الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120135 / تحميل: 6174
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

( سورة الجاثية الآيات ٢٠ - ٣٧)

هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( ٢٠ ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ  سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( ٢١ ) وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ٢٢ ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ  أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ( ٢٣ ) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ  وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ  إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ( ٢٤ ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٢٥ ) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( ٢٦ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ( ٢٧ ) وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً  كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٢٨ ) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ  إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٢٩ ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

١٨١

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ  ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( ٣٠ ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ( ٣١ ) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( ٣٢ ) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٣٣ ) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٣٤ ) ذَٰلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا  فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( ٣٥ ) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٣٦ ) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٣٧ )

( بيان‏)

لمّا أشار إلى جعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على شريعة من الأمر و هو تشريع الشريعة الإسلاميّة أشار في هذه الآيات إلى أنّها بصائر للنّاس يبصرون بها ما يجب عليهم أن يسلكوه من سبيل الحياة الطيّبة في الدنيا و تتلوها سعادة الحياة الآخرة، و هدى و رحمة لقوم يوقنون بآيات الله.

و أشار إلى أنّ الّذي يدعو مجترحي السيّئات أن يستنكفوا عن التشرّع بالشريعة إنكارهم المعاد فيحسبون أنّهم و المتشرّعون بالدين سواء في الحياة و الممات و أن لا أثر

١٨٢

للتشرّع بالشريعة فلا ثمرة للعمل الصالح الّذي تهدي إليه الشريعة إلّا إتعاب النفس بالتقيّد من غير موجب. فبرهن تعالى على بطلان حسبانهم بإثبات المعاد ثمّ أردفه بوصف المعاد و ما يثيب به الصالحين يومئذ و ما يعاقب به الطالحين أهل الجحود و الاجرام، و عند ذلك تختتم السورة بالتحميد و التسبيح.

قوله تعالى: ( هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) الإشارة بهذا إلى الأمر المذكور الّذي هو الشريعة أو إلى القرآن بما يشتمل على الشريعة، و البصائر جمع بصيرة و هي الإدراك المصيب للواقع، و المراد بها ما يبصر به، و إنّما كانت الشريعة بصائر لأنّها تتضمّن أحكاماً و قوانين كلّ منها يهدي إلى واجب العمل في سبيل السعادة.

و المعنى: هذه الشريعة المشرّعة أو القرآن المشتمل عليها وظائف عملية يتبصّر بكلّ منها الناس و يهتدون إلى السبيل الحقّ و هو سبيل الله و سبيل السعادة، فقوله بعد ذكر تشريع الشريعة:( هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ ) كقوله بعد ذكر آيات الوحدانيّة في أوّل السورة:( هذا هُدىً وَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ.

و قوله:( وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي دلالة واضحة و إفاضة خير لهم، و المراد بقوم يوقنون: الّذين يوقنون بآيات الله الدالّة على اُصول المعارف فإنّ المعهود في القرآن تعلّق الإيقان بالاُصول الاعتقاديّة.

و تخصيص الهدى و الرحمة بقوم يوقنون مع التصريح بكونه بصائر للناس لا يخلو من تأييد لكون المراد بالهدى الوصول إلى المطلوب دون مجرّد التبصّر، و بالرحمة الرحمة الخاصّة بمن اتّقى و آمن برسوله بعد الإيمان بالله، قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ) الحديد: ٢٨، و قال:( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ - إلى أن قال -وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) البقرة: ٤، و للرحمة درجات كثيرة تختلف سعة و ضيقاً ثمّ للرحمة الخاصّة بأهل الإيمان أيضاً مراتب مختلفة باختلاف مراتب الإيمان فلكلّ مرتبة من مراتبه ما يناسبها منها.

١٨٣

و أمّا الرحمة بمعنى مطلق الخير الفائض منه تعالى فإنّ القرآن بما يشتمل على الشريعة رحمة للناس كافّة كما أنّ الرسول المبعوث به رحمة لهم جميعاً، قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) الأنبياء: ١٠٧، و قد أوردنا بعض الكلام في هذا المعنى في بعض المباحث السابقة.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ‏ ) إلخ، قال في المجمع: الاجتراح الاكتساب، يقال: جرح و اجترح و كسب و اكتسب و أصله من الجراح لأنّ لذلك تأثيراً كتأثير الجراح. قال: و السيّئة الفعلة القبيحة الّتي يسوء صاحبها باستحقاق الذمّ عليها. انتهى.

و الجعل بمعنى التصيير، و قوله:( كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ ) في محلّ المفعول الثاني للجعل، و التقدير كائنين كالّذين آمنوا، إلخ.

و جزم الزمخشريّ في الكشّاف على كون الكاف في( كَالَّذِينَ) اسماً بمعنى المثل هو مفعول ثان لقوله:( نَجْعَلَهُمْ) ، و قوله:( سَواءً ) بدلاً منه.

و قوله:( سَواءً) بالنصب على القراءة الدائرة و هو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي مستوياً أو متساوياً، و قوله:( مَحْياهُمْ) مصدر ميميّ و فاعل( سَواءً ) و ضميره راجع إلى مجموع المجترحين و المؤمنين، و( مَماتُهُمْ) معطوف على( مَحْياهُمْ) و حاله كحاله.

و الآية مسوقة سوق الإنكار و( أَمْ) منقطعة، و المعنى: بل أ حسب و ظنّ الّذين يكتسبون السيّئات أن نصيّرهم مثل الّذين آمنوا و عملوا الصالحات مستوياً محياهم و مماتهم أي تكون حياة هؤلاء كحياة اُولئك و موتهم كموتهم فيكون الإيمان و التشرّع بالدين لغواً لا أثر له في حياة و لا موت و يستوي وجوده و عدمه.

و قوله:( ساءَ ما يَحْكُمُونَ‏ ) ردّ لحسبانهم المذكور و حكمهم بالمماثلة بين مجترحي السيّئات و الّذين آمنوا و عملوا الصالحات و مساءة الحكم كناية عن بطلانه.

فالفريقان لا يتساويان في الحياة و لا في الممات.

١٨٤

أمّا أنّهما لا يتساويان في الحياة فلأنّ الّذين آمنوا و عملوا الصالحات في سلوكهم مسلك الحياة على بصيرة من أمرهم و هدى و رحمة من ربّهم كما ذكره سبحانه في الآية السابقة و المسي‏ء صفر الكفّ، من ذلك و قال تعالى في موضع آخر:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) طه: ١٢٤، و قال في موضع آخر:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢.

و أمّا أنّهما لا يتساويان في الممات فلأنّ الموت كما ينطق به البراهين الساطعة ليس انعداماً للشي‏ء و بطلاناً للنفس الإنسانيّة كما يحسبه المبطلون بل هو رجوع إلى الله سبحانه و انتقال من نشأة الدنيا إلى نشأة الآخرة الّتي هي دار البقاء و عالم الخلود يعيش فيها المؤمن الصالح في سعادة و نعمة و غيره في شقاء و عذاب.

و قد أشار سبحانه إليه فيما تقدّم من كلامه بقوله:( كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) و قوله:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) و غير ذلك، و سيتعرّض له بقوله:( وَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) إلخ.

و الآية من حيث تركيب ألفاظها و المعنى المتحصّل منها من معارك الآراء بين المفسّرين و قد ذكروا لها محامل كثيرة و الّذي يعطيه السياق و يساعد عليه هو ما قدّمناه و لا كثير فائدة في التعرّض لوجوه اُخر ذكروها فمن أراد الاطّلاع عليها فليراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( وَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم المشهود و الباء في( بِالْحَقِّ ) للملابسة فكون خلق العالم بالحقّ كونه حقّاً لا باطلاً و لعباً و هو أن يكون لهذا العالم الكائن الفاسد غاية ثابتة باقية وراءه.

و قوله:( وَ لِتُجْزى‏ ) إلخ، عطف على( بِالْحَقِّ ) و الباء في قوله:( بِما كَسَبَتْ ) للتعدية أو للمقابلة أي لتجزى مقابل ما كسبت إن كان طاعة فالثواب و إن كان معصية فالعقاب، و قوله:( وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) حال من كلّ نفس أي و لتجزى كلّ نفس بما كسبت بالعدل.

١٨٥

فيؤل معنى الآية إلى مثل قولنا و خلق الله السماوات و الأرض بالحقّ و بالعدل فكون الخلق بالحقّ يقتضي أن يكون وراء هذا العالم عالم آخر يخلد فيه الموجودات و كون الخلق بالعدل يقتضي أن تجزى كلّ نفس ما تستحقّه بكسبها فالمحسن يجزى جزاء حسناً و المسي‏ء يجزى جزاء سيّئاً و إذ ليس ذلك في هذه النشأة ففي نشأة اُخرى.

و بهذا البيان يظهر أنّ الآية تتضمّن حجّتين على المعاد إحداهما ما اُشير إليه بقوله:( وَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) و يسلك من طريق الحقّ، و الثانية ما اُشير إليه بقوله:( وَ لِتُجْزى‏ ) إلخ، و يسلك من طريق العدل.

فتؤل الحجّتان إلى ما يشتمل عليه قوله:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص: ٢٨.

و الآية بما فيها من الحجّة تبطل حسبانهم أنّ المسي‏ء كالمحسن في الممات فإنّ حديث المجازاة بالثواب و العقاب على الطاعة و المعصية يوم القيامة ينفي تساوي المطيع و العاصي في الممات، و لازم ذلك إبطال حسبانهم أنّ المسي‏ء كالمحسن في الحياة فإنّ ثبوت المجازاة يومئذ يقتضي وجوب الطاعة في الدنيا و المحسن على بصيرة من الأمر في حياته يأتي بواجب العمل و يتزوّد من يومه لغده بخلاف المسي‏ء العائش في عمى و ضلال فليسا بمتساويين.

قوله تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) إلى آخر الآية ظاهر السياق أنّ قوله:( أَ فَرَأَيْتَ ) مسوق للتعجيب أي أ لا تعجّب ممّن حاله هذا الحال؟

و المراد بقوله:( اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) حيث قدّم( إِلهَهُ ) على( هَواهُ) إنّه يعلم أنّ له إلها يجب أن يعبده - و هو الله سبحانه - لكنّه يبدّله من هواه و يجعل هواه مكانه فيعبده فهو كافر بالله سبحانه على علم منه، و لذلك عقّبه بقوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) أي إنّه ضالّ عن السبيل و هو يعلم.

و معنى اتّخاذ الإله العبادة و المراد بها الإطاعة فإنّ الله سبحانه عدّ الطاعة

١٨٦

عبادة كما في قوله:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي ) يس: ٦١، و قوله:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) التوبة: ٣١، و قوله:( وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٦٤.

و الاعتبار يوافقه إذ ليست العبادة إلّا إظهار الخضوع و تمثيل أنّ العابد عبد لا يريد و لا يفعل إلّا ما أراده و رضيه معبوده فمن أطاع شيئاً فقد اتّخذه إلهاً و عبده فمن أطاع هواه فقد اتّخذ إلهه هواه و لا طاعة إلّا لله أو من أمر بطاعته.

فقوله:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) أي أ لا تعجب ممّن يعبد هواه بإطاعته و اتّباعه و هو يعلم أنّ له إلهاً غيره يجب أن يعبده و يطيعه لكنّه يجعل معبوده و مطاعه هو هواه.

و قوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) أي هو ضالّ بإضلال منه تعالى يضلّه به مجازاة لاتّباعه الهوى حال كون إضلاله مستقرّاً على علم هذا الضالّ، و لا ضير في اجتماع الضلال مع العلم بالسبيل و معرفته كما في قوله تعالى:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: ١٤ و ذلك أنّ العلم لا يلازم الهدى و لا الضلال يلازم الجهل بل الّذي يلازم الهدى هو العلم مع التزام العالم بمقتضى علمه فيتعقّبه الاهتداء و أمّا إذا لم يلتزم العالم بمقتضى علمه لاتّباع منه للهوى فلا موجب لاهتدائه بل هو الضلال و إن كان معه علم.

و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد بالعلم هو علمه تعالى و المعنى: و أضلّه الله على علم منه تعالى بحاله فبعيد عن السياق.

و قوله:( وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً ) كالعطف التفسيريّ لقوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) و الختم على السمع و القلب هو أن لا يسمع الحقّ و لا يعقله، و جعل الغشاوة على البصر هو أن لا يبصر الحقّ من آيات الله و محصّل الجميع: أن لا يترتّب على السمع و القلب و البصر أثرها و هو الالتزام بمقتضى ما ناله من الحقّ إذا أدركه لاستكبار من نفسه و اتّباع للهوى، و قد عرفت أنّ الضلال عن السبيل لا ينافي العلم به إذا لم يكن هناك التزام بمقتضاه.

١٨٧

و قوله:( فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) الضمير لمن اتّخذ إلهه هواه و التفريع على ما تحصّل من حاله أي إذا كان حاله هذا الحال و قد أضلّه الله على علم إلخ، فمن يهديه من بعد الله سبحانه فلا هادي دونه قال تعالى:( قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى‏ ) البقرة: ١٢٠ و قال:( وَ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) المؤمن: ٣٣.

و قوله:( أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) أي أ فلا تتفكّرون في حاله فتتذكّروا أنّ هؤلاء لا سبيل لهم إلى الهدى مع اتّباع الهوى فتتّعظوا.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) إلى آخر الآية، قال الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدّة العالم من مبدإ وجوده إلى انقضائه، و على ذلك قوله تعالى:( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) ثمّ يعبّر به عن كلّ مدّة كثيرة، و هو خلاف الزمان فإنّ الزمان يقع على المدّة القليلة و الكثيرة. انتهى.

و الآية على ما يعطيه السياق - سياق الاحتجاج على الوثنيّين المثبتين للصانع المنكرين للمعاد - حكاية قول المشركين في إنكار المعاد لا كلام الدهريّين الناسبين للحوادث وجوداً و عدماً إلى الدهر المنكرين للمبدإ و المعاد جميعاً إذا لم يسبق لهم ذكر في الآيات السابقة.

فقولهم:( ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ) الضمير للحياة أي لا حياة لنا إلّا حياتنا الدنيا لا حياة وراءها فلا وجود لما يدّعيه الدين الإلهيّ من البعث و الحياة الآخرة، و هذا هو القرينة المؤيّدة لأن يكون المراد بقوله:( نَمُوتُ وَ نَحْيا ) يموت بعضنا و يحيا بعضنا الآخر فيستمرّ بذلك بقاء النسل الإنسانيّ بموت الأسلاف و حياة الأخلاف و يؤيّد ذلك بعض التأييد قوله بعده:( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) المشعر بالاستمرار.

فالمعنى: و قال المشركون: ليست الحياتنا إلّا حياتنا الدنيا الّتي نعيش بها في الدنيا فلا يزال يموت بعضنا و هم الأسلاف و يحيى آخرون و هم الأخلاف و ما يهلكنا إلّا الزمان - الّذي بمروره يبلى كلّ جديد و يفسد كلّ كائن و يميت كلّ حيّ - فليس الموت انتقالاً من دار إلى دار منتهياً إلى البعث و الرجوع إلى الله.

١٨٨

و لعلّ هذا كلام بعض الجهلة من وثنيّة العرب و إلّا فالعقيدة الدائرة بين الوثنيّة هي التناسخ و هو أنّ نفوس غير أهل الكمال إذا فارقت الأبدان تعلّقت بأبدان اُخرى جديدة فإن كانت النفس المفارقة اكتسبت السعادة في بدنها السابق تعلّقت ببدن جديد تتنعّم فيه و تسعد، و إن كانت اكتسبت الشقاء في البدن السابق تعلّقت ببدن لاحق تشقى فيه و تعذّب جزاء لعملها السيّئ و هكذا، و هؤلاء لا ينكرون استناد أمر الموت كالحياة إلى وساطة الملائكة.

و لهذا أعني كون القول بالتناسخ دائراً بين الوثنيّة ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالآية قولهم بالتناسخ، و المعنى:( ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ) فلسنا نخرج من الدنيا أبداً( نَمُوتُ ) عن حياة دنيا( وَ نَحْيا ) بعد الموت بالتعلّق ببدن جديد و هكذا( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) .

و هذا لا يخلو من وجه لكن لا يلائمه قولهم المنقول ذيلاً:( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) إلّا أن يوجّه بأنّ مرادهم من نسبة الإهلاك إلى الدهر كون الدهر وسيلة يتوسّل بها الملك الموكّل على الموت إلى الإماتة، و كذا لا تلائمه حجّتهم المنقولة ذيلاً:( ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) الظاهرة في أنّهم يرون آباءهم معدومين باطلي الذوات.

و ذكر في معنى الآية وجوه اُخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: المعنى نكون أمواتاً لا حياة فيها و هو قبل ولوج الروح ثمّ نحيي بولوجها على حدّ قوله تعالى:( وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ) البقرة: ٢٨.

و قول بعضهم: المراد بالحياة بقاء النسل مجازاً، و المعنى: نموت نحن و نحيا ببقاء نسلنا. إلى غير ذلك ممّا قيل.

و قوله:( وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) أي إنّ قولهم ذلك المشعر بإنكار المعاد قول بغير علم و إنّما هو ظنّ يظنّونه و ذلك أنّهم لا دليل لهم يدلّ على نفي المعاد مع ما هناك من الأدلّة على ثبوته.

قوله تعالى: ( وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا

١٨٩

بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) تأكيد لكون قولهم بنفي المعاد و حصر الحياة في الحياة الدنيا قولاً بغير علم.

و المراد بالآيات البيّنات الآيات المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد و كونها بيّنات وضوح دلالتها على ثبوته بلا شكّ، و تسمية قولهم:( ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) مع كونه اقتراحاً جزافيّاً بعد قيام الحجّة إنّما هو من باب التهكّم فإنّه من قبيل طلب الدليل على المطلوب بعد قيام الدليل عليه فكأنّه قيل: ما كانت حجّتهم إلّا اللّاحجّة.

و المعنى: و إذا تتلى على هؤلاء المنكرين للمعاد آياتنا المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد و الحال أنّها واضحات الدلالة على ثبوته ما قابلوها إلّا بجزاف من القول و هو طلب الدليل على إمكانه بإحياء آبائهم الماضين.

قوله تعالى: ( قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ - إلى قوله -وَ الْأَرْضِ ) ما ذكر من اقتراحهم الحجّة على مطلوب قامت عليه الحجّة و إن كان اقتراحاً جزافيّاً لا يستدعي شيئاً من الجواب لكنّه سبحانه أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم بإثبات إمكانه الّذي كانوا يستبعدونه.

و محصّله: أنّ الّذي يحييكم لأوّل مرّة ثمّ يميتكم ثمّ يجمعكم إلى يوم القيامة الّذي لا ريب فيه هو الله سبحانه و لله ملك السماوات و الأرض يحكم فيها ما يشاء و يتصرّف فيها كيفما يريد فله أن يحكم برجوع الناس إليه و يتصرّف فيكم بجمعكم إلى يوم القيامة و القضاء بينكم ثمّ الجزاء، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) قال الراغب: الخسر و الخسران انتقاص رأس المال و ينسب ذلك إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، و إلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، قال تعالى:( تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ) و يستعمل ذلك في المقتنيات الخارجيّة كالمال و الجاه في الدنيا و هو الأكثر، و في المقنيات النفسيّة كالصحّة و السلامة و العقل و الإيمان و الثواب و هو الّذي جعله الله تعالى الخسران المبين.

قال: و كلّ خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير دون الخسران المتعلّق بالمقتنيات الماليّة و التجارات البشريّة.

١٩٠

و قال: و الإبطال يقال في إفساد الشي‏ء و إزالته سواء كان ذلك الشي‏ء حقّاً أو باطلاً قال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ ) و قد يقال فيمن يقول شيئاً لا حقيقة له نحو( وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) ، و قوله تعالى:( خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) أي الّذين يبطلون الحقّ. انتهى.

و الأشبه أن يكون المراد بقيام الساعة فعليّة ما يقع فيها من البعث و الجمع و الحساب و الجزاء و ظهوره، و بذلك صحّ جعل الساعة مظروفاً لليوم و هما واحد، و الأشبه أن يكون قوله:( يَوْمَئِذٍ ) تأكيداً لقوله:( يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) .

و المعنى: و يوم تقوم الساعة و هي يوم الرجوع إلى الله يومئذ يخسر المبطلون الّذين أبطلوا الحقّ و عدلوا عنه.

قوله تعالى: ( وَ تَرى‏ كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا ) إلخ، الجثوّ البروك على الركبتين كما أنّ الجذوّ البروك على أطراف الأصابع.

و الخطاب عامّ لكلّ من يصحّ منه الرؤية و إن كان متوجّهاً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المراد بالدعوة إلى الكتاب الدعوة إلى الحساب على ما ينطق به الكتاب بإحصائه الأعمال بشهادة قوله بعده:( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

و المعنى: و ترى أنت و غيرك من الرائين كلّ اُمّة من الاُمم جالسة على الجثوّ جلسة الخاضع الخائف كلّ اُمّة منهم تدعى إلى كتابها الخاصّ بها و هي صحيفة الأعمال و قيل لهم:( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

و يستفاد من ظاهر الآية أنّ لكلّ اُمّة كتاباً خاصّاً بهم كما أنّ لكلّ إنسان كتاباً خاصّاً به قال تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) إسراء: ١٣.

قوله تعالى: ( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال في الصحّاح: و نسخت الكتاب و انتسخته و استنسخته كلّه بمعنى، و النسخة اسم المنتسخ منه. انتهى، و قال الراغب: النسخ إزالة الشي‏ء بشي‏ء يتعقّبه كنسخ الشمس الظلّ و نسخ الظلّ الشمس و الشيب الشباب - إلى أن قال - و نسخ الكتاب نقل صورته

١٩١

المجرّدة إلى كتاب آخر و ذلك لا يقتضي إزالة الصورة الاُولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادّة اُخرى كاتّخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة، و الاستنساخ التقدّم بنسخ الشي‏ء و الترشّح للنسخ. انتهى.

و مقتضى ما نقل أنّ المفعول الّذي يتعدّى إليه الفعل في قولنا: استنسخت الكتاب هو الأصل المنقول منه، و لازم ذلك أن تكون الأعمال في قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) كتاباً و أصلاً و إن شئت فقل: في أصل و كتاب يستنسخ و ينقل منه و لو اُريد به ضبط الأعمال الخارجيّة القائمة بالإنسان بالكتابة لقيل: إنّا كنّا نكتب ما كنتم تعملون إذ لا نكتة تستدعي فرض هذه الأعمال كتاباً و أصلاً يستنسخ، و لا دليل على كون( يستنسخ) بمعنى يستكتب كما ذكره بعضهم.

و لازم ذلك أن يكون المراد بما تعملون هو أعمالهم الخارجيّة بما أنّها في اللوح المحفوظ فيكون استنساخ الأعمال استنساخ ما يرتبط بأعمالهم من اللوح المحفوظ و تكون صحيفة الأعمال صحيفة الأعمال و جزء من اللوح المحفوظ، و يكون معنى كتابة الملائكة للأعمال تطبيقهم ما عندهم من نسخة اللوح على الأعمال.

و هذا هو المعنى الّذي وردت به الرواية من طرق الشيعة عن الصادقعليه‌السلام و من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس، و سيوافيك في البحث الروائيّ التالي.

و على هذا فقوله:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) من كلامه تعالى لا من كلام الملائكة، و هو من خطابه تعالى لأهل الجمع يوم القيامة يحكيه لنا فيكون في معنى:( و يقال لهم هذا كتابنا) إلخ.

و الإشارة بهذا - على ما يعطيه السياق - إلى صحيفة الأعمال و هي بعينها إشارة إلى اللوح المحفوظ على ما تقدّم و إضافة الكتاب إليه تعالى نظراً إلى أنّه صحيفة الأعمال من جهة أنّه مكتوب بأمره تعالى و نظراً إلى أنّه اللوح المحفوظ من جهة التشريف و قوله:( يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) أي يشهد على ما عملتم و يدلّ عليه دلالة واضحة ملابساً للحقّ.

و قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) تعليل لكون الكتاب ينطق عليهم

١٩٢

بالحقّ أي إنّ كتابنا هذا دالّ على عملكم بالحقّ من غير أن يتخلّف عنه لأنّه اللّوح المحفوظ المحيط بأعمالكم بجميع جهاتها الواقعيّة.

و لو لا أنّ الكتاب يريهم أعمالهم بنحو لا يداخله شكّ و لا يحتمل منهم التكذيب لكذّبوه، قال تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) آل عمران: ٣٠.

و للقوم في الآية أقوال اُخر:

منها ما قيل: إنّ الآية من كلام الملائكة لا من كلام الله و معنى الاستنساخ الكتابة و المعنى: هذا أي صحيفة الأعمال كتابنا معشر الملائكة الكاتبين للأعمال يشهد عليكم بالحقّ إنّا كنّا نكتب ما كنتم تعملون.

و فيه أنّ كونه من كلام الملائكة بعيد من السياق على أنّ كون الاستنساخ بمعنى مطلق الكتابة لم يثبت لغة.

و منها: أنّ الآية من كلام الله، و الإشارة بهذا إلى صحيفة الأعمال، و قيل: إلى اللّوح المحفوظ، و الاستنساخ بمعنى الاستكتاب مطلقاً.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) تفصيل حال الناس يومئذ بحسب اختلافهم بالسعادة و الشقاء و الثواب و العقاب، و السعداء المثابون هم الّذين آمنوا و عملوا الصالحات، و الأشقياء المعاقبون هم الّذين كفروا من المستكبرين المجرمين.

و المراد بالرحمة الإفاضة الإلهيّة تسعد من استقرّ فيها و منها الجنّة، و الفوز المبين الفلاح الظاهر، و الباقي واضح.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ) المراد بالّذين كفروا المتلبّسون بالكفر عن تكذيب و جحود بشهادة قوله:( أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ ) إلخ.

و الفاء في( أَ فَلَمْ تَكُنْ ) للتفريع فتدلّ على مقدّر متفرّع عليه هو جواب لمّا، و التقدير: فيقال لهم أ لم تكن آياتي تتلى عليكم، و المراد بالآيات الحجج الإلهيّة الملقاة

١٩٣

إليهم عن وحي و دعوة، و المجرم هو المتلبّس بالأجرام و هو الذنب.

و المعنى: و أمّا الّذين كفروا جاحدين للحقّ مع ظهوره فيقال لهم توبيخاً و تقريعاً: أ لم تكن حججي تقرأ و تبيّن لكم في الدنيا فاستكبرتم عن قبولها و كنتم قوماً مذنبين.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) إلخ، المراد بالوعد الموعود و هو ما وعده الله بلسان رسله من البعث و الجزاء فيكون قوله:( وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها ) من عطف التفسير، و يمكن أن يراد بالوعد المعنى المصدريّ.

و قولهم:( ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) معناه أنّه غير مفهوم لهم و الحال أنّهم أهل فهم و دراية فهو كناية عن كونه أمراً غير معقول و لو كان معقولاً لدروه.

و قوله:( إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) أي ليست ممّا نقطع به و نجزم بل نظنّ ظنّاً لا يسعنا أن نعتمد عليه، ففي قولهم:( ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) إلخ، غبّ ما تليت عليهم من الآيات البيّنة أفحش المكابرة مع الحقّ.

قوله تعالى: ( وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) إضافة السيّئات إلى ما عملوا بيانيّة أو بمعنى من، و المراد بما عملوا جنس ما عملوا أي ظهر لهم أعمالهم السيّئة أو السيّئات من أعمالهم فالآية في معنى قوله:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) آل عمران: ٣٠.

فالآية من الآيات الدالّة على تمثّل الأعمال، و قيل: إنّ في الكلام حذفاً و التقدير: و بدا لهم جزاء سيّئات ما عملوا.

و قوله:( وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) أي و حلّ بهم العذاب الّذي كانوا يسخرون منه في الدنيا إذا اُنذروا به بلسان الأنبياء و الرسل.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) النسيان كناية عن الإعراض و الترك فنسيانه تعالى لهم يوم القيامة إعراضه عنهم و تركه لهم في شدائده و أهواله، و نسيانهم لقاء يومهم ذاك في الدنيا إعراضهم عن تذكّره و تركهم التأهّب للقائه، و الباقي ظاهر.

١٩٤

قوله تعالى: ( ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) إلخ، الإشارة بقوله:( ذلِكُمْ ) إلى ما ذكر من عقابهم من ظهور السيّئات و حلول العذاب و الهزء السخريّة الّتي يستهزأ بها و الباء للسببيّة.

و المعنى: ذلكم العذاب الّذي يحلّ بكم بسبب أنّكم اتّخذتم آيات الله سخريّة تستهزؤن بها و بسبب أنّكم غرّتكم الحياة الدنيا فأخلدتم إليها و تعلّقتم بها.

و قوله:( فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) صرف الخطاب عنهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و يتضمّن الكلام خلاصة القول فيما يصيبهم من العذاب يومئذ و هو الخلود في النار و عدم قبول العذر منهم.

و الاستعتاب طلب العتبى و الاعتذار، و نفي الاستعتاب كناية عن عدم قبول العذر.

قوله تعالى: ( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) تحميد له تعالى بالتفريع على ما تقدّم في السورة من كونه خالق السماوات و الأرض و ما بينهما و المدبّر لأمر الجميع و من بديع تدبيره خلق الجميع بالحقّ المستتبع ليوم الرجوع إليه و الجزاء بالأعمال و هو المستدعي لجعل الشرائع الّتي تسوق إلى السعادة و الثواب و يتعقّبه الجمع ليوم الجمع ثمّ الجزاء و استقرار الجميع على الرحمة و العدل بإعطاء كلّ شي‏ء ما يستحقّه فلم يدبّر إلّا تدبيراً جميلاً و لم يفعل إلّا فعلاً محموداً فله الحمد كلّه.

و قد كرّر( الرب) فقال:( رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ ) ثمّ أبدل منهما قوله:( رَبِّ الْعالَمِينَ ) ليأتي بالتصريح بشمول الربوبيّة للجميع فلو جي‏ء بربّ العالمين و اكتفي به أمكن أن يتوهّم أنّه ربّ المجموع لكنّ للسماوات خاصّة ربّ آخر و للأرض وحدها ربّ آخر كما ربّما قال بمثله الوثنيّة، و كذا لو اكتفي بالسماوات و الأرض لم يكن صريحاً في ربوبيّته لغيرهما، و كذا لو اكتفي بإحداهما.

قوله تعالى: ( وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الكبرياء على ما عن الراغب: الترفّع عن الانقياد، و عن ابن الأثير: العظمة و الملك و في المجمع، السلطان القاهر و العظمة القاهرة و العظمة و الرفعة.

١٩٥

و هي على أيّ حال أبلغ معنى من الكبر و تستعمل في العظمة غير الحسّيّة و مرجعه إلى كمال وجوده و لا تناهي كماله.

و قوله:( وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أي له الكبرياء في كلّ مكان فلا يتعالى عليه شي‏ء فيهما و لا يستصغره شي‏ء و تقديم الخبر في( لَهُ الْكِبْرِياءُ ) يفيد الحصر كما في قوله:( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ) .

و قوله:( وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي الغالب غير المغلوب فيما يريد من خلق و تدبير في الدنيا و الآخرة و الباني خلقه و تدبيره على الحكمة و الإتقان.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) قال: نزلت في قريش كلّما هووا شيئاً عبدوه.

و في الدرّ المنثور، أخرج النسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان الرجل من العرب يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه أخذه و ألقى الآخر فأنزل الله( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) .

و في المجمع، في قوله تعالى:( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) و قد روي في الحديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: لا تسبّوا الدهر فإنّ الله هو الدهر.

أقول: قال الطبرسيّ بعد إيراد الحديث: و تأويله أنّ أهل الجاهليّة كانوا ينسبون الحوادث المجحفة و البلايا النازلة إلى الدهر فيقولون: فعل الدهر كذا، و كانوا يسبون الدهر فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ فاعل هذه الاُمور هو الله فلا تسبوا فاعلها انتهى. و يؤيّد هذا الوجه الرواية التالية.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله تبارك و تعالى: لا يقل ابن آدم يسبّ الدّهر يا خيبة الدهر فإنّي أنا الدهر اُرسل الليل و النهار فإذا شئت قبضتهما.

١٩٦

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) الآية حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبدالرحيم القصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن( ن وَ الْقَلَمِ ) قال: إنّ الله خلق القلم من شجرة في الجنّة يقال لها الخلد ثمّ قال لنهر في الجنّة: كن مداداً فجمد النهر و كان أشدّ بياضاً من الثلج و أحلى من الشهد. ثمّ قال للقلم: اُكتب. قال: يا ربّ ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب القلم في رقّ أشدّ بياضاً من الفضّة و أصفى من الياقوت. ثمّ طواه فجعله في ركن العرش ثمّ ختم على فم القلم فلن ينطق أبداً.

فهو الكتاب المكنون الّذي منه النسخ كلّها أ و لستم عرباً؟ فكيف لا تعرفون معنى الكلام؟ و أحدكم يقول لصاحبه: انسخ ذلك الكتاب أ و ليس إنّما ينسخ من كتاب آخر من الأصل؟ و هو قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

أقول: قولهعليه‌السلام : فكتب القلم في رقّ إلخ، تمثيل للّوح المكتوب فيه الحوادث بالرقّ و الرقّ ما يكتب فيه شبه الكاغد - على ما ذكره الراغب - و قد تقدّم الحديث عنهعليه‌السلام أنّ القلم ملك و اللوح ملك، و قوله: فجعله في ركن العرش تمثيل للعرش بعرش الملك ذي الأركان و القوائم و قوله: ثمّ ختم على فم القلم إلخ كناية عن كون ما كتب في الرقّ قضاء محتوماً لا يتغيّر و لا يتبدّل، و قوله: أ و لستم عرباً إلخ، إشارة إلى ما تقدّم توضيحه في تفسير الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: إنّ الله خلق النون و هو الدواة و خلق القلم فقال: اكتب؟ قال: ما أكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول برّ أو فاجر أو رزق مرزوق حلال أو حرام ثمّ ألزم كلّ شي‏ء من ذلك شأنه: دخوله في الدنيا و مقامه فيها كم، و خروجه منها كيف؟

ثمّ جعل على العباد حفظة و على الكتاب خزّاناً تحفظه ينسخون كلّ يوم من الخزّان عمل ذلك اليوم فإذا فني ذلك الرزق انقطع الأمر و انقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فيقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئاً فيرجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا.

١٩٧

قال ابن عبّاس: أ لستم قوماً عرباً؟ تسمعون الحفظة يقولون:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) و هل يكون الاستنساخ إلّا من أصل؟.

أقول: و الخبر كما ترى يجعل الآية من كلام الملائكة الحفظة.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس: في الآية قال: يستنسخ الحفظة من اُمّ الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنّما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من اُمّ الكتاب.

و عن كتاب سعد السعود لابن طاووس، قال بعد ذكر الملكين الموكّلين بالعبد: و في رواية: أنّهما إذا أرادا النزول صباحاً و مساءً ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللّوح المحفوظ فيعطيهما ذلك فإذا صعداً صباحاً و مساءً بديوان العبد قابله إسرافيل بالنسخ الّتي انتسخ لهما حتّى يظهر أنّه كان كما نسخ منه.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) و في الحديث يقول الله: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري- فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في نار جهنّم.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن مسلم و أبي داود و ابن ماجة و غيرهم عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٩٨

( سورة الأحقاف مكّيّة و هي خمس و ثلاثون آية)

( سورة الأحقاف الآيات ١ - ١٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( ١ ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( ٢ ) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى  وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ ( ٣ ) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ  ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٤ ) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ( ٥ ) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ( ٦ ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ٧ ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ  قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا  هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ  كَفَىٰ بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ  وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ٨ ) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ  إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٩ ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ  إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠ ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا

١٩٩

مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ  وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ( ١١ ) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً  وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ ( ١٢ ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ١٣ ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٤ )

( بيان‏)

غرض السورة إنذار المشركين الرادّين للدعوة إلى الإيمان بالله و رسوله بالمعاد بما فيه من أليم العذاب لمنكريه المعرضين عنه، و لذلك تفتتح الكلام بإثبات المعاد:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ) ثمّ يعود إليه عودة بعد عودة كقوله:( وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ ) ، و قوله:( وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) ، و قوله:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ ) ، و قوله:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ ) ، و قوله في مختتم السورة:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ ) الآية.

و فيها احتجاج على الوحدانيّة و النبوّة، و إشارة إلى هلاك قوم هود و هلاك القرى الّتي حول مكّة و إنذارهم بذلك، و إنباء عن حضور نفر من الجنّ عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و استماعهم القرآن و إيمانهم به و رجوعهم إلى قومهم منذرين لهم.

و السورة مكّيّة كلّها إلّا آيتين اختلف فيهما سنشير إليهما في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله، قوله تعالى:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ) إلخ، و قوله:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) الآية.

قوله تعالى: ( حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) تقدّم تفسيره.

٢٠٠

قوله تعالى: ( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) إلخ، المراد بالسماوات و الأرض و ما بينهما مجموع العالم المشهود علويّة و سفليّة، و الباء في( بِالْحَقِّ ) للملابسة، و المراد بالأجل المسمّى ما ينتهي إليه أمد وجود الشي‏ء، و المراد به في الآية الأجل المسمّى لوجود مجموع العالم و هو يوم القيامة الّذي تطوى(1) فيه السماء كطيّ السجلّ للكتب و تبدّل الأرض(2) غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهّار.

و المعنى: ما خلقنا العالم المشهود بجميع أجزائه العلويّة و السفليّة إلّا ملابساً للحقّ له غاية ثابتة و ملابساً لأجل معيّن لا يتعدّاه وجوده و إذا كان له أجل معيّن يفنى عند حلوله و كانت مع ذلك له غاية ثابتة فبعد هذا العالم عالم آخر هو عالم البقاء و هو المعاد الموعود، و قد تكرّر الكلام فيما تقدّم في معنى كون الخلق بالحقّ.

و قوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ) المراد بالّذين كفروا هم المشركون بدليل الآية التالية لكن ظاهر السياق أنّ المراد بكفرهم كفرهم بالمعاد، و( ما ) في( عَمَّا ) مصدريّة أو موصولة و الثاني هو الأوفق للسياق و المعنى: و المشركون الّذين كفروا بالمعاد عمّا اُنذروا به - و هو يوم القيامة بما فيه من أليم العذاب لمن أشرك بالله - معرضون منصرفون.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) إلى آخر الآية( أَ رَأَيْتُمْ ) بمعنى أخبروني و المراد بما تدعون من دون الله الأصنام الّتي كانوا يدعونها و يعبدونها و إرجاع ضمائر اُولي العقل إليها بعد لكونهم ينسبون إليه أفعال اُولي العقل و حجّة الآية و ما بعدها مع ذلك تجري في كلّ إله معبود من دون الله.

و قوله:( أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ) أروني بمعنى أخبروني و( ما ) اسم استفهام و( ذا ) بعده زائدة و المجموع مفعول( خَلَقُوا ) و من الأرض متعلّق به.

____________________

(1) إشارة إلى الآية 104 فيه من سورة الأنبياء.

(2) إشارة إلى الآية 48 من سورة إبراهيم.

٢٠١

و قوله:( أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) أي شركة في خلق السماوات فإنّ خلق شي‏ء من السماوات و الأرض هو المسؤل عنه.

توضيح ذلك أنّهم و إن لم ينسبوا إليها إلّا تدبير الكون و خصّوا الخلق به سبحانه كما قال تعالى:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) الزمر: 38، و قال:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) الزخرف: 87، لكن لمّا كان الخلق لا ينفكّ عن التدبير أوجب ذلك أن يكون لمن له سهم من التدبير سهم في الخلق و لذلك أمر تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم عمّا لأربابهم الّذين يدعون من دون الله من النصيب في خلق الأرض أو في خلق السماوات فلا معنى للتدبير في الكون من غير خلق.

و قوله:( ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) الإشارة بهذا إلى القرآن، و المراد بكتاب من قبل القرآن كتاب سماويّ كالتوراة نازل من عند الله يذكر شركة آلهتهم في خلق السماوات أو الأرض.

و الأثارة على ما ذكره الراغب مصدر بمعنى النقل و الرواية قال: و أثرت العلم رويته آثره أثرّاً و أثارة و أثرة و أصله تتبّعت أثره انتهى. و عليه فالأثارة في الآية مصدر بمعنى المفعول أي شي‏ء منقول من علم يثبت أنّ لآلهتهم شركة في شي‏ء من السماوات و الأرض، و فسّره غالب المفسّرين بمعنى البقيّة و هو قريب ممّا تقدّم.

و المعنى: ائتوني للدلالة على شركهم لله في خلق شي‏ء من الأرض أو في خلق السماوات بكتاب سماويّ من قبل القرآن يذكر ذلك أو بشي‏ء منقول من علم أو بقيّة من علم أورثتموها يثبت ذلك إن كنتم صادقين في دعواكم أنّهم شركاء لله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) إلخ، الاستفهام إنكاريّ، و تحديد عدم استجابتهم الدعوة بيوم القيامة لما أنّ يوم القيامة أجل مسمّى للدنيا و الدعوة مقصورة في الدنيا و لا دنيا بعد قيام الساعة.

و قوله:( وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ ) صفة اُخرى من صفات آلهتهم مضافة إلى صفة عدم استجابتهم و ليس تعليلاً لعدم الاستجابة فإنّ عدم استجابتهم معلول كونهم لا يملكون لعبّادهم شيئاً قال تعالى:( قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا

٢٠٢

نَفْعاً ) المائدة: 76.

بل هي صفة مضافة إلى صفة مذكورة لتكون توطئة و تمهيداً لما سيذكره في الآية التالية من عداوتهم لهم و كفرهم بعبادتهم يوم القيامة فهم في الدنيا غافلون عن دعائهم و سيطّلعون عليه يوم القيامة فيعادونهم و يكفرون بعبادتهم.

و في الآية دلالة على سراية الحياة و الشعور في الأشياء حتّى الجمادات فإنّ الأصنام من الجماد و قد نسب إليها الغفلة و الغفلة من شؤن ذوي الشعور لا تطلق إلّا على ما من شأن موصوفه أن يشعر.

قوله تعالى: ( وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ ) الحشر إخراج الشي‏ء من مقرّه بإزعاج، و المراد بعث الناس من قبورهم و سوقهم إلى المحشر يوم القيامة فيومئذ يعاديهم آلهتهم و يكفرون بشرك عبّادهم بالتبرّي منهم كما قال تعالى:( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) فاطر: 14، و قال حكاية عنهم:( تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ ) القصص: 63، و قال:( فَكَفى‏ بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ ) يونس: 29.

و في سياق الآيتين تلويح إلى أنّ هذه الجمادات الّتي لا تظهر لنا في هذه النشأة أنّ لها حياة لعدم ظهور آثارها سيظهر في النشأة الآخرة أنّ لها حياة و تظهر آثارها و قد تقدّم بعض الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى:( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الم السجدة: 21.

قوله تعالى: ( وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) الآية و الّتي بعدها مسوقتان للتوبيخ، و المراد بالآيات البيّنات آيات القرآن تتلى عليهم، ثمّ بدّلها من الحقّ الّذي جاءهم حيث قال:( لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ) و كان مقتضى الظاهر أن يقال:( لها ) للدلالة على أنّها حقّ جاءهم لا مسوّغ لرميها بأنّها سحر مبين و هم يعلمون أنّها حقّ مبين فهم متحكّمون مكابرون للحقّ الصريح.

قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً )

٢٠٣

إلخ،( أَمْ ) منقطعة أي بل يقولون افترى القرآن على الله في دعواه أنّه كلامه.

و قوله:( قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً ) أي إن افتريت القرآن لأجلكم أخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب على الافتراء و لستم تقدرون على دفع عذابه عنّي فكيف أفتريه عليه لأجلكم، و المحصّل أنّي على يقين من أمر الله و أعلم أنّه يأخذ المفترى عليه أو يعاجل في عقوبته و أنّكم لا تقدرون على دفع ما يريده فكيف أفتري عليه فأعرض نفسي على عذابه المقطوع لأجلكم؟ أي لست بمفتر عليه.

و يتبيّن بذلك أنّ جزاء الشرط في قوله:( إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي ) إلخ، محذوف و قد اُقيم مقامه ما يجري مجرى ارتفاع المانع، و التقدير: إن افتريته أخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب و لا مانع من قبلكم يمنع عنه، و ليس من قبيل وضع المسبّب موضع السبب كما قيل.

و قوله:( هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ ) الإفاضة في الحديث الخوض فيه و( بِما ) موصولة يرجع إليه ضمير( فيه ) أو مصدريّة و مرجع الضمير هو القرآن، و المعنى: الله سبحانه أعلم بالّذي تخوضون فيه من التكذيب برمي القرآن بالسحر و الافتراء على الله أو المعنى: هو أعلم بخوضكم في القرآن.

و قوله:( كَفى‏ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) احتجاج ثان على نفي الافتراء و أوّل الاحتجاجين قوله:( إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً ) و قد تقدّم بيانه آنفاً، و معنى الجملة: أنّ شهادة الله سبحانه في كلامه بأنّه كلامه و ليس افتراء منّي يكفي في نفي كوني مفترياً به عليه، و قد صدّق سبحانه هذه الدعوى بقوله:( لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) النساء: 166، و ما في معناه من الآيات، و أمّا أنّه كلامه فيكفي في ثبوته آيات التحدّي.

و قوله:( وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) تذييل الآية بالاسمين الكريمين للاحتجاج على نفي ما يتضمّنه تحكّمهم الباطل من نفي الرسالة كأنّه قيل: إنّ قولكم:( افْتَراهُ ) يتضمّن دعويين: دعوى عدم كون هذا القرآن من كلام الله و دعوى بطلان الرسالة - و الوثنيّون ينفونها مطلقاً - أمّا الدعوى الاُولى فيدفعه أوّلاً: أنّه إن افتريته فلا تملكون،

٢٠٤

إلخ، و ثانياً: أنّ الله يكفيني شهيداً على كونه كلامه لا كلامي.

و أمّا الدعوى الثانية فيدفعها أنّ الله سبحانه غفور رحيم، و من الواجب في حكمته أن يعامل خلقه بالمغفرة و الرحمة و لا تشملان إلّا التائبين الراجعين إليه الصالحين لذلك و ذلك بأن يهديهم إلى صراط يقرّبهم منه سلوكه فتشملهم مغفرته و رحمته بحطّ السيّئات و الاستقرار في دار السعادة الخالدة، و كونه واجباً في حكمته لأنّ فيهم صلاحية هذا الكمال و هو الجواد الكريم، قال تعالى:( وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) إسراء: 20، و قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) النحل: 9، و السبيل إلى هذه الهداية هي الدعوة من طريق الرسالة فمن الواجب في الحكمة أن يرسل إلى الناس رسولاً يدعوهم إلى سبيله الموصلة إلى مغفرته و رحمته.

قوله تعالى: ( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) إلخ، البدع ما كان غير مسبوق بالمثل من حيث صفاته أو من حيث أقواله و أفعاله و لذا فسّره بعضهم بأنّ المعنى: ما كنت أوّل رسول اُرسل إليكم لا رسول قبلي، و قيل: المعنى: ما كنت مبدعاً في أقوالي و أفعالي لم يسبقني إليها أحد من الرسل.

و المعنى الأوّل لا يلائم السياق و لا قوله المتقدّم:( وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) بالمعنى الّذي تقدّم توجيهه فثاني المعنيين هو الأنسب، و عليه فالمعنى: لست اُخالف الرسل السابقين في صورة أو سيرة و في قول أو فعل بل أنا بشر مثلهم فيّ من آثار البشريّة ما فيهم و سبيلهم في الحياة سبيلي.

و بهذه الجملة يجاب عن مثل ما حكاه الله من قولهم:( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ) الفرقان: 8.

و قوله:( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) نفي لعلم الغيب عن نفسه فهو نظير قوله:( وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ ) الأعراف: 188، و الفرق بين الآيتين أنّ قوله:( وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) إلخ، نفي للعلم بمطلق الغيب و استشهاد له بمسّ السوء و عدم الاستكثار من الخير، و قوله:( وَ ما أَدْرِي

٢٠٥

ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) نفي للعلم بغيب خاصّ و هو ما يفعل به و بهم من الحوادث الّتي يواجهونها جميعاً، و ذلك أنّهم كانوا يزعمون أنّ المتلبّس بالنبوّة لو كان هناك نبيّ يجب أن يكون عالماً في نفسه بالغيوب ذا قدرة مطلقة غيبيّة كما يظهر من اقتراحاتهم المحكيّة في القرآن فاُمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعترف - مصرّحاً به - أنّه لا يدري ما يفعل به و لا بهم فينفي عن نفسه العلم بالغيب، و أنّ ما يجري عليه و عليهم من الحوادث خارج عن إرادته و اختياره و ليس له في شي‏ء منها صنع بل يفعله به و بهم غيره و هو الله سبحانه.

فقوله:( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) كما ينفي عنه العلم بالغيب ينفي عنه القدرة على شي‏ء ممّا يصيبه و يصيبهم ممّا هو تحت أستار الغيب.

و نفي الآية العلم بالغيب عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينافي علمه بالغيب من طريق الوحي كما يصرّح تعالى به في مواضع من كلامه كقوله:( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) آل عمران: 44، يوسف: 102، و قوله:( تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ) هود: 49، و قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ ) الجنّ: 27 و من هذا الباب قول المسيحعليه‌السلام :( وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) آل عمران: 49، و قول يوسفعليه‌السلام لصاحبي السجن:( لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ) يوسف: 37.

وجه عدم المنافاة أنّ الآيات النافية للعلم بالغيب عنه و عن سائر الأنبياءعليهم‌السلام إنّما تنفيه عن طبيعتهم البشريّة بمعنى أن تكون لهم طبيعة بشريّة أو طبيعة هي أعلى من طبيعة البشر من خاصّتها العلم بالغيب بحيث يستعمله في جلب كلّ نفع و دفع كلّ شرّ كما نستعمل ما يحصل لنا من طريق الأسباب و هذا لا ينافي انكشاف الغيب لهم بتعليم إلهيّ من طريق الوحي كما أنّ إتيانهم بالمعجزات فيما أتوا بها ليس عن قدرة نفسيّة فيهم يملكونها لأنفسهم بل بإذن من الله تعالى و أمر، قال تعالى:( قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا ) الإسراء: 93، جواباً عمّا اقترحوا عليه من الآيات، و قال:( قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) العنكبوت: 50،

٢٠٦

و قال:( وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ) المؤمن: 78.

و يشهد بذلك قوله بعده متّصلاً به:( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‏ إِلَيَّ ) فإنّ اتّصاله بما قبله يعطي أنّه في موضع الإضراب، و المعنى: إنّي ما أدري شيئاً من هذه الحوادث بالغيب من قبل نفسي و إنّما أتّبع ما يوحى إليّ من ذلك.

و قوله:( وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) تأكيد لجميع ما تقدّم في الآية من قوله:( ما كُنْتُ بِدْعاً ) إلخ، و( وَ ما أَدْرِي ) إلخ، و قوله:( إِنْ أَتَّبِعُ ) إلخ.

( بحث فلسفي و دفع شبهة)

تظافرت الأخبار من طرق أئمّة أهل البيت أنّ الله سبحانه علّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأئمّةعليهم‌السلام علم كلّ شي‏ء، و فسّر ذلك في بعضها أنّ علم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق الوحي و أنّ علم الأئمّةعليهم‌السلام ينتهي إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و اُورد عليه أنّ المأثور من سيرتهم أنّهم كانوا يعيشون مدى حياتهم عيشة سائر الناس فيقصدون مقاصدهم ساعين إليها على ما يرشد إليه الأسباب الظاهرية و يهدي إليه السبل العاديّة فربّما أصابوا مقاصدهم و ربّما أخطأ بهم الطريق فلم يصيبوا، و لو علموا الغيب لم يخيبوا في سعيهم أبداً فالعاقل لا يترك سبيلاً يعلم يقيناً أنّه مصيب فيه و لا يسلك سبيلاً يعلم يقيناً أنّه مخطئ فيه.

و قد اُصيبوا بمصائب ليس من الجائز أن يلقي الإنسان نفسه في مهلكتها لو علم بواقع الأمر كما اُصيب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم اُحد بما اُصيب، و اُصيب عليّعليه‌السلام في مسجد الكوفة حين فتك به المراديّ لعنه الله، و اُصيب الحسينعليه‌السلام فقتل في كربلاء، و اُصيب سائر الأئمّة بالسمّ، فلو كانوا يعلمون ما سيجري عليهم كان ذلك من إلقاء النفس في التهلكة و هو محرّم، و الإشكال كما ترى مأخوذ من الآيتين:( وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ) ( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) .

٢٠٧

و يردّه أنّه مغالطة بالخلط بين العلوم العاديّة و غير العاديّة فالعلم غير العاديّ بحقائق الاُمور لا أثر له في تغيير مجرى الحوادث الخارجيّة.

توضيح ذلك أنّ أفعالنا الاختياريّة كما تتعلّق بإرادتنا كذلك تتعلّق بعلل و شرائط اُخرى مادّيّة زمانيّة و مكانيّة إذا اجتمعت عليها تلك العلل و الشرائط و تمّت بالإرادة تحقّقت العلّة التامّة و كان تحقّق الفعل عند ذلك واجباً ضروريّاً إذ من المستحيل تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

فنسبة الفعل و هو معلول إلى علّته التامّة نسبة الوجوب و الضرورة كنسبة جميع الحوادث إلى عللها التامّة، و نسبته إلى إرادتنا و هي جزء علّته نسبة الجواز و الإمكان.

فتبيّن أنّ جميع الحوادث الخارجيّة و منها أفعالنا الاختياريّة واجبة الحصول في الخارج واقعة فيها على صفة الضرورة و لا ينافي ذلك كون أفعالنا الاختياريّة ممكنة بالنسبة إلينا مع وجوبها على ما تقدّم.

فإذا كان كلّ حادث و منها أفعالنا الاختياريّة بصفة الاختيار معلولاً له علّة تامّة يستحيل معها تخلّفه عنها كانت الحوادث سلسلة منتظمة يستوعبها الوجوب لا يتعدّى حلقة من حلقاتها موضعها و لا تتبدّل من غيرها و كان الجميع واجباً من أوّل يوم سواء في ذلك ما وقع في الماضي و ما لم يقع بعد، فلو فرض حصول علم بحقائق الحوادث على ما هي عليها في متن الواقع لم يؤثّر ذلك في إخراج حادث منها و إن كان اختيارياً عن ساحة الوجوب إلى حدّ الإمكان.

فإن قلت: بل يقع هذا العلم اليقينيّ في مجرى أسباب الأفعال الاختياريّة كالعلم الحاصل من الطرق العاديّة فيستفاد منه فيما إذا خالف العلم الحاصل من الطرق العاديّة فيصير سبباً للفعل أو الترك حيث يبطل معه العلم العاديّ.

قلت: كلّا فإنّ المفروض تحقّق العلّة التامّة للعلم العاديّ مع سائر أسباب الفعل الاختياريّ فمثله كمثل أهل الجحود و العناد من الكفّار يستيقنون بأنّ مصيرهم مع الجحود إلى النار و مع ذلك يصرّون على جحودهم لحكم هواهم بوجوب الجحود و هذا منهم هو العلم العاديّ بوجوب الفعل، قال تعالى في قصّة آل فرعون:( وَ جَحَدُوا بِها

٢٠٨

وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: 14.

و بهذا يندفع ما يمكن أن يقال: لا يتصوّر علم يقينيّ بالخلاف مع عدم تأثيره في الإرادة فليكشف عدم تأثيره في الإرادة عن عدم تحقّق علم على هذا الوصف.

وجه الاندفاع: أنّ مجرّد تحقّق العلم بالخلاف لا يستوجب تحقّق الإرادة مستندة إليه و إنّما هو العلم الّذي يتعلّق بوجوب الفعل مع التزام النفس به كما مرّ في جحود أهل الجحود و إنكارهم الحقّ مع يقينهم به و مثله الفعل بالعناية فإنّ سقوط الواقف على جذع عال، منه على الأرض بمجرّد تصوّر السقوط لا يمنع عنه علمه بأنّ في السقوط هلاكه القطعيّ.

و قد أجاب بعضهم عن أصل الإشكال بأنّ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأئمّةعليهم‌السلام تكاليف خاصّة بكلّ واحد منهم فعليهم أن يقتحموا هذه المهالك و إن كان ذلك منّا إلقاء النفس في التهلكة و هو حرام، و إليه إشارة في بعض الأخبار.

و أجاب بعضهم عنه بأنّ الّذي ينجّز التكاليف من العلم هو العلم من الطرق العاديّة و أمّا غيره فليس بمنجّز، و يمكن توجيه الوجهين بما يرجع إلى ما تقدّم.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ ) إلخ، ضمائر( كانَ ) و( بِهِ ) و( مِثْلِهِ ) على ما يعطيه السياق للقرآن، و قوله:( وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ) إلخ، معطوف على الشرط و يشاركه في الجزاء، و المراد بمثل القرآن مثله من حيث مضمونه في المعارف الإلهيّة و هو كتاب التوراة الأصليّة الّتي نزلت على موسىعليه‌السلام ، و قوله:( فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ ) أي فآمن الشاهد الإسرائيليّ المذكور بعد شهادته.

و قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) تعليل للجزاء المحذوف دالّ عليه، و الظاهر أنّه أ لستم ضالّين لا ما قيل: إنّه أ لستم ظلمتم لأنّ التعليل بعدم هداية الله الظالمين إنّما يلائم ضلالهم لا ظلمهم و إن كانوا متّصفين بالوصفين جميعاً.

و المعنى: قل للمشركين: أخبروني إن كان هذا القرآن من عندالله و الحال أنّكم

٢٠٩

كفرتم به و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما في القرآن من المعارف فآمن هو و استكبرتم أنتم أ لستم في ضلال؟ فإنّ الله لا يهدي القوم الظالمين.

و الّذي شهد على مثله فآمن على ما في بعض الأخبار هو عبدالله بن سلام من علماء اليهود، و الآية على هذا مدنيّة لا مكّيّة لأنّه ممّن آمن بالمدينة، و قول بعضهم: من الجائز أن يكون التعبير بالماضي في قوله:( وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ مِثْلِهِ فَآمَنَ ) لتحقّق الوقوع و القصّة واقعة في المستقبل سخيف لأنّه لا يلائم كون الآية في سياق الاحتجاج فالمشركون ما كانوا ليسلموا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدقه فيما يخبرهم به من الاُمور المستقبلة.

و في معنى الآية أقوال اُخر منها أنّ المراد ممّن شهد على مثله فآمن هو موسىعليه‌السلام شهد على التوراة فآمن به و إنّما عدلوا عن المعنى السابق إلى هذا المعنى للبناء على كون الآية مكّيّة، و أنّه إنّما أسلم عبدالله بن سلام بالمدينة.

و فيه أوّلاً: عدم الدليل على كون الآية مكّيّة و لتكن القصّة دليلاً على كونها مدنيّة، و ثانياً: بُعد أن يجعل موسى الكليمعليه‌السلام قريناً لهؤلاء المشركين الأجلاف يقاسون به فيقال ما محصّله: أنّ موسىعليه‌السلام آمن بالكتاب النازل عليه و أنتم استكبرتم عن الإيمان بالقرآن فسخافته ظاهرة.

و ممّا قيل إنّ المثل في الآية بمعنى نفس الشي‏ء كما قيل في قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: 11، و هو في البعد كسابقه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ) إلى آخر الآية قيل: اللّام في قوله:( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) للتعليل أي لأجل إيمانهم و يؤل إلى معنى في، و ضمير( كان ) و( إليه ) للقرآن من جهة الإيمان به.

و المعنى: و قال الّذين كفروا في الّذين آمنوا - أي لأجل إيمانهم -: لو كان الإيمان بالقرآن خيراً ما سبقونا - أي المؤمنون - إليه.

و قال بعضهم: إنّ المراد بالّذين آمنوا بعض المؤمنين و بالضمير العائد إليه في

٢١٠

قوله:( سبقونا ) البعض الآخر، و اللّام متعلّق بقال و المعنى: و قال الّذين كفروا لبعض المؤمنين لو كان خيراً ما سبقنا البعض من المؤمنين و هم الغائبون إليه، و فيه أنّه بعيد من سياق الآية.

و قال آخرون: إنّ المراد بالّذين آمنوا المؤمنون جميعاً لكن في قوله:( ما سَبَقُونا ) التفاتا و الأصل ما سبقتمونا و هو في البعد كسابقه و ليس خطاب الحاضرين بصيغة الغيبة من الالتفات في شي‏ء.

و قوله:( وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ ) ضمير( به ) للقرآن و كذا الإشارة بهذا إليه و الإفك الافتراء أي و إذ لم يهتدوا بالقرآن لاستكبارهم عن الإيمان به فسيقولون أي الّذين كفروا هذا أي القرآن إفك و افتراء قديم، و قولهم: هذا إفك قديم كقولهم:( أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى‏ إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا ) إلخ، الظاهر أنّ قوله:( وَ مِنْ قَبْلِهِ ) إلخ، جملة حاليّة و المعنى: فسيقولون هذا إفك قديم و الحال أنّ كتاب موسى حال كونه إماماً و رحمةً قبله أي قبل القرآن و هذا القرآن كتاب مصدّق له حال كونه لساناً عربيّاً ليكون منذراً للّذين ظلموا و هو بشرى للمحسنين فكيف يكون إفكاً؟

و كون التوراة إماماً و رحمةً هو كونها بحيث يقتدي بها بنو إسرائيل و يتّبعونها في أعمالهم و رحمة للّذين آمنوا بها و اتّبعوها في إصلاح نفوسهم.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) إلى آخر الآية المراد بقولهم ربّنا الله إقرارهم و شهادتهم بانحصار الربوبيّة في الله سبحانه و توحّده فيها، و باستقامتهم ثباتهم على ما شهدوا به من غير زيغ و انحراف و التزامهم بلوازمه العمليّة.

و قوله:( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) أي ليس قبالهم مكروه محتمل يخافونه من عقاب محتمل، و لا مكروه محقّق يحزنون به من عقاب أو هول، فالخوف

٢١١

إنّما يكون من مكروه ممكن الوقوع، و الحزن من مكروه محقّق الوقوع، و الفاء في قوله:( فَلا خَوْفٌ ) إلخ، لتوهّم معنى الشرط فإنّ الكلام في معنى من قال ربّنا الله ثمّ استقام فلا خوف إلخ.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) المراد بصحابة الجنّة ملازمتها، و قوله:( خالِدِينَ فِيها ) حال مؤكّدة لمعنى الصحابة.

و المعنى: اُولئك الّذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا ملازمون للجنّة حال كونهم خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا من الطاعات و القربات.

( بحث روائي‏)

في الكافي، بإسناده عن أبي عبيدة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله تعالى:( ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) قال: عنى بالكتاب التوراة و الإنجيل( و أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) فإنّما عنى بذلك علم أوصياء الأنبياء.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبدالرحمن عن ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) قال: الخطّ.

أقول: لعلّ المراد بالخطّ كتاب مخطوط موروث من الأنبياء أو العلماء الماضين لكن في بعض ما روي في تفسير قوله:( أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) أنّه حسن الخطّ و في بعض آخر أنّه جودة الخطّ و هو أجنبيّ من سياق الاحتجاج الّذي في الآية.

و في العيون، في باب مجلس الرضا مع المأمون عنهعليه‌السلام حدّثني أبي عن جدّي عن آبائه عن الحسين بن عليّعليهم‌السلام قال: اجتمع المهاجرون و الأنصار إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: إنّ لك يا رسول الله مؤنة في نفقتك و فيمن يأتيك من الوفود، و هذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارّاً مأجوراً أعط ما شئت و احكم ما شئت من غير حرج.

٢١٢

قال: فأنزل الله تعالى إليه الروح الأمين فقال: يا محمّد( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً- إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ ) يعني أن تودّوا قرابتي من بعدي، فخرجوا فقال المنافقون: ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلّا ليحثّنا على قرابته من بعده، و إن هو إلّا شي‏ء افتراه في مجلسه و كان ذلك من قولهم عظيماً.

فأنزل الله عزّوجلّ هذه الآية( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى‏ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) فبعث إليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: هل من حدث؟ فقالوا: إي و الله يا رسول الله لقد قال بعضنا كلاماً غليظاً كرهناه فتلا عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية فبكوا و اشتدّ بكاؤهم فأنزل الله تعالى:( وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوداود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عبّاس في قوله:( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) قال: نسختها هذه(1) الآية الّتي في الفتح فخرج إلى الناس فبشّرهم بالّذي غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر.

فقال رجل من المؤمنين: هنيئا لك يا نبيّ الله قد علمنا الآن ما يفعل بك فما ذا يفعل بنا؟ فأنزل الله في سورة الأحزاب( وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيراً ) و قال:( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً ) فبيّن الله ما به يفعل و بهم.

أقول: الرواية لا تخلو من شي‏ء:

أمّا أوّلاً: فلمّا تقدّم بيانه في تفسير الآية أعني قوله:( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) أنّها أجنبيّة عن العلم بالغيب الّذي هو من طريق الوحي بدلالة صريحة من القرآن فلا ينفي بها العلم بالمغفرة من طريق الوحي حتّى تنسخها آية سورة الفتح.

____________________

(1) يريد قوله تعالى: ( لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) الفتح: 2.

٢١٣

و أمّا ثانياً: فلأنّ ظاهر الرواية أنّ الذنب الّذي تصرّح بمغفرته آية سورة الفتح هو الذنب بمعنى مخالفة الأمر و النهي المولويّين و سيأتي في تفسير سورة الفتح - إن شاء الله تعالى - أنّ الذنب في الآية لغير هذا المعنى.

و أمّا ثالثاً: فلأنّ الآيات الدالّة على دخول المؤمنين الجنّة كثيرة جدّاً في مكّيّة السور و مدنيّتها و لا تدلّ آيتا سورة الأحزاب على أزيد ممّا يدلّ عليه سائر الآيات فلا وجه لتخصيصهما بالدلالة على دخول المؤمنين الجنّة و شمول المغفرة لهم.

على أنّ سورة الأحزاب نازلة قبل سورة الفتح بزمان.

و فيه، أخرج أبويعلى و ابن جرير و الطبرانيّ و الحاكم و صحّحه بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعيّ قال: انطلق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنا معه حتّى دخلنا على كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم.

فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلّا الله و أنّ محمّداً رسول الله يحبط الله عن كلّ يهوديّ تحت أديم السماء الغضب الّذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثمّ ردّ عليهم فلم يجبه أحد فثلّث فلم يجبه أحد فقال: أبيتم فوالله لأنا الحاشر و أنا العاقب و أنا المقفي آمنتم أو كذّبتم.

ثمّ انصرف و أنا معه حتّى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمّد، فأقبل فقال ذلك الرجل: أيّ رجل تعلمونني فيكم يا معشر اليهود؟ فقالوا: و الله لا نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله و لا أفقه منك و لا من أبيك و لا من جدّك، فقال: إنّي أشهد بالله أنّه النبيّ الّذي تجدونه في التوراة و الإنجيل، قالوا: كذبت ثمّ ردّوا عليه و قالوا شرّاً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذبتم لن يقبل منكم قولكم.

فخرجنا و نحن ثلاث: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنا و ابن سلام فأنزل الله:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

أقول: و في نزول الآية في عبدالله بن سلام روايات اُخرى من طرق أهل السنّة

٢١٤

غير هذه الرواية، و سياق الآية و خاصّة قوله:( مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ) لا يلائم كون الخطاب فيها لبني إسرائيل، و قد عدّ الإنجيل في الرواية من كتبهم و ليس من كتبهم و اليهود لا يصدّقونه.

و في بعض الروايات أنّ الآية نزلت في ابن يامين من علمائهم حين شهد و أسلم فكذّبته اليهود، و الإشكال السابق على حاله.

٢١٥

( سورة الأحقاف الآيات 15 - 20)

وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا  حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا  وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي  إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 15 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ  وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( 16 ) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( 17 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ  إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( 18 ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا  وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( 19 ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ( 20 )

٢١٦

( بيان‏)

لمّا قسّم الناس في قوله:( لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى‏ لِلْمُحْسِنِينَ ) إلى ظالمين و محسنين و اُشير فيه إلى أنّ للظالمين ما يخاف و يحذر و للمحسنين ما يسرّ الإنسان و يبشّر به عقّب ذلك في هذا الفصل من الآيات بتفصيل القول فيه، و أنّ الناس بين قوم تائبين إلى الله مسلمين له و هم الّذين يتقبّل أحسن أعمالهم و يتجاوز عن سيّئاتهم في أصحاب الجنّة، و قوم خاسرين حقّ عليهم القول في اُمم قد خلت من قبلهم من الجنّ و الإنس.

و مثل الطائفة الاُولى بمن كان مؤمناً بالله مسلماً له بارّاً بوالديه يسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم عليه و على والديه و العمل الصالح و إصلاح ذرّيّته، و الطائفة الثانية بمن كان عاقّاً لوالديه إذا دعواه إلى الإيمان بالله و اليوم الآخر فيزجرهما و يعد ذلك من أساطير الأوّلين.

قوله تعالى: ( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً ) إلى آخر الآية، الوصيّة على ما ذكره الراغب هو التقدّم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ و التوصية تفعيل من الوصيّة قال تعالى:( وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ ) البقرة: 132، فمفعوله الثاني الّذي يتعدّى إليه بالباء من قبيل الأفعال، فالمراد بالتوصية بالوالدين التوصية بعمل يتعلّق بهما و هو الإحسان إليهما.

و على هذا فتقدير الكلام: و وصّينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحساناً.

و في إعراب:( إِحْساناً ) أقوال اُخر كقول بعضهم: إنّه مفعول مطلق على تضمين( وصينا) معنى أحسنّا، و التقدير: وصّينا الإنسان محسنين إليهما إحساناً، و قول بعضهم: إنّه صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاءً ذا إحسان، و قول بعضهم: هو مفعول له، و التقدير: وصّيناه بهما لإحساننا إليهما، إلى غير ذلك ممّا قيل.

و كيف كان فبرّ الوالدين و الإحسان إليهما من الأحكام العامّة المشرّعة في جميع الشرائع كما تقدّم في تفسير قوله تعالى:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا

٢١٧

تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) الأنعام: 151، و لذلك قال:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ ) فعمّمه لكلّ إنسان.

ثمّ عقّبه سبحانه بالإشارة إلى ما قاسته اُمّه في حمله و وضعه و فصاله إشعاراً بملاك الحكم و تهييجاً لعواطفه و إثارة لغريزة رحمته و رأفته فقال:( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) أي حملته اُمّه حملاً ذا كره أي مشقّة و ذلك لما في حمله من الثقل، و وضعته وضعاً ذا كره و ذلك لما عنده من ألم الطلق.

و أمّا قوله:( وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) فقد اُخذ فيه أقلّ مدّة الحمل و هو ستّة أشهر، و الحولان الباقيان إلى تمام ثلاثين شهراً مدّة الرضاع، قال تعالى:( وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) البقرة: 233، و قال:( وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) لقمان: 14.

و الفصال التفريق بين الصبيّ و بين الرضاع، و جعل العامين ظرفاً للفصال بعناية أنّه في آخر الرضاع و لا يتحقّق إلّا بانقضاء عامين.

و قوله:( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) بلوغ الأشدّ بلوغ زمان من العمر تشتدّ فيه قوى الإنسان، و قد مرّ نقل اختلافهم في معنى بلوغ الأشدّ في تفسير قوله:( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً ) يوسف: 22، و بلوغ الأربعين ملازم عادة لكمال العقل.

و قوله:( قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى‏ والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) الإيزاع الإلهام، و هذا الإلهام ليس بإلهام علم يعلم به الإنسان ما جهلته نفسه بحسب الطبع كما في قوله:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: 8، بل هو إلهام عمليّ بمعنى البعث و الدعوة الباطنيّة إلى فعل الخير و شكر النعمة و بالجملة العمل الصالح.

و قد اُطلق النعمة الّتي سأل إلهام الشكر عليها فتعمّ النعم الظاهريّة كالحياة و الرزق و الشعور و الإرادة، و الباطنيّة كالإيمان بالله و الإسلام و الخشوع له و التوكّل عليه و التفويض إليه ففي قوله:( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ) إلخ، سؤال أن يلهمه الثناء

٢١٨

عليه بإظهار نعمته قولاً و فعلاً: أمّا قولاً فظاهر، و أمّا فعلاً فباستعمال هذه النعم استعمالاً يظهر به أنّها لله سبحانه أنعم بها عليه و ليست له من قبل نفسه و لازمه ظهور العبوديّة و المملوكيّة من هذا الإنسان في قوله و فعله جميعاً.

و تفسير النعمة بقوله:( الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى‏ والِدَيَّ ) يفيد شكره من قبل نفسه على ما اختصّ به من النعمة و من قبل والديه فيما أنعم به عليهما فهو لسان ذاكر لهما بعدهما.

و قوله:( وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) عطف على قوله:( أَنْ أَشْكُرَ ) إلخ، سؤال متمّم لسؤال الشكر على النعم فإنّ الشكر يحلّي ظاهر الأعمال، و الصلاحية الّتي يرتضيها الله تعالى تحلّي باطنها و تخلّصها له تعالى.

و قوله:( وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) الإصلاح في الذرّيّة إيجاد الصلاح فيهم و هو من الله سبحانه توفيقهم للعمل الصالح و ينجرّ إلى إصلاح نفوسهم، و تقييد الإصلاح بقوله:( لي ) للدلالة على أن يكون إصلاحهم بنحو ينتفع هو به أي أن يكون ذرّيّته له في برّه و إحسانه كما كان هو لوالديه.

و محصّل الدعاء سؤال أن يلهمه الله شكر نعمته و صالح العمل و أن يكون بارّاً محسناً بوالديه و يكون ذرّيّته له كما كان هو لوالديه، و قد تقدّم(1) غير مرّة أنّ شكر نعمه تعالى بحقيقة معناه هو كون العبد خالصاً لله فيؤل معنى الدعاء إلى سؤال خلوص النفس و صلاح العمل.

و قوله:( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أي الّذين يسلّمون الأمر لك فلا تريد شيئاً إلّا أرادوه بل لا يريدون إلّا ما أردت.

و الجملة في مقام التعليل لما يتضمّنه الدعاء من المطالب، و يتبيّن بالآية حيث ذكر الدعاء و لم يردّه بل أيّده بما وعد في قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ) إلخ، إنّ التوبة و الإسلام لله سبحانه إذا اجتمعاً في العبد استعقب ذلك الهامة تعالى بما يصير به العبد من المخلصين - بفتح اللّام - ذاتاً و المخلصين - بكسر اللّام - عملاً أمّا إخلاص الذات

____________________

(1) تفسير الآية 144 من سورة آل عمران و الآية 17 من سورة الأعراف.

٢١٩

فقد تقدّمت الإشارة إليه آنفاً، و أمّا إخلاص العمل فلأنّ العمل لا يكون صالحاً لقبوله‏ تعالى مرفوعاً إليه إلّا إذا كان خالصاً لوجهه الكريم، قال تعالى:( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) الزمر: 3.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ ) إلخ، التقبّل أبلغ من القبول، و المراد بأحسن ما عملوا طاعاتهم من الواجبات و المندوبات فإنّها هي المقبولة المتقبّلة و أمّا المباحات فإنّها و إن كانت ذات حسن لكنّها ليست بمتقبّلة، كذا ذكر في مجمع البيان و هو تفسير حسن و يؤيّده مقابلة تقبّل أحسن ما عملوا بالتجاوز عن السيّئات فكأنّه قيل: إنّ أعمالهم طاعات من الواجبات و المندوبات و هي أحسن أعمالهم فنتقبّلها و سيّئات فنتجاوز عنها و ما ليس بطاعة و لا حسنة فلا شأن له من قبول و غيره.

و قوله:( فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ ) متعلّق بقوله:( نَتَجاوَزُ ) أي نتجاوز عن سيّئاتهم في جملة من نتجاوز عن سيّئاتهم من أصحاب الجنّة، فهو حال من ضمير( عَنْهُمْ ) .

و قوله:( وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) أي يعدّهم الله بهذا الكلام وعد الصدق الّذي كانوا يوعدونه إلى هذا الحين بلسان الأنبياء و الرسل، أو المراد أنّه ينجزّ لهم بهذا التقبّل و التجاوز يوم القيامة وعد الصدق الّذي كانوا يوعدونه في الدنيا.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ) لمّا ذكر الإنسان الّذي تاب إلى الله و أسلم له و سأله الخلوص و الإخلاص و برّ والديه و إصلاح أولاده له قابله بهذا الإنسان الّذي يكفر بالله و رسوله و المعاد و يعقّ والديه إذا دعواه إلى الإيمان و أنذراه بالمعاد.

فقوله:( وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ) الظاهر أنّه مبتدأ في معنى الجمع و خبره قوله بعد:( أُولئِكَ الَّذِينَ ) إلخ، و( أف ) كلمة تبرّم يقصد بها إظهار التسخّط و التوجّع و( أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) الاستفهام للتوبيخ، و المعنى: أ تعدانني أن اُخرج من قبري فاُحيا و اُحضر للحساب أي أ تعدانني المعاد( وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ) أي

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429