الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن18%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120160 / تحميل: 6179
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

( سورة الجاثية الآيات ٢٠ - ٣٧)

هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( ٢٠ ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ  سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( ٢١ ) وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ٢٢ ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ  أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ( ٢٣ ) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ  وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ  إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ( ٢٤ ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٢٥ ) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( ٢٦ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ( ٢٧ ) وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً  كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٢٨ ) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ  إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٢٩ ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

١٨١

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ  ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( ٣٠ ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ( ٣١ ) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( ٣٢ ) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( ٣٣ ) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ( ٣٤ ) ذَٰلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا  فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( ٣٥ ) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٣٦ ) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٣٧ )

( بيان‏)

لمّا أشار إلى جعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على شريعة من الأمر و هو تشريع الشريعة الإسلاميّة أشار في هذه الآيات إلى أنّها بصائر للنّاس يبصرون بها ما يجب عليهم أن يسلكوه من سبيل الحياة الطيّبة في الدنيا و تتلوها سعادة الحياة الآخرة، و هدى و رحمة لقوم يوقنون بآيات الله.

و أشار إلى أنّ الّذي يدعو مجترحي السيّئات أن يستنكفوا عن التشرّع بالشريعة إنكارهم المعاد فيحسبون أنّهم و المتشرّعون بالدين سواء في الحياة و الممات و أن لا أثر

١٨٢

للتشرّع بالشريعة فلا ثمرة للعمل الصالح الّذي تهدي إليه الشريعة إلّا إتعاب النفس بالتقيّد من غير موجب. فبرهن تعالى على بطلان حسبانهم بإثبات المعاد ثمّ أردفه بوصف المعاد و ما يثيب به الصالحين يومئذ و ما يعاقب به الطالحين أهل الجحود و الاجرام، و عند ذلك تختتم السورة بالتحميد و التسبيح.

قوله تعالى: ( هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) الإشارة بهذا إلى الأمر المذكور الّذي هو الشريعة أو إلى القرآن بما يشتمل على الشريعة، و البصائر جمع بصيرة و هي الإدراك المصيب للواقع، و المراد بها ما يبصر به، و إنّما كانت الشريعة بصائر لأنّها تتضمّن أحكاماً و قوانين كلّ منها يهدي إلى واجب العمل في سبيل السعادة.

و المعنى: هذه الشريعة المشرّعة أو القرآن المشتمل عليها وظائف عملية يتبصّر بكلّ منها الناس و يهتدون إلى السبيل الحقّ و هو سبيل الله و سبيل السعادة، فقوله بعد ذكر تشريع الشريعة:( هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ ) كقوله بعد ذكر آيات الوحدانيّة في أوّل السورة:( هذا هُدىً وَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ.

و قوله:( وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي دلالة واضحة و إفاضة خير لهم، و المراد بقوم يوقنون: الّذين يوقنون بآيات الله الدالّة على اُصول المعارف فإنّ المعهود في القرآن تعلّق الإيقان بالاُصول الاعتقاديّة.

و تخصيص الهدى و الرحمة بقوم يوقنون مع التصريح بكونه بصائر للناس لا يخلو من تأييد لكون المراد بالهدى الوصول إلى المطلوب دون مجرّد التبصّر، و بالرحمة الرحمة الخاصّة بمن اتّقى و آمن برسوله بعد الإيمان بالله، قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ) الحديد: ٢٨، و قال:( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ - إلى أن قال -وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) البقرة: ٤، و للرحمة درجات كثيرة تختلف سعة و ضيقاً ثمّ للرحمة الخاصّة بأهل الإيمان أيضاً مراتب مختلفة باختلاف مراتب الإيمان فلكلّ مرتبة من مراتبه ما يناسبها منها.

١٨٣

و أمّا الرحمة بمعنى مطلق الخير الفائض منه تعالى فإنّ القرآن بما يشتمل على الشريعة رحمة للناس كافّة كما أنّ الرسول المبعوث به رحمة لهم جميعاً، قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) الأنبياء: ١٠٧، و قد أوردنا بعض الكلام في هذا المعنى في بعض المباحث السابقة.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ‏ ) إلخ، قال في المجمع: الاجتراح الاكتساب، يقال: جرح و اجترح و كسب و اكتسب و أصله من الجراح لأنّ لذلك تأثيراً كتأثير الجراح. قال: و السيّئة الفعلة القبيحة الّتي يسوء صاحبها باستحقاق الذمّ عليها. انتهى.

و الجعل بمعنى التصيير، و قوله:( كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ ) في محلّ المفعول الثاني للجعل، و التقدير كائنين كالّذين آمنوا، إلخ.

و جزم الزمخشريّ في الكشّاف على كون الكاف في( كَالَّذِينَ) اسماً بمعنى المثل هو مفعول ثان لقوله:( نَجْعَلَهُمْ) ، و قوله:( سَواءً ) بدلاً منه.

و قوله:( سَواءً) بالنصب على القراءة الدائرة و هو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي مستوياً أو متساوياً، و قوله:( مَحْياهُمْ) مصدر ميميّ و فاعل( سَواءً ) و ضميره راجع إلى مجموع المجترحين و المؤمنين، و( مَماتُهُمْ) معطوف على( مَحْياهُمْ) و حاله كحاله.

و الآية مسوقة سوق الإنكار و( أَمْ) منقطعة، و المعنى: بل أ حسب و ظنّ الّذين يكتسبون السيّئات أن نصيّرهم مثل الّذين آمنوا و عملوا الصالحات مستوياً محياهم و مماتهم أي تكون حياة هؤلاء كحياة اُولئك و موتهم كموتهم فيكون الإيمان و التشرّع بالدين لغواً لا أثر له في حياة و لا موت و يستوي وجوده و عدمه.

و قوله:( ساءَ ما يَحْكُمُونَ‏ ) ردّ لحسبانهم المذكور و حكمهم بالمماثلة بين مجترحي السيّئات و الّذين آمنوا و عملوا الصالحات و مساءة الحكم كناية عن بطلانه.

فالفريقان لا يتساويان في الحياة و لا في الممات.

١٨٤

أمّا أنّهما لا يتساويان في الحياة فلأنّ الّذين آمنوا و عملوا الصالحات في سلوكهم مسلك الحياة على بصيرة من أمرهم و هدى و رحمة من ربّهم كما ذكره سبحانه في الآية السابقة و المسي‏ء صفر الكفّ، من ذلك و قال تعالى في موضع آخر:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) طه: ١٢٤، و قال في موضع آخر:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢.

و أمّا أنّهما لا يتساويان في الممات فلأنّ الموت كما ينطق به البراهين الساطعة ليس انعداماً للشي‏ء و بطلاناً للنفس الإنسانيّة كما يحسبه المبطلون بل هو رجوع إلى الله سبحانه و انتقال من نشأة الدنيا إلى نشأة الآخرة الّتي هي دار البقاء و عالم الخلود يعيش فيها المؤمن الصالح في سعادة و نعمة و غيره في شقاء و عذاب.

و قد أشار سبحانه إليه فيما تقدّم من كلامه بقوله:( كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) و قوله:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) و غير ذلك، و سيتعرّض له بقوله:( وَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) إلخ.

و الآية من حيث تركيب ألفاظها و المعنى المتحصّل منها من معارك الآراء بين المفسّرين و قد ذكروا لها محامل كثيرة و الّذي يعطيه السياق و يساعد عليه هو ما قدّمناه و لا كثير فائدة في التعرّض لوجوه اُخر ذكروها فمن أراد الاطّلاع عليها فليراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( وَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم المشهود و الباء في( بِالْحَقِّ ) للملابسة فكون خلق العالم بالحقّ كونه حقّاً لا باطلاً و لعباً و هو أن يكون لهذا العالم الكائن الفاسد غاية ثابتة باقية وراءه.

و قوله:( وَ لِتُجْزى‏ ) إلخ، عطف على( بِالْحَقِّ ) و الباء في قوله:( بِما كَسَبَتْ ) للتعدية أو للمقابلة أي لتجزى مقابل ما كسبت إن كان طاعة فالثواب و إن كان معصية فالعقاب، و قوله:( وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) حال من كلّ نفس أي و لتجزى كلّ نفس بما كسبت بالعدل.

١٨٥

فيؤل معنى الآية إلى مثل قولنا و خلق الله السماوات و الأرض بالحقّ و بالعدل فكون الخلق بالحقّ يقتضي أن يكون وراء هذا العالم عالم آخر يخلد فيه الموجودات و كون الخلق بالعدل يقتضي أن تجزى كلّ نفس ما تستحقّه بكسبها فالمحسن يجزى جزاء حسناً و المسي‏ء يجزى جزاء سيّئاً و إذ ليس ذلك في هذه النشأة ففي نشأة اُخرى.

و بهذا البيان يظهر أنّ الآية تتضمّن حجّتين على المعاد إحداهما ما اُشير إليه بقوله:( وَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) و يسلك من طريق الحقّ، و الثانية ما اُشير إليه بقوله:( وَ لِتُجْزى‏ ) إلخ، و يسلك من طريق العدل.

فتؤل الحجّتان إلى ما يشتمل عليه قوله:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص: ٢٨.

و الآية بما فيها من الحجّة تبطل حسبانهم أنّ المسي‏ء كالمحسن في الممات فإنّ حديث المجازاة بالثواب و العقاب على الطاعة و المعصية يوم القيامة ينفي تساوي المطيع و العاصي في الممات، و لازم ذلك إبطال حسبانهم أنّ المسي‏ء كالمحسن في الحياة فإنّ ثبوت المجازاة يومئذ يقتضي وجوب الطاعة في الدنيا و المحسن على بصيرة من الأمر في حياته يأتي بواجب العمل و يتزوّد من يومه لغده بخلاف المسي‏ء العائش في عمى و ضلال فليسا بمتساويين.

قوله تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) إلى آخر الآية ظاهر السياق أنّ قوله:( أَ فَرَأَيْتَ ) مسوق للتعجيب أي أ لا تعجّب ممّن حاله هذا الحال؟

و المراد بقوله:( اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) حيث قدّم( إِلهَهُ ) على( هَواهُ) إنّه يعلم أنّ له إلها يجب أن يعبده - و هو الله سبحانه - لكنّه يبدّله من هواه و يجعل هواه مكانه فيعبده فهو كافر بالله سبحانه على علم منه، و لذلك عقّبه بقوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) أي إنّه ضالّ عن السبيل و هو يعلم.

و معنى اتّخاذ الإله العبادة و المراد بها الإطاعة فإنّ الله سبحانه عدّ الطاعة

١٨٦

عبادة كما في قوله:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي ) يس: ٦١، و قوله:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) التوبة: ٣١، و قوله:( وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) آل عمران: ٦٤.

و الاعتبار يوافقه إذ ليست العبادة إلّا إظهار الخضوع و تمثيل أنّ العابد عبد لا يريد و لا يفعل إلّا ما أراده و رضيه معبوده فمن أطاع شيئاً فقد اتّخذه إلهاً و عبده فمن أطاع هواه فقد اتّخذ إلهه هواه و لا طاعة إلّا لله أو من أمر بطاعته.

فقوله:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) أي أ لا تعجب ممّن يعبد هواه بإطاعته و اتّباعه و هو يعلم أنّ له إلهاً غيره يجب أن يعبده و يطيعه لكنّه يجعل معبوده و مطاعه هو هواه.

و قوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) أي هو ضالّ بإضلال منه تعالى يضلّه به مجازاة لاتّباعه الهوى حال كون إضلاله مستقرّاً على علم هذا الضالّ، و لا ضير في اجتماع الضلال مع العلم بالسبيل و معرفته كما في قوله تعالى:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: ١٤ و ذلك أنّ العلم لا يلازم الهدى و لا الضلال يلازم الجهل بل الّذي يلازم الهدى هو العلم مع التزام العالم بمقتضى علمه فيتعقّبه الاهتداء و أمّا إذا لم يلتزم العالم بمقتضى علمه لاتّباع منه للهوى فلا موجب لاهتدائه بل هو الضلال و إن كان معه علم.

و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد بالعلم هو علمه تعالى و المعنى: و أضلّه الله على علم منه تعالى بحاله فبعيد عن السياق.

و قوله:( وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً ) كالعطف التفسيريّ لقوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) و الختم على السمع و القلب هو أن لا يسمع الحقّ و لا يعقله، و جعل الغشاوة على البصر هو أن لا يبصر الحقّ من آيات الله و محصّل الجميع: أن لا يترتّب على السمع و القلب و البصر أثرها و هو الالتزام بمقتضى ما ناله من الحقّ إذا أدركه لاستكبار من نفسه و اتّباع للهوى، و قد عرفت أنّ الضلال عن السبيل لا ينافي العلم به إذا لم يكن هناك التزام بمقتضاه.

١٨٧

و قوله:( فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) الضمير لمن اتّخذ إلهه هواه و التفريع على ما تحصّل من حاله أي إذا كان حاله هذا الحال و قد أضلّه الله على علم إلخ، فمن يهديه من بعد الله سبحانه فلا هادي دونه قال تعالى:( قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى‏ ) البقرة: ١٢٠ و قال:( وَ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) المؤمن: ٣٣.

و قوله:( أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) أي أ فلا تتفكّرون في حاله فتتذكّروا أنّ هؤلاء لا سبيل لهم إلى الهدى مع اتّباع الهوى فتتّعظوا.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) إلى آخر الآية، قال الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدّة العالم من مبدإ وجوده إلى انقضائه، و على ذلك قوله تعالى:( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) ثمّ يعبّر به عن كلّ مدّة كثيرة، و هو خلاف الزمان فإنّ الزمان يقع على المدّة القليلة و الكثيرة. انتهى.

و الآية على ما يعطيه السياق - سياق الاحتجاج على الوثنيّين المثبتين للصانع المنكرين للمعاد - حكاية قول المشركين في إنكار المعاد لا كلام الدهريّين الناسبين للحوادث وجوداً و عدماً إلى الدهر المنكرين للمبدإ و المعاد جميعاً إذا لم يسبق لهم ذكر في الآيات السابقة.

فقولهم:( ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ) الضمير للحياة أي لا حياة لنا إلّا حياتنا الدنيا لا حياة وراءها فلا وجود لما يدّعيه الدين الإلهيّ من البعث و الحياة الآخرة، و هذا هو القرينة المؤيّدة لأن يكون المراد بقوله:( نَمُوتُ وَ نَحْيا ) يموت بعضنا و يحيا بعضنا الآخر فيستمرّ بذلك بقاء النسل الإنسانيّ بموت الأسلاف و حياة الأخلاف و يؤيّد ذلك بعض التأييد قوله بعده:( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) المشعر بالاستمرار.

فالمعنى: و قال المشركون: ليست الحياتنا إلّا حياتنا الدنيا الّتي نعيش بها في الدنيا فلا يزال يموت بعضنا و هم الأسلاف و يحيى آخرون و هم الأخلاف و ما يهلكنا إلّا الزمان - الّذي بمروره يبلى كلّ جديد و يفسد كلّ كائن و يميت كلّ حيّ - فليس الموت انتقالاً من دار إلى دار منتهياً إلى البعث و الرجوع إلى الله.

١٨٨

و لعلّ هذا كلام بعض الجهلة من وثنيّة العرب و إلّا فالعقيدة الدائرة بين الوثنيّة هي التناسخ و هو أنّ نفوس غير أهل الكمال إذا فارقت الأبدان تعلّقت بأبدان اُخرى جديدة فإن كانت النفس المفارقة اكتسبت السعادة في بدنها السابق تعلّقت ببدن جديد تتنعّم فيه و تسعد، و إن كانت اكتسبت الشقاء في البدن السابق تعلّقت ببدن لاحق تشقى فيه و تعذّب جزاء لعملها السيّئ و هكذا، و هؤلاء لا ينكرون استناد أمر الموت كالحياة إلى وساطة الملائكة.

و لهذا أعني كون القول بالتناسخ دائراً بين الوثنيّة ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالآية قولهم بالتناسخ، و المعنى:( ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ) فلسنا نخرج من الدنيا أبداً( نَمُوتُ ) عن حياة دنيا( وَ نَحْيا ) بعد الموت بالتعلّق ببدن جديد و هكذا( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) .

و هذا لا يخلو من وجه لكن لا يلائمه قولهم المنقول ذيلاً:( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) إلّا أن يوجّه بأنّ مرادهم من نسبة الإهلاك إلى الدهر كون الدهر وسيلة يتوسّل بها الملك الموكّل على الموت إلى الإماتة، و كذا لا تلائمه حجّتهم المنقولة ذيلاً:( ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) الظاهرة في أنّهم يرون آباءهم معدومين باطلي الذوات.

و ذكر في معنى الآية وجوه اُخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: المعنى نكون أمواتاً لا حياة فيها و هو قبل ولوج الروح ثمّ نحيي بولوجها على حدّ قوله تعالى:( وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ) البقرة: ٢٨.

و قول بعضهم: المراد بالحياة بقاء النسل مجازاً، و المعنى: نموت نحن و نحيا ببقاء نسلنا. إلى غير ذلك ممّا قيل.

و قوله:( وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) أي إنّ قولهم ذلك المشعر بإنكار المعاد قول بغير علم و إنّما هو ظنّ يظنّونه و ذلك أنّهم لا دليل لهم يدلّ على نفي المعاد مع ما هناك من الأدلّة على ثبوته.

قوله تعالى: ( وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا

١٨٩

بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) تأكيد لكون قولهم بنفي المعاد و حصر الحياة في الحياة الدنيا قولاً بغير علم.

و المراد بالآيات البيّنات الآيات المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد و كونها بيّنات وضوح دلالتها على ثبوته بلا شكّ، و تسمية قولهم:( ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) مع كونه اقتراحاً جزافيّاً بعد قيام الحجّة إنّما هو من باب التهكّم فإنّه من قبيل طلب الدليل على المطلوب بعد قيام الدليل عليه فكأنّه قيل: ما كانت حجّتهم إلّا اللّاحجّة.

و المعنى: و إذا تتلى على هؤلاء المنكرين للمعاد آياتنا المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد و الحال أنّها واضحات الدلالة على ثبوته ما قابلوها إلّا بجزاف من القول و هو طلب الدليل على إمكانه بإحياء آبائهم الماضين.

قوله تعالى: ( قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ - إلى قوله -وَ الْأَرْضِ ) ما ذكر من اقتراحهم الحجّة على مطلوب قامت عليه الحجّة و إن كان اقتراحاً جزافيّاً لا يستدعي شيئاً من الجواب لكنّه سبحانه أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم بإثبات إمكانه الّذي كانوا يستبعدونه.

و محصّله: أنّ الّذي يحييكم لأوّل مرّة ثمّ يميتكم ثمّ يجمعكم إلى يوم القيامة الّذي لا ريب فيه هو الله سبحانه و لله ملك السماوات و الأرض يحكم فيها ما يشاء و يتصرّف فيها كيفما يريد فله أن يحكم برجوع الناس إليه و يتصرّف فيكم بجمعكم إلى يوم القيامة و القضاء بينكم ثمّ الجزاء، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) قال الراغب: الخسر و الخسران انتقاص رأس المال و ينسب ذلك إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، و إلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، قال تعالى:( تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ) و يستعمل ذلك في المقتنيات الخارجيّة كالمال و الجاه في الدنيا و هو الأكثر، و في المقنيات النفسيّة كالصحّة و السلامة و العقل و الإيمان و الثواب و هو الّذي جعله الله تعالى الخسران المبين.

قال: و كلّ خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير دون الخسران المتعلّق بالمقتنيات الماليّة و التجارات البشريّة.

١٩٠

و قال: و الإبطال يقال في إفساد الشي‏ء و إزالته سواء كان ذلك الشي‏ء حقّاً أو باطلاً قال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ ) و قد يقال فيمن يقول شيئاً لا حقيقة له نحو( وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) ، و قوله تعالى:( خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) أي الّذين يبطلون الحقّ. انتهى.

و الأشبه أن يكون المراد بقيام الساعة فعليّة ما يقع فيها من البعث و الجمع و الحساب و الجزاء و ظهوره، و بذلك صحّ جعل الساعة مظروفاً لليوم و هما واحد، و الأشبه أن يكون قوله:( يَوْمَئِذٍ ) تأكيداً لقوله:( يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) .

و المعنى: و يوم تقوم الساعة و هي يوم الرجوع إلى الله يومئذ يخسر المبطلون الّذين أبطلوا الحقّ و عدلوا عنه.

قوله تعالى: ( وَ تَرى‏ كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا ) إلخ، الجثوّ البروك على الركبتين كما أنّ الجذوّ البروك على أطراف الأصابع.

و الخطاب عامّ لكلّ من يصحّ منه الرؤية و إن كان متوجّهاً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المراد بالدعوة إلى الكتاب الدعوة إلى الحساب على ما ينطق به الكتاب بإحصائه الأعمال بشهادة قوله بعده:( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

و المعنى: و ترى أنت و غيرك من الرائين كلّ اُمّة من الاُمم جالسة على الجثوّ جلسة الخاضع الخائف كلّ اُمّة منهم تدعى إلى كتابها الخاصّ بها و هي صحيفة الأعمال و قيل لهم:( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

و يستفاد من ظاهر الآية أنّ لكلّ اُمّة كتاباً خاصّاً بهم كما أنّ لكلّ إنسان كتاباً خاصّاً به قال تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) إسراء: ١٣.

قوله تعالى: ( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال في الصحّاح: و نسخت الكتاب و انتسخته و استنسخته كلّه بمعنى، و النسخة اسم المنتسخ منه. انتهى، و قال الراغب: النسخ إزالة الشي‏ء بشي‏ء يتعقّبه كنسخ الشمس الظلّ و نسخ الظلّ الشمس و الشيب الشباب - إلى أن قال - و نسخ الكتاب نقل صورته

١٩١

المجرّدة إلى كتاب آخر و ذلك لا يقتضي إزالة الصورة الاُولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادّة اُخرى كاتّخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة، و الاستنساخ التقدّم بنسخ الشي‏ء و الترشّح للنسخ. انتهى.

و مقتضى ما نقل أنّ المفعول الّذي يتعدّى إليه الفعل في قولنا: استنسخت الكتاب هو الأصل المنقول منه، و لازم ذلك أن تكون الأعمال في قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) كتاباً و أصلاً و إن شئت فقل: في أصل و كتاب يستنسخ و ينقل منه و لو اُريد به ضبط الأعمال الخارجيّة القائمة بالإنسان بالكتابة لقيل: إنّا كنّا نكتب ما كنتم تعملون إذ لا نكتة تستدعي فرض هذه الأعمال كتاباً و أصلاً يستنسخ، و لا دليل على كون( يستنسخ) بمعنى يستكتب كما ذكره بعضهم.

و لازم ذلك أن يكون المراد بما تعملون هو أعمالهم الخارجيّة بما أنّها في اللوح المحفوظ فيكون استنساخ الأعمال استنساخ ما يرتبط بأعمالهم من اللوح المحفوظ و تكون صحيفة الأعمال صحيفة الأعمال و جزء من اللوح المحفوظ، و يكون معنى كتابة الملائكة للأعمال تطبيقهم ما عندهم من نسخة اللوح على الأعمال.

و هذا هو المعنى الّذي وردت به الرواية من طرق الشيعة عن الصادقعليه‌السلام و من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس، و سيوافيك في البحث الروائيّ التالي.

و على هذا فقوله:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) من كلامه تعالى لا من كلام الملائكة، و هو من خطابه تعالى لأهل الجمع يوم القيامة يحكيه لنا فيكون في معنى:( و يقال لهم هذا كتابنا) إلخ.

و الإشارة بهذا - على ما يعطيه السياق - إلى صحيفة الأعمال و هي بعينها إشارة إلى اللوح المحفوظ على ما تقدّم و إضافة الكتاب إليه تعالى نظراً إلى أنّه صحيفة الأعمال من جهة أنّه مكتوب بأمره تعالى و نظراً إلى أنّه اللوح المحفوظ من جهة التشريف و قوله:( يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) أي يشهد على ما عملتم و يدلّ عليه دلالة واضحة ملابساً للحقّ.

و قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) تعليل لكون الكتاب ينطق عليهم

١٩٢

بالحقّ أي إنّ كتابنا هذا دالّ على عملكم بالحقّ من غير أن يتخلّف عنه لأنّه اللّوح المحفوظ المحيط بأعمالكم بجميع جهاتها الواقعيّة.

و لو لا أنّ الكتاب يريهم أعمالهم بنحو لا يداخله شكّ و لا يحتمل منهم التكذيب لكذّبوه، قال تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) آل عمران: ٣٠.

و للقوم في الآية أقوال اُخر:

منها ما قيل: إنّ الآية من كلام الملائكة لا من كلام الله و معنى الاستنساخ الكتابة و المعنى: هذا أي صحيفة الأعمال كتابنا معشر الملائكة الكاتبين للأعمال يشهد عليكم بالحقّ إنّا كنّا نكتب ما كنتم تعملون.

و فيه أنّ كونه من كلام الملائكة بعيد من السياق على أنّ كون الاستنساخ بمعنى مطلق الكتابة لم يثبت لغة.

و منها: أنّ الآية من كلام الله، و الإشارة بهذا إلى صحيفة الأعمال، و قيل: إلى اللّوح المحفوظ، و الاستنساخ بمعنى الاستكتاب مطلقاً.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) تفصيل حال الناس يومئذ بحسب اختلافهم بالسعادة و الشقاء و الثواب و العقاب، و السعداء المثابون هم الّذين آمنوا و عملوا الصالحات، و الأشقياء المعاقبون هم الّذين كفروا من المستكبرين المجرمين.

و المراد بالرحمة الإفاضة الإلهيّة تسعد من استقرّ فيها و منها الجنّة، و الفوز المبين الفلاح الظاهر، و الباقي واضح.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ) المراد بالّذين كفروا المتلبّسون بالكفر عن تكذيب و جحود بشهادة قوله:( أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ ) إلخ.

و الفاء في( أَ فَلَمْ تَكُنْ ) للتفريع فتدلّ على مقدّر متفرّع عليه هو جواب لمّا، و التقدير: فيقال لهم أ لم تكن آياتي تتلى عليكم، و المراد بالآيات الحجج الإلهيّة الملقاة

١٩٣

إليهم عن وحي و دعوة، و المجرم هو المتلبّس بالأجرام و هو الذنب.

و المعنى: و أمّا الّذين كفروا جاحدين للحقّ مع ظهوره فيقال لهم توبيخاً و تقريعاً: أ لم تكن حججي تقرأ و تبيّن لكم في الدنيا فاستكبرتم عن قبولها و كنتم قوماً مذنبين.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) إلخ، المراد بالوعد الموعود و هو ما وعده الله بلسان رسله من البعث و الجزاء فيكون قوله:( وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها ) من عطف التفسير، و يمكن أن يراد بالوعد المعنى المصدريّ.

و قولهم:( ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) معناه أنّه غير مفهوم لهم و الحال أنّهم أهل فهم و دراية فهو كناية عن كونه أمراً غير معقول و لو كان معقولاً لدروه.

و قوله:( إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) أي ليست ممّا نقطع به و نجزم بل نظنّ ظنّاً لا يسعنا أن نعتمد عليه، ففي قولهم:( ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) إلخ، غبّ ما تليت عليهم من الآيات البيّنة أفحش المكابرة مع الحقّ.

قوله تعالى: ( وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) إضافة السيّئات إلى ما عملوا بيانيّة أو بمعنى من، و المراد بما عملوا جنس ما عملوا أي ظهر لهم أعمالهم السيّئة أو السيّئات من أعمالهم فالآية في معنى قوله:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) آل عمران: ٣٠.

فالآية من الآيات الدالّة على تمثّل الأعمال، و قيل: إنّ في الكلام حذفاً و التقدير: و بدا لهم جزاء سيّئات ما عملوا.

و قوله:( وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) أي و حلّ بهم العذاب الّذي كانوا يسخرون منه في الدنيا إذا اُنذروا به بلسان الأنبياء و الرسل.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) النسيان كناية عن الإعراض و الترك فنسيانه تعالى لهم يوم القيامة إعراضه عنهم و تركه لهم في شدائده و أهواله، و نسيانهم لقاء يومهم ذاك في الدنيا إعراضهم عن تذكّره و تركهم التأهّب للقائه، و الباقي ظاهر.

١٩٤

قوله تعالى: ( ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) إلخ، الإشارة بقوله:( ذلِكُمْ ) إلى ما ذكر من عقابهم من ظهور السيّئات و حلول العذاب و الهزء السخريّة الّتي يستهزأ بها و الباء للسببيّة.

و المعنى: ذلكم العذاب الّذي يحلّ بكم بسبب أنّكم اتّخذتم آيات الله سخريّة تستهزؤن بها و بسبب أنّكم غرّتكم الحياة الدنيا فأخلدتم إليها و تعلّقتم بها.

و قوله:( فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) صرف الخطاب عنهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و يتضمّن الكلام خلاصة القول فيما يصيبهم من العذاب يومئذ و هو الخلود في النار و عدم قبول العذر منهم.

و الاستعتاب طلب العتبى و الاعتذار، و نفي الاستعتاب كناية عن عدم قبول العذر.

قوله تعالى: ( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) تحميد له تعالى بالتفريع على ما تقدّم في السورة من كونه خالق السماوات و الأرض و ما بينهما و المدبّر لأمر الجميع و من بديع تدبيره خلق الجميع بالحقّ المستتبع ليوم الرجوع إليه و الجزاء بالأعمال و هو المستدعي لجعل الشرائع الّتي تسوق إلى السعادة و الثواب و يتعقّبه الجمع ليوم الجمع ثمّ الجزاء و استقرار الجميع على الرحمة و العدل بإعطاء كلّ شي‏ء ما يستحقّه فلم يدبّر إلّا تدبيراً جميلاً و لم يفعل إلّا فعلاً محموداً فله الحمد كلّه.

و قد كرّر( الرب) فقال:( رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ ) ثمّ أبدل منهما قوله:( رَبِّ الْعالَمِينَ ) ليأتي بالتصريح بشمول الربوبيّة للجميع فلو جي‏ء بربّ العالمين و اكتفي به أمكن أن يتوهّم أنّه ربّ المجموع لكنّ للسماوات خاصّة ربّ آخر و للأرض وحدها ربّ آخر كما ربّما قال بمثله الوثنيّة، و كذا لو اكتفي بالسماوات و الأرض لم يكن صريحاً في ربوبيّته لغيرهما، و كذا لو اكتفي بإحداهما.

قوله تعالى: ( وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الكبرياء على ما عن الراغب: الترفّع عن الانقياد، و عن ابن الأثير: العظمة و الملك و في المجمع، السلطان القاهر و العظمة القاهرة و العظمة و الرفعة.

١٩٥

و هي على أيّ حال أبلغ معنى من الكبر و تستعمل في العظمة غير الحسّيّة و مرجعه إلى كمال وجوده و لا تناهي كماله.

و قوله:( وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أي له الكبرياء في كلّ مكان فلا يتعالى عليه شي‏ء فيهما و لا يستصغره شي‏ء و تقديم الخبر في( لَهُ الْكِبْرِياءُ ) يفيد الحصر كما في قوله:( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ) .

و قوله:( وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي الغالب غير المغلوب فيما يريد من خلق و تدبير في الدنيا و الآخرة و الباني خلقه و تدبيره على الحكمة و الإتقان.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) قال: نزلت في قريش كلّما هووا شيئاً عبدوه.

و في الدرّ المنثور، أخرج النسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان الرجل من العرب يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه أخذه و ألقى الآخر فأنزل الله( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) .

و في المجمع، في قوله تعالى:( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) و قد روي في الحديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: لا تسبّوا الدهر فإنّ الله هو الدهر.

أقول: قال الطبرسيّ بعد إيراد الحديث: و تأويله أنّ أهل الجاهليّة كانوا ينسبون الحوادث المجحفة و البلايا النازلة إلى الدهر فيقولون: فعل الدهر كذا، و كانوا يسبون الدهر فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ فاعل هذه الاُمور هو الله فلا تسبوا فاعلها انتهى. و يؤيّد هذا الوجه الرواية التالية.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله تبارك و تعالى: لا يقل ابن آدم يسبّ الدّهر يا خيبة الدهر فإنّي أنا الدهر اُرسل الليل و النهار فإذا شئت قبضتهما.

١٩٦

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) الآية حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبدالرحيم القصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن( ن وَ الْقَلَمِ ) قال: إنّ الله خلق القلم من شجرة في الجنّة يقال لها الخلد ثمّ قال لنهر في الجنّة: كن مداداً فجمد النهر و كان أشدّ بياضاً من الثلج و أحلى من الشهد. ثمّ قال للقلم: اُكتب. قال: يا ربّ ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب القلم في رقّ أشدّ بياضاً من الفضّة و أصفى من الياقوت. ثمّ طواه فجعله في ركن العرش ثمّ ختم على فم القلم فلن ينطق أبداً.

فهو الكتاب المكنون الّذي منه النسخ كلّها أ و لستم عرباً؟ فكيف لا تعرفون معنى الكلام؟ و أحدكم يقول لصاحبه: انسخ ذلك الكتاب أ و ليس إنّما ينسخ من كتاب آخر من الأصل؟ و هو قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

أقول: قولهعليه‌السلام : فكتب القلم في رقّ إلخ، تمثيل للّوح المكتوب فيه الحوادث بالرقّ و الرقّ ما يكتب فيه شبه الكاغد - على ما ذكره الراغب - و قد تقدّم الحديث عنهعليه‌السلام أنّ القلم ملك و اللوح ملك، و قوله: فجعله في ركن العرش تمثيل للعرش بعرش الملك ذي الأركان و القوائم و قوله: ثمّ ختم على فم القلم إلخ كناية عن كون ما كتب في الرقّ قضاء محتوماً لا يتغيّر و لا يتبدّل، و قوله: أ و لستم عرباً إلخ، إشارة إلى ما تقدّم توضيحه في تفسير الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: إنّ الله خلق النون و هو الدواة و خلق القلم فقال: اكتب؟ قال: ما أكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول برّ أو فاجر أو رزق مرزوق حلال أو حرام ثمّ ألزم كلّ شي‏ء من ذلك شأنه: دخوله في الدنيا و مقامه فيها كم، و خروجه منها كيف؟

ثمّ جعل على العباد حفظة و على الكتاب خزّاناً تحفظه ينسخون كلّ يوم من الخزّان عمل ذلك اليوم فإذا فني ذلك الرزق انقطع الأمر و انقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فيقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئاً فيرجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا.

١٩٧

قال ابن عبّاس: أ لستم قوماً عرباً؟ تسمعون الحفظة يقولون:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) و هل يكون الاستنساخ إلّا من أصل؟.

أقول: و الخبر كما ترى يجعل الآية من كلام الملائكة الحفظة.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس: في الآية قال: يستنسخ الحفظة من اُمّ الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنّما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من اُمّ الكتاب.

و عن كتاب سعد السعود لابن طاووس، قال بعد ذكر الملكين الموكّلين بالعبد: و في رواية: أنّهما إذا أرادا النزول صباحاً و مساءً ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللّوح المحفوظ فيعطيهما ذلك فإذا صعداً صباحاً و مساءً بديوان العبد قابله إسرافيل بالنسخ الّتي انتسخ لهما حتّى يظهر أنّه كان كما نسخ منه.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) و في الحديث يقول الله: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري- فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في نار جهنّم.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن مسلم و أبي داود و ابن ماجة و غيرهم عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٩٨

( سورة الأحقاف مكّيّة و هي خمس و ثلاثون آية)

( سورة الأحقاف الآيات ١ - ١٤)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( ١ ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( ٢ ) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى  وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ ( ٣ ) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ  ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٤ ) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ( ٥ ) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ( ٦ ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ٧ ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ  قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا  هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ  كَفَىٰ بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ  وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ٨ ) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ  إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٩ ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ  إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( ١٠ ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا

١٩٩

مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ  وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ( ١١ ) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً  وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ ( ١٢ ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( ١٣ ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٤ )

( بيان‏)

غرض السورة إنذار المشركين الرادّين للدعوة إلى الإيمان بالله و رسوله بالمعاد بما فيه من أليم العذاب لمنكريه المعرضين عنه، و لذلك تفتتح الكلام بإثبات المعاد:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ) ثمّ يعود إليه عودة بعد عودة كقوله:( وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ ) ، و قوله:( وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) ، و قوله:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ ) ، و قوله:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ ) ، و قوله في مختتم السورة:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ ) الآية.

و فيها احتجاج على الوحدانيّة و النبوّة، و إشارة إلى هلاك قوم هود و هلاك القرى الّتي حول مكّة و إنذارهم بذلك، و إنباء عن حضور نفر من الجنّ عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و استماعهم القرآن و إيمانهم به و رجوعهم إلى قومهم منذرين لهم.

و السورة مكّيّة كلّها إلّا آيتين اختلف فيهما سنشير إليهما في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله، قوله تعالى:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ) إلخ، و قوله:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) الآية.

قوله تعالى: ( حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) تقدّم تفسيره.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429