الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120175 / تحميل: 6179
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

ورد في كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان )(١) ثلاث حكايات وقعت ببركة صاحب المقام عجل الله تعالى فرجه الشريففي القرن الثامن الهجري ، لم تقتري الحكاية الأولى بتاريخ لكن الحكايتين التاليتين ورد فيهما تاريخ صريح ، فلنورد الحكاية الأولى ثم الثانية والثالثة تباعاً

وقبل أن ننقل الحكايات الثلاث ، تذكر ترجمة صاحب الكتاب ، وثناء العلماء عليه حتى يتبين لنا صدقه في النقل.

أقول : إن مؤلف كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الإيمان ) ، هو السيد بهاء الدين علي ابن السيد غياث الدين عبد الكريم بن عبد الحميد بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن علي بن محمد بن علي غياث الدين(٢) ابن السيد جلال الدين عبد الحميد(٣) بن عبد الله بن أسامة(٤) بن أحمد بن علي بن محمد بن عمر(٥) بن يحيى ( القائم

__________________

١ ـ نقلاً عن بحار الأنوار / للعلامة المجلسي ( أعلى الله مقامه ).

٢ ـ الذي خرج عليه جماعة من العرب بشط سوراء بالعراق وحملوا عليه وسلبوه فمانعهم عن سلب سراويله فضربه أحدهم فقتله وكان عالماً تقياً.

٣ ـ الذي يروي عنه محمد بن جعفر المشهدي في المزار الكبير وقال فيه : أخبرني السيد الأجل العالم عبد الحميد بن التقي عبد الله بن أسامة العلوي الحسيني رَضيَ اللهُ عَنه في ذي القعدة نم سنة ثمانين وخمسمائة قراءة عليه بحلة الجامعين.

٤ ـ متولّي النقابة بالعراق.

٥ ـ الوئيس الجليل الذي رد الله على يده الحجر الأسود لما نهبت القرامطة مكة في سنة

٦٢

٦٣

بالكوفة ) ابن الحسين ( النقيب الطاهر ابن أبي عاتقة أحمد الشاعر المحدث ) ابن أبي علي عمر بن أبي الحسين يحيى(١) ابن أبي عاتقة الزاهد العابد الحسين(٢) بن زيد الشهيد ابن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب: النيلي(٣) النجفي النسابة.

وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد المجاز منه في ٧٩١ هـ أدرك أواخر عهد فخر المحققين تـ ٧٧١ هـ والسيدين العلمين عميد الدين وضياء الدين والشهيد محمد بن مكي العاملي ويروي عنهم جميعاً ، كما يروي عن الشيخ المقريء والحافظ شمس الدين محمد بن قارون وغيرهم.

وأما كتابه هذا فقد نقل عنه الشيخ حسن ين سليمان الحلي ( من علماء القرن التاسع ) في كتابه ( مختصر بصائر الدرجات ) ص ١٧٦ ، والعلامة المجلسي; في ( بحار الأنوار ) ، والميرزا الافندي; في ( رياض العلماء ) والبهبهاني; في ( الدمعة الساكبة ).

__________________

ثلاث وعشرين وثلاثمائة وأخذوا الحجر وأتو به إلى الكوفة وعلقوه في السارية السابعة من المسجد التي كان ذكرها أمير المؤمنين7 فإنه قال ذات يوم بالكوفة : لا بد أن يسلب في هذه السارية وأومى إلى السارية السابعة والقصة طويلة وبنى قبة جده أمير المؤمنين7 من خالص ماله.

١ ـ من أصحاب الكاظم7 المقتول سنة خمسين ومثتين الذي حمل رأسه في قوصرة إلى المستعين.

٢ ـ الملقب بذي الدمعة الذي رباه الإمام الصادق7 وأورثه علماً جمّا.

٣ ـ النيل : بلدة تقع على نهر النيل ، وهو يتفرع من نهر الفرات العظمى احتفره الحجاج بن يوسف الثقفي سنة ٨٢ هـ وهي مركز الإمارة المزيدية قبل تأسيس الحلة.

٦٤

ويظهر من بعض حكايات الكتاب أن تاريخ كتابته سنة ٧٨٩ هـ(١) وللسيد هذا كتب أخرى لا أرى بايراد أسمائها هنا بأساً :

أ ـ كتاب الأنوار المضيّة في الحكم الشرعية.

ب ـ كتاب الغيبة.

جـ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد.

د ـ سرور أهل الإيمان.

هـ ـ كتاب الانحراف من كلام صاحب الكشاف.

و ـ كتاب الأنصاف في الرد على صاحب الكشاف.

ز ـ كتاب شرح المصباح للشيخ الطوسي.

ي ـ كتاب الرجال ( ينسب اليه ).

في الثناء عليه :

قال تلميذه ابن فهد الحلي; تـ ٨٤١ هـ : حدثني المولى السيد السعيد الإمام بهاء الدين

وقال تلميذه الشيخ حسن بن سليمان الحلي; : ومما رواه لي ورويته عنه السيد الجليل السعيد الموفق الموثق بهاء الدين

وقال العلامة المجلسي; : السيد النقيب الحسيب بهاء الدين

وقال الميرزا الافندي; : السيد المرتضى النقيب الحسيب

__________________

١ ـ وللاسف الشديد ان هذا الكتاب لم يطبع إلى الآن برغم وجود نسخه الخطية في المكتبات العامة فمن قلمنا هذا ندعو مؤسسات النشر والتأليف إلى اخراجه للطبع وطبع كتب هذا السيد الجليل وتحقيقها خدمة للمذهب الإمامي واحياءً لآثار هذا السيد الجليل.

٦٥

النسابة الكامل السعيد الفقيه الشاعر الماهر العالم الفاضل الكامل صاحب المقامات والكرامات العظيمة قدس الله روحه الشريفة كان من أفاضل عصره وقال الميرزا النوري; : السيد الأجل الأكمل الارشد المؤيد العلامة النحرير ،(١) كان حياً سنة ٨٠٠ هـ

الحكاية الأولى :

حكاية أبي راجح الحمامي الشيخ الذي أصبح شاباً

نقل العلامة المجلسي ( ١٠٣٧ ـ ١١١١ هـ ) في بحار الانوار عن كتاب ( السلطان المفرج عن أهل الايمان ) تأليف العامل الكامل السيد علي بن عبد الحميد النيلي النجفي ، انه قال : فمن ذلك ما اشتهر وذاع ، وملأ البقاع ، وشهد بالعيان أبناء الزمان ، وهو قصّة أبي راجح الحمامي بالحلة ، وقد حكى ذلك جماعة من الاعيان الاماثل ، وأهل الصدق الافاضل ، منهم الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون سلّمه الله تعالى قال :

كان الحاكم بالحلة شخصاً يدعى مرجان الصغير ، فرفع إليه أنّ أباراجح هذا يسبّ الصحابة ، فأحضره وأمر بضربه فضرب ضرباً شديداً مهلكاً على جميع بدنه ، حتى انه ضرب على وجهه فسقطت ثناياه ، وأخرج لسانه فجعل فيه مسلّة من الحديد ، وخرق النفه ، ووضع فيه شركة من الشعر وشدّ فيها حبلاً وسلمه الى جماعة من اصحابه ،

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٤ / ص ٨٨ و ١٢٤ ـ ١٣٠ ، خاتمة المستدرك ط ح ص ٤٣٥ ، سفينة البحار ج ٢ / ط. ح / ص ٢٤٨ الذريعة في أجزائها وطبقات أعلام الشيعة.

٦٦

وأمرهم أن يدوروا به أزقّة الحلة ، والضرب يأخذه من جميع جوانبه ، حتى سقط الى الارض وعاين الهلاك ، فأخبر الحاكم بذلك ، فأمر بقتله ، فقال الحاضرون انه شيخ كبير ، وقد حصل له ما يكفيه ، وهو ميّت لما به فاتر كه وهو يموت حتف أنفه ، ولا تتقلّد بدمه ، وبالغوا في ذلك حتى أمر بتخليته وقد انتفخ وجهه ولسانه ، فنقله أهله في البيت ولم يشكّ أحدّ أنه يموت من ليلته.

فلما كان من الغدغدا عليه الناس فاذا هو قائم يصلّي على أتم حالة ، وقد عادت ثناياه التي سقطت كما كانت ، واندملت جراحاته ، ولم يبق لها أثر ، والشجّة قد زالت من وجهه!

فعجب الناس من حاله وساءلوه عن أمره فقال : اني لما عاينت الموت ولم يبق لي لسان اسأل الله تعالى به فكنت اسأله بقلبي واستغثت الى سيدي ومولاي صاحب الزمان7 .

فلما جنّ عليّ الليل فاذا بالدار قد امتلأت نوراً وإذا بمولاي صاحب الزمان7 قد أمرّ يده الشريفة على وجهي وقال لي : ( اخرج وكدّ على عيالك ، فقد عافاك الله تعالى ) فأصبحت كما ترون.

وحكى الشيخ شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

وأقسم بالله تعالى إن هذا ابو راجح كان ضعيفاً جداً ، ضعيف التركيب ، اصفر اللون ، شين الوجه ، مقرض اللحية ، وكنت دائماً أدخل في الحمام الذي هو فيه ، وكنت دائماً أراه على هذه الحالة وهذا الشكل.

فلما أصبحت كنت ممن دخل عليه ، فرأيته وقد اشتدّت قوته وانتصبت قامته ، وطالت لحيته ، واحمر وجهه ، وعاد كأنّه ابن عشرين سنة ولم يزل على ذلك حتى أدر كته الوفاة.

٦٧

ولما شاع هذا الحبر وذاع ، طلبه الحاكم وأحضره عنده وقد كان رآه بالأمس على تلك الحالة ، وهو الان على ضدّها كما وصفناه ، ولم يرَ لجراحاته أثراً ، وثناياه قد عادت ، فداخل الحاكم في ذلك رعب عظيم ، وكان يجلس في مقام الأمام7 في الحلة ويعطي ظهره القبلة الشريفة ، فصار بعد ذلك يجلس ويستقبلها ، وعاد يتلطّف بأهل الحلة ، ويتجاوز عن مسيئهم ، ويحسن الى محسنهم ، ولم ينفعه ذلك بل لم يلبث في ذلك الا قليلاً حتى مات.(١)

أقول : روحي وأرواح العالمين لك الفداء.

إيه أيتها الجوهرة المحفوفة بالاسرار كم جهلناك وكم بخسناك حقك؟!

كم أغفلنا ذكرك وانشغلنا بغيرك كم سرحنا أفكارنا بعيداً عنك؟

أترك تعطف علينا اليوم بنظرة من تلك التي مننت بها على ذاك الرجل صاحب الحمام ( العمومي ) ، فتمسح قلوبنا بذاك الاكسير؟! فنحن في هذا الحمى.

بحث حول الحكاية :

أقول : إن هذه الحكاية مشهورة ومتواترة النقل في عصر المؤلف السيد بهاء الدين وتناقلها علماء الحلة ، انظر إلى قول السيد في بداية الحكاية ( فمن ذلك ما اشتهر وذاع وملأ البقاع وشهد بالعيان أبناء الزمان وقد حكى ذلك جماعة من الأعيان الأماثل وأهل الصدق الأفاضل ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧١ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢١٩.

٦٨

في أحوال راوي الحكاية وعصرها :

أقول : إن راوي الحكاية هو شمس الدين محمد بن قارون الذي لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، فللفائدة والاستدراك على الكتب الرجالية نذكر ترجمته :

قال السيد بهاء الدين : انه من الأعيان وأهل الصدق الأفاضل ، وقال عنه أيضاً الشيخ الزاهد العابد المحقق شمس الدين محمد بن قارون ،(١) المحترم العامل الفاضل(٢) الشيخ العالم الكامل القدوة المقري الحافظ المحمود المعتمرشمس الحق والدين محمد بن قارون.(٣)

وكما قال عنه الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي ،(٤) وكما وصفه أيضاً الشيخ عز الدين حسن بن عبد الله بن حسن التغلبي بـ ( الشيخ الصالح محمد بن قارون ) ،(٥) كان حياً سنة ٧٥٩ هـ

فهو يعد من مشايخ السيد بهاء الدين ، يعني أن شمس الدين كان بالقطع مععاصراً للشهيد الأول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) فاذن وجود شمس الدين محمد بن قارون في بداية القرن الثامن الهجري حياً وروايته لهذه الحكاية ، يدل على أن الحكاية وقعت في النصف الأول من هذا

__________________

١ ـ انظر : بحار الأنوار / المجلسي; ، ج ٥٢ / ص ٧١.

٢ ـ انظر : المصدر السابق ص ٧٢.

٣ ـ انظر : جنة المأوى / النوري; ص ٢٠٢.

٤ ـ نسبة إلى ( السيب ) بكسر أوله وسكون ثانيه ، وهو نهر في ذنابة الفرات بقرب الحلة ، وعليه بلد يسمى باسمه.

٥ ـ كتاب الدر النضيد في تعازي الحسين الشهيد نقلا عن رياض العلماء ج ٢ / ص ١١.

٦٩

القرن السالف الذكر والدليل على ذلك الحكاية الثانية التالية والتي يرويها أيضا شمس الدين محمد بن قارون والحاصلة في سنة ٧٤٤ هـ

وهو غير الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين محمد بن أحمد بن صالح السيبي القسيني ، تلميذ السيد فخار بن معد الموسوي المجاز منه سنة ٦٣٠ هـ ( وهي سنة وفاة السيد فخار ) وهو صغير لم يبلغ الحلم وأجازه الشيخ والده أحمد سنة ٦٣٥ هـ وأجازه الشيخ محمد بن أبي البركات اليماني الصنعاني سنة ٦٣٦ هـ والمجيز لنجم الدين طومان بن أحمد العاملي سنة ٧٢٨ هـ فإن هذا الشيخ متقدم على الشيخ شمس الدين محمد بن قارون السيبي.(١)

تنبيه لكل نبيه :

قال ابن بطوطة في رحلته ( سافرنا من البصرة فوصلنا إلى مشهد علي ابن ابي طالب رَضي اللهُ عَنه وزرنا ، ثم توجهنا إلى الكوفة فزرنا مسجدها المبارك ثم إلى الحلة حيث مشهد صاحب الزمان واتفق في بعض الأيام أن وليها بعض الامراء فمنع أهلها من التوجه على عادتهم الى مسجد صاحب الزمان وانتظاره هنالك ومنع عنهم الدابة التي كانوا يأخذونها كل ليلة من الأمير فأصابت ذلك الوالي علة مات منها سريعاً فزاد ذلك في فتنة الرافضة وقالوا انما أصابه ذلك لأجل منعه الابة فلم تمنع بعد ).(٢)

أقول : ان كلام ابن بطوطة المتقدم آنفاً هو في زيارته الثانية للحلة ، فابن بطوطة مرَّ في الحلة مرتين الأولى كانت سنة ٧٢٥ هـ في عهد الوالي ( حسن

__________________

١ ـ انظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني; ج ١ / ص ٢٢٩ و ٢٢٠.

٢ ـ انظر : رحلة ابن بطوطة ج ٢ / ص ١٧٤.

٧٠

الجلايري ) والثانية بعد عودته من بلاد الهند والصين والتتر وبينهما عدة سنين ، وأظن ان الوالي المذكور في حكاية أبي راجح الحمامي والمذكور في زيارة ابن بطوطة الثانية واحد باعتبار أن عصر الحكايتين واحد وان الوالي المذكور في الحكايتين كان يؤذي أهل الحلة ( فالأمر ليس أمر انتظار صاحب الزمان ولا أمر الدابة ) ، وقد مات بفعله هذا ، وهذا عن أهل الحلة ليس ببعيد ففيهم بقول أمير المؤمنين7 : ( يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرقسمه ).(١)

الحكاية الثانية :

حكاية ابن الخطيب وعثمان والمرأة العمياء التي أبصرت

ونقل من ذلك الكتاب عن الشيخ المحترم العامل الفاضل شمس الدين محمد بن قارون المذكور قال :

كان من أصحاب السلاطين المعمر بن شمس يسمى مذوّر ، يضمن القرية المعروفة ببرس ، ووقف العلويين ، وكان له نائب يقال له : ابن الخطيب وغلام يتولّى نفقاته يدعى عثمان ، وكان ابن الخطيب من أهل الصلاح والايمان بالضدّ من عثمان وكانا دائماً يتجادلان ، فاتفق انهما حضرا في مقام ابراهيم الخليل7 بمحضر جماعة من الرّعيّة والعوام فقال ابن الخطيب لعثمان : يا عثمان الان اتضح الحق واستبان ، أنا أكتب على يديّ من أتولاه ، وهم علي والحسي والحسين ، واكتب أنت من تتولاه ابوبكر وعمر وعثمان ، ثم تشدّ يديّ ويدك ، فأيّهما احترقت يده بالنار كان على الباطل ، ومن سلمت يده كان على الحق ، فنكل عثمان ، وأبى أن يفعل ، فأخذ الحاضرون من الرّعيّة

____________

١ ـ انظر : بحار الأنوار المجلسي; ج ٦ / ص ١٢٢.

٧١

والعوان بالعياط عليه ، هذا وكانت ام عثمان مشرفة عليهم تسمع كلامهم فلمّا رأت ذلك لعنت الحضور الذين كانوا يعيّطون على ولدها عثمان وشتمتهم وتهدّدت وبالغت في ذلك فعميت في الحال! فلما أحست بذلك نادت الى رفقائها فصعدن اليها فاذا هي صحيحة العينين! لكن لاترى شيئاً ، فقادوها وأنزلوها ، ومضوا بها الى الحلة وشاع خبرها بين الصحابها وقرائبها وترائبها ، فاحضروا لها الاطباء من بغداد والحلة ، فلم يقدروا لها على شيء ، فقال لها نسوة مؤمنات كنّ أخدانها : ان الذي أعماكِ هو القائم7 فأن تشيعتي وتولّيتي وتبرأتي ( كذا )(١) ضمنّا لك العافية على الله تعالى ، وبدون هذا لا يمكنك الخلاص ، فأذعنت لذلك ورضنبت به ، فلما كانت ليلة الجمعة حملنها حتى أدخلنها القبة الشريفة في مقام صاحب الزمان7 وبتن بأجمعهنّ في باب القبة ، فلما كان ربع الليل فاذا هي قد خرجت عليهنّ وقد ذهب العمى عنها! وهي تقعدهنّ واحدة بعد واحدة وتصف ثيابهنّ وحليَهنَ ، فسررن بذلك ، وحمدنَ الله تعالى على حسن العافية ، وقلن لها : كيف كان ذلك؟! فقالت : لما جعلتنني في القبة وخرجتنّ عني أحسست بيد قد وضعت على يديّ ، وقائل يقول : اخرجي قد عافاك الله تعالى. فانكشف العمى عني ورأيت القبة قد امتلات ونوراً ورأيت الرجل ، فقلت له : من أنت يا سيدي؟ فقال : محمد بن الحسن ، ثم غاب عني ، فقمنَ وخرجنَ الى بيوتهنّ وتشيّع ولدها عثمان وحسن اعتقاده واعتقاد أمه المذكورة ، واشتهرت القصة بين أولئك الأقوام ومن سمع هذا الكلام واعتقد وجود الأمام7 وكان ذلك في سنة أربع واربعين وسبعمائة.(٢)

__________________

١ ـ كذا ورد في المطبوع والاصح ( تشيعتِ وتوليتِ وتبرأتِ ).

٢ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٢ ؛ النجم الثاقب ج ٢ / ص ٢٢٠.

٧٢

أقول : حدثت هذه الكرامة سنة ( ٧٤٤ هـ / ١٣٢٣ م ) وراويها محمد بن قارون المتقدم ذكره وترجمته في الحكاية الأولى من هذا الباب.

وبرس : بضم الباء وسكون الراء والسين المهملة ناحية من ارض بابل وهي بحضرة الصرح ( صرح نمرود بن كنعان ) وهي الآن قرية معروفة بقبل الكوفة وينسب إليها الحافظ رجب البرسي; .

ومقام ابراهيم الخليل7 : موجود الى زماننا هذا ويقع بالحلة في تلك القرية ( تشرفت بزيارته انا عدة مرات ).

لحكاية الثالثة :

حكاية شفاء الشيخ جمال الدين الزهدري

وذكر هناك أيضاً : أي ( في كتاب السلطان المفرج عن أهل الايمان ).

ومن ذلك بتأريخ صفر سنة سبعمائة وتسع وخمسين حكي لي المولى الاجل الامجد العالم الفاضل ، القدوة الكامل ، المحقّق المدقّق ، مجمع الفضائل ومرجع الافاضل ، افتخار العلماء في العالمين ، كمال الملة والدين ، عبد الرحمن ابن العمّاني ( كذا ) ، وكتب بخطه الكريم ، عندي ما صورته :

قال العبد الفقير الى رحمة الله تعالى عبد الرحمن بن ابراهيم القبائقي :(١) اني كنت أسمع في الحلة السيفية حماها الله تعالى ان المولى الكبير المعظم جمال الدين ابن الشيخ الاجل الاوحد الفقيه القاريء نجم الدين جعفر ابن الزاهدري كان به فالج ، فعالجته جدّته لأبيه بعد موت أبيه بكل علاج للفالج فلم يبرأ ، فأشار عليها بعض

__________________

١ ـ هكذا ورد في الاصل والصحيح العتالقي.

٧٣

الاطباء ببغداد فأحضرتهم فعالجوه زماناً طويلاً فلم يبرأ ، وقيل لها :ألا تبيّتينه تحت القبة الشريفة بالحلة المعروفة بمقام صاحب الزمان 7 لعل الله تعالى يعافيه ويبرأه ، ففعلت وبيّتته تحتها وان صاحب الزمان7 أقامه وأزال عنه الفالج.

ثم بعد ذلك حصل بيني وبينه صحبة حتى كّنا لم نكد نفترق ، وكان له دار المعشرة ، يجتمع فيها وجوه أهل الحلة وشبابهم وأولاد الاماثل منهم ، فاستحكيته عن هذه الحكاية ، فقال لي :

إني كنت مفلوجاً وعجز الاطباء عني ، وحكى لي ما كنت اسمعه مستفاضاً في الحلة من قضيته وان الحجة صاحب الزمان7 قال لي : ( وقد أباتتني جدّتي تحت القبة ) :قم.

فقلت : ياسيدي لا أقدر على القيام منذ سنتي ، فقال :قم باذن الله تعالى وأعانني على القيام ، فقمت وزال عني الفالج ( أي شلل الاعضاء ).

وانطبق عليّ الناس حتى كادوا يقتلونني ، وأخذوا ما كان عليّ من الثياب تقطيعاً وتنتيفاً يتبرّكون فيها ، وكساني الناس من ثيابهم ، ورحت الى البيت ، وليس بيّ أثر الفالج ، وبعثت الى الناس ثيابهم ، وكنت أسمعه يحكي ذلك للناس ولمن يستحكيه مراراً حتى مات; .(١)

بحث حول الحكاية :

تاريخ الحكاية : أقول ، إنَّ تاريخ نقل هذه الحكاية هو سنة ( ٧٥٩ هـ ـ ١٢٣٨ م ).

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ج ٥٢ / ص ٧٣.

٧٤

راوي الحكاية : الشيخ العالم الفاضل المحقق المدقق الفقيه المتبحر كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن ابراهيم ابن العتايقي(١) الحلي الامامي ، كان معاصرا للشهيد الاول; وبعض تلامذة العلامة الحلي; ، وقال البعض انه ادرك العلامة ، وتلمذ على يد نصير الدين علي بن محمد الكاشي تـ ٧٥٥ هـ ، وكان من مشايخ السيد بهاء الدين علي بن عبد الحميد النجفي ، وبروي عن جماعة منهم جمال الدين الزهدري ، توفى بعد سنة ٧٨٨ هـ التي الف فيها كتابه ( الارشاد في معرفة الابعاد ) وهو صاحب التصانيف الكثيرة والموجود بعضها في الخزانة الغروية ، ولا أرى بأماً بايراد اسمائها هنا فله كتاب ( شرح على نهج البلاغة ) وكتاب ( مختصر الجزء الثاني من كتاب الاوائل لأبي هلال العسكري ) وكتاب ( الاعمار ) وكتاب ( الاضداد في اللغة ) وكتاب ( الايضاح والتبيين في شرح منهاج اليقين ) وكتاب ( اختيار حقائق الخللفي دقائق الحيل ) وكتاب ( صفوة الصفوة ) وكتاب ( اختصار كتاب بطليموس ) وكتاب ( الشهدة في شرح معرف الزبدة ) وكتاب ( الايماقي ) وكتاب ( في التفسير وهو مختصر تفسير القمي ) وكتاب ( الارشاد ) و( الرسالة المفيدة لكل طالب مقدار ابعاد الافلاك والكواكب ) وله ( شرح على الجغميني ) وله ( شرح التلويح ) ، وغيرها من الكتب في شبى أنواع العلوم ، وللأسف الشديد ان كتبه لم تر النور.

_________________

١ ـ العتائقي نسبة الى العتائق قرية بقرب الحلة المزيدية ، وليس بالقبائقي كما في نسخ البحار المطبوعه فانه تصحيف ، كما اني لم ارَّ من الرجاليين من ذكرن بابن العماني بل المشهور انه ابن العتائقي ولعلها تصحيف ايضا او من خطأ النساخ.

٧٥

الى الآن مع كثرتها سوى كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) فمن قلمنا هذا ندعو دور النشر والتأليف لأخراج كتبه خدمة للمذهب الامامي واحياء لآثار هذا الشيخ الجليل ، وصرح جمع من العلماء كالسيد محسن الأمين; والشيخ عباس القمي; والشيخ اغا بزرك الطهراني بمشاهدة كتبه في الخزانة الغروبة وكتب أخرى لغيره بخط يده ذكر فيها نسبه وتأريخه من ( ٧٣٨ ـ ٧٨٨ هـ ).(١)

صاحب الحكاية : الشيخ جمال الدين بن نجم الدين جعفر الزهدري ، لم أجد له ذكراً في كتب الرجال وانما وقفت على ترجمة والده الاجل الشيخ جعفر الزهدري صاحب كتاب ( ايضاح ترددات الشرائع )(٢) ويظهر من ثناء ابن العتائقي عليهما ، عظيم منزلتهما وجلالتهما.

وبهذه الحكاية انتهى ما أردنا نقله من حكايات كتاب ( السلطان المفرج عن اهل الايمان ).

الحكاية الرابعة :

حكاية ابن ابي الجواد النعماني

قال العالم الفاضل المتبحّر النقّاد الآميرزا عبد الله الاصفهاني الشهير بالافندي في المجلد الخامس من كتاب ( رياض العلماء

__________________

١ ـ انظر : رياض العلماء ج ٣ / ص ١٠٣ ، سفينة البحار ط ج / ج ٢ / ص ١٥٧ ، كذلك الذريعة في اجزائها.

٢ ـ وقد طبع الكتاب في زماننا هذا بجهود العلامة الحجة السيد محمود المرعشي في قم المقدسة وقد رأيت نسخته المطبوعة.

٧٦

وحياض الفضلاء ) في ترجمة الشيخ ابن ابي الجواد النِّعماني(١) انه ممن رأى القائم7 في زمن الغيبة الكبرى ، وروى عنه7 ، ورأيت في بعض المواضع نقلاً عن خط الشيخ زين الدين علي بن الحسن بن محمد الخازن الحائري تلميذ الشهيد انه قد رأى ابن ابي جواد النعماني مولانا المهدي7 فقال له :

يا مولاي لك مقام بالنعمانية ومقام بالحلة ، فأين تكون فيهما؟

فقال له :أكون بالنعمانية ليلة الثلاثاء ويوم الثلاثاء ، ويوم الجمعة وليلة الجمعة أكون بالحلة ولكن أهل الحلة ما يتأدّبون في مقامي ، وما من رجل دخل مقامي بالأدب يتأدّب ويسلم عليّ وعلى الأئمة وصلّى عليّ وعليهم اثني عشر (٢) مرة ثم صلى ركعتين بسورتين ، وناجى الله بهما المناجاة إلاّ اعطاه تعالى ما يسأله احدها المغفرة.

فقلت : يا مولاي علمني ذلك.

فقال : قل« اللهم قد أخذ التأديب مني حتى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، وان كان ما اقترفته من الذنوب استحق به أضعاف أضعاف ما أدبتني به ، وأنت حليم ذو اناة تعفو عن كثير حتى يسبق عفوك ورحمتك عذابك » وكررها عليّ ثلاثاً حتى فهمتها(٣) .(٤)

__________________

١ ـ النعمانية : بليدة بناها النعمان بن المنذر وتقع بين واسط وبغداد في نصف الطريق على ضفة دجلة معدودة من اعمال الزاب الاعلى.

٢ ـ هكذا ورد في المطبوع والاصح اثنتي عشرة.

٣ ـ قال المؤلف; : يعني حفظتها.

٤ ـ انظر : النجم الثاقب / النوري; ج ٢ / ص ١٣٨.

٧٧

بحث حول الحكاية :

راوي الحكاية : زين الدين علي بن أبي محمد الحسن بن محمد الخازن الحائري ، تلميذ الشهيد الاول ( ٧٣٤ ـ ٧٨٦ هـ ) وقد أجازه الشهيد الاول سنة ٧٨٤ هـ وهو من مشايخ العلامة أبي العباس أحمد بن فهد الحلي ويروي عنه ، وأجازه في سنة ٧٩١ هـ ويعبر عنه بالشيخ علي الخازن الحائري ، وهو من علماء المائة الثامنة ، قال عنه الشهيد الاول; في إجازته له :

المولى الشيخ العالم التقي الورع المحصل العالم بأعباء العلوم الفائق أولي الفضائل والفهوم زين الدين أبو علي(١)

صاحب الحكاية : ابن أبي الجواد النعماني ، لم أجد له ترجمة في كتب الرجال ، سوى ما ترجمه ناقل الحكاية الافندي; في كتابه رياض العلماء الذي فقد معظم مجلداته ، ويظهر من راوي الحكاية الشيخ علي الخازن الذي هو من تلاميذ الشهيد الاول; أنَّ ابن ابي الجواد من طبقة الشهيد الاول ، أي من تلامذة العلامة الحلي; .

أقول : ولا يبعد اتحاده بالشيخ الفاضل العالم المتكلم عبد الواحد بن الصفي النعماني ، صاحب كتاب ( نهج السداد في شرح رسالة واجب الاعتقاد ) الذي نسبه اليه الكفعمي; في حواشي مصباحه ونؤيد ما قلناه آنفاً قول المتبحر الخيبر الافندي; في كتاب رياض العلماء ج ٣ ص ٢٧٩ قال : » وأظن أنه من تلامذة الشهيد أو تلامذة تلامذته « فلاحظ.

__________________

١ ـ انظر : رسائل الشهيد الاول ص ٣٠٤ وطبقات اعلام الشيعة للطهراني; .

٧٨

أقول : ومن خلال هذه الحكاية نستدل على شهرة المقام في ذلك القرن إذ الرجل من النعمانية ويسأله عن مقامه7 في الحلة ويستدل أيضاً على استحباب زيارة المقام الشريف في الحلة في ليلة الجمعة ويومها لوجود الإمام به ، وربما ينفي الزائر للمقام هذا الكلام ، فنقول له : إن الأمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ليس بغائب ولكن هو غائب عمّن هو غائب عن الله.

وعلى أهل الحلة وغيرهم أن يتأدّبوا بمقامه جلّ التأدب ( فلا لاختلاط الرجال بالنساء في المصلى ، ولا لتبرج النساء ، ولا ) مما يصل الى سوء الادب بمحضر نائب الملك العلام ، فان أهل الحلة أشاد بهم أمير المؤمنين7 وأيّ إشادة ، فليكونوا دئاماً مصداق حديث مولاهم ومولاي علي بن أبي طالب7 .

فقد ذكر الشيخ عباس القمي في كتابه وقائع ايام ص (٣٠٢) :

روى أصبغ بن نباتة قال : صحبت مولاي أمير المؤمنين7 عند وروده صفين ، وقد وقف على تل ثم أومأالى أجمة ما بين بابل والتل قال :مدينة وأي مدينة.

فقلت له : يامولاي أراك تذكر مدينة أكان هناك مدينة وانمحت آثارُها؟ فقال7 : لا ولكن ستكون مدينة يقال لها الحلة ( السيفية ) يمدتها رجل من بني أسد يظهر بها قوم أخيار لو أقسم أحدهم على الله لأبرّ قسمه. (١)

* * *

__________________

١ ـ انظر : بحار الانوار ، ٦ / ١٢٢ رواية ٥٥.

٧٩

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

قوله تعالى: ( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) إلخ، المراد بالسماوات و الأرض و ما بينهما مجموع العالم المشهود علويّة و سفليّة، و الباء في( بِالْحَقِّ ) للملابسة، و المراد بالأجل المسمّى ما ينتهي إليه أمد وجود الشي‏ء، و المراد به في الآية الأجل المسمّى لوجود مجموع العالم و هو يوم القيامة الّذي تطوى(١) فيه السماء كطيّ السجلّ للكتب و تبدّل الأرض(٢) غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهّار.

و المعنى: ما خلقنا العالم المشهود بجميع أجزائه العلويّة و السفليّة إلّا ملابساً للحقّ له غاية ثابتة و ملابساً لأجل معيّن لا يتعدّاه وجوده و إذا كان له أجل معيّن يفنى عند حلوله و كانت مع ذلك له غاية ثابتة فبعد هذا العالم عالم آخر هو عالم البقاء و هو المعاد الموعود، و قد تكرّر الكلام فيما تقدّم في معنى كون الخلق بالحقّ.

و قوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ) المراد بالّذين كفروا هم المشركون بدليل الآية التالية لكن ظاهر السياق أنّ المراد بكفرهم كفرهم بالمعاد، و( ما ) في( عَمَّا ) مصدريّة أو موصولة و الثاني هو الأوفق للسياق و المعنى: و المشركون الّذين كفروا بالمعاد عمّا اُنذروا به - و هو يوم القيامة بما فيه من أليم العذاب لمن أشرك بالله - معرضون منصرفون.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) إلى آخر الآية( أَ رَأَيْتُمْ ) بمعنى أخبروني و المراد بما تدعون من دون الله الأصنام الّتي كانوا يدعونها و يعبدونها و إرجاع ضمائر اُولي العقل إليها بعد لكونهم ينسبون إليه أفعال اُولي العقل و حجّة الآية و ما بعدها مع ذلك تجري في كلّ إله معبود من دون الله.

و قوله:( أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ ) أروني بمعنى أخبروني و( ما ) اسم استفهام و( ذا ) بعده زائدة و المجموع مفعول( خَلَقُوا ) و من الأرض متعلّق به.

____________________

(١) إشارة إلى الآية ١٠٤ فيه من سورة الأنبياء.

(٢) إشارة إلى الآية ٤٨ من سورة إبراهيم.

٢٠١

و قوله:( أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ) أي شركة في خلق السماوات فإنّ خلق شي‏ء من السماوات و الأرض هو المسؤل عنه.

توضيح ذلك أنّهم و إن لم ينسبوا إليها إلّا تدبير الكون و خصّوا الخلق به سبحانه كما قال تعالى:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) الزمر: ٣٨، و قال:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) الزخرف: ٨٧، لكن لمّا كان الخلق لا ينفكّ عن التدبير أوجب ذلك أن يكون لمن له سهم من التدبير سهم في الخلق و لذلك أمر تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم عمّا لأربابهم الّذين يدعون من دون الله من النصيب في خلق الأرض أو في خلق السماوات فلا معنى للتدبير في الكون من غير خلق.

و قوله:( ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) الإشارة بهذا إلى القرآن، و المراد بكتاب من قبل القرآن كتاب سماويّ كالتوراة نازل من عند الله يذكر شركة آلهتهم في خلق السماوات أو الأرض.

و الأثارة على ما ذكره الراغب مصدر بمعنى النقل و الرواية قال: و أثرت العلم رويته آثره أثرّاً و أثارة و أثرة و أصله تتبّعت أثره انتهى. و عليه فالأثارة في الآية مصدر بمعنى المفعول أي شي‏ء منقول من علم يثبت أنّ لآلهتهم شركة في شي‏ء من السماوات و الأرض، و فسّره غالب المفسّرين بمعنى البقيّة و هو قريب ممّا تقدّم.

و المعنى: ائتوني للدلالة على شركهم لله في خلق شي‏ء من الأرض أو في خلق السماوات بكتاب سماويّ من قبل القرآن يذكر ذلك أو بشي‏ء منقول من علم أو بقيّة من علم أورثتموها يثبت ذلك إن كنتم صادقين في دعواكم أنّهم شركاء لله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) إلخ، الاستفهام إنكاريّ، و تحديد عدم استجابتهم الدعوة بيوم القيامة لما أنّ يوم القيامة أجل مسمّى للدنيا و الدعوة مقصورة في الدنيا و لا دنيا بعد قيام الساعة.

و قوله:( وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ ) صفة اُخرى من صفات آلهتهم مضافة إلى صفة عدم استجابتهم و ليس تعليلاً لعدم الاستجابة فإنّ عدم استجابتهم معلول كونهم لا يملكون لعبّادهم شيئاً قال تعالى:( قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا

٢٠٢

نَفْعاً ) المائدة: ٧٦.

بل هي صفة مضافة إلى صفة مذكورة لتكون توطئة و تمهيداً لما سيذكره في الآية التالية من عداوتهم لهم و كفرهم بعبادتهم يوم القيامة فهم في الدنيا غافلون عن دعائهم و سيطّلعون عليه يوم القيامة فيعادونهم و يكفرون بعبادتهم.

و في الآية دلالة على سراية الحياة و الشعور في الأشياء حتّى الجمادات فإنّ الأصنام من الجماد و قد نسب إليها الغفلة و الغفلة من شؤن ذوي الشعور لا تطلق إلّا على ما من شأن موصوفه أن يشعر.

قوله تعالى: ( وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ ) الحشر إخراج الشي‏ء من مقرّه بإزعاج، و المراد بعث الناس من قبورهم و سوقهم إلى المحشر يوم القيامة فيومئذ يعاديهم آلهتهم و يكفرون بشرك عبّادهم بالتبرّي منهم كما قال تعالى:( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) فاطر: ١٤، و قال حكاية عنهم:( تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ ) القصص: ٦٣، و قال:( فَكَفى‏ بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ ) يونس: ٢٩.

و في سياق الآيتين تلويح إلى أنّ هذه الجمادات الّتي لا تظهر لنا في هذه النشأة أنّ لها حياة لعدم ظهور آثارها سيظهر في النشأة الآخرة أنّ لها حياة و تظهر آثارها و قد تقدّم بعض الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى:( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الم السجدة: ٢١.

قوله تعالى: ( وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ) الآية و الّتي بعدها مسوقتان للتوبيخ، و المراد بالآيات البيّنات آيات القرآن تتلى عليهم، ثمّ بدّلها من الحقّ الّذي جاءهم حيث قال:( لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ ) و كان مقتضى الظاهر أن يقال:( لها ) للدلالة على أنّها حقّ جاءهم لا مسوّغ لرميها بأنّها سحر مبين و هم يعلمون أنّها حقّ مبين فهم متحكّمون مكابرون للحقّ الصريح.

قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً )

٢٠٣

إلخ،( أَمْ ) منقطعة أي بل يقولون افترى القرآن على الله في دعواه أنّه كلامه.

و قوله:( قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً ) أي إن افتريت القرآن لأجلكم أخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب على الافتراء و لستم تقدرون على دفع عذابه عنّي فكيف أفتريه عليه لأجلكم، و المحصّل أنّي على يقين من أمر الله و أعلم أنّه يأخذ المفترى عليه أو يعاجل في عقوبته و أنّكم لا تقدرون على دفع ما يريده فكيف أفتري عليه فأعرض نفسي على عذابه المقطوع لأجلكم؟ أي لست بمفتر عليه.

و يتبيّن بذلك أنّ جزاء الشرط في قوله:( إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي ) إلخ، محذوف و قد اُقيم مقامه ما يجري مجرى ارتفاع المانع، و التقدير: إن افتريته أخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب و لا مانع من قبلكم يمنع عنه، و ليس من قبيل وضع المسبّب موضع السبب كما قيل.

و قوله:( هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ ) الإفاضة في الحديث الخوض فيه و( بِما ) موصولة يرجع إليه ضمير( فيه ) أو مصدريّة و مرجع الضمير هو القرآن، و المعنى: الله سبحانه أعلم بالّذي تخوضون فيه من التكذيب برمي القرآن بالسحر و الافتراء على الله أو المعنى: هو أعلم بخوضكم في القرآن.

و قوله:( كَفى‏ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) احتجاج ثان على نفي الافتراء و أوّل الاحتجاجين قوله:( إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً ) و قد تقدّم بيانه آنفاً، و معنى الجملة: أنّ شهادة الله سبحانه في كلامه بأنّه كلامه و ليس افتراء منّي يكفي في نفي كوني مفترياً به عليه، و قد صدّق سبحانه هذه الدعوى بقوله:( لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) النساء: ١٦٦، و ما في معناه من الآيات، و أمّا أنّه كلامه فيكفي في ثبوته آيات التحدّي.

و قوله:( وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) تذييل الآية بالاسمين الكريمين للاحتجاج على نفي ما يتضمّنه تحكّمهم الباطل من نفي الرسالة كأنّه قيل: إنّ قولكم:( افْتَراهُ ) يتضمّن دعويين: دعوى عدم كون هذا القرآن من كلام الله و دعوى بطلان الرسالة - و الوثنيّون ينفونها مطلقاً - أمّا الدعوى الاُولى فيدفعه أوّلاً: أنّه إن افتريته فلا تملكون،

٢٠٤

إلخ، و ثانياً: أنّ الله يكفيني شهيداً على كونه كلامه لا كلامي.

و أمّا الدعوى الثانية فيدفعها أنّ الله سبحانه غفور رحيم، و من الواجب في حكمته أن يعامل خلقه بالمغفرة و الرحمة و لا تشملان إلّا التائبين الراجعين إليه الصالحين لذلك و ذلك بأن يهديهم إلى صراط يقرّبهم منه سلوكه فتشملهم مغفرته و رحمته بحطّ السيّئات و الاستقرار في دار السعادة الخالدة، و كونه واجباً في حكمته لأنّ فيهم صلاحية هذا الكمال و هو الجواد الكريم، قال تعالى:( وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) إسراء: ٢٠، و قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) النحل: ٩، و السبيل إلى هذه الهداية هي الدعوة من طريق الرسالة فمن الواجب في الحكمة أن يرسل إلى الناس رسولاً يدعوهم إلى سبيله الموصلة إلى مغفرته و رحمته.

قوله تعالى: ( قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) إلخ، البدع ما كان غير مسبوق بالمثل من حيث صفاته أو من حيث أقواله و أفعاله و لذا فسّره بعضهم بأنّ المعنى: ما كنت أوّل رسول اُرسل إليكم لا رسول قبلي، و قيل: المعنى: ما كنت مبدعاً في أقوالي و أفعالي لم يسبقني إليها أحد من الرسل.

و المعنى الأوّل لا يلائم السياق و لا قوله المتقدّم:( وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) بالمعنى الّذي تقدّم توجيهه فثاني المعنيين هو الأنسب، و عليه فالمعنى: لست اُخالف الرسل السابقين في صورة أو سيرة و في قول أو فعل بل أنا بشر مثلهم فيّ من آثار البشريّة ما فيهم و سبيلهم في الحياة سبيلي.

و بهذه الجملة يجاب عن مثل ما حكاه الله من قولهم:( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ) الفرقان: ٨.

و قوله:( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) نفي لعلم الغيب عن نفسه فهو نظير قوله:( وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ ) الأعراف: ١٨٨، و الفرق بين الآيتين أنّ قوله:( وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) إلخ، نفي للعلم بمطلق الغيب و استشهاد له بمسّ السوء و عدم الاستكثار من الخير، و قوله:( وَ ما أَدْرِي

٢٠٥

ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) نفي للعلم بغيب خاصّ و هو ما يفعل به و بهم من الحوادث الّتي يواجهونها جميعاً، و ذلك أنّهم كانوا يزعمون أنّ المتلبّس بالنبوّة لو كان هناك نبيّ يجب أن يكون عالماً في نفسه بالغيوب ذا قدرة مطلقة غيبيّة كما يظهر من اقتراحاتهم المحكيّة في القرآن فاُمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعترف - مصرّحاً به - أنّه لا يدري ما يفعل به و لا بهم فينفي عن نفسه العلم بالغيب، و أنّ ما يجري عليه و عليهم من الحوادث خارج عن إرادته و اختياره و ليس له في شي‏ء منها صنع بل يفعله به و بهم غيره و هو الله سبحانه.

فقوله:( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) كما ينفي عنه العلم بالغيب ينفي عنه القدرة على شي‏ء ممّا يصيبه و يصيبهم ممّا هو تحت أستار الغيب.

و نفي الآية العلم بالغيب عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينافي علمه بالغيب من طريق الوحي كما يصرّح تعالى به في مواضع من كلامه كقوله:( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) آل عمران: ٤٤، يوسف: ١٠٢، و قوله:( تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ) هود: ٤٩، و قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ ) الجنّ: ٢٧ و من هذا الباب قول المسيحعليه‌السلام :( وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) آل عمران: ٤٩، و قول يوسفعليه‌السلام لصاحبي السجن:( لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ) يوسف: ٣٧.

وجه عدم المنافاة أنّ الآيات النافية للعلم بالغيب عنه و عن سائر الأنبياءعليهم‌السلام إنّما تنفيه عن طبيعتهم البشريّة بمعنى أن تكون لهم طبيعة بشريّة أو طبيعة هي أعلى من طبيعة البشر من خاصّتها العلم بالغيب بحيث يستعمله في جلب كلّ نفع و دفع كلّ شرّ كما نستعمل ما يحصل لنا من طريق الأسباب و هذا لا ينافي انكشاف الغيب لهم بتعليم إلهيّ من طريق الوحي كما أنّ إتيانهم بالمعجزات فيما أتوا بها ليس عن قدرة نفسيّة فيهم يملكونها لأنفسهم بل بإذن من الله تعالى و أمر، قال تعالى:( قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا ) الإسراء: ٩٣، جواباً عمّا اقترحوا عليه من الآيات، و قال:( قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) العنكبوت: ٥٠،

٢٠٦

و قال:( وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ) المؤمن: ٧٨.

و يشهد بذلك قوله بعده متّصلاً به:( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‏ إِلَيَّ ) فإنّ اتّصاله بما قبله يعطي أنّه في موضع الإضراب، و المعنى: إنّي ما أدري شيئاً من هذه الحوادث بالغيب من قبل نفسي و إنّما أتّبع ما يوحى إليّ من ذلك.

و قوله:( وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) تأكيد لجميع ما تقدّم في الآية من قوله:( ما كُنْتُ بِدْعاً ) إلخ، و( وَ ما أَدْرِي ) إلخ، و قوله:( إِنْ أَتَّبِعُ ) إلخ.

( بحث فلسفي و دفع شبهة)

تظافرت الأخبار من طرق أئمّة أهل البيت أنّ الله سبحانه علّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأئمّةعليهم‌السلام علم كلّ شي‏ء، و فسّر ذلك في بعضها أنّ علم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق الوحي و أنّ علم الأئمّةعليهم‌السلام ينتهي إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و اُورد عليه أنّ المأثور من سيرتهم أنّهم كانوا يعيشون مدى حياتهم عيشة سائر الناس فيقصدون مقاصدهم ساعين إليها على ما يرشد إليه الأسباب الظاهرية و يهدي إليه السبل العاديّة فربّما أصابوا مقاصدهم و ربّما أخطأ بهم الطريق فلم يصيبوا، و لو علموا الغيب لم يخيبوا في سعيهم أبداً فالعاقل لا يترك سبيلاً يعلم يقيناً أنّه مصيب فيه و لا يسلك سبيلاً يعلم يقيناً أنّه مخطئ فيه.

و قد اُصيبوا بمصائب ليس من الجائز أن يلقي الإنسان نفسه في مهلكتها لو علم بواقع الأمر كما اُصيب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم اُحد بما اُصيب، و اُصيب عليّعليه‌السلام في مسجد الكوفة حين فتك به المراديّ لعنه الله، و اُصيب الحسينعليه‌السلام فقتل في كربلاء، و اُصيب سائر الأئمّة بالسمّ، فلو كانوا يعلمون ما سيجري عليهم كان ذلك من إلقاء النفس في التهلكة و هو محرّم، و الإشكال كما ترى مأخوذ من الآيتين:( وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ) ( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) .

٢٠٧

و يردّه أنّه مغالطة بالخلط بين العلوم العاديّة و غير العاديّة فالعلم غير العاديّ بحقائق الاُمور لا أثر له في تغيير مجرى الحوادث الخارجيّة.

توضيح ذلك أنّ أفعالنا الاختياريّة كما تتعلّق بإرادتنا كذلك تتعلّق بعلل و شرائط اُخرى مادّيّة زمانيّة و مكانيّة إذا اجتمعت عليها تلك العلل و الشرائط و تمّت بالإرادة تحقّقت العلّة التامّة و كان تحقّق الفعل عند ذلك واجباً ضروريّاً إذ من المستحيل تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

فنسبة الفعل و هو معلول إلى علّته التامّة نسبة الوجوب و الضرورة كنسبة جميع الحوادث إلى عللها التامّة، و نسبته إلى إرادتنا و هي جزء علّته نسبة الجواز و الإمكان.

فتبيّن أنّ جميع الحوادث الخارجيّة و منها أفعالنا الاختياريّة واجبة الحصول في الخارج واقعة فيها على صفة الضرورة و لا ينافي ذلك كون أفعالنا الاختياريّة ممكنة بالنسبة إلينا مع وجوبها على ما تقدّم.

فإذا كان كلّ حادث و منها أفعالنا الاختياريّة بصفة الاختيار معلولاً له علّة تامّة يستحيل معها تخلّفه عنها كانت الحوادث سلسلة منتظمة يستوعبها الوجوب لا يتعدّى حلقة من حلقاتها موضعها و لا تتبدّل من غيرها و كان الجميع واجباً من أوّل يوم سواء في ذلك ما وقع في الماضي و ما لم يقع بعد، فلو فرض حصول علم بحقائق الحوادث على ما هي عليها في متن الواقع لم يؤثّر ذلك في إخراج حادث منها و إن كان اختيارياً عن ساحة الوجوب إلى حدّ الإمكان.

فإن قلت: بل يقع هذا العلم اليقينيّ في مجرى أسباب الأفعال الاختياريّة كالعلم الحاصل من الطرق العاديّة فيستفاد منه فيما إذا خالف العلم الحاصل من الطرق العاديّة فيصير سبباً للفعل أو الترك حيث يبطل معه العلم العاديّ.

قلت: كلّا فإنّ المفروض تحقّق العلّة التامّة للعلم العاديّ مع سائر أسباب الفعل الاختياريّ فمثله كمثل أهل الجحود و العناد من الكفّار يستيقنون بأنّ مصيرهم مع الجحود إلى النار و مع ذلك يصرّون على جحودهم لحكم هواهم بوجوب الجحود و هذا منهم هو العلم العاديّ بوجوب الفعل، قال تعالى في قصّة آل فرعون:( وَ جَحَدُوا بِها

٢٠٨

وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: ١٤.

و بهذا يندفع ما يمكن أن يقال: لا يتصوّر علم يقينيّ بالخلاف مع عدم تأثيره في الإرادة فليكشف عدم تأثيره في الإرادة عن عدم تحقّق علم على هذا الوصف.

وجه الاندفاع: أنّ مجرّد تحقّق العلم بالخلاف لا يستوجب تحقّق الإرادة مستندة إليه و إنّما هو العلم الّذي يتعلّق بوجوب الفعل مع التزام النفس به كما مرّ في جحود أهل الجحود و إنكارهم الحقّ مع يقينهم به و مثله الفعل بالعناية فإنّ سقوط الواقف على جذع عال، منه على الأرض بمجرّد تصوّر السقوط لا يمنع عنه علمه بأنّ في السقوط هلاكه القطعيّ.

و قد أجاب بعضهم عن أصل الإشكال بأنّ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأئمّةعليهم‌السلام تكاليف خاصّة بكلّ واحد منهم فعليهم أن يقتحموا هذه المهالك و إن كان ذلك منّا إلقاء النفس في التهلكة و هو حرام، و إليه إشارة في بعض الأخبار.

و أجاب بعضهم عنه بأنّ الّذي ينجّز التكاليف من العلم هو العلم من الطرق العاديّة و أمّا غيره فليس بمنجّز، و يمكن توجيه الوجهين بما يرجع إلى ما تقدّم.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ ) إلخ، ضمائر( كانَ ) و( بِهِ ) و( مِثْلِهِ ) على ما يعطيه السياق للقرآن، و قوله:( وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ) إلخ، معطوف على الشرط و يشاركه في الجزاء، و المراد بمثل القرآن مثله من حيث مضمونه في المعارف الإلهيّة و هو كتاب التوراة الأصليّة الّتي نزلت على موسىعليه‌السلام ، و قوله:( فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ ) أي فآمن الشاهد الإسرائيليّ المذكور بعد شهادته.

و قوله:( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) تعليل للجزاء المحذوف دالّ عليه، و الظاهر أنّه أ لستم ضالّين لا ما قيل: إنّه أ لستم ظلمتم لأنّ التعليل بعدم هداية الله الظالمين إنّما يلائم ضلالهم لا ظلمهم و إن كانوا متّصفين بالوصفين جميعاً.

و المعنى: قل للمشركين: أخبروني إن كان هذا القرآن من عندالله و الحال أنّكم

٢٠٩

كفرتم به و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما في القرآن من المعارف فآمن هو و استكبرتم أنتم أ لستم في ضلال؟ فإنّ الله لا يهدي القوم الظالمين.

و الّذي شهد على مثله فآمن على ما في بعض الأخبار هو عبدالله بن سلام من علماء اليهود، و الآية على هذا مدنيّة لا مكّيّة لأنّه ممّن آمن بالمدينة، و قول بعضهم: من الجائز أن يكون التعبير بالماضي في قوله:( وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ مِثْلِهِ فَآمَنَ ) لتحقّق الوقوع و القصّة واقعة في المستقبل سخيف لأنّه لا يلائم كون الآية في سياق الاحتجاج فالمشركون ما كانوا ليسلموا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدقه فيما يخبرهم به من الاُمور المستقبلة.

و في معنى الآية أقوال اُخر منها أنّ المراد ممّن شهد على مثله فآمن هو موسىعليه‌السلام شهد على التوراة فآمن به و إنّما عدلوا عن المعنى السابق إلى هذا المعنى للبناء على كون الآية مكّيّة، و أنّه إنّما أسلم عبدالله بن سلام بالمدينة.

و فيه أوّلاً: عدم الدليل على كون الآية مكّيّة و لتكن القصّة دليلاً على كونها مدنيّة، و ثانياً: بُعد أن يجعل موسى الكليمعليه‌السلام قريناً لهؤلاء المشركين الأجلاف يقاسون به فيقال ما محصّله: أنّ موسىعليه‌السلام آمن بالكتاب النازل عليه و أنتم استكبرتم عن الإيمان بالقرآن فسخافته ظاهرة.

و ممّا قيل إنّ المثل في الآية بمعنى نفس الشي‏ء كما قيل في قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: ١١، و هو في البعد كسابقه.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ) إلى آخر الآية قيل: اللّام في قوله:( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) للتعليل أي لأجل إيمانهم و يؤل إلى معنى في، و ضمير( كان ) و( إليه ) للقرآن من جهة الإيمان به.

و المعنى: و قال الّذين كفروا في الّذين آمنوا - أي لأجل إيمانهم -: لو كان الإيمان بالقرآن خيراً ما سبقونا - أي المؤمنون - إليه.

و قال بعضهم: إنّ المراد بالّذين آمنوا بعض المؤمنين و بالضمير العائد إليه في

٢١٠

قوله:( سبقونا ) البعض الآخر، و اللّام متعلّق بقال و المعنى: و قال الّذين كفروا لبعض المؤمنين لو كان خيراً ما سبقنا البعض من المؤمنين و هم الغائبون إليه، و فيه أنّه بعيد من سياق الآية.

و قال آخرون: إنّ المراد بالّذين آمنوا المؤمنون جميعاً لكن في قوله:( ما سَبَقُونا ) التفاتا و الأصل ما سبقتمونا و هو في البعد كسابقه و ليس خطاب الحاضرين بصيغة الغيبة من الالتفات في شي‏ء.

و قوله:( وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ ) ضمير( به ) للقرآن و كذا الإشارة بهذا إليه و الإفك الافتراء أي و إذ لم يهتدوا بالقرآن لاستكبارهم عن الإيمان به فسيقولون أي الّذين كفروا هذا أي القرآن إفك و افتراء قديم، و قولهم: هذا إفك قديم كقولهم:( أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى‏ إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا ) إلخ، الظاهر أنّ قوله:( وَ مِنْ قَبْلِهِ ) إلخ، جملة حاليّة و المعنى: فسيقولون هذا إفك قديم و الحال أنّ كتاب موسى حال كونه إماماً و رحمةً قبله أي قبل القرآن و هذا القرآن كتاب مصدّق له حال كونه لساناً عربيّاً ليكون منذراً للّذين ظلموا و هو بشرى للمحسنين فكيف يكون إفكاً؟

و كون التوراة إماماً و رحمةً هو كونها بحيث يقتدي بها بنو إسرائيل و يتّبعونها في أعمالهم و رحمة للّذين آمنوا بها و اتّبعوها في إصلاح نفوسهم.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ) إلى آخر الآية المراد بقولهم ربّنا الله إقرارهم و شهادتهم بانحصار الربوبيّة في الله سبحانه و توحّده فيها، و باستقامتهم ثباتهم على ما شهدوا به من غير زيغ و انحراف و التزامهم بلوازمه العمليّة.

و قوله:( فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) أي ليس قبالهم مكروه محتمل يخافونه من عقاب محتمل، و لا مكروه محقّق يحزنون به من عقاب أو هول، فالخوف

٢١١

إنّما يكون من مكروه ممكن الوقوع، و الحزن من مكروه محقّق الوقوع، و الفاء في قوله:( فَلا خَوْفٌ ) إلخ، لتوهّم معنى الشرط فإنّ الكلام في معنى من قال ربّنا الله ثمّ استقام فلا خوف إلخ.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) المراد بصحابة الجنّة ملازمتها، و قوله:( خالِدِينَ فِيها ) حال مؤكّدة لمعنى الصحابة.

و المعنى: اُولئك الّذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا ملازمون للجنّة حال كونهم خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا من الطاعات و القربات.

( بحث روائي‏)

في الكافي، بإسناده عن أبي عبيدة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله تعالى:( ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) قال: عنى بالكتاب التوراة و الإنجيل( و أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) فإنّما عنى بذلك علم أوصياء الأنبياء.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبدالرحمن عن ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) قال: الخطّ.

أقول: لعلّ المراد بالخطّ كتاب مخطوط موروث من الأنبياء أو العلماء الماضين لكن في بعض ما روي في تفسير قوله:( أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ) أنّه حسن الخطّ و في بعض آخر أنّه جودة الخطّ و هو أجنبيّ من سياق الاحتجاج الّذي في الآية.

و في العيون، في باب مجلس الرضا مع المأمون عنهعليه‌السلام حدّثني أبي عن جدّي عن آبائه عن الحسين بن عليّعليهم‌السلام قال: اجتمع المهاجرون و الأنصار إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: إنّ لك يا رسول الله مؤنة في نفقتك و فيمن يأتيك من الوفود، و هذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارّاً مأجوراً أعط ما شئت و احكم ما شئت من غير حرج.

٢١٢

قال: فأنزل الله تعالى إليه الروح الأمين فقال: يا محمّد( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً- إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ ) يعني أن تودّوا قرابتي من بعدي، فخرجوا فقال المنافقون: ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلّا ليحثّنا على قرابته من بعده، و إن هو إلّا شي‏ء افتراه في مجلسه و كان ذلك من قولهم عظيماً.

فأنزل الله عزّوجلّ هذه الآية( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى‏ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) فبعث إليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: هل من حدث؟ فقالوا: إي و الله يا رسول الله لقد قال بعضنا كلاماً غليظاً كرهناه فتلا عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية فبكوا و اشتدّ بكاؤهم فأنزل الله تعالى:( وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوداود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عبّاس في قوله:( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) قال: نسختها هذه(١) الآية الّتي في الفتح فخرج إلى الناس فبشّرهم بالّذي غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر.

فقال رجل من المؤمنين: هنيئا لك يا نبيّ الله قد علمنا الآن ما يفعل بك فما ذا يفعل بنا؟ فأنزل الله في سورة الأحزاب( وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيراً ) و قال:( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً ) فبيّن الله ما به يفعل و بهم.

أقول: الرواية لا تخلو من شي‏ء:

أمّا أوّلاً: فلمّا تقدّم بيانه في تفسير الآية أعني قوله:( وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ) أنّها أجنبيّة عن العلم بالغيب الّذي هو من طريق الوحي بدلالة صريحة من القرآن فلا ينفي بها العلم بالمغفرة من طريق الوحي حتّى تنسخها آية سورة الفتح.

____________________

(١) يريد قوله تعالى: ( لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) الفتح: ٢.

٢١٣

و أمّا ثانياً: فلأنّ ظاهر الرواية أنّ الذنب الّذي تصرّح بمغفرته آية سورة الفتح هو الذنب بمعنى مخالفة الأمر و النهي المولويّين و سيأتي في تفسير سورة الفتح - إن شاء الله تعالى - أنّ الذنب في الآية لغير هذا المعنى.

و أمّا ثالثاً: فلأنّ الآيات الدالّة على دخول المؤمنين الجنّة كثيرة جدّاً في مكّيّة السور و مدنيّتها و لا تدلّ آيتا سورة الأحزاب على أزيد ممّا يدلّ عليه سائر الآيات فلا وجه لتخصيصهما بالدلالة على دخول المؤمنين الجنّة و شمول المغفرة لهم.

على أنّ سورة الأحزاب نازلة قبل سورة الفتح بزمان.

و فيه، أخرج أبويعلى و ابن جرير و الطبرانيّ و الحاكم و صحّحه بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعيّ قال: انطلق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنا معه حتّى دخلنا على كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم.

فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلّا الله و أنّ محمّداً رسول الله يحبط الله عن كلّ يهوديّ تحت أديم السماء الغضب الّذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثمّ ردّ عليهم فلم يجبه أحد فثلّث فلم يجبه أحد فقال: أبيتم فوالله لأنا الحاشر و أنا العاقب و أنا المقفي آمنتم أو كذّبتم.

ثمّ انصرف و أنا معه حتّى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمّد، فأقبل فقال ذلك الرجل: أيّ رجل تعلمونني فيكم يا معشر اليهود؟ فقالوا: و الله لا نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله و لا أفقه منك و لا من أبيك و لا من جدّك، فقال: إنّي أشهد بالله أنّه النبيّ الّذي تجدونه في التوراة و الإنجيل، قالوا: كذبت ثمّ ردّوا عليه و قالوا شرّاً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذبتم لن يقبل منكم قولكم.

فخرجنا و نحن ثلاث: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنا و ابن سلام فأنزل الله:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) .

أقول: و في نزول الآية في عبدالله بن سلام روايات اُخرى من طرق أهل السنّة

٢١٤

غير هذه الرواية، و سياق الآية و خاصّة قوله:( مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ) لا يلائم كون الخطاب فيها لبني إسرائيل، و قد عدّ الإنجيل في الرواية من كتبهم و ليس من كتبهم و اليهود لا يصدّقونه.

و في بعض الروايات أنّ الآية نزلت في ابن يامين من علمائهم حين شهد و أسلم فكذّبته اليهود، و الإشكال السابق على حاله.

٢١٥

( سورة الأحقاف الآيات ١٥ - ٢٠)

وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا  حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا  وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا  حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي  إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( ١٥ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ  وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( ١٦ ) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ١٧ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ  إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( ١٨ ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا  وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( ١٩ ) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ( ٢٠ )

٢١٦

( بيان‏)

لمّا قسّم الناس في قوله:( لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى‏ لِلْمُحْسِنِينَ ) إلى ظالمين و محسنين و اُشير فيه إلى أنّ للظالمين ما يخاف و يحذر و للمحسنين ما يسرّ الإنسان و يبشّر به عقّب ذلك في هذا الفصل من الآيات بتفصيل القول فيه، و أنّ الناس بين قوم تائبين إلى الله مسلمين له و هم الّذين يتقبّل أحسن أعمالهم و يتجاوز عن سيّئاتهم في أصحاب الجنّة، و قوم خاسرين حقّ عليهم القول في اُمم قد خلت من قبلهم من الجنّ و الإنس.

و مثل الطائفة الاُولى بمن كان مؤمناً بالله مسلماً له بارّاً بوالديه يسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم عليه و على والديه و العمل الصالح و إصلاح ذرّيّته، و الطائفة الثانية بمن كان عاقّاً لوالديه إذا دعواه إلى الإيمان بالله و اليوم الآخر فيزجرهما و يعد ذلك من أساطير الأوّلين.

قوله تعالى: ( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً ) إلى آخر الآية، الوصيّة على ما ذكره الراغب هو التقدّم إلى الغير بما يعمل به مقترناً بوعظ و التوصية تفعيل من الوصيّة قال تعالى:( وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ ) البقرة: ١٣٢، فمفعوله الثاني الّذي يتعدّى إليه بالباء من قبيل الأفعال، فالمراد بالتوصية بالوالدين التوصية بعمل يتعلّق بهما و هو الإحسان إليهما.

و على هذا فتقدير الكلام: و وصّينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحساناً.

و في إعراب:( إِحْساناً ) أقوال اُخر كقول بعضهم: إنّه مفعول مطلق على تضمين( وصينا) معنى أحسنّا، و التقدير: وصّينا الإنسان محسنين إليهما إحساناً، و قول بعضهم: إنّه صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاءً ذا إحسان، و قول بعضهم: هو مفعول له، و التقدير: وصّيناه بهما لإحساننا إليهما، إلى غير ذلك ممّا قيل.

و كيف كان فبرّ الوالدين و الإحسان إليهما من الأحكام العامّة المشرّعة في جميع الشرائع كما تقدّم في تفسير قوله تعالى:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا

٢١٧

تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) الأنعام: ١٥١، و لذلك قال:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ ) فعمّمه لكلّ إنسان.

ثمّ عقّبه سبحانه بالإشارة إلى ما قاسته اُمّه في حمله و وضعه و فصاله إشعاراً بملاك الحكم و تهييجاً لعواطفه و إثارة لغريزة رحمته و رأفته فقال:( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) أي حملته اُمّه حملاً ذا كره أي مشقّة و ذلك لما في حمله من الثقل، و وضعته وضعاً ذا كره و ذلك لما عنده من ألم الطلق.

و أمّا قوله:( وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) فقد اُخذ فيه أقلّ مدّة الحمل و هو ستّة أشهر، و الحولان الباقيان إلى تمام ثلاثين شهراً مدّة الرضاع، قال تعالى:( وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) البقرة: ٢٣٣، و قال:( وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ ) لقمان: ١٤.

و الفصال التفريق بين الصبيّ و بين الرضاع، و جعل العامين ظرفاً للفصال بعناية أنّه في آخر الرضاع و لا يتحقّق إلّا بانقضاء عامين.

و قوله:( حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) بلوغ الأشدّ بلوغ زمان من العمر تشتدّ فيه قوى الإنسان، و قد مرّ نقل اختلافهم في معنى بلوغ الأشدّ في تفسير قوله:( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً ) يوسف: ٢٢، و بلوغ الأربعين ملازم عادة لكمال العقل.

و قوله:( قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى‏ والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) الإيزاع الإلهام، و هذا الإلهام ليس بإلهام علم يعلم به الإنسان ما جهلته نفسه بحسب الطبع كما في قوله:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: ٨، بل هو إلهام عمليّ بمعنى البعث و الدعوة الباطنيّة إلى فعل الخير و شكر النعمة و بالجملة العمل الصالح.

و قد اُطلق النعمة الّتي سأل إلهام الشكر عليها فتعمّ النعم الظاهريّة كالحياة و الرزق و الشعور و الإرادة، و الباطنيّة كالإيمان بالله و الإسلام و الخشوع له و التوكّل عليه و التفويض إليه ففي قوله:( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ) إلخ، سؤال أن يلهمه الثناء

٢١٨

عليه بإظهار نعمته قولاً و فعلاً: أمّا قولاً فظاهر، و أمّا فعلاً فباستعمال هذه النعم استعمالاً يظهر به أنّها لله سبحانه أنعم بها عليه و ليست له من قبل نفسه و لازمه ظهور العبوديّة و المملوكيّة من هذا الإنسان في قوله و فعله جميعاً.

و تفسير النعمة بقوله:( الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى‏ والِدَيَّ ) يفيد شكره من قبل نفسه على ما اختصّ به من النعمة و من قبل والديه فيما أنعم به عليهما فهو لسان ذاكر لهما بعدهما.

و قوله:( وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ) عطف على قوله:( أَنْ أَشْكُرَ ) إلخ، سؤال متمّم لسؤال الشكر على النعم فإنّ الشكر يحلّي ظاهر الأعمال، و الصلاحية الّتي يرتضيها الله تعالى تحلّي باطنها و تخلّصها له تعالى.

و قوله:( وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) الإصلاح في الذرّيّة إيجاد الصلاح فيهم و هو من الله سبحانه توفيقهم للعمل الصالح و ينجرّ إلى إصلاح نفوسهم، و تقييد الإصلاح بقوله:( لي ) للدلالة على أن يكون إصلاحهم بنحو ينتفع هو به أي أن يكون ذرّيّته له في برّه و إحسانه كما كان هو لوالديه.

و محصّل الدعاء سؤال أن يلهمه الله شكر نعمته و صالح العمل و أن يكون بارّاً محسناً بوالديه و يكون ذرّيّته له كما كان هو لوالديه، و قد تقدّم(١) غير مرّة أنّ شكر نعمه تعالى بحقيقة معناه هو كون العبد خالصاً لله فيؤل معنى الدعاء إلى سؤال خلوص النفس و صلاح العمل.

و قوله:( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) أي الّذين يسلّمون الأمر لك فلا تريد شيئاً إلّا أرادوه بل لا يريدون إلّا ما أردت.

و الجملة في مقام التعليل لما يتضمّنه الدعاء من المطالب، و يتبيّن بالآية حيث ذكر الدعاء و لم يردّه بل أيّده بما وعد في قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ) إلخ، إنّ التوبة و الإسلام لله سبحانه إذا اجتمعاً في العبد استعقب ذلك الهامة تعالى بما يصير به العبد من المخلصين - بفتح اللّام - ذاتاً و المخلصين - بكسر اللّام - عملاً أمّا إخلاص الذات

____________________

(١) تفسير الآية ١٤٤ من سورة آل عمران و الآية ١٧ من سورة الأعراف.

٢١٩

فقد تقدّمت الإشارة إليه آنفاً، و أمّا إخلاص العمل فلأنّ العمل لا يكون صالحاً لقبوله‏ تعالى مرفوعاً إليه إلّا إذا كان خالصاً لوجهه الكريم، قال تعالى:( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ) الزمر: ٣.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ ) إلخ، التقبّل أبلغ من القبول، و المراد بأحسن ما عملوا طاعاتهم من الواجبات و المندوبات فإنّها هي المقبولة المتقبّلة و أمّا المباحات فإنّها و إن كانت ذات حسن لكنّها ليست بمتقبّلة، كذا ذكر في مجمع البيان و هو تفسير حسن و يؤيّده مقابلة تقبّل أحسن ما عملوا بالتجاوز عن السيّئات فكأنّه قيل: إنّ أعمالهم طاعات من الواجبات و المندوبات و هي أحسن أعمالهم فنتقبّلها و سيّئات فنتجاوز عنها و ما ليس بطاعة و لا حسنة فلا شأن له من قبول و غيره.

و قوله:( فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ ) متعلّق بقوله:( نَتَجاوَزُ ) أي نتجاوز عن سيّئاتهم في جملة من نتجاوز عن سيّئاتهم من أصحاب الجنّة، فهو حال من ضمير( عَنْهُمْ ) .

و قوله:( وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) أي يعدّهم الله بهذا الكلام وعد الصدق الّذي كانوا يوعدونه إلى هذا الحين بلسان الأنبياء و الرسل، أو المراد أنّه ينجزّ لهم بهذا التقبّل و التجاوز يوم القيامة وعد الصدق الّذي كانوا يوعدونه في الدنيا.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ) لمّا ذكر الإنسان الّذي تاب إلى الله و أسلم له و سأله الخلوص و الإخلاص و برّ والديه و إصلاح أولاده له قابله بهذا الإنسان الّذي يكفر بالله و رسوله و المعاد و يعقّ والديه إذا دعواه إلى الإيمان و أنذراه بالمعاد.

فقوله:( وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ) الظاهر أنّه مبتدأ في معنى الجمع و خبره قوله بعد:( أُولئِكَ الَّذِينَ ) إلخ، و( أف ) كلمة تبرّم يقصد بها إظهار التسخّط و التوجّع و( أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) الاستفهام للتوبيخ، و المعنى: أ تعدانني أن اُخرج من قبري فاُحيا و اُحضر للحساب أي أ تعدانني المعاد( وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ) أي

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429