتحاورون و يتراجعون في الكلام متخاصمين( يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ) بيان لرجوع بعضهم إلى بعض في القول و المستضعفون الأتباع الّذين استضعفتهم المتبوعون( لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ) و هم الأئمّة القادة( لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ) يريدون أنّكم أجبرتمونا على الكفر و حلتم بيننا و بين الإيمان.

( قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ) جواباً عن قولهم و ردّاً لما اتّهموهم به من الإجبار و الإكراه( أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ ) الاستفهام للإنكار أي أ نحن صرفناكم( عَنِ الْهُدى‏ بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ ) فبلوغه إليكم بالدعوة النبويّة أقوى الدليل على أنّا لم نحل بينه و بينكم و كنتم مختارين في الإيمان به و الكفر( بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ) متلبّسين بالإجرام مستمرّين عليه فأجرمتم بالكفر به لمّا جاءكم من غير أن نجبركم عليه فكفركم منكم و نحن برآء منه.

( وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ) ردّاً لقولهم و دعواهم البراءة( بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ ) أي مكركم بالليل و النهار حملنا على الكفر( إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً ) و أمثالاً من الآلهة أي إنّكم لم تزالوا في الدنيا تمكرون الليل و النهار و تخطّون الخطط لتستضعفونا و تتآمّروا علينا فتحملونا على طاعتكم فيما تريدون، فلم نشعر إلّا و نحن مضطرّون على الائتمار بأمركم إذ تأمروننا بالكفر و الشرك.

( وَ أَسَرُّوا ) و أخفوا( النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) و شاهدوا أن لا مناص، و إخفاؤهم الندامة يوم القيامة - و هو يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شي‏ء - نظير كذبهم على الله و إنكارهم الشرك بالله و حلفهم لله كان بين كلّ ذلك من قبيل ظهور ملكاتهم الرذيلة الّتي رسخت في نفوسهم فقد كانوا يسرّون الندامة في الدنيا خوفاً من شماتة الأعداء و كذلك يفعلون يوم القيامة مع ظهور ما أسرّوا و اليوم يوم تبلى السرائر كما يكذبون

٤٠٧

بمقتضى ملكة الكذب مع ظهور أنّهم كاذبون في قولهم.

ثمّ ذكر سبحانه أخذهم للعذاب فقال:( وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ ) السلاسل( فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) فصارت أعمالهم أغلالاً في أعناقهم تحبسهم في العذاب.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) المترفون اسم مفعول من الإتراف و هو الزيادة في التنعيم، و فيه إشعار بأنّ الإتراف يفضي إلى الاستكبار على الحقّ كما تفيده الآية اللّاحقة.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) ضمير الجمع للمترفين، و من شأن الإتراف و الترفّه و التقلّب في نعم الدنيا أن يتعلّق قلب الإنسان بها و يستعظمها فيرى السعادة فيها سواء وافق الحقّ أم خالفه فلا يذكر إلّا ظاهر الحياة و ينسى ما وراءه.

و لذا حكى سبحانه عنهم ذلك إذ قالوا:( نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً ) فلا سعادة إلّا فيها و لا شقوة معها( وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) في آخرة، و لم ينفوا العذاب إلّا للغفلة و الانصراف عمّا وراء كثرة الأموال و الأولاد فإذ كانت هي السعادة و الفلاح فحسب فالعذاب في فقدها و لا عذاب معها.

و ههنا وجه آخر و هو أنّهم لغرورهم بما رزقوا به من المال و الولد ظنّوا أنّ لهم كرامة على الله سبحانه و هم على كرامتهم عليهم ما داموا، و المعنى: أنّا ذوو كرامة على الله بما اُوتينا من كثرة الأموال و الأولاد و نحن على كرامتنا فما نحن بمعذّبين لو كان هناك عذاب.

فتكون الآية في معنى قوله:( وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‏ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) حم السجدة: ٥٠.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ‏ ) الآية و ما يتلوها إلى تمام أربع آيات جواب عن قولهم:( نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا )

٤٠٨

إلخ، و قد اُجيب عنه بوجهين أحدهما أنّ أمر الرزق من الأموال و الأولاد سعة و ضيقاً بيد الله على ما تستدعيه الحكمة و المصلحة و هيّأ من الأسباب لا بمشيّة الإنسان و لا لكرامة له على الله فربّما بسط في رزق مؤمن أو كافر أو عاقل ذي حزم أو أحمق خفيف العقل، و ربّما بسط على واحد ثمّ قدر له. فلا دلالة في الإتراف على سعادة أو كرامة.

و هذا معنى قوله:( قُلْ إِنَّ رَبِّي ) نسبه إلى نفسه لأنّهم لم يكونوا يرون الله ربّاً لأنفسهم و الرزق من شؤن الربوبيّة( يَبْسُطُ ) أي يوسّع( الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ) من عباده بحسب الحكمة و المصلحة( وَ يَقْدِرُ ) أي يضيّق( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) فينسبونه ما لم يؤتوه إلى الأسباب الظاهريّة الاتّفاقيّة ثمّ إذا اُوتوه نسبوه إلى حزمهم و حسن تدبيرهم أنفسهم و كفى به دليلاً على الحمق.

قوله تعالى: ( وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى‏ ) إلى آخر الآيتين هذا هو الجواب الثاني عن قولهم:( نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) و محصّله أنّ انتفاء العذاب المترتّب على القرب من الله لا يترتّب على الأموال و الأولاد إذ لا توجب الأموال و الأولاد قرباً و زلفى من الله حتّى ينتفي معها العذاب الإلهيّ فوضع تقريب المال في الآية موضع انتفاء العذاب من قبيل وضع السبب موضع المسبّب.

و هذا معنى قوله:( وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ ) الّتي تعتمدون عليها في السعادة و انتفاء عذاب الله( بِالَّتِي ) أي بالجماعة الّتي( تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) أي تقريباً.

( إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ) في ماله و ولده بأن أنفق من أمواله في سبيل الله و بثّ الإيمان و العمل الصالح في أولاده بتربية دينيّة( فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ ) لعلّه من إضافة الموصوف إلى الصفة أي الجزاء المضاعف من جهة أنّهم اهتدوا و هدوا و أيضاً من جهة تضعيف الحسنات إلى عشر أضعافها و زيادة( وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ ) أي في القباب العالية( آمِنُونَ ) من العذاب فما هم بمعذّبين.

( وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ) أي يجدّون في آياتنا و هم يريدون

٤٠٩

أن يعجزونا - أو أن يسبقونا -( أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ ) و إن كثرت أموالهم و أولادهم.

و في قوله:( وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ ) إلخ، انتقال إلى خطاب عامّة الناس من الكفّار و غيرهم و الوجه فيه أنّ ما ذكره من الحكم حكم الأموال و الأولاد سواء في ذلك المؤمن و الكافر فالمال و الولد إنّما يؤثّران أثرهما الجميل إذا كان هناك إيمان و عمل صالح فيهما و إلّا فلا يزيدان إلّا وبالاً.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) قال في مجمع البيان: يقال: أخلف الله له و عليه إذا أبدل له ما ذهب عنه. انتهى.

سياق الآية يدلّ على أنّ المراد بالإنفاق فيها الإنفاق في وجوه البرّ و المراد بيان أنّ هذا النحو من الإنفاق لا يضيع عند الله بل يخلفه و يرزق بدله.

فقوله في صدر الآية:( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ ) للإشارة إلى أنّ أمر الرزق في سعته و ضيقه إلى الله سبحانه لا ينقص بالإنفاق و لا يزيد بالإمساك ثمّ قال:( وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) قليلاً كان أو كثيراً و أيّاً مّا كان من المال( فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) و يرزقكم بدله إمّا في الدنيا و إمّا في الآخرة( وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) فإنّه يرزق جوداً و رزق غيره معاملة في الحقيقة و معاوضة، و لأنّه الرازق في الحقيقة و غيره ممّن يسمّى رازقاً واسطة لوصول الرزق.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ) المراد بهم جميعاً بشهادة السياق العابدون و المعبودون جميعاً.

و قوله:( ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ) ليس سؤال استخبار عن أصل عبادتهم لهم و لو كان كذلك لم يسعهم إنكارها لأنّهم عبدوهم في الدنيا و قد أنكروها كما في الآية بل المراد السؤال عن رضاهم بعبادتهم على حدّ قوله تعالى لعيسى بن مريم:( أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) .

٤١٠

و الغرض من السؤال تبكيت المشركين و إقناطهم من نصرة الملائكة و شفاعتهم لهم و قد عبدوهم في الدنيا لذلك.

قوله تعالى: ( قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ) أخذت الملائكة في جوابهم عن سؤاله تعالى بجوامع الأدب فنزّهوه سبحانه أوّلاً تنزيهاً مطلقاً فيه تنزيهه من أن يعبدوا من دونه ثمّ نفوا رضاهم بعبادة المشركين لهم لكن لا بالتصريح بنفي الرضا بالعبادة و لا بالتفوّه بعبادتهم صوناً لساحة المخاطبة عمّا يقرع السمع بذلك، و لو تصوّراً لا تصديقاً بل أجابوا بقصر ولايتهم فيه تعالى و نفيها عنهم ليدلّ على نفي الرضا بعبادتهم لهم على طريق الكناية فإنّ الرضا بعبادتهم لازمه الموالاة بينهم، و الموالاة بينهم تنافي قصر الولاية في الله سبحانه فإذا انحصرت الولاية فيه تعالى لم تكن موالاة و إذا لم تكن موالاة لم يكن رضا.

ثمّ قالوا على ما حكاه الله سبحانه:( بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ) و الجنّ هم الطائفة الثانية من الطوائف الثلاث الّتي يعبدهم الوثنيّون و هم الملائكة و الجنّ و القدّيسون من البشر، و الأقدم في استحقاق العبادة عندهم هم الطائفتان الاُوليان و الطائفة الثالثة ملحقة بهما بعد الكمال و إن كانوا أفضل منهما.

و الإضراب في قولهم:( بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ) يدلّ على أنّ الجنّ كانوا على رضى من عبادتهم لهم.

و هؤلاء من الجنّ هم الّذين يعدّهم الوثنيّون مبادئ الشرور في العالم فيعبدونهم اتّقاء من شرورهم كما يعبدون الملائكة طمعاً في خيراتهم لما أنّهم مباد للخيرات لا كما قيل: إنّ المراد بالجنّ إبليس و ذرّيّته و قبيله و معنى عبادتهم لهم طاعتهم فيما دعوهم إليه من عبادة الملائكة أو مطلق المعاصي، و يردّه ما وقع في الآية من التعبير بلفظ الإيمان دون الطاعة و لا ما قيل: إنّهم كانوا يتمثّلون لهم و يخيّلون لهم أنّهم الملائكة فيعبدونهم و لا ما قيل: إنّهم كانوا يدخلون أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها.

٤١١

و لعلّ الوجه في نسبة الإيمان بهم إلى أكثرهم دون جميعهم أنّ أكثرهم يعبدون الآلهة اتّقاء من طروق الشرّ من قبلهم، و مبادئ الشرّ عندهم مطلقاً الجنّ لا كما قيل: إنّ المراد بالأكثر الكلّ، و هو مبنيّ على تفسير العبادة بمعنى الطاعة و قد عرفت ما فيه.

قوله تعالى: ( فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ‏ ) نوع تفريع على تبرّي الملائكة منهم و قد بيّن تبرّي عامّة المتبوعين من تابعيهم و التابعين من متبوعيهم في مواضع كقوله تعالى:( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) فاطر: ١٤ و قوله:( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) العنكبوت: ٢٥. و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ ) إلخ، خطابهم هذا لعامّتهم بعد استماع الآيات تنبيه لهم على الجدّ في التمسّك بدين آبائهم و تحريض لهم عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و في توصيف الآيات بالبيّنات نوع عتبى كأنّه قيل: إذا تتلى عليهم هذه الآيات و هي بيّنة لا ريب فيها فبدلاً من أن يدعوا عامّتهم إلى اتّباعها حثّوهم على الإصرار على تقليد آبائهم و حرّضوهم عليه - و في إضافة الآباء إلى ضمير( يَصُدَّكُمْ ) مبالغة في التحريض و الإثارة.

و قوله:( وَ قالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً ) معطوف على( قالُوا ) أي و قالوا مشيراً إلى الآيات البيّنات إشارة تحقير ليس هذا إلّا كلاماً مصروفاً عن وجهه مكذوباً به على الله، بدلاً من أن يقولوا: إنّها آيات بيّنات نازلة من عندالله تعالى - و قد أشاروا إلى الآيات البيّنات بهذا دلالة على أنّهم لم يفهموا منها إلّا أنّها شي‏ء مّا لا أزيد من ذلك.

ثمّ غيّر سبحانه السياق و قال:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) و مجي‏ء الحقّ لهم بلوغه و ظهوره لهم، و الأخذ بوصف الكفر للإشعار بالتعليل و المعنى: و الّذين كفروا بعثهم الكفر إلى أن يقولوا للحقّ الصريح الّذي بلغهم و ظهر لهم هذا سحر ظاهر سحريّته و بطلانه.

٤١٢

و أكّد إصرارهم على دحض الحقّ باتّباع الهوى من غير دليل يدلّ عليه بقوله:( وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ) و الجملة حاليّة أي و عدّ الّذين كفروا - أي كفّار قريش - الحقّ الصريح الظاهر لهم سحراً مبيناً و الحال أنّا لم نعطهم كتباً يدرسونها حتّى يميّزوا بها الحقّ من الباطل و لم نرسل إليهم قبلك من رسول ينذرهم و يبيّن لهم ذلك فيقولوا استناداً إلى الكتاب الإلهيّ أو إلى قول الرسول النذير: إنّه حقّ أو باطل.

قوله تعالى: ( وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ) ضميراً الجمع الأوّل و الثاني لكفّار قريش و من يتلوهم و الثالث و الرابع للّذين من قبلهم، و المعشار العُشر و النكير الإنكار، و المراد به في الآية لازمه و هو الأخذ بالعذاب.

و المعنى: و كذّب بالحقّ من الآيات الّذين كانوا من قبل كفّار قريش من الاُمم الماضية و لم يبلغ كفّار قريش عشر ما آتيناهم من القوّة و الشدّة فكذّب اُولئك الأقوام رسلي فكيف كان أخذي بالعذاب و ما أهون أمر قريش. و الالتفات في الآية إلى التكلّم لاستعظام الجرم و تهويل المؤاخذة.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى‏ وَ فُرادى‏ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ) المراد بالموعظة الوصية كناية أو تضميناً، و قوله:( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ) أي تنهضوا لأجل الله و لوجهه الكريم، و قوله:( مَثْنى‏ وَ فُرادى) أي اثنين اثنين و واحداً واحداً كناية عن التفرّق و تجنّب التجمّع و الغوغاء فإنّ الغوغاء لا شعور لها و لا فكر و كثيراً ما تميت الحقّ و تحيي الباطل.

و قوله:( ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ) استئناف( إِنَّما ) نافية و يشهد بذلك قوله بعد:( إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ) و يمكن أن يكون( إِنَّما ) استفهاميّة أو موصولة و( مِنْ جِنَّةٍ ) بياناً له.

و المراد بصاحبكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه و الوجه في التعبير به تذكرتهم بصحبته

٤١٣

الممتدّة لهم أربعين سنة من حين ولادته إلى حين بعثته ليتذكّروا أنّهم لم يعهدوا منه اختلالاً في فكر أو خفّة في رأي أو أيّ شي‏ء يوهم أنّ به جنوناً.

و المعنى: قل لهم: إنّما اُوصيكم بالعظة أن تنهضوا و تنتصبوا لوجه الله متفرّقين حتّى يصفو فكركم و يستقيم رأيكم اثنين اثنين و واحداً واحداً و تتفكّروا في أمري فقد صاحبتكم طول عمري على سداد من الرأي و صدق و أمانة ليس فيّ من جنّة. ما أنا إلّا نذير لكم بين يدي عذاب شديد في يوم القيامة فأنا ناصح لكم غير خائن.

قوله تعالى: ( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) إلخ، كناية عن عدم سؤال أجر على الدعوة فإنّه إذا وهبهم كلّ ما سألهم من أجر فليس له عليهم أجر مسؤل و لازمه أن لا يسألهم و هذا تطييب لنفوسهم أن لا يتّهموه بأنّه جعل الدعوة ذريعة إلى نيل مال أو جاه.

ثمّ تمّم القول بقوله:( إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) لئلّا يردّ عليه قوله بأنّه دعوى غير مسموعة فإنّ الإنسان لا يروم عملاً بغير غاية فدفعه بأنّ لعملي أجراً لكنّه على الله لا عليكم و هو يشهد عملي و هو على كلّ شي‏ء شهيد.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) القذف الرمي، و قوله:( عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) خبر بعد خبر أو خبر لمبتدء محذوف و هو الضمير الراجع إليه تعالى.

و مقتضى سياق الآيات السابقة أنّ المراد بالحقّ المقذوف القرآن النازل إليه بالوحي من عنده تعالى الّذي هو قول فصل يحقّ الحقّ و يبطل الباطل فهو الحقّ المقذوف إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عند علّام الغيوب فيدمغ الباطل و يزهقه، قال تعالى:( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) الأنبياء: ١٨ و قال:( قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) إسراء: ٨١.

قوله تعالى: ( قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ ) المراد بمجي‏ء

٤١٤

الحقّ على ما تهدي إليه الآية السابقة نزول القرآن المبطل بحججه القاطعة و براهينه الساطعة لكلّ باطل من أصله.

و قوله:( وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ ) أي ما يظهر أمراً ابتدائيّاً جديداً بعد مجي‏ء الحقّ و ما يعيد أمراً كان قد أظهره من قبل إظهاراً ثانياً بنحو الإعادة فهو كناية عن بطلان الباطل و سقوطه عن الأثر من أصله بالحقّ الّذي هو القرآن.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى‏ نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) بيان لأثر الحقّ الّذي هو الوحي فإنّه عرّفه حقّاً مطلقاً فالحقّ إذا كان حقّاً من كلّ جهة لم يخطئ في إصابة الواقع في جهة من الجهات و إلّا كان باطلاً من تلك الجهة فالوحي يهدي و لا يخطئ البتّة.

و لذا قال تأكيداً لما تقدّم:( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ ) و فرض منّي ضلال( فَإِنَّما أَضِلُّ ) مستقراً ذلك الضلال( عَلى‏ نَفْسِي ) فإنّ للإنسان من نفسه أن يضلّ( وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) فوحيه حقّ لا يحتمل ضلالاً و لا يؤثّر إلّا الهدى.

و قد علّل الكلام بقوله:( إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) للدلالة على أنّه يسمع الدعوة و لا يحجبه عنها حاجب البعد و قد مهّد له قبلاً وصفه تعالى في قذف الحقّ بأنّه علّام الغيوب فلا يغيب عنه أمر يخلّ بأمره و يمنع نفوذ مشيّته هداية الناس بالوحي قال تعالى:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً ) الجنّ: ٢٨.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) ظاهر السياق السابق و يشعر به قوله الآتي:( وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ) أنّ الآيات الأربع وصف حال مشركي قريش و من يلحق بهم حال الموت.

فقوله:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ فَزِعُوا ) أي حين فزع هؤلاء المشركون عند الموت( فَلا فَوْتَ ) أي لا يفوتون الله بهرب أو تحصّن أو أيّ حائل آخر.

٤١٥

و قوله:( وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) كناية عن عدم فصل بينهم و بين من يأخذهم و قد عبّر بقوله:( أُخِذُوا ) مبنيّاً للمفعول ليستند الأخذ إليه سبحانه، و قد وصف نفسه بأنّه قريب، و كشف عن معنى قربه بقوله:( وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ ) الواقعة: ٨٥ و أزيد منه في قوله:( مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ق: ١٦ و أزيد منه في قوله:( أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ ) الأنفال: ٢٤ فبيّن أنّه أقرب إلى الإنسان من نفسه و هذا الموقف هو المرصاد الّذي ذكره في قوله:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر: ١٤ فكيف يتصوّر فوت الإنسان منه و هو أقرب إليه من نفسه؟ أو من ملائكته المكرمين الّذين يأخذون الأمر منه تعالى من غير حاجب يحجبهم عنه أو واسط يتوسّط بينه و بينهم.

فقوله:( وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ ) نوع تمثيل لقربه تعالى من الإنسان بحسب ما نتصوّره من معنى القرب لاحتباسنا في سجن الزمان و المكان و اُنسنا بالاُمور المادّيّة و إلّا فالأمر أعظم من ذلك.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) التناوش التناول و ضمير( بِهِ ) للقرآن على ما يعطيه السياق.

و المراد بكونهم في مكان بعيد أنّهم في عالم الآخرة و هي دار تعيّن الجزاء و هي أبعد ما يكون من عالم الدنيا الّتي هي دار العمل و موطن الاكتساب بالاختيار و قد تبدّل الغيب شهادة لهم و الشهادة غيباً كما تشير إليه الآية التالية.

قوله تعالى: ( وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) حال من الضمير في( وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ ) و المراد بقوله:( وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) رميهم عالم الآخرة و هم في الدنيا بالظنون مع عدم علمهم به و كونه غائباً عن حواسهم إذ كانوا يقولون: لا بعث و لا جنّة و لا نار، و قيل: المراد به رميهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسحر و الكذب و الافتراء و الشعر.

٤١٦

و العناية في إطلاق المكان البعيد على الدنيا بالنسبة إلى الآخرة نظيره إطلاقه على الآخرة بالنسبة إلى الدنيا و قد تقدّمت الإشارة إليه.

و معنى الآيتين: و قال المشركون حينما اُخذوا آمنّا بالحقّ الّذي هو القرآن و أنّى لهم تناول الإيمان به - إيماناً يفيد النجاة - من مكان بعيد و هو الآخرة و الحال أنّهم كفروا به من قبل في الدنيا و هم ينفون اُمور الآخرة بالظنون و الأوهام من مكان بعيد و هو الدنيا.

قوله تعالى: ( وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ) ظاهر السياق أنّ المراد بما يشتهون اللذائذ المادّيّة الدنيويّة الّتي يحال بينهم و بينها بالموت، و المراد بأشياعهم من قبل أشباههم من الاُمم الماضية أو موافقوهم في المذهب، و قوله:( إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ) تعليل لقوله:( كَما فُعِلَ ) إلخ.

و المعنى: و وقعت الحيلولة بين المشركين المأخوذين و بين ما يشتهون من ملاذّ الدنيا كما فعل ذلك بأشباههم من مشركي الاُمم الدارجة من قبلهم إنّهم كانوا في شكّ مريب من الحقّ أو من الآخرة فيقذفونها بالغيب.

و اعلم أنّ ما قدّمناه من الكلام في هذه الآيات الأربع مبنيّ على ما يعطيه ظاهر السياق و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنّة أنّ الآيات ناظرة إلى خسف جيش السفياني بالبيداء و هو من علائم ظهور المهديّعليه‌السلام المتّصلة به فعلى تقدير نزول الآيات في ذلك يكون ما قدّمناه من المعنى من باب جري الآيات فيه.

٤١٧

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ) قال: يسرّون الندامة في النار إذا رأوا وليّ الله فقيل: يا بن رسول الله و ما يغنيهم أسرارهم الندامة و هم في العذاب؟ قال: يكرهون شماتة الأعداء.

أقول: و رواه أيضاً عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و فيه و ذكر رجل عند أبي عبداللهعليه‌السلام الأغنياء و وقع فيهم فقال أبو عبداللهعليه‌السلام : اسكت فإنّ الغنيّ إذا كان وصولاً لرحمه بارّاً بإخوانه أضعف الله له الأجر ضعفين لأنّ الله يقول:( وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى‏ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ ) .

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث يقول فيه: حتّى إذا كان يوم القيامة حسب لهم ثمّ أعطاهم بكلّ واحدة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عزّوجلّ:( جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً ) و قال:( فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ ) .

و في الكافي، بإسناده عن السكونيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من صدّق بالخلف جاد بالعطيّة.

و فيه، بإسناده عن سماعة عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أيقن بالخلف سخت نفسه بالنفقة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ لكلّ يوم نحساً فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة، ثمّ قال: اقرؤا مواضع الخلف فإنّي سمعت الله يقول:( وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) إذا لم ينفقوا كيف يخلف؟

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:

٤١٨

( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) و ذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل قومه أن يودّوا أقاربه و لا يؤذوهم. و أمّا قوله:( فَهُوَ لَكُمْ ) يقول: ثوابه لكم.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ فَزِعُوا ) الآية أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يخرج رجل يقال له السفيانيّ في عمق دمشق و عامّة من يتّبعه من كلب فيقتل حتّى يبقر بطون النساء و يقتل الصبيان فيجمع لهم قيس فيقتلها حتّى لا يمنع ذنب تلعة و يخرج رجل من أهل بيتي فيبلغ السفيانيّ فيبعث إليه جنداً من جنده فيهزمهم فيسير إليه السفيانيّ بمن معه حتّى إذا صار ببيداء من الأرض خسف بهم فلا ينجو منهم إلّا المخبر منهم.

أقول: و الرواية مستفيضة من طرق أهل السنّة مختصرة أو مفصّلة و قد رووها من طرق مختلفة عن ابن عبّاس و ابن مسعود و حذيفة و أبي هريرة و جدّ عمرو بن شعيب و اُمّ سلمة و صفيّة و عائشة و حفصة أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نفيرة امرأة القعقاع عن سعيد بن جبير موقوفاً.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ) حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي خالد الكابليّ قال: قال أبوجعفرعليه‌السلام : و الله لكأنّي أنظر إلى القائمعليه‌السلام و قد أسند ظهره إلى الحجر ثمّ ينشد الله حقّه ثمّ يقول: يا أيّها الناس من يحاجّني في الله. فأنا أولى بالله أيّها الناس من يحاجّني بآدم فأنا أولى بآدم. أيّها الناس من يحاجّني في نوح فأنا أولى بنوح. أيّها الناس من يحاجّني بإبراهيم فأنا أولى بإبراهيم. أيّها الناس من يحاجّني بموسى فأنا أولى بموسى. أيّها الناس من يحاجّني بعيسى فأنا أولى بعيسى. أيّها الناس من يحاجّني بمحمّد فأنا أولى بمحمّد. أيّها الناس من يحاجّني بكتاب الله فأنا أولى بكتاب الله.

ثمّ ينتهي إلى المقام فيصلّي ركعتين و ينشد الله حقّه. ثمّ قال أبوجعفرعليه‌السلام : هو و الله المضطرّ في كتاب الله في قوله:( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ ) .

فيكون أوّل من يبايعه جبرئيل ثمّ الثلاثمائة و الثلاثة عشر فمن كان ابتلي

٤١٩

بالمسير وافى و من لم يبتل بالمسير فقد عن فراشه و هو قول أميرالمؤمنينعليه‌السلام : هم المفقودون عن فرشهم و ذلك قول الله:( سْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً ) قال: الخيرات الولاية، و قال في موضع آخر:( وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى‏ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ ) و هم أصحاب القائمعليه‌السلام يجتمعون و الله إليه في ساعة واحدة.

فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السفيانيّ فيأمر الله عزّوجلّ الأرض فيأخذ بأقدامهم و هو قوله عزّوجلّ:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ ) يعني بالقائم من آل محمّدعليه‌السلام ( وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ ) يعني أن لا يعذّبوا( كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ ) يعني من كان قبلهم من المكذّبين هلكوا( مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ) .

تمّ و الحمد لله.

٤٢٠

421

422

423

424

425