الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 114938
تحميل: 5403


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114938 / تحميل: 5403
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قوله تعالى: ( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) إلخ، المراد بالسماوات و الأرض و ما بينهما مجموع العالم المشهود علويّة و سفليّة، و الباء في( بِالْحَقِّ ) للملابسة، و المراد بالأجل المسمّى ما ينتهي إليه أمد وجود الشي‏ء، و المراد به في الآية الأجل المسمّى لوجود مجموع العالم و هو يوم القيامة الّذي تطوى(1) فيه السماء كطيّ السجلّ للكتب و تبدّل الأرض(2) غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهّار.

و المعنى: ما خلقنا العالم المشهود بجميع أجزائه العلويّة و السفليّة إلّا ملابساً للحقّ له غاية ثابتة و ملابساً لأجل معيّن لا يتعدّاه وجوده و إذا كان له أجل معيّن يفنى عند حلوله و كانت مع ذلك له غاية ثابتة فبعد هذا العالم عالم آخر هو عالم البقاء و هو المعاد الموعود، و قد تكرّر الكلام فيما تقدّم في معنى كون الخلق بالحقّ.

و قوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ) المراد بالّذين كفروا هم المشركون بدليل الآية التالية لكن ظاهر السياق أنّ المراد بكفرهم كفرهم بالمعاد، و( ما ) في( عَمَّا ) مصدريّة أو موصولة و الثاني هو الأوفق للسياق و المعنى: و المشركون الّذين كفروا بالمعاد عمّا اُنذروا به - و هو يوم القيامة بما فيه من أليم العذاب لمن أشرك بالله - معرضون منصرفون.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) إلى آخر الآية( أَ رَأَيْتُمْ ) بمعنى أخبروني و المراد بما تدعون من دون الله الأصنام الّتي كانوا يدعونها و يعبدونها و إرجاع ضمائر اُولي العقل إليها بعد لكونهم ينسبون إليه أفعال اُولي العقل و حجّة الآية و ما بعدها مع ذلك تجري في كلّ إله معبود من دون الله.

و قوله:( أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ) أروني بمعنى أخبروني و( ما ) اسم استفهام و( ذا ) بعده زائدة و المجموع مفعول( خَلَقُوا ) و من الأرض متعلّق به.

____________________

(1) إشارة إلى الآية 104 فيه من سورة الأنبياء.

(2) إشارة إلى الآية 48 من سورة إبراهيم.

٢٠١

و قوله:( أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) أي شركة في خلق السماوات فإنّ خلق شي‏ء من السماوات و الأرض هو المسؤل عنه.

توضيح ذلك أنّهم و إن لم ينسبوا إليها إلّا تدبير الكون و خصّوا الخلق به سبحانه كما قال تعالى:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) الزمر: 38، و قال:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) الزخرف: 87، لكن لمّا كان الخلق لا ينفكّ عن التدبير أوجب ذلك أن يكون لمن له سهم من التدبير سهم في الخلق و لذلك أمر تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم عمّا لأربابهم الّذين يدعون من دون الله من النصيب في خلق الأرض أو في خلق السماوات فلا معنى للتدبير في الكون من غير خلق.

و قوله:( ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) الإشارة بهذا إلى القرآن، و المراد بكتاب من قبل القرآن كتاب سماويّ كالتوراة نازل من عند الله يذكر شركة آلهتهم في خلق السماوات أو الأرض.

و الأثارة على ما ذكره الراغب مصدر بمعنى النقل و الرواية قال: و أثرت العلم رويته آثره أثرّاً و أثارة و أثرة و أصله تتبّعت أثره انتهى. و عليه فالأثارة في الآية مصدر بمعنى المفعول أي شي‏ء منقول من علم يثبت أنّ لآلهتهم شركة في شي‏ء من السماوات و الأرض، و فسّره غالب المفسّرين بمعنى البقيّة و هو قريب ممّا تقدّم.

و المعنى: ائتوني للدلالة على شركهم لله في خلق شي‏ء من الأرض أو في خلق السماوات بكتاب سماويّ من قبل القرآن يذكر ذلك أو بشي‏ء منقول من علم أو بقيّة من علم أورثتموها يثبت ذلك إن كنتم صادقين في دعواكم أنّهم شركاء لله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) إلخ، الاستفهام إنكاريّ، و تحديد عدم استجابتهم الدعوة بيوم القيامة لما أنّ يوم القيامة أجل مسمّى للدنيا و الدعوة مقصورة في الدنيا و لا دنيا بعد قيام الساعة.

و قوله:( وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ ) صفة اُخرى من صفات آلهتهم مضافة إلى صفة عدم استجابتهم و ليس تعليلاً لعدم الاستجابة فإنّ عدم استجابتهم معلول كونهم لا يملكون لعبّادهم شيئاً قال تعالى:( قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا

٢٠٢

نَفْعاً ) المائدة: 76.

بل هي صفة مضافة إلى صفة مذكورة لتكون توطئة و تمهيداً لما سيذكره في الآية التالية من عداوتهم لهم و كفرهم بعبادتهم يوم القيامة فهم في الدنيا غافلون عن دعائهم و سيطّلعون عليه يوم القيامة فيعادونهم و يكفرون بعبادتهم.

و في الآية دلالة على سراية الحياة و الشعور في الأشياء حتّى الجمادات فإنّ الأصنام من الجماد و قد نسب إليها الغفلة و الغفلة من شؤن ذوي الشعور لا تطلق إلّا على ما من شأن موصوفه أن يشعر.

قوله تعالى: ( وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ ) الحشر إخراج الشي‏ء من مقرّه بإزعاج، و المراد بعث الناس من قبورهم و سوقهم إلى المحشر يوم القيامة فيومئذ يعاديهم آلهتهم و يكفرون بشرك عبّادهم بالتبرّي منهم كما قال تعالى:( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) فاطر: 14، و قال حكاية عنهم:( تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ ) القصص: 63، و قال:( فَكَفى‏ بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ ) يونس: 29.

و في سياق الآيتين تلويح إلى أنّ هذه الجمادات الّتي لا تظهر لنا في هذه النشأة أنّ لها حياة لعدم ظهور آثارها سيظهر في النشأة الآخرة أنّ لها حياة و تظهر آثارها و قد تقدّم بعض الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى:( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الم السجدة: 21.

قوله تعالى: ( وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) الآية و الّتي بعدها مسوقتان للتوبيخ، و المراد بالآيات البيّنات آيات القرآن تتلى عليهم، ثمّ بدّلها من الحقّ الّذي جاءهم حيث قال:( لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ) و كان مقتضى الظاهر أن يقال:( لها ) للدلالة على أنّها حقّ جاءهم لا مسوّغ لرميها بأنّها سحر مبين و هم يعلمون أنّها حقّ مبين فهم متحكّمون مكابرون للحقّ الصريح.

قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً )

٢٠٣

إلخ،( أَمْ ) منقطعة أي بل يقولون افترى القرآن على الله في دعواه أنّه كلامه.

و قوله:( قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً ) أي إن افتريت القرآن لأجلكم أخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب على الافتراء و لستم تقدرون على دفع عذابه عنّي فكيف أفتريه عليه لأجلكم، و المحصّل أنّي على يقين من أمر الله و أعلم أنّه يأخذ المفترى عليه أو يعاجل في عقوبته و أنّكم لا تقدرون على دفع ما يريده فكيف أفتري عليه فأعرض نفسي على عذابه المقطوع لأجلكم؟ أي لست بمفتر عليه.

و يتبيّن بذلك أنّ جزاء الشرط في قوله:( إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي ) إلخ، محذوف و قد اُقيم مقامه ما يجري مجرى ارتفاع المانع، و التقدير: إن افتريته أخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب و لا مانع من قبلكم يمنع عنه، و ليس من قبيل وضع المسبّب موضع السبب كما قيل.

و قوله:( هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ ) الإفاضة في الحديث الخوض فيه و( بِما ) موصولة يرجع إليه ضمير( فيه ) أو مصدريّة و مرجع الضمير هو القرآن، و المعنى: الله سبحانه أعلم بالّذي تخوضون فيه من التكذيب برمي القرآن بالسحر و الافتراء على الله أو المعنى: هو أعلم بخوضكم في القرآن.

و قوله:( كَفى‏ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) احتجاج ثان على نفي الافتراء و أوّل الاحتجاجين قوله:( إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً ) و قد تقدّم بيانه آنفاً، و معنى الجملة: أنّ شهادة الله سبحانه في كلامه بأنّه كلامه و ليس افتراء منّي يكفي في نفي كوني مفترياً به عليه، و قد صدّق سبحانه هذه الدعوى بقوله:( لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) النساء: 166، و ما في معناه من الآيات، و أمّا أنّه كلامه فيكفي في ثبوته آيات التحدّي.

و قوله:( وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) تذييل الآية بالاسمين الكريمين للاحتجاج على نفي ما يتضمّنه تحكّمهم الباطل من نفي الرسالة كأنّه قيل: إنّ قولكم:( افْتَراهُ ) يتضمّن دعويين: دعوى عدم كون هذا القرآن من كلام الله و دعوى بطلان الرسالة - و الوثنيّون ينفونها مطلقاً - أمّا الدعوى الاُولى فيدفعه أوّلاً: أنّه إن افتريته فلا تملكون،

٢٠٤

إلخ، و ثانياً: أنّ الله يكفيني شهيداً على كونه كلامه لا كلامي.

و أمّا الدعوى الثانية فيدفعها أنّ الله سبحانه غفور رحيم، و من الواجب في حكمته أن يعامل خلقه بالمغفرة و الرحمة و لا تشملان إلّا التائبين الراجعين إليه الصالحين لذلك و ذلك بأن يهديهم إلى صراط يقرّبهم منه سلوكه فتشملهم مغفرته و رحمته بحطّ السيّئات و الاستقرار في دار السعادة الخالدة، و كونه واجباً في حكمته لأنّ فيهم صلاحية هذا الكمال و هو الجواد الكريم، قال تعالى:( وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) إسراء: 20، و قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) النحل: 9، و السبيل إلى هذه الهداية هي الدعوة من طريق الرسالة فمن الواجب في الحكمة أن يرسل إلى الناس رسولاً يدعوهم إلى سبيله الموصلة إلى مغفرته و رحمته.

قوله تعالى: ( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) إلخ، البدع ما كان غير مسبوق بالمثل من حيث صفاته أو من حيث أقواله و أفعاله و لذا فسّره بعضهم بأنّ المعنى: ما كنت أوّل رسول اُرسل إليكم لا رسول قبلي، و قيل: المعنى: ما كنت مبدعاً في أقوالي و أفعالي لم يسبقني إليها أحد من الرسل.

و المعنى الأوّل لا يلائم السياق و لا قوله المتقدّم:( وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) بالمعنى الّذي تقدّم توجيهه فثاني المعنيين هو الأنسب، و عليه فالمعنى: لست اُخالف الرسل السابقين في صورة أو سيرة و في قول أو فعل بل أنا بشر مثلهم فيّ من آثار البشريّة ما فيهم و سبيلهم في الحياة سبيلي.

و بهذه الجملة يجاب عن مثل ما حكاه الله من قولهم:( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ) الفرقان: 8.

و قوله:( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) نفي لعلم الغيب عن نفسه فهو نظير قوله:( وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ ) الأعراف: 188، و الفرق بين الآيتين أنّ قوله:( وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) إلخ، نفي للعلم بمطلق الغيب و استشهاد له بمسّ السوء و عدم الاستكثار من الخير، و قوله:( وَ ما أَدْرِي

٢٠٥

ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) نفي للعلم بغيب خاصّ و هو ما يفعل به و بهم من الحوادث الّتي يواجهونها جميعاً، و ذلك أنّهم كانوا يزعمون أنّ المتلبّس بالنبوّة لو كان هناك نبيّ يجب أن يكون عالماً في نفسه بالغيوب ذا قدرة مطلقة غيبيّة كما يظهر من اقتراحاتهم المحكيّة في القرآن فاُمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعترف - مصرّحاً به - أنّه لا يدري ما يفعل به و لا بهم فينفي عن نفسه العلم بالغيب، و أنّ ما يجري عليه و عليهم من الحوادث خارج عن إرادته و اختياره و ليس له في شي‏ء منها صنع بل يفعله به و بهم غيره و هو الله سبحانه.

فقوله:( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) كما ينفي عنه العلم بالغيب ينفي عنه القدرة على شي‏ء ممّا يصيبه و يصيبهم ممّا هو تحت أستار الغيب.

و نفي الآية العلم بالغيب عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينافي علمه بالغيب من طريق الوحي كما يصرّح تعالى به في مواضع من كلامه كقوله:( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) آل عمران: 44، يوسف: 102، و قوله:( تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ) هود: 49، و قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ ) الجنّ: 27 و من هذا الباب قول المسيحعليه‌السلام :( وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) آل عمران: 49، و قول يوسفعليه‌السلام لصاحبي السجن:( لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ) يوسف: 37.

وجه عدم المنافاة أنّ الآيات النافية للعلم بالغيب عنه و عن سائر الأنبياءعليهم‌السلام إنّما تنفيه عن طبيعتهم البشريّة بمعنى أن تكون لهم طبيعة بشريّة أو طبيعة هي أعلى من طبيعة البشر من خاصّتها العلم بالغيب بحيث يستعمله في جلب كلّ نفع و دفع كلّ شرّ كما نستعمل ما يحصل لنا من طريق الأسباب و هذا لا ينافي انكشاف الغيب لهم بتعليم إلهيّ من طريق الوحي كما أنّ إتيانهم بالمعجزات فيما أتوا بها ليس عن قدرة نفسيّة فيهم يملكونها لأنفسهم بل بإذن من الله تعالى و أمر، قال تعالى:( قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا ) الإسراء: 93، جواباً عمّا اقترحوا عليه من الآيات، و قال:( قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) العنكبوت: 50،

٢٠٦

و قال:( وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ) المؤمن: 78.

و يشهد بذلك قوله بعده متّصلاً به:( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‏ إِلَيَّ ) فإنّ اتّصاله بما قبله يعطي أنّه في موضع الإضراب، و المعنى: إنّي ما أدري شيئاً من هذه الحوادث بالغيب من قبل نفسي و إنّما أتّبع ما يوحى إليّ من ذلك.

و قوله:( وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) تأكيد لجميع ما تقدّم في الآية من قوله:( ما كُنْتُ بِدْعاً ) إلخ، و( وَ ما أَدْرِي ) إلخ، و قوله:( إِنْ أَتَّبِعُ ) إلخ.

( بحث فلسفي و دفع شبهة)

تظافرت الأخبار من طرق أئمّة أهل البيت أنّ الله سبحانه علّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأئمّةعليهم‌السلام علم كلّ شي‏ء، و فسّر ذلك في بعضها أنّ علم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق الوحي و أنّ علم الأئمّةعليهم‌السلام ينتهي إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و اُورد عليه أنّ المأثور من سيرتهم أنّهم كانوا يعيشون مدى حياتهم عيشة سائر الناس فيقصدون مقاصدهم ساعين إليها على ما يرشد إليه الأسباب الظاهرية و يهدي إليه السبل العاديّة فربّما أصابوا مقاصدهم و ربّما أخطأ بهم الطريق فلم يصيبوا، و لو علموا الغيب لم يخيبوا في سعيهم أبداً فالعاقل لا يترك سبيلاً يعلم يقيناً أنّه مصيب فيه و لا يسلك سبيلاً يعلم يقيناً أنّه مخطئ فيه.

و قد اُصيبوا بمصائب ليس من الجائز أن يلقي الإنسان نفسه في مهلكتها لو علم بواقع الأمر كما اُصيب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم اُحد بما اُصيب، و اُصيب عليّعليه‌السلام في مسجد الكوفة حين فتك به المراديّ لعنه الله، و اُصيب الحسينعليه‌السلام فقتل في كربلاء، و اُصيب سائر الأئمّة بالسمّ، فلو كانوا يعلمون ما سيجري عليهم كان ذلك من إلقاء النفس في التهلكة و هو محرّم، و الإشكال كما ترى مأخوذ من الآيتين:( وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ) ( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) .

٢٠٧

و يردّه أنّه مغالطة بالخلط بين العلوم العاديّة و غير العاديّة فالعلم غير العاديّ بحقائق الاُمور لا أثر له في تغيير مجرى الحوادث الخارجيّة.

توضيح ذلك أنّ أفعالنا الاختياريّة كما تتعلّق بإرادتنا كذلك تتعلّق بعلل و شرائط اُخرى مادّيّة زمانيّة و مكانيّة إذا اجتمعت عليها تلك العلل و الشرائط و تمّت بالإرادة تحقّقت العلّة التامّة و كان تحقّق الفعل عند ذلك واجباً ضروريّاً إذ من المستحيل تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

فنسبة الفعل و هو معلول إلى علّته التامّة نسبة الوجوب و الضرورة كنسبة جميع الحوادث إلى عللها التامّة، و نسبته إلى إرادتنا و هي جزء علّته نسبة الجواز و الإمكان.

فتبيّن أنّ جميع الحوادث الخارجيّة و منها أفعالنا الاختياريّة واجبة الحصول في الخارج واقعة فيها على صفة الضرورة و لا ينافي ذلك كون أفعالنا الاختياريّة ممكنة بالنسبة إلينا مع وجوبها على ما تقدّم.

فإذا كان كلّ حادث و منها أفعالنا الاختياريّة بصفة الاختيار معلولاً له علّة تامّة يستحيل معها تخلّفه عنها كانت الحوادث سلسلة منتظمة يستوعبها الوجوب لا يتعدّى حلقة من حلقاتها موضعها و لا تتبدّل من غيرها و كان الجميع واجباً من أوّل يوم سواء في ذلك ما وقع في الماضي و ما لم يقع بعد، فلو فرض حصول علم بحقائق الحوادث على ما هي عليها في متن الواقع لم يؤثّر ذلك في إخراج حادث منها و إن كان اختيارياً عن ساحة الوجوب إلى حدّ الإمكان.

فإن قلت: بل يقع هذا العلم اليقينيّ في مجرى أسباب الأفعال الاختياريّة كالعلم الحاصل من الطرق العاديّة فيستفاد منه فيما إذا خالف العلم الحاصل من الطرق العاديّة فيصير سبباً للفعل أو الترك حيث يبطل معه العلم العاديّ.

قلت: كلّا فإنّ المفروض تحقّق العلّة التامّة للعلم العاديّ مع سائر أسباب الفعل الاختياريّ فمثله كمثل أهل الجحود و العناد من الكفّار يستيقنون بأنّ مصيرهم مع الجحود إلى النار و مع ذلك يصرّون على جحودهم لحكم هواهم بوجوب الجحود و هذا منهم هو العلم العاديّ بوجوب الفعل، قال تعالى في قصّة آل فرعون:( وَ جَحَدُوا بِها

٢٠٨

وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: 14.

و بهذا يندفع ما يمكن أن يقال: لا يتصوّر علم يقينيّ بالخلاف مع عدم تأثيره في الإرادة فليكشف عدم تأثيره في الإرادة عن عدم تحقّق علم على هذا الوصف.

وجه الاندفاع: أنّ مجرّد تحقّق العلم بالخلاف لا يستوجب تحقّق الإرادة مستندة إليه و إنّما هو العلم الّذي يتعلّق بوجوب الفعل مع التزام النفس به كما مرّ في جحود أهل الجحود و إنكارهم الحقّ مع يقينهم به و مثله الفعل بالعناية فإنّ سقوط الواقف على جذع عال، منه على الأرض بمجرّد تصوّر السقوط لا يمنع عنه علمه بأنّ في السقوط هلاكه القطعيّ.

و قد أجاب بعضهم عن أصل الإشكال بأنّ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأئمّةعليهم‌السلام تكاليف خاصّة بكلّ واحد منهم فعليهم أن يقتحموا هذه المهالك و إن كان ذلك منّا إلقاء النفس في التهلكة و هو حرام، و إليه إشارة في بعض الأخبار.

و أجاب بعضهم عنه بأنّ الّذي ينجّز التكاليف من العلم هو العلم من الطرق العاديّة و أمّا غيره فليس بمنجّز، و يمكن توجيه الوجهين بما يرجع إلى ما تقدّم.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ ) إلخ، ضمائر( كانَ ) و( بِهِ ) و( مِثْلِهِ ) على ما يعطيه السياق للقرآن، و قوله:( وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ) إلخ، معطوف على الشرط و يشاركه في الجزاء، و المراد بمثل القرآن مثله من حيث مضمونه في المعارف الإلهيّة و هو كتاب التوراة الأصليّة الّتي نزلت على موسىعليه‌السلام ، و قوله:( فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ ) أي فآمن الشاهد الإسرائيليّ المذكور بعد شهادته.

و قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) تعليل للجزاء المحذوف دالّ عليه، و الظاهر أنّه أ لستم ضالّين لا ما قيل: إنّه أ لستم ظلمتم لأنّ التعليل بعدم هداية الله الظالمين إنّما يلائم ضلالهم لا ظلمهم و إن كانوا متّصفين بالوصفين جميعاً.

و المعنى: قل للمشركين: أخبروني إن كان هذا القرآن من عندالله و الحال أنّكم

٢٠٩

كفرتم به و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما في القرآن من المعارف فآمن هو و استكبرتم أنتم أ لستم في ضلال؟ فإنّ الله لا يهدي القوم الظالمين.

و الّذي شهد على مثله فآمن على ما في بعض الأخبار هو عبدالله بن سلام من علماء اليهود، و الآية على هذا مدنيّة لا مكّيّة لأنّه ممّن آمن بالمدينة، و قول بعضهم: من الجائز أن يكون التعبير بالماضي في قوله:( وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ مِثْلِهِ فَآمَنَ ) لتحقّق الوقوع و القصّة واقعة في المستقبل سخيف لأنّه لا يلائم كون الآية في سياق الاحتجاج فالمشركون ما كانوا ليسلموا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدقه فيما يخبرهم به من الاُمور المستقبلة.

و في معنى الآية أقوال اُخر منها أنّ المراد ممّن شهد على مثله فآمن هو موسىعليه‌السلام شهد على التوراة فآمن به و إنّما عدلوا عن المعنى السابق إلى هذا المعنى للبناء على كون الآية مكّيّة، و أنّه إنّما أسلم عبدالله بن سلام بالمدينة.

و فيه أوّلاً: عدم الدليل على كون الآية مكّيّة و لتكن القصّة دليلاً على كونها مدنيّة، و ثانياً: بُعد أن يجعل موسى الكليمعليه‌السلام قريناً لهؤلاء المشركين الأجلاف يقاسون به فيقال ما محصّله: أنّ موسىعليه‌السلام آمن بالكتاب النازل عليه و أنتم استكبرتم عن الإيمان بالقرآن فسخافته ظاهرة.

و ممّا قيل إنّ المثل في الآية بمعنى نفس الشي‏ء كما قيل في قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: 11، و هو في البعد كسابقه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ) إلى آخر الآية قيل: اللّام في قوله:( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) للتعليل أي لأجل إيمانهم و يؤل إلى معنى في، و ضمير( كان ) و( إليه ) للقرآن من جهة الإيمان به.

و المعنى: و قال الّذين كفروا في الّذين آمنوا - أي لأجل إيمانهم -: لو كان الإيمان بالقرآن خيراً ما سبقونا - أي المؤمنون - إليه.

و قال بعضهم: إنّ المراد بالّذين آمنوا بعض المؤمنين و بالضمير العائد إليه في

٢١٠

قوله:( سبقونا ) البعض الآخر، و اللّام متعلّق بقال و المعنى: و قال الّذين كفروا لبعض المؤمنين لو كان خيراً ما سبقنا البعض من المؤمنين و هم الغائبون إليه، و فيه أنّه بعيد من سياق الآية.

و قال آخرون: إنّ المراد بالّذين آمنوا المؤمنون جميعاً لكن في قوله:( ما سَبَقُونا ) التفاتا و الأصل ما سبقتمونا و هو في البعد كسابقه و ليس خطاب الحاضرين بصيغة الغيبة من الالتفات في شي‏ء.

و قوله:( وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ ) ضمير( به ) للقرآن و كذا الإشارة بهذا إليه و الإفك الافتراء أي و إذ لم يهتدوا بالقرآن لاستكبارهم عن الإيمان به فسيقولون أي الّذين كفروا هذا أي القرآن إفك و افتراء قديم، و قولهم: هذا إفك قديم كقولهم:( أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى‏ إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا ) إلخ، الظاهر أنّ قوله:( وَ مِنْ قَبْلِهِ ) إلخ، جملة حاليّة و المعنى: فسيقولون هذا إفك قديم و الحال أنّ كتاب موسى حال كونه إماماً و رحمةً قبله أي قبل القرآن و هذا القرآن كتاب مصدّق له حال كونه لساناً عربيّاً ليكون منذراً للّذين ظلموا و هو بشرى للمحسنين فكيف يكون إفكاً؟

و كون التوراة إماماً و رحمةً هو كونها بحيث يقتدي بها بنو إسرائيل و يتّبعونها في أعمالهم و رحمة للّذين آمنوا بها و اتّبعوها في إصلاح نفوسهم.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) إلى آخر الآية المراد بقولهم ربّنا الله إقرارهم و شهادتهم بانحصار الربوبيّة في الله سبحانه و توحّده فيها، و باستقامتهم ثباتهم على ما شهدوا به من غير زيغ و انحراف و التزامهم بلوازمه العمليّة.

و قوله:( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) أي ليس قبالهم مكروه محتمل يخافونه من عقاب محتمل، و لا مكروه محقّق يحزنون به من عقاب أو هول، فالخوف

٢١١

إنّما يكون من مكروه ممكن الوقوع، و الحزن من مكروه محقّق الوقوع، و الفاء في قوله:( فَلا خَوْفٌ ) إلخ، لتوهّم معنى الشرط فإنّ الكلام في معنى من قال ربّنا الله ثمّ استقام فلا خوف إلخ.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) المراد بصحابة الجنّة ملازمتها، و قوله:( خالِدِينَ فِيها ) حال مؤكّدة لمعنى الصحابة.

و المعنى: اُولئك الّذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا ملازمون للجنّة حال كونهم خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا من الطاعات و القربات.

( بحث روائي‏)

في الكافي، بإسناده عن أبي عبيدة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله تعالى:( ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) قال: عنى بالكتاب التوراة و الإنجيل( و أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) فإنّما عنى بذلك علم أوصياء الأنبياء.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبدالرحمن عن ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) قال: الخطّ.

أقول: لعلّ المراد بالخطّ كتاب مخطوط موروث من الأنبياء أو العلماء الماضين لكن في بعض ما روي في تفسير قوله:( أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) أنّه حسن الخطّ و في بعض آخر أنّه جودة الخطّ و هو أجنبيّ من سياق الاحتجاج الّذي في الآية.

و في العيون، في باب مجلس الرضا مع المأمون عنهعليه‌السلام حدّثني أبي عن جدّي عن آبائه عن الحسين بن عليّعليهم‌السلام قال: اجتمع المهاجرون و الأنصار إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: إنّ لك يا رسول الله مؤنة في نفقتك و فيمن يأتيك من الوفود، و هذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارّاً مأجوراً أعط ما شئت و احكم ما شئت من غير حرج.

٢١٢

قال: فأنزل الله تعالى إليه الروح الأمين فقال: يا محمّد( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً- إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ ) يعني أن تودّوا قرابتي من بعدي، فخرجوا فقال المنافقون: ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلّا ليحثّنا على قرابته من بعده، و إن هو إلّا شي‏ء افتراه في مجلسه و كان ذلك من قولهم عظيماً.

فأنزل الله عزّوجلّ هذه الآية( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى‏ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) فبعث إليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: هل من حدث؟ فقالوا: إي و الله يا رسول الله لقد قال بعضنا كلاماً غليظاً كرهناه فتلا عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية فبكوا و اشتدّ بكاؤهم فأنزل الله تعالى:( وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوداود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عبّاس في قوله:( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) قال: نسختها هذه(1) الآية الّتي في الفتح فخرج إلى الناس فبشّرهم بالّذي غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر.

فقال رجل من المؤمنين: هنيئا لك يا نبيّ الله قد علمنا الآن ما يفعل بك فما ذا يفعل بنا؟ فأنزل الله في سورة الأحزاب( وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيراً ) و قال:( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً ) فبيّن الله ما به يفعل و بهم.

أقول: الرواية لا تخلو من شي‏ء:

أمّا أوّلاً: فلمّا تقدّم بيانه في تفسير الآية أعني قوله:( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) أنّها أجنبيّة عن العلم بالغيب الّذي هو من طريق الوحي بدلالة صريحة من القرآن فلا ينفي بها العلم بالمغفرة من طريق الوحي حتّى تنسخها آية سورة الفتح.

____________________

(1) يريد قوله تعالى: ( لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) الفتح: 2.

٢١٣

و أمّا ثانياً: فلأنّ ظاهر الرواية أنّ الذنب الّذي تصرّح بمغفرته آية سورة الفتح هو الذنب بمعنى مخالفة الأمر و النهي المولويّين و سيأتي في تفسير سورة الفتح - إن شاء الله تعالى - أنّ الذنب في الآية لغير هذا المعنى.

و أمّا ثالثاً: فلأنّ الآيات الدالّة على دخول المؤمنين الجنّة كثيرة جدّاً في مكّيّة السور و مدنيّتها و لا تدلّ آيتا سورة الأحزاب على أزيد ممّا يدلّ عليه سائر الآيات فلا وجه لتخصيصهما بالدلالة على دخول المؤمنين الجنّة و شمول المغفرة لهم.

على أنّ سورة الأحزاب نازلة قبل سورة الفتح بزمان.

و فيه، أخرج أبويعلى و ابن جرير و الطبرانيّ و الحاكم و صحّحه بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعيّ قال: انطلق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنا معه حتّى دخلنا على كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم.

فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلّا الله و أنّ محمّداً رسول الله يحبط الله عن كلّ يهوديّ تحت أديم السماء الغضب الّذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثمّ ردّ عليهم فلم يجبه أحد فثلّث فلم يجبه أحد فقال: أبيتم فوالله لأنا الحاشر و أنا العاقب و أنا المقفي آمنتم أو كذّبتم.

ثمّ انصرف و أنا معه حتّى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمّد، فأقبل فقال ذلك الرجل: أيّ رجل تعلمونني فيكم يا معشر اليهود؟ فقالوا: و الله لا نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله و لا أفقه منك و لا من أبيك و لا من جدّك، فقال: إنّي أشهد بالله أنّه النبيّ الّذي تجدونه في التوراة و الإنجيل، قالوا: كذبت ثمّ ردّوا عليه و قالوا شرّاً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذبتم لن يقبل منكم قولكم.

فخرجنا و نحن ثلاث: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنا و ابن سلام فأنزل الله:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

أقول: و في نزول الآية في عبدالله بن سلام روايات اُخرى من طرق أهل السنّة

٢١٤

غير هذه الرواية، و سياق الآية و خاصّة قوله:( مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ) لا يلائم كون الخطاب فيها لبني إسرائيل، و قد عدّ الإنجيل في الرواية من كتبهم و ليس من كتبهم و اليهود لا يصدّقونه.

و في بعض الروايات أنّ الآية نزلت في ابن يامين من علمائهم حين شهد و أسلم فكذّبته اليهود، و الإشكال السابق على حاله.

٢١٥

( سورة الأحقاف الآيات 15 - 20)

وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا  حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا  وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي  إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 15 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ  وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( 16 ) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( 17 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ  إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( 18 ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا  وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( 19 ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ( 20 )

٢١٦

( بيان‏)

لمّا قسّم الناس في قوله:( لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى‏ لِلْمُحْسِنِينَ ) إلى ظالمين و محسنين و اُشير فيه إلى أنّ للظالمين ما يخاف و يحذر و للمحسنين ما يسرّ الإنسان و يبشّر به عقّب ذلك في هذا الفصل من الآيات بتفصيل القول فيه، و أنّ الناس بين قوم تائبين إلى الله مسلمين له و هم الّذين يتقبّل أحسن أعمالهم و يتجاوز عن سيّئاتهم في أصحاب الجنّة، و قوم خاسرين حقّ عليهم القول في اُمم قد خلت من قبلهم من الجنّ و الإنس.

و مثل الطائفة الاُولى بمن كان مؤمناً بالله مسلماً له بارّاً بوالديه يسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم عليه و على والديه و العمل الصالح و إصلاح ذرّيّته، و الطائفة الثانية بمن كان عاقّاً لوالديه إذا دعواه إلى الإيمان بالله و اليوم الآخر فيزجرهما و يعد ذلك من أساطير الأوّلين.

قوله تعالى: ( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً ) إلى آخر الآية، الوصيّة على ما ذكره الراغب هو التقدّم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ و التوصية تفعيل من الوصيّة قال تعالى:( وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ ) البقرة: 132، فمفعوله الثاني الّذي يتعدّى إليه بالباء من قبيل الأفعال، فالمراد بالتوصية بالوالدين التوصية بعمل يتعلّق بهما و هو الإحسان إليهما.

و على هذا فتقدير الكلام: و وصّينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحساناً.

و في إعراب:( إِحْساناً ) أقوال اُخر كقول بعضهم: إنّه مفعول مطلق على تضمين( وصينا) معنى أحسنّا، و التقدير: وصّينا الإنسان محسنين إليهما إحساناً، و قول بعضهم: إنّه صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاءً ذا إحسان، و قول بعضهم: هو مفعول له، و التقدير: وصّيناه بهما لإحساننا إليهما، إلى غير ذلك ممّا قيل.

و كيف كان فبرّ الوالدين و الإحسان إليهما من الأحكام العامّة المشرّعة في جميع الشرائع كما تقدّم في تفسير قوله تعالى:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا

٢١٧

تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) الأنعام: 151، و لذلك قال:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ ) فعمّمه لكلّ إنسان.

ثمّ عقّبه سبحانه بالإشارة إلى ما قاسته اُمّه في حمله و وضعه و فصاله إشعاراً بملاك الحكم و تهييجاً لعواطفه و إثارة لغريزة رحمته و رأفته فقال:( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) أي حملته اُمّه حملاً ذا كره أي مشقّة و ذلك لما في حمله من الثقل، و وضعته وضعاً ذا كره و ذلك لما عنده من ألم الطلق.

و أمّا قوله:( وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) فقد اُخذ فيه أقلّ مدّة الحمل و هو ستّة أشهر، و الحولان الباقيان إلى تمام ثلاثين شهراً مدّة الرضاع، قال تعالى:( وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) البقرة: 233، و قال:( وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) لقمان: 14.

و الفصال التفريق بين الصبيّ و بين الرضاع، و جعل العامين ظرفاً للفصال بعناية أنّه في آخر الرضاع و لا يتحقّق إلّا بانقضاء عامين.

و قوله:( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) بلوغ الأشدّ بلوغ زمان من العمر تشتدّ فيه قوى الإنسان، و قد مرّ نقل اختلافهم في معنى بلوغ الأشدّ في تفسير قوله:( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً ) يوسف: 22، و بلوغ الأربعين ملازم عادة لكمال العقل.

و قوله:( قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى‏ والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) الإيزاع الإلهام، و هذا الإلهام ليس بإلهام علم يعلم به الإنسان ما جهلته نفسه بحسب الطبع كما في قوله:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: 8، بل هو إلهام عمليّ بمعنى البعث و الدعوة الباطنيّة إلى فعل الخير و شكر النعمة و بالجملة العمل الصالح.

و قد اُطلق النعمة الّتي سأل إلهام الشكر عليها فتعمّ النعم الظاهريّة كالحياة و الرزق و الشعور و الإرادة، و الباطنيّة كالإيمان بالله و الإسلام و الخشوع له و التوكّل عليه و التفويض إليه ففي قوله:( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ) إلخ، سؤال أن يلهمه الثناء

٢١٨

عليه بإظهار نعمته قولاً و فعلاً: أمّا قولاً فظاهر، و أمّا فعلاً فباستعمال هذه النعم استعمالاً يظهر به أنّها لله سبحانه أنعم بها عليه و ليست له من قبل نفسه و لازمه ظهور العبوديّة و المملوكيّة من هذا الإنسان في قوله و فعله جميعاً.

و تفسير النعمة بقوله:( الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى‏ والِدَيَّ ) يفيد شكره من قبل نفسه على ما اختصّ به من النعمة و من قبل والديه فيما أنعم به عليهما فهو لسان ذاكر لهما بعدهما.

و قوله:( وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) عطف على قوله:( أَنْ أَشْكُرَ ) إلخ، سؤال متمّم لسؤال الشكر على النعم فإنّ الشكر يحلّي ظاهر الأعمال، و الصلاحية الّتي يرتضيها الله تعالى تحلّي باطنها و تخلّصها له تعالى.

و قوله:( وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) الإصلاح في الذرّيّة إيجاد الصلاح فيهم و هو من الله سبحانه توفيقهم للعمل الصالح و ينجرّ إلى إصلاح نفوسهم، و تقييد الإصلاح بقوله:( لي ) للدلالة على أن يكون إصلاحهم بنحو ينتفع هو به أي أن يكون ذرّيّته له في برّه و إحسانه كما كان هو لوالديه.

و محصّل الدعاء سؤال أن يلهمه الله شكر نعمته و صالح العمل و أن يكون بارّاً محسناً بوالديه و يكون ذرّيّته له كما كان هو لوالديه، و قد تقدّم(1) غير مرّة أنّ شكر نعمه تعالى بحقيقة معناه هو كون العبد خالصاً لله فيؤل معنى الدعاء إلى سؤال خلوص النفس و صلاح العمل.

و قوله:( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أي الّذين يسلّمون الأمر لك فلا تريد شيئاً إلّا أرادوه بل لا يريدون إلّا ما أردت.

و الجملة في مقام التعليل لما يتضمّنه الدعاء من المطالب، و يتبيّن بالآية حيث ذكر الدعاء و لم يردّه بل أيّده بما وعد في قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ) إلخ، إنّ التوبة و الإسلام لله سبحانه إذا اجتمعاً في العبد استعقب ذلك الهامة تعالى بما يصير به العبد من المخلصين - بفتح اللّام - ذاتاً و المخلصين - بكسر اللّام - عملاً أمّا إخلاص الذات

____________________

(1) تفسير الآية 144 من سورة آل عمران و الآية 17 من سورة الأعراف.

٢١٩

فقد تقدّمت الإشارة إليه آنفاً، و أمّا إخلاص العمل فلأنّ العمل لا يكون صالحاً لقبوله‏ تعالى مرفوعاً إليه إلّا إذا كان خالصاً لوجهه الكريم، قال تعالى:( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) الزمر: 3.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ ) إلخ، التقبّل أبلغ من القبول، و المراد بأحسن ما عملوا طاعاتهم من الواجبات و المندوبات فإنّها هي المقبولة المتقبّلة و أمّا المباحات فإنّها و إن كانت ذات حسن لكنّها ليست بمتقبّلة، كذا ذكر في مجمع البيان و هو تفسير حسن و يؤيّده مقابلة تقبّل أحسن ما عملوا بالتجاوز عن السيّئات فكأنّه قيل: إنّ أعمالهم طاعات من الواجبات و المندوبات و هي أحسن أعمالهم فنتقبّلها و سيّئات فنتجاوز عنها و ما ليس بطاعة و لا حسنة فلا شأن له من قبول و غيره.

و قوله:( فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ ) متعلّق بقوله:( نَتَجاوَزُ ) أي نتجاوز عن سيّئاتهم في جملة من نتجاوز عن سيّئاتهم من أصحاب الجنّة، فهو حال من ضمير( عَنْهُمْ ) .

و قوله:( وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) أي يعدّهم الله بهذا الكلام وعد الصدق الّذي كانوا يوعدونه إلى هذا الحين بلسان الأنبياء و الرسل، أو المراد أنّه ينجزّ لهم بهذا التقبّل و التجاوز يوم القيامة وعد الصدق الّذي كانوا يوعدونه في الدنيا.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ) لمّا ذكر الإنسان الّذي تاب إلى الله و أسلم له و سأله الخلوص و الإخلاص و برّ والديه و إصلاح أولاده له قابله بهذا الإنسان الّذي يكفر بالله و رسوله و المعاد و يعقّ والديه إذا دعواه إلى الإيمان و أنذراه بالمعاد.

فقوله:( وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ) الظاهر أنّه مبتدأ في معنى الجمع و خبره قوله بعد:( أُولئِكَ الَّذِينَ ) إلخ، و( أف ) كلمة تبرّم يقصد بها إظهار التسخّط و التوجّع و( أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) الاستفهام للتوبيخ، و المعنى: أ تعدانني أن اُخرج من قبري فاُحيا و اُحضر للحساب أي أ تعدانني المعاد( وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ) أي

٢٢٠