الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 128751 / تحميل: 6815
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

و قوله:( يُجْبى‏ إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الجباية الجمع، و الكلّ للتكثير لا للعموم لعدم إرادة العموم قطعاً، و المعنى: يجمع إلى الحرم ثمرات كثير من الأشياء، و الجملة صفة لحرماً جيي‏ء بها لما عسى أن يتوهّم أنّهم يتضرّرون إن آمنوا بانقطاع الميرة.

و قوله:( رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا ) مفعول مطلق أو حال من ثمرات، و قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) استدراك عن جميع ما تقدّم أي إنّا نحن حفظناهم في أمن و رزقناهم من كلّ الثمرات لكنّ أكثرهم جاهلون بذلك فيحسبون أنّ الّذي يحفظهم من تخطّف العرب هو شركهم و عبادتهم الأصنام.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ) إلى آخر الآية البطر الطغيان عند النعمة، و( مَعِيشَتَها ) منصوب بنزع الخافض أي و كم أهلكنا من قرية طغت في معيشتها.

و قوله:( فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ) أي إنّ مساكنهم الخربة الخاوية على عروشها مشهودة لكم نصب أعينكم باقية على خرابها لم تعمر و لم تسكن بعد هلاكهم إلّا قليلاً منها.

و بذلك يظهر أنّ الأنسب كون( إِلَّا قَلِيلًا ) استثناء من( مَساكِنُهُمْ ) لا من قوله:( مِنْ بَعْدِهِمْ ) بأن يكون المعنى لم تسكن من بعدهم إلّا زماناً قليلاً إذ لا يسكنها إلّا المارّة يوماً أو بعض يوم في الأسفار.

و قوله:( وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ ) حيث ملكوها ثمّ تركوها فلم يخلفهم غيرنا فنحن ورثناهم مساكنهم، و في الجملة أعني قوله:( كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ ) عناية لطيفة فإنّه تعالى هو المالك لكلّ شي‏ء ملكاً حقيقيّاً مطلقاً فهو المالك لمساكنهم و قد ملّكها إيّاهم بتسليطهم عليها ثمّ نزعها من أيديهم بإهلاكهم و بقيت بعدهم لا مالك لها إلّا هو فسمّى نفسه وارثاً لهم بعناية أنّه الباقي بعدهم و هو المالك لما كان بأيديهم كأنّ ملكهم الاعتباريّ انتقل إليه و لا انتقال هناك بالحقيقة و إنّما ظهر ملكه الحقيقيّ بزوال ملكهم الاعتباريّ.

٦١

و الآية جواب ثان منه تعالى لقولهم:( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) و محصّله أنّ مجرّد عدم تخطّف العرب لكم من أرضكم لا يضمن لكم البقاء و لا يحفظ لكم أرضكم و التنعّم فيها كما تشاؤن فكم من قرية بالغة في التنعّم ذات أشر و بطر أهلكنا أهلها و بقيت مساكنهم خالية غير مسكونة لا وارث لها إلّا الله.

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى‏ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا ) اُمّ القرى هي أصلها و كبيرتها الّتي ترجع إليها و في الآية بيان السنّة الإلهيّة في عذاب القرى بالاستئصال و هو أنّ عذاب الاستئصال لا يقع منه تعالى إلّا بعد إتمام الحجّة عليهم بإرسال رسول يتلو عليهم آيات الله، و إلّا بعد كون المعذّبين ظالمين بالكفر بآيات الله و تكذيب رسوله.

و في تعقيب الآية السابقة بهذه الآية الشارحة لسنّته تعالى في إهلاك القرى تخويف لأهل مكّة المشركين بالإيماء إلى أنّهم لو أصرّوا على كفرهم كانوا في معرض نزول العذاب لأنّ الله قد بعث في اُمّ قراهم و هي مكّة رسولاً يتلو عليهم آياته و هم مع ذلك ظالمون بتكذيب رسولهم.

و بذلك يظهر النكتة في الالتفات من التكلّم بالغير إلى الغيبة في قوله:( وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) فإنّ في الإيماء إلى حصول شرائط العذاب فيهم لو كذّبوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقوية لنفسه و تأكيداً لحجّته، و أمّا العدول بعده إلى سياق التكلّم بالغير في قوله:( وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى) فهو رجوع إلى السياق السابق بعد قضاء الوطر.

قوله تعالى: ( وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) إلخ الإيتاء: الإعطاء و( مِنْ شَيْ‏ءٍ ) بيان لما لإفادة العموم أي كلّ شي‏ء اُوتيتموه، و المتاع ما يتمتّع به و الزينة ما ينضمّ إلى الشي‏ء ليفيده جمالاً و حسناً، و الحياة الدنيا الحياة المؤجّلة المقطوعة الّتي هي أقرب الحياتين منّا و تقابلها الحياة الآخرة الّتي هي خالدة مؤبّدة، و المراد بما عندالله الحياة الآخرة السعيدة الّتي عندالله و جواره و لذا عدّ خيراً و أبقى.

و المعنى: أنّ جميع النعم الدنيويّة الّتي أعطاكم الله إيّاها متاع و زينة زيّنت بها هذه الحياة الدنيا الّتي هي أقرب الحياتين منكم و هي بائدة فانية و ما عندالله من ثوابه

٦٢

في الدار الآخرة المترتّب على اتّباع الهدى و الإيمان بآيات الله خير و أبقى فينبغي أن تؤثروه على متاع الدنيا و زينتها أ فلا تعقلون.

و الآية جواب ثالث عن قولهم:( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) محصّله لنسلّم أنّكم إن اتّبعتم الهدى تخطّفتكم العرب من أرضكم لكنّ الّذي تفقدونه هو متاع الحياة الدنيا و زينتها الفانية فما بالكم تؤثرونه على ما عندالله من ثواب اتّباع الهدى و سعادة الحياة الآخرة و هي خير و أبقى.

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) الآية إلى تمام سبع آيات إيضاح لمضمون الآية السابقة - و هو أنّ إيثار اتّباع الهدى أولى من تركه و التمتّع بمتاع الحياة الدنيا - ببيان آخر فيه مقايسة حال من اتّبع الهدى و ما يلقاه من الوعد الحسن الّذي وعده الله، من حال من لم يتّبعه و اقتصر على التمتّع من متاع الحياة الدنيا و سيستقبله يوم القيامة الإحضار و تبرّي آلهته منه و عدم استجابتهم لدعوته و مشاهدة العذاب و السؤال عن إجابتهم الرسل.

فقوله:( أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ ) الاستفهام إنكاريّ، و الوعد الحسن هو وعده تعالى بالمغفرة و الجنّة كما قال تعالى:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) المائدة: ٩، و لا يكذب وعده تعالى قال:( أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) يونس: ٥٥.

و قوله:( كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) أي و هو محروم من ذلك الوعد الحسن لاقتصاره على التمتّع بمتاعها، و الدليل على هذا التقييد المقابلة بين الوعد و التمتيع.

و قوله:( ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) أي للعذاب، أو للسؤال و المؤاخذة و( ثُمَّ ) للترتيب الكلاميّ و إتيان الجملة اسميّة كما فيما يقابلها من قوله:( فَهُوَ لاقِيهِ ) للدلالة على التحقّق.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) الشركاء

٦٣

هم الّذين كانوا يعبدونهم في الدنيا و كونهم شركاء عندهم لكونهم يعطونهم أو ينسبون إليهم بعض ما هو من شؤونه تعالى كالعبادة و التدبير، و في قوله:( يُنادِيهِمْ ) إشارة إلى بعدهم و خذلانهم يومئذ.

قوله تعالى: ( قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا ) آلهتهم الّذين يرونهم شركاء لله سبحانه صنفان صنف منهم عباد لله مكرمون كالملائكة المقرّبين و عيسى بن مريمعليه‌السلام ، و صنف منهم كعتاة الجنّ و مدّعي الاُلوهيّة من الإنس كفرعون و نمرود و غيرهما و قد ألحق الله سبحانه بهم كلّ مطاع في باطل كإبليس و قرناء الشياطين و أئمّة الضلال كما قال:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ - إلى أن قال -وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً ) يس: ٦٢، و قال:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) الجاثية: ٢٣، و قال:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) التوبة: ٣١.

و الّذين يشير إليهم قوله:( قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) هم من الصنف الثاني بدليل ذكرهم إغواءهم و تبرّيهم من عبادتهم و هؤلاء المشركون و إن كانوا أنفسهم أيضاً ممّن حقّ عليهم القول كما يشير إليه قوله:( حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) الم السجدة: ١٣، و لكنّ المراد بهم في الآية المبحوث عنها المتبوعون منهم الّذين ينتهي إليهم الشرك و الضلال.

و إيراد قول هؤلاء الشركاء مع عدم ذكر أنّ المسؤلين أشاروا إليهم لعلّه للإشارة إلى أنّهم ضلّوا عنهم في هذا الموقف كما في قوله تعالى:( وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ ) حم السجدة: ٤٨.

و قوله:( رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا ) أي هؤلاء - يشيرون إلى المشركين - هم الّذين أغويناهم و الجملة توطئة للجملة التالية.

و قوله:( أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا ) أي كانت غوايتهم بإغوائنا لغوايتنا أنفسنا فكما كنّا غوينا باختيارنا من غير إلجاء كذلك هم غووا باختيار منهم من غير إلجاء، و الدليل على هذا المعنى ما حكاه الله عن إبليس يومئذ إذ قال:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ

٦٤

إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) إبراهيم: ٢٢ و قال حاكياً لتساؤل الظالمين و قرنائهم:( وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ) الصافّات: ٣٢ أي ما كان ليصل إليكم منّا و نحن غاون غير الغواية.

و من هنا يظهر أنّ لقولهم:( أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا ) معنى آخر، و هو أنّهم اكتسبوا منّا نظير الوصف الّذي كان فينا غير أنّا نتبرّأ منهم حيث لم نلجئهم إلى الغواية ما كانوا يعبدوننا بإلجاء.

و قوله:( تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ) تبرّ منهم مطلقاً حيث لم يكن لهم أن يلجؤهم و يسلبوا منهم الاختيار، و قوله( ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ ) أي بإلجاء منّا، أو لتبرّينا من أعمالهم فإنّ من تبرّأ من عمل لم ينتسب إليه و إلى هذا المعنى يؤل قوله تعالى في مواضع من كلامه في وصف هذا الموقف:( وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) الأنعام: ٢٤( وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ ) حم السجدة: ٤٨( وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ) يونس: ٢٨ إلى غير ذلك من الآيات فافهم.

و قيل: المعنى تبرّأنا إليك من أعمالهم ما كانوا إيّانا يعبدون بل كانوا يعبدون أهواءهم أو كانوا يعبدون الشياطين. و لا يخلو من سخافة.

و لكون كلّ من قوليه:( تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ) ( ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ ) في معنى قوله:( أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا ) جي‏ء بالفصل من غير عطف.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ ) المراد بشركائهم الآلهة الّتي كانوا شركاء لله بزعمهم و لذا أضافهم إليهم. و المراد بدعوتهم دعوتهم إيّاهم لينصروهم و يدفعوا عنهم العذاب و لذا قال:( وَ رَأَوُا الْعَذابَ ) بعد قوله:( فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) .

و قوله:( لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ ) قيل: جواب لو محذوف لدلالة الكلام عليه

٦٥

و التقدير لو أنّهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب أي اعتقدوا أنّ العذاب حقّ، و يمكن أن يكون لو للتمنّي أي ليتهم كانوا يهتدون.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ) معطوف على قوله السابق:( وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ ) إلخ، سئلوا أوّلاً: عن شركائهم و اُمروا أن يستنصروهم، و ثانياً: عن جوابهم للمرسلين إليهم من عندالله.

و المعنى: ما ذا قلتم في جواب من اُرسل إليكم من رسل الله فدعوكم إلى الإيمان و العمل الصالح؟.

قوله تعالى: ( فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ ) العمى استعارة عن جعل الإنسان بحيث لا يهتدي إلى خبر، و كان مقتضى الظاهر أن ينسب العمى إليهم لا إلى الأنباء لكن عكس الأمر فقيل:( فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ ) للدلالة على أخذهم من كلّ جانب و سدّ جميع الطرق و تقطّع الأسباب بهم كما قال:( وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) البقرة: ١٦٦ فلسقوط الأسباب عن التأثير يومئذ لا تهتدي إليهم الأخبار و لا يجدون شيئاً يعتذرون به للتخلّص من العذاب.

و قوله:( فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ ) تفريع على عمى الأنباء من قبيل تفرّع بعض أفراد العامّ عليه أي لا يسأل بعضهم بعضاً ليعدّوا به عذراً يعتذرون به عن تكذيبهم الرسل و ردّهم الدعوة.

و قد فسّر صدر الآية و ذيلها بتفاسير كثيرة مختلفة لا جدوى في التعرّض لها فرأينا الصفح عنها أولى.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى‏ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ) أي هذه حال من كفر و لم يرجع إلى الله سبحانه فأمّا من رجع و آمن و عمل صالحاً فمن المرجوّ أن يكون من المفلحين، و عسى - كما قيل - للتحقيق على عادة الكرام أو للترجّي من قبل التائب، و المعنى: فليتوقّع الفلاح.

قوله تعالى: ( وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) الخيرة بمعنى التخيّر كالطيرة بمعنى التطيّر.

٦٦

و الآية جواب رابع عن قولهم:( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) و الّذي يتضمّنه حجّة قاطعة.

بيان ذلك: أنّ الخلق و هو الصنع و الإيجاد ينتهي إليه تعالى كما قال:( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الزمر: ٦٢ فلا مؤثّر في الوجود بحقيقة معنى التأثير غيره تعالى فلا شي‏ء هناك يلجئه تعالى على فعل من الأفعال فإنّ هذا الشي‏ء المفروض إمّا مخلوق له منته في وجوده إليه فوجوده و آثار وجوده ينتهي إليه تعالى و لا معنى لتأثير الشي‏ء و لا لتأثير أثره في نفسه و إمّا غير مخلوق له و لا منته في وجوده إليه يؤثّر فيه بالإلجاء و القهر و لا مؤثّر في الوجود غيره و لا أنّ هناك شيئاً لا ينتهي في وجوده إليه تعالى فلا يعطيه شي‏ء أثراً و لا يمنعه شي‏ء من أثر كما قال:( وَ اللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١ و قال:( وَ اللهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ ) يوسف: ٢١.

و إذ لا قاهر يقهره على فعل و لا مانع يمنعه عن فعل فهو مختار بحقيقة معنى الاختيار هذا بحسب التكوين و التشريع يتبعه فإنّ حقيقة التشريع هي أنّه فطر الناس على فطرة لا تستقيم إلّا بإتيان اُمور هي الواجبات و ما في حكمها و ترك اُمور هي المحرّمات و ما في حكمها فما ينتفع به الإنسان في كماله و سعادته هو الّذي أمر به و ندب إليه و ما يتضرّر به هو الّذي نهى عنه و حذّر منه.

فله تعالى أن يختار في مرحلة التشريع من الأحكام و القوانين ما يشاء كما أنّ له أن يختار في مرحلة التكوين من الخلق و التدبير ما يشاء، و هذا معنى قوله:( وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ) و قد اُطلق إطلاقاً.

و الظاهر أنّ قوله:( يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) إشارة إلى اختياره التكويني فإنّ معنى إطلاقه أنّه لا تقصر قدرته عن خلق شي‏ء و لا يمنعه شي‏ء عمّا يشاؤه و بعبارة اُخرى لا يمتنع عن مشيّته شي‏ء لا بنفسه و لا بمانع يمنع و هذا هو الاختيار بحقيقة معناه، و قوله:( وَ يَخْتارُ ) إشارة إلى اختياره التشريعيّ الاعتباري و يكون عطفه على قوله:( يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) من عطف المسبّب على سببه لكون التشريع و الاعتبار متفرّعاً على التكوين و الحقيقة.

و يمكن حمل قوله:( يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) على الاختيار التكوينيّ و قوله:( وَ يَخْتارُ )

٦٧

على الأعمّ من الحقيقة و الاعتبار لكنّ الوجه السابق أوجه، و من الدليل عليه كون المنفيّ في قوله الآتي:( ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) هو الاختيار التشريعيّ الاعتباريّ، و الاختيار المثبت في قوله( وَ يَخْتارُ ) يقابله فالمراد إثبات الاختيار التشريعي الاعتباريّ.

ثمّ لا ريب في أنّ الإنسان له اختيار تكوينيّ بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنه بالعلم و الإرادة و إن لم يكن اختياراً مطلقاً فإنّ للأسباب و العلل الخارجيّة دخلاً في أفعاله إذ أكله لقمة من الطعام مثلاً متوقّف على تحقّق مادّة الطعام خارجاً و قابليّته و ملائمته و قربه منه و مساعدة أدوات الأخذ و القبض و الالتقام و المضغ و البلع و غير ذلك ممّا لا يحصى. فصدور الفعل الاختياريّ عنه مشروط بموافقة الأسباب الخارجيّة الداخليّة في تحقّق فعله، و الله سبحانه في رأس تلك الأسباب جميعاً و إليه ينتهي الكلّ و هو الّذي خلق الإنسان منعوتا بنعت الاختيار و أعطاه خيرته كما أعطاه خلقه.

ثمّ إنّ الإنسان يرى بالطبع لنفسه اختياراً تشريعيّاً اعتباريّاً فيما يشاؤه من فعل أو ترك بحذاء اختياره التكوينيّ فله أن يفعل ما يشاء و يترك ما يشاء من غير أن يكون لأحد من بني نوعه أن يحمله على شي‏ء أو يمنعه عن شي‏ء لكونهم أمثالاً له لا يزيدون عليه بشي‏ء في معنى الإنسانيّة و لا يملكون منه شيئاً، و هذا هو المراد بكون الإنسان حرّاً بالطبع.

فالإنسان مختار في نفسه حرّ بالطبع إلّا أن يملّك غيره من نفسه شيئاً فيسلب بنفسه عن نفسه الحرّيّة كما أنّ الإنسان الاجتماعيّ يسلب عن نفسه الحرّيّة بالنسبة إلى موارد السنن و القوانين الجارية في مجتمعة بدخوله في المجتمع و إمضائه ما يجري فيه من سنن و قوانين سواء كانت دينيّة أو اجتماعيّة، و كما أنّ المتقاتلين يملّك كلّ منهما الآخر من نفسه ما يغلب عليه فللغالب منهما أن يفعل بأسيره ما يشاء، و كما أنّ الأجير إذا ابتاع عمله و آجر نفسه فليس بحرّ في عمله إذ المملوكيّة لا تجامع الحرّيّة.

فالإنسان بالنسبة إلى سائر بني نوعه حرّ في عمله مختار في فعله إلّا أن يسلب باختيار منه شيئاً من اختياره فيملّك غيره، و الله سبحانه يملك الإنسان في نفسه و في فعله الصادر

٦٨

منه ملكاً مطلقاً بالملك التكوينيّ و بالملك الوضعيّ الاعتباريّ فلا خيرة له و لا حرّيّة بالنسبة إلى ما يريده منه تشريعاً بأمر أو نهي تشريعيّين كما لا خيرة و لا حرّيّة له بالنسبة إلى ما يشاؤه بمشيّته التكوينيّة.

و هذا هو المراد بقوله:( ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) أي لا اختيار لهم إذا اختار الله سبحانه لهم شيئاً من فعل أو ترك حتّى يختاروا لأنفسهم ما يشاؤن و إن خالف ما اختاره الله و الآية قريبة المعنى من قوله تعالى:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) الأحزاب: ٣٦ و للقوم في تفسير الآية أقاويل مختلفة غير مجدية أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى المطوّلات.

و قوله:( سُبْحانَ اللهِ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) أي عن شركهم باختيارهم أصناماً آلهة يعبدونها من دون الله.

و ههنا معنى آخر أدقّ أي تنزّه و تعالى عن شركهم بادّعاء أنّ لهم خيرة بالنسبة إلى ما يختاره تعالى بقبوله أو ردّه فإنّ الخيرة بهذا المعنى لا تتمّ إلّا بدعوى الاستقلال في الوجود و الاستغناء عنه تعالى و لا تتمّ إلّا مع الاشتراك معه تعالى في صفة الاُلوهيّة.

و في قوله:( وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ) التفات من التكلّم بالغير إلى الغيبة و النكتة فيه تأييد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تقويته و تطييب نفسه بإضافة صفة الربّ إليه فإنّ معناه إنّ ما أرسله به من الحكم ماض غير مردود فلا خيرة لهم في قبوله و ردّه، و لأنّهم لا يقبلون ربوبيّته.

و في قوله:( سُبْحانَ اللهِ ) وضع الظاهر موضع المضمر و النكتة فيه إرجاع الأمر إلى الذات المتعالية الّتي هي المبدأ للتنزّه و التعالي عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه فإنّه تعالى يتّصف بكلّ كمال و يتنزّه عن كل نقص لأنّه هو الله عزّ اسمه.

قوله تعالى:( وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ ) الإكنان الإخفاء و الإعلان الإظهار، و لكون الصدر يعدّ مخزناً للأسرار نسب الإكنان إلى الصدور و الإعلان إليهم أنفسهم.

و لعلّ تعقيب الآية السابقة بهذه الآية للإشارة إلى أنّه تعالى إنّما اختار لهم ما اختار لعلمه بما في ظاهرهم و باطنهم من أوساخ الشرك و المعصية فطهّرهم بذلك بحكمته.

٦٩

قوله تعالى: ( وَ هُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى‏ وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ظاهر السياق أنّ الضمير في صدر الآية راجع إلى( رَبُّكَ ) في الآية السابقة، و الظاهر على هذا أنّ اللّام في اسم الجلالة للتلميح إلى معنى الوصف، و قوله:( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) تأكيد للحصر المستفاد من قوله:( هُوَ اللهُ ) كأنّه قيل: و هو الإله - المتّصف وحده بالاُلوهيّة - لا إله إلّا هو.

و على ذلك فالآية كالمتمّم لبيان الآية السابقة كأنّه قيل: هو سبحانه مختار له أن يختار عليهم أن يعبدوه وحده، و هو يعلم ظاهرهم و باطنهم فله أن يقضي عليهم أن يعبدوه وحده و هو الإله المستحقّ للعبادة وحده فيجب عليهم أن يعبدوه وحده.

و يكون ما في ذيل الآية من قوله:( لَهُ الْحَمْدُ ) إلخ، وجوهاً ثلاثة توجّه كونه تعالى معبوداً مستحقّاً للعبادة وحده:

أمّا قوله:( لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى‏ وَ الْآخِرَةِ ) فلأنّ كلّ كمال موجود في الدنيا و الآخرة نعمة نازلة منه تعالى يستحقّ بها جميل الثناء، و كلّ جميل من هذه النعم الموهوبة مترشّحة من كمال ذاتيّ من صفاته الذاتيّة يستحقّ بها الثناء فله كلّ الثناء و لا يستقلّ شي‏ء غيره بشي‏ء من الثناء يثنى عليه به إلّا و ينتهي إليه و العبادة ثناء بقول أو فعل فهو المعبود المستحقّ للعبادة وحده.

و أمّا قوله:( وَ لَهُ الْحُكْمُ ) فلأنّه سبحانه هو المالك على الإطلاق لا يملك غيره إلّا ما ملّكه إيّاه و هو المالك لما ملّكه و هو سبحانه مالك في مرحلة التشريع و الاعتبار كما أنّه مالك في مرحلة التكوين و الحقيقة، و من آثار ملكه أن يقضي على عبيده و مملوكيه أن لا يعبدوا إلّا إيّاه.

و أمّا قوله:( وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فلأنّ الرجوع للحساب و الجزاء و إذ كان هو المرجع فهو المحاسب المجازي و إذ كان هو المحاسب المجازي وحده فهو الّذي يجب أن يعبد وحده و له دين يجب أن يتعبّد به وحده.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) إلى آخر الآية، السرمد على فعلل بمعنى الدائم، و قيل: هو من السرد و الميم زائدة

٧٠

و معناه المتتابع المطّرد، و تقييده بيوم القيامة إذ لا ليل بعد يوم القيامة.

و قوله:( مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ ) أي من الإله الّذي ينقض حكمه تعالى و يأتيكم بضياء تستضيئون به و تسعون في طلب المعاش، هذا ما يشهد به السياق، و يجري نظيره في قوله الآتي:( مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ ) إلخ.

و بذلك يندفع ما استشكل على الآيتين من أنّه لو فرض تحقّق جعل الليل سرمداً إلى يوم القيامة لم يتصوّر معه الإتيان بضياء أصلاً لأنّ الّذي يأتي به إمّا هو الله تعالى و إمّا هو غيره أمّا غيره فعجزه عن ذلك ظاهر، و أمّا الله تعالى فإتيانه به يستلزم اجتماع الليل و النهار و هو محال و المحال لا يتعلّق به القدرة و لا الإرادة، و كذا الكلام في جانب النهار.

و ربّما اُجيب عنه بأنّ المراد بقوله:( إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ ) إن أراد الله أن يجعل عليكم. و هو كما ترى.

و كان مقتضى الظاهر أن يقال: من إله غير الله يأتيكم بنهار، على ما يقتضيه سياق المقابلة بين الليل و النهار في الكلام لكنّ العدول إلى ذكر الضياء بدل النهار من قبيل الإلزام في الحجّة بأهون ما يفرض و أيسره ليظهر بطلان مدّعى الخصم أتمّ الظهور كأنّه قيل: لو كان غيره تعالى إله يدبّر أمر العالم فإن جعل الله الليل سرمداً فليقدر أن يأتي بالنهار، تنزّلنا عن ذلك فليقدر أن يأتي بضياء ما تستضيئون به لكن لا قدرة لشي‏ء على ذلك إذ القدرة كلّها لله سبحانه.

و لا يجري نظير هذا الوجه في الآية التالية في الليل حتّى يصحّ أن يقال مثلاً: من إله غير الله يأتيكم بظلمة لأنّ المأتي به إن كان ظلمة مّا لم تكف للسكن و إن كان ظلمة ممتدّة كانت هي الليل.

و تنكير( بِضِياءٍ ) يؤيّد ما ذكر من الوجه، و قد أوردوا وجوها اُخرى في ذلك لا تخلو من تعسّف.

و قوله:( أَ فَلا تَسْمَعُونَ ) أي سمع تفهّم و تفكّر حتّى تتفكّروا فتفهموا أن لا إله غيره تعالى.

٧١

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ) أي تستريحون فيه ممّا أصابكم من تعب السعي للمعاش.

و قوله:( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) أي إبصار تفهّم و تذكّر و إذ لم يبصروا و لم يسمعوا فهم عمي صمّ، و من اللطيف تذييل الآيتين بقوله:( أَ فَلا تَسْمَعُونَ ) ( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) و لعلّ آية النهار خصّ بالإبصار لمناسبة ضوء النهار الإبصار و بقي السمع لآية الليل و هو لا يخلو من مناسبة معه.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) الآية بمنزلة نتيجة الحجّة المذكورة في الآيتين السابقتين سيقت بعد إبطال دعوى الخصم في صورة الإخبار الابتدائيّ لثبوته من غير معارض.

و قوله:( لِتَسْكُنُوا فِيهِ ) اللام للتعليل و الضمير للّيل، أي جعل لكم الليل لتستريحوا فيه، و قوله:( لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) أي و جعل لكم النهار لتطلبوا من رزقه الّذي هو عطيّته فرجوع( لِتَسْكُنُوا ) و( لِتَبْتَغُوا ) إلى الليل و النهار بطريق اللفّ و النشر المرتّب، و قوله:( وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) راجع إليهما جميعاً.

و قوله:( وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ) في معنى قولنا: جعل لكم و ذلك رحمة منه و فيه إشارة إلى أنّ التكوين كالسكون و الابتغاء و التشريع و هو هدايتهم إلى الشكر من آثار صفة رحمته تعالى فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) تقدّم تفسيره و قد كرّرت الآية لحاجة مضمون الآية التالية إليها.

قوله تعالى: ( وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) إلى آخر الآية، إشارة إلى ظهور بطلان مزعمتهم لهم يوم القيامة، و المراد بالشهيد شهيد الأعمال - كما تقدّمت الإشارة إليه مراراً - و لا ظهور للآية في كونه هو النبيّ المبعوث إلى الاُمّة نظراً إلى إفراد الشهيد و ذكر الاُمّة إذ الاُمّة هي الجماعة من الناس و لا ظهور و لا نصوصيّة له في الجماعة الّذين اُرسل إليهم نبيّ و إن كانت من مصاديقها.

٧٢

و قوله:( فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) أي طالبناهم بالحجّة القاطعة على ما زعموا أنّ لله شركاء.

و قوله:( فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) أي غاب عنهم زعمهم الباطل أنّ لله سبحانه شركاء فعلموا عند ذلك أنّ الحقّ في الاُلوهيّة لله وحده فالمراد بالضلال الغيبة على طريق الاستعارة. كذا فسّروه، ففي الكلام تقديم و تأخير و الأصل فضلّ عنهم ما كانوا يفترون فعلموا أنّ الحقّ لله.

و على هذا فقوله:( أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ) نظير ما يقال في القضاء بين المتخاصمين إذا تداعيا في حقّ يدّعيه كلّ لنفسه: أنّ الحقّ لفلان لا لفلان كأنّه تعالى يخاصم المشركين حيث يدّعون أنّ الاُلوهيّة بمعنى المعبوديّة حقّ لشركائهم فيدّعي تعالى أنّه حقّه فيطالبهم البرهان على دعواهم فيضلّ عنهم البرهان فيعلمون عندئذ أنّ هذا الحقّ لله فالاُلوهيّة حقّ ثابت لا ريب فيه فإذا لم يكن حقّاً لغيره تعالى فهو حقّ له.

و هذا وجه بظاهره وجيه لا بأس به لكن الحقيقة الّتي يعطيها كلامه تعالى أنّ من خاصّة يوم القيامة أنّ الحقّ يتمحّض فيه للظهور ظهوراً مشهوداً لا ستر عليه فليرتفع به كلّ باطل يلتبس به الأمر و يتشبّه بالحقّ، و لازمه أن يظهر أمر الاُلوهيّة ظهوراً لا ستر عليه فيرتفع به افتراء الشركاء ارتفاعاً مترتّباً عليه لا أن يفتقد الدليل على الشركاء فيستنتج منه توحّده تعالى بالاُلوهيّة على سبيل الاحتجاجات الفكريّة فافهم ذلك.

و بذلك يندفع أوّلاً ما يرد على الوجه السابق أنّ المستفاد من كلامه تعالى أنّهم لا حجّة عقليّة لهم على مدّعاهم و لا موجب على هذا لتأخّر علمهم أنّ الحقّ لله إلى يوم القيامة، و يرتفع ثانياً حديث التقديم و التأخير المذكور الّذي لا نكتة له ظاهراً إلّا رعاية السجع.

و من الممكن أن يكون( الْحَقَّ ) في قوله:( فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ) مصدراً فيرجع معنى الجملة إلى معنى قوله:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) النور: ٢٥ فكون الحقّ لله هو كونه تعالى حقّاً إن اُريد به الحقّ في ذاته أو كونه منتهياً إليه قائماً به

٧٣

إن اُريد به غيره، كما قال تعالى:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) آل عمران: ٦٠ و لم يقل: الحقّ مع ربّك.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) الآية، قال: نزلت في قريش حين دعاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإسلام و الهجرة و قالوا إن نتّبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا فقال الله عزّوجلّ:( أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى‏ إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في كشف المحجّة، و روضة الواعظين، للمفيد و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عبّاس.

و في الدرّ المنثور، أخرج النسائيّ و ابن المنذر عن ابن عبّاس أنّ الحارث بن عامر بن نوفل الّذي قال:( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) .

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) الآية، قال: يختار الله عزّوجلّ الإمام و ليس لهم أن يختاروا.

أقول: و هو من الجري مبنيّاً على وجوب نصب الإمام المعصوم من قبل الله تعالى كالنبيّ، و قد مرّ تفصيل الكلام فيه.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ) يقول: من هذه الاُمّة إمامها.

أقول: و هو من الجري.

٧٤

( سورة القصص الآيات ٧٦ - ٨٤)

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ  وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ  إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( ٧٦ ) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ  وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا  وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ  وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ  إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( ٧٧ ) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي  أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا  وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ( ٧٨ ) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ  قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( ٧٩ ) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ( ٨٠ ) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ( ٨١ ) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ  لَوْلَا أَن مَّنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا  وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( ٨٢ ) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا  وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( ٨٣ )

٧٥

مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا  وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ٨٤ )

( بيان)

قصّة قارون من بني إسرائيل ذكرها الله سبحانه بعد ما حكى قول المشركين:( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) و أجاب عنه بما مرّ من الأجوبة ليعتبروا بها فقد كانت حاله تمثّل حالهم ثمّ أدّاه الكفر بالله إلى ما أدّى من سوء العاقبة فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصابه، فقد آتاه الله من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة اُولي القوّة فظنّ أنّه هو الّذي جمعه بعلمه و جودة فكره و حسن تدبيره فآمن العذاب الإلهيّ و آثر الحياة الدنيا على الآخرة و بغى الفساد في الأرض فخسف الله به و بداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله و ما كان من المنتصرين.

قوله تعالى: ( إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ فَبَغى‏ عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) قال في المجمع: البغي طلب العتوّ بغير حقّ. قال: و المفاتح جمع مفتح و المفاتيح جمع مفتاح و معناهما واحد و هو عبارة عمّا يفتح به الأغلاق. قال: و ناء بحمله ينوء نوءاً إذا نهض به مع ثقله عليه. انتهى. و قال غيره: ناء به الحمل إذا أثقله حتّى أماله و هو الأوفق للآية.

و قال في المجمع، أيضاً: العصبة الجماعة الملتفّ بعضها ببعض. و قال: و اختلف في معنى العصبة فقيل: ما بين عشرة إلى خمسة عشر عن مجاهد، و قيل: ما بين عشرة إلى أربعين عن قتادة، و قيل أربعون رجلاً عن أبي صالح(١) ، و قيل: ما بين الثلاثة إلى العشرة عن ابن عبّاس، و قيل: إنّهم الجماعة يتعصّب بعضهم لبعض. انتهى. و يزيّف غير القولين الأخيرين قول إخوة يوسف:( وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ ) يوسف: ٨ و هم تسعة نفر.

و المعنى: إنّ قارون كان من بني إسرائيل فطلب العتوّ عليهم بغير حقّ و أعطيناه

____________________

(١) و روى في الدرّ المنثور عن أبي صالح سبعين.

٧٦

من الكنوز ما إنّ مفاتيحه لتثقل الجماعة ذوي القوّة، و ذكر جمع من المفسّرين أنّ المراد بالمفاتح الخزائن، و ليس بذاك.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) فسّر الفرح بالبطر و هو لازم الفرح و السرور المفرط بمتاع الدنيا فإنّه لا يخلو من تعلّق شديد بالدنيا ينسي الآخرة و يورث البطر و الأشر، و لذا قال تعالى:( وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) الحديد: ٢٣.

و لذا أيضاً علل النهي بقوله:( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) إلى آخر الآية أي و اطلب فيما أعطاك الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بإنفاقه في سبيل الله و وضعه فيما فيه مرضاته تعالى.

و قوله:( وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ) أي لا تترك ما قسم الله لك و رزقك من الدنيا ترك المنسيّ و اعمل فيه لآخرتك لأنّ حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هو ما يعمل به لآخرته فهو الّذي يبقى له.

و قيل: معناه لا تنس أنّ نصيبك من الدنيا - و قد أقبلت عليك - شي‏ء قليل ممّا اُوتيت و هو ما تأكله و تشربه و تلبسه مثلاً و الباقي فضل ستتركه لغيرك فخذ منها ما يكفيك و أحسن بالفضل و هذا وجه جيّد. و هناك وجوه اُخر غير ملائمة للسياق.

و قوله:( وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ) أي أنفقه لغيرك إحساناً كما آتاكه الله إحساناً من غير أن تستحقّه و تستوجبه، و هذه الجملة من قبيل عطف التفسير لقوله:( وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ) على أوّل الوجهين السابقين و متمّمة له على الوجه الثاني.

و قوله:( وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) أي لا تطلب الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال و ما اكتسبت به من جاه و حشمة إنّ الله لا يحبّ المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح و الإصلاح.

قوله تعالى: ( قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي ) إلى آخر الآية. لا شكّ أنّ قوله:( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي ) جواب عن جميع ما قاله المؤمنون من قومه و نصحوه به

٧٧

و كان كلامهم مبنيّاً على أنّ ما له من الثروة إنّما آتاه الله إحساناً إليه و فضلاً منه من غير استيجاب و استحقاق فيجب عليه أن يبتغي فيه الدار الآخرة و يحسن به إلى الناس و لا يفسد في الأرض بالاستعلاء و الاستكبار و البطر.

فأجاب بنفي كونه إنّما اُوتيه إحساناً من غير استحقاق و دعوى أنّه إنّما اُوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال و تدبيره و ليس عند غيره ذلك، و إذا كان ذلك باستحقاق فقد استقلّ بملكه و له أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء و يستدرّه في أنواع التنعّم و بسط السلطة و العلوّ و البلوغ إلى الآمال و الأمانيّ.

و هذه المزعمة الّتي ابتلي بها قارون فأهلكته - أعني زعمه أنّ الّذي حصّل له الكنوز و ساق إليه القوّة و الجمع هو نبوغه العلميّ في اكتساب العزّة و قدرته النفسانيّة لا غير - مزعمة عامّة بين أبناء الدنيا لا يرى الواحد منهم فيما ساقه إليه التقدير و وافقته الأسباب الظاهرة من عزّة عاجلة و قوّة مستعارة إلّا أنّ نفسه هي الفاعلة له و علمه هو السائق له إليه و خبرته هي الماسكة له لأجله.

و إلى عموم هذه المزعمة و ركون الإنسان إليها بالطبع يشير قوله تعالى:( فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) الزمر: ٥٢، و قال:( أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) المؤمن: ٨٣ و عرض الآيات على قصّة قارون لا يبقي شكّاً في أنّ المراد بالعلم في كلام ما قدّمناه.

و في قوله:( إِنَّما أُوتِيتُهُ ) من غير إسناد الإيتاء إلى الله سبحانه كما في قول الناصحين له:( فِيما آتاكَ اللهُ ) نوع إعراض عن ذكره تعالى و إزراء بساحة كبريائه.

٧٨

و قوله:( أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً ) استفهام توبيخيّ و جواب عن قوله:( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي ) بأيسر ما يمكن أن يتنبّه به لفساد قوله فإنّه كان يرى أنّ الّذي اقتنى به المال و هو يبقيه له و يمتّعه منه هو علمه الّذي عنده و هو يعلم أنّه كان فيمن قبله من القرون من هو أشدّ منه قوّة و أكثر جمعاً، و كان ما له من القوّة و الجمع عن علم عنده على زعمه، و قد أهلكه الله بجرمه، فلو كان العلم الّذي يغترّ و يتبجّح به هو السبب الجامع للمال الحافظ له الممتّع منه و لم يكن بإيتاء الله فضلاً و إحساناً لنجّاهم من الهلاك و متّعهم من أموالهم و دافعوا بقوّتهم و انتصروا بجمعهم.

و قوله:( وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) ظاهر السياق أنّ المراد به بيان السنّة الإلهيّة في تعذيب المجرمين و إهلاكهم بذنوبهم فيكون كناية عن عدم إمهالهم و الإصغاء إلى ما لفّقوه من المعاذير أو هيّؤه من التذلّل و الإنابة ليرجو بذلك النجاة كما أنّ اُولي الطول و القوّة من البشر إذا أرادوا تعذيب من يتحكّمون عليه سألوه عن ذنبه ليقضوا عليه بالجرم ثمّ العذاب، و ربّما صرف المجرم بما لفّقه من المعاذير عذابهم عن نفسه لكنّ الله سبحانه لعلمه بحقيقة الحال لا يسأل المجرمين عن ذنوبهم و إنّما يقضي عليهم قضاء فيأتيهم عذاب غير مردود.

و الظاهر على هذا أن تكون الجملة من تتمّة التوبيخ السابق و يكون جواباً عن إسناده ثروته إلى علمه، و محصّله أنّ المؤاخذة الإلهيّة ليست كمؤاخذة الناس حتّى إذا لاموه أو نصحوه صرف عن نفسه ذلك بما لفّقه من الجواب حتّى ينتفع في ذلك بعلمه، بل هو سبحانه عليم شهيد لا يسأل المجرم عن ذنبه و إنّما يؤاخذه بذنبه، و أيضاً يؤاخذه بغتة و هو لا يشعر.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية و لهم فيها أقاويل اُخرى:

فقيل: المراد بالعلم في قوله:( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي ) علم التوراة فإنّه كان أعلم بني إسرائيل بها.

و قيل: المراد علم الكيمياء و كان قد تعلّمه من موسى و يوشع بن نون و كالب بن

٧٩

يوقنّا و المراد بكون العلم عنده اختصاصه به دون سائر الناس و قد صنع به مقداراً كثيراً من الذهب.

و قيل: المراد بالعلم علم استخراج الكنوز و الدفائن و قد استخرج به كنوزاً و دفائن كثيرة.

و قيل: المراد بالعلم علم الله تعالى و المعنى: اُوتيته على علم من الله و تخصيص منه قصدني به، و معنى قوله:( عِنْدِي ) هو كذلك في ظنّي و رأيي.

و قيل: العلم علم الله لكنّه بمعنى المعلوم، و المعنى اُوتيته على خير علمه الله تعالى عندي، و( عَلى) على جميع هذه الأقوال للاستعلاء و جوّز أن تكون للتعليل.

و قيل: المراد بالسؤال في قوله:( وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) سؤال يوم القيامة و المنفيّ سؤال الاستعلام لأنّ الله أعلم بذنوبهم لا حاجة له إلى السؤال و الملائكة يعلمونها من صحائف أعمالهم و يعرفونهم بسيماهم و أمّا قوله تعالى:( وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) الصافّات: ٢٤ فهو سؤال تقريع و توبيخ لا سؤال استعلام، و يمكن أن يكون السؤال في الآيتين بمعنى واحد و النفي و الإثبات باعتبار اختلاف المواقف يوم القيامة فيسألون في موقف و لا يسألون في آخر فلا تناقض بين الآيتين.

و قيل: الضمير في قوله:( عَنْ ذُنُوبِهِمُ ) لمن هو أشدّ و المراد بالمجرمين غيرهم و المعنى: لا يسأل عن ذنوب من أهلكه الله من أهل القرون السابقة غيرهم من المجرمين.

و هذه كلّها وجوه من التفسير لا يلائمها السياق.

قوله تعالى: ( فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) الحظّ هو النصيب من السعادة و البخت.

و قوله:( يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم ليس لهم وراءها غاية فهم على جهل من الآخرة و ما أعدّ الله لعباده فيها من الثواب قال تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) النجم: ٣٠ و لذلك عدّوا ما اُوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد و شرط.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الفصل الثالث و الخمسون في الفتن و الشبه و البدع

١٦١

١ في أوّل الباب الثالث من النهج باب المختار

من حكم امير المؤمنينعليه‌السلام و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج في ساير أغراضه .

قالعليه‌السلام :

كُنْ فِي اَلْفِتْنَةِ كَابْنِ اَللَّبُونِ لاَ ظَهْرٌ فَيُرْكَبَ وَ لاَ ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ قول المصنّف : « باب المختار » هو القسم الأخير من كتابه « من حكم أمير المؤمنينعليه‌السلام » اقتصر عليه في ( المصرية ) و زاد ابن أبي الحديد و ابن ميثم : « و مواعظه » و هو الصحيح لأصحية نسختيهما لا سيما الأخير الذي نسخته بخط المصنف .

و لأنّ فيه مواعظ كثيرة و منها في العنوان ( ١٥٠ ) كلامهعليه‌السلام لرجل سأله أن يعظه الذي قال المصنف فيه « و لو لم يكن في هذا الكتاب إلاّ هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة » .

١٦٢

و وصف الشعبي كلامهعليه‌السلام في الحكم و غيرها فقال : تكلّم أمير المؤمنينعليه‌السلام بتسع كلمات ارتجلهن ارتجالا فقأن عيون البلاغة و أيتمن جواهر الحكمة و قطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن ، ثلاث منهن في الحكمة و ثلاث في المناجاة و ثلاث في الأدب ، أما اللائي في الحكمة فقال : قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه ، و ما هلك امرؤ عرف قدره ، و المرء مخبوء تحت لسانه .

و أما اللائي في المناجاة فقال : اللّهم كفى بي عزّا أن أكون لك عبدا ، و كفى بي فخرا أن تكون لي ربا ، أنت كما أحب فاجعلني كما تحب و أما اللائي في الأدب فقال : امنن على من شئت تكن أميره ، و استغن عمّن شئت تكن نظيره و احتج إلى من شئت تكن أسيره(١) .

« و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسألته » ترى أجوبة مسألته في العناوين ( ١٦ ) ( ٣٠ ) ( ٩٤ ) ( ١٢٠ ) ( ١٥٠ ) ( ٢٢٧ ) ( ٢٢٩ ) ( ٢٣٥ ) ( ٢٦٦ ) ( ٢٨٧ ) ( ٢٩٤ ) ( ٣٠٠ ) ( ٣١٨ ) ( ٣٥٦ ) ( ٤٧٠ ) .

« و الكلام القصير » كان حاجب هشام بن عبد الملك يأمر منتجعيه بالإيجاز في الكلام ، فقام أعرابي فقال : إنّ اللَّه تعالى جعل العطاء محبة و المنع مبغضة فلأن نحبك خير من أن نبغضك فأعطاه و أجزل له .

« الخارج في سائر أغراضه » أي باقي مقاصده ، و الأصل في ( الغرض ) الهدف و ( سائر ) يأتي بمعنى الجميع و معنى الباقي ، و الأخير هو المراد هنا .

قوله « كن في الفتنة » الأصل في « الفتنة » قولهم « دينار مفتون » فتن بالنار ، و كلّ شي‏ء ادخل النار فقد فتن ، و قالوا « الناس عبيد الفتانين » أي الدرهم و الدينار .

« كابن اللبون » ابن اللبون : ولد الناقة الذكر إذا دخل في الثالثة ، لأن امّه

____________________

( ١ ) الخصال للصدوق : ١٨٦ .

١٦٣

وضعت غيره فصار لها لبن ، و الانثى بنت اللبون ، و يجمعان بنات اللبون .

« لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب » نظيره قول حاجب بن زرارة في القعقاع :

ما هو رطب فيعصر و لا يابس فيكسر .

و في المثل : لا تكن حلوا فتزدرد و لا مرّا فتلفظ .

و من الأمثال في الاعتزال قولهم : لا ناقة لي في هذا و لا جمل و قالوا : ان كنت من أهل الفطن فلا تدر حول الفتن .

ثم كما لا ينتفع بابن اللبون لصغره كذلك بالثلب لكبره ، و هو الذي انكسرت أنيابه من شدّة هرمه ، و إنما الانتفاع الكامل بالناب الذي في وسط الشباب ، قال بعضهم :

ألم تر أن الناب يحلب علبة

و يترك ثلب لا ضراب و لا ظهر

قال ابن أبي الحديد : أيام الفتنة هي أيام الخصومة بين رئيسين ضالين يدعوان كلاهما إلى ضلالة ، كفتنة عبد الملك و ابن الزبير و فتنة مروان و الضحاك و فتنة الحجاج و ابن الأشعث ، و أما إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين(١) .

قلت : إن جانبوا العصبية و أرادوا فهم الحقيقة فأول أيام الفتنة أيام أوّلهم ، ففي ( الطبري ) : قال أبو مويهبة مولى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : بعث إليّ النبي من جوف الليل فقال : يا أبا مويهبة إنّي قد امرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي فانطلقت معه فلما وقف بين أظهرهم قال : السّلام عليكم أهل المقابر ، ليهن لكم ما أصبحتم ممّا أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها ، الآخرة شرّ من الاولى إلى أن قال ثم انصرف فبدأ

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

١٦٤

بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وجعه الذي قبض فيه(١) .

و في ( بلاغات نساء أحمد بن أبي طاهر البغدادي ) من رجالهم في ذكره خطبة سيّدة نساء العالمين باتفاق فرق المسلمين لما منعها أبو بكر فدك و في الخطبة : فأنقذكم اللَّه برسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد اللتيا و التي ، و بعد ما مني ببهم الرجال و ذؤبان العرب ، كلّما حشوا نارا للحرب أطفأها و نجم قرن للضلال و فغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها ، فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه و يخمد لهبها بحده ، مكدودا في ذات اللَّه قريبا من رسول اللَّه سيّدا في أولياء اللَّه ، و أنتم في بلهنية و ادعون آمنون ، حتى إذا اختار اللَّه تعالى لنبيه دار أنبيائه ظهرت خلّة النفاق و سمل جلباب الدين و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الآفلين و هدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم و أطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم ، فوجدكم لدعائه مستجيبين و للغرة فيه ملاحظين ، فاستنهضكم فوجدكم خفافا و أحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير أبلكم و أوردتموها غير شربكم ، هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجراح لما يندمل ، بدارا زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا و إنّ جهنم لمحيطة بالكافرين(٢) .

و روى الإسكافي منهم في نقضه ( عثمانية الجاحظ ) عن أبي رافع قال :

أتيت أبا ذر بالربذة اودّعه ، فلما أردت الانصراف قال لي و لا ناس معي :

ستكون فتنة فاتقوا اللَّه و عليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه ، فإني سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له : أنت أوّل من آمن بي و أوّل من يصافحني يوم القيامة ، و أنت الصدّيق الأكبر ، و أنت الفاروق الذي تفرّق بين الحق و الباطل ،

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٤٣٢ .

( ٢ ) بلاغات النساء لابن طيفور : ١٣ ١٤ .

١٦٥

و أنت يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الكافرين ، و أنت أخي و وزيري و خير من أترك بعدي(١) .

ثم ما قاله ابن أبي الحديد : من فتنة الحجاج و ابن الأشعث خلاف عقيدة أهل نحلته ، فإنّ عندهم كان قيام ابن الأشعث فتنة ، و أمّا الحجاج فكان عامل من بايعه جميع الناس و كان عندهم خليفة حقّا و أميرا للمؤمنين به .

و كذلك قوله « فتنة عبد الملك و ابن الزبير » غير صحيح عند أهل ملته ، فانّه عندهم كان ابتداء ابن الزبير ولي اللَّه و عبد الملك عدوّ اللَّه ، و لما غلب عبد الملك صار هو ولي اللَّه و ابن الزبير عدوّ اللَّه(٢) .

ففي ( كامل المبرد ) : خرج مصعب بن الزبير إلى باجميراء ، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن و لم يأت المهلب و أصحابه ، فتواقفوا يوما على الخندق ، فناداهم الخوارج : ما تقولون في المصعب ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : ضالّ مضل فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل صعب و إنّ أهل الشام اجتمعوا على عبد الملك ، و ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته ، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج : ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : لا نخبركم قالوا : فما تقولون في عبد الملك ؟ قالوا : إمام هدى قالوا : يا أعداء اللَّه بالأمس ضال مضل و اليوم امام هدى ، يا عبيد الدّنيا عليكم لعنة اللَّه(٣) .

و الخوارج و إن طعنوا عليهم بكون ما عليهم خلاف العقل و خلاف الفطرة التي فطر الناس عليها ، إلاّ أنّه يقال لهم : إنّ ذلك لازم لكم أيضا بموافقة العامة في إمامة صديقهم و صديقه ، فلا يمكن القول بالملزوم و ترك اللازم .

____________________

( ١ ) نقض العثمانية لأبي جعفر الإسكافي : ٢٩٠ ملحقة بالعثمانية .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٢ .

( ٣ ) الكامل في الأدب للمبرّد ٣ : ١١٠١ ١١٠٢ .

١٦٦

و أما قوله « إذا كان أحدهما صاحب حق فليست أيام فتنة كالجمل و صفين » فأيضا أهل ملّته غير معترفين به ، فهذا ابن عبد البر من أئمتهم قال في سعد بن أبي وقاص الذي لم يشهد الجمل و صفين مع أمير المؤمنينعليه‌السلام :

كان ممّن قعد و لزم بيته في الفتنة و أمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشي‏ء حتى تجتمع الامة على إمام(١) .

و قال في ترجمة ابن فاروقهم : قيل لنافع : ما بال ابن عمر بايع معاوية و لم يبايع عليّا ؟ فقال : كان ابن عمر لا يعطي يدا في فرقة و لا يمنعها من جماعة ، و لم يبايع معاوية حتى اجتمعوا عليه(٢) .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي يصير معاوية الذي كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعنه في غير موطن و عدوّ الدين أولى بالإمامة من أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي جعله اللَّه تعالى في كتابه كنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله .( و أنفسنا و أنفسكم . ) (٣) و جعله النبي بمنزلة نفسه في المتواتر منه في قوله للناس : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه .

لا يقال : انّما قال « من كنت مولاه فعلي مولاه » لا ما قلت قلت : ما ذكرته ان لم يكن لفظه هو معناه ، ألم يكن قال تلك الجملة بعد قوله للناس « ألست بكم أولى من أنفسكم » و قول الناس له « بلى أنت أولى بنا من أنفسنا » فهل يصير معناها غير ما قلناه .

قبّح اللَّه هذا الدين الذي هو خلاف ناموس الإنسانية ، حتى ان الحجاج الذي قال عمر بن عبد العزيز الذي هو أحد خلفائهم : لو أنّ جميع الامم جاءت

____________________

( ١ ) الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر ٢ : ٦٠٩ .

( ٢ ) المصدر نفسه ٣ : ٩٥٣ .

( ٣ ) آل عمران : ٦١ .

١٦٧

يوم القيامة كلّ واحدة منهم بشرارهم و جئناهم بالحجاج لغلبنا جميعهم لم يرضه ، فقال الاسكافي أحد أئمتهم في نقض ( عثمانيته ) : امتنع ابن عمر من بيعة عليعليه‌السلام و طرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كيلا يبيت تلك الليلة بلا إمام ، زعم لأنّه روي ان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال « من مات و لا إمام له مات ميتة جاهلية »(١) و حتى بلغ من احتقار الحجاج له و استرذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش فقال : اصفق بيدك عليها قال و رواه بعضهم و زاد : و لما خرج قال الحجاج : ما أحمق هذا يترك بيعة علي و يأتيني مبايعا في ليله .

٢ الخطبة ( ٩١ ) إِنَّ اَلْفِتَنَ

إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ يُنْكَرْنَ مُقْبِلاَتٍ وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ يَحُمْنَ حَوْلَ اَلرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً أقول : رواه الثقفي في أول ( غاراته ) باسنادين عن زر بن حبيش عنهعليه‌السلام : الأول عن إسماعيل بن ابان عن عبد الغفار بن القاسم عن المنصور بن عمرو عن ذر و الثاني عن أحمد بن عمران الأنصاري عن أبيه عن أبن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن زر قال : خطب عليعليه‌السلام بالنهروان إلى أن قال فقام إليه رجل آخر فقال لهعليه‌السلام : حدّثنا عن الفتن قال : ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت ، يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات ، ان الفتن تحوم كالرياح يصبن بلدا و يخطئن اخرى(٢) .

« ان الفتن إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت » في ( نهاية الجزري ) : التشابه قسمان ، قسم إذا ردّ إلى المحكم يفهم معناه ، و قسم لا سبيل إلى معرفة

____________________

( ١ ) نقض العثمانية : ٣٠١ .

( ٢ ) الغارات للثقفي : ٧ .

١٦٨

حقيقته ، فالمتتبع له متتبع للفتنة ، لأنّه لا يكاد ينتهي إلى شي‏ء تسكن إليه نفسه ، و منه حديث ذكر فيه فتنة « تشبه مقبلة و تبين مدبرة » أي أنّها إذا أقبلت شبهت على القوم و أرتهم أنّهم على الحق حتى يدخلوا فيها و يركبوا منها ما لا يجوز ، فإذا أدبرت بان أمرها فعلم من دخل فيها أنّه كان على الخطأ(١) .

« ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات » قد عرفت أنّ ( غارات الثقفي ) رواه « يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات » .

« يحمن حول الرياح » هكذا في ( المصرية )(٢) ، و الصواب : « حوم الرياح » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )(٣) ، مع أنّه لا معنى لما في ( المصرية ) ، فالفتن لا يدرن حول الرياح بل يدرن حول الناس دور الرياح ، من قولهم « حام الطائر حول الشي‏ء حوما » أي دار .

« يصبن بلدا و يخطئن اخرى » أي كما أن الرياح الشديدة تصيب بلدا و تخطى‏ء بلدا كذلك الفتن يصبن بلدا فيبتلى الناس بوخامتهن و يخطئن بلدا فيسلمون منها .

٣ الحكمة ( ٧٦ ) و قالعليه‌السلام :

إِنَّ اَلْأُمُورَ إِذَا اِشْتَبَهَتْ اُعْتُبِرَ آخِرُهَا بِأَوَّلِهَا كان العباسيون يدّعون إجراء العدالة إذا ظهروا إلاّ انّه كان حالهم في الآخر معلومة من أوّلها .

____________________

( ١ ) النهاية لابن الأثير للجزري ٢ : ٤٤٢ .

( ٢ ) الطبعة المصرية : ٢٣٤ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٧ : ٤٤ الخطبة ( ١٩٢ ) ، أمّا شرح ابن ميثم ٢ : ٣٨٨ ، بلفظ « حول » ، أما الخطبة ٧٤ بلفظ « حوم » .

١٦٩

و لما بايعت الأوس أبا بكر لئلا يصير الأمر إلى الخزرج و كانت بينهما رقابة من الجاهلية ، قال لهم المنذر بن الحباب : فعلتموها أما و اللَّه لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم قد وقفوا يسألونهم بأكفّهم و لا يسقون الماء .

و صار كما قال(١) .

٤ الحكمة ( ٩٣ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ اَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ اَلْفِتْنَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ إِلاَّ وَ هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ وَ لَكِنْ مَنِ اِسْتَعَاذَ فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ مُضِلاَّتِ اَلْفِتَنِ فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ١ ٧ ٨ : ٢٨ وَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَ اَلْأَوْلاَدِ لِيَتَبَيَّنَ اَلسَّاخِطَ لِرِزْقِهِ وَ اَلرَّاضِيَ بِقِسْمِهِ وَ إِنْ كَانَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ لَكِنْ لِتَظْهَرَ اَلْأَفْعَالُ اَلَّتِي بِهَا يُسْتَحَقُّ اَلثَّوَابُ وَ اَلْعِقَابُ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ اَلذُّكُورَ وَ يَكْرَهُ اَلْإِنَاثَ وَ بَعْضَهُمْ يُحِبُّ تَثْمِيرَ اَلْمَالِ وَ يَكْرَهُ اِنْثِلاَمَ اَلْحَالِ و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير « لا يقولن أحدكم اللّهم اني أعوذ بك من الفتنة » قال ابن بابويه في ( توحيده ) :

الفتنة على عشرة أوجه : فوجه الضلال ، و الثاني : الاختبار و هو قوله تعالى .( و فتناك فتونا ) .(٢) ( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون ) (٣) و الثالث : الحجّة و هو قوله تعالى( ثم لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا

_ ___________________

( ١ ) التوحيد للصدوق : ٣٨٦ .

( ٢ ) طه : ٤٠ .

( ٣ ) العنكبوت : ١ ٢ .

١٧٠

 و اللَّه ربنا ما كنّا مشركين ) (١) و الرابع : الشرك و هو قوله تعالى .( و الفتنة أشدّ من القتل ) .(٢) و الخامس : الكفر و هو قوله تعالى .( ألا في الفتنة سقطوا ) .(٣) و السادس : الإحراق بالنار و هو قوله تعالى( إن الذين فتنوا المؤمنين و المؤمنات ) . .(٤) و السابع : العذاب كقوله تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٥) ( ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون ) (٦) .( و من يرد اللَّه فتنته فلن تملك له من اللَّه شيئا ) . .(٧) و الثامن : القتل كقوله تعالى .( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) .(٨) ( فما آمن لموسى إلاّ ذريّة من قومه على خوف من فرعون و ملئهم أن يفتنهم ) .(٩) و التاسع : الصدّ كقوله تعالى( و ان كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا اليك ) .(١٠) و العاشر : شدّة المحنة كقوله تعالى .( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) (١١) ، و قد زاد علي بن ابراهيم وجها آخر ، و هو المحبة كقوله تعالى .( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(١٢) و عندي أنّه المحنة بالنون لا المحبة بالباء لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله « الولد مجبنة مبخلة »(١٣) .

____________________

( ١ ) الأنعام : ٢٣ .

( ٢ ) البقرة : ١٩١ .

( ٣ ) التوبة : ٤٩ .

( ٤ ) البروج : ١٠ .

( ٥ ) الذاريات : ١٣ .

( ٦ ) الذاريات : ١٤ .

( ٧ ) المائدة : ٤١ .

( ٨ ) النساء : ١٠١ .

( ٩ ) يونس : ٨٣ .

( ١٠ ) الاسراء : ٧٣ .

( ١١ ) يونس : ٨٥ .

( ١٢ ) الأنفال : ٢٨ .

( ١٣ ) بحار الأنوار ١٠٤ : ٩٧ رواية ٦٠ ب ٢ .

١٧١

قلت : و المفهوم من الخليل أن الأصل في معناه الإحراق ، فقال : الفتن الإحراق(١) ، قال تعالى( يوم هم على النار يفتنون ) (٢) ، و ورق فتين أي فضة محرقة و يقال للحرة فتين كأن حجارتها محرقة .

هذا ، و عن الأصمعي لا يقال أفتنته بل فتنته ، ورد عليه بقول أعشى همدان في سعيد بن جبير :

لئن أفتنتني فهي بالأمس أفتنت سعيدا فأمسى قد قلى كلّ مسلم(٣) و عن ام عمرو بنت الأهتم : مررنا بمجلس فيه سعيد بن جبير و نحن جوار و معنا جارية تغني بدف معها و تنشد البيت « لئن أفتنتني . » ، فقال سعيد : كذبتن كذبتن .

« لأنّه ليس أحد إلاّ و هو مشتمل على فتنة » و لو بالمال أو الولد ، و لأنّ سنته تعالى فتن عباده و لن تجد لسنته تبديلا ، قال تعالى( أحسب الناس ان يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فَليعلمنَّ اللَّه الذين صدقوا و ليعلَمَنَّ الكاذبين ) (٤) .

« و لكن من استعاذ فليستعذ باللَّه من مضلاّت الفتن » كما في فتنة بني اسرائيل بالعجل الذي أضلّهم السامري به حتى تركوا هارون و أرادوا قتله .

و كما في فتنة المسلمين بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بمثل فتنة بني اسرائيل بجعل الثاني الأول عجله حتى تركوا خليفة نبيّهم و أرادوا قتله ، و كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لهم في المتواتر : لتتبعن بني إسرائيل حذوا بحذو حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه .

____________________

( ١ ) العين لأحمد الفراهيدي ٨ : ١٢٧ مادة ( فتن ) .

( ٢ ) الذاريات : ١٣ .

( ٣ ) العين للفراهيدي ٨ : ١٢٨ مادة ( فتن ) .

( ٤ ) العنكبوت : ٢ ٣ .

١٧٢

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) في قصة السقيفة فأخرجوا عليّا فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع فقال : إن أنا لم أفعل فمه ؟ قالوا : إذن و اللَّه الذي لا إله إلاّ هو لضرب عنقك قال : إذن تقتلون عبد اللَّه و أخا رسوله قال عمر : أما عبد اللَّه فنعم و أما أخو رسوله فلا و أبو بكر ساكت لا يتكلّم ، فقال له عمر : ألا تأمر فيه ؟ فقال : لا اكرهه على شي‏ء ما كانت فاطمة إلى جنبه فلحق علي بقبر رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يصيح و يبكي و ينادي : يابن امّ إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني إلى آخر ما ذكر(١) .

هذا ، و روى ( توحيد الصدوق ) أنّه تعالى قال : إنّ من عبادي المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلا يدخله عجب فيفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالفقر و لو أغنيته لأفسده ، و إنّ منهم لمن لا يصلح ايمانه إلاّ بالغنى و لو أفقرته لأفسده ، و ان منهم لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالسقم و لو صححت جسده لأفسده ذلك ، و إنّ من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلاّ بالصحّة و لو أسقمته لأفسده ، و إنّي ادبر عبادي بعلمي بقلوبهم فإنّي عليم خبير(٢) .

« فإنّ اللَّه سبحانه يقول( و اعلموا أنّما أموالكم و أولادكم فتنة و أن اللَّه عنده أجر عظيم ) (٣) .

« و معنى ذلك أنّه سبحانه » سقطت كلمة « سبحانه » من ( المصرية )(٤) مع وجودها في ( ابن ميثم و ابن أبي الحديد و الخطية )(٥) .

____________________

( ١ ) الخلفاء لابن قتيبة : ١٣ .

( ٢ ) التوحيد للصدوق : ٣٩٨ ح ١ .

( ٣ ) الأنفال : ٢٨ .

( ٤ ) الطبعة المصرية : ٦٧٧ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٤٨ ، و ابن ميثم ٥ : ٢٨٧ .

١٧٣

« يختبرهم » أي : يمتحنهم .

« بالأموال و الأولاد ليتبيّن الساخط لرزقه » في الأموال .

« و الراضي بقسمه » في الأولاد .

« و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم » .( فليعلمن اللَّه الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين ) (١) .

« و لكن لتظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب و العقاب » لأن الجزاء على العمل لا مجرّد النيّة و مقتضى الطوية ، و إن كان هو تعالى يثيب على مجردهما تفضلا و لا يؤاخذ على صرفهما تكرّما .

« لأنّ بعضهم يحب الذكور و يكره الاناث » حتى قال تعالى( في مثلهم و إذا بُشّر أحدهم بالانثى ظلّ وجهه مسودّا و هو كظيم يتوارى عن القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) (٢) .

قالوا : و لحب الناس الذكور و كراهتم للإناث و كان الواجب عليهم التسليم لمشيته تعالى شأنه قدّم عز و جل هبة الإناث على الذكور فقال .( يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور ) (٣) .

« و بعضهم يحبّ تثمير المال و يكره انثلام الحال » أي وقوع الخلل فيه ، قال تعالى( و إنّه لحبّ الخير لشديد ) (٤) و فسر الخير هنا بالمال .

و قال تعالى في امتحان عبيده بالمال و الولد و غيرهما( و لنبلونكم بشي‏ء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات

_ ___________________

( ١ ) العنكبوت : ٣ .

( ٢ ) النحل : ٥٨ ٥٩ .

( ٣ ) الشورى : ٤٩ .

( ٤ ) العاديات : ٨ .

١٧٤

 و بشّر الصابرين ) (١) .

« و هذا من غريب ما سمع منه في التفسير » و لو كان قال ما روي عنهعليه‌السلام بدل ما سمع منهعليه‌السلام كان أحسن .

جعله من غريب التفسير لأنّ المتبادر من كون الأموال فتنة أنّ الانسان يطغى أن رآه استغنى ، و أنّ كثيرا من الناس يميل المال بهم إلى الشهوات كما أنّ كثيرا منهم يصعب عليهم إخراج الحقوق التي أوجب اللَّه تعالى عليهم في المال فيهلكون كما ان المتبادر من كون الأولاد فتنة أنّهم يصيرون سببا للتخلّف عن الجهاد ، و البخل عن الزكاة ، و تحصيل المال لهم من غير طريق المشروع لو ضاق عليه المشروع و لموافقة الآباء غالبا أهواء أبنائهم المهوية ، كما اتفق للزبير مع ابنه ، فقالعليه‌السلام : ما زال الزبير منّا حتى نشأ ابنه الميشوم .

و روت العامة في تفسير الآية عن بريدة : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخطب فجاء الحسن و الحسينعليهما‌السلام و عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران ، فنزل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليهما فأخذهما و وضعهما في حجره على المنبر و قال : صدق اللَّه تعالى( انّما أموالكم و أولادكم فتنة ) .(٢) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان و يعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي و رفعتهما(٣) .

هذا ، و مما روي عنهعليه‌السلام من غريب التفسير غير ما مرّ أنّهعليه‌السلام قال :

الاستثناء في اليمين متى ما ذكر و لو بعد أربعين صباحا ثم تلا هذه الآية . و اذكر ربّك إذا نسيت .(٤) .

و أنّهعليه‌السلام قال : تستحب المقاربة مع أهله ليلة أول شهر الصيام لقوله

____________________

( ١ ) البقرة : ١٥٥ .

( ٢ ) التغابن : ١٥ .

( ٣ ) سنن الترمذي ٥ : ٦١٦ ح ٣٧٧٤ .

( ٤ ) الكافي ٧ : ٤٤٨ الرواية ٦ ، و الآية ٢٤ من سورة الكهف .

١٧٥

تعالى( اُحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) . .(١) .

٥ في الخطبة ( ١٤٣ ) منها :

وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلاَّ تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا اَلْبِدَعَ وَ اِلْزَمُوا اَلْمَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ اَلْأُمُورِ أَفْضَلُهَا إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا « و ما احدثت بدعة إلاّ ترك بها سنة » قال ابن أبي الحديد : البدعة كلّ ما لم يكن في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمنها الحسن كصلاة التراويح و منها القبيح كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية و إن كانت قد تكلّفت الأعذار عنها(٢) .

قلت : صلاة التراويح أيضا من بدع ، قالعليه‌السلام ترك بها سنة ، و كيف تكون حسنة و كانت تشريعا في قبال الدين ، و إنما التشريع للَّه تعالى( ما لكم كيف تحكمون أم لكم كتاب فيه تدرسون إنّ لكم فيه لما تخيرون ) (٣) .

ما كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يشرّع شيئا من قبل نفسه إلاّ بوحي منه تعالى إليه ، فكيف كان لعمر الذي أفحمته مرأة في أنفها فطس في حظره جعل الصداق أكثر من خمسمائة درهم بأنّه تعالى قال .( و آتيتم إحداهن قنطاراً ) .(٤) فقال : كل الناس أفقه من عمر .

و روى سليم بن قيس الهلالي في كتابه أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خطب فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه

____________________

( ١ ) البقرة : ١٨٧ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

( ٣ ) القلم : ٣٦ ٣٨ .

( ٤ ) النساء : ٢٠ .

١٧٦

ناقضين لعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها تفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي و قليل من شيعتي ، و اللَّه لقد أمرت أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي يا أهل الاسلام لقد غيرت سنّة عمر نهينا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و قد خفت أن يثوروا في ناحية عسكري(١) .

و روى محمد بن علي بن بابويه عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان في جماعة بدعة ، و صلاة الضحى بدعة ، ألا و إنّ كلّ بدعة ضلالة و كلّ ضلالة سبيلها إلى النار(٢) .

و روى محمد بن يعقوب الكليني : إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام مر برجل يصلّي الضحى في مسجد الكوفة ، فغمز جنبه بالدرة و قال : نحرت صلاة الأوابين نحرك اللَّه(٣) .

و أما أعمال عثمان و لم قال كالمنكرات التي ظهرت أواخر الخلافة العثمانية كنفيه أبا ذر و ضربه عمارا و نهبه بيت المال لأقاربه و توليته لهم حتى يصلّوا بالناس سكارى و يصلّوا الصبح أربعا و يغنوا في الصلاة و غيرها من نظائرها فشنائع ينكرها الموحد و الملحد و المسلم و الكافر .

و أما ما قاله من تكلّف الأعذار الذي نوريهم ، فالتكلّف لعدم منكرية عداوة أبي جهل مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أقرب إلى العقول منه .

ثم جعلها في عداد البدع كصلاة التراويح في غير محله .

____________________

( ١ ) سليم بن قيس ، لا وجود له في الطبعة النجفية ، لعل المؤلف أخذه من البحار حيث ذكر المجلسي في ٩٦ : ٢٠٣ الرواية ٢١ باب ٢٤ .

( ٢ ) الفقيه للصدوق ٢ : ١٣٧ الرواية ١٩٦٤ باب ٢ .

( ٣ ) الكافي ٣ : ٤٥٢ رواية ٨ .

١٧٧

« فاتقوا البدع » روى ابن بابويه عن الصادقعليه‌السلام : من مشى إلى صاحب بدعة فوقرها فقد مشى في هدم الإسلام(١) .

« و الزموا المهيع » أي الطريق الواسع و هو طريق الاسلام ، قال تعالى( و إنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ) . .(٢) .

« إنّ عوازم الامور أفضلها » قال ابن أبي الحديد : عوازم ما تقادم منها من قولهم « عجوز عوزم » أي مسنّة ، و يجوز أن يكون جمع عازمة بمعنى مفعول أي معزوم عليها ، أي مقطوع معلوم بيقين صحتها ، و الأول أظهر لأن في مقابلته « و ان محدثاتها » و المحدث في مقابلة القدم(٣) .

قلت : بل الظاهر أن « عوازم » محرف « قدائم » جمع قديم للتشابه الخطي بينهما ، لأن العزم في مقابل الرخصة لا المحدث ، يقال عزائم القرآن و رخصه ، ثم جمع العوزم بالعوازم كما قاله غير معلوم .

٦ الخطبة ( ٥٠ ) و من كلام لهعليه‌السلام :

إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ اَلْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اَللَّهِ وَ يَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ اَللَّهِ فَلَوْ أَنَّ اَلْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ اَلْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى اَلْمُرْتَادِينَ وَ لَوْ أَنَّ اَلْحَقَّ خَلَصَ مِنْ اَلْبَاطِلِ اِنْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ اَلْمُعَانِدِينَ وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا

____________________

( ١ ) الفقيه للصدوق ٣ : ٥٧٢ ح ٤٩٥٧ الباب ٢ .

( ٢ ) الأنعام : ١٥٣ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ٩٤ .

١٧٨

ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي اَلشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ يَنْجُو اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ ٢ ٤ ٢١ : ١٠١ مِنَ اَللَّهِ اَلْحُسْنى‏ ٦ ٦ ٢١ : ١٠١ أقول : رواه الكليني في ( بدع كافيه ) بإسنادين عن عاصم بن حميد عن محمد ابن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال : أيها الناس إنّما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللَّه ، يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا ، فهنا لك استحوذ الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم منه الحسنى(١) .

و رواه في ( روضته ) مع زيادات ، فروى عن سليم بن قيس قال : خطب عليعليه‌السلام فقال : إنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع و أحكام تبتدع ، يخالف فيها حكم اللَّه ، يتولى فيها رجال رجالا ، إنّ الحق لو خلص لم يكن اختلاف و لو أنّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجى ، لكنّه يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجتمعان فيجللان معا ، فهنا لك يستولي الشيطان على أوليائه و نجا الذين سبقت لهم الحسنى ، إنّي سمعت رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

كيف أنتم إذا لبستكم فتنة تربو فيها الصغير و يهرم فيها الكبير يجري الناس عليها و يتخذونها سنة ، فإذا غيّر منها شي‏ء قيل قد غيّرت السنّة ، و قد أتى الناس منكرا ثم تشتدّ البلية و تسبى الذريّة و تدقهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب و كما تدقّ الرحى بثفالها ، و يتفقهون لغير اللَّه و يتعلمون لغير العمل و يطلبون الدنيا بأعمال الآخرة .

ثم أقبل بوجهه و حوله ناس من أهل بيته و خاصته و شيعته فقال : قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين لخلافه ناقضين بعهده مغيّرين لسنّته ، و لو حملت الناس على تركها و حوّلتها إلى مواضعها

____________________

( ١ ) الكافي ١ : ٥٤ رواية ١ و أيضا ٨ : ٥٨ الرواية ٢١ .

١٧٩

و الى ما كانت في عهد رسول اللَّه لتفرّق عني جندي حتى أبقى وحدي أو مع قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي و فرض إمامتي من كتاب اللَّه و سنّة رسوله ، أرأيتم لو أمرت بمقام ابراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللَّه و رددت فدك إلى ذريّة فاطمة و رددت صاع رسول اللَّه كما كان و أمضيت قطائع أقطعها النبي لأقوام لم تمض لهم و لم تنفذ و رددت دار جعفر إلى ورثته و هدمتها من المسجد و رددت قضايا من الجور قضي بها و نزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن و استقبلت بهن الحكم ( في الفروج و الأحكام ) و سبيت ذراري بني تغلب و رددت ما قسم من أرض خيبر و محيت دواوين العطاء و أعطيت كما كان النبي يعطي بالسوية و لم أجعلها دولة بين الأغنياء و ألقيت المساحة و سويت بين المناكح و أنفذت خمس الرسول كما أنزل اللَّه عز و جل و فرضه و رددته إلى ما كان عليه و سددت ما فتح من الأبواب و فتحت ما سد منه و حرمت المسح على الخفين و حددت على النبيذ و أمرت باحلال المتعتين و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات و ألزمت الناس الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم و أخرجت من ادخل مع رسول اللَّه في مسجده ممن كان رسول اللَّه أخرجه و أدخلت من اخرج بعد رسول اللَّه و حملت الناس على حكم القرآن ( في ) الطلاق على السنّة و أخذت الصدقات على أصنافها و حدودها و رددت الوضوء و الغسل و الصلاة إلى مواقيتها و شرائعها و حدودها و رددت أهل نجران إلى مواضعهم و رددت سبايا فارس و سائر الامم إلى كتاب اللَّه و سنّة نبيّه ، إذن لتفرّقوا عني ، و اللَّه لقد أمرت الناس ألا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : يا أهل الاسلام غيّرت سنّة عمر نهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا ، و لقد خفت أن

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425