الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120098 / تحميل: 6170
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

هذا، و الأظهر ما قدّمناه من المعنى.

قوله تعالى: ( أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) المراد بالأمر الشأن و هو حال من الأمر السابق و المعنى فيها يفرق كلّ أمر حال كونه أمراً من عندنا و مبتدءً من لدنّا، و يمكن أن يكون المراد به ما يقابل النهي و المعنى: يفرق فيها كلّ أمر بأمر منّا، و هو على أيّ حال متعلّق بقوله:( يُفْرَقُ ) .

و يمكن أن يكون متعلّقاً بقوله:( أَنْزَلْناهُ ) أي حال كون الكتاب أمراً أو بأمر من عندنا، و قوله:( إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) لا يخلو من تأييد لذلك، و يكون تعليلاً له و المعنى: إنّا أنزلناه أمراً من عندنا لأنّ سنّتنا الجارية إرسال الأنبياء و الرسل.

قوله تعالى: ( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي إنزاله رحمة من ربّك أو أنزلناه لأجل إفاضة الرحمة على الناس أو لاقتضاء رحمة ربّك إنزاله فقوله:( رَحْمَةً ) حال على المعنى الأوّل و مفعول له على الثاني و الثالث.

و في قوله:( مِنْ رَبِّكَ ) التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و وجهه إظهار العناية بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه هو الّذي اُنزل عليه القرآن و هو المنذر المرسل إلى الناس.

و قوله:( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) أي السميع للمسائل و العليم بالحوائج فيسمع مسألتهم و يعلم حاجتهم إلى الاهتداء بهدى ربّك فينزل الكتاب و يرسل الرسول رحمة منه لهم.

قوله تعالى: ( رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) لمّا كانت الوثنيّة يرون أنّ لكلّ صنف من الخلق إلهاً أو أكثر و ربّما اتّخذ قوم منهم إلهاً غير ما يتّخذه غيرهم عقّب قوله:( مِنْ رَبِّكَ ) بقوله:( رَبِّ السَّماواتِ ) إلخ، لئلّا يتوهّم متوهّم منهم أنّ ربوبيّته للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليست بالاختصاص كالّتي بينهم بل هو تعالى ربّه و ربّ السماوات و الأرض و ما بينهما، و لذلك عقّبه أيضاً في الآية التالية بقوله:( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) .

و قوله:( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) هذا الاشتراط كما ذكره الزمخشريّ من قبيل قولنا هذا إنعام زيد الّذي تسامع الناس بكرمه و اشتهروا سخاءه أن بلغك حديثه و حدّثت

١٤١

بقصّته فالمعنى هو الّذي يعرفه الموقنون بأنّه ربّ السماوات و الأرض و ما بينهما إن كنتم منهم عرفتموه بأنّه ربّ كلّ شي‏ء.

قوله تعالى: ( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) لمّا كان مدلول الآية السابقة انحصار الربوبيّة و هي الملك و التدبير فيه تعالى و الاُلوهيّة و هي المعبوديّة بالحقّ من لوازم الربوبيّة عقّبه بكلمة التوحيد النافية لكلّ إله دونه تعالى.

و قوله:( يُحْيِي وَ يُمِيتُ ) من أخصّ الصفات به تعالى و هما من شؤن التدبير، و في ذكرهما نوع تمهيد لما سيأتي من إنذارهم بالمعاد.

و قوله:( رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ) فيه كمال التصريح بأنّه ربّهم و ربّ آبائهم فليعبدوه و لا يتعلّلوا باتّباع آبائهم في عبادة الأصنام، و لتكميل التصريح سيقت الجملة بالخطاب فقيل:( رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ ) .

و هما أعني قوله:( يُحْيِي وَ يُمِيتُ ) و قوله:( رَبُّكُمْ ) خبران لمبتدإ محذوف و التقدير هو يحيي و يميت إلخ.

( بحث روائي‏)

في المجمع في قوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) و الليلة المباركة هي ليلة القدر: و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

و في الكافي، بإسناده عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اُذينة عن الفضيل و زرارة و محمّد بن مسلم عن حمران أنّه سأل أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) قال: نعم ليلة القدر و هي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر فلم ينزل القرآن إلّا في ليلة القدر قال الله تعالى:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) قال: يقدّر في ليلة القدر كلّ شي‏ء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير و شرّ و طاعة و معصية و مولود و أجل و رزق فما قدّر في تلك السنة و قضي

١٤٢

فهو المحتوم و لله تعالى فيه المشيّة.

أقول: قوله: فهو المحتوم و لله فيه المشيّة أي أنّه محتوم من جهة الأسباب و الشرائط فلا شي‏ء يمنع عن تحقّقه إلّا أن يشاء الله ذلك.

و في البصائر، عن عبّاس بن معروف عن سعدان بن مسلم عن عبدالله بن سنان قال: سألته عن النصف من شعبان فقال: ما عندي فيه شي‏ء و لكن إذا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قسم فيها الأرزاق و كتب فيها الآجال و خرج فيها صكاك الحاجّ و اطّلع الله إلى عباده فغفر الله لهم إلّا شارب خمر مسكر.

فإذا كانت ليلة ثلاث و عشرين فيها يفرق كلّ أمر حكيم ثمّ ينهى ذلك و يمضي ذلك. قلت: إلى من؟ قال: إلى صاحبكم و لو لا ذلك لم يعلم.

و في الدرّ المنثور، أخرج محمّد بن نصر و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) قال: يكتب من اُمّ الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو موت أو حياة أو مطر حتّى يكتب الحاجّ: يحجّ فلان و يحجّ فلان.

أقول: و الأخبار في ليلة القدر و ما يقضى فيها و في تعيينها كثيرة جدّاً و سيأتي عمدتها في تفسير سورة القدر إن شاء الله تعالى.

١٤٣

( سورة الدخان الآيات ٩ - ٣٣)

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ( ٩ ) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ( ١٠ ) يَغْشَى النَّاسَ  هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ١١ ) رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ( ١٢ ) أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ( ١٣ ) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ( ١٤ ) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا  إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ( ١٥ ) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ ( ١٦ ) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( ١٧ ) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ  إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( ١٨ ) وَأَن لَّا تَعْلُوا عَلَى اللهِ  إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( ١٩ ) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ ( ٢٠ ) وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ( ٢١ ) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ ( ٢٢ ) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ ( ٢٣ ) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا  إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ( ٢٤ ) كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( ٢٥ ) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ( ٢٦ ) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ( ٢٧ ) كَذَٰلِكَ  وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ( ٢٨ ) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ( ٢٩ ) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ( ٣٠ ) مِن فِرْعَوْنَ  إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ ( ٣١ ) وَلَقَدِ

١٤٤

اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٣٢ ) وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ ( ٣٣ )

( بيان‏)

تذكر الآيات ارتيابهم في كتاب الله بعد ما ذكرت أنّه كتاب مبين نازل في خير ليلة على رسوله لغرض الإنذار رحمة من الله، ثمّ تهدّدهم بعذاب الدنيا و بطش يوم القيامة و تتمثّل لهم بقصّة إرسال موسى إلى قوم فرعون و تكذيبهم له و إغراقهم.

و لا تخلو القصّة من إيماء إلى أنّه تعالى سينجّي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين به من عتاة قريش بإخراجهم من مكّة ثمّ إهلاك صناديد قريش في تعقيبهم النبيّ و المؤمنين به.

قوله تعالى: ( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ) ضمير الجمع لقوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الإضراب عن محذوف يدلّ عليه السياق السابق أي إنّهم لا يوقنون و لا يؤمنون بما ذكر من رسالة الرسول و صفة الكتاب الّذي اُنزل عليه بل هم في شكّ و ارتياب فيه يلعبون بالاشتغال بدنياهم، و ذكر الزمخشريّ أنّ الإضراب عن قوله:( إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) .

قوله تعالى: ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ ) الارتقاب الانتظار و هذا وعيد بالعذاب و هو إتيان السماء بدخان مبين يغشى الناس.

و اختلف في المراد بهذا العذاب المذكور في الآية.

فقيل: المراد به المجاعة الّتي ابتلي بها أهل مكّة فإنّهم لمّا أصرّوا على كفرهم و أذاهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين به دعا عليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: اللّهمّ سنين كسني يوسف فأجدبت الأرض و أصابت قريشاً مجاعة شديدة، و كان الرجل لما به من الجوع يرى بينه و بين السماء كالدخان و أكلوا الميتة و العظام ثمّ جاؤا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قالوا: يا محمّد جئت تأمر بصلة الرحم و قومك قد هلكوا، و وعدوه إن كشف الله عنهم الجدب أن يؤمنوا، فدعا و سأل الله لهم بالخصب و السعة فكشف عنهم ثمّ عادوا إلى كفرهم و نقضوا عهدهم.

١٤٥

و قيل: إنّ الدخان المذكور في الآية من أشراط الساعة و هو لم يأت بعد و هو يأتي قبل قيام الساعة فيدخل أسماع الناس حتّى أنّ رؤسهم تكون كالرأس الحنيذ. و يصيب المؤمن منه مثل الزكمة و تكون الأرض كلّها كبيت اُوقد فيه ليس فيه خصاص(١) و يمكث ذلك أربعين يوماً.

و ربّما قيل: إنّ المراد بيوم الدخان يوم فتح مكّة حين دخل جيش المسلمين مكّة فارتفع الغبار كالدخان المظلم، و ربّما قيل: المراد به يوم القيامة، و القولان كما ترى.

و قوله:( يَغْشَى النَّاسَ ) أي يشملهم و يحيط بهم، و المراد بالنّاس أهل مكّة على القول الأوّل، و عامّة الناس على القول الثاني.

قوله تعالى: ( هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ) حكاية قول الناس عند نزول عذاب الدخان أي يقول الناس يوم تأتي السماء بدخان مبين: هذا عذاب أليم و يسألون الله كشفه بالاعتراف بربوبيّته و إظهار الإيمان بالدعوة الحقّة فيقولون:( رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ) .

قوله تعالى: ( أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى‏ وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أي من أين لهم أن يتذكّروا و يذعنوا بالحقّ و الحال أنّه قد جاءهم رسول مبين ظاهر في رسالته لا يقبل الارتياب و هو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و في الآية ردّ صدقهم في وعدهم.

قوله تعالى: ( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ) التولّي الإعراض، و ضمير( عَنْهُ ) للرسول و( مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ) خبران لمبتدإ محذوف هو ضمير راجع إلى الرسول و المعنى: ثمّ أعرضوا عن الرسول و قالوا هو معلّم مجنون فرموه أوّلاً بأنّه معلّم يعلّمه غيره فيسند ما تعلّمه إلى الله سبحانه، قال تعالى:( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) النحل: ١٠٣، و ثانياً بأنّه مجنون مختلّ العقل.

قوله تعالى: ( إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ ) أي إنّا كاشفون

____________________

(١) الخصاص: الثقبة و الفرجة.

١٤٦

للعذاب زماناّ إنّكم عائدون إلى ما كنتم فيه من الكفر و التكذيب هذا بناء على القول الأوّل و الآية تأكيد لردّ صدقهم فيما وعدوه من الإيمان.

و أمّا على القول الثاني فالأقرب أنّ المعنى: إنّكم عائدون إلى العذاب يوم القيامة.

قوله تعالى: ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى‏ إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ) البطش - على ما ذكره الراغب - تناول الشي‏ء بصولة، و هذا اليوم بناء على القول الأوّل المذكور يوم بدر و بناء على القول الثاني يوم القيامة، و ربّما أيّد توصيف البطشة بالكبرى هذا القول الثاني فإنّ بطش يوم القيامة و عذابه أكبر البطش و العذاب، قال تعالى:( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) الغاشية: ٢٤، كما أنّ أجره أكبر الأجر قال تعالى:( وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ) النحل: ٤١.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) الفتنة الامتحان و الابتلاء للحصول على حقيقة الشي‏ء، و قوله:( وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) إلخ، تفسير للامتحان، و الرسول الكريم موسىعليه‌السلام ، و الكريم هو المتّصف بالخصال الحميدة قال الراغب: الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه و إنعامه المتظاهر نحو قوله:( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) و إذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق و الأفعال المحمودة الّتي تظهر منه، و لا يقال: هو كريم حتّى يظهر ذلك منه، قال: و كلّ شي‏ء شرف في بابه فإنّه يوصف بالكرم قال تعالى:( أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) ( وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ ) ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) ( وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ) انتهى.

قوله تعالى: ( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) تفسير لمجي‏ء الرسول فإنّ معنى مجي‏ء الرسول تبليغ الرسالة و كان من رسالة موسىعليه‌السلام إلى فرعون و قومه أن يرسلوا معهم بني إسرائيل و لا يعذّبوهم، و المراد بعباد الله بنو إسرائيل و عبّر عنهم‏ بذلك استرحاماً و تلويحاً إلى أنّهم في استكبارهم و تعدّيهم عليهم إنّما يستكبرون على الله لأنّهم عباد الله.

و في قوله:( إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) حيث وصف نفسه بالأمانة دفع لاحتمال أن

١٤٧

يخونهم في دعوى الرسالة و إنجاء بني إسرائيل من سيطرتهم فيخرج معهم عليهم فيخرجهم من أرضهم كما حكى تعالى عن فرعون إذ قال للملإ حوله:( إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ) الشعراء: ٢٥.

و قيل:( عِبادَ اللهِ ) نداء لفرعون و قومه و التقدير أن أدّوا إلىّ ما آمركم به يا عباد الله، و لا يخلو من التقدير المخالف للظاهر.

قوله تعالى: ( وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) أي لا تتجبّروا على الله بتكذيب رسالتي و الإعراض عمّا أمركم الله فإنّ تكذيب الرسول في رسالته استعلاء و تجبّر على من أرسله و الدليل على أنّ المراد ذلك تعليل النهي بقوله:( إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) أي حجّة بارزة من الآيات المعجزة أو حجّة المعجزة و حجّة البرهان.

قيل: و من حسن التعبير الجمع بين التأدية و الأمين و كذا بين العلوّ و السلطان.

قوله تعالى: ( وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ) أي التجأت إليه تعالى من رجمكم إيّاي فلا تقدرون على ذلك، و الظاهر أنّه إشارة إلى ما آمنه ربّه قبل المجي‏ء إلى القوم كما في قوله تعالى:( قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى‏ قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى) طه: ٤٦.

و بما مرّ يظهر فساد ما قيل: إنّ هذا كان قبل أن يخبره الله بعجزهم عن رجمه بقوله سبحانه:( فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما ) .

قوله تعالى: ( وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ) أي إن لم تؤمنوا لي فكونوا بمعزل منّي لا لي و لا عليّ و لا تتعرّضوا لي بخير أو شرّ، و قيل: المراد تنحّوا عنّي و انقطعوا، و هو بعيد.

قوله تعالى: ( فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ) أي دعاه بأنّ هؤلاء قوم مجرمون و قد ذكر من دعائه السبب الداعي له إلى الدعاء و هو إجرامهم إلى حدّ يستحقّون معه الهلاك و يعلم ما سأله ممّا أجاب به ربّه تعالى إذ قال:( فَأَسْرِ بِعِبادِي ) إلخ، و هو الإهلاك.

١٤٨

قوله تعالى: ( فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) الإسراء: السير بالليل فيكون قوله:( لَيْلًا ) تأكيداً له و تصريحاً به، و المراد بعبادي بنوإسرائيل، و قوله:( إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ) أي يتّبعكم فرعون و جنوده، و هو استئناف يخبر عمّا سيقع عقيب الإسراء.

و في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير فقال له: أسر بعبادي ليلاً إنّكم متّبعون يتّبعكم فرعون و جنوده.

قوله تعالى: ( وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) قال في المفردات: و اترك البحر رهوا أي ساكناً، و قيل: سعة من الطريق و هو الصحيح. انتهى. و قوله:( إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) تعليل لقوله:( وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ) .

و في الكلام إيجاز بالحذف اختصاراً و التقدير: أسر بعبادي ليلاً يتّبعكم فرعون و جنوده حتّى إذا بلغتم البحر فاضربه بعصاك لينفتح طريق لجوازكم فجاوزوه و اتركه ساكناً أو مفتوحاً على حاله فيدخلونه طمعاً في إدراككم فهم جند مغرقون.

قوله تعالى: ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ ) ( كَمْ ) للتكثير أي كثيراً ما تركوا، و قوله:( مِنْ جَنَّاتٍ ) إلخ بيان لما تركوا، و المقام الكريم المساكن الحسنة الزاهية، و النعمة فتح النون التنعّم و بناؤها بناء المرّة كالضربة و بكسر النون قسم من التنعّم و بناؤها بناء النوع كالجلسة و فسّروا النعمة ههنا بما يتنعّم به و هو أنسب للترك، و فاكهين من الفكاهة بمعنى حديث الاُنس و لعلّ المراد به ههنا التمتّع كما يتمتّع بالفواكه و هي أنواع الثمار.

و قوله:( كَذلِكَ ) قيل: معناه الأمر كذلك، و قيل: المعنى نفعل فعلاً كذلك لمن نريد إهلاكه، و قيل: الإشارة إلى الإخراج المفهوم من الكلام السابق، و المعنى: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها.

و يمكن أن يكون حالاً من مفعول( تركوا ) المحذوف و المعنى: كثيراً ما تركوا أشياء كذلك أي على حالها و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ ) الضمير لمفعول( تَرَكُوا ) المحذوف المبيّن بقوله:( مِنْ جَنَّاتٍ ) إلخ، و المعنى ظاهر.

١٤٩

قوله تعالى: ( فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ ) بكاء السماء و الأرض على شي‏ء فائت كناية تخييليّة عن تأثّرهما عن فوته و فقده فعدم بكائهما عليهم بعد إهلاكهم كناية عن هوان أمرهم على الله و عدم تأثير هلاكهم في شي‏ء من أجزاء الكون.

و قوله:( وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ ) كناية عن سرعة جريان القضاء الإلهيّ و القهر الربوبيّ في حقّهم و عدم مصادفته لمانع يمنعه أو يحتاج إلى علاج في رفعه حتّى يتأخّر به.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ ) و هو ما يصيبهم و هم في إسارة فرعون من ذبح الأبناء و استحياء النساء و غير ذلك.

قوله تعالى: ( مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ) ( مِنْ فِرْعَوْنَ ) بدل من قوله:( مِنَ الْعَذابِ ) إمّا بحذف مضاف و التقدير من عذاب فرعون، أو من غير حذف بجعل فرعون عين العذاب دعوى للمبالغة، و قوله:( إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ) أي متكبّراً من أهل الإسراف و التعدّي عن الحدّ.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى‏ عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ ) أي اخترناهم على علم منّا باستحقاقهم الاختيار على ما يفيده السياق.

و المراد بالعالمين جميع العالمين من الاُمم إن كان المراد بالاختيار الاختيار من بعض الوجوه ككثرة الأنبياء فإنّهم يمتازون من سائر الاُمم بكثرة الأنبياء المبعوثين منهم و يمتازون بأن مرّ عليهم دهر طويل في التيه و هم يتظلّلون بالغمام و يأكلون المنّ و السلوى إلى غير ذلك.

و عالمو أهل زمانهم إن كان المراد بالاختيار مطلقة فإنّهم لم يختاروا على الاُمّة الإسلاميّة الّتي خاطبهم الله تعالى بمثل قوله:( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) آل عمران: ١١٠، و قوله:( هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) الحجّ: ٧٨.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ ) البلاء الاختبار و الامتحان

١٥٠

أي و أعطينا بني إسرائيل من الآيات المعجزات ما فيه امتحان ظاهر و لقد اُوتوا من الآيات المعجزات ما لم يعهد في غيرهم من الاُمم و ابتلوا بذلك ابتلاء مبيناً.

قيل: و في قوله:( فِيهِ ) إشارة إلى أنّ هناك اُموراً اُخرى ككونه معجزة.

و في تذييل القصّة بهذه الآيات الأربع أعني قوله:( وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ - إلى قوله -بَلؤُا مُبِينٌ ) نوع تطييب لنفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إيماء إلى أنّ الله تعالى سينجّيه و المؤمنين به من فراعنة مكّة و يختارهم و يمكّنهم في الأرض فينظر كيف يعملون.

( بحث روائي‏)

عن جوامع الجامع في قوله تعالى:( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ) و اختلف في الدخان فقيل: إنّه دخان يأتي من السماء قبل قيام الساعة يدخل في أسماع الكفرة حتّى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ(١) و يعتري المؤمن منه كهيئة الزكام و يكون الأرض كلّها كبيت اُوقد فيه ليس فيه خصاص يمدّ ذلك أربعين يوماً، و روي ذلك عن عليّ و ابن عبّاس و الحسن.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عنهم و أيضاً عن حذيفة بن اليمان و أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و رواه أيضاً عن ابن عمر موقوفاً.

و في تفسير القمّيّ في الآية قال: ذلك إذا خرجوا في الرجعة من القبر يغشى الناس كلّهم الظلمة فيقولون: هذا عذاب أليم ربّنا اكشف عنّا العذاب إنّا مؤمنون.

و في المجمع، و روى زرارة بن أعين عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه قال: بكت السماء على يحيى بن زكريّا و الحسين بن عليّعليهما‌السلام أربعين صباحاً. قلت: فما بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء و تغيب حمراء.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن عبيد المكتب عن إبراهيم قال: ما بكت

____________________

(١) الحنيذ: المشوي.

١٥١

السماء منذ كانت الدنيا إلّا على اثنين. قيل لعبيد: أ ليس السماء و الأرض تبكي على المؤمن؟ قال: ذاك مقامه و حيث يصعد عمله. قال: و تدري ما بكاء السماء؟ قال: لا. قال: تحمرّ و تصير وردة كالدهان. إنّ يحيى بن زكريّا لمّا قتل احمرّت السماء و قطرت دما، و إنّ الحسين بن عليّ يوم قتل احمرّت السماء.

و في الفقيه، عن الصادقعليه‌السلام قال: إذا مات المؤمن بكت عليه بقاع الأرض الّتي كان يعبد الله عزّوجلّ فيها و الباب الّذي كان يصعد منه عمله و موضع سجوده.

أقول: و في هذا المعنى و معنى الروايتين السابقتين روايات اُخر من طرق الشيعة و أهل السنّة.

و لو بني في معنى بكاء السماء و الأرض على ما يظهر من هذه الروايات لم يحتج إلى حمل بكائهما على الكناية التخييليّة.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ) قال: قالوا ذلك لمّا نزل الوحي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذه الغشي فقالوا: هو مجنون.

١٥٢

( سورة الدخان الآيات ٣٤ - ٥٩)

إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ ( ٣٤ ) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَىٰ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ( ٣٥ ) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٣٦ ) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  أَهْلَكْنَاهُمْ  إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ( ٣٧ ) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ( ٣٨ ) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ٣٩ ) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ( ٤٠ ) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ( ٤١ ) إِلَّا مَن رَّحِمَ اللهُ  إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ٤٢ ) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ ( ٤٣ ) طَعَامُ الْأَثِيمِ ( ٤٤ ) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ( ٤٥ ) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ( ٤٦ ) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَاءِ الْجَحِيمِ ( ٤٧ ) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ( ٤٨ ) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( ٤٩ ) إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ ( ٥٠ ) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ( ٥١ ) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( ٥٢ ) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ ( ٥٣ ) كَذَٰلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ( ٥٤ ) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ ( ٥٥ ) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ  وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( ٥٦ ) فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ  ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ٥٧ ) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( ٥٨ ) فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ ( ٥٩ )

١٥٣

( بيان‏)

لمّا أنذر القوم بالعذاب الدنيويّ ثمّ بالعذاب الاُخروي و تمثّل للعذاب الدنيوي بما جرى على قوم فرعون إذ جاءهم موسىعليه‌السلام بالرسالة من ربّه فكذّبوه فأخذهم الله بعذاب الإغراق فاستأصلهم.

رجع إلى الكلام في العذاب الاُخرويّ فذكر إنكار القوم للمعاد و قولهم أن ليس بعد الموتة الاُولى حياة فاحتجّ على إثبات المعاد بالبرهان ثمّ أنبأ عن بعض ما سيلقاه المجرمون من العذاب في الآخرة و بعض ما سيلقاه المتّقون من النعيم المقيم و عند ذلك تختتم السورة بما بدأت به و هو نزول الكتاب للتذكّر و أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالارتقاب.

قوله تعالى: ( إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى‏ وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ) رجوع إلى أوّل الكلام من قوله:( بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ) و الإشارة بهؤلاء إلى قريش و من يلحق بهم من العرب الوثنيّين المنكرين للمعاد، و قولهم:( إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) يريدون به نفي الحياة بعد الموت الملازم لنفي المعاد بدليل قولهم بعده:( وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ) أي بمبعوثين، قال في الكشّاف يقال: أنشر الله الموتى و نشرهم إذا بعثهم. انتهى.

فقولهم:( إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى‏ ) الضمير فيه للعاقبة و النهاية أي ليست عاقبة أمرنا و نهاية وجودنا و حياتنا إلّا موتتنا الاُولى فنعدم بها و لا حياة بعدها أبداً.

و وجّه تقييد الموتة في الآية بالاُولى، بأنّه ليس بقيد احترازيّ إذ لا ملازمة بين الأوّل و الآخر أو بين الأوّل و الثاني فمن الجائز أن يكون هناك شي‏ء أوّل و لا ثاني له و لا في قباله آخر، كذا قيل.

و هناك وجه آخر ذكره الزمخشريّ في الكشّاف فقال: فإن قلت: كان الكلام واقعاً في الحياة الثانية لا في الموت فهلّا قيل: إلّا حياتنا الاُولى و ما نحن بمنشرين كما قيل: إن هي إلّا حياتنا الدنيا و ما نحن بمبعوثين، و ما معنى قوله:( إِلَّا مَوْتَتُنَا

١٥٤

الْأُولى) ؟ و ما معنى ذكر الاُولى؟ كأنّهم وعدوا موتة اُخرى حتّى نفوها و جحدوها و أثبتوا الاُولى.

قلت: معناه - و الله الموفّق للصواب - أنّهم قيل لهم: إنّكم تموتون موتة تتعقّبها حياة كما تقدّمتكم موتة قد تعقّبتها حياة و ذلك قوله عزّوجلّ:( وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) فقالوا: إنّ هي إلّا موتتنا الاُولى يريدون ما الموتة الّتي من شأنها أن تتعقّبها حياة إلّا الموتة الاُولى دون الموتة الثانية، و ما هذه الصفة الّتي تصفون بها الموتة من تعقّب الحياة لها إلّا للموتة الاُولى خاصّة فلا فرق إذاً بين هذا و بين قوله:( إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ) في المعنى انتهى.

و يمكن أن يوجّه بوجه ثالث و هو أن يقولوا:( إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) بعد ما سمعوا قوله تعالى:( قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) الآية، و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ الإماتة الاُولى هي الموتة بعد الحياة الدنيا، و الإماتة الثانية هي الّتي بعد الحياة البرزخيّة فهم في قولهم:( إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) ينفون الموتة الثانية الملازمة للحياة البرزخيّة الّتي هي حياة بعد الموت فإنّهم يرون موت الإنسان انعداماً له و بطلاناً لذاته.

و يمكن أن يوجّه بوجه رابع و هو أن يرجع التقيد بالاُولى إلى الحكاية دون المحكيّ و ذلك بأن يكون الّذي قالوا إنّما هو( إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا ) و يكون معنى الكلام أنّ هؤلاء ينفون الحياة بعد الموت و يقولون: إنّ هي إلّا موتتنا يريدون الموتة الاُولى من الموتتين اللّتين ذكرنا في قولنا:( قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ) الآية.

و الوجوه الأربع مختلفة في القرب من الفهم فأقربها ثالثها ثمّ الرابع ثمّ الأوّل.

قوله تعالى: ( فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) تتمّة كلام القوم و خطاب منهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين به حيث كانوا يذكرون لهم البعث و الإحياء فاحتجّوا لردّ الإحياء بعد الموت بقولهم:( فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) أي فليحي آباؤنا الماضون بدعائكم أو بأيّ وسيلة اتّخذتموها حتّى نعلم صدقكم في دعواكم أنّ الأموات سيحيون

١٥٥

و أنّ الموت ليس بانعدام.

قوله تعالى: ( أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ ) تهديد للقوم بالإهلاك كما أهلك قوم تبّع و الّذين من قبلهم من الاُمم.

و تبّع هذا ملك من ملوك الحمير باليمن و اسمه على ما ذكروا أسعد أبو كرب و قيل: سعد أبو كرب و سيأتي في البحث الروائيّ نبذة من قصّته و في الكلام نوع تلويح إلى سلامة تبّع نفسه من الإهلاك.

قوله تعالى: ( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ضمير التثنية في قوله:( وَ ما بَيْنَهُما ) لجنسي السماوات و الأرض و لذا لم يجمع، و الباء في قوله( بِالْحَقِّ ) للملابسة أي ما خلقناهما إلّا متلبّستين بالحقّ، و جوّز بعضهم كونها للسببيّة أي ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلّا بسبب الحقّ الّذي هو الإيمان و الطاعة و البعث و الجزاء، و لا يخفى بعده.

و مضمون الآيتين حجّة برهانيّة على ثبوت المعاد و تقريرها أنّه لو لم يكن وراء هذا العالم عالم ثابت باق بل كان الله لا يزال يوجد أشياء ثمّ يعدمها ثمّ يوجد أشياء اُخر ثمّ يعدمها و يحيي هذا ثمّ يميته و يحيي آخر و هكذا كان لاعباً في فعله عابثاً به و اللعب عليه تعالى محال ففعله حقّ له غرض صحيح فهناك عالم آخر باق دائمي ينتقل إليه الأشياء و ما في هذا العالم الدنيويّ الفاني البائد مقدّمة للانتقال إلى ذلك العالم و هو الحياة الآخرة.

و قد فصّلنا القول في هذا البرهان في تفسير الآية ١٦ من سورة الأنبياء، و الآية ٢٧ من سورة ص فليراجع.

و قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) تقريع لهم بالجهل.

قوله تعالى: ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) بيان لصفة اليوم الّذي يثبته البرهان السابق و هو يوم القيامة الّذي فيه يقوم الناس لربّ العالمين.

و سمّاه الله يوم الفصل لأنّه يفصل فيه بين الحقّ و الباطل و بين المحقّ و المبطل

١٥٦

و المتّقين و المجرمين أو لأنّه يوم القضاء الفصل منه تعالى.

و قوله:( مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ) أي موعد الناس أجمعين أو موعد من تقدّم ذكره من قوم تبّع و قوم فرعون و من تقدّمهم و قريش و غيرهم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ ) بيان ليوم الفصل، و المولى هو الصاحب الّذي له أن يتصرّف في اُمور صاحبه و يطلق على من يتولّى الأمر و على من يتولّى أمره و المولى الأوّل في الآية هو الأوّل و الثاني هو الثاني.

و الآية تنفي أوّلاً إغناء مولى عن مولاه يومئذ، و تخبر ثانياً أنّهم لا ينصرون و الفرق بين المعنيين أنّ الإغناء يكون فيما استقلّ المغني في عمله و لا يكون لمن يغني عنه صنع في ذلك، و النصرة إنّما تكون فيما كان للمنصور بعض أسباب الظفر الناقصة و يتمّ له ذلك بنصرة الناصر.

و الوجه في انتفاء الإغناء و النصر يومئذ أنّ الأسباب المؤثّرة في نشأة الحياة الدنيا تسقط يوم القيامة، قال تعالى:( وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) البقرة: ١٦٦، و قال:( فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ) يونس: ٢٨.

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) استثناء من ضمير( لا هُمْ يُنْصَرُونَ ) و الآية من أدلّة الشفاعة يومئذ و قد تقدّم تفصيل القول في الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

هذا على تقدير رجوع ضمير( لا هُمْ يُنْصَرُونَ ) إلى الناس جميعاً على ما هو الظاهر. و أمّا لو رجع إلى الكفّار كما قيل فالاستثناء منقطع و المعنى: لكن من رحمة الله و هم المتّقون فإنّهم في غنيً عن مولى يغني عنهم و ناصر ينصرهم.

و أمّا ما جوّزه بعضهم من كونه استثناء متّصلاً من( مَوْلًى ) فقد ظهر فساده ممّا قدّمناه فإنّ الإغناء إنّما هو فيما لم يكن عند الإنسان شي‏ء من أسباب النجاة و من كان على هذه الصفة لم يغن عنه مغن و لا استثناء و الشفاعة نصرة تحتاج إلى بعض أسباب النجاة و هو الدين المرضيّ و قد تقدّم في بحث الشفاعة، نعم يمكن أن يوجّه بما سيجي‏ء

١٥٧

في رواية الشحّام.

و قوله:( إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) أي الغالب الّذي لا يغلبه شي‏ء حتّى يمنعه من تعذيب من يريد عذابه، و مفيض الخير على من يريد أن يرحمه و يفيض الخير عليه و مناسبة الاسمين الكريمين لمضامين الآيات ظاهرة.

قوله تعالى: ( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ ) تقدّم الكلام في شجرة الزقوم في تفسير سورة الصافّات، و الأثيم من استقرّ فيه الإثم إمّا بالمداومة على معصية أو بالإكثار من المعاصي و الآية إلى تمام ثمان آيات بيان حال أهل النار.

قوله تعالى: ( كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ) المهل هو المذاب من النحاس و الرصاص و غيرهما، و الغلي و الغليان معروف، و الحميم الماء الحارّ الشديد الحرارة، و قوله:( كَالْمُهْلِ ) خبر ثان لقوله:( إِنَّ ) كما أنّ قوله:( طَعامُ الْأَثِيمِ ) خبر أوّل، و قوله:( يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ) خبر ثالث، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى‏ سَواءِ الْجَحِيمِ ) الاعتلاء الزعزعة و الدفع بعنف و سواء الجحيم وسطه، و الخطاب للملائكة الموكّلين على النار أي نقول للملائكة خذوا الأثيم و ادفعوه بعنف إلى وسط النار لتحيط به قال تعالى:( وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) التوبة: ٤٩.

قوله تعالى: ( ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ) كأنّ المراد بالعذاب ما يعذّب به، و إضافته إلى الحميم بيانيّة و المعنى: ثمّ صبّوا فوق رأسه من الحميم الّذي يعذّب به.

قوله تعالى: ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) خطاب يخاطب به الأثيم و هو يقاسي العذاب بعد العذاب، و توصيفه بالعزّة و الكرامة على ما هو عليه من الذلّة و اللآمة استهزاء به تشديداً لعذابه و قد كان يرى في الدنيا لنفسه عزّة و كرامة لا تفارقانه كما يظهر مما حكى الله سبحانه من قوله:( وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‏ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى‏ ) حم السجدة: ٥٠.

١٥٨

قوله تعالى: ( إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ) الامتراء الشكّ و الارتياب، و الآية تتمّة قولهم له:( ذُقْ ) إلخ، و فيها تأكيد و إعلام لهم بخطاهم و زلّتهم في الدنيا حيث ارتابوا فيما يشاهدونه اليوم من العذاب مشاهدة عيان، و لذا عبّر عن تحمّل العذاب بالذوق لما أنّه يعبّر عن إدراك ألم المولمات و لذّة الملذّات إدراكاً تامّاً بالذوق.

و يمكن أن تكون الآية استئنافاً من كلام الله سبحانه يخاطب به الكفّار بعد ذكر حالهم في يوم القيامة، و ربّما أيّده قوله:( كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ) بخطاب الجمع و الخطاب في الآيات السابقة بالإفراد.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ ) المقام محلّ القيام بمعنى الثبوت و الركوز و لذا فسّر أيضاً بموضع الإقامة، و الأمين صفة من الأمن بمعنى عدم إصابة المكروه، و المعنى: أنّ المتّقين - يوم القيامة - ثابتون في محلّ ذي أمن من إصابة المكروه مطلقاً.

و بذلك يظهر أنّ نسبة الأمن إلى المقام بتوصيف المقام بالأمين من المجاز في النسبة.

قوله تعالى: ( جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ‏ ) بيان لقوله:( فِي مَقامٍ أَمِينٍ ) و جعل العيون ظرفاً لهم باعتبار المجاورة و وجودها في الجنّات الّتي هي ظرف، و جمع الجنّات باعتبار اختلاف أنواعها أو باعتبار أنّ لكلّ منهم وحده جنّة أو أكثر.

قوله تعالى: ( يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ ) السندس الرقيق من الحرير و الإستبرق الغليظ منه و هما معرّبان من الفارسيّة.

و قوله:( مُتَقابِلِينَ ) أي يقابل بعضهم بعضاً للاستيناس إذ لا شرّ و لا مكروه عندهم لكونهم في مقام أمين.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) أي الأمر كذلك أي كما وصفناه و المراد بتزويجهم بالحور جعلهم قرناء لهنّ من الزوج بمعنى القرين و هو أصل التزويج في اللغة، و الحور جمع حوراء بمعنى شديدة سواد العين و بياضها أو ذات المقلة السوداء كالظباء، و العين جمع عيناء بمعنى عظيمة العينين، و ظاهر كلامه تعالى أنّ الحور العين

١٥٩

غير نساء الدنيا الداخلة في الجنّة.

قوله تعالى: ( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) أي آمنين من ضررها.

قوله تعالى: ( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى‏ وَ وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) أي إنّهم في جنّة الخلد أحياء بحياة أبديّة لا يعتريها موت.

و قد استشكل في الآية بأنّ استثناء الموتة الاُولى من قوله:( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ ) يفيد أنّهم يذوقون الموتة الاُولى فيها، و المراد خلافه قطعاً، و بتقرير آخر الموتة الاُولى هي موتة الدنيا و قد مضت بالنسبة إلى أهل الجنّة، و التلبّس في المستقبل بأمر ماض محال قطعاً فما معنى استثناء الموتة الاُولى من عدم الذوق في المستقبل؟.

و هنا إشكال آخر لم يتعرّضوا له و هو أنّه قد تقدّم في قوله تعالى:( رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) المؤمن: ١١، أنّ بين الحياة الدنيا و الساعة موتتين: موتة بالانتقال من الدنيا إلى البرزخ و موتة بالانتقال من البرزخ إلى الآخرة، و الظاهر أنّ المراد بالموتة الاُولى في الآية هي موتة الدنيا الناقلة للإنسان إلى البرزخ فهب أنّا أصلحنا استثناء الموتة الاُولى بوجه فما بال الموتة الثانية لم تستثن؟ و ما الفرق بينهما و هما موتتان ذاقوهما قبل الدخول في جنّة الخلد؟.

و اُجيب عن الإشكال الأوّل بأنّ الاستثناء منقطع، و المعنى: لكنّهم قد ذاقوا الموتة الاُولى في الدنيا و قد مضت فعموم قوله:( لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ ) على حاله.

و على تقدير عدم كون الاستثناء منقطعاً( إلا ) بمعنى سوى و( إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى‏ ) بدل من( الْمَوْتَ ) و ليس من الاستثناء في شي‏ء، و المعنى: لا يذوقون فيها سوى الموتة الاُولى من الموت أمّا الموتة الاُولى فقد ذاقوها و محال أن تعود و تذاق و هي اُولى.

و اُجيب ببعض وجوه اُخر لا يعبأ به، و أنت خبير بأنّ شيئاً من الوجهين لا يوجّه اتّصاف الموتة بالاُولى و قد تقدّم في تفسير قوله:( إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى‏ ) الآية، وجوه في ذلك.

و أمّا الإشكال الثاني فيمكن أن يجاب عنه بالجواب الثاني المتقدّم لما أنّ هناك موتتين الموتة الاُولى و هي الناقلة للإنسان من الدنيا إلى البرزخ و الموتة الثانية

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429