الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن18%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128785 / تحميل: 6817
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

غير أنّه تعالى ذكر في مواضع من كلامه أنّهم حرّفوها و اختلفوا فيها. و قصّة بخت نصّر و فتحه فلسطين ثانياً و هدمه الهيكل و إحراقه التوراة و حشره اليهود إلى بابل سنة خمس مائة و ثمان و ثمانين قبل المسيح ثمّ فتح كورش الملك بابل سنة خمس مائة و ثمان و ثلاثين قبل المسيح و إذنه لليهود أن يرجعوا إلى فلسطين ثانياً و كتابة عزراء الكاهن التوراة لهم معروف في التواريخ و قد تقدّمت الإشارة إليه في الجزء الثالث من الكتاب في قصص المسيحعليه‌السلام .

٢- قصص موسى عليه‌السلام في القرآن: هوعليه‌السلام أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن الكريم فقد ذكر اسمه - على ما عدوّه - في مائة و ستّة و ستّين موضعاً من كلامه تعالى، و اُشير إلى قصّته إجمالاً أو تفصيلاً في أربع و ثلاثين سورة من سور القرآن، و قد اختصّ من بين الأنبياء بكثرة المعجزات، و قد ذكر في القرآن شي‏ء كثير من معجزاته الباهرة كصيرورة عصاه ثعباناً، و اليد البيضاء، و الطوفان، و الجراد، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و فلق البحر، و إنزال المنّ و السلوى، و انبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، و إحياء الموتى، و رفع الطور فوق القوم و غير ذلك.

و قد ورد في كلامه تعالى طرف من قصصهعليه‌السلام من دون استيفائها في كلّ ما دقّ و جلّ بل بالاقتصار على فصول منها يهمّ ذكرها لغرض الهداية و الإرشاد على ما هو دأب القرآن الكريم في الإشارة إلى قصص الأنبياء و اُممهم.

و هذه الفصول الّتي فيها كلّيّات قصصه هي: أنّه تولّد بمصر في بيت إسرائيليّ حينما كانوا يذبحون المواليد الذكور من بني إسرائيل بأمر فرعون و جعلت اُمّه إيّاه في تابوت و ألقته في البحر و أخذ فرعون إيّاه ثمّ ردّه إلى اُمّه للإرضاع و التربية و نشأ في بيت فرعون.

ثمّ بلغ أشدّه و قتل القبطيّ و هرب من مصر إلى مدين خوفاً من فرعون و ملائه أن يقتلوه قصاصاً.

ثمّ مكث في مدين عند شعيب النبيّعليه‌السلام و تزوّج إحدى بنتيه.

ثمّ لمّا قضى موسى الأجل و سار بأهله آنس من جانب الطور ناراً و قد ضلّوا

٤١

الطريق في ليلة شاتية فأوقفهم مكانهم و ذهب إلى النار ليأتيهم بقبس أو يجد على النار هدى فلمّا أتاها ناداه الله من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة و كلّمه و اجتباه و آتاه معجزة العصا و اليد البيضاء في تسع آيات و اختاره للرسالة إلى فرعون و ملائه و إنجاء بني إسرائيل و أمره بالذهاب إليه.

فأتى فرعون و دعاه إلى كلمة الحقّ و أن يرسل معه بني إسرائيل و لا يعذّبهم و أراه آية العصا و اليد البيضاء فأبى و عارضة بسحر السحرة و قد جاؤا بسحر عظيم من ثعابين و حيّات فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فاُلقي السحرة ساجدين قالوا آمنّا بربّ العالمين ربّ موسى و هارون و أصرّ فرعون على جحوده و هدّد السحرة و لم يؤمن.

فلم يزل موسىعليه‌السلام يدعوه و ملأه و يريهم الآية بعد الآية كالطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم آيات مفصّلات و هم يصرّون على استكبارهم، و كلّما وقع عليهم الرجز قالوا: يا موسى ادع لنا ربّك بما عهد عندك لئن كشفت عنّا الرجز لنؤمننّ لك و لنرسلنّ معك بني إسرائيل فلمّا كشف الله عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون.

فأمره الله أن يسري بني إسرائيل ليلاً فساروا حتّى بلغوا ساحل البحر فعقّبهم فرعون بجنوده فلمّا تراءى الفريقان قال أصحاب موسى إنّا لمدركون قال كلّا إنّ معي ربّي سيهدين فاُمر بأن يضرب بعصاه البحر فانفلق الماء فجاوزوا البحر و اتبعهم فرعون و جنوده حتّى إذا ادّاركوا فيها جميعاً أطبق الله عليهم الماء فأغرقهم عن آخرهم.

و لمّا أنجاهم الله من فرعون و جنوده و أخرجهم إلى البرّ و لا ماء فيه و لا كلاء أكرمهم الله فأنزل عليهم المنّ و السلوى و أمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كلّ اُناس مشربهم فشربوا منها و أكلوا منهما و ظلّلهم الغمام.

ثمّ واعد الله موسى أربعين ليلة لنزول التوراة بجبل الطور فاختار قومه سبعين رجلاً ليسمعوا تكليمه تعالى إيّاه فسمعوا ثمّ قالوا: لن نؤمن لك حتّى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة و هم ينظرون ثمّ أحياهم الله بدعوة موسى، و لمّا تمّ الميقات أنزل الله عليه التوراة و أخبره أنّ السامريّ قد أضلّ قومه بعده فعبدوا العجل.

٤٢

فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً فأحرق العجل و نسفه في اليمّ و طرد السامريّ و قال له: اذهب فإنّ لك في الحياة أن تقول لا مساس و أمّا القوم فاُمروا أن يتوبوا و يقتلوا أنفسهم فتيب عليهم بعد ذلك ثمّ استكبروا عن قبول شريعة التوراة حتّى رفع الله الطور فوقهم.

ثمّ إنّهم ملّوا المنّ و السلوى و قالوا لن نصبر على طعام واحد و سألوه أن يدعو ربّه أن يخرج لهم ممّا تنبت الأرض من بقلها و قثّائها و فومها و عدسها و بصلها فاُمروا أن يدخلوا الأرض المقدّسة الّتي كتب الله لهم فأبوا فحرّمها الله عليهم و ابتلاهم بالتيه يتيهون في الأرض أربعين سنة.

و من قصص موسىعليه‌السلام ما ذكره الله في سورة الكهف من مضيّه مع فتاه إلى مجمع البحرين للقاء العبد الصالح و صحبته حتّى فارقه.

٣- منزلة هارون عليه‌السلام عندالله و موقفه العبودي: أشركه الله تعالى مع موسىعليهما‌السلام في سورة الصافّات في المنّ و إيتاء الكتاب و الهداية إلى الصراط المستقيم و في التسليم و أنّه من المحسنين و من عباده المؤمنين (الصافّات: ١١٤ - ١٢٢) و عدّه مرسلاً (طه: ٤٧) و نبيّاً (مريم: ٥٣) و أنّه ممّن أنعم عليهم (مريم: ٥٨) و أشركه مع من عدّهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة من الإحسان و الصلاح و الفضل و الاجتباء و الهداية (الإنعام: ٨٤ - ٨٨).

و في دعاء موسى ليلة الطور:( وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ) طه: ٣٥.

و كانعليه‌السلام ملازماً لأخيه في جميع مواقفه يشاركه في عامّة أمره و يعينه على جميع مقاصده.

و لم يرد في القرآن الكريم ممّا يختصّ به من القصص إلّا خلافته لأخيه حين غاب عن القوم للميقات و قال لأخيه هارون اخلفني في قومي و أصلح و لا تتّبع سبيل المفسدين و لمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً و قد عبدوا العجل ألقى الألواح و أخذ

٤٣

برأس أخيه يجرّه إليه قال ابن اُمّ إنّ القول استضعفوني و كادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء و لا تجعلني مع القوم الظالمين قال ربّ اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و أنت أرحم الراحمين.

٤- قصّة موسى عليه‌السلام في التوراة الحاضرة: قصصهعليه‌السلام موضوعة فيما عدا السفر الأوّل من أسفار التوراة الخمسة و هي: سفر الخروج و سفر اللاّويّين و سفر العدد و سفر التثنية تذكر فيها تفاصيل قصصهعليه‌السلام من حين ولادته إلى حين وفاته و ما اُوحي إليه من الشرائع و الأحكام.

غير أنّ فيها اختلافات في سرد القصّة مع القرآن في اُمور غير يسيرة.

و من أهمّها أنّها تذكر أنّ نداء موسى و تكليمه من الشجرة كان في أرض مدين قبل أن يسير بأهله و ذلك حين كان يرعى غنم يثرون(١) حمية كاهن مديان فساق الغنم إلى وراء البريّة و جاء إلى جبل الله حوريب و ظهر له ملاك الربّ بلهيب نار من وسط عُلّيقة فناداه الله و كلّمه بما كلّمه و أرسله إلى فرعون لإنجاء بني إسرائيل.(٢)

و منها ما ذكرت أنّ فرعون الّذي اُرسل إليه موسى غير فرعون الّذي أخذ موسى و ربّاه ثمّ هرب منه موسى لمّا قتل القبطيّ خوفاً من القصاص.(٣)

و منها أنّها لم تذكر إيمان السحرة لمّا ألقوا عصيّهم فصارت حيّات فتلقّفتها عصا موسى بل تذكر أنّهم كانوا عند فرعون و عارضوا موسى في آيتي الدم و الضفادع فأتوا بسحرهم مثل ما أتى به موسىعليه‌السلام معجزة.(٤)

و منها أنّها تذكر أنّ الّذي صنع لهم العجل فعبدوه هو هارون النبيّ أخو موسىعليهما‌السلام و ذلك أنّه لمّا رأى الشعب أنّ موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون و قالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأنّ هذا (موسى) الرجل

____________________

(١) تسمّي التوراة أبا زوجة موسى يثرون كاهن مديان.

(٢) الإصحاح الثالثة من سفر الخروج.

(٣) سفر الخروج، الإصحاح الثاني. الآية ٢٣.

(٤) الإصحاح السابع و الثامن من سفر الخروج.

٤٤

الّذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ما ذا أصابه؟ فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الشعب الّتي في آذان نسائكم و بنيكم و بناتكم و أتوني بها.

فنزع كلّ الشعب أقراط الذهب الّتي في آذانهم و أتوا بها إلى هارون فأخذ ذلك من أيديهم و صوّره بالإزميل فصبغه عجلاً مسبوكاً فقالوا أ هذه آلهتك يا إسرائيل الّتي أصعدتك من أرض مصر.(١)

و في الآيات القرآنيّة تعريضات للتوراة في هذه المواضع من قصصهعليه‌السلام غير خفيّة على المتدبّر فيها.

و هناك اختلافات جزئيّة كثيرة كما وقع في التوراة في قصّة قتل القبطيّ أنّ‏ المتضاربين ثانياً كانا جميعاً إسرائيليّين.(٢)

و أيضاً وقع فيها أنّ الّذي اُلقى العصا فتلقّفت حيّات السحرة هو هارون ألقاها بأمر موسى.(٣)

و أيضاً لم تذكر فيها قصّة انتخاب السبعين رجلاً للميقات و نزول الصاعقة عليهم و إحياءهم بعده.

و أيضاً فيها أنّ الألواح الّتي كانت مع موسى لمّا نزل من الجبل و ألقاها كانت لوحين من حجر و هما لوحاً الشهادة(٤) . إلى غير ذلك من الاختلافات.

____________________

(١) الإصحاح الثاني و الثلاثون من سفر الخروج.

(٢) الإصحاح الثاني من سفر الخروج.

(٣) الإصحاح السابع من سفر الخروج.

(٤) الإصحاح الثاني و الثلاثون من سفر الخروج.

٤٥

( سورة القصص الآيات ٤٣ - ٥٦)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَىٰ بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( ٤٣ ) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ( ٤٤ ) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ  وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( ٤٥ ) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( ٤٦ ) وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٤٧ ) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ  أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ  قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ( ٤٨ ) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللهِ هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٤٩ ) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ  وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ  إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ٥٠ ) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( ٥١ ) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ( ٥٢ ) وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن

٤٦

رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ( ٥٣ ) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( ٥٤ ) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ( ٥٥ ) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ  وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( ٥٦ )

( بيان)

سياق الآيات يشهد أنّ المشركين من قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راجعوا بعض أهل الكتاب و استفتوهم في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عرضوا عليهم بعض القرآن النازل عليه و هو مصدّق للتوراة فأجابوا بتصديقه و الإيمان بما يتضمّنه القرآن من المعارف الحقّة و أنّهم كانوا يعرفونه بأوصافه قبل أن يبعث كما قال تعالى:( وَ إِذا يُتْلى‏ عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) .

فساء المشركين ذلك و شاجروهم و أغلظوا عليهم في القول و قالوا: إنّ القرآن سحر و التوراة سحر مثله( سِحْرانِ تَظاهَرا ) و( إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ) فأعرض الكتابيّون عنهم و قالوا:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ ) .

هذا ما يلوّح إليه الآيات الكريمة بسياقها، و هو سبحانه لمّا ساق قصّة موسىعليه‌السلام و أنبأ أنّه كيف أظهر قوماً مستضعفين معبّدين معذّبين يذبّح أبناؤهم و تستحيي نساؤهم على قوم عالين مستكبرين طغاة مفسدين بوليد منهم ربّاه في حجر عدوّه الّذي يذبّح بأمره الاُلوف من أبنائهم ثمّ أخرجه لمّا نشأ من بينهم ثمّ بعثه و ردّه إليهم و أظهره عليهم حتّى أغرقهم أجمعين و أنجا شعب إسرائيل فكانوا هم الوارثين.

عطف القول على الكتاب السماويّ الّذي هو المتضمّن للدعوة و به تتمّ الحجّة

٤٧

و هو الحامل للتذكرة فذكر أنّه أنزل التوراة على موسىعليه‌السلام فيه بصائر للناس و هدى و رحمة لعلّهم يتذكّرون فينتهون عن معصية الله بعد ما أهلك القرون الاُولى بمعاصيهم.

و كذا أنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن و قصّ عليه قصص موسىعليه‌السلام و لم يكن هو شاهداً لنزول التوراة عليه و لا حاضراً في الطور لمّا ناداه و كلّمه، و قصّ عليه ما جرى بين موسى و شعيبعليهما‌السلام و لم يكن هو ثاوياً في مدين يتلو عليهم آياته و لكن أنزله و قصّ عليه ما قصّه رحمة منه لينذر به قوماً ما أتاهم من نذير من قبله لأنّهم بسبب كفرهم و فسوقهم في معرض نزول العذاب و أصابه المصيبة فلو لم ينزل الكتاب و لم يبلّغ الدعوة لقالوا:( رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ ) و كانت الحجّة لهم على الله سبحانه.

فلمّا جاءهم الحقّ من عنده ببعثة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نزول القرآن قالوا:( لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى‏ أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى‏ مِنْ قَبْلُ ) حين راجعوا أهل الكتاب في أمره فصدّقوه فقال المشركون:( سِحْرانِ تَظاهَرا ) يعنون التوراة و القرآن، و قالوا:( إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ) .

ثمّ لقّن سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحجّة عليهم بقوله:( قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى‏ مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) أي إنّ من الواجب في حكمة الله أن يكون هناك كتاب نازل من عندالله يهدي إلى الحقّ و تتمّ به الحجّة على الناس و هم يعرفون فإن لم تكن التوراة و القرآن كتابي هدى و كافيين لهداية الناس فهناك كتاب هو أهدى منهما و ليس كذلك إذ ما في الكتابين من المعارف الحقّة مؤيّدة بالإعجاز و بدلالة البراهين العقليّة. على أنّه ليس هناك كتاب سماويّ هو أهدى منهما فالكتابان كتاباً هدى و القوم في الإعراض عنهما متّبعون للهوى ضالّون عن الصراط المستقيم و هو قوله:( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ) إلخ.

ثمّ مدح سبحانه قوماً من أهل الكتاب راجعهم المشركون في أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و القرآن فأظهروا لهم الإيمان و التصديق و أعرضوا عن لغو القول الّذي جبّهوهم به.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى‏

٤٨

بَصائِرَ لِلنَّاسِ ) إلخ اللّام للقسم أي اُقسم لقد أعطينا موسى الكتاب و هو التوراة بوحيه إليه.

و قوله:( مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) أي الأجيال السابقة على نزول التوراة كقوم نوح و من بعدهم من الاُمم الهالكة و لعلّ منهم قوم فرعون، و في هذا التقييد إشارة إلى مسيس الحاجة حينئذ إلى نزول الكتاب لاندراس معالم الدين الإلهيّ بمضيّ الماضين و ليشار في الكتاب الإلهيّ إلى قصصهم و حلول العذاب الإلهيّ بهم بسبب تكذيبهم لآيات الله ليعتبر به المعتبرون و يتذكّر به المتذكّرون.

و قوله:( بَصائِرَ لِلنَّاسِ ) جمع بصيرة بمعنى ما يبصره به و كأنّ المراد بها الحجج البيّنة الّتي يبصّر بها الحقّ و يميّز بها بينه و بين الباطل، و هي حال من الكتاب و قيل: مفعول له.

و قوله:( وَ هُدىً ) بمعنى الهادي أو ما يهتدى به و كذا قوله:( وَ رَحْمَةً ) بمعنى ما يرحم به و هما حالان من الكتاب كبصائر، و قيل: كلّ منهما مفعول له.

و المعنى: و اُقسم لقد أعطينا موسى الكتاب و هو التوراة من بعد ما أهلكنا الأجيال الاُولى فاقتضت الحكمة تجديد الدعوة و الإنذار حال كون الكتاب حججاً بيّنة يبصر بها الناس المعارف الحقّة و هدى يهتدون به إليها و رحمة يرحمون بسبب العمل بشرائعه و أحكامه لعلّهم يتذكّرون فيفقهون ما يجب عليهم من الاعتقاد و العمل.

قوله تعالى: ( وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى‏ مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الغربيّ صفة محذوفة الموصوف و المراد جانب الوادي الغربيّ أو جانب الجبل الغربيّ.

و قوله:( إِذْ قَضَيْنا إِلى‏ مُوسَى الْأَمْرَ ) كأنّ القضاء مضمّن معنى العهد، و المراد بعهد الأمر إليه - على ما قيل - إحكام أمر نبوّته بإنزال التوراة إليه و أمّا العهد إليه بأصل الرسالة فيدلّ عليه قوله بعد:( وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا ) و قوله:( وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) تأكيد لسابقه.

و المعنى: و ما كنت حاضراً و شاهداً حين أنزلنا التوراة على موسى في الجانب

٤٩

الغربيّ من الوادي أو الجبل.

قوله تعالى: ( وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ) تطاول العمر تمادي الأمد و الجملة استدراك عن النفي في قوله:( وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ ) ، و المعنى: ما كنت حاضراً هناك شاهداً لما جرى فيه و لكنّا أوجدنا أجيالاً بعده فتمادى بهم الأمد ثمّ أنزلنا عليك قصّته و خبر نزول الكتاب عليه ففي الكلام إيجاز بالحذف لدلالة المقام عليه.

قوله تعالى: ( وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) الثاوي المقيم يقال: ثوى في المكان إذا أقام فيه، و الضمير في( عَلَيْهِمُ ) لمشركي مكة الّذين كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلو عليهم آيات الله الّتي تقصّ ما جرى على موسىعليه‌السلام في مدين زمن كونه فيه.

و قوله:( وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) استدراك من النفي في صدر الآية.

و المعنى: و ما كنت مقيماً في أهل مدين و هم شعيب و قومه مشاهداً لما جرى على موسى هناك تتلو على المشركين آياتنا القاصّة لخبره هناك و لكنّا كنّا مرسلين لك إلى قومك موحين بهذه الآيات إليك لتتلوها عليهم.

قوله تعالى: ( وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) إلى آخر الآية، الظاهر من مقابلة الآية لقوله السابق:( وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا ) إلخ، إنّ المراد بهذا النداء ما كان من الشجرة في الليلة الّتي آنس فيها من جانب الطور ناراً.

و قوله:( وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) إلخ، استدراك عن النفي السابق، و الظاهر أنّ( رَحْمَةً ) مفعول له، و الالتفات عن التكلّم بالغير إلى الغيبة في قوله:( مِنْ رَبِّكَ ) للدلالة على كمال عنايته تعالى بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ) الظاهر أنّ المراد بهذا القوم أهل عصر الدعوة النبويّة أو هم و من يقارنهم من آبائهم فإنّ العرب خلت فيهم رسل منهم كهود و صالح و شعيب و إسماعيلعليهم‌السلام .

و المعنى: و ما كنت حاضراً في جانب الطور إذ نادينا موسى و كلّمناه و اخترناه

٥٠

للرسالة حتّى تخبر عن هذه القصّة إخبار الحاضر المشاهد و لكن لرحمة منّا أخبرناك بها لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلّهم يتذكّرون.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا ) إلخ، المراد بما قدّمت أيديهم ما اكتسبوه من السيّئات من طريق الاعتقاد و العمل بدليل ذيل الآية، و المراد بالمصيبة الّتي تصيبهم أعمّ من مصيبة الدنيا و الآخرة فإنّ الإعراض عن الحقّ بالكفر و الفسوق يستتبع المؤاخذة الإلهيّة في الدنيا كما يستتبعها في الآخرة، و قد تقدّم بعض الكلام فيه في ذيل قوله:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) الأعراف: ٩٦ و غيره.

و قوله:( فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ ) متفرّع على ما تقدّمه على تقديم عدم إرسال الرسول و جواب لو لا محذوف لظهوره و التقدير: لما أرسلنا رسولاً.

و محصّل المعنى: أنّه لو لا أنّه تكون لهم الحجّة علينا على تقدير عدم إرسال الرسول و أخذهم بالعذاب بما قدّمت أيديهم من الكفر و الفسوق لما أرسلنا إليهم رسولاً لكنّهم يقولون ربّنا لو لا أرسلت إلينا رسولاً فنتّبع آياتك الّتي يتلوها علينا و نكون من المؤمنين.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) إلخ، أي فأرسلنا إليهم الرسول بالحقّ و أنزلنا الكتاب فلمّا جاءهم الحقّ من عندنا و الظاهر أنّه الكتاب النازل على الرسول و هو القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و المراد بقولهم:( لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) أي لو لا اُوتي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل التوراة الّتي اُوتيها موسىعليه‌السلام ، و كأنّهم يريدون به أن ينزّل القرآن جملة واحدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ) الفرقان: ٣٢.

و قد أجاب الله عن قولهم بقوله:( أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى‏ مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا ) يعنون القرآن و التوراة( وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ) . و الفرق بين القولين أنّ الأوّل كفر بالكتابين و الثاني كفر بأصل النبوّة و لعلّه الوجه لتكرار( قالُوا ) في الكلام.

٥١

قوله تعالى: ( قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى‏ مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) تفريع على كون القرآن و التوراة سحرين تظاهراً، و لا يصحّ هذا التفريع إلّا إذا كان من الواجب أن يكون بين الناس كتاب من عندالله سبحانه يهديهم و يجب عليهم اتّباعه فإذا كانا سحرين باطلين كان الحقّ غيرهما، و هو كذلك على ما تبيّن بقوله:( وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ ) إلخ، أنّ للناس على الله أن ينزّل عليهم الكتاب و يرسل إليهم الرسول، و لذلك أمر تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطالبهم بكتاب غيرهما هو أهدى منهما ليتّبعه.

ثمّ الكتابان لو كانا سحرين تظاهراً كانا باطلين مضلّين لا هدى فيهما حتّى يكون غيرهما من الكتاب الّذي يأتون به أهدى منهما - لاستلزام صيغة التفضيل اشتراك المفضّل و المفضّل عليه في أصل الوصف - لكنّ المقام لمّا كان مقام المحاجّة ادّعى أنّ الكتابين هاديان لا مزيد عليهما في الهداية فإن لم يقبل الخصم ذلك فليأت بكتاب يزيد عليهما في معنى ما يشتملان عليه من بيان الواقع فيكون أهدى منهما.

و القرآن الكريم و إن كان يصرّح بتسرّب التحريف و الخلل في التوراة الحاضرة و ذلك لا يلائم عدّها كتاب هدى بقول مطلق لكنّ الكلام في التوراة الواقعيّة النازلة على موسىعليه‌السلام و هي الّتي يصدّقها القرآن.

على أنّ موضوع الكلام هما معاً و القرآن يقوم التوراة الحاضرة ببيان ما فيها من الخلل فهما معاً هدى لا كتاب أهدى منهما.

و قوله:( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) أي في دعوى أنّهما سحران تظاهراً.

قوله تعالى: ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ) إلى آخر الآية، الاستجابة و الإجابة بمعنى واحد، قال في الكشّاف: هذا الفعل يتعدّى إلى الدعاء بنفسه و إلى الداعي باللّام، و يحذف الدعاء إذا عدّي إلى الداعي في الغالب فيقال: استجاب الله دعاءه أو استجاب له، و لا يكاد يقال: استجاب له دعاءه. انتهى.

فقوله:( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ) تفريع على قوله:( قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى‏ مِنْهُما أَتَّبِعْهُ ) أي فإن قلت لهم كذا و كلّفتهم بذلك فلم يأتوا بكتاب هو أهدى من القرآن

٥٢

و التوراة و تعيّن أن لا هدى أتمّ و أكمل من هداهما و هم مع ذلك يرمونها بالسحر و يعرضون عنهما فاعلم أنّهم ليسوا في طلب الحقّ و لا بصدد اتّباع ما هو صريح حجّة العقل و إنّما يتّبعون أهواءهم و يدافعون عن مشتهيات طباعهم بمثل هذه الأباطيل:( سِحْرانِ تَظاهَرا ) ( إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ ) .

و يمكن أن يكون المراد بقوله:( أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ ) أنّهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما و هم غير مؤمنين بهما فاعلم أنّهم إنّما يبنون سنّة الحياة على اتّباع الأهواء و لا يعتقدون بأصل النبوّة و أنّ لله ديناً سماويّاً نازلاً عليهم من طريق الوحي و عليهم أن يتّبعوه و يسلكوا مسلك الحياة بهدى ربّهم، و ربّما أيّد هذا المعنى قوله بعد:( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ ) إلخ.

و قوله:( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ ) استفهام إنكاريّ و المراد به استنتاج أنّهم ضالّون، و قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) تعليل لكونهم ضالّين باتّباع الهوى فإنّ اتّباع الهوى إعراض عن الحقّ و انحراف عن صراط الرشد و ذلك ظلم و الله لا يهدي القوم الظالمين و غير المهتدي هو الضالّ.

و محصّل الحجّة أنّهم إن لم يأتوا بكتاب هو أهدى منهما و ليسوا مؤمنين بهما فهم متّبعون للهوى، و متّبع الهوى ظالم و الظالم غير مهتد و غير المهتدي ضالّ فهم ضالّون.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) التوصيل تفعيل من الوصل يفيد التكثير كالقطع و التقطيع و القتل و التقتيل، و الضمير لمشركي مكّة و المعنى أنزلنا عليهم القرآن موصولاً بعضه ببعض: الآية بعد الآية، و السورة إثر السورة من وعد و وعيد و معارف و أحكام و قصص و عبر و حكم و مواعظ لعلّهم يتذكّرون.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ) الضميران للقرآن و قيل: للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و الأوّل أوفق للسياق، و في الآية و ما بعدها مدح طائفة من مؤمني أهل الكتاب بعد ما تقدّم في الآيات السابقة من ذمّ المشركين من أهل مكّة.

و سياق ذيل الآيات يشهد على أنّ هؤلاء الممدوحين طائفة خاصّة من أهل الكتاب

٥٣

آمنوا به فلا يعبؤ بما قيل إنّ المراد بهم مطلق المؤمنين منهم.

قوله تعالى: ( وَ إِذا يُتْلى‏ عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا ) إلخ، ضمائر الإفراد للقرآن، و اللّام في( الْحَقُّ ) للعهد و المعنى و إذا يقرأ القرآن عليهم قالوا: آمنّا به إنّه الحقّ الّذي نعهده من ربّنا فإنّه عرّفناه من قبل.

و قوله:( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ) تعليل لكونه حقّاً معهوداً عندهم أي إنّا كنّا من قبل نزوله مسلمين له أو مؤمنين للدين الّذي يدعو إليه و يسمّيه إسلاماً.

و قيل: الضميران للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما تقدّم أوفق للسياق، و كيف كان فهم يعنون بذلك ما قرؤه في كتبهم من أوصاف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الكتاب النازل عليه كما يشير إليه قوله تعالى:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ ) الأعراف: ١٥٧ و قوله:( أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ ) الشعراء: ١٩٧.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) إلخ في الآية وعد جميل لهم على ما فعلوا و مدح لهم على حسن سلوكهم و مداراتهم مع جهلة المشركين و لذا كان الأقرب إلى الفهم أن يكون المراد بإيتائهم أجرهم مرّتين إيتاؤهم أجر الإيمان بكتابهم و أجر الإيمان بالقرآن و صبرهم على الإيمان بعد الإيمان بما فيهما من كلفة مخالفة الهوى.

و قيل: المراد إيتاؤهم الأجر بما صبروا على دينهم و على أذى الكفّار و تحمّل المشاقّ و قد عرفت ما يؤيّده السياق.

و قوله:( وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) إلخ الدرء الدفع، و المراد بالحسنة و السيّئة قيل: الكلام الحسن و الكلام القبيح، و قيل: العمل الحسن و السيّئ و هما المعروف و المنكر، و قيل: الخلق الحسن و السيّئ و هما الحلم و الجهل، و سياق الآيات أوفق للمعنى الأخير فيرجع المعنى إلى أنّهم يدفعون أذى الناس عن أنفسهم بالمدارأة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ )

٥٤

إلخ، المراد باللغو لغو الكلام بدليل تعلّقه بالسمع، و المراد سقط القول الّذي لا ينبغي الاشتغال به من هذر أو سبّ و كلّ ما فيه خشونة، و لذا لمّا سمعوه أعرضوا عنه و لم يقابلوه بمثله و قالوا:( لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ ) و هو متاركة، و قوله:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) أي أمان منّا لكم، و هو أيضاً متاركة و توديع تكرّماً كما قال تعالى:( وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) .

و قوله:( لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ ) أي لا نطلبهم بمعاشرة و مجالسة، و فيه تأكيد لما تقدّمه، و هو حكاية عن لسان حالهم إذ لو تلفّظوا به لكان من مقابلة السيّئ بالسيّئ.

قوله تعالى: ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) المراد بالهداية الإيصال إلى المطلوب و مرجعه إلى إفاضة الإيمان على القلب و معلوم أنّه من شأنه تعالى لا يشاركه فيه أحد، و ليس المراد بها إراءة الطريق فإنّه من وظيفة الرسول لا معنى لنفيه عنه، و المراد بالاهتداء قبول الهداية.

لمّا بيّن في الآيات السابقة حرمان المشركين و هم قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نعمة الهداية و ضلالهم باتّباع الهوى و استكبارهم عن الحقّ النازل عليهم و إيمان أهل الكتاب به و اعترافهم بالحقّ ختم القول في هذا الفصل من الكلام بأنّ أمر الهداية إلى الله لا إليك يهدي هؤلاء و هم من غير قومك الّذين تدعوهم و لا يهدي هؤلاء و هم قومك الّذين تحبّ اهتداءهم و هو أعلم بالمهتدين.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج البزّار و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أهلك الله قوماً و لا قرناً و لا اُمّة و لا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية الّتي مسخت قردة. أ لم تر إلى قوله تعالى:( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) ؟

أقول: و في دلالة الآية على الإهلاك بخصوص العذاب السماويّ ثمّ انقطاعه

٥٥

بنزول التوراة خفاء.

و فيه في قوله تعالى:( وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا ) الآية أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لمّا قرّب الله موسى إلى طور سيناء نجيّا قال: أي ربّ هل أحد أكرم عليك منّي؟ قرّبتني نجيّا و كلّمتني تكليماً. قال: نعم، محمّد أكرم عليّ منك. قال: فإن كان محمّد أكرم عليك منّي فهل اُمّة محمّد أكرم من بني إسرائيل؟ فلقت لهم البحر و أنجيتهم من فرعون و عمله و أطعمتهم المنّ و السلوى. قال: نعم، اُمّة محمّد أكرم عليّ من بني إسرائيل. قال: إلهي أرنيهم. قال: إنّك لن تراهم و إن شئت أسمعتك صوتهم. قال: نعم إلهي.

فنادى ربّنا اُمّة محمّد أجيبوا ربّكم، فأجابوا و هم في أصلاب آبائهم و أرحام اُمّهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبّيك أنت ربّنا حقّاً و نحن عبيدك حقّاً. قال: صدقتم و أنا ربّك و أنتم عبيدي حقّاً قد غفرت لكم قبل أن تدعوني و أعطيتكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلّا الله دخل الجنّة.

قال ابن عبّاس: فلمّا بعث الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يمنّ عليه بما أعطاه و بما أعطى اُمّته فقال: يا محمّد( وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا ) .

أقول: و رواه فيه أيضاً بطرق اُخرى عن غيره، و روى هذا المعنى أيضاً الصدوق في العيون، عن الرضاعليه‌السلام ‏ لكنّ حمل الآية على هذا المعنى يوجب اختلال السياق و فساد ارتباط الجمل المتقدّمة و المتأخّرة بعضها ببعض.

و في البصائر، بإسناده عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسنعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ ) يعني من اتّخذ دينه هواه بغير هدى من أئمّة الهدى.

أقول: و روي مثله بإسناده عن المعلّى عن أبي عبداللهعليه‌السلام و هو من الجري أو من البطن.

و في المجمع في قوله تعالى:( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ) الآيات، نزل قوله:( الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ) و ما بعده في عبدالله بن سلام و تميم الداريّ و الجارود و العبديّ

٥٦

و سلمان الفارسيّ فإنّهم لمّا أسلموا نزلت فيهم الآيات. عن قتادة.

و قيل: نزلت في أربعين رجلاً من أهل الإنجيل كانوا مسلمين بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل مبعثه اثنان و ثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وقت قدومه و ثمانية قدموا من الشام منهم بحيرا و أبرهة و الأشرف و أيمن و إدريس و نافع و تميم.

أقول: و روي غير ذلك.

و فيه في معنى قوله تعالى:( وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ) و قيل: يدفعون بالحلم جهل الجاهل. عن يحيى بن سلام، و معناه يدفعون بالمدارأة مع الناس أذاهم عن أنفسهم: و روي مثل ذلك عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و مسلم و الترمذيّ و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل عن أبي هريرة قال: لمّا حضرت وفاة أبي طالب أتاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا عمّاه قل: لا إله إلّا الله أشهد لك بها عندالله يوم القيامة، فقال: لو لا أن يعيرني قريش يقولون ما حمله عليها إلّا جزعه من الموت لأقررت بها عليك فأنزل الله عليه:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )

أقول: و روي ما في معناه عن ابن عمر و ابن المسيّب و غيرهما، و روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام مستفيضة على إيمانه و المنقول من أشعار مشحون بالإقرار على صدق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و حقيّة دينه، و هو الّذي آوى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صغيراً و حماه بعد البعثة و قبل الهجرة فقد كان أثر مجاهدته وحده في حفظ نفسه الشريفة في العشر سنين قبل الهجرة يعدل أثر مجاهدة المهاجرين و الأنصار بأجمعهم في العشر سنين بعد الهجرة.

٥٧

( سورة القصص الآيات ٥٧ - ٧٥)

وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا  أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ٥٧ ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا  فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا  وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ( ٥٨ ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا  وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ( ٥٩ ) وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا  وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ  أَفَلَا تَعْقِلُونَ ( ٦٠ ) أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( ٦١ ) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( ٦٢ ) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا  تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ  مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ( ٦٣ ) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ  لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ( ٦٤ ) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ( ٦٥ ) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ( ٦٦ ) فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ( ٦٧ ) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ  مَا كَانَ لَهُمُ

٥٨

الْخِيَرَةُ  سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٦٨ ) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ( ٦٩ ) وَهُوَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ  لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ  وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ٧٠ ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ  أَفَلَا تَسْمَعُونَ ( ٧١ ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ  أَفَلَا تُبْصِرُونَ ( ٧٢ ) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٧٣ ) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( ٧٤ ) وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( ٧٥ )

( بيان)

تذكر الآيات عذراً آخر ممّا اعتذر به مشركوا مكّة عن الإيمان بكتاب الله بعد ما ذكرت عذرهم السابق:( لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) و ردّته و هو قولهم: إن آمنّا بما جاء به كتابك من الهدى و هو دين التوحيد تخطّفنا مشركو العرب من أرضنا بالقتل و السبي و النهب و سلب الأمن و السلام.

فردّه تعالى بأنّا جعلنا لهم حرماً آمنّا يحترمه العرب و يجبى إليه ثمرات كلّ شي‏ء فلا موجب لخوفهم من تخطّفهم.

على أنّ تنعّمهم بالأموال و الأولاد و بطر معيشتهم لا يضمن لهم الأمن من الهلاك حتّى يرجّحوه على اتّباع الهدى فكم من قرية بطرت معيشتها أهلكها الله و استأصلها

٥٩

و ورثها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلّا قليلاً.

على أنّ الّذي يؤثرونه على اتّباع الهدى إنّما هو متاع الحياة الدنيا العاجلة و لا يختاره عاقل على الحياة الآخرة الخالدة الّتي عندالله سبحانه.

على أنّ الخلق و الأمر لله فإذا اختار شيئاً و أمر به فليس لأحد أن يخالفه إلى ما يشتهيه لنفسه فيختار ما يميل إليه طبعه ثمّ استشهد تعالى بقصّة قارون و خسفه به و بداره الأرض.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) إلى آخر الآية. التخطّف الاختلاس بسرعة، و قيل الخطف و التخطّف الاستلاب من كلّ وجه، و كأنّ تخطّفهم من أرضهم استعارة اُريد به القتل و السبي و نهب الأموال كأنّهم و ما يتعلّق بهم من أهل و مال يؤخذون فتخلو منهم أرضهم، و المراد بالأرض أرض مكّة و الحرم بدليل قوله بعد:( أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً ) و القائل بعض مشركي مكّة.

و الجملة مسوقة للاعتذار عن الإيمان بأنّهم إن آمنوا تخطّفتهم العرب من أرضهم أرض مكّة لأنّهم مشركون لا يرضون بإيمانهم و رفض أوثانهم فهو من قبيل إبداء المانع ففيه اعتراف بحقّيّة أصل الدعوة و أنّ الكتاب بما يشتمل عليه حقّ لكنّ خطر التخطّف مانع من قبوله و الإيمان به، و لهذا عبّر بقوله:( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ ) و لم يقل: إن نتّبع كتابك أو دينك أو ما يقرب من ذلك.

و قوله:( أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً ) قيل: التمكين مضمّن معنى الجعل و المعنى أ و لم نجعل لهم حرماً آمنا ممكّنين إيّاهم، و قيل: حرماً منصوباً على الظرفيّة و المعنى: أ و لم نمكّن لهم في حرم، و( آمِناً ) صفة( حَرَماً ) أي حرماً ذا أمن، و عدّ الحرم ذا أمن - و المتلبّس بالأمن أهله - من المجاز في النسبة، و الجملة معطوفة على محذوف و التقدير أ و لم نعصمهم و نجعل لهم حرماً آمنّا ممكّنين إيّاهم.

و هذا جواب أوّل منه تعالى لقولهم:( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) و محصّله: أنّا مكّنّاهم في أرض جعلناها حرماً ذا أمن تحترمه العرب فلا موجب لخوفهم أن يتخطّفوا منها إن آمنوا.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

بكل شيء ، لهذا فإن العبارة السابعة والأخيرة في هذا البحث تقول :( وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ ) .

إذن فلا حاجة حتى للشهود ، لأنّ الله هو أعلم من كلّ أولئك الشهود ، ولكن لطفه وعدله يقتضيان إحضار الشهود ، نعم فهذا هو مشهد يوم القيامة ، فليستعد الجميع لذلك اليوم.

* * *

١٦١

الآيتان

( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) )

التّفسير

الذين يدخلون جهنم زمرا :

تواصل الآيات هنا بحث المعاد ، وتستعرض بالتفصيل ثواب وجزاء المؤمنين والكافرين الذي استعرض بصورة مختصرة في الآيات السابقة. وتبدأ بأهل جهنم ، إذ تقول :( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ) .

فمن الذي يسوقهم إلى جهنم؟

كما هو معروف فإن ملائكة العذاب هي التي تسوقهم حتى أبواب جهنم ، ونظير هذه العبارة ورد في الآية (٢١) من سورة (ق) ، إذ تقول :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ) .

١٦٢

عبارة «زمر» تعني الجماعة الصغيرة من الناس ، وتوضح أن الكافرين يساقون إلى جهنم على شكل مجموعات مجموعات صغيرة ومتفرقة.

و «سيق» من مادة (سوق) وتعني (الحث على أسير).

ثم تضيف( حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ) (١) .

يتّضح بصورة جيدة من خلال هذه العبارة ، أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل سوق أولئك الكفرة ، وهي كأبواب السجون المغلقة التي تفتح أمام المتهمين الذين يراد سجنهم ، وهذا الحدث المفاجئ يوجد رعبا ووحشة كبيرة في قلوب الكافرين ، وقبل دخولهم يتلقاهم خزنة جهنم باللوم والتوبيخ ، الذين يقولون استهجانا وتوبيخا لهم : لم كفرتم وقد هيئت لكم كافة أسباب الهداية ، ألم يرسل إليكم أنبياء منكم يتلون آيات الله عليكم باستمرار ، ومعهم معجزات من خالقكم ، وإنذار وإعلام بالأخطار التي ستصيبكم إن كفرتم بالله(٢) ؟ فكيف وصل بكم الحال إلى هذه الدرجة رغم إرسال الأنبياء إليكم؟

حقّا إنّ كلام خزنة جهنم يعد من أشد أنواع العذاب على الكافرين الذين يواجهون بمثل هذا اللوم فور دخولهم جهنم.

على أية حال ، فإنّ الكافرين يجيبون خزنة جهنم بعبارة قصيرة ملؤها الحسرات ، قائلين :( قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

مجموعة من المفسّرين الكبار اعتبروا( كَلِمَةُ الْعَذابِ ) إشارة إلى قوله تعالى حين هبط آدم على الأرض ، أو حينما قرر الشيطان إغواء بني آدم ، كما ورد في الآية (٣٩) من سورة البقرة( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

__________________

(١) «خزنة» جمع (خازن) من مادة (خزن) على وزن (جزم) وتعني حافظ الشيء ، و (خازن) تطلق على المحافظ والحارس.

(٢) «يتلون» و «ينذرون» : كليهما فعل مضارع ودليل على الاستمرارية.

١٦٣

وحينما قال الشيطان : لأغوينهم جميع إلّا عبادك المخلصين ، فأجابه البارئعزوجل ( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (١) .

وبهذا الشكل اعترفوا بأنّهم كذبوا الأنبياء وأنكروا آيات الله ، وبالطبع فإن مصيرهم لن يكون أفضل من هذا.

كما يوجد احتمال في أنّ المراد من( حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ ) هو ما تعنيه الآية السابعة في سورة (يس)( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وهو إشارة إلى أن الإنسان يصل أحيانا ـ بسبب كثرة ذنوبه وعدائه ولجاجته وتعصبه أمام الحق ـ إلى درجة يختم معها على قلبه ولا يبقى أمامه أيّ طريق للعودة ، وفي هذه الحالة يصبح مستحقا تماما للعذاب.

وعلى أيّة حال ، فإن مصدر كلّ هذه الأمور هو عمل الإنسان ذاته ، وليس من الصحيح الاستدلال على معنى الجبر وفقدان حرية الإرادة.

هذا النقاش القصير ينتهي مع اقترابهم من عتبة جهنم( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) .

فأبواب جهنم ـ كما أشرنا إليها من قبل ـ يمكن أن تكون قد نظمت حسب أعمال الإنسان ، وإن كلّ مجموعة كافرة تدخل جهنم من الباب الذي يتناسب مع أعمالها ، وذلك مثل أبواب الجنّة التي يطلق على أحد أبوابها اسم «باب المجاهدين» وقد جاء في كلام لأمير المؤمنين «إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة»(٢) .

والذي يلفت النظر هو أن ملائكة العذاب تؤّكد على مسألة التكبر من بين بقية الصفات الرذيلة التي تؤدي بالإنسان إلى السقوط في نار جهنم ، وذلك إشارة إلى أن التكبر والغرور وعدم الانصياع والاستسلام أمام الحق هو المصدر الرئيسي

__________________

(١) الم السجدة ، ١٣.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة (٢٧).

١٦٤

للكفر والانحراف وارتكاب الذنب.

نعم ، فالتكبر ستار سميك يغطي عيني الإنسان ويحول دون رؤيته للحقائق الساطعة المضيئة ، ولهذا نقرأ في رواية عن الإمامين المعصومين الباقر والصادقعليهما‌السلام «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرة من كبر»(١) .

* * *

__________________

(١) الكافي ، المجلد الثّاني ، باب الكبر الحديث. ٦.

١٦٥

الآيات

( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥) )

التّفسير

المتقون يدخلون الجنّة أفواجا!!

هذه الآيات ـ التي هي آخر آيات سورة (الزمر) ـ تواصل بحثها حول موضوع المعاد ، حيث تتحدث عن كيفية دخول المؤمنين المتقين الجنّة ، بعد أن كانت الآيات السابقة قد استعرضت كيفية دخول الكافرين جهنم ، لتتوضح الأمور أكثر من خلال هذه المقارنة.

في البداية تقول :( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) .

استعمال عبارة (سيق) (والتي هي من مادة (سوق) على وزن (شوق) وتعني الحث على السير). أثار التساؤل ، كما لفت أنظار الكثير من المفسّرين ، لأنّ هذا

١٦٦

التعبير يستخدم في موارد يكون تنفيذ العمل فيها من دون أي اشتياق ورغبة في تنفيذه ، ولذلك فإنّ هذه العبارة صحيحة بالنسبة لأهل جهنم ، ولكن لم استعملت بشأن أهل الجنّة الذين يتوجهون إلى الجنّة بتلهف واشتياق؟

قال البعض : إنّ هذه العبارة استعملت هنا لأنّ الكثير من أهل الجنّة ينتظرون أصدقاءهم.

والبعض الآخر قال : إنّ تلهف وشوق المتقين للقاء البارئعزوجل يجعلهم يتحينون الفرصة لذلك اللقاء بحيث لا يقبلون حتّى بالجنّة.

فيما قال البعض : إنّ هناك وسيلة تنقلهم بسرعة إلى الجنّة.

مع أنّ هذه التّفسيرات جيدة ولا يوجد أي تعارض فيما بينهما ، إلّا أنّ هناك نقطة اخرى يمكن أن تكون هي التّفسير الأصح لهذه العبارة ، وهي مهما كان حجم عشق المتقين للجنّة ، فإن الجنّة وملائكة الرحمة مشتاقة أكثر لوفود أولئك عليهم ، كما هو الحال بالنسبة إلى المستضيف المشتاق لضيف والمتلهف لوفوده عليه إذ أنّه لا يجلس لانتظاره وإنّما يذهب لجلبه بسرعة قبل أن يأتي هو بنفسه إلى بيت المستضيف ، فملائكة الرحمة هي كذلك مشتاقة لوفود أهل الجنّة.

والملاحظة أن (زمر) تعني هنا المجموعات الصغيرة ، وتبيّن أن أهل الجنّة يساقون إلى الجنّة على شكل مجموعات مجموعات كلّ حسب مقامه.

ثم تضيف الآية( حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

الملفت للنظر أن القرآن الكريم يقول بشأن أهل جهنم : إنّهم حينما يصلون إلى قرب جهنم تفتح لهم الأبواب ، ويقول بشأن أهل الجنّة ، إن أبواب الجنّة مفتحة لهم

__________________

(١) ما هو جواب الجملة الشرطية (إذا جاؤها)؟ ذكر المفسّرون آراء متعددة ، أنسبها الذي يقول : إن عبارة (قال لهم خزنتها) جوابها والواو زائدة. كما احتملوا أن جواب الجملة محذوف ، والتقدير (سلام من الله عليكم) ، أو أن حذف الجواب إشارة إلى أن سعة الموضوع وعلوه لا يمكن وصفها ، والبعض قال : (فتمت) هي الجواب و (الواو) زائدة.

١٦٧

من قبل ، وهذه إشارة إلى الاحترام والتبجيل الذي يستقبلون به من قبل ملائكة الرحمة ، كالمستضيف المحب الذي يفتح أبواب بيته للضيوف قبل وصولهم ، ويقف عند الباب بانتظارهم.

وقد قرأنا في الآيات السابقة أن ملائكة العذاب يستقبلون أهل جهنم باللوم والتوبيخ الشديدين ، عند ما يقولون لهم : قد هيئت لكم أسباب الهداية ، فلم تركتموها وانتهيتم إلى هذا المصير المشؤوم؟

أمّا ملائكة الرحمة فإنّها تبادر أهل الجنّة بالسلام المرافق للاحترام والتبجيل ، ومن ثمّ تدعوهم إلى دخول الجنّة.

عبارة «طبتم» من مادة (طيب) على وزن (صيد) وتعني الطهارة ، ولأنّها جاءت بعد السلام والتحية ، فمن الأرجح القول بأن لها مفهوما إنشائيا ، وتعني : لتكونوا طاهرين مطهرين ونتمنى لكم السعادة والسرور.

وبعبارة اخرى : طابت لكم هذه النعم الطاهرة ، يا أصحاب القلوب الطاهرة.

ولكن الكثير من المفسّرين ذكروا لهذه الجملة معنى خبريا عند تفسيرها ، وقالوا : إنّ الملائكة تخاطبهم بأنّكم تطهرتم من كلّ لوث وخبث ، وقد طهرتم بإيمانكم وبعملكم الصالح قلوبكم وأرواحكم ، وتطهرتم من الذنوب والمعاصي ، ونقل البعض رواية تقول : إنّ هناك شجرة عند باب الجنّة ، تفيض من تحتها عينا ماء صافيتان ، يشرب المؤمنون من إحداهما فيتطهر باطنهم ، ويغتسلون بماء العين الأخرى فيتطهر ظاهرهم ، و، هنا يقول خزنة الجنّة لهم :( سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ ) (١) .

الملاحظ أن «الخلود» استخدم بشأن كلّ من أهل الجنّة وأهل النّار ، وذلك لكي لا يخشى أهل الجنّة من زوال النعم الإلهية ، ولكي يعلم أهل النّار بأنّه لا سبيل لهم للنجاة من النّار.

__________________

(١) تفسير القرطبي المجلد (٨) الصفحة. ٥٧٣.

١٦٨

الآية التّالية تتكون من أربع عبارات قصار غزيرة المعاني تنقل عن لسان أهل الجنّة السعادة والفرح اللذين غمراهم ، حيث تقول :( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ) .

وتضيف في العبارة التالية( وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ) .

المراد من الأرض هنا أرض الجنّة. واستخدام عبارة (الإرث) هنا ، إنّما جاء لكونهم حصلوا على كلّ هذه النعم في مقابل جهد قليل بذلوه ، إذ ـ كما هو معروف ـ فإنّ الميراث هو الشيء الذي يحصل عليه الإنسان من دون أي عناء مبذول.

أو أنّها تعني أن لكل إنسان مكان في الجنّة وآخر في جهنم ، فإن ارتكب عملا استحق به جهنم فإن مكانه في الجنّة سوف يمنح لغيره ، وإن عمل عملا صالحا استحق به الجنّة ، فيمنح مكانا في الجنّة ويترك مكانه في جهنم لغيره.

أو تعني أنّهم يتمتعون بكامل الحرية في الاستفادة من ذلك الإرث ، كالميراث الذي يحصل عليه الإنسان إذ يكون حرا في استخدامه.

هذه العبارة ـ في الواقع ـ تحقق عيني للوعد الإلهي الذي ورد في الآية (٦٣) من سورة مريم( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا ) .

العبارة الثّالثة تكشف عن الحرية الكاملة التي تمنح لأهل الجنّة في الاستفادة من كافة ما هو موجود في الجنّة الواسعة ، إذ تقول :( نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) .

يستشف من الآيات القرآنية أن في الجنّة الكثير من البساتين والحدائق وقد أطلقت عليها في الآية (٧٢) من سورة التوبة عبارة( جَنَّاتِ عَدْنٍ ) وأهل الجنّة وفقا لدرجاتهم المعنوية يسكنون فيها ، وأن لهم كامل الحرية في التحرك في تلك الحدائق والبساتين في الجنّة.

أمّا العبارة الأخيرة فتقول :( فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) .

وهذه إشارة إلى أن هذه النعم الواسعة إنّما تعطى في مقابل العمل الصالح (المتولد من الايمان طبعا) ليكون صاحبه لائقا ومستحقا لنيل مثل هذه النعم.

١٦٩

وهنا يطرح هذه السؤال وهو : هل أنّ هذا القول صادر عن أهل الجنّة ، أم أنّه كلام الله جاء بعد كلام أهل الجنّة؟

المفسّرون وافقوا الرأيين ، ولكنّهم رجحوا المعنى الأوّل الذي يقول : إنّه كلام أهل الجنّة ويرتبط بالعبارات الأخرى في الآية.

وفي النهاية تخاطب الآية ـ مورد بحثنا وهي آخر آية من سورة الزمر ـ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلة :( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) يسبحون الله ويقدّسونه ويحمدونه.

إذ تشير إلى وضع الملائكة الحافين حول عرش الله ، أو أنّها تعبر عن استعداد أولئك الملائكة لتنفيذ الأوامر الإلهية ، أو أنّها إشارة إلى خفايا قيمة تمنح في ذلك اليوم للخواص والمقرّبين من العرش الإلهي ، مع أنّه لا يوجد أي تعارض بين المعاني الثلاثة ، إلا أن المعنى الأوّل أنسب.

ولهذا تقول العبارة التالية( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ ) .

وباعتبار هذه الأمور هي دلائل على ربوبية البارئعزوجل واستحقاق ذاته المقدسة والمنزّهة لكل أشكال الحمد والثناء ، فإنّ الجملة الأخيرة تقول :( وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

وهنا يطرح هذا السؤال : هل أن هذا الخطاب صادر عن الملائكة ، أم عن أهل الجنّة المتقين ، أم أنّه صادر عن الاثنين؟

المعنى الأخير أنسب من غيره ، لأنّ الحمد والثناء على الله هو منهاج كلّ أولي الألباب ، ومنهاج كلّ الخواص والمقربين ، واستعمال كلمة (قيل) وهي فعل مبني للمجهول يؤيد ذلك.

نهاية سورة الزّمر

* * *

١٧٠
١٧١

سورة

المؤمن

مكيّة

وعدد آياتها خمس وثمانون آية

١٧٢

«سورة المؤمن»

نظرة مختصرة في محتوى السورة :

سورة المؤمن هي طليعة الحواميم ، والحواميم في القرآن الكريم سبع سور متتالية يلي بعضها بعضا ، نزلت جميعا في مكّة ، وهي تبدأ بـ «حم».

هذه السورة كسائر السور المكّية ، تثير في محتواها قضايا العقيدة و، تتحدث عن أصول الدين الإسلامي ومبانيه وفي ذلك تلبي حاجة المسلمين في تلك المرحلة إلى تشييد وإقامة قواعد الدين الجديد.

ومحتوى هذه السورة يضم بين دفتيه الشدة واللطف ، ويجمع في نسيجه بين الإنذار والبشارة السورة ـ إذا ـ مواجهة منطقية حادّة مع الطواغيت والمستكبرين ، كما هي نداء لطف ورحمة ومحبة بالمؤمنين وأهل الحق.

وتمتاز هذه السورة أيضا بخصوصية تنفرد بها دون سور القرآن الأخرى ، إذ تتحدّث عن «مؤمن آل فرعون» وهو مقطع من قصة موسىعليه‌السلام ، وقصد مؤمن آل فرعون لم ترد في كتاب الله سوى في سورة «المؤمن».

إنّ قصة «مؤمن آل فرعون» هي قصة ذلك الرجل المؤمن المخلص الذي كان يتحلى بالذكاء والمعرفة في الوقت الذي هو من بطانة فرعون ، ومحسوب ـ ظاهرا ـ من حاشيته ـ لقد كان هذا الرجل مؤمنا بما جاء به موسىعليه‌السلام ، وقد احتل وهو يعمل في حاشية فرعون ـ موقعا حساسا مميزا في الدفاع عن موسىعليه‌السلام وعن دينه ، حتى أنّه ـ في الوقت الذي تعرضت فيه حياة موسىعليه‌السلام

١٧٣

للخطر ـ تحرّك من موقعه بسلوك فطن وذكي وحكيم لكي يخلّص موسى من الموت المحقق الذي كان قد أحاط به.

إنّ اختصاص السورة باسم «المؤمن» يعود إلى قصة هذا الرجل الذي تحدّثت عشرون آية منها عن جهاده ، أي ما يقارب ربع السورة.

يكشف الأفق العام أنّ حديث السورة عن «مؤمن آل فرعون» ينطوي على أبعاد تربوية لمجتمع المسلمين في مكّة ، فقد كان بعض المسلمين ممّن آمن بالإسلام يحافظ على علاقات طيبة مع بعض المشركين والمعاندين ، وفي نفس الوقت فإن إسلامه وانقياده لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس عليهما غبار.

لقد كان الهدف من هذه العلاقة مع المشركين هو توظيفها في أيّام الخطر لحماية الرسالة الجديدة ودفع الضر عن أتباعها ، وفي هذا الإطار يذكر التاريخ أنّ أبا طالبعليه‌السلام عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من جملة هؤلاء ، كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات الإسلامية المروية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام (١) .

وبشكل عام يمكن النظر إلى محتوى السورة في إطار ما تثيره النقاط والأقسام الآتية :

القسم الأوّل : وهو يضم طليعة آيات السورة التي تتحدث عن بعض من أسماء الله الحسنى ، خصوصا تلك التي ترتبط ببعث معاني الخوف والرجاء في القلوب ، مثل قوله تعالى:( غافِرِ الذَّنْبِ ) و( شَدِيدِ الْعِقابِ ) .

القسم الثّاني : تهديد الكفّار والطواغيت بعذاب هذه الدنيا الذي سبق وأن نال أقواما اخرى في ماضي التأريخ ، بالإضافة إلى التعرّض لعذاب الآخرة ، وتتناول بعض الصور والمشاهد التفصيلية فيه.

القسم الثّالث : بعد أن وقفت السورة على قصة موسى وفرعون ، بدأت بالحديث ـ بشكل واسع ـ عن قصة ذلك الرجل المؤمن الواعي الشجاع الذي

__________________

(١) الغدير ، المجلد الثامن ، ص ٣٨٨.

١٧٤

اصطلح عليه بـ «مؤمن آل فرعون» وكيف واجه البطانة الفرعونية وخلّص موسىعليه‌السلام من كيدها.

القسم الرّابع : تعود السورة مرّة اخرى للحديث عن مشاهد القيامة ، لتبعث في القلوب الغافلة الروح واليقظة.

القسم الخامس : تتعرض السورة المباركة فيه إلى قضيتي التوحيد والشرك ، بوصفهما دعامتين لوجود الإنسان وحياته ، وفي ذلك تتناول جانبا من دلائل التوحيد ، بالإضافة إلى ما تقف عليه من مناقشة لبعض شبهات المشركين.

القسم السّادس : تنتهي السورة ـ في محتويات القسم الأخير هذا ـ بدعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتحمل والصبر ، ثمّ تختم بالتعرض إلى خلاصات سريعة ممّا تناولته مفصلا من قضايا ترتبط بالمبدأ والمعاد ، وكسب العبرة من هلاك الأقوام الماضية ، وما تعرضت له من أنواع العذاب الإلهي في هذه الدنيا ، ليكون ذلك تهديدا للمشركين. ثمّ تخلص السورة في خاتمتها إلى ذكر بعض النعم الإلهية.

لقد أشرنا فيما مضى إلى أنّ تسمية السورة بـ «المؤمن» يعود إلى اختصاص قسم منها بالحديث عن «مؤمن آل فرعون». أما تسميتها بـ «غافر» فيعود إلى كون هذه الكلمة هي بداية الآية الثّالثة من آيات السورة المباركة.

فضيلة تلاوة السورة :

في سلسلة الرّوايات الإسلامية المروية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، نرى كلاما واسعا من فضل تلاوة سور «الحواميم» وبالأخص سورة «غافر» منها.

ففي بعض هذه الأحاديث نقرأ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «الحواميم تاج

١٧٥

القرآن»(١) .

وعن ابن عباس ممّا يحتمل نقله عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال : «لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم»(٢) .

وفي حديث عن الإمام الصادق نقرأ قولهعليه‌السلام : «الحواميم ريحان القرآن ، فحمدوا الله واشكروه بحفظها وتلاوتها ، وإنّ العبد ليقوم يقرأ الحواميم فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر والعنبر ، وإنّ الله ليرحم تاليها وقارئها ، ويرحم جيرانه وأصدقاءه ومعارفه وكلّ حميم أو قريب له ، وإنّه في القيامة يستغفر له العرش والكرسي وملائكة الله المقربون»(٣) .

وفي حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحواميم سبع ، وأبواب جهنّم سبع ، تجيء كلّ «حاميم» منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول : الّلهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرأني»(٤) .

وفي قسم من حديث مروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ «حاميم المؤمن» لم يبق روح نبيّ ولا صديق ولا مؤمن إلّا صلّوا عليه واستغفروا له»(٥) .

ومن الواضح أنّ هذه الفضائل الجزيلة ترتبط بالمحتوى الثمين للحواميم ، هذا المحتوى الذي إذا واظب الإنسان على تطبيقه في حياته والعمل به ، والالتزام بما يستلزمه من مواقف وسلوك ، فإنّه سيكون مستحقا للثواب العظيم والفضائل الكريمة التي قرأناها.

وإذا كانت الرّوايات تتحدث عن فضل التلاوة ، فإنّ التلاوة المعنية هي التي

__________________

(١) هذه الأحاديث في مجمع البيان في بداية تفسير سورة المؤمن.

(٢) المصدر السابق

(٣) مجمع البيان أثناء تفسير السورة

(٤) البيهقي طبقا لما نقله عنه الآلوسي في روح المعاني ، المجلد ٢٤ ، صفحة ٣٦.

(٥) مجمع البيان في مقدمة تفسير السورة.

١٧٦

تكون مقدمة للاعتقاد الصحيح ، فيما يكون الإعتقاد الصحيح مقدمة للعمل الصحيح. إذا التلاوة المعنية هي تلاوة الإيمان والعمل ، وقد رأينا في واحد من الأحاديث ـ الآنفة الذكر – المنقولة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعبير «من كان يؤمن بي ويقرأني».

* * *

١٧٧

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) )

التّفسير

صفات تبعث الأمل في النفوس :

تواجهنا في مطلع السورة الحروف المقطعة وهي هنا من نوع جديد لم نعهده في السور السابقة ، حيث افتتحت السورة بـ «جاء» و «ميم».

وبالنسبة للحروف المقطعة في مطلع السور كانت لنا بحوث كثيرة في معانيها ودلالاتها ، تعرضنا إليها أثناء الحديث عن بداية سورة «البقرة» ، وسورة «آل عمران» و «الأعراف» وسور اخرى.

الشيء الذي تضيفه هنا ، هو أنّ الحروف التي تبدأ به سورة المؤمن التي نحن الآن بصددها ، تشير ـ كما يستفاد ذلك من بعض الرّوايات ومن آراء المفسّرين ـ إلى أسماء الله التي تبدأ بحروف هذه السورة ، أي «حميد» و «مجيد» كما ورد ذلك

١٧٨

عن الامام الصادقعليه‌السلام (١) .

البعض الآخر ذهب إلى أنّ «ح» إشارة إلى أسمائه تعالى مثل «حميد» و «حليم» و «حنان» ، بينما «م» إشارة إلى «ملك» و «مالك» و «مجيد».

وهناك احتمال في أن حرف «الحاء» يشير إلى الحاكمية ، فيما يشير حرف «الميم» إلى المالكية الإلهية.

عن ابن عباس ، نقل القرطبي «في تفسيره» أن «حم» من أسماء الله العظمى(٢) .

ويتّضح في نهاية الفقرة أنّ ليس ثمّة من تناقض بين الآراء والتفاسير الآنفة الذكر ، بل هي تعمد جميعا إلى تفسير الحروف المقطعة بمعنى واحد.

في الآية الثّانية ـ كما جرى على ذلك الأسلوب القرآني ـ حديث عن عظمة القرآن ، وإشارة إلى أنّ هذا القرآن بكل ما ينطوي عليه من عظمة وإعجاز وتحدّ ، إنّما يتشكّل في مادته الخام من حروف الألف باء وهنا يمكن معنى الإعجاز.

يقول تعالى :( تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .

إنّ قدرته تعالى تعجز الأشياء الأخرى عن الوقوف إزاءه ، فقدرته ماضية في كل شيء ، وعزته مبسوطة ، أمّا علمه تعالى فهو في أعلى درجات الكمال ، بحيث يستوعب كلّ احتياجات الإنسان ويدفعه نحو التكامل.

والآية التي بعدها تعدّد خمسا من صفاته تعالى ، يبعث بعضها الأمل والرجاء ، بينما يبعث البعض الآخر منها على الخوف والحذر.

ويقول تعالى :( غافِرِ الذَّنْبِ ) .

( قابِلِ التَّوْبِ ) (٣) .

__________________

(١) يلاحظ «معاني الأخبار» للشيخ الصدوق ، صفحة ٢٢ ، باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور.

(٢) تفسير القرطبي أثناء تفسير الآية.

(٣) «توب» يمكن أن تكون جمع «توبة» وأن تكون مصدرا (يلاحظ مجمع البيان).

١٧٩

( شَدِيدِ الْعِقابِ ) .

( ذِي الطَّوْلِ ) (١) .

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .

أجل إنّ من له هذه الصفات هو المستحق للعبادة وهو الذي يملك الجزاء في العقاب والثواب.

* * *

ملاحظات

تنطوي الآيات الثلاث الآنفة الذكر على مجموعة من الملاحظات ، نقف عليها من خلال النقاط الآتية :

أولا : في الآيات أعلاه (آية ٢ و ٣) بعد ذكر الله وقبل ذكر المعاد( إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) اشتملت الآيتان على ذكر سبع صفات للذات الإلهية ، بعضها من «صفات الذات» والبعض الآخر منها من «صفات الفعل» التي انطوت على إشارات للتوحيد والقدرة والرحمة والغضب ، ثمّ ذكرت «عزيز» و «عليم» وجعلتهما بمثابة القاعدة التي نزل الكتاب الإلهي (القرآن) على أساسهما.

أمّا صفات «غافر الذنب» و «قابل التوب» و «شديد العقاب» و «ذي الطول» فهي بمثابة المقدمات اللازمة لتربية النفوس وتطويعها لعبادة الواحدة الأحد.

ثانيا : ابتدأت الصفات الآنفة الذكر بصفة «غافر الذنب» أوّلا و «ذي الطول» أخيرا ، أي صاحب النعمة والفضل كصفة أخيرة. وفي موقع وسط جاءت صفة «شديد العقاب» وهكذا ذكرت الآية الغضب الإلهي بين رحمتين. ثمّ إنّنا نلاحظ أنّ

__________________

(١) «طول» على وزن «قول» بمعنى النعمة والفضل ، وبمعنى القدرة والقوة والمكنة وما يشبه ذلك. بعض المفسّرين يقول : إنّ «ذي الطول» هو الذي يبذل النعم الطويلة والجزيلة للآخرين ، ولذلك فإن معناها أخص من معنى «المنعم» كما يقول صاحب مجمع البيان.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425