الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120120 / تحميل: 6173
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

( سورة الجاثية الآيات ٢٠ - ٣٧)

هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( ٢٠ ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ  سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( ٢١ ) وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ٢٢ ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ  أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ( ٢٣ ) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ  وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ  إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ( ٢٤ ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٢٥ ) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( ٢٦ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ( ٢٧ ) وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً  كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٢٨ ) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ  إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٢٩ ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

١٨١

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ  ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( ٣٠ ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ( ٣١ ) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( ٣٢ ) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٣٣ ) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٣٤ ) ذَٰلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا  فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( ٣٥ ) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٣٦ ) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٣٧ )

( بيان‏)

لمّا أشار إلى جعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على شريعة من الأمر و هو تشريع الشريعة الإسلاميّة أشار في هذه الآيات إلى أنّها بصائر للنّاس يبصرون بها ما يجب عليهم أن يسلكوه من سبيل الحياة الطيّبة في الدنيا و تتلوها سعادة الحياة الآخرة، و هدى و رحمة لقوم يوقنون بآيات الله.

و أشار إلى أنّ الّذي يدعو مجترحي السيّئات أن يستنكفوا عن التشرّع بالشريعة إنكارهم المعاد فيحسبون أنّهم و المتشرّعون بالدين سواء في الحياة و الممات و أن لا أثر

١٨٢

للتشرّع بالشريعة فلا ثمرة للعمل الصالح الّذي تهدي إليه الشريعة إلّا إتعاب النفس بالتقيّد من غير موجب. فبرهن تعالى على بطلان حسبانهم بإثبات المعاد ثمّ أردفه بوصف المعاد و ما يثيب به الصالحين يومئذ و ما يعاقب به الطالحين أهل الجحود و الاجرام، و عند ذلك تختتم السورة بالتحميد و التسبيح.

قوله تعالى: ( هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) الإشارة بهذا إلى الأمر المذكور الّذي هو الشريعة أو إلى القرآن بما يشتمل على الشريعة، و البصائر جمع بصيرة و هي الإدراك المصيب للواقع، و المراد بها ما يبصر به، و إنّما كانت الشريعة بصائر لأنّها تتضمّن أحكاماً و قوانين كلّ منها يهدي إلى واجب العمل في سبيل السعادة.

و المعنى: هذه الشريعة المشرّعة أو القرآن المشتمل عليها وظائف عملية يتبصّر بكلّ منها الناس و يهتدون إلى السبيل الحقّ و هو سبيل الله و سبيل السعادة، فقوله بعد ذكر تشريع الشريعة:( هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ ) كقوله بعد ذكر آيات الوحدانيّة في أوّل السورة:( هذا هُدىً وَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ.

و قوله:( وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي دلالة واضحة و إفاضة خير لهم، و المراد بقوم يوقنون: الّذين يوقنون بآيات الله الدالّة على اُصول المعارف فإنّ المعهود في القرآن تعلّق الإيقان بالاُصول الاعتقاديّة.

و تخصيص الهدى و الرحمة بقوم يوقنون مع التصريح بكونه بصائر للناس لا يخلو من تأييد لكون المراد بالهدى الوصول إلى المطلوب دون مجرّد التبصّر، و بالرحمة الرحمة الخاصّة بمن اتّقى و آمن برسوله بعد الإيمان بالله، قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ) الحديد: ٢٨، و قال:( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ - إلى أن قال -وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) البقرة: ٤، و للرحمة درجات كثيرة تختلف سعة و ضيقاً ثمّ للرحمة الخاصّة بأهل الإيمان أيضاً مراتب مختلفة باختلاف مراتب الإيمان فلكلّ مرتبة من مراتبه ما يناسبها منها.

١٨٣

و أمّا الرحمة بمعنى مطلق الخير الفائض منه تعالى فإنّ القرآن بما يشتمل على الشريعة رحمة للناس كافّة كما أنّ الرسول المبعوث به رحمة لهم جميعاً، قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) الأنبياء: ١٠٧، و قد أوردنا بعض الكلام في هذا المعنى في بعض المباحث السابقة.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ‏ ) إلخ، قال في المجمع: الاجتراح الاكتساب، يقال: جرح و اجترح و كسب و اكتسب و أصله من الجراح لأنّ لذلك تأثيراً كتأثير الجراح. قال: و السيّئة الفعلة القبيحة الّتي يسوء صاحبها باستحقاق الذمّ عليها. انتهى.

و الجعل بمعنى التصيير، و قوله:( كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ ) في محلّ المفعول الثاني للجعل، و التقدير كائنين كالّذين آمنوا، إلخ.

و جزم الزمخشريّ في الكشّاف على كون الكاف في( كَالَّذِينَ) اسماً بمعنى المثل هو مفعول ثان لقوله:( نَجْعَلَهُمْ) ، و قوله:( سَواءً ) بدلاً منه.

و قوله:( سَواءً) بالنصب على القراءة الدائرة و هو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي مستوياً أو متساوياً، و قوله:( مَحْياهُمْ) مصدر ميميّ و فاعل( سَواءً ) و ضميره راجع إلى مجموع المجترحين و المؤمنين، و( مَماتُهُمْ) معطوف على( مَحْياهُمْ) و حاله كحاله.

و الآية مسوقة سوق الإنكار و( أَمْ) منقطعة، و المعنى: بل أ حسب و ظنّ الّذين يكتسبون السيّئات أن نصيّرهم مثل الّذين آمنوا و عملوا الصالحات مستوياً محياهم و مماتهم أي تكون حياة هؤلاء كحياة اُولئك و موتهم كموتهم فيكون الإيمان و التشرّع بالدين لغواً لا أثر له في حياة و لا موت و يستوي وجوده و عدمه.

و قوله:( ساءَ ما يَحْكُمُونَ‏ ) ردّ لحسبانهم المذكور و حكمهم بالمماثلة بين مجترحي السيّئات و الّذين آمنوا و عملوا الصالحات و مساءة الحكم كناية عن بطلانه.

فالفريقان لا يتساويان في الحياة و لا في الممات.

١٨٤

أمّا أنّهما لا يتساويان في الحياة فلأنّ الّذين آمنوا و عملوا الصالحات في سلوكهم مسلك الحياة على بصيرة من أمرهم و هدى و رحمة من ربّهم كما ذكره سبحانه في الآية السابقة و المسي‏ء صفر الكفّ، من ذلك و قال تعالى في موضع آخر:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) طه: ١٢٤، و قال في موضع آخر:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢.

و أمّا أنّهما لا يتساويان في الممات فلأنّ الموت كما ينطق به البراهين الساطعة ليس انعداماً للشي‏ء و بطلاناً للنفس الإنسانيّة كما يحسبه المبطلون بل هو رجوع إلى الله سبحانه و انتقال من نشأة الدنيا إلى نشأة الآخرة الّتي هي دار البقاء و عالم الخلود يعيش فيها المؤمن الصالح في سعادة و نعمة و غيره في شقاء و عذاب.

و قد أشار سبحانه إليه فيما تقدّم من كلامه بقوله:( كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) و قوله:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) و غير ذلك، و سيتعرّض له بقوله:( وَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) إلخ.

و الآية من حيث تركيب ألفاظها و المعنى المتحصّل منها من معارك الآراء بين المفسّرين و قد ذكروا لها محامل كثيرة و الّذي يعطيه السياق و يساعد عليه هو ما قدّمناه و لا كثير فائدة في التعرّض لوجوه اُخر ذكروها فمن أراد الاطّلاع عليها فليراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( وَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم المشهود و الباء في( بِالْحَقِّ ) للملابسة فكون خلق العالم بالحقّ كونه حقّاً لا باطلاً و لعباً و هو أن يكون لهذا العالم الكائن الفاسد غاية ثابتة باقية وراءه.

و قوله:( وَ لِتُجْزى‏ ) إلخ، عطف على( بِالْحَقِّ ) و الباء في قوله:( بِما كَسَبَتْ ) للتعدية أو للمقابلة أي لتجزى مقابل ما كسبت إن كان طاعة فالثواب و إن كان معصية فالعقاب، و قوله:( وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) حال من كلّ نفس أي و لتجزى كلّ نفس بما كسبت بالعدل.

١٨٥

فيؤل معنى الآية إلى مثل قولنا و خلق الله السماوات و الأرض بالحقّ و بالعدل فكون الخلق بالحقّ يقتضي أن يكون وراء هذا العالم عالم آخر يخلد فيه الموجودات و كون الخلق بالعدل يقتضي أن تجزى كلّ نفس ما تستحقّه بكسبها فالمحسن يجزى جزاء حسناً و المسي‏ء يجزى جزاء سيّئاً و إذ ليس ذلك في هذه النشأة ففي نشأة اُخرى.

و بهذا البيان يظهر أنّ الآية تتضمّن حجّتين على المعاد إحداهما ما اُشير إليه بقوله:( وَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) و يسلك من طريق الحقّ، و الثانية ما اُشير إليه بقوله:( وَ لِتُجْزى‏ ) إلخ، و يسلك من طريق العدل.

فتؤل الحجّتان إلى ما يشتمل عليه قوله:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص: ٢٨.

و الآية بما فيها من الحجّة تبطل حسبانهم أنّ المسي‏ء كالمحسن في الممات فإنّ حديث المجازاة بالثواب و العقاب على الطاعة و المعصية يوم القيامة ينفي تساوي المطيع و العاصي في الممات، و لازم ذلك إبطال حسبانهم أنّ المسي‏ء كالمحسن في الحياة فإنّ ثبوت المجازاة يومئذ يقتضي وجوب الطاعة في الدنيا و المحسن على بصيرة من الأمر في حياته يأتي بواجب العمل و يتزوّد من يومه لغده بخلاف المسي‏ء العائش في عمى و ضلال فليسا بمتساويين.

قوله تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) إلى آخر الآية ظاهر السياق أنّ قوله:( أَ فَرَأَيْتَ ) مسوق للتعجيب أي أ لا تعجّب ممّن حاله هذا الحال؟

و المراد بقوله:( اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) حيث قدّم( إِلهَهُ ) على( هَواهُ) إنّه يعلم أنّ له إلها يجب أن يعبده - و هو الله سبحانه - لكنّه يبدّله من هواه و يجعل هواه مكانه فيعبده فهو كافر بالله سبحانه على علم منه، و لذلك عقّبه بقوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) أي إنّه ضالّ عن السبيل و هو يعلم.

و معنى اتّخاذ الإله العبادة و المراد بها الإطاعة فإنّ الله سبحانه عدّ الطاعة

١٨٦

عبادة كما في قوله:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي ) يس: ٦١، و قوله:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) التوبة: ٣١، و قوله:( وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٦٤.

و الاعتبار يوافقه إذ ليست العبادة إلّا إظهار الخضوع و تمثيل أنّ العابد عبد لا يريد و لا يفعل إلّا ما أراده و رضيه معبوده فمن أطاع شيئاً فقد اتّخذه إلهاً و عبده فمن أطاع هواه فقد اتّخذ إلهه هواه و لا طاعة إلّا لله أو من أمر بطاعته.

فقوله:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) أي أ لا تعجب ممّن يعبد هواه بإطاعته و اتّباعه و هو يعلم أنّ له إلهاً غيره يجب أن يعبده و يطيعه لكنّه يجعل معبوده و مطاعه هو هواه.

و قوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) أي هو ضالّ بإضلال منه تعالى يضلّه به مجازاة لاتّباعه الهوى حال كون إضلاله مستقرّاً على علم هذا الضالّ، و لا ضير في اجتماع الضلال مع العلم بالسبيل و معرفته كما في قوله تعالى:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: ١٤ و ذلك أنّ العلم لا يلازم الهدى و لا الضلال يلازم الجهل بل الّذي يلازم الهدى هو العلم مع التزام العالم بمقتضى علمه فيتعقّبه الاهتداء و أمّا إذا لم يلتزم العالم بمقتضى علمه لاتّباع منه للهوى فلا موجب لاهتدائه بل هو الضلال و إن كان معه علم.

و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد بالعلم هو علمه تعالى و المعنى: و أضلّه الله على علم منه تعالى بحاله فبعيد عن السياق.

و قوله:( وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً ) كالعطف التفسيريّ لقوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) و الختم على السمع و القلب هو أن لا يسمع الحقّ و لا يعقله، و جعل الغشاوة على البصر هو أن لا يبصر الحقّ من آيات الله و محصّل الجميع: أن لا يترتّب على السمع و القلب و البصر أثرها و هو الالتزام بمقتضى ما ناله من الحقّ إذا أدركه لاستكبار من نفسه و اتّباع للهوى، و قد عرفت أنّ الضلال عن السبيل لا ينافي العلم به إذا لم يكن هناك التزام بمقتضاه.

١٨٧

و قوله:( فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) الضمير لمن اتّخذ إلهه هواه و التفريع على ما تحصّل من حاله أي إذا كان حاله هذا الحال و قد أضلّه الله على علم إلخ، فمن يهديه من بعد الله سبحانه فلا هادي دونه قال تعالى:( قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى‏ ) البقرة: ١٢٠ و قال:( وَ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) المؤمن: ٣٣.

و قوله:( أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) أي أ فلا تتفكّرون في حاله فتتذكّروا أنّ هؤلاء لا سبيل لهم إلى الهدى مع اتّباع الهوى فتتّعظوا.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) إلى آخر الآية، قال الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدّة العالم من مبدإ وجوده إلى انقضائه، و على ذلك قوله تعالى:( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) ثمّ يعبّر به عن كلّ مدّة كثيرة، و هو خلاف الزمان فإنّ الزمان يقع على المدّة القليلة و الكثيرة. انتهى.

و الآية على ما يعطيه السياق - سياق الاحتجاج على الوثنيّين المثبتين للصانع المنكرين للمعاد - حكاية قول المشركين في إنكار المعاد لا كلام الدهريّين الناسبين للحوادث وجوداً و عدماً إلى الدهر المنكرين للمبدإ و المعاد جميعاً إذا لم يسبق لهم ذكر في الآيات السابقة.

فقولهم:( ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ) الضمير للحياة أي لا حياة لنا إلّا حياتنا الدنيا لا حياة وراءها فلا وجود لما يدّعيه الدين الإلهيّ من البعث و الحياة الآخرة، و هذا هو القرينة المؤيّدة لأن يكون المراد بقوله:( نَمُوتُ وَ نَحْيا ) يموت بعضنا و يحيا بعضنا الآخر فيستمرّ بذلك بقاء النسل الإنسانيّ بموت الأسلاف و حياة الأخلاف و يؤيّد ذلك بعض التأييد قوله بعده:( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) المشعر بالاستمرار.

فالمعنى: و قال المشركون: ليست الحياتنا إلّا حياتنا الدنيا الّتي نعيش بها في الدنيا فلا يزال يموت بعضنا و هم الأسلاف و يحيى آخرون و هم الأخلاف و ما يهلكنا إلّا الزمان - الّذي بمروره يبلى كلّ جديد و يفسد كلّ كائن و يميت كلّ حيّ - فليس الموت انتقالاً من دار إلى دار منتهياً إلى البعث و الرجوع إلى الله.

١٨٨

و لعلّ هذا كلام بعض الجهلة من وثنيّة العرب و إلّا فالعقيدة الدائرة بين الوثنيّة هي التناسخ و هو أنّ نفوس غير أهل الكمال إذا فارقت الأبدان تعلّقت بأبدان اُخرى جديدة فإن كانت النفس المفارقة اكتسبت السعادة في بدنها السابق تعلّقت ببدن جديد تتنعّم فيه و تسعد، و إن كانت اكتسبت الشقاء في البدن السابق تعلّقت ببدن لاحق تشقى فيه و تعذّب جزاء لعملها السيّئ و هكذا، و هؤلاء لا ينكرون استناد أمر الموت كالحياة إلى وساطة الملائكة.

و لهذا أعني كون القول بالتناسخ دائراً بين الوثنيّة ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالآية قولهم بالتناسخ، و المعنى:( ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ) فلسنا نخرج من الدنيا أبداً( نَمُوتُ ) عن حياة دنيا( وَ نَحْيا ) بعد الموت بالتعلّق ببدن جديد و هكذا( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) .

و هذا لا يخلو من وجه لكن لا يلائمه قولهم المنقول ذيلاً:( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) إلّا أن يوجّه بأنّ مرادهم من نسبة الإهلاك إلى الدهر كون الدهر وسيلة يتوسّل بها الملك الموكّل على الموت إلى الإماتة، و كذا لا تلائمه حجّتهم المنقولة ذيلاً:( ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) الظاهرة في أنّهم يرون آباءهم معدومين باطلي الذوات.

و ذكر في معنى الآية وجوه اُخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: المعنى نكون أمواتاً لا حياة فيها و هو قبل ولوج الروح ثمّ نحيي بولوجها على حدّ قوله تعالى:( وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ) البقرة: ٢٨.

و قول بعضهم: المراد بالحياة بقاء النسل مجازاً، و المعنى: نموت نحن و نحيا ببقاء نسلنا. إلى غير ذلك ممّا قيل.

و قوله:( وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) أي إنّ قولهم ذلك المشعر بإنكار المعاد قول بغير علم و إنّما هو ظنّ يظنّونه و ذلك أنّهم لا دليل لهم يدلّ على نفي المعاد مع ما هناك من الأدلّة على ثبوته.

قوله تعالى: ( وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا

١٨٩

بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) تأكيد لكون قولهم بنفي المعاد و حصر الحياة في الحياة الدنيا قولاً بغير علم.

و المراد بالآيات البيّنات الآيات المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد و كونها بيّنات وضوح دلالتها على ثبوته بلا شكّ، و تسمية قولهم:( ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) مع كونه اقتراحاً جزافيّاً بعد قيام الحجّة إنّما هو من باب التهكّم فإنّه من قبيل طلب الدليل على المطلوب بعد قيام الدليل عليه فكأنّه قيل: ما كانت حجّتهم إلّا اللّاحجّة.

و المعنى: و إذا تتلى على هؤلاء المنكرين للمعاد آياتنا المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد و الحال أنّها واضحات الدلالة على ثبوته ما قابلوها إلّا بجزاف من القول و هو طلب الدليل على إمكانه بإحياء آبائهم الماضين.

قوله تعالى: ( قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ - إلى قوله -وَ الْأَرْضِ ) ما ذكر من اقتراحهم الحجّة على مطلوب قامت عليه الحجّة و إن كان اقتراحاً جزافيّاً لا يستدعي شيئاً من الجواب لكنّه سبحانه أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم بإثبات إمكانه الّذي كانوا يستبعدونه.

و محصّله: أنّ الّذي يحييكم لأوّل مرّة ثمّ يميتكم ثمّ يجمعكم إلى يوم القيامة الّذي لا ريب فيه هو الله سبحانه و لله ملك السماوات و الأرض يحكم فيها ما يشاء و يتصرّف فيها كيفما يريد فله أن يحكم برجوع الناس إليه و يتصرّف فيكم بجمعكم إلى يوم القيامة و القضاء بينكم ثمّ الجزاء، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) قال الراغب: الخسر و الخسران انتقاص رأس المال و ينسب ذلك إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، و إلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، قال تعالى:( تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ) و يستعمل ذلك في المقتنيات الخارجيّة كالمال و الجاه في الدنيا و هو الأكثر، و في المقنيات النفسيّة كالصحّة و السلامة و العقل و الإيمان و الثواب و هو الّذي جعله الله تعالى الخسران المبين.

قال: و كلّ خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير دون الخسران المتعلّق بالمقتنيات الماليّة و التجارات البشريّة.

١٩٠

و قال: و الإبطال يقال في إفساد الشي‏ء و إزالته سواء كان ذلك الشي‏ء حقّاً أو باطلاً قال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ ) و قد يقال فيمن يقول شيئاً لا حقيقة له نحو( وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) ، و قوله تعالى:( خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) أي الّذين يبطلون الحقّ. انتهى.

و الأشبه أن يكون المراد بقيام الساعة فعليّة ما يقع فيها من البعث و الجمع و الحساب و الجزاء و ظهوره، و بذلك صحّ جعل الساعة مظروفاً لليوم و هما واحد، و الأشبه أن يكون قوله:( يَوْمَئِذٍ ) تأكيداً لقوله:( يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) .

و المعنى: و يوم تقوم الساعة و هي يوم الرجوع إلى الله يومئذ يخسر المبطلون الّذين أبطلوا الحقّ و عدلوا عنه.

قوله تعالى: ( وَ تَرى‏ كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا ) إلخ، الجثوّ البروك على الركبتين كما أنّ الجذوّ البروك على أطراف الأصابع.

و الخطاب عامّ لكلّ من يصحّ منه الرؤية و إن كان متوجّهاً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المراد بالدعوة إلى الكتاب الدعوة إلى الحساب على ما ينطق به الكتاب بإحصائه الأعمال بشهادة قوله بعده:( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

و المعنى: و ترى أنت و غيرك من الرائين كلّ اُمّة من الاُمم جالسة على الجثوّ جلسة الخاضع الخائف كلّ اُمّة منهم تدعى إلى كتابها الخاصّ بها و هي صحيفة الأعمال و قيل لهم:( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

و يستفاد من ظاهر الآية أنّ لكلّ اُمّة كتاباً خاصّاً بهم كما أنّ لكلّ إنسان كتاباً خاصّاً به قال تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) إسراء: ١٣.

قوله تعالى: ( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال في الصحّاح: و نسخت الكتاب و انتسخته و استنسخته كلّه بمعنى، و النسخة اسم المنتسخ منه. انتهى، و قال الراغب: النسخ إزالة الشي‏ء بشي‏ء يتعقّبه كنسخ الشمس الظلّ و نسخ الظلّ الشمس و الشيب الشباب - إلى أن قال - و نسخ الكتاب نقل صورته

١٩١

المجرّدة إلى كتاب آخر و ذلك لا يقتضي إزالة الصورة الاُولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادّة اُخرى كاتّخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة، و الاستنساخ التقدّم بنسخ الشي‏ء و الترشّح للنسخ. انتهى.

و مقتضى ما نقل أنّ المفعول الّذي يتعدّى إليه الفعل في قولنا: استنسخت الكتاب هو الأصل المنقول منه، و لازم ذلك أن تكون الأعمال في قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) كتاباً و أصلاً و إن شئت فقل: في أصل و كتاب يستنسخ و ينقل منه و لو اُريد به ضبط الأعمال الخارجيّة القائمة بالإنسان بالكتابة لقيل: إنّا كنّا نكتب ما كنتم تعملون إذ لا نكتة تستدعي فرض هذه الأعمال كتاباً و أصلاً يستنسخ، و لا دليل على كون( يستنسخ) بمعنى يستكتب كما ذكره بعضهم.

و لازم ذلك أن يكون المراد بما تعملون هو أعمالهم الخارجيّة بما أنّها في اللوح المحفوظ فيكون استنساخ الأعمال استنساخ ما يرتبط بأعمالهم من اللوح المحفوظ و تكون صحيفة الأعمال صحيفة الأعمال و جزء من اللوح المحفوظ، و يكون معنى كتابة الملائكة للأعمال تطبيقهم ما عندهم من نسخة اللوح على الأعمال.

و هذا هو المعنى الّذي وردت به الرواية من طرق الشيعة عن الصادقعليه‌السلام و من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس، و سيوافيك في البحث الروائيّ التالي.

و على هذا فقوله:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) من كلامه تعالى لا من كلام الملائكة، و هو من خطابه تعالى لأهل الجمع يوم القيامة يحكيه لنا فيكون في معنى:( و يقال لهم هذا كتابنا) إلخ.

و الإشارة بهذا - على ما يعطيه السياق - إلى صحيفة الأعمال و هي بعينها إشارة إلى اللوح المحفوظ على ما تقدّم و إضافة الكتاب إليه تعالى نظراً إلى أنّه صحيفة الأعمال من جهة أنّه مكتوب بأمره تعالى و نظراً إلى أنّه اللوح المحفوظ من جهة التشريف و قوله:( يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) أي يشهد على ما عملتم و يدلّ عليه دلالة واضحة ملابساً للحقّ.

و قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) تعليل لكون الكتاب ينطق عليهم

١٩٢

بالحقّ أي إنّ كتابنا هذا دالّ على عملكم بالحقّ من غير أن يتخلّف عنه لأنّه اللّوح المحفوظ المحيط بأعمالكم بجميع جهاتها الواقعيّة.

و لو لا أنّ الكتاب يريهم أعمالهم بنحو لا يداخله شكّ و لا يحتمل منهم التكذيب لكذّبوه، قال تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) آل عمران: ٣٠.

و للقوم في الآية أقوال اُخر:

منها ما قيل: إنّ الآية من كلام الملائكة لا من كلام الله و معنى الاستنساخ الكتابة و المعنى: هذا أي صحيفة الأعمال كتابنا معشر الملائكة الكاتبين للأعمال يشهد عليكم بالحقّ إنّا كنّا نكتب ما كنتم تعملون.

و فيه أنّ كونه من كلام الملائكة بعيد من السياق على أنّ كون الاستنساخ بمعنى مطلق الكتابة لم يثبت لغة.

و منها: أنّ الآية من كلام الله، و الإشارة بهذا إلى صحيفة الأعمال، و قيل: إلى اللّوح المحفوظ، و الاستنساخ بمعنى الاستكتاب مطلقاً.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) تفصيل حال الناس يومئذ بحسب اختلافهم بالسعادة و الشقاء و الثواب و العقاب، و السعداء المثابون هم الّذين آمنوا و عملوا الصالحات، و الأشقياء المعاقبون هم الّذين كفروا من المستكبرين المجرمين.

و المراد بالرحمة الإفاضة الإلهيّة تسعد من استقرّ فيها و منها الجنّة، و الفوز المبين الفلاح الظاهر، و الباقي واضح.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ) المراد بالّذين كفروا المتلبّسون بالكفر عن تكذيب و جحود بشهادة قوله:( أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ ) إلخ.

و الفاء في( أَ فَلَمْ تَكُنْ ) للتفريع فتدلّ على مقدّر متفرّع عليه هو جواب لمّا، و التقدير: فيقال لهم أ لم تكن آياتي تتلى عليكم، و المراد بالآيات الحجج الإلهيّة الملقاة

١٩٣

إليهم عن وحي و دعوة، و المجرم هو المتلبّس بالأجرام و هو الذنب.

و المعنى: و أمّا الّذين كفروا جاحدين للحقّ مع ظهوره فيقال لهم توبيخاً و تقريعاً: أ لم تكن حججي تقرأ و تبيّن لكم في الدنيا فاستكبرتم عن قبولها و كنتم قوماً مذنبين.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) إلخ، المراد بالوعد الموعود و هو ما وعده الله بلسان رسله من البعث و الجزاء فيكون قوله:( وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها ) من عطف التفسير، و يمكن أن يراد بالوعد المعنى المصدريّ.

و قولهم:( ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) معناه أنّه غير مفهوم لهم و الحال أنّهم أهل فهم و دراية فهو كناية عن كونه أمراً غير معقول و لو كان معقولاً لدروه.

و قوله:( إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) أي ليست ممّا نقطع به و نجزم بل نظنّ ظنّاً لا يسعنا أن نعتمد عليه، ففي قولهم:( ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) إلخ، غبّ ما تليت عليهم من الآيات البيّنة أفحش المكابرة مع الحقّ.

قوله تعالى: ( وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) إضافة السيّئات إلى ما عملوا بيانيّة أو بمعنى من، و المراد بما عملوا جنس ما عملوا أي ظهر لهم أعمالهم السيّئة أو السيّئات من أعمالهم فالآية في معنى قوله:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) آل عمران: ٣٠.

فالآية من الآيات الدالّة على تمثّل الأعمال، و قيل: إنّ في الكلام حذفاً و التقدير: و بدا لهم جزاء سيّئات ما عملوا.

و قوله:( وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) أي و حلّ بهم العذاب الّذي كانوا يسخرون منه في الدنيا إذا اُنذروا به بلسان الأنبياء و الرسل.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) النسيان كناية عن الإعراض و الترك فنسيانه تعالى لهم يوم القيامة إعراضه عنهم و تركه لهم في شدائده و أهواله، و نسيانهم لقاء يومهم ذاك في الدنيا إعراضهم عن تذكّره و تركهم التأهّب للقائه، و الباقي ظاهر.

١٩٤

قوله تعالى: ( ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) إلخ، الإشارة بقوله:( ذلِكُمْ ) إلى ما ذكر من عقابهم من ظهور السيّئات و حلول العذاب و الهزء السخريّة الّتي يستهزأ بها و الباء للسببيّة.

و المعنى: ذلكم العذاب الّذي يحلّ بكم بسبب أنّكم اتّخذتم آيات الله سخريّة تستهزؤن بها و بسبب أنّكم غرّتكم الحياة الدنيا فأخلدتم إليها و تعلّقتم بها.

و قوله:( فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) صرف الخطاب عنهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و يتضمّن الكلام خلاصة القول فيما يصيبهم من العذاب يومئذ و هو الخلود في النار و عدم قبول العذر منهم.

و الاستعتاب طلب العتبى و الاعتذار، و نفي الاستعتاب كناية عن عدم قبول العذر.

قوله تعالى: ( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) تحميد له تعالى بالتفريع على ما تقدّم في السورة من كونه خالق السماوات و الأرض و ما بينهما و المدبّر لأمر الجميع و من بديع تدبيره خلق الجميع بالحقّ المستتبع ليوم الرجوع إليه و الجزاء بالأعمال و هو المستدعي لجعل الشرائع الّتي تسوق إلى السعادة و الثواب و يتعقّبه الجمع ليوم الجمع ثمّ الجزاء و استقرار الجميع على الرحمة و العدل بإعطاء كلّ شي‏ء ما يستحقّه فلم يدبّر إلّا تدبيراً جميلاً و لم يفعل إلّا فعلاً محموداً فله الحمد كلّه.

و قد كرّر( الرب) فقال:( رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ ) ثمّ أبدل منهما قوله:( رَبِّ الْعالَمِينَ ) ليأتي بالتصريح بشمول الربوبيّة للجميع فلو جي‏ء بربّ العالمين و اكتفي به أمكن أن يتوهّم أنّه ربّ المجموع لكنّ للسماوات خاصّة ربّ آخر و للأرض وحدها ربّ آخر كما ربّما قال بمثله الوثنيّة، و كذا لو اكتفي بالسماوات و الأرض لم يكن صريحاً في ربوبيّته لغيرهما، و كذا لو اكتفي بإحداهما.

قوله تعالى: ( وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الكبرياء على ما عن الراغب: الترفّع عن الانقياد، و عن ابن الأثير: العظمة و الملك و في المجمع، السلطان القاهر و العظمة القاهرة و العظمة و الرفعة.

١٩٥

و هي على أيّ حال أبلغ معنى من الكبر و تستعمل في العظمة غير الحسّيّة و مرجعه إلى كمال وجوده و لا تناهي كماله.

و قوله:( وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أي له الكبرياء في كلّ مكان فلا يتعالى عليه شي‏ء فيهما و لا يستصغره شي‏ء و تقديم الخبر في( لَهُ الْكِبْرِياءُ ) يفيد الحصر كما في قوله:( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ) .

و قوله:( وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي الغالب غير المغلوب فيما يريد من خلق و تدبير في الدنيا و الآخرة و الباني خلقه و تدبيره على الحكمة و الإتقان.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) قال: نزلت في قريش كلّما هووا شيئاً عبدوه.

و في الدرّ المنثور، أخرج النسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان الرجل من العرب يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه أخذه و ألقى الآخر فأنزل الله( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) .

و في المجمع، في قوله تعالى:( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) و قد روي في الحديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: لا تسبّوا الدهر فإنّ الله هو الدهر.

أقول: قال الطبرسيّ بعد إيراد الحديث: و تأويله أنّ أهل الجاهليّة كانوا ينسبون الحوادث المجحفة و البلايا النازلة إلى الدهر فيقولون: فعل الدهر كذا، و كانوا يسبون الدهر فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ فاعل هذه الاُمور هو الله فلا تسبوا فاعلها انتهى. و يؤيّد هذا الوجه الرواية التالية.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله تبارك و تعالى: لا يقل ابن آدم يسبّ الدّهر يا خيبة الدهر فإنّي أنا الدهر اُرسل الليل و النهار فإذا شئت قبضتهما.

١٩٦

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) الآية حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبدالرحيم القصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن( ن وَ الْقَلَمِ ) قال: إنّ الله خلق القلم من شجرة في الجنّة يقال لها الخلد ثمّ قال لنهر في الجنّة: كن مداداً فجمد النهر و كان أشدّ بياضاً من الثلج و أحلى من الشهد. ثمّ قال للقلم: اُكتب. قال: يا ربّ ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب القلم في رقّ أشدّ بياضاً من الفضّة و أصفى من الياقوت. ثمّ طواه فجعله في ركن العرش ثمّ ختم على فم القلم فلن ينطق أبداً.

فهو الكتاب المكنون الّذي منه النسخ كلّها أ و لستم عرباً؟ فكيف لا تعرفون معنى الكلام؟ و أحدكم يقول لصاحبه: انسخ ذلك الكتاب أ و ليس إنّما ينسخ من كتاب آخر من الأصل؟ و هو قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

أقول: قولهعليه‌السلام : فكتب القلم في رقّ إلخ، تمثيل للّوح المكتوب فيه الحوادث بالرقّ و الرقّ ما يكتب فيه شبه الكاغد - على ما ذكره الراغب - و قد تقدّم الحديث عنهعليه‌السلام أنّ القلم ملك و اللوح ملك، و قوله: فجعله في ركن العرش تمثيل للعرش بعرش الملك ذي الأركان و القوائم و قوله: ثمّ ختم على فم القلم إلخ كناية عن كون ما كتب في الرقّ قضاء محتوماً لا يتغيّر و لا يتبدّل، و قوله: أ و لستم عرباً إلخ، إشارة إلى ما تقدّم توضيحه في تفسير الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: إنّ الله خلق النون و هو الدواة و خلق القلم فقال: اكتب؟ قال: ما أكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول برّ أو فاجر أو رزق مرزوق حلال أو حرام ثمّ ألزم كلّ شي‏ء من ذلك شأنه: دخوله في الدنيا و مقامه فيها كم، و خروجه منها كيف؟

ثمّ جعل على العباد حفظة و على الكتاب خزّاناً تحفظه ينسخون كلّ يوم من الخزّان عمل ذلك اليوم فإذا فني ذلك الرزق انقطع الأمر و انقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فيقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئاً فيرجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا.

١٩٧

قال ابن عبّاس: أ لستم قوماً عرباً؟ تسمعون الحفظة يقولون:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) و هل يكون الاستنساخ إلّا من أصل؟.

أقول: و الخبر كما ترى يجعل الآية من كلام الملائكة الحفظة.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس: في الآية قال: يستنسخ الحفظة من اُمّ الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنّما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من اُمّ الكتاب.

و عن كتاب سعد السعود لابن طاووس، قال بعد ذكر الملكين الموكّلين بالعبد: و في رواية: أنّهما إذا أرادا النزول صباحاً و مساءً ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللّوح المحفوظ فيعطيهما ذلك فإذا صعداً صباحاً و مساءً بديوان العبد قابله إسرافيل بالنسخ الّتي انتسخ لهما حتّى يظهر أنّه كان كما نسخ منه.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) و في الحديث يقول الله: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري- فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في نار جهنّم.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن مسلم و أبي داود و ابن ماجة و غيرهم عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٩٨

( سورة الأحقاف مكّيّة و هي خمس و ثلاثون آية)

( سورة الأحقاف الآيات ١ - ١٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( ١ ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( ٢ ) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى  وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ ( ٣ ) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ  ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٤ ) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ( ٥ ) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ( ٦ ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ٧ ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ  قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا  هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ  كَفَىٰ بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ  وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ٨ ) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ  إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٩ ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ  إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠ ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا

١٩٩

مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ  وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ( ١١ ) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً  وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ ( ١٢ ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ١٣ ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٤ )

( بيان‏)

غرض السورة إنذار المشركين الرادّين للدعوة إلى الإيمان بالله و رسوله بالمعاد بما فيه من أليم العذاب لمنكريه المعرضين عنه، و لذلك تفتتح الكلام بإثبات المعاد:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ) ثمّ يعود إليه عودة بعد عودة كقوله:( وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ ) ، و قوله:( وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) ، و قوله:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ ) ، و قوله:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ ) ، و قوله في مختتم السورة:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ ) الآية.

و فيها احتجاج على الوحدانيّة و النبوّة، و إشارة إلى هلاك قوم هود و هلاك القرى الّتي حول مكّة و إنذارهم بذلك، و إنباء عن حضور نفر من الجنّ عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و استماعهم القرآن و إيمانهم به و رجوعهم إلى قومهم منذرين لهم.

و السورة مكّيّة كلّها إلّا آيتين اختلف فيهما سنشير إليهما في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله، قوله تعالى:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ) إلخ، و قوله:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) الآية.

قوله تعالى: ( حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) تقدّم تفسيره.

٢٠٠

مطاه أي ظهره، و المراد بتمطّيه في ذهابه التبختر و الاختيال استعارة.

و المعنى: فلم يصدّق هذا الإنسان الدعوة فيما فيها من الاعتقاد و لم يصلّ لربّه أي لم يتّبعها فيما فيها من الفروع و ركنها الصلاة و لكن كذّب بها و تولّى عنها ثمّ ذهب إلى أهله يتبختر و يختال مستكبراً.

قوله تعالى: ( أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ) لا ريب أنّه كلمة تهديد كرّرت لتأكيد التهديد، و لا يبعد - و الله أعلم - أن يكون قوله:( أَوْلى‏ لَكَ ) خبراً لمبتدإ محذوف هو ضمير عائد إلى ما ذكر من حال هذا الإنسان و هو أنّه لم يصدّق و لم يصلّ و لكن كذّب و تولّى ثمّ ذهب إلى أهله متبختراً مختالاً، و إثبات ما هو فيه من الحال له كناية عن إثبات ما هو لازمه من التبعة و العقاب.

فيكون الكلام و هي كلمة ملقاة من الله تعالى إلى هذا الإنسان كلمة طبع طبع الله بها على قلبه حرم بها الإيمان و التقوى و كتب عليه أنّه من أصحاب النار، و الآيتان تشبهان بوجه قوله تعالى:( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى‏ لَهُمْ ) سورة محمّد: 20.

و المعنى: ما أنت عليه من الحال أولى و أرجح لك فأولى ثمّ أولى لك فأولى لتذوق وبال أمرك و يأخذك ما اُعدّ لك من العذاب.

و قيل: أولى لك اسم فعل مبنيّ و معناه وليك شرّ بعد شرّ.

و قيل: أولى فعل ماض دعائيّ من الولي بمعنى القرب و فاعل الفعل ضمير مستتر عائد إلى الهلاك و اللّام مزيدة و المعنى أولاك الهلاك.

و قيل: الفاعل ضمير مستتر راجع إليه تعالى و اللّام مزيدة، و المعنى أولاك الله ما تكرهه، أو غير مزيدة و المعنى أدناك الله ممّا تكرهه.

و قيل: معناه الذمّ أولى لك من تركه إلّا أنّه حذف و كثر في الكلام حتّى صار بمنزلة الويل لك و صار من المحذوف الّذي لا يجوز إظهاره.

٢٠١

و قيل: المعنى أهلكك الله هلاكاً أقرب لك من كلّ شرّ و هلاك.

و قيل: أولى أفعل تفضيل بمعنى الأحرى، و خبر لمبتدإ محذوف يقدّر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحقّ بها و أهل لها فأولى.

و هي وجوه ضعيفة لا تخلو من تكلّف و الوجه الأخير قريب ممّا قدّمنا و ليس به.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) مختتم فيه رجوع إلى ما في مفتتح السورة من قوله:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ) .

و الاستفهام للتوبيخ، و السدي المهمل، و المعنى أ يظنّ الإنسان أن يترك مهملاً لا يعتنى به فلا يبعث بإحيائه بعد الموت و لازمه أن لا يكلّف و لا يجزى.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى‏ ) اسم كان ضمير راجع إلى الإنسان، و إمناء المنيّ صبّه في الرحم.

قوله تعالى: ( ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ) أي ثمّ كان الإنسان - أو المنيّ - قطعة من دم منعقد فقدّره فصوّره بالتعديل و التكميل.

قوله تعالى: ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى) أي فجعل من الإنسان الصنفين: الذكر و الاُنثى.

قوله تعالى: ( أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى‏ ) احتجاج على البعث الّذي ينكرونه استبعاداً له بعموم القدرة و ثبوتها على الخلق الابتدائيّ و الإعادة لا تزيد على الابتداء مئونة بل هي أهون، و قد تقدّم الكلام في تقريب هذه الحجّة في تفسير الآيات المتعرّضة لها مراراً.

٢٠٢

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج الطيالسيّ و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و الترمذي و النسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في المصاحف و الطبرانيّ و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقيّ معاً في الدلائل عن ابن عبّاس قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعالج من التنزيل شدّة، و كان يحرّك به لسانه و شفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ‏ ) قال: إنّ علينا أن نجمعه في صدرك ثمّ نقرأه( فَإِذا قَرَأْناهُ‏ ) يقول: إذا أنزلناه عليك( فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏ ) فاستمع له و أنصت( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) بيّنه( نبيّنه ظ) بلسانك، و في لفظ علينا أن نقرأه فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق - و في لفظ استمع - فإذا ذهب قرأ كما وعده الله.

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا اُنزل عليه القرآن تعجّل بقراءته ليحفظه فنزلت هذه الآية( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ‏ ) .

و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعلم ختم سورة حتّى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم.

أقول: و روي ما في معنى صدر الحديث في المجمع، عن ابن جبير و في معناه غير واحد من الروايات، و قد تقدّم أنّ في انطباق هذا المعنى على الآيات خفاء.

و في تفسير القمّيّ قوله تعالى:( كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ) قال: الدنيا الحاضرة( وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ ) قال: تدعون( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) أي مشرقة( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظرون إلى وجه الله أي رحمة الله و نعمته.

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضاعليه‌السلام من أخبار التوحيد بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال: قال عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ

٢٠٣

ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها.

أقول: و رواه في التوحيد، و الاحتجاج، و المجمع، عن عليّعليه‌السلام ، و قد اعترض على أخذ ناظرة بمعنى منتظرة بأنّ الانتظار لا يتعدّى بإلى بل هو متعدّ بنفسه، و ردّ عليه في مجمع البيان بالاستشهاد بقول جميل بن معمر:

و إذا نظرت إليك من ملك

و البحر دونك جدتني نعما

و قول الآخر:

إنّي إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

و عدّ في الكشّاف إطلاق النظر في الآية بمعنى الانتظار استعمالاً كنائيّاً و هو معنى حسن.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و الآجريّ في الشريعة و الدارقطنيّ في الرؤية و الحاكم و ابن مردويه و اللالكائيّ في السنّة و البيهقيّ عن ابن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أدنى أهل الجنّة منزلاً لمن ينظر إلى جنانه و أزواجه و نعيمه و خدمه و سرره مسيرة ألف سنة و أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة و عشيّة.

ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) قال: البياض و الصفاء( إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظر كلّ يوم في وجهه.

أقول: الرواية تقبل الانطباق على المعنى الّذي أوردناه في تفسير الآية، و مع الغضّ عنه تقبل الحمل على رحمته و فضله و كرمه تعالى و سائر صفاته الفعليّة فإنّ وجه الشي‏ء ما يستقبل به الشي‏ء غيره و ما يستقبل به الله سبحانه خلقه هو صفاته الكريمة فالنظر إلى رحمة الله و فضله و كرمه و صفاته الكريمة نظر إلى وجه الله الكريم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قول الله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ ) قال: ينظرون إلى ربّهم بلا كيفيّة و لا حدّ محدود و لا صفة معلومة.

أقول: و الرواية تؤيّد ما قدّمنا في تفسير الآية أنّ المراد به النظر القلبيّ

٢٠٤

و رؤية القلب دون العين الحسّيّة، و هي تفسّر ما ورد في عدّة روايات من طرق أهل السنّة ممّا ظاهره التشبيه و أنّ الرؤية بالعين الحسّيّة الّتي لا تفارق المحدوديّة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ ) قال: يعني النفس إذا بلغت الترقوة( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ‏ ) قال: يقال له: من يرقيك( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) علم أنّه الفراق‏.

و في الكافي، بإسناده إلى جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( وَ قِيلَ مَنْ راقٍ وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ‏ ) قال: فإنّ ذلك ابن آدم إذا حلّ به الموت قال: هل من طبيب( وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ ) أيقن بمفارقة الأحبّة( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) قال: التفت الدنيا بالآخرة( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) قال: المسير إلى ربّ العالمين.

و في تفسير القمّيّ:( وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ) قال: التفّت الدنيا بالآخرة( إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ ) قال: يساقون إلى الله.

و في العيون، بإسناده عن عبدالعظيم الحسنيّ قال، سألت محمّد بن عليّ الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى) قال: يقول الله عزّوجلّ بعداً لك من خير الدنيا و بعداً لك من خير الآخرة.

أقول: يمكن إرجاعه إلى ما قدّمناه من معنى الآيتين، و كذا إلى بعض ما قيل فيه.

و في المجمع، و جاءت الرواية: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد أبي جهل ثمّ قال له: أولى لك فأولى ثمّ أولى لك فأولى. فقال أبوجهل: بأيّ شي‏ء تهدّدني لا تستطيع أنت و ربّك أن تفعلاً بي شيئاً، و إنّي لأعزّ أهل هذا الوادي، فأنزل الله سبحانه كما قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: و روي ما في معناه في الدرّ المنثور، عن عدّة عن قتادة قال: ذكر لنا و ساق الحديث.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) قال:

٢٠٥

لا يحاسب و لا يعذّب و لا يسأل عن شي‏ء.

و في العلل، بإسناده إلى مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمّدعليه‌السلام ، يا أباعبدالله إنّا خلقنا للعجب قال: و ما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء فقال يا ابن أخ خلقنا للبقاء، و كيف يفنى جنّة لا تبيد و نار لا تخمد؟ و لكن قل: إنّما نتحوّل من دار إلى دار.

و في المجمع، و جاء في الحديث عن البراء عن عازب قال: لمّا نزلت هذه الآية( أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى‏ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سبحانك اللّهمّ و بلى: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهم‌السلام .

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن أبي هريرة و غيره: أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ الآية قال: سبحانك اللّهمّ و بلى‏، و كذا في العيون، عن الرضاعليه‌السلام : أنّه كان إذا قرأ السورة قال عند الفراغ سبحانك اللّهمّ بلى.

٢٠٦

( سورة الدهر مدنيّة و هي إحدى و ثلاثون آية)

( سورة الإنسان الآيات 1 - 22)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ( 1 ) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 2 ) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ( 3 ) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ( 4 ) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ( 5 ) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ( 6 ) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ( 7 ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ( 8 ) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ( 9 ) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ( 10 ) فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ( 11 ) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ( 12 ) مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ( 13 ) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ( 14 ) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ( 15 ) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ( 16 ) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا ( 17 ) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا ( 18 ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ( 19 ) وَإِذَا

٢٠٧

رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ( 20 ) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ( 21 ) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ( 22 )

( بيان‏)

تذكر السورة خلق الإنسان بعد ما لم يكن شيئاً مذكوراً ثمّ هدايته السبيل إمّا شاكراً و إمّا كفوراً و أنّ الله اعتد للكافرين أنواع العذاب و للأبرار ألوان النعم - و قد فصّل القول في وصف نعيمهم في ثمان عشرة آية و هو الدليل على أنّه المقصود بالبيان -.

ثمّ تذكر مخاطباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ القرآن تنزيل منه تعالى عليه و تذكرة فليصبر لحكم ربّه و لا يتّبع الناس في أهوائهم و ليذكر اسم ربّه بكرة و عشيّاً و ليسجد له من الليل و ليسبّحه ليلاً طويلاً.

و السورة مدنيّة بتمامها أو صدرها - و هي اثنتان و عشرون آية من أوّلها - مدنيّ، و ذيلها - و هي تسع آيات من آخرها - مكّيّ و قد أطبقت روايات أهل البيتعليهم‌السلام على كونها مدنيّة، و استفاضت بذلك روايات أهل السنّة.

و قيل بكونها مكّيّة بتمامها، و سيوافيك تفصيل القول في ذلك في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) الاستفهام للتقرير فيفيد ثبوت معنى الجملة و تحقّقه أي قد أتى على الإنسان إلخ و لعلّ هذا مراد من قال من قدماء المفسّرين: إنّ( هَلْ ) في الآية بمعنى قد، لا على أنّ ذلك أحد معاني( هل ) كما ذكره بعضهم.

و المراد بالإنسان الجنس: و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد به آدمعليه‌السلام فلا

٢٠٨

يلائمه قوله في الآية التالية:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) .

و الحين قطعة من الزمان محدودة قصيرة كانت أو طويلة، و الدهر الزمان الممتدّ من دون تحديد ببداية أو نهاية.

و قوله:( شَيْئاً مَذْكُوراً ) أي شيئاً يذكر باسمه في المذكورات أي كان يذكر مثلاً الأرض و السماء و البرّ و البحر و غير ذلك و لا يذكر الإنسان لأنّه لم يوجد بعد حتّى وجد فقيل: الإنسان فكونه مذكوراً كناية عن كونه موجوداً بالفعل فالنفي في قوله:( لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) متوجّه إلى كونه شيئاً مذكوراً لا إلى أصل كونه شيئاً فقد كان شيئاً و لم يكن شيئاً مذكوراً و يؤيّده قوله:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ ) إلخ فقد كان موجوداً بمادّته و لم يتكوّن بعد إنساناً بالفعل و الآية و ما يتلوها من الآيات واقعة في سياق الاحتجاج يبيّن بها أنّ الإنسان حادث يحتاج في وجوده إلى صانع يصنعه و خالق يخلقه، و قد خلقه ربّه و جهّزه التدبير الربوبيّ بأدوات الشعور من السمع و البصر يهتدي بها إلى السبيل الحقّ الّذي من الواجب أن يسلكه مدى حياته فإن كفر فمصيره إلى عذاب أليم و إن شكر فإلى نعيم مقيم.

و المعنى هل أتى - قد أتى - على الإنسان قطعة محدودة من هذا الزمان الممتدّ غير المحدود و الحال أنّه لم يكن موجوداً بالفعل مذكوراً في عداد المذكورات.

قوله تعالى: ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) النطفة في الأصل بمعنى الماء القليل غلب استعماله في ماء الذكور من الحيوان الّذي يتكوّن منه مثله، و أمشاج جمع مشيج أو المشج بفتحتين أو بفتح فكسر بمعنى المختلط الممتزج، و وصفت بها النطفة باعتبار أجزائها المختلفة أو اختلاط ماء الذكور و الإناث.

و الابتلاء نقل الشي‏ء من حال إلى حال و من طور إلى طور كابتلاء الذهب في البوتقة، و ابتلاؤه تعالى الإنسان في خلقه من النطفة هو ما ذكره في مواضع من كلامه أنّه يخلق النطفة فيجعلها علقة و العلقة مضغة إلى آخر الأطوار الّتي تتعاقبها حتّى ينشئه خلقاً آخر.

٢٠٩

و قيل: المراد بابتلائه امتحانه بالتكليف، و يدفعه تفريع قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) على الابتلاء و لو كان المراد به التكليف كان من الواجب تفريعه على جعله سميعاً بصيراً لا بالعكس، و الجواب عنه بأنّ في الكلام تقديماً و تأخيراً و التقدير إنّا خلقناه من نطفة أمشاج فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، لا يصغي إليه.

و قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) سياق الآيات و خاصّة قوله:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ) إلخ يفيد أنّ ذكر جعله سميعاً بصيراً للتوسّل به في التدبير الربوبيّ إلى غايته و هي أن يرى آيات الله الدالّة على المبدإ و المعاد و يسمع كلمة الحقّ الّتي تأتيه من جانب ربّه بإرسال الرسل و إنزال الكتب فيدعوه البصر و السمع إلى سلوك سبيل الحقّ و السير في مسير الحياة بالإيمان و العمل الصالح فإن لزم السبيل الّذي هدي إليه أداه إلى نعيم الأبد و إلّا فإلى عذاب مخلّد.

و ذكر الإنسان في الآية من وضع الظاهر موضع الضمير و النكتة فيه تسجيل أنّه تعالى هو خالقه و مدبّر أمره.

و المعنى: إنّا خلقنا الإنسان من نطفة هي أجزاء مختلطة ممتزجة و الحال أنّا ننقله من حال إلى حال و من طور إلى طور فجعلناه سميعاً بصيراً ليسمع ما يأتيه من الدعوة الإلهيّة، و يبصر الآيات الإلهيّة الدالّة على وحدانيّته تعالى و النبوّة و المعاد.

قوله تعالى: ( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) الهداية بمعنى إراءة الطريق دون الإيصال إلى المطلوب و المراد بالسبيل السبيل بحقيقة معنى الكلمة و هو المؤدّي إلى الغاية المطلوبة و هو سبيل الحقّ.

و الشكر استعمال النعمة بإظهار كونها من منعمها و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ سَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) آل عمران: 144 أنّ حقيقة كون العبد شاكراً لله كونه مخلصاً لربّه، و الكفران استعمالها مع ستر كونها من المنعم.

و قوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) حالان من ضمير( هَدَيْناهُ ) لا من( السَّبِيلَ ) كما قاله بعضهم، و( إِمَّا ) يفيد التقسيم و التنويع أي إنّا هديناه السبيل حال كونه

٢١٠

منقسماً إلى الشاكر و الكفور أي إنّه مهديّ سواء كان كذا أو كذلك.

و التعبير بقوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) هو الدليل أوّلاً: على أنّ المراد بالسبيل السنّة و الطريقة الّتي يجب على الإنسان أن يسلكها في حياته الدنيا لتوصله إلى سعادته في الدنيا و الآخرة و تسوقه إلى كرامة القرب و الزلفى من ربّه و محصّله الدين الحقّ و هو عندالله الإسلام.

و به يظهر أنّ تفسير بعضهم السبيل بسبيل الخروج من الرحم غير سديد.

و ثانياً: أنّ السبيل المهديّ إليه سبيل اختياريّ و أنّ الشكر و الكفر اللّذين يترتّبان على الهداية المذكورة واقعان في مستقرّ الاختيار للإنسان أن يتلبّس بأيّهما شاء من غير إكراه و إجبار كما قال تعالى:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: 20، و ما في آخر السورة من قوله تعالى:( فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) إنّما يفيد تعلّق مشيّته تعالى بمشيّة العبد لا بفعل العبد الّذي تعلّقت به مشيّة العبد حتّى يفيد نفي تأثير مشيّة العبد المتعلّقة بفعله، و قد تقدّمت الإشارة إلى هذا المعنى في هذا الكتاب مراراً.

و الهداية الّتي هي نوع إيذان و إعلام منه تعالى للإنسان هداية فطريّة هي تنبيه بسبب نوع خلقته و ما جهّز به وجوده بإلهام من الله سبحانه على حقّ الاعتقاد و صالح العمل قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: 8 و أوسع مدلولاً منه قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: 30.

و هداية قوليّة من طريق الدعوة يبعث الأنبياء و إرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع الإلهيّة، و لم يزل التدبير الربوبيّ تدعم الحياة الإنسانيّة بالدعوة الدينيّة القائم بها أنبياؤه و رسله، و يؤيّد بذلك دعوة الفطرة كما قال:( إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى‏ نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ - إلى أن قال -رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء: 165.

٢١١

و من الفرق بين الهدايتين أنّ الهداية الفطريّة عامّة بالغة لا يستثني منها إنسان لأنها لازم الخلقة الإنسانيّة و هي في الأفراد بالسويّة غير أنّها ربّما تضعف أو يلغو أثرها لعوامل و أسباب تشغل الإنسان و تصرفه عن التوجّه إلى ما يدعو إليه عقله و يهديه إليه فطرته أو ملكات و أحوال رديئة سيّئة تمنعه عن إجابة نداء الفطرة كالعناد و اللجاج و ما يشبه ذلك قال تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) الجاثية: 23، و الهداية المنفيّة في الآية بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون إراءة الطريق بدليل قوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) .

و أمّا الهداية القوليّة و هي التي تتضمّنها الدعوة الدينيّة فإنّ من شأنها أن تبلغ المجتمع فتكون في معرض من عقول الجماعة فيرجع إليها من آثر الحقّ على الباطل و أمّا بلوغها لكلّ واحد واحد منهم فإنّ العلل و الأسباب الّتي يتوسّل بها إلى بيان أمثال هذه المقاصد ربّما لا تساعد على ذلك على ما في الظروف و الأزمنة و البيئات من الاختلاف و كيف يمكن لإنسان أن يدعو كلّ إنسان إلى ما يريد بنفسه أو بوسائط من نوعه؟ فمن المتعذّر ذلك جدّاً.

و إلى المعنى الأوّل أشار تعالى بقوله:( وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ) فاطر: 24، و إلى الثاني بقوله:( لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ ) يس: 6.

فمن بلغته الدعوة و انكشف له الحقّ فقد تمّت عليه الحجّة و من لم تبلغه الدعوة بلوغاً ينكشف به له الحقّ فقد أدركه الفضل الإلهيّ بعدّه مستضعفاً أمره إلى الله إن يشأ يغفر له و إن يشأ يعذّبه قال تعالى:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ) النساء: 98.

ثمّ من الدليل على أنّ الدعوة الإلهيّة و هي الهداية إلى السبيل حقّ يجب على الإنسان أن يتّبعها فطرة الإنسان و خلقته المجهّزة بما يهدي إليها من الاعتقاد و العمل، و وقوع الدعوة خارجاً من طريق النبوّة و الرسالة فإنّ سعادة كلّ موجود و كماله في الآثار و الأعمال الّتي تناسب ذاته و تلائمها بما جهّزت به من القوى

٢١٢

و الأدوات فسعادة الإنسان و كماله في اتّباع الدين الإلهيّ الّذي هو سنّة الحياة الفطرية و قد حكم به العقل و جاءت به الأنبياء و الرسل عليهم السلام.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالًا وَ سَعِيراً ) الاعتاد التهيئة، و سلاسل جمع سلسلة و هي القيد الّذي يقاد به المجرم، و أغلال جمع غلّ بالضمّ قيل هي القيد الّذي يجمع اليدين على العنق، و قال الراغب: فالغلّ مختصّ بما يقيّد به فيجعل الأعضاء وسطه. انتهى. و السعير النار المشتعلة، و المعنى ظاهر.

و الآية تشير إلى تبعة الإنسان الكفور المذكور في قوله:( إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) و قدّم بيان تبعته على بيان جزاء الإنسان الشاكر لاختصار الكلام فيه.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ) الكأس إناء الشراب إذا كان فيه شراب، و المزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به، و الكافور معروف يضرب به المثل في البرودة و طيب الرائحة، و قيل: هو اسم عين في الجنّة.

و الأبرار جمع برّ بفتح الباء صفة مشبهة من البرّ و هو الإحسان و يتحصّل معناه في أن يحسن الإنسان في عمله من غير أن يريد به نفعاً يرجع إليه من جزاء أو شكور فهو يريد الخير لأنّه خير لا لأنّ فيه نفعاً يرجع إلى نفسه و إن كرهت نفسه ذلك فيصبر على مرّ مخالفة نفسه فيما يريده و يعمل العمل لأنّه خير في نفسه كالوفاء بالنذر أو لأنّ فيه خيراً لغيره كإطعام الطعام للمستحقّين من عباد الله.

و إذ لا خير في عمل و لا صلاح إلّا بالإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر كما قال تعالى:( أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ ) الأحزاب: 19 إلى غير ذلك من الآيات.

فالأبرار مؤمنون بالله و رسوله و اليوم الآخر، و إذ كان إيمانهم إيمان رشد و بصيرة فهم يرون أنفسهم عبيداً مملوكين لربّهم، له خلقهم و أمرهم، لا يملكون لأنفسهم نفعاً و لا ضرّاً عليهم أن لا يريدوا إلّا ما أراده ربّهم و لا يفعلوا إلّا ما يرتضيه فقدّموا إرادته على إرادة أنفسهم و عملوا له فصبروا على مخالفة أنفسهم فيما تهواه

٢١٣

و تحبّه و كلفة الطاعة، و عملوا ما عملوه لوجه الله، فأخلصوا العبوديّة في مرحلة العمل لله سبحانه.

و هذه الصفات هي الّتي عرّف سبحانه الأبرار بها كما يستفاد من قوله:( يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ ) و قوله:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) و قوله:( وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا ) و هي المستفادة من قوله في صفتهم:( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ) الخ البقرة: 177 و قد مرّ بعض الكلام في معنى البرّ في تفسير الآية و سيأتي بعضه في قوله:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ) المطفّفين: 18.

و الآية أعني قوله:( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ ) إلخ بما يتبادر من معناها من حيث مقابلتها لقوله:( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ ) إلخ المبيّن لحال الكافرين في الآخرة، تبيّن حال الأبرار في الآخرة في الجنّة، و أنّهم يشربون من شراب ممزوج بالكافور بارداً طيّب الرائحة.

قوله تعالى:: ( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) ( عَيْناً ) منصوب بنزع الخافض و التقدير من عين أو بالاختصاص و التقدير أخصّ عينا، و الشرب - على ما قيل - يتعدّى بنفسه و بالباء فشرب بها و شربها واحد، و التعبير عنهم بعباد الله للإشارة إلى تحلّيهم بحلية العبوديّة و قيامهم بلوازمها على ما يفيده سياق المدح.

و تفجير العين شقّ الأرض لإجرائها، و ينبغي أن يحمل تفجيرهم العين على إرادتهم جريانها لأنّ نعم الجنّة لا تحتاج في تحقّقها و التنعّم بها إلى أزيد من مشيّة أهلها قال تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) ق: 35.

و الآيتان - كما تقدّمت الإشارة إليه - تصفان تنعّم الأبرار بشراب الجنّة في الآخرة، و بذلك فسّرت الآيتان.

و لا يبعد أن تكون الآيتان مسوقتين على مسلك تجسّم الأعمال تصفان حقيقة عملهم الصالح من الإيفاء بالنذر و إطعام الطعام لوجه الله، و أنّ أعمالهم المذكورة بحسب باطنها شرب من كأس مزاجها كافور من عين لا يزالون يفجّرونها بأعمالهم الصالحة

٢١٤

و ستظهر لهم بحقيقتها في جنّة الخلد و إن كانت في الدنيا في صورة الأعمال فتكون الآيتان في مجرى أمثال قوله تعالى:( إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ) يس: 8.

و يؤيّد ذلك ظاهر قوله( يَشْرَبُونَ ) و( يَشْرَبُ بِها ) و لم يقل: سيشربون و سيشرب بها، و وقوع قوله: يشربون و يوفون و يخافون و يطعمون متعاقبة في سياق واحد، و ذكر التفجير في قوله:( يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) الظاهر في استخراج العين و إجرائها بالتوسّل بالأسباب.

و لهم في مفردات الآيتين و إعرابها أقاويل كثيرة مختلفة مذكورة في المطولات فليراجعها من أراد الوقوف عليها.

قوله تعالى: ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) المستطير اسم فاعل من استطار إذا فشا و انتشر في الأقطار غاية الانتشار و هو أبلغ من طار كما قيل: يقال: استطار الحريق و استطار الفجر إذا اتّسعا غايته، و المراد باستطارة شرّ اليوم و هو يوم القيامة بلوغ شدائده و أهواله و ما فيه من العذاب غايته.

و المراد بالإيفاء بالنذر ما هو ظاهره المعروف من معناه، و قول القائل: إنّ المراد به ما عقدوا عليه قلوبهم من العمل بالواجبات أو ما عقدوا عليه القلوب من اتّباع الشارع في جميع ما شرّعه خلاف ظاهر اللفظ من غير دليل يدل عليه.

قوله تعالى: ( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً ) ضمير( عَلى‏ حُبِّهِ ) للطعام على ما هو الظاهر، و المراد بحبّه توقان النفس إليه لشدّة الحاجة، و يؤيّد هذا المعنى قوله تعالى:( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران: 92.

و قيل: الضمير لله سبحانه أي يطعمون الطعام حبّاً لله لا طمعاً في الثواب، و يدفعه أنّ قوله تعالى حكاية منهم:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) يغني عنه.

و يليه في الضعف ما قيل: إنّ الضمير للإطعام المفهوم من قوله:( وَ يُطْعِمُونَ )

٢١٥

وجه الضعف أنّه إن اُريد بحب الإطعام حقيقة معناه فليس في حبّ الإطعام في نفسه فضل حتّى يمدحوا به، و إن اُريد به كون الإطعام بطيب النفس و عدم التكلّف فهو خلاف الظاهر، و رجوع الضمير إلى الطعام هو الظاهر.

و المراد بالمسكين و اليتيم معلوم، و المراد بالأسير ما هو الظاهر منه و هو المأخوذ من أهل دار الحرب.

و قول بعضهم: إنّ المراد به اُسارى بدر أو الأسير من أهل القبلة في دار الحرب بأيدي الكفّار أو المحبوس أو المملوك من العبيد أو الزوجة كلّ ذلك تكلّف من غير دليل يدلّ عليه.

و الّذي يجب أن يتنبّه له أنّ سياق هذه الآيات سياق الاقتصاص تذكر قوماً من المؤمنين تسمّيهم الأبرار و تكشف عن بعض أعمالهم و هو الإيفاء بالنذر و إطعام مسكين و يتيم و أسير و تمدحهم و تعدهم الوعد الجميل.

فما تشير إليه من القصّة سبب النزول، و ليس سياقها سياق فرض موضوع و ذكر آثارها الجميلة، ثمّ الوعد الجميل عليها، ثمّ إنّ عدّ الأسير فيمن أطعمه هؤلاء الأبرار نعم الشاهد على كون الآيات مدنيّة فإنّ الأسر إنّما كان بعد هجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ظهور الإسلام على الكفر و الشرك لا قبلها.

قوله تعالى: ( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) وجه الشي‏ء هو ما يستقبل به غيره، و وجهه تعالى صفاته الفعليّة الكريمة الّتي يفيض بها الخير على خلقه من الخلق و التدبير و الرزق و بالجملة الرحمة العامّة الّتي بها قيام كلّ شي‏ء، و معنى كون العمل لوجه الله على هذا كون الغاية في العمل هي الاستفاضة من رحمة الله و طلب مرضاته بالاقتصار على ذلك و الإعراض عمّا عند غيره من الجزاء المطلوب، و لذا ذيّلوا قولهم:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) بقولهم:( لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) .

و وراء ذلك صفاته الذاتيّة الكريمة الّتي هي المبدأ لصفاته الفعليّة و لما يترتّب

٢١٦

عليها من الخير في العالم، و مرجع كون العمل لوجه الله على هذا هو الإتيان بالعمل حبّاً لله لأنّه الجميل على الإطلاق، و إن شئت فقل: عبادته تعالى لأنّه أهل للعبادة.

و ابتغاء وجه الله بجعله غاية داعية في الأعمال مذكور في مواضع من كلامه تعالى كقوله:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) الكهف: 28، و قوله:( وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ) البقرة: 272، و في هذا المعنى قوله:( وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) البيّنة: 5، و قوله:( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) المؤمن: 65، و قوله:( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) الزمر: 3.

و قوله:( لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) الجزاء مقابلة العمل بما يعادله إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً، و يعمّ الفعل و القول لكن المراد به في الآية بقرينة مقابلته الشكور مقابلة إطعامهم عملاً لا لساناً.

و الشكر و الشكور ذكر النعمة و إظهارها قلباً أو لساناً أو عملاً، و المراد به في الآية و قد قوبل بالجزاء الثناء الجميل لساناً.

و الآية أعني قوله:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) إلخ خطاب منهم لمن أطعموه من المسكين و اليتيم و الأسير إمّا بلسان المقال فهي حكاية قولهم أو بتقدير القول و كيف كان فقد أرادوا به تطييب قلوبهم أن يأمنوا المنّ و الأذى، و إمّا بلسان الحال و هو ثناء من الله عليهم لما يعلم من الإخلاص في قلوبهم.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) عدّ اليوم و هو يوم القيامة عبوساً من الاستعارة، و المراد بعبوسه ظهوره على المجرمين بكمال شدّته، و القمطرير الصعب الشديد على ما قيل.

و الآية في مقام التعليل لقولهم المحكي:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ) إلخ ينبّهون بقولهم هذا أنّ قصرهم العمل في ابتغاء وجه الله تعالى إخلاصاً للعبوديّة لمخافتهم ذاك اليوم

٢١٧

الشديد، و لم يكتفوا بنسبة المخافة إلى اليوم حتّى نسبوه نحواً من النسبة إلى ربّهم فقالوا:( نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً ) إلخ لأنّهم لمّا لم يريدوا إلّا وجه ربّهم فهم لا يخافون غيره كما لا يرجون غيره و إنّما يخافون و يرجون ربّهم فلا يخافون يوم القيامة إلّا لأنّه من ربّهم يحاسب فيه عباده على أعمالهم فيجزيهم بها.

و أمّا قوله قبلاً:( وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) حيث نسب خوفهم إلى اليوم فإنّ الواصف فيه هو الله سبحانه و قد نسب اليوم بشدائده إلى نفسه قبلاً حيث قال:( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ ) إلخ.

و بالجملة ما ذكروه من الخوف مخافة في مقام العمل لما يحاسب العبد على عمله فالعبوديّة لازمة للإنسان لا تفارقه و إن بلغ ما بلغ قال تعالى:( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الغاشية: 26.

قوله تعالى: ( فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً ) الوقاية الحفظ و المنع من الأذى و لقّي بكذا يلقّيه أي استقبله به و النضرة البهجة و حسن اللون و السرور مقابل المساءة و الحزن.

و المعنى: فحفظهم الله و منع عنهم شرّ ذلك اليوم و استقبلهم بالنضرة و السرور، فهم ناضرة الوجوه مسرورون يومئذ كما قال:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ) القيامة: 22.

قوله تعالى: ( وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً ) المراد بالصبر صبرهم عند المصيبة و على الطاعة و عن المعصية فإنّهم ابتغوا في الدنيا وجه ربّهم و قدّموا إرادته على إرادتهم فصبروا على ما قضى به فيهم و أراده من المحن و مصائب الدنيا في حقّهم، و صبروا على امتثال ما أمرهم به و صبروا على ترك ما نهاهم عنه و إن كان مخالفاً لأهواء أنفسهم فبدّل الله ما لقوه من المشقّة و الكلفة نعمة و راحة.

قوله تعالى: ( مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً ) الأرائك جمع أريكة و هو ما يتّكئ عليه، و الزمهرير البرد الشديد، و المعنى حال كونهم

٢١٨

متّكئين في الجنّة على الأرائك لا يرون فيها شمساً حتّى يتأذّوا بحرّها و لا زمهريراً حتّى يتأذّوا ببرده.

قوله تعالى: ( وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا ) الظلال جمع ظلّ، و دنوّ الظلال عليهم قربها منهم بحيث تنبسط عليهم فكانّ الدنوّ مضمّن معنى الانبساط و قطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو الثمرة المقطوفة المجتناة، و تذليل القطوف لهم جعلها مسخّرة لهم يقطفونها كيف شاؤا من غير مانع أو كلفة.

قوله تعالى: ( وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا ) الآنية جمع إناء كأكسية جمع كساء و هو الوعاء، و أكواب جمع كوب و هو إناء الشراب الّذي لا عروة له و لا خرطوم و المراد طواف الولدان المخلّدين عليهم بالآنية و أكواب الشراب كما سيأتي في قوله:( وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ ) الآية.

قوله تعالى: ( قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً ) بدل من قوارير في الآية السابقة، و كون القوارير من فضّة مبنيّ على التشبيه البليغ أي إنّها في صفاء الفضّة و إن لم تكن منها حقيقة، كذا قيل. و احتمل أن يكون بحذف مضاف و التقدير من صفاء الفضّة.

و ضمير الفاعل في( قَدَّرُوها) للأبرار و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب كونها على ما شاؤا من القدر ترويهم بحيث لا تزيد و لا تنقص كما قال تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها ) ق: 35 و قد قال تعالى قبل:( يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) .

و يحتمل رجوع الضمير إلى الطائفين المفهوم من قوله:( يُطافُ عَلَيْهِمْ ) و المراد بتقديرهم الآنية و الأكواب إتيانهم بها على قدر ما أرادوا محتوية على ما اشتهوا قدر ما اشتهوا.

قوله تعالى: ( وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا ) قيل: إنّهم كانوا يستطيبون الزنجبيل في الشراب فوعد الأبرار بذلك و زنجبيل الجنّة أطيب و ألذّ.

قوله تعالى: ( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ) أي من عين أو التقدير أعني أو أخصّ

٢١٩

عينا.

قال الراغب: و قوله:( سَلْسَبِيلًا ) أي سهلاً لذيذاً سلساً حديد الجرية.

قوله تعالى: ( وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ) أي ولدان دائمون على ما هم عليه من الطراوة و البهاء و صباحة المنظر، و قيل: أي مقرّطون بخلدة و هي ضرب من القرط.

و المراد بحسبانهم لؤلؤاً منثوراً أنّهم في صفاء ألوانهم و إشراق وجوههم و انعكاس أشعّة بعضهم على بعض و انبثاثهم في مجالسهم كاللؤلؤ المنثور.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) ( ثَمَّ ) ظرف مكان ممحّض في الظرفيّة، و لذا قيل: إنّ معنى( رَأَيْتَ ) الأوّل: رميت ببصرك، و المعنى و إذا رميت ببصرك ثمّ يعني الجنّة رأيت نعيماً لا يوصف و ملكاً كبيراً لا يقدّر قدره.

و قيل:( ثَمَّ ) صلة محذوفة الموصول و التقدير و إذا رأيت ما ثمّ من النعيم و الملك، و هو كقوله:( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) الأنعام: 94 و الكوفيّون من النحاة يجوّزون حذف الموصول و إبقاء الصلة و إن منعه البصريّون منهم.

قوله تعالى: ( عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ ) إلخ الظاهر أنّ( عالِيَهُمْ ) حال من الأبرار الراجعة إليه الضمائر و( ثِيابُ ) فاعله، و السندس - كما قيل - ما رقّ نسجه من الحرير، و الخضر صفة ثياب و الإستبرق ما غلظ نسجه من ثياب الحرير، و هو معرّب كالسندس.

و قوله:( وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ ) التحلية التزيين، و أساور جمع سوار و هو معروف، و قال الراغب: هو معرّب دستواره.

و قوله:( وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً ) أي بالغاً في التطهير لا تدع قذارة إلّا أزالها و من القذارة قذارة الغفلة عن الله سبحانه و الاحتجاب عن التوجّه إليه فهم غير محجوبين عن ربّهم و لذا كان لهم أن يحمدوا ربّهم كما قال:( وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) يونس: 10 و قد تقدّم في تفسير سورة الحمد أنّ الحمد وصف لا يصلح له إلّا المخلصون من عباد الله تعالى لقوله:( سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: 160.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429