الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120162 / تحميل: 6179
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

و هي سورة مدنيّة على ما يشهد به سياق آياتها.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) فسّر الصدّ بالإعراض عن سبيل الله و هو الإسلام كما عن بعضهم، و فسّر بالمنع و هو منعهم الناس أن يؤمنوا بما كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوهم إليه من دين التوحيد كما عن بعض آخر.

و ثاني التفسيرين أوفق لسياق الآيات التالية و خاصّة ما يأمر المؤمنين بقتلهم و أسرهم و غيرهم.

فالمراد بالّذين كفروا كفّار مكّة و من تبعهم في كفرهم و قد كانوا يمنعون الناس عن الإيمان بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يفتّنونهم، و صدّوهم أيضاً عن المسجد الحرام.

و قوله:( أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) أي جعل أعمالهم ضالّة لا تهتدي إلى مقاصدها الّتي قصدت بها و هي بالجملة إبطال الحقّ و إحياء الباطل فالجملة في معنى ما تكرّر منه تعالى من قوله:( وَ اللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) البقرة: ٢٦٤، و قد وعد سبحانه بإحياء الحقّ و إبطال الباطل كما في قوله:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) الأنفال: ٨.

فالمراد من ضلال أعمالهم بطلانها و فسادها دون الوصول إلى الغاية، و عدّ ذلك ضلالاً من الاستعارة بالكناية.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) إلخ، ظاهر إطلاق صدر الآية أنّ المراد بالّذين آمنوا إلخ، مطلق من آمن و عمل صالحاً فيكون قوله:( وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى‏ مُحَمَّدٍ ) تقييدا احترازيّاً لا تأكيداً و ذكراً لما تعلّقت به العناية في الإيمان.

و قوله:( وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) جملة معترضة و الضمير راجع إلى ما نزّل.

و قوله:( كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ ) قال في المجمع: البال الحال و الشأن و البال القلب أيضاً يقال: خطر ببالي كذا، و البال لا يجمع لأنّه أبهم أخواته من الحال و الشأن انتهى.

و قد قوبل إضلال الأعمال في الآية السابقة بتكفير السيّئات و إصلاح البال في هذه

٢٤١

الآية فمعنى ذلك هداية إيمانهم و عملهم الصالح إلى غاية السعادة، و إنّما يتمّ ذلك بتكفير السيّئات المانعة من الوصول إلى السعادة، و لذلك ضمّ تكفير السيّئات إلى إصلاح البال.

و المعنى: ضرب الله الستر على سيّئاتهم بالعفو و المغفرة، و أصلح حالهم في الدنيا و الآخرة أمّا الدنيا فلأنّ الدين الحقّ هو الدين الّذي يوافق ما تقتضيه الفطرة الإنسانيّة الّتي فطر الله الناس عليها، و الفطرة لا تقتضي إلّا ما فيه سعادتها و كمالها ففي الإيمان بما أنزل الله من دين الفطرة و العمل به صلاح حال المؤمنين في مجتمعهم الدنيويّ، و أمّا في الآخرة فلأنّها عاقبة الحياة الدنيا و إذ كانت فاتحتها سعيدة كانت خاتمتها كذلك قال تعالى:( وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) طه: ١٣٢.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ) إلخ، تعليل لما في الآيتين السابقتين من إضلال أعمال الكفّار و إصلاح حال المؤمنين مع تكفير سيّئاتهم.

و في تقييد الحقّ بقوله:( مِنْ رَبِّهِمْ ) إشارة إلى أنّ المنتسب إليه تعالى هو الحقّ و لا نسبة للباطل إليه و لذلك تولّى سبحانه إصلاح بال المؤمنين لما ينتسب إليه طريق الحقّ الّذي اتّبعوه، و أمّا الكفّار بأعمالهم فلا شأن له تعالى فيهم و أمّا انتساب ضلالهم إليه في قوله:( أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) فمعنى إضلال أعمالهم عدم هدايته لها إلى غايات صالحة سعيدة.

و في الآية إشارة إلى أنّ الملاك كلّ الملاك في سعادة الإنسان و شقائه اتّباع الحقّ و اتّباع الباطل و السبب في ذلك انتساب الحقّ إليه تعالى دون الباطل.

و قوله:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ ) أي يبيّن لهم أوصافهم على ما هي عليه، و في الإتيان باسم الإشارة الموضوعة للبعيد تفخيم لأمر ما ضربه من المثل.

قوله تعالى: ( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) إلى آخر الآية، تفريع على ما تقدّم في الآيات الثلاث من وصف الفريقين كأنّه قيل: إذا كان المؤمنون أهل الحقّ و الله ينعم عليهم بما ينعم و الكفّار أهل الباطل و الله يضلّ أعمالهم فعلى المؤمنين إذا لقوا

٢٤٢

الكفّار أن يقتلوهم و يأسروهم ليحيي الحقّ الّذي عليه المؤمنون و تطهر الأرض من الباطل الّذي عليه الكفّار.

فقوله:( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) المراد باللقاء اللقاء في القتال و ضرب الرقاب مفعول مطلق قائم مقام فعله العامل فيه، و التقدير: فاضربوا الرقاب - أي رقابهم - ضرباً و ضرب الرقبة كناية عن القتل بالسيف، لأنّ أيسر القتل و أسرعه ضرب الرقبة به.

و قوله:( حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) في المجمع: الإثخان إكثار القتل و غلبة العدوّ و قهرهم و منه أثخنه المرض اشتدّ عليه و أثخنه الجراح. انتهى. و في المفردات: وثقت به أثق ثقة سكنت إليه و اعتمدت عليه، و أوثقته شددته، و الوثاق - بفتح الواو - و الوثاق - بكسر الواو - اسمان لما يوثق به الشي‏ء. انتهى. و( حَتَّى ) غاية لضرب الرقاب، و المعنى: فاقتلوهم حتّى إذا أكثرتم القتل فيهم فأسروهم بشدّ الوثاق و إحكامه فالمراد بشدّ الوثاق الأسر فالآية في ترتّب الأسر فيها على الإثخان في معنى قوله تعالى:( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‏ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) الأنفال: ٦٧.

و قوله:( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً ) أي فأسروهم و يتفرّع عليه أنّكم إمّا تمنّون عليهم منّاً بعد الأسر فتطلقونهم أو تسترقّونهم و إمّا تفدونهم فداء بالمال أو بمن لكم عندهم من الأسارى.

و قوله:( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) أوزار الحرب أثقالها و هي الأسلحة الّتي يحملها المحاربون و المراد به وضع المقاتلين و أهل الحرب أسلحتهم كناية عن انقضاء القتال.

و قد تبيّن بما تقدّم من المعنى ما في قول بعضهم إنّ هذه الآية ناسخة لقوله تعالى:( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‏ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) الأنفال: ٦٧، لأنّ هذه السورة متأخّرة نزولاً عن سورة الأنفال فتكون ناسخة لها.

و ذلك لعدم التدافع بين الآيتين فآية الأنفال تنهى عن الأسر قبل الإثخان

٢٤٣

و الآية المبحوث عنها تأمر بالأسر بعد الإثخان.

و كذا ما قيل: إنّ قوله:( فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) إلخ، منسوخ بآية السيف( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) التوبة: ٥، و كأنّه مبنيّ على كون العامّ الوارد بعد الخاصّ ناسخاً له لا مخصّصاً به و الحقّ خلافه و تمام البحث في الاُصول، و في الآية أيضاً مباحث فقهيّة محلّها علم الفقه.

و قوله:( ذلِكَ ) أي الأمر ذلك أي إنّ حكم الله هو ما ذكر في الآية.

و قوله:( وَ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ) الضمير للكفّار أي و لو شاء الله الانتقام منهم لانتقم منهم بإهلاكهم و تعذيبهم من غير أن يأمركم بقتالهم.

و قوله:( وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) استدراك من مشيّة الانتصار أي و لكن لم ينتصر منهم بل أمركم بقتالهم ليمتحن بعضكم ببعض فيمتحن المؤمنين بالكفّار يأمرهم بقتالهم ليظهر المطيعون من العاصين و يمتحن الكفّار بالمؤمنين فيتميّز أهل الشقاء منهم ممّن يوفّق للتوبة من الباطل و الرجوع إلى الحقّ.

و قد ظهر بذلك أنّ قوله:( لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) تعليل للحكم المذكورة في الآية و الخطاب في( بَعْضَكُمْ ) لمجموع المؤمنين و الكفّار و وجه الخطاب إلى المؤمنين.

و قوله:( وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ) الكلام مسوق سوق الشرط و الحكم عامّ أي و من قتل في سبيل الله و هو الجهاد و القتال مع أعداء الدين فلن يبطل أعمالهم الصالحة الّتي أتوا بها في سبيل الله.

و قيل: المراد بقوله:( وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) شهداء يوم اُحد، و فيه أنّه تخصيص من غير مخصّص و السياق سياق العموم.

قوله تعالى: ( سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ ) الضمير للّذين قتلوا في سبيل الله فالآية و ما يتلوها لبيان حالهم بعد الشهادة أي سيهديهم الله إلى منازل السعادة و الكرامة و يصلح حالهم بالمغفرة و العفو عن سيّئاتهم فيصلحون لدخول الجنّة.

و إذا انضمّت هذه الآية إلى قوله تعالى:( وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) آل عمران: ١٦٩، ظهر أنّ المراد بإصلاح بالهم إحياؤهم

٢٤٤

حياة يصلحون بها للحضور عند ربّهم بانكشاف الغطاء.

و قال في المجمع: و الوجه في تكرير قوله:( بالَهُمْ ) أنّ المراد بالأوّل أنّه أصلح بالهم في الدين و الدنيا، و بالثاني أنّه يصلح حالهم في نعيم العقبى فالأوّل سبب النعيم و الثاني نفس النعيم. انتهى. و الفرق بين ما ذكره من المعنى و ما قدّمناه أنّ قوله تعالى:( وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ ) على ما ذكرنا كالعطف التفسيريّ لقوله:( سَيَهْدِيهِمْ ) دون ما ذكره، و قوله الآتي:( وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ) على ما ذكره كالعطف التفسيريّ لقوله:( وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ ) دون ما ذكرناه.

قوله تعالى: ( وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ) غاية هدايته لهم، و قوله:( عَرَّفَها لَهُمْ ) حال من إدخاله إيّاهم الجنّة أي سيدخلهم الجنّة و الحال أنّه عرّفها لهم إمّا بالبيان الدنيويّ من طريق الوحي و النبوّة و إمّا بالبشرى عند القبض أو في القبر أو في القيامة أو في جميع هذه المواقف هذا ما يفيده السياق من المعنى.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ قال: سورة محمّد آية فينا و آية في بني اُميّة.

أقول: و روى القمّيّ في تفسيره، عن أبيه عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللهعليه‌السلام : مثله.

و في المجمع: في قوله:( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) إلخ المرويّ عن أئمّة الهدىعليهم‌السلام : أنّ الاُسارى ضربان: ضرب يؤخذون قبل انقضاء القتال و الحرب قائمة فهؤلاء يكون الإمام مخيراً بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و يتركهم حتّى ينزفوا، و لا يجوز المنّ و لا الفداء.

و الضرب الآخر الّذين يؤخذون بعد أن وضعت الحرب أوزارها و انقضى القتال فالإمام مخيّر فيهم بين المنّ و الفداء إمّا بالمال أو بالنفس و بين الاسترقاق و ضرب الرقاب

٢٤٥

فإذا أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك و كان حكمهم حكم المسلمين.

أقول: و روي ما في معناه في الكافي عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ) قال: نزل فيمن قتل من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم اُحد.

أقول: قد عرفت أنّ الآية عامّة، و سياق الاستقبال في قوله:( سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ ) إلخ، إنّما يلائم العموم و كون الكلام مسوقاً لضرب القاعدة.

و قد روي أنّ قوله تعالى:( حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) ناسخ لقوله:( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآية، و أيضاً أنّ قوله:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ناسخ لقوله:( فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً ) و قد عرفت فيما تقدّم عدم استقامة النسخ.

٢٤٦

( سورة محمّد الآيات ٧ - ١٥)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ( ٧ ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( ٨ ) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( ٩ ) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ  وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ( ١٠ ) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ( ١١ ) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ  وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ( ١٢ ) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ( ١٣ ) أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم ( ١٤ ) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ  فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى  وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ  كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ( ١٥ )

٢٤٧

( بيان‏)

الآيات جارية على السياق السابق.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ) تحضيض لهم على الجهاد و وعد لهم بالنصر إن نصروا الله تعالى فالمراد بنصرهم لله أن يجاهدوا في سبيل الله على أن يقاتلوا لوجه الله تأييداً لدينه و إعلاءً لكلمة الحقّ لا ليستعلوا في الأرض أو ليصيبوا غنيمة أو ليُظهروا نجده و شجاعة.

و المراد بنصر الله لهم توفيقه الأسباب المقتضية لظهورهم و غلبتهم على عدوّهم كإلقاء الرعب في قلوب الكفّار و إدارة الدوائر للمؤمنين عليهم و ربط جاش المؤمنين و تشجيعهم، و على هذا فعطف تثبيت الأقدام على النصر من عطف الخاصّ على العامّ و تخصيص تثبيت الأقدام، و هو كناية عن التشجيع و تقوية القلوب، لكونه من أظهر أفراد النصر.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) ذكر ما يفعل بالكفّار عقيب ذكر ما يفعل بالمؤمنين الناصرين لله لقياس حالهم من حالهم.

و التعس هو سقوط الإنسان على وجهه و بقاؤه عليه و يقابله الانتعاش و هو القيام عن السقوط على الوجه فقوله:( فَتَعْساً لَهُمْ ) أي تعسوا تعساً و هو ما يتلوه دعاء عليهم نظير قوله:( قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) التوبة: ٣٠،( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) عبس: ١٧، و يمكن أن يكون إخباراً عن تعسهم و بطلان أثر مساعيهم على نحو الكناية فإنّ الإنسان أعجز ما يكون إذا كان ساقطاً على وجهه.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) المراد بما أنزل الله هو القرآن و الشرائع و الأحكام الّتي أنزلها الله تعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمر بإطاعتها و الانقياد لها فكرهوها و استكبروا عن اتّباعها.

و الآية تعليل مضمون الآية السابقة و المعنى ظاهر.

٢٤٨

قوله تعالى: ( أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكافِرِينَ أَمْثالُها ) التدمير الإهلاك، يقال: دمّره الله أي أهلكه، و يقال: دمّر الله عليه أي أهلك ما يخصّه من نفس و أهل و دار و عقار فدمّر عليه أبلغ من دمّره كما قيل، و ضمير( أَمْثالُها ) للعاقبة أو للعقوبة المدلول عليها بسابق الكلام.

و المراد بالكافرين الكافرون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و المعنى: و للكافرين بك يا محمّد أمثال تلك العاقبة أو العقوبة و إنّما اُوعدوا بأمثال العاقبة أو العقوبة و لا يحلّ بهم إلّا مثل واحد لأنّهم في معرض عقوبات كثيرة دنيويّة و اُخرويّة و إن كان لا يحلّ بهم إلّا بعضها، و يمكن أن يراد بالكافرين مطلق الكافرين، و الجملة من باب ضرب القاعدة.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى‏ لَهُمْ ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من نصر المؤمنين و مقت الكافرين و سوء عاقبتهم، و لا يصغي إلى ما قيل: إنّه إشارة إلى ثبوت عاقبة أو عقوبة الاُمم السالفة لهؤلاء، و كذا ما قيل: إنّه إشارة إلى نصر المؤمنين، و ذلك لأنّ الآية متعرّضة لحال الطائفتين: المؤمنين و الكفّار جميعاً.

و المولى كأنّه مصدر ميميّ اُريد به المعنى الوصفيّ فهو بمعنى الوليّ و لذلك يطلق على سيّد العبد و مالكه لأنّ له ولاية التصرّف في اُمور عبده، و يطلق على الناصر لأنّه يلي التصرّف في أمر منصورة بالتقوية و التأييد و الله سبحانه مولى لأنّه المالك الّذي يلي اُمور خلقه في صراط التكوين و يدبّرها كيف يشاء، قال تعالى:( ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ ) الم السجدة: ٤، و قال:( وَ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ) يونس: ٣٠، و هو تعالى مولى لأنّه يلي تدبير اُمور عباده في صراط السعادة فيهديهم إلى سعادتهم و الجنّة و يوفّقهم للصالحات و ينصرهم على أعدائهم، و المولويّة بهذا المعنى الثانية تختصّ بالمؤمنين، لأنّهم هم الداخلون في حظيرة العبوديّة المتّبعون لما يريده منهم ربّهم دون الكفّار.

و للمؤمنين مولى و وليّ هو الله سبحانه كما قال:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) ، و قال:( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ) البقرة: ٢٥٧، و أمّا الكفّار فقد اتّخذوا

٢٤٩

الأصنام أو أرباب الأصنام أولياء فهم أولياؤهم على ما زعموا كما قال بالبناء على مزعمتهم بنوع من التهكّم:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ) البقرة: ٢٥٧، و نفي ولايتهم بالبناء على حقيقة الأمر فقال:( وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى‏ لَهُمْ ) ثمّ نفى ولايتهم مطلقاً تكويناً و تشريعاً مطلقاً فقال:( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ ) الشورى: ٩، و قال:( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) النجم: ٢٣.

فمعنى الآية: أنّ نصره تعالى للمؤمنين و تثبيته أقدامهم و خذلانه الكفّار و إضلاله أعمالهم و عقوبته لهم إنّما ذلك بسبب أنّه تعالى مولى المؤمنين و وليّهم، و أنّ الكفّار لا مولى لهم فينصرهم و يهدي أعمالهم و ينجّيهم من عقوبته.

و قد تبيّن بما تقدّم ضعف ما قيل: إنّ المولى في الآية بمعنى الناصر دون المالك و إلّا كان منافياً لقوله تعالى:( وَ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ) يونس: ٣٠، و وجه الضعف ظاهر.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) مقايسة بين الفريقين و بيان أثر ولاية الله للمؤمنين و عدم ولايته للكفّار من حيث العاقبة و الآخرة و هي أنّ المؤمنين يدخلون الجنّة و الكفّار يقيمون في النار.

و قد اُشير في الكلام إلى منشأ ما ذكر من الأثر حيث وصف كلّاً من الفريقين بما يناسب مآل حاله فأشار إلى صفة المؤمنين بقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) و إلى صفة الكفّار بقوله:( يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ) فأفاد الوصفان بما بينهما من المقابلة أنّ المؤمنين راشدون في حياتهم الدنيا مصيبون للحقّ حيث آمنوا بالله و عملوا الأعمال الصالحة فسلكوا سبيل الرشد و قاموا بوظيفة الإنسانيّة، و أمّا الكفّار فلا عناية لهم بإصابة الحقّ و لا تعلّق لقلوبهم بوظائف الإنسانيّة، و إنّما همّهم بطنهم و فرجهم يتمتّعون في حياتهم الدنيا القصيرة و يأكلون كما تأكل الأنعام لا منية لهم إلّا ذلك و لا غاية لهم وراءه.

فهؤلاء أي المؤمنون تحت ولاية الله حيث يسلكون مسلكاً يريده منهم ربّهم

٢٥٠

و يهديهم إليه و لذلك يدخلهم في الآخرة جنّات تجري من تحتها الأنهار، و اُولئك أي الكفّار ما لهم من وليّ و إنّما وكلوا إلى أنفسهم و لذلك كان مثواهم و مقامهم النار.

و إنّما نسب دخول المؤمنين الجنّات إلى الله نفسه دون إقامة الكفّار في النار قضاء لحقّ الولاية المذكورة فله تعالى عناية خاصّة بأوليائه، و أمّا المنسلخون من ولايته فلا يبالي في أيّ واد هلكوا.

قوله تعالى: ( وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ ) المراد بالقرية أهل القرية بدليل قوله بعد:( أَهْلَكْناهُمْ ) إلخ، و القرية الّتي أخرجتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي مكّة.

و في الآية تقوية لقلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تهديد لأهل مكّة و تحقير لأمرهم أنّ الله أهلك قرى كثيرة كلّ منها أشدّ قوّة من قريتهم و لا ناصر لهم ينصرهم.

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ كانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) السياق الجاري على قياس حال المؤمنين بحال الكفّار يدلّ على أنّ المراد بمن كان على بيّنة من ربّه هم المؤمنون فالمراد بكونهم على بيّنة من ربّهم كونهم على دلالة بيّنة من ربّهم توجب اليقين على ما اعتقدوا عليه و هي الحجّة البرهانيّة فهم إنّما يتّبعون الحجّة القاطعة على ما هو الحريّ بالإنسان الّذي من شأنه أن يستعمل العقل و يتّبع الحقّ.

و أمّا الّذين كفروا فقد شغفهم أعمالهم السيّئة الّتي زيّنها لهم الشيطان و تعلّقت بها أهواؤهم و عملوا السيّئات، فكم بين الفريقين من فرق.

قوله تعالى: ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) إلى آخر الآية يفرّق بين الفريقين ببيان مآل أمرهما و هو في الحقيقة توضيح ما مرّ في قوله:( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ من الفرق بينهما فهذه الآية في الحقيقة تفصيل تلك الآية.

فقوله:( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) المثل بمعنى الصفة - كما قيل - أي صفة الجنّة الّتي وعد الله المتّقين أن يدخلهم فيها، و ربّما حمل المثل على معناه

٢٥١

المعروف و استفيد منه أنّ الجنّة أرفع و أعلى من أن يحيط بها الوصف و يحدّها اللفظ و إنّما تقرّب إلى الأذهان نوع تقريب بأمثال مضروبة كما يلوّح إليه قوله تعالى:( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) السجدة: ١٧.

و قد بدّل قوله في الآية السابقة:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) في هذه الآية من قوله:( الْمُتَّقُونَ ) تبديل اللازم من الملزوم فإنّ تقوى الله يستلزم الإيمان به و عمل الصالحات من الأعمال.

و قوله:( فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) أي غير متغيّر بطول المقام، و قوله:( وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ) كما في ألبان الدنيا، و قوله:( وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) أي لذيذة للشاربين، و اللّذّة إمّا صفة مشبهة مؤنّثة وصف للخمر، و إمّا مصدر وصفت به الخمر مبالغة، و إمّا بتقدير مضاف أي ذات لذّة، و قوله:( وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ) أي خالص من الشمع و الرغوة و القذى و سائر ما في عسل الدنيا من الأذى و العيوب، و قوله:( وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) جمع للتعميم.

و قوله:( وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) ينمحي بها عنهم كلّ ذنب و سيّئة فلا تتكدّر عيشتهم بمكدّر و لا ينتغص بمنغّص، و في التعبير عنه تعالى بربّهم إشارة إلى غشيان الرحمة و شمول الحنان و الرأفة الإلهيّة.

و قوله:( كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ ) قياس محذوف أحد طرفيه أي أ من يدخل الجنّة الّتي هذا مثلها كمن هو خالد في النار و شرابهم الماء الشديد الحرارة الّذي يقطّع أمعاءهم و ما في جوفهم من الأحشاء إذا سقوه، و إنّما يسقونه و هم مكرهون كما في قوله:( وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ) و قيل: قوله:( كَمَنْ هُوَ خالِدٌ ) إلخ، بيان لقوله في الآية السابقة:( كَمَنْ زُيِّنَ ) إلخ، و هو كما ترى.

٢٥٢

( بحث روائي‏)

في المجمع في قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ) : قال أبوجعفرعليه‌السلام : كرهوا ما أنزل الله في حقّ عليّعليه‌السلام .

و فيه في قوله تعالى:( كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ) قيل: هم المنافقون: و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .

أقول: و يحتمل أن تكون الروايتان من الجري.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ) قال: ليس من هو في هذه الجنّة الموصوفة كمن هو في هذه النار كما أن ليس عدوّ الله كوليّه.

٢٥٣

( سورة محمّد الآيات ١٦ - ٣٢)

وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا  أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ( ١٦ ) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ( ١٧ ) فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً  فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا  فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ( ١٨ ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ  وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ( ١٩ ) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ  فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ  رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ  فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ( ٢٠ ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ  فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ( ٢١ ) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ( ٢٢ ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ ( ٢٣ ) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( ٢٤ ) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى  الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ ( ٢٥ ) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي

٢٥٤

بَعْضِ الْأَمْرِ  وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ( ٢٦ ) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ( ٢٧ ) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( ٢٨ ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ ( ٢٩ ) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ  وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ  وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ( ٣٠ ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ( ٣١ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ( ٣٢ )

( بيان‏)

الآيات جارية على السياق السابق، و فيها تعرّض لحال الّذين في قلوبهم مرض و المنافقين و من ارتدّ بعد إيمانه.

قوله تعالى: ( وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً ) إلخ، آنفاً اسم فاعل منصوب على الظرفيّة أو لكونه مفعولاً فيه، و معناه الساعة الّتي قبيل ساعتك، و قيل: معناه هذه الساعة و هو على أيّ حال مأخوذ من الأنف بمعنى الجارحة.

و قوله:( وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) الضمير للّذين كفروا، و المراد باستماعهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إصغاؤهم إلى ما يتلوه من القرآن و ما يبيّن لهم من اُصول المعارف و شرائع الدين.

٢٥٥

و قوله:( حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ) الضمير للموصول و جمع الضمير باعتبار المعنى كما أنّ إفراده في( يَسْتَمِعُ ) باعتبار اللفظ.

و قوله:( قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً ) المراد بالّذين اُوتوا العلم العلماء بالله من الصحابة، و الضمير في( ما ذا قالَ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و الاستفهام في قولهم:( ما ذا قالَ آنِفاً ) قيل: للاستعلام حقيقة لأنّ استغراقهم في الكبر و الغرور و اتّباع الأهواء ما كان يدعهم أن يفقهوا القول الحقّ كما قال تعالى:( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) النساء: ٧٨، و قيل: للاستهزاء، و قيل: للتحقير كأنّ القول لكونه مشحوناً بالأباطيل لا يرجع إلى معنى محصّل، و لكلّ من المعاني الثلاثة وجه.

و قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ) تعريف لهم، و قوله:( وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) تعريف بعد تعريف فهو كعطف التفسير، و يتحصّل منه أنّ اتّباع الأهواء أمارة الطبع على القلب فالقلب غير المطبوع عليه الباقي على طهارة الفطرة الأصليّة لا يتوقّف في فهم المعارف الدينيّة و الحقائق الإلهيّة.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ ) المقابلة الظاهرة بين الآية و بين الآية السابقة يعطي أنّ المراد بالاهتداء ما يقابل الضلال الملازم للطبع على القلب و هو التسليم لما تهدي إليه الفطرة السليمة و اتّباع الحقّ، و زيادة هداهم من الله سبحانه رفعه تعالى درجة إيمانهم، و قد تقدّم أنّ الهدى و الإيمان ذو مراتب مختلفة، و المراد بالتقوى ما يقابل اتّباع الأهواء و هو الورع عن محارم الله و التجنّب عن ارتكاب المعاصي.

و بذلك يظهر أنّ زيادة الهدى راجع إلى تكميلهم في ناحية العلم و إيتاء التقوى إلى تكميلهم في ناحية العمل، و يظهر أيضاً بالمقابلة أنّ الطبع على القلوب راجع إلى فقدانهم كمال العلم و اتّباع الأهواء راجع إلى فقدانهم العمل الصالح و حرمانهم منه و هذا لا ينافي ما قدّمنا أنّ اتّباع الأهواء كعطف التفسير بالنسبة إلى الطبع على القلوب.

٢٥٦

قوله تعالى: ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ) إلخ، النظر هو الانتظار، و الأشراط جمع شرط بمعنى العلامة، و الأصل في معناه الشرط بمعنى ما يتوقّف عليه وجود الشي‏ء لأنّ تحقّقه علامة تحقّق الشي‏ء فأشراط الساعة علاماتها الدالّة عليها.

و سياق الآية سياق التهكّم كأنّهم واقفون موقفاً عليهم إمّا أن يتّبعوا الحقّ فتسعد بذلك عاقبتهم، و إمّا أن ينتظروا الساعة حتّى إذا أيقنوا بوقوعها و أشرفوا عليها تذكّروا و آمنوا و اتّبعوا الحقّ أمّا اتّباع الحقّ اليوم فلم يخضعوا له بحجّة أو بموعظة أو عبرة، و أمّا انتظارهم مجي‏ء الساعة ليتذكّروا عنده فلا ينفعهم شيئاً فإنّها تجيي‏ء بغتة و لا تمهلهم شيئاً حتّى يستعدّوا لها بالذكرى و إذا وقعت لم ينفعهم الذكرى لأنّ اليوم يوم جزاء لا يوم عمل قال تعالى:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى‏ يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) الفجر: ٢٤.

مضافاً إلى أنّ أشراطها و علاماتها قد جاءت و تحقّقت، و لعلّ المراد بأشراطها خلق الإنسان و انقسام نوعه إلى صلحاء و مفسدين و متّقين و فجّار المستدعي للحكم الفصل بينهم و نزول الموت عليهم فإنّ ذلك كلّه من شرائط وقوع الواقعة و إتيان الساعة، و قيل: المراد بأشراط الساعة ظهور النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو خاتم الأنبياء و انشقاق القمر و نزول القرآن و هو آخر الكتب السماويّة.

هذا ما يعطيه التدبّر في الآية من المعنى و هي - كما ترى - حجّة برهانيّة في عين أنّها مسوقة سوق التهكّم.

و عليه فقوله:( بَغْتَةً ) حال من الإتيان جي‏ء به لبيان الواقع و ليتفرّع عليه قوله الآتي:( فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ) و ليس قيداً للانتظار حتّى يفيد أنّهم إنّما ينتظرون إتيانها بغتة، و لدفع هذا التوهّم قيل:( إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ) و لم يقل: إلّا أن تأتيهم الساعة بغتة.

و قوله:( فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ) أنّى خبر مقدّم و( ذِكْراهُمْ ) مبتدأ مؤخّر و( إِذا جاءَتْهُمْ ) معترضة بينهما، و المعنى: فكيف يكون لهم أن يتذكّروا إذا

٢٥٧

جاءتهم؟ أي كيف ينتفعون بالذكرى في يوم لا ينفع العمل الّذي يعمل فيه و إنّما هو يوم الجزاء.

و للقوم في معنى جُمل الآية و معناها بالجملة أقوال مختلفة تركنا إيرادها من أرادها فليراجع كتبهم المفصّلة.

قوله تعالى: ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ) إلخ، قيل: هو متفرّع على جميع ما تقدّم في السورة من سعادة المؤمنين و شقاوة الكفّار كأنّه قيل: إذا علمت أنّ الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء و شقاوة اُولئك فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانيّة الله سبحانه فمعنى الأمر بالعلم على هذا هو الأمر بالثبات على العلم.

و يمكن أن يكون تفريعاً على ما بيّنه في الآيتين السابقتين أعني قوله:( وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ - إلى قوله -وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ ) من أنّه تعالى يطبع على قلوب المشركين و يتركهم و ذنوبهم و يعكس الأمر في الّذين اهتدوا إلى توحيده و الإيمان به فكأنّه قيل: إذا كان الأمر على ذلك فاستمسك بعلمك بوحدانيّة الإله و اطلب مغفرة ذنبك و مغفرة اُمّتك من المؤمنين بك و المؤمنات حتّى لا تكون ممّن يطبع الله على قلبه و يحرمه التقوى بتركه و ذنوبه، و يؤيّد هذا الوجه قوله في ذيل الآية:( وَ اللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ ) .

فقوله:( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ) معناه على ما يؤيّده السياق فاستمسك بعلمك أنّه لا إله إلّا الله، و قوله:( وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) تقدّم الكلام في معنى الذنب المنسوب إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سيأتي أيضاً في تفسير أوّل سورة الفتح إن شاء الله تعالى.

و قوله:( وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ) أمر بطلب المغفرة للاُمّة من المؤمنين و المؤمنات و حاشا أن يأمر تعالى بالاستغفار و لا يواجهه بالمغفرة أو بالدعاء و لا يقابله بالاستجابة.

و قوله:( وَ اللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ ) تعليل لما في صدر الآية:( فَاعْلَمْ أَنَّهُ ) إلخ، و الظاهر أنّ المتقلّب مصدر ميميّ بمعنى الانتقال من حال إلى حال، و كذلك المثوى بمعنى الاستقرار و السكون، و المراد أنّه تعالى يعلم كلّ أحوالكم من متغيّر

٢٥٨

و ثابت و حركة و سكون فاثبتوا على توحيده و اطلبوا مغفرته، و احذروا أن يطبع على قلوبكم و يترككم و أهواءكم.

و قيل: المراد بالمتقلّب و المثوى التصرّف في الحياة الدنيا و الاستقرار في الآخرة و قيل: المتقلّب هو التقلّب من الأصلاب إلى الأرحام و المثوى السكون في الأرض.

و قيل: المتقلّب التصرّف في اليقظة و المثوى المنام، و قيل: المتقلّب التصرّف في المعايش و المكاسب و المثوى الاستقرار في المنازل، و ما قدّمناه أظهر و أعمّ.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ) إلى آخر الآية، لو لا تحضيضيّة أي هلّا اُنزلت سورة يظهرون بها الرغبة في نزول سورة جديدة تأتيهم بتكاليف جديدة يمتثلونها، و المراد بالسورة المحكمة المبيّنة الّتي لا تشابه فيها، و المراد بذكر القتال الأمر به.

و المراد بالّذين في قلوبهم مرض، الضعفاء الإيمان من المؤمنين دون المنافقين فإنّ الآية صريحة في أنّ الّذين أظهروا الرغبة في نزولها هم الّذين آمنوا، و لا يعمّ الّذين آمنوا للمنافقين إلّا على طريق المساهلة غير اللائقة بكلام الله تعالى فالآية كقوله تعالى في فريق من المؤمنين:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ) النساء: ٧٧.

و المغشيّ عليه من الموت هو المحتضر، يقال: غشيه غشاوة إذا ستره و غطّاه و غشي على فلان - بالبناء للمفعول - إذا نابه ما غشي فهمه، و نظر المغشيّ عليه من الموت إشخاصه ببصره إليك من غير أن يطرف.

و قوله:( فَأَوْلى‏ لَهُمْ ) لعلّه خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير: أولى لهم ذلك أي حريّ بهم أن ينظروا كذلك أي أن يحتضروا فيموتوا، و عن الأصمعيّ أنّ قولهم:( أَوْلى‏ لَكَ ) كلمة تهديد معناه وليك و قارنك ما تكره، و الآية نظيرة قوله تعالى:( أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى) القيامة: ٣٥.

و معنى الآية: و يقول الّذين آمنوا هلّا أنزلت سورة فإذا اُنزلت سورة محكمة

٢٥٩

لا تشابه فيها و اُمروا فيها بالقتال و الجهاد رأيت الضعفاء الإيمان منهم ينظرون إليك من شدّة الخشية نظر المحتضر فأولى لهم ذلك.

قوله تعالى: ( طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) عزم الأمر أي جدّ و تنجّز.

و قوله:( طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) كأنّه خبر لمبتدإ محذوف و التقدير أمرنا - أو أمرهم و شأنهم - أي إيمانهم بنا طاعة واثقونا عليها و قول معروف غير منكر قالوا لنا و هو إظهار السمع و الطاعة كما يحكيه تعالى عنهم بقوله:( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ - إلى أن قال -وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) البقرة: ٢٨٥.

و على هذا يتّصل قوله بعده:( فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) بما قبله اتّصالاً بيّنا، و المعنى: أنّ الأمر هو ما واثقوا الله عليه من قولهم:( سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) فلو أنّهم حين عزم الأمر صدقوا الله فيما قالوا و أطاعوه فيما يأمر به و منه أمر القتال لكان خيراً لهم.

و يحتمل أن يكون قوله:( طاعَةٌ ) إلخ، خبراً لضمير عائد إلى القتال المذكور و التقدير القتال المذكور في السورة طاعة منهم و قول معروف فلو أنّهم حين عزم الأمر صدقوا الله في إيمانهم و أطاعوه به لكان خيراً لهم. أمّا كونه طاعة منهم فظاهر، و أمّا كونه قولاً معروفاً فلأنّ إيجاب القتال و الأمر بالدفاع عن المجتمع الصالح لإبطال كيد أعدائه قول معروف يعرفه العقل و العقلاء.

و قيل: إنّ قوله:( طاعَةٌ ) إلخ، مبتدأ الخبر و التقدير طاعة و قول معروف خير لهم و أمثل، و قيل: مبتدأ خبره( فَأَوْلى‏ لَهُمْ ) في الآية السابقة فالآية من تمام الآية السابقة، و هو قول رديّ، و أردأ منه ما قيل: إن( طاعَةٌ ) إلخ، صفة لسورة في قوله:( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ) و قيل غير ذلك.

قوله تعالى: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) الخطاب للّذين في قلوبهم مرض المتثاقلين في أمر الجهاد في سبيل الله، و قد التفت إليهم بالخطاب لزيادة التوبيخ و التقريع، و الاستفهام للتقرير، و التولّي الإعراض و المراد به

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

(٨٧)

سورة الأعلى

مكّيّة عند ابن عبّاس، ومدنيّة عند الضحّاك. وهي تسع عشرة آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها أعطاه الله من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

وعن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قال: «كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ هذه السورة( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) . وأوّل من قال: سبحان ربّي الأعلى، ميكائيل».

وعن ابن عبّاس قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: «سبحان ربّي الأعلى». وكذلك روي عن عليّعليه‌السلام . وروى جرير عن الضحّاك أنّه كان يقول ذلك. وكان يقول: من قرأها فليفعل ذلك.

وعن أبي بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «من قرأ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) في فريضة أو نافلة، قيل له يوم القيامة: ادخل من أيّ أبواب الجنّة شئت».

وروى العيّاشي بإسناده عن أبي حميصة، عن عليّعليه‌السلام ، قال: «صلّيت خلفه عشرين ليلة، فليس يقرأ إلّا( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) . وقال: لو يعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة، وإنّ من قرأها فكأنّما قرأ صحف موسى وإبراهيم الّذي وفّى».

٤٠١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) )

ولـمّا ختم سبحانه سورة الطارق بذكر الوعيد والتهديد للكفّار، افتتح هذه السورة بذكر صفاته العلى وقدرته على ما يشاء، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) نزّه اسمه عمّا لا يصحّ فيه، من المعاني الّتي هي الإلحاد في أسمائه بالتأويلات الزائغة، مثل أن يفسّر الأعلى بمعنى العلوّ الّذي هو القهر والاقتدار على كلّ شيء، لا بمعنى العلوّ في المكان والاستواء على العرش حقيقة، كما هو مذهب المشبّهة. ومن إطلاقه على غيره راعما أنّهما فيه سواء، كعبدة الأصنام. ومن أن يصان عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم. ويجوز أن يكون الأعلى صفة للربّ، والاسم باعتبار المسمّى.

وعن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: «لمّا نزلت( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) (١) قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم. فلمّا نزلت( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: اجعلوها في سجودكم. وكانوا يقولون في الركوع: أللّهمّ لك ركعت، وفي السجود: أللّهمّ لك سجدت».

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ) خلق كلّ شيء فسوّى خلقه، بأن جعل له ما به يتأتّى كماله من الإحكام والاتّساق، على وجه يدلّ على أنّه صادر من قدير

__________________

(١) الحاقّة: ٥٢.

٤٠٢

عليم وصانع حكيم.

( وَالَّذِي قَدَّرَ ) قدّر أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها وأفعالها وآجالها.

وقرأ الكسائي: قدر بالتخفيف.( فَهَدى ) فوجّهه إلى أفعاله طبعا أو اختيارا، بخلق الميول والإلهامات، فعرّفه وجه الانتفاع به. كما يحكى أنّ الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، وقد ألهمها الله أنّ مسح العين بورق الرازيانج الغضّ يردّ إليها بصرها، فربما كانت في برّيّة بينها وبين الريف مسيرة أيّام، فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها، حتّى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحكّ بها عينيها، وترجع باصرة بإذن الله تعالى.

وإلهامات البهائم والطيور وهو امّ الأرض باب واسع لا يحيط به وصف واصف. ومن ذلك أنّه سبحانه هدى الطفل إلى ثدي أمّه، وهدى الفرخ حتّى طلب الرزق من أبيه وأمّه، وسائر الدوابّ والطيور حتّى فزع كلّ منهم إلى أمّه. وما صدر من النحل من صنعة البيوت المسدّسة والمثمّنة وغيرهما من الأشكال، على وجه يعجز عنه المهندسون العالمون في صنائعهم المحسّنة اللطيفة البديعة العجيبة، كاف في تأمّل أولي الألباب والأبصار ليهتدوا إلى الله العزيز الحكيم.

وهدايات الله للإنسان من نصب الدلائل وإنزال الآيات ـ إلى ما لا يحدّ من مصالحه، وما لا يحصر من حوائجه، في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، فسبحان ربّي الأعلى وبحمده.

( وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ) أنبت ما ترعاه الحيوانات( فَجَعَلَهُ ) بعد خضرته( غُثاءً ) يابسا هشيما( أَحْوى ) أسود. وقيل: هو حال من المرعى، أي: أخرجه حال كونه أحوى، أي: أسود من شدّة خضرته وريّه، فجعله غثاء، أي: يابسا بعد حويّه، أي: شدّة خضرته. فسبحان من دبّر هذا التدبير، وقدّر هذا التقدير. وقيل: إنّه مثل ضربه الله تعالى لذهاب الدنيا بعد نضارتها.

٤٠٣

( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩) )

ثمّ بشّر نبيّه بإعطاء آيات هادية بيّنة في الإعجاز بقوله:( سَنُقْرِئُكَ ) على لسان جبرئيل، أو سنجعلك قارئا بإلهام القراءة.( فَلا تَنْسى ) فلا تنساه أصلا من قوّة الحفظ، مع أنّك أمّيّ، ليكون ذلك آية اخرى لك. مع أنّ الإخبار به عمّا يستقبل ووقوعه كذلك أيضا من الآيات.

وقيل: نهي، والألف للفاصلة، كقوله:( السَّبِيلَا ) (١) . والمعنى: فلا تغفل من قراءته وتكريره فتنساه.

( إِلَّا ما شاءَ اللهُ ) نسيانه، بأن يذهب به عن حفظك برفع حكمه وتلاوته، كقوله:( أَوْ نُنْسِها ) (٢) فإنّ الإنساء نوع من النسخ.

وقيل: كان يعجل بالقراءة إذا لقّنه جبرئيل، فقال: لا تعجل، فإنّ جبرئيل

__________________

(١) الأحزاب: ٦٧.

(٢) البقرة: ١٠٦.

٤٠٤

مأمور بأن يقرأه عليك قراءة مكرّرة إلى أن تحفظه، ثمّ لا تنساه إلّا أن يشاء الله.

وقيل: الغرض نفي النسيان رأسا، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملك إلّا فيما شاء الله. ولا يقصد استثناء شيء. وهو من استعمال القلّة في معنى النفي.

( إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ) ما ظهر من أحوالكم وما بطن، فيعلم ما هو مصلحة لكم في دينكم ومفسدة فيه. أو يعلم جهرك يا محمّد بالقراءة مع جبرئيل، وما دعاك إليه من مخافة التفلّت والنسيان، فيعلم ما فيه صلاحك وأمّتك من إبقاء أو إنساء.

( وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى ) معطوف على( سَنُقْرِئُكَ ) . وقوله:( إِنَّهُ يَعْلَمُ ) اعتراض.

والمعنى: سنوفّقك للطريقة الّتي هي أيسر وأسهل في حفظ الوحي. وقيل: للشريعة السمحة الّتي هي أيسر الشرائع وأسهلها مأخذا. وقيل: نوفّقك لعمل الجنّة. ولـمّا كان التيسير متضمّنا لمعنى التوفيق قال: «نيسّرك»، لا: نيسّر لك.

روي: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلّا عتوّا وطغيانا. وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلظّى حسرة وتلهّفا، ويزداد جدّا في تذكيرهم وحرصا عليه، فقيل له:( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ ) (١) .( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ ) (٢) . ثمّ قيل له:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ) وذلك بعد إلزام الحجّة بتكرير التذكير.

وقيل: ظاهر الآية شرط، ومعناه ذمّ للمذكّرين، وإخبار عن حالهم، واستبعاد لتأثير الذكرى فيهم، وتسجيل عليهم بالطبع على قلوبهم، كما تقول للواعظ: عظ

__________________

(١) ق: ٤٥.

(٢) الزخرف: ٨٩.

٤٠٥

المكّاسين(١) إن سمعوا منك، قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك، وأنّه لن يكون كذلك.

( سَيَذَّكَّرُ ) سيتّعظ وينتفع بها( مَنْ يَخْشى ) يخشى الله وسوء العاقبة، بأن يتفكّر فيها فيعلم حقيقتها، فيقوده النظر إلى اتّباع الحقّ. فأمّا هؤلاء فغير خاشين ولا ناظرين، فلا تأمل أن يقبلوا منك.

( وَيَتَجَنَّبُهَا ) ويتجنّب الذكرى( الْأَشْقَى ) الكافر، لأنّه أشقى من الفاسق.

أو الّذي هو أشقى من الكفرة، لتوغّله في جحوده وإنكاره، وحقده وشدّة غضبه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة.

( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ) نار جهنّم. والصغرى: نار الدنيا، فإنّهعليه‌السلام قال: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنّم».

أو ما في الدرك الأسفل من أطباق النار، فإنّ ناره أحرّ وأشدّ من نار أطباق أخر.

( ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها ) فيستريح( وَلا يَحْيى ) حياة تنفعه، بل صارت حياته وبالا عليه، ومشقّة يتمنّى زوالها، لـما فيها من فنون العقاب وألوان العذاب. ولهذا ذكر «ثمّ» للدلالة على أنّ التردّد بين الحياة والموت أفظع من الصلي، فهو متراخ عنه في مراتب الشدّة.

( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ) تطهّر من الكفر والمعصية. وقيل: من الزكاء بمعنى النماء. والمعنى: من نشأ ونما في التقوى. وقيل: تطهّر للصلاة، أو أدّى الزكاة، كتصدّق من الصدقة.

( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ) وحّده بقلبه ولسانه( فَصَلَّى ) بذلك الاسم الصلوات الخمس، لقوله:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) (٢) . وعن ابن عبّاس: معناه: ذكر معاده

__________________

(١) المكّاس: من يأخذ المكس. والمكس: دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في أسواق الجاهليّة.

(٢) طه: ١٤.

٤٠٦

وموقفه بين يدي ربّه، فصلّى له. وعن الضحّاك: وذكر اسم ربّه في طريق المصلّى، فصلّى صلاة العيد. وعن عليّعليه‌السلام : تصدّق بالفطر،( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ ) كبّر يوم العيد، فصلّى صلاته.

ومتى قيل: على هذا القول كيف يصحّ أن تكون السورة مكّيّة، ولم يكن هناك صلاة عيد ولا زكاة فطرة؟

قلنا: يحتمل أن يكون نزلت أوائلها بمكّة وختمت بالمدينة.

وعند أكثر علمائنا أنّ المراد بالذكر هنا الأذان والإقامة، استنادا إلى روايات واردة عن أئمّتنا صلوات الله عليهم.

ثمّ قال سبحانه مخاطبا للكفّار الأشقين على طريقة الالتفات، أو على إضمار قل:( بَلْ تُؤْثِرُونَ ) تختارون( الْحَياةَ الدُّنْيا ) على الآخرة، فلا تفعلون ما تفلحون به. وقيل: هو عامّ في المؤمن والكافر، بناء على الأعمّ الأغلب في أمر الناس.

قال عبد الله بن مسعود: إنّ الدنيا اخضرّت لنا، وعجّل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذّتها وبهجتها، وإنّ الآخرة نعتت لنا وزويت عنّا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل.

( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ ) أفضل في نفسها( وَأَبْقى ) وأدوم، فإنّ نعيمها ملذّ بالذات، خالص عن الغوائل، لا انقطاع له.

( إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ) الإشارة إلى ما سبق من قوله: «قد أفلح» إلى قوله: «وأبقى»، فإنّه جامع أمر الديانة، وخلاصة الكتب المنزلة. والمعنى: أنّ معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف.( صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ) بدل من الصحف الأولى.

٤٠٧

وروي عن أبي ذرّرضي‌الله‌عنه أنّه قال: «قلت: يا رسول الله كم الأنبياء؟

قال: مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرون ألفا.

قلت: يا رسول الله كم المرسلون منهم؟

قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر، وبقيّتهم أنبياء.

قلت: أكان آدم نبيّا؟

قال: نعم، كلّمه الله وخلقه بيده. يا أبا ذرّ أربعة من الأنبياء عرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك.

قلت: يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟

قال: مائة وأربعة كتب، منها: على آدم عشر صحف، وعلى شيث خمسين صحيفة، وعلى أخنوخ ـ وهو إدريس ـ ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان».

وقيل: إنّ في صحف إبراهيم: ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه، عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه.

وقيل: إنّ كتب الله سبحانه كلّها أنزلت في شهر رمضان.

٤٠٨

(٨٨)

سورة الغاشية

مكّيّة. وهي ستّ وعشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأها حاسبه الله حسابا يسيرا».

أبو بصير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال: «من أدمن قراءة( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) في فريضة أو نافلة، غشّاه الله رحمته في الدنيا والآخرة، وأعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) )

ولـمّا ختم الله سبحانه سورة الأعلى بالترغيب في الآخرة، وأنّها خير من الدنيا، افتتح هذه السورة أيضا ببيان أحوال الآخرة، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ) الداهية الّتي تغشى الناس بشدائدها، وتلبسهم أهوالها. يعني: يوم القيامة، من قوله:( يَوْمَ يَغْشاهُمُ

٤٠٩

الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) (١) . أو النار من قوله:( وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) (٢) ( وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ ) (٣) .

( وُجُوهٌ ) أي: صواحبها( يَوْمَئِذٍ ) يوم إذ غشيت( خاشِعَةٌ ) ذليلة( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ) تعمل في النار عملا تتعب فيه، كجرّ السلاسل والأغلال، وخوضها في النار خوض الإبل في الوحل، والصعود والهبوط في تلالها ووهادها.

وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء، والتذّت بها وتنعّمت، ونصبت في أعمال لا ينفعها في الآخرة.

وقيل: عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة، من قوله:( وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ) (٤) .( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (٥) .

( أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) (٦) .

وقيل: هم أصحاب الصوامع. ومعناه: أنّها خشعت لله، وعملت ونصبت في أعمالها، من الصوم الدائب(٧) والتهجّد الواصب.

وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «كلّ ناصب لنا وإن تعبّد واجتهد يصير إلى هذه الآية «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ ».

( تَصْلى ناراً ) تدخلها. قيل: المصلّي عند العرب أن يحفروا حفيرا، فيجمعوا فيه جمرا كثيرا، ثمّ يعمدوا إلى شاة فيدسّوها وسطه. فأمّا ما يشوى فوق

__________________

(١) العنكبوت: ٥٥.

(٢) إبراهيم: ٥٠.

(٣) الأعراف: ٤١.

(٤) الفرقان: ٢٣.

(٥) الكهف: ١٠٤.

(٦) آل عمران: ٢٢.

(٧) الدائب: الدائم المستمرّ. والتهجّد الواصب: الدائم المواظب على القيام به.

٤١٠

الجمر، أو على المقلى(١) ، أو في التنّور، فلا يسمّى مصلّيا. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر تصلى، من: أصلاه الله.( حامِيَةً ) متناهية في الحرّ.

( تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) متناهية في الحرّ، كقوله:( وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) (٢) قال الحسن: قد أوقدت عليها جهنّم مذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا، هذا شرابهم.

وقال أبو الدرداء: إنّ الله يرسل على أهل النار الجوع حتّى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة، فيذكرون أنّهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون فيعطشهم الله ألف سنة، ثمّ يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة ولا مريئة، كلّما أدنوه من وجوههم سلخ وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها، فذلك قوله:( وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ) (٣) .

( لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) يبيس الشبرق. وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا، فإذا يبس تحامته، وهو سمّ قاتل. وقيل: شجرة ناريّة تشبه الضريع، كما نقل.

وعن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الضريع شيء يكون في النار يشبه الشوك، أمرّ من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشدّ حرّا من النار، سمّاه الله الضريع».

وإنّما قال:( لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ) . وفي الحاقّة:( وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) (٤) وظاهر الكلامين تناف، لأنّ العذاب ألوان، والمعذّبون طبقات، فمنهم أكلة الزقّوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع.

__________________

(١) المقلى: وعاء يقلى ـ أي: ينضج ـ فيه الطعام.

(٢) الرحمن: ٤٤.

(٣) محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١٥.

(٤) الحاقة: ٣٦.

٤١١

( لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ) (١) . أو المراد: إنّما طعامهم ممّا تتحاماه الإبل وتعافه، لضرّه وعدم نفعه.

وهذا إشارة إلى أنواع طعام جهنّم، من الضريع والزقّوم والغسلين.

روي: أنّ المشركين لـمّا سمعوا هذه الآية قالوا: إن إبلنا لتسمن على الضريع. وكذبوا في ذلك، لأنّ الإبل لا ترعاه كما علمت. فقال سبحانه تكذيبا لهم :

( لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ) أي: لا يسمن أحدا، ولا يدفع جوعا. وهذا مرفوع المحلّ أو مجروره على وصف: طعام أو ضريع. والمعنى: طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم، إنّما هو ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع.

وقيل: أراد الله سبحانه بهذه الآية أن لا طعام لهم أصلا، لأنّ الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس، لأنّ الطعام ما أشبع أو أسمن، وهو منهما بمعزل، كما تقول: ليس لفلان ظلّ إلّا الشمس، تريد: نفي الظلّ على التوكيد.

( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) )

ثمّ وصف أهل الجنّة بقوله:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ) ذات بهجة وحسن، أو متنعّمة في أنواع اللذّات( لِسَعْيِها ) في الدنيا( راضِيَةٌ ) رضيت بعملها لـمّا رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة والثواب لسعيها.

__________________

(١) الحجر: ٤٤.

٤١٢

( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ ) عليّة المحلّ أو القدر( لا تَسْمَعُ فِيها ) يا مخاطب، أو الوجوه. وقرأ على بناء المفعول بالياء ابن كثير وأبو عمرو ورويس. وبالتاء نافع.

( لاغِيَةً ) لغوا، أو كلمة ذات لغو، أو نفسا تلغو، فإنّ أهل الجنّة لا يتكلّمون إلّا بالذكر والحكم، وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم.

( فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ ) يجري ماؤها ولا ينقطع. يريد عيونا في غاية الكثرة، كقوله:( عَلِمَتْ نَفْسٌ ) (١) . فهي اسم جنس. والتنوين للتعظيم. فلكلّ إنسان في قصره من الجنّة عين جارية من كلّ شراب يشتهيه.

( فِيها سُرُرٌ ) ألواحها من ذهب مكلّلة بالزبرجد والدرّ والياقوت( مَرْفُوعَةٌ ) رفيعة السمك، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله ربّه من الملك والنعيم الدائم. أو رفيعة القدر.

( وَأَكْوابٌ ) جمع كوب. وهو إناء من ذهب وفضّة لا عروة له.( مَوْضُوعَةٌ ) بين أيديهم لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها. أو على حافّات العيون معدّة للشرب.

( وَنَمارِقُ ) جمع نمرقة بالفتح والضمّ، وهي الوسادة( مَصْفُوفَةٌ ) بعضها إلى جنب بعض، أينما أراد أن يجلس جلس على مسورة(٢) واستند إلى اخرى.

( وَزَرابِيُ ) وبسط عراض فاخرة. وقيل: هي الطنافس(٣) الّتي لها خمل رقيق. جمع زربية.( مَبْثُوثَةٌ ) مبسوطة، أو مفرّقة في المجالس.

( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ

__________________

(١) التكوير: ١٤.

(٢) المسورة: متّكأ من جلد.

(٣) الطنافس جمع الطنفسة: البساط، الحصير.

٤١٣

سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦) )

ولـمّا نعت الله سبحانه الجنّة وما فيها عجب من ذلك أهل الضلال، فبيّن سبحانه أفعاله العجيبة الغريبة الدالّة على كمال القدرة، الموجبة لفعل كلّ ما أراد من الصنائع العظيمة العجيبة، فقال :

( أَفَلا يَنْظُرُونَ ) نظر اعتبار( إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) خلقا عجيبا دالّا على كمال قدرته وحسن تدبيره، حيث خلقها لجرّ الأثقال إلى البلاد النائية، فجعلها عظيمة باركة للحمل، ناهضة بالحمل، منقادة لمن اقتادها، ولو كان قائدها غير إنسان، كما حكي أنّ فارة أخذت بزمام ناقة فأخذت تجرّها وهي تتبعها حتّى دخلت الجحر، فجرّت الزمام فقرّبت فمها من جحر الفار. طوال الأعناق لتنوء بالأوقار(١) ، ترعى كلّ نابت في البراري والمفاوز ممّا لا يرعاه سائر البهائم، وتحتمل العطش إلى عشر فصاعدا ليتأتّى لها قطع البراري والمفاوز. مع ما لها من منافع أخر، ولذلك خصّت بالذكر لبيان الآيات المنبثّة في الحيوانات الّتي هي أشرف المركّبات وأكثرها صنعا، ولأنّها أعجب ما عند العرب من هذا النوع.

وقيل: المراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز، لأنّ الإبل ليست من أسماء السحاب حقيقة، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين وغير ذلك.

( وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ) بلا عمد، مع ما في خلقها من صنائع القدرة

__________________

(١) الأوقار جمع الوقر: الحمل الثقيل.

٤١٤

وبدائع الفطرة، من الشمس والقمر والكواكب، وعلّق بها منافع الخلق وأسباب معايشهم.

( وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) فهي راسخة لا تميل ولا تزول، ولولاها لمادت الأرض بأهلها.

( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) بسطت حتّى صارت مهادا للمتقلّب عليها.

ووجه حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض: أنّ هذه الأشياء غالبا في مناظر العرب ومطاع(١) نظرهم في أوديتهم وبواديهم، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم.

وملخّص المعنى: أفلا ينظرون إلى أنواع المخلوقات من البسائط والمركّبات، ليتحقّقوا كمال قدرة الخالق، فلا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول ويؤمنوا به، ويستعدّوا للقائه؟ ولذلك عقّب به أمر المعاد، ورتّب عليه الأمر بالتذكير، فقال:( فَذَكِّرْ ) أي: لا ينظرون، فذكّرهم ولا تلحّ عليهم( إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) أي: فلا عليك إن لم ينظروا ولم يتذكّروا، إذ ما عليك إلّا البلاغ، كقوله:( إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ) (٢) .

( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) بمتسلّط يمكنك أن تدخل الإيمان في قلوبهم وتجبرهم عليه، كقوله:( وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ) (٣) . وعن الكسائي بالسين على الأصل، وحمزة بالإشمام.

( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ) الاستثناء منقطع. والمعنى: لست بمستول عليهم، ولكن من تولّى عن الذكر وكفر بالله( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) الّذي هو عذاب جهنّم.

__________________

(١) كذا في النسخة الخطّية، ولعلّ الصحيح: ومطمح.

(٢) الشورى: ٤٨.

(٣) ق: ٤٥.

٤١٥

وقيل: متّصل، فإنّ جهاد الكفّار وقتلهم تسلّط. وكأنّه أوعدهم الجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة.

وقيل: هو استثناء من قوله: «فذكّر» أي: فذكّر إلّا من انقطع طمعك من إيمانه وتولّى، فاستحقّ العذاب الأكبر. وما بينهما اعتراض.

( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) رجوعهم بعد الموت( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) في المحشر. وتقديم الخبر للتخصيص والمبالغة في الوعيد. كأنّه قال: إنّ إيابهم ليس إلّا إلى الجبّار المقتدر على الانتقام، وإنّ حسابهم ليس بواجب إلّا عليه، وهو الّذي يحاسب على النقير والقطمير. ومعنى الوجوب الوجوب في الحكمة.

٤١٦

(٨٩)

سورة الفجر

مكّيّة. وهي ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «من قرأها في ليال عشر غفر الله له، ومن قرأها سائر الأيّام كانت له نورا يوم القيامة».

وروى داود بن فرقد عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال: «اقرؤا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم، فإنّها سورة الحسين بن عليّعليه‌السلام ، من قرأها كان مع الحسين بن عليّعليه‌السلام يوم القيامة في درجته من الجنّة».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) )

٤١٧

ولـمّا ختم سورة الغاشية بأنّ إياب الخلق إليه وحسابهم عليه، افتتح هذه السورة بتأكيد ذلك المعنى حين أقسم أنّه بالمرصاد، فقال :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالْفَجْرِ ) أقسم بمطلق الصبح في الأيّام، كما أقسم في قوله:( وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) (١) . أو بمطلق فلقه، كقوله:( وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ ) (٢) . أو بصلاة الفجر، أو بفجر يوم النحر، أو بفجر عرفة، أو فجر أوّل ذي الحجّة، أو فجر أوّل المحرّم. والأوّل أشمل وأعمّ، ومنقول عن عكرمة والحسن والجبائي، ورواه أبو صالح عن ابن عبّاس.

( وَلَيالٍ عَشْرٍ ) عشر ذي الحجّة، على ما نقل عن مجاهد والضحّاك وابن عبّاس والحسن وقتادة والسدّي. ولذلك فسّر الفجر بفجر عرفة أو النحر. وقيل: عشر رمضان الأخير. ولأنّها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر، أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها، وقعت منكّرة من بين ما أقسم به. ولو عرّفت بلام العهد، لأنّها ليال معلومة معهودة، لم تستقلّ بمعنى الفضيلة الّذي في التنكير، فإنّ التنكير للتعظيم والتفخيم. ولأنّ الأحسن أن تكون اللامات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية، فيوهم أنّ المراد جنس العشرات لا العشرات المعيّنة المطلوبة.

( وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ) أي: والأشياء كلّها، شفعها ووترها. أو الخلق، لقوله:( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ) (٣) والخالق، لأنّه فرد.

ومن فسّرهما بشفع هذه الليالي ووترها، وبالعناصر والأفلاك والبروج والسيّارات. أو شفع الصلوات ووترها. أو بيومي النحر وعرفة، لأنّها تاسع أيّامها

__________________

(١) المدّثر: ٣٤.

(٢) التكوير: ١٨.

(٣) الذاريات: ٤٩.

٤١٨

وذلك عاشرها، فقد روي مرفوعا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى أبي جعفر وأبي عبد اللهعليهما‌السلام .

أو الوتر آدم، شفّع بزوجته. أو الشفع الأيّام، والوتر اليوم الّذي لا ليل بعده، وهو يوم القيامة. أو الشفع عليّ وفاطمةعليهما‌السلام ، والوتر محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أو الصفا والمروة، والوتر البيت. فلعلّه(١) أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد، أو مدخلا في الدين، أو مناسبة لـما قبلها، أو أكثر منفعة موجبة للشكر.

وقرأ حمزة والكسائي: والوتر، بفتح الواو. وهما لغتان، كالحبر والحبر.

( وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) إذا يمضي، كقوله:( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) (٢) . وأصله: يسري، حذف الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا. وقد خصّه نافع وأبو عمرو بالوقف. والتقييد بذلك لـما في التعاقب من قوّة الدلالة على كمال القدرة ووفور النعم.

( هَلْ فِي ذلِكَ ) الإقسام، أو المقسم به( قَسَمٌ ) حلف، أو محلوف به( لِذِي حِجْرٍ ) يعتبره ويعظم بالإقسام به، ويؤكّد به ما يريد تحقيقه. والحجر: العقل. سمّي به لأنّه يحجر عمّا لا ينبغي، كما سمّي عقلا ونهية وحصاة من الإحصاء، وهو الضبط. وفي هذا تعظيم وتأكيد لـما وقع به القسم.

والمعنى: أنّ من كان ذا لبّ علم أنّ ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على توحيد الله، توضح عن عجائب صنعه وبدائع حكمته.

والمقسم عليه محذوف، وهو: ليعذّبنّ. يدلّ عليه قوله:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) . الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وفيه تنبيه للكفّار على ما فعله سبحانه بالأمم السابقة لـمّا كفرت بالله وبأنبيائه، وكانت أطول أعمارا وأشدّ قوّة. وعاد قوم ثمود، سمّوا باسم أبيهم، كما سمّي بنو هاشم باسمه. وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.

__________________

(١) خبر لقوله: ومن فسّرهما ...، في بداية الفقرة.

(٢) المدّثر: ٣٣.

٤١٩

( إِرَمَ ) عطف بيان لـ «عاد» إيذانا بأنّهم عاد الأولى القديمة. وهذا على تقدير مضاف، أي: سبط إرم، أو أهل إرم، إن صحّ أنّه اسم بلدتهم. وقيل: سمّي أوائلهم ـ وهم عاد الأولى ـ بإرم اسم جدّهم، ومن بعدهم سمّوا عادا الأخيرة. ومنع صرفه للعلميّة والتأنيث، باعتبار القبيلة أو البلدة.( ذاتِ الْعِمادِ ) ذات البناء الرفيع، أو القدود(١) الطوال. ومنه قولهم: رجل معمد إذا كان طويلا. ورجل طويل العماد، أي: القامة. أو ذات الرفعة والثبات.

( الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) صفة اخرى لـ «إرم». والضمير لها، سواء جعلت اسم القبيلة أو البلدة. والمعنى: لم يخلق مثل عاد في جميع بلاد الدنيا عظم أجرام وقوّة. فقد روي أنّ طول الرجل منهم كان أربعمائة ذراع، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحيّ فيهلكهم. أو لم يخلق مثل مدينة إرم في جميع بلاد الدنيا.

وقيل: كان لعاد ابنان: شدّاد وشديد، فملكا وقهرا، ثمّ مات شديد فخلص الأمر لشداد، وملك المعمورة، ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنّة فبنى على مثالها في بعض صحاري عدن جنّة وسمّاها إرم، فلمّا تمّ سار إليها بأهله، فلمّا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا.

وعن عبد الله بن قلابة: أنّه خرج في طلب إبله فوقع عليها. وقصّة ذلك مفصّلا على ما روى وهب بن منبّه: أنّ عبد الله بن قلابة خرج يوما في طلب إبل له شردت، فبينا هو في صحاري عدن إذ هو قد وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة وأعلام طوال.

فلمّا دنا منها ظنّ أنّ فيها أحدا يسأله عن إبله، فنزل عن دابّته وعقلها، وسلّ سيفه ودخل من باب الحصن. فلمّا دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم

__________________

(١) القدود جمع القدّ: قدر الشيء وتقطيعه.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429