الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 114919
تحميل: 5403


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114919 / تحميل: 5403
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يا محمّد، أ خاصّة لنا و لآلهتنا أم لجميع الاُمم؟ فقالعليه‌السلام : هو لكم و لآلهتكم و لجميع الاُمم.

فقال: خصمتك و ربّ الكعبة أ لست تزعم أنّ عيسى بن مريم نبيّ و تثني عليه خيراً و على اُمّه؟ و قد علمت أنّ النصارى يعبدونهما، و عزير يعبد و الملائكة يعبدون فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن و آلهتنا معهم ففرحوا و ضحكوا و سكت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله:( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) و نزلت هذه الآية.

و المعنى: و لمّا ضرب ابن الزبعري عيسى بن مريم مثلاً و جادل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعبادة النصارى إيّاه إذا قومك يعني قريشاً من هذا المثل يضجّون فرحاً و ضحكاً بما سمعوا منه من إسكات رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قالوا: ء آلهتنا خير أم هو أي إنّ عيسى عندك خير من آلهتنا و إذا كان هو حصب جهنّم فأمر آلهتنا هيّن. ما ضربوا هذا المثل لك إلّا جدلاً و غلبة في القول لا لميز الحقّ من الباطل.

و فيه أنّه تقدّم في تفسير(1) قوله:( إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) الأنبياء: 98، أنّ هذه الرواية بما فيها من وجوه الوهن و الخلل ضعيفة لا يعبأ بها حتّى نقل عن الحافظ ابن حجر أنّ الحديث لا أصل له و لم يوجد في شي‏ء من كتب الحديث لا مسنداً و لا غير مسند. و قصّة ابن الزبعري هذه و إن رويت من طرق الشيعة على وجه سليم عن المناقشة لكن لم يذكر فيها نزول قوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ ) الآية هناك.

على أنّ ظاهر قوله:( ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) و قوله:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) لا يلائم ما فسّرته تلك الملاءمة.

و قيل: إنّهم لمّا سمعوا قوله تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ

____________________

(1) في البحث الروائيّ المعقود بعد الآية.

١٢١

مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: 59، قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنّهم يعبدون آدميّاً و نحن نعبد الملائكة - يريدون أرباب الأصنام - فآلهتنا خير من إلههم فالّذي ضرب المثل بابن مريم هو الله سبحانه، و قولهم:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) لتفضيل آلهتهم على عيسى لا بالعكس كما في الوجه السابق.

و فيه أنّ قوله تعالى:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ) مدنيّة. و هذه الآيات أعني قوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ ) إلخ، آيات مكّيّة من سورة مكّيّة.

على أنّ الأساس في قولهم - على هذا الوجه - تفضيلهم أنفسهم على النصارى فلا يرتبط على هذا قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) إلخ، بما تقدّمه.

و قيل: إنّهم لمّا سمعوا قوله:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ) ضجّوا و قالوا: ما يريد محمّد بهذا إلّا أن نعبده كما يعبد النصارى المسيح، و آلهتنا خير منه أي من محمّد.

و فيه ما في سابقه.

و قيل: مرادهم بقولهم:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) التنصّل و التخلّص عمّا اُنكر عليهم من قولهم: الملائكة بنات الله، و من عبادتهم لهم كأنّهم قالوا: ما كان ذلك منّا بدعاً فإنّ النصارى يعبدون المسيح و ينسبونه إلى الله و هو بشر و نحن نعبد الملائكة و ننسبهم إلى الله و هم أفضل من البشر.

و فيه أنّه لا يفي بتوجيه قوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) على أنّ قوله:( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ) على هذا الوجه لا يرتبط بما قبله كما في الوجهين السابقين.

و قيل: معنى قولهم:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) أنّ مثلنا في عبادة الآلهة مثل النصارى في عبادة المسيح فأيّهما خير؟ عبادة آلهتنا أم عبادة المسيح؟ فإن قال: عبادة المسيح خير فقد اعترف بعبادة غير الله، و إن قال: عبادة الآلهة فكذلك، و إن قال: ليس في عبادة المسيح خير فقد قصر به عن منزلته و جوابه أنّ اختصاص المسيح بضرب من التشريف

١٢٢

و الإنعام من الله تعالى لا يوجب جواز عبادته.

و فيه أنّه في نفسه لا بأس به لكنّ الشأن في دلالة قوله تعالى:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) على هذا التفصيل.

و قال في المجمع، في الوجوه الّتي أوردها في معنى الآية: و رابعها ما رواه سادة أهل البيت عن عليّعليهم‌السلام أنّه قال: جئت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً فوجدته في ملإ من قريش فنظر إلي ثمّ قال: يا عليّ، إنّما مثلك في هذه الاُمّة مثل عيسى بن مريم أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا، و أبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا، و اقتصد فيه قوم فنجوا. فعظم ذلك عليهم فضحكوا و قالوا: يشبّهه بالأنبياء و الرسل، فنزلت الآية.

أقول: و الرواية غير متعرّضة لتوجيه قولهم:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) و لئن كانت القصّة سبباً للنزول فمعنى الجملة: لئن نتّبع آلهتنا و نطيع كبراءنا خير من أن نتولّى عليّاً فيتحكّم علينا أو خير من أن نتّبع محمّداً فيحكّم علينا ابن عمّه.

و يمكن أن يكون قوله:( وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) إلخ، استئنافاً و النازل في القصّة هو قوله:( وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) الآية.

قوله تعالى: ( إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) الّذي يستدعيه السياق أن يكون الضمير لابن مريم، و المراد بكونه مثلاً - على ما قيل - كونه آية عجيبة إلهيّة يسير ذكره كالأمثال السائرة.

و المعنى: ليس ابن مريم إلّا عبداً متظاهراً بالعبوديّة أنعمنا عليه بالنبوّة و تأييده بروح القدس و إجراء المعجزات الباهرة على يديه و غير ذلك و جعلناه آية عجيبة خارقة نصف به الحقّ لبني إسرائيل.

و هذا المعنى كما ترى ردّ لقولهم:( أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ) الظاهر في تفضيلهم آلهتهم في اُلوهيّتها على المسيحعليه‌السلام في اُلوهيّته و محصّله أنّ المسيح لم يكن إلهاً حتّى ينظر في منزلته في اُلوهيّته و إنّما كان عبداً أنعم الله عليه بما أنعم، و أمّا آلهتهم

١٢٣

فنظر القرآن فيهم ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ) الظاهر أنّ الآية متّصلة بما قبلها مسرودة لرفع استبعاد أن يتلبّس البشر من الكمال ما يقصّه القرآن عن عيسىعليه‌السلام فيخلق الطير و يحيي الموتى و يكلّم الناس في المهد إلى غير ذلك، فيكون كالملائكة المتوسّطين في الإحياء و الإماتة و الرزق و سائر أنواع التدبير و يكون مع ذلك عبداً غير معبود و مألوها غير إله فإنّ هذا النوع من الكمال عند الوثنيّة مختصّ بالملائكة و هو ملاك اُلوهيّتهم و معبوديّتهم و بالجملة هم يحيلون تلبّس البشر بهذا النوع من الكمال الّذي يخصّونه بالملائكة.

فاُجيب بأنّ لله أن يزكّي الإنسان و يطهّره من أدناس المعاصي بحيث يصير باطنه باطن الملائكة فظاهره ظاهر البشر و باطنه باطن الملك يعيش في الأرض يخلف مثله و يخلفه مثله و يظهر منه ما يظهر من الملائكة(1) .

و على هذا فمن في قوله( مِنْكُمْ ) للتبعيض، و قوله:( يَخْلُفُونَ ) أي يخلف بعضهم بعضاً.

و في المجمع، أنّ( من ) في قوله:( مِنْكُمْ ) تفيد معنى البدليّة كما في قوله:

فليت لنا من ماء زمزم شربة

مبرّدة باتت على الطهيان(2)

و قوله:( يخلفون ) أي يخلفون بني آدم و يكونون خلفاء لهم، و المعنى: و لو نشاء أهلكناكم و جعلنا بدلكم ملائكة يسكنون الأرض و يعمرونها و يعبدون الله.

و فيه أنّه لا يلائم النظم تلك الملاءمة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَ اتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ )

____________________

(1) و ليس هذا من الانقلاب المحال في شي‏ء بل نوع من التكامل الوجوديّ بالخروج من حدّ منه أدنى إلى حدّ منه أعلى كما بين في محلّه.

(2) الطهيان قلّة الجبل و معنى البيت: ليت لنا بدلاً من ماء زمزم شربة من الماء مبردة بقيت ليلة على قلّة الجبل.

١٢٤

ضمير( إِنَّهُ ) لعيسىعليه‌السلام و المراد بالعلم ما يعلم به، و المعنى: و إنّ عيسى يعلم به الساعة في خلقه من غير أب و إحيائه الموتى فيعلم به أنّ الساعة ممكنة فلا تشكّوا في الساعة و لا ترتابوا فيها البتّة.

و قيل: المراد بكونه علماً للساعة كونه من أشراطها ينزل على الأرض فيعلم به قرب الساعة.

و قيل: الضمير للقرآن و كونه علماً للساعة كونه آخر الكتب المنزلة من السماء.

و في الوجهين جميعاً خفاء التفريع الّذي في قوله:( فَلا تَمْتَرُنَّ بِها ) .

و قوله:( وَ اتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) قيل: هو من كلامه تعالى، و المعنى: اتّبعوا هداي أو شرعي أو رسولي، و قيل: من كلام الرسول بأمر منه تعالى.

قوله تعالى: ( وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) الصدّ الصرف، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا جاءَ عِيسى‏ بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ ) إلخ، المراد بالبيّنات الآيات البيّنات من المعجزات، و بالحكمة المعارف الإلهيّة من العقائد الحقّة و الأخلاق الفاضلة.

و قوله:( وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) أي في حكمه من الحوادث و الأفعال، و الّذي يختلفون فيه و إن كان أعمّ من الاعتقادات الّتي يختلف في كونها حقّة أو باطلة و الحوادث و الأفعال الّتي يختلف في مشروع حكمها لكنّ المناسب لسبق قوله:( قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ ) أن يختصّ ما اختلفوا فيه بالحوادث و الأفعال و الله أعلم.

و قيل: المراد بقوله:( بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) كلّ الّذي تختلفون فيه. و هو كما ترى.

و قيل: المراد لاُبيّن لكم اُمور دينكم دون اُمور دنياكم و لا دليل عليه من لفظ الآية و لا من المقام.

و قوله:( فَاتَّقُوا اللهَ وَ أَطِيعُونِ ) نسب التقوى إلى الله و الطاعة إلى نفسه ليسجّل أنّه لا يدّعي إلّا الرسالة.

١٢٥

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) دعوة منه إلى عبادة الله وحده و أنّه هو ربّه و ربّهم جميعاً و إتمام للحجّة على من يقول باُلوهيّته.

قوله تعالى: ( فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) ضمير( مِنْ بَيْنِهِمْ ) لمن بعث إليهم عيسىعليه‌السلام و المعنى: فاختلف الأحزاب المتشعّبة من بين اُمّته في أمر عيسى من كافر به قال فيه، و من مؤمن به غال فيه، و من مقتصد لزم الاعتدال.

و قوله:( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ) تهديد و وعيد للقالي منهم و الغالي.

١٢٦

( سورة الزخرف الآيات 66 - 78)

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( 66 ) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ( 67 ) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ( 68 ) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ( 69 ) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ( 70 ) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ  وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ  وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 71 ) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 72 ) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ ( 73 ) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ( 74 ) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ( 75 ) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ( 76 ) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ  قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ( 77 ) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ( 78 )

( بيان‏)

رجوع إلى إنذار القوم و فيه تخويفهم بالساعة و الإشارة إلى ما يؤل إليه حال المتّقين و المجرمين فيها من الثواب و العقاب.

قوله تعالى: ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ )

١٢٧

النظر الانتظار، و البغتة الفجأة، و المراد بعدم شعورهم بها غفلتهم عنها لاشتغالهم باُمور الدنيا كما قال تعالى:( ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ ) يس: 49، فلا يتكرّر المعنى في قوله:( بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

و المعنى: ما ينتظر هؤلاء الكفّار بكفرهم و تكذيبهم لآيات الله إلّا أن تأتيهم الساعة مباغتة لهم و هم غافلون عنها مشتغلون باُمور دنياهم أي إنّ حالهم حال من هدّده الهلاك فلم يتوسّل بشي‏ء من أسباب النجاة و قعد ينتظر الهلاك ففي الكلام كناية عن عدم اعتنائهم بالإيمان بالحقّ ليتخلّصوا به عن أليم العذاب.

قوله تعالى: ( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) الأخلّاء جمع خليل و هو الصديق حيث يرفع خلّة صديقه و حاجته، و الظاهر أنّ المراد بالأخلّاء المطلق الشامل للمخالّة و التحابّ في الله كما في مخالّة المتّقين أهل الآخرة و المخالّة في غيره كما في مخالّة أهل الدنيا فاستثناء المتّقين متّصل.

و الوجه في عداوة الأخلّاء غير المتّقين أنّ من لوازم المخالّة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهامّ اُموره فإذا كانت لغير وجه الله كان فيها الإعانة على الشقوة الدائمة و العذاب الخالد كما قال تعالى حاكياً عن الظالمين يوم القيامة:( يا وَيْلَتى‏ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي ) الفرقان: 29، و أمّا الأخلّاء من المتّقين فإنّ مخالّتهم تتأكّد و تنفعهم يومئذ.

و في الخبر النبويّ: إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام و قلت الأنساب و ذهبت الاُخوّة إلّا الاُخوّة في الله و ذلك قوله:( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ‏ ) (1) .

قوله تعالى: ( يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ) من خطابه تعالى لهم يوم القيامة كما يشهد به قوله بعد:( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ) إلخ، و في الخطاب تأمين لهم من كلّ مكروه محتمل أو مقطوع به فإنّ مورد الخوف المكروه المحتمل و مورد الحزن المكروه المقطوع به فإذا ارتفعاً ارتفعاً.

____________________

(1) رواه في الدرّ المنثور في الآية عن سعد بن معاذ.

١٢٨

قوله تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ ) الموصول بدل من المنادي المضاف في( يا عِبادِ ) أو صفة له، و الآيات كلّ ما يدلّ عليه تعالى من نبيّ و كتاب و أي آية اُخرى دالّة، و المراد بالإسلام التسليم لإرادة الله و أمره.

قوله تعالى: ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) ظاهر الأمر بدخول الجنّة أنّ المراد بالأزواج هي النساء المؤمنات في الدنيا دون الحور العين لأنّهنّ في الجنّة غير خارجات منها.

و الحبور - على ما قيل - السرور الّذي يظهر أثره و حُباره في الوجه و الحبرة الزينة و حسن الهيئة، و المعنى: ادخلوا الجنّة أنتم و أزواجكم المؤمنات و الحال أنّكم تسرون سروراً يظهر أثره في وجوهكم أو تزيّنون بأحسن زينة.

قوله تعالى: ( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ ) إلخ الصحاف جمع صحفة و هي القصعة أو أصغر منها، و الأكواب جمع كوب و هو كوز لا عروة له، و في ذكر الصحاف و الأكواب إشارة إلى تنعّمهم بالطعام و الشراب.

و في الالتفات إلى الغيبة في قوله:( يُطافُ عَلَيْهِمْ ) بين الخطابين( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ) و( أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ ) تفخيم لإكرامهم و إنعامهم أنّ ذلك بحيث ينبغي أن يذكر لغيرهم ليزيد به اغتباطهم و يظهر به صدق ما وعدوا به.

و قوله:( وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) الظاهر أنّ المراد بما تشتهيه الأنفس ما تتعلّق به الشهوة الطبيعيّة من مذوق و مشموم و مسموع و ملموس ممّا يتشارك فيه الإنسان و عامّة الحيوان، و المراد بما تلذّه الأعين الجمال و الزنية و ذلك ممّا الالتذاذ به كالمختصّ بالإنسان كما في المناظر البهجة و الوجه الحسن و اللباس الفاخر، و لذا غير التعبير فعبّر عمّا يتعلّق بالأنفس بالاشتهاء و فيما يتعلّق بالأعين باللذّة و في هذين القسمين تنحصر اللذائذ النفسانيّة عندنا.

و يمكن أن تندرج اللذائذ الروحيّة العقليّة فيما تلذّه الأعين فإنّ الالتذاذ الروحيّ يعدّ من رؤية القلب.

قال في المجمع: و قد جمع الله سبحانه في قوله:( ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ )

١٢٩

ما لو اجتمع الخلائق كلّهم على أن يصفوا ما في الجنّة من أنواع النعيم لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان. انتهى.

و قوله:( وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ ) إخبار و وعد و تبشير بالخلود و لهم في العلم به من اللذّة الروحيّة ما لا يقاس بغيره و لا يقدّر بقدر.

قوله تعالى: ( وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قيل: المعنى اُعطيتموها بأعمالكم، و قيل اُورثتموها من الكفّار و كانوا داخليها لو آمنوا و عملوا صالحاً، و قد تقدّم الكلام في المعنيين في تفسير قوله تعالى:( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ) المؤمنون: 10.

قوله تعالى: ( لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ ) أضاف الفاكهة إلى ما مرّت الإشارة إليه من الطعام و الشراب لإحصاء النعمة، و من في( مِنْها تَأْكُلُونَ ) للتبعيض و لا يخلو من إشارة إلى أنّها لا تنفد بالأكل.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) المراد بالمجرمين المتلبّسون بالإجرام فيكون أعمّ من الكفّار و يؤيّده إيراده في مقابلة المتّقين و هو أخصّ من المؤمنين.

و التفتير التخفيف و التقليل، و الإبلاس اليأس و يأسهم من الرحمة أو من الخروج من النار.

قوله تعالى: ( وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) و ذلك أنّه تعالى جازاهم بأعمالهم لكنّهم ظلموا أنفسهم حيث أوردوها بأعمالهم مورد الشقوة و الهلكة.

قوله تعالى: ( وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ) مالك هو الملك الخازن للنار على ما وردت به الأخبار من طرق العامّة و الخاصّة.

و خطابهم مالكاً بما يسألونه من الله سبحانه لكونهم محجوبين عنه كما قال تعالى:( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) المطفّفين: 15، و قال:( قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ ) المؤمنون: 108.

فالمعنى: أنّهم يسألون مالكاً أن يسأل الله أن يقضي عليهم.

١٣٠

و المراد بالقضاء عليهم إماتتهم، و يريدون بالموت الانعدام و البطلان لينجوا بذلك عمّا هم فيه من الشقوة و أليم العذاب، و هذا من ظهور ملكاتهم الدنيويّة فإنّهم كانوا يرون في الدنيا أنّ الموت انعدام و فوت لا انتقال من دار إلى دار فيسألون الموت بالمعنى الّذي ارتكز في نفوسهم و إلّا فهم قد ماتوا و شاهدوا ما هي حقيقته.

و قوله:( قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ ) أي فيما أنتم فيه من الحياة الشقيّة و العذاب الأليم، و القائل هو مالك جواباً عن مسألتهم.

قوله تعالى: ( لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) ظاهره أنّه من تمام كلام مالك يقوله عن لسان الملائكة و هو منهم، و قيل: من كلامه تعالى و يبعّده أنّهم محجوبون يومئذ عن ربّهم لا يكلّمهم الله تعالى.

و الخطاب لأهل النار بما أنّهم بشر، فالمعنى: لقد جئناكم معشر البشر بالحقّ و لكنّ أكثركم و هم المجرمون كارهون للحقّ.

و قيل: المراد بالحقّ مطلق الحقّ أيّ حقّ كان فهم يكرهونه و ينفرون منه و أمّا الحقّ المعهود الّذي هو التوحيد أو القرآن فكلّهم كارهون له مشمئزّون منه.

و المراد بكراهتهم للحقّ الكراهة بحسب الطبع الثاني المكتسب بالمعاصي و الذنوب لا بحسب الطبع الأوّل الّذي هو الفطرة الّتي فطر الناس عليها إذ لو كرهوه بحسبها لم يكلّفوا بقبوله، قال تعالى:( لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) الروم: 30، و قال:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: 8.

و يظهر من الآية أنّ الملاك في السعادة و الشقاء قبول الحقّ و ردّه.

١٣١

( سورة الزخرف الآيات 79 - 89)

أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ( 79 ) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم  بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ( 80 ) قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ( 81 ) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ( 82 ) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( 83 ) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ  وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ( 84 ) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 85 ) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 86 ) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ  فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ( 87 ) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ ( 88 ) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ  فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 89 )

( بيان‏)

رجوع إلى سابق الكلام و فيه توبيخهم على ما يريدون من الكيد برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تهديدهم بأنّ الله يكيدهم، و نفي الولد الّذي يقولون به، و إبطال القول بمطلق الشريك و إثبات الربوبيّة المطلقة لله وحده، و تختتم السورة بالتهديد و الوعيد.

١٣٢

قوله تعالى: ( أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ) الإبرام خلاف النقض و هو الإحكام، و أم منقطعة.

و المعنى: على ما يفيده سياق الآية و الآية التالية: بل أحكموا أمراً من الكيد بك يا محمّد فإنّا محكمون الكيد بهم فالآية في معنى قوله تعالى:( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ) الطور: 42.

قوله تعالى: ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ بَلى‏ وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) السرّ ما يستسرّونه في قلوبهم و النجوى ما يناجيه بعضهم بعضاً بحيث لا يسمعه غيرهما، و لمّا كان السرّ حديث النفس عبّر عن العلم بالسرّ و النجوى جميعاً بالسمع.

و قوله:( بَلى‏ وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) أي بلى نحن نسمع سرّهم و نجواهم و رسلنا الموكّلون على حفظ أعمالهم عليهم يكتبون ذلك.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ) إبطال لاُلوهيّة الولد بإبطال أصل وجوده من جهة علمه بأنّه ليس، و التعبير بأن الشرطيّة دون لو الدالّة على الامتناع - و كان مقتضى المقام أن يقال: لو كان للرحمن ولد - لاستنزالهم عن رتبة المكابرة إلى مرحلة الانتصاف.

و المعنى: قل لهم إن كان للرحمن ولد كما يقولون، فأنا أوّل من يعبده أداء لحقّ بنوّته و مسانخته لوالده، لكنّي أعلم أنّه ليس و لذلك لا أعبده لا لبغض و نحوه.

و قد أوردوا للآية معاني اُخرى:

منها: أنّ المعنى لو كان لله ولد كما تزعمون فأنا أعبد الله وحده و لا أعبد الولد الّذي تزعمون.

و منها: أنّ( إِنْ ) نافية و المعنى: قل ما كان لله ولد فأنا أوّل العابدين الموحّدين له من بينكم.

و منها: أنّ( الْعابِدِينَ ) من عبد بمعنى أنف و المعنى: قل لو كان للرحمن ولد فأنا أوّل من أنف و استنكف عن عبادته لأنّ الّذي يلد لا يكون إلّا جسماً و الجسميّة تنافي الاُلوهيّة.

و منها: أنّ المعنى: كما أنّي لست أوّل من عبدالله كذلك ليس لله ولد أي لو جاز

١٣٣

لكم أن تدّعوا ذاك المحال جاز لي أن أدّعي هذا المحال. إلى غير ذلك ممّا قيل لكن الظاهر من الآية ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) تسبيح له سبحانه عمّا ينسبون إليه، و الظاهر أنّ( رَبِّ الْعَرْشِ ) عطف بيان لربّ السماوات و الأرض لأنّ المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم المشهود و هو عرش ملكه تعالى الّذي استوى عليه و حكم فيه و دبّر أمره.

و لا يخلو من إشارة إلى حجّة على الوحدانيّة إذ لمّا كان الخلق مختصّاً به تعالى حتّى باعتراف الخصم و هو من شؤن عرش ملكه، و التدبير من الخلق و الإيجاد فإنّه إيجاد النظام الجاري بين المخلوقات فالتدبير أيضاً من شؤن عرشه فربوبيّته للعرش ربوبيّة لجميع السماوات و الأرض.

قوله تعالى: ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) وعيد إجماليّ لهم بأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإعراض عنهم حتّى يلاقوا ما يحذّرهم منه من عذاب يوم القيامة.

و المعنى: فاتركهم يخوضوا في أباطيلهم و يلعبوا في دنياهم و يشتغلوا بذلك حتّى يلاقوا يومهم الّذي يوعدونه و هو يوم القيامة كما ذكر في الآيات السابقة:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) أي هو الّذي هو في السماء إله مستحقّ للمعبوديّة و هو في الأرض إله أي هو المستحقّ لمعبوديّة أهل السماوات و الأرض وحده، و يفيد تكرار( إِلهٌ ) كما قيل التأكيد و الدلالة على أنّ كونه تعالى إلهاً في السماء و الأرض بمعنى تعلّق اُلوهيّته بهما لا بمعنى استقراره فيهما أو في أحدهما.

و في الآية مقابلة لما يثبته الوثنيّة لكلّ من السماء و الأرض إلهاً أو آلهة، و في تذييل الآية بقوله:( وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) الدالّ على الحصر إشارة إلى وحدانيّته في الربوبيّة الّتي لازمها الحكمة و العلم.

١٣٤

قوله تعالى: ( وَ تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ثناء عليه تعالى بالتبارك و هو مصدريّته للخير الكثير.

و كلّ من الصفات الثلاث المذكورة حجّة على توحّده في الربوبيّة أمّا ملكه للجميع فظاهر فإنّ الربوبيّة لمن يدبّر الأمر و التدبير للملك، و أمّا اختصاص علم الساعة به فلأنّ الساعة هي المنزل الأقصى إليه يسير الكلّ و كيف يصحّ أن يربّ الأشياء من لا علم له بمنتهى مسيرها فهو تعالى ربّ الأشياء لا من يدّعونه، و أمّا رجوع الناس إليه فإنّ الرجوع للحساب و الجزاء و هو آخر التدبير فمن إليه الرجوع فإليه التدبير و من إليه التدبير له الربوبيّة.

قوله تعالى: ( وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) السياق سياق العموم فالمراد بالّذين يدعون، أي يعبدونهم من دونه، كلّ معبود غيره تعالى من الملائكة و الجنّ و البشر و غيرهم.

و المراد( بِالْحَقِّ ) الحقّ الّذي هو التوحيد، و الشهادة به الاعتراف به، و المراد بقوله:( وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) حيث اُطلق العلم علمهم بحقيقة حال من شفعوا له و حقيقة عمله كما قال:( لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً ) النبأ: 38، و إذا كان هذا حال الشفعاء لا يملكونها إلّا بعد الشهادة بالحقّ فما هم بشافعين إلّا لأهل التوحيد كما قال:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ ) .

و الآية مصرّحة بوجود الشفاعة.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) أي إلى متى يصرفون عن الحقّ الّذي هو التوحيد إلى الباطل الّذي هو الشرك، و ذلك أنّهم معترفون أن لا خالق إلّا الله و التدبير الّذي هو ملاك الربوبيّة غير منفكّ عن الخلق كما اتّضح مراراً فالربّ المعبود هو الّذي بيده الخلق و هو الله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَ قِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) ضمير( قِيلِهِ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا إشكال، و القيل مصدر كالقول و القال، و( قِيلِهِ ) معطوف - على ما قيل - على الساعة في قوله:( وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) ، و المعنى: و عنده علم قوله:( يا رَبِّ

١٣٥

إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) .

قوله تعالى: ( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) أمر بالإعراض عنهم و إقناط من إيمانهم، و قوله:( قُلْ سَلامٌ ) أي وادعهم موادعة ترك من غير همّ لك فيهم، و في قوله:( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) تهديد و وعيد.

( بحث روائي‏)

في الإحتجاج، عن عليّعليه‌السلام في حديث طويل يقول فيه: قوله:( إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ) أي الجاحدين، و التأويل في هذا القول باطنه مضادّ لظاهره.

أقول: الظاهر أنّ المراد أنّه خلاف ما ينصرف إليه لفظ عابد عند الإطلاق.

و في الكافي، بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قال أبوشاكر الديصانيّ: إنّ في القرآن آية هي قولنا. قلت: و ما هي؟ قال:( هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ ) فلم أدر بما اُجيبه فحججت فخبّرت أباعبداللهعليه‌السلام فقال: هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل: ما اسمك بالكوفة؟ فإنّه يقول: فلان، فقل: ما اسمك بالبصرة؟ فإنّه يقول: فلان، فقل: كذلك الله ربّنا في السماء إله، و في الأرض إله، و في البحار إله، و في القفار إله، و في كلّ مكان إله.

قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته- فقال: هذه نقلت من الحجاز.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ ) قال: هم الّذين عبدوا في الدنيا لا يملكون الشفاعة لمن عبدهم.

و في الكافي، بإسناده عن أبي هاشم الجعفريّ قال: سألت أباجعفر الثانيعليه‌السلام : ما معنى الواحد؟ فقال: إجماع الألسن عليه بالوحدانيّة لقوله:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) .

١٣٦

( سورة الدخان مكّيّة و هي تسع و خمسون آية)

( سورة الدخان الآيات 1 - 8)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( 1 ) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ  إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ( 3 ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( 4 ) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا  إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( 5 ) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ  إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 6 ) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا  إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ( 7 ) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ  رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ( 8 )

( بيان‏)

يتلخّص غرض السورة في إنذار المرتابين في الكتاب بعذاب الدنيا و عذاب الآخرة و قد سيق بيان ذلك بأنّه كتاب مبين نازل من عندالله على من أرسله إلى الناس لإنذارهم و قد نزل رحمة منه تعالى لعباده خير نزول في ليلة القدر الّتي فيها يفرق كلّ أمر حكيم.

غير أنّ الناس و هم الكفّار ارتابوا فيه لاعبين في هوساتهم و سيغشاهم أليم عذاب الدنيا ثمّ يرجعون إلى ربّهم فينتقم منهم بعد فصل القضاء بعذاب خالد.

ثمّ يذكر لهم تنظيراً لأوّل الوعيدين قصّة إرسال موسىعليه‌السلام إلى قوم فرعون لإنجاء بني إسرائيل و تكذيبهم له و إغراقهم نكالاً منه.

ثمّ يذكر إنكارهم لثاني الوعيدين و هو الرجوع إلى الله في يوم الفصل فيقيم الحجّة على أنّه آت لا محالة ثمّ يذكر طرفاً من أخباره و ما سيجري فيه على المجرمين و يصيبهم من ألوان عذابه، و ما سيثاب به المتّقون من حياة طيّبة و مقام كريم.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) الواو للقسم و المراد بالكتاب المبين القرآن.

١٣٧

قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) المراد بالليلة المباركة الّتي نزل فيها القرآن ليلة القدر على ما يدلّ عليه قوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) القدر: 1، و كونها مباركة ظرفيّتها للخير الكثير الّذي ينبسط على الخلق من الرحمة الواسعة، و قد قال تعالى:( وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) القدر: 3.

و ظاهر اللفظ أنّها إحدى الليالي الّتي تدور على الأرض و ظاهر قوله:( فِيها يُفْرَقُ ) الدالّ على الاستمرار أنّها تتكرّر و ظاهر قوله تعالى:( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) البقرة: 185، أنّها تتكرّر بتكرّر شهر رمضان فهي تتكرّر بتكرّر السنين القمريّة و تقع في كلّ سنة قمريّة مرّة واحدة في شهر رمضان، و أمّا أنّها أيّ ليلة هي؟ فلا إشعار في كلامه تعالى بذلك، و أمّا الروايات فستوافيك في البحث الروائيّ التالي.

و المراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة على ما هو ظاهر قوله:( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) و قوله:( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) القدر: 1، و قوله:( شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى‏ وَ الْفُرْقانِ ) البقرة: 185، أنّ النازل هو القرآن كلّه.

و لا يدفع ذلك قوله:( وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى‏ مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ) إسراء: 106، و قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا ) الفرقان: 32، الظاهرين في نزوله تدريجاً، و يؤيّد ذلك آيات اُخر كقوله:( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ ) سورة محمّد: 20، و قوله:( وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ ) التوبة: 127 و غير ذلك و يؤيّد ذلك أيضاً ما لا يحصى من الأخبار المتضمّنة لأسباب النزول.

و ذلك أنّه يمكن أن يحمل على نزول القرآن مرّتين مرّة مجموعاً و جملة في ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان، و مرّة تدريجاً و نجوماً في مدّة ثلاث و عشرين سنة و هي مدّة دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٣٨

لكنّ الّذي لا ينبغي الارتياب فيه أنّ هذا القرآن المؤلّف من السور و الآيات بما فيه من السياقات المختلفة المنطبقة على موارد النزول المختلفة الشخصيّة لا يقبل النزول دفعة فإنّ الآيات النازلة في وقائع شخصيّة و حوادث جزئيّة مرتبطة بأزمنة و أمكنة و أشخاص و أحوال خاصّة لا تصدق إلّا مع تحقّق مواردها المتفرّقة زماناً و مكاناً و غير ذلك بحيث لو اجتمعت زماناً و مكاناً و غير ذلك انقلبت عن تلك الموارد و صارت غيرها فلا يمكن احتمال نزول القرآن و هو على هيئته و حاله بعينها مرّة جملة، و مرّة نجوماً.

فلو قيل بنزوله مرّتين كان من الواجب أن يفرّق بين المرّتين بالإجمال و التفصيل فيكون نازلاً مرّة إجمالاً و مرّة تفصيلاً و نعني بهذا الإجمال و التفصيل ما يشير إليه قوله تعالى:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود: 1، و قوله:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: 4، و قد مرّ الكلام في معنى الإحكام و التفصيل في تفسير سورتي هود و الزخرف.

و قيل: المراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة افتتاح نزوله التدريجيّ في ليلة القدر من شهر رمضان فأوّل ما نزل من آيات القرآن - و هو سورة العلق أو سورة الحمد - نزل في ليلة القدر.

و هذا القول مبنيّ على استشعار منافاة نزول الكتاب كلّه في ليلة و نزوله التدريجيّ الّذي تدلّ عليه الآيات السابقة و قد عرفت أن لا منافاة بين الآيات.

على أنّك خبير بأنّه خلاف ظاهر الآيات.

و قيل: إنّه نزل أوّلاً جملة على السماء الدنيا في ليلة القدر ثمّ نزل من السماء الدنيا على الأرض تدريجاً في ثلاث و عشرين سنة مدّة الدعوة النبويّة.

و هذا القول مأخوذ من الأخبار الواردة في تفسير الآيات الظاهرة في نزوله جملة و ستمرّ بك في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

و قوله:( إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) واقع موقع التعليل، و هو يدلّ على استمرار

١٣٩

الإنذار منه تعالى قبل هذا الإنذار، فيدلّ على أنّ نزول القرآن من عنده تعالى ليس ببدع، فإنّما هو إنذار و الإنذار سنّة جارية له تعالى لم تزل تجري في السابقين من طريق الوحي إلى الأنبياء و الرسل و بعثهم لإنذار النّاس.

قوله تعالى: ( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) ضمير( فِيها ) للّيلة و الفرق فصل الشي‏ء من الشي‏ء بحيث يتمايزان و يقابله الإحكام فالأمر الحكيم ما لا يتميّز بعض أجزائه من بعض و لا يتعيّن خصوصيّاته و أحواله كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21.

فللاُمور بحسب القضاء الإلهيّ مرحلتان: مرحلة الإجمال و الإبهام و مرحلة التفصيل، و ليلة القدر - على ما يدلّ عليه قوله:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) - ليلة يخرج فيها الاُمور من مرحلة الإحكام إلى مرحلة الفرق و التفصيل، و قد نزل فيها القرآن و هو أمر من الاُمور المحكمة فرق في ليلة القدر.

و لعلّ الله سبحانه أطلع نبيّه على جزئيّات الحوادث الّتي ستقع في زمان دعوته و ما يقارن منها نزول كلّ آية أو آيات أو سورة من كتابه فيستدعي نزولها و أطلعه على ما ينزل منها فيكون القرآن نازلاً عليه دفعة و جملة قبل نزوله تدريجاً و مفرّقاً.

و مآل هذا الوجه اطّلاع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على القرآن في مرحلة نزوله إلى القضاء التفصيليّ قبل نزوله على الأرض و استقراره في مرحلة العين، و على هذا الوجه لا حاجة إلى تفريق المرّتين بالإجمال و التفصيل كما تقدّم في الوجه الأوّل.

و ظاهر كلام بعضهم أنّ المراد بقوله:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) تفصيل الاُمور المبيّنة في القرآن من معارف و أحكام و غير ذلك. و يدفعه أنّ ظاهر قوله:( فِيها يُفْرَقُ ) الاستمرار و الّذي يستمرّ في هذه الليلة بتكرّرها تفصيل الاُمور الكونيّة بعد إحكامها و أمّا المعارف و الأحكام الإلهيّة فلا استمرار في تفصيلها فلو كان المراد فرقها كان الأنسب أن يقال:( فيها فرق) .

و قيل: المراد بكون الأمر حكيماً إحكامه بعد الفرق لا الإحكام الّذي قبل التفصيل، و المعنى: يقضى في الليلة كلّ أمر محكم لا يتغيّر بزيادة أو نقصان أو غير ذلك

١٤٠