الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120126 / تحميل: 6173
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

و قوله:( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) حجّة ثالثة على وجوب اتّخاذه تعالى وليّاً دون غيره، و محصّله أنّ من الواجب في باب الولاية أن يكون للوليّ قدرة على ما يتولّاه من شؤن من يتولّاه و اُموره، و الله سبحانه على كلّ شي‏ء قدير و لا قدرة لغيره إلّا مقدار ما أقدره الله عليه و هو المالك لما ملّكه و القادر على ما عليه أقدره فهو الوليّ لا وليّ غيره تعالى و تقدّس.

و قوله:( وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ) حجّة رابعة على كونه تعالى وليّاً لا وليّ غيره، و حكم الحاكم بين المختلفين هو أحكامه و تثبيته الحقّ المضطرب بينهما بسبب تخالفهما بالإثبات و النفي، و الاختلاف ربّما كان في عقيدة كالاختلاف في أنّ الإله واحد أو كثير، و ربّما كان في عمل أو ما يرجع إليه كالاختلاف في اُمور المعيشة و شؤن الحياة فهو أعني الحكم يساوق القضاء مصداقاً و إن اختلفاً مفهوماً.

ثمّ الحكم و القضاء إنّما يتمّ إذا ملكه الحاكم بنوع من الملك و الولاية و إن كان بتمليك المختلفين له ذلك كالمتنازعين إذا رجعاً إلى ثالث فاتّخذاه حكماً ليحكم بينهما و يتسلّماً ما يحكم به فقد ملّكاه الحكم بما يرى و أعطياه من نفسهما القبول و التسليم فهو وليّهما في ذلك.

و الله سبحانه هو المالك لكلّ شي‏ء لا مالك سواه لكون كلّ شي‏ء بوجوده و آثار وجوده قائماً به تعالى فله الحكم و القضاء بالحقّ قال تعالى:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص: ٨٨، و قال:( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) المائدة: ٢ و قال:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) آل عمران: ٦٠.

و حكمه تعالى إمّا تكوينيّ و هو تحقيقه و تثبيته المسبّبات قبال الأسباب المجتمعة عليها المتنازعة فيها بتقديم ما نسمّيه سبباً تامّاً على غيره قال تعالى حاكياً عن يعقوبعليه‌السلام :( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) يوسف: ٦٧ و إمّا تشريعيّ كالتكاليف الموضوعة في الدين الإلهيّ الراجعة إلى الاعتقاد و العمل قال تعالى:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) يوسف: ٤٠.

٢١

و هناك قسم ثالث من الحكم يمكن أن يعدّ من كلّ من القسمين السابقين بوجه و هو حكمه تعالى يوم القيامة بين عباده فيما اختلفوا فيه و هو إعلانه و إظهاره الحقّ يوم القيامة لأهل الجمع يشاهدونه مشاهدة عيان و إيقان فيسعد به و بآثاره من كان مع الحقّ و يشقى بالاستكبار عليه و تبعات ذلك من استكبر عليه قال تعالى:( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) البقرة: ١١٣.

ثمّ إنّ اختلاف الناس في عقائدهم و أعمالهم اختلاف تشريعيّ لا يرفعه إلّا الأحكام و القوانين التشريعيّة و لو لا الاختلاف لم يجود قانون كما يشير إليه قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) البقرة: ٢١٣، و قد تبيّن أنّ الحكم التشريعيّ لله سبحانه فهو الوليّ في ذلك فيجب أن يتّخذ وحده وليّاً فيعبد و يدان بما أنزله من الدين.

و هذا معنى قوله:( وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ) و محصّل الحجّة أنّ الوليّ الّذي يعبد و يدان له يجب أن يكون رافعاً لاختلافات من يتولّونه مصلحاً لما فسد من شؤن مجتمعهم سائقاً لهم إلى سعادة الحياة الدائمة بما يضعه عليهم من الحكم و هو الدين، و الحكم في ذلك إلى الله سبحانه، فهو الوليّ الّذي يجب أن يتّخذ وليّاً لا غير.

و للقوم في تفسير الآية أعني قوله:( وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ) تفاسير اُخر فقيل: هو حكاية قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمؤمنين أي ما خالفكم فيه الكفّار من أهل الكتاب و المشركين فاختلفتم أنتم و هم فيه من أمر من اُمور الدين، فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض إلى الله و هو إثابة المحقّين فيه من المؤمنين و معاقبة المبطلين ذكره صاحب الكشّاف.

و قيل معناه ما اختلفتم فيه و تنازعتم في شي‏ء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا تؤثروا على حكومته حكومة غيره كقوله تعالى:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ

٢٢

فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَ الرَّسُولِ ) .

و قيل: المعنى ما اختلفتم فيه من تأويل آية و اشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى محكم كتاب الله و ظاهر سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل: المعنى و ما اختلفتم فيه من العلوم ممّا لا يتّصل بتكليفكم و لا طريق لكم إلى علمه فقولوا: الله أعلم كمعرفة الروح قال تعالى:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) . و الآية على جميع هذه الأقوال من كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمّا بنحو الحكاية و إما بتقدير( قُل ) في أوّلها.

و أنت بالتدبّر في سياق الآيات ثمّ الرجوع إلى ما تقدّم لا ترتاب في سقوط هذه الأقوال.

قوله تعالى: ( ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ ) كلام محكيّ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الإشارة بذلكم إلى من اُقيمت الحجج في الآيتين على وجوب اتّخاذه وليّاً و هو الله سبحانه، و لازم ولايته ربوبيّته.

لمّا اُقيمت الحجج على أنّه تعالى هو الوليّ لا وليّ غيره اُمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلام أنّه الله و أنّه اتّخذه وليّاً بالاعتراف له بالربوبيّة الّتي هي ملك التدبير ثمّ عقّب ذلك بالتصريح بما للاتّخاذ المذكور من الآثار و هو قوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ ) .

و ذلك أنّ ولاية الربوبيّة تتعلّق بنظام التكوين بتدبير الاُمور و تنظيم الأسباب و المسبّبات بحيث يتعيّن بها للمخلوق المدبّر كالإنسان مثلاً ما قدّر له من الوجود و البقاء، و تتعلّق بنظام التشريع و هو تدبير أعمال الإنسان بجعل قوانين و أحكام يراعيها الإنسان بتطبيق أعماله عليها في مسير حياته لتنتهي به إلى كمال سعادته.

و لازم اتّخاذه تعالى ربّاً وليّاً من جهة التكوين إرجاع أمر التدبير إليه بالانقطاع عن الأسباب الظاهريّة و الركون إليه من حيث إنّه سبب غير مغلوب ينتهي إليه كلّ سبب و هذا هو التوكّل، و من جهة التشريع الرجوع إلى حكمه في كلّ واقعة يستقبله الإنسان في مسير حياته و هذا هو الإنابة فقوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ ) أي أرجع في جميع اُموري، تصريح بإرجاع الأمر إليه تكويناً و تشريعاً.

٢٣

قوله تعالى: ( فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية لمّا صرّح بأنّه تعالى هو ربّه لقيام الحجج على أنّه هو الوليّ وحده عقّب ذلك بإقامة الحجّة في هذه الآية و الّتي بعدها على ربوبيّته تعالى وحده.

و محصّل الحجّة: أنّه تعالى موجد الأشياء و فاطرها بالإخراج من كتم العدم إلى الوجود و قد جعلكم أزواجاً فكثّركم بذلك و جعل من الأنعام أزواجاً فكثّرها بذلك لتنتفعوا بها، و هذا خلق و تدبير، و هو سميع لما يسأله خلقه من الحوائج فيقضي لكلّ ما يستحقّه من الحاجة، بصير لما يعمله خلقه من الأعمال فيجازيهم بما عملوا و هو الّذي يملك مفاتيح خزائن السماوات و الأرض الّتي ادّخر فيها ما لها من خواصّ وجودها و آثاره ممّا يتألّف منها بظهورها النظام المشهود و هو الّذي يرزق المرزوقين فيوسّع في رزقهم و يضيّق عن علم منه بذلك. و هذا كلّه من التدبير فهو الربّ المدبّر للاُمور.

فقوله:( فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أي موجدها من كتم العدم على سبيل الإبداع.

و قوله:( جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ) و ذلك بخلق الذكر و الاُنثى اللّذين يتمّ بتزاوجهما أمر التوالد و التناسل و تكثّر الأفراد( وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً ) أي و جعل من الأنعام أزواجاً( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) أي يكثّركم في هذا الجعل، و الخطاب في( يَذْرَؤُكُمْ ) للإنسان و الأنعام بتغليب جانب العقلاء على غيرهم كما ذكره الزمخشريّ.

و قوله:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) أي ليس مثله شي‏ء، فالكاف زائدة للتأكيد و له نظائر كثيرة في كلام العرب.

و قوله:( وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) أي السميع لما يرفع إليه من مسائل خلقه البصير لأعمال خلقه قال تعالى:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الرحمن: ٢٩، و قال:( وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ) إبراهيم: ٣٤، و قال:( وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) الحديد: ٤.

قوله تعالى: ( لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية المقاليد المفاتيح و في إثبات المقاليد للسماوات و الأرض دلالة على أنّها خزائن لما يظهر في الكون من

٢٤

الحوادث و الآثار الوجوديّة.

و قوله:( يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ ) بسط الرزق توسعته و قدره تضييقه و الرزق كلّ ما يمدّ به البقاء و يرتفع به حاجة من حوائج الوجود في استمراره.

و تذييل الكلام بقوله:( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) للإشارة إلى أنّ الرزق و اختلافه في موارده بالبسط و القدر ليس على سبيل المجازفة جهلاً بل عن علم منه تعالى بكلّ شي‏ء فرزق كلّ مرزوق على علم منه بما يستدعيه المرزوق بحسب حاله و الرزق بحسب حاله و ما يحفّ بهما من الأوضاع و الأحوال الخارجيّة، و هذا هو الحكمة فهو يبسط و يقدر بالحكمة.

٢٥

( سورة الشورى الآيات ١٣ - ١٦)

شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ  أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ  كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ  اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ( ١٣ ) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ  وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ  وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ( ١٤ ) فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ  وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ  وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ  وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ  وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ  اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ  لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ  لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ  اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا  وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( ١٥ ) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ( ١٦ )

( بيان‏)

فصل ثالث من الآيات يعرّف الوحي الإلهيّ بأثره الّذي هو مفاده و ما احتوى عليه من المضمون و هو الدين الإلهيّ الواحد الّذي يجب على الناس أن يتّخذوه سنّة في الحياة و طريقة مسلوكة إلى سعادتهم.

و قد بيّن فيها بحسب مناسبة المقام أنّ الشريعة المحمّديّة أجمع الشرائع المنزلة و أنّ الاختلافات الواقعة في دين الله على وحدته ليست من ناحية الوحي السماويّ و إنّما هي من بغي الناس بعد علمهم، و في الآيات فوائد اُخر اُشير إليها في خلالها.

٢٦

قوله تعالى: ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى) يقال: شرع الطريق شرعاً أي سوّاه طريقاً واضحاً بيّناً. قال الراغب: الوصيّة التقدّم إلى الغير بما يعمل مقترناً بوعظ من قولهم: أرض واصية متّصلة النبات و يقال: أوصاه و وصّاه انتهى. و في معناه إشعار بالأهميّة فما كلّ أمر يوصى به و إنّما يختار لذلك ما يهتمّ به الموصي و يعتني بشأنه.

فقوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ) أي بيّن و أوضح لكم من الدين و هو سنّة الحياة ما قدّم و عهد إلى نوح مهتمّاً به، و اللّائح من السياق أنّ الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اُمّته، و أنّ المراد ممّا وصّى به نوحاً شريعة نوحعليه‌السلام .

و قوله:( وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) ظاهر المقابلة بينه و بين نوحعليهما‌السلام أنّ المراد بما أوحي إليه ما اختصّت به شريعته من المعارف و الأحكام، و إنّما عبّر عن ذلك بالإيحاء دون التوصية لأنّ التوصية كما تقدّم إنّما تتعلّق من الاُمور بما يهتمّ به و يعتنى بشأنه خاصّة و هو أهمّ العقائد و الأعمال، و شريعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جامعة لكلّ ما جلّ و دقّ محتوية على الأهمّ و غيره بخلاف شرائع غيره فقد كانت محدودة بما هو الأهمّ المناسب لحال اُممهم و الموافق لمبلغ استعدادهم.

و الالتفات في قوله:( وَ الَّذِي أَوْحَيْنا ) من الغيبة إلى التكلّم مع الغير للدلالة على العظمة فإنّ العظماء يتكلّمون عنهم و عن خدمهم و أتباعهم.

و قوله:( وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى) عطف على قوله:( ما وَصَّى بِهِ ) و المراد به ما شرع لكلّ واحد منهمعليهم‌السلام .

و الترتيب الّذي بينهمعليهم‌السلام في الذكر على وفق ترتيب زمنهم فنوح ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسىعليهم‌السلام ، و إنّما قدّم ذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتشريف و التفضيل كما في قوله تعالى:( وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) الأحزاب: ٧ و إنّما قدّم نوحاً و بدأ به للدلالة على قدم هذه الشريعة و طول عهدها.

٢٧

و يستفاد من الآية اُمور:

أحدها: أنّ السياق بما أنّه يفيد الامتنان و خاصّة بالنظر إلى ذيل الآية و الآية التالية يعطي أنّ الشريعة المحمّديّة جامعة للشرائع الماضية و لا ينافيه قوله تعالى:( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ) المائدة: ٤٨ لأنّ كون الشريعة شريعة خاصّة لا ينافي جامعيّتها.

الثاني: أنّ الشرائع الإلهيّة المنتسبة إلى الوحي إنّما هي شريعة نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّدعليهم‌السلام إذ لو كان هناك غيرها لذكر قضاء لحقّ الجامعيّة المذكورة.

و لازم ذلك أوّلاً: أن لا شريعة قبل نوحعليه‌السلام بمعنى القوانين الحاكمة في المجتمع الإنسانيّ الرافعة للاختلافات الاجتماعيّة و قد تقدّم نبذة من الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ ) الآية البقرة: ٢١٣.

و ثانياً: أنّ الأنبياء المبعوثين بعد نوح كانوا على شريعته إلى بعثة إبراهيم و بعدها على شريعة إبراهيم إلى بعثة موسى و هكذا.

الثالث: أنّ الأنبياء أصحاب الشرائع و اُولي العزم هم هؤلاء الخمسة المذكورون في الآية إذ لو كان معهم غيرهم لذكر فهؤلاء سادة الأنبياء و يدلّ على تقدّمهم أيضاً قوله:( وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) الأحزاب: ٧.

و قوله:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا ) أن تفسيريّة، و إقامة الدين حفظه بالاتّباع و العمل و اللّام في الدين للعهد أي أقيموا هذا الدين المشروع لكم، و عدم التفرّق فيه حفظ وحدته بالاتّفاق عليه و عدم الاختلاف فيه.

لمّا كان شرع الدين لهم في معنى أمرهم جميعاً باتّباعه و العمل به من غير اختلاف فسّره بالأمر بإقامة الدين و عدم التفرّق فيه فكان محصّله أنّ عليهم جميعاً إقامة الدين جميعاً و عدم التفرّق و التشتّت فيه بإقامة بعض و ترك بعض، و إقامته الإيمان بجميع ما أنزل الله و العمل بما يجب عليه العمل به.

فجميع الشرائع الّتي أنزلها الله على أنبيائه دين واحد يجب إقامته و عدم التفرّق

٢٨

فيه فأمّا الأحكام السماويّة المشترك فيها الباقية ببقاء التكليف فمعنى الإقامة فيها ظاهر و أمّا الأحكام المشرّعة في بعض هذه الشرائع المنسوخة في الشريعة اللاحقة فحقيقة الحكم المنسوخ أنّه حكم ذو أمد خاصّ بطائفة من الناس في زمن خاصّ و معنى نسخه تبيّن انتهاء أمده لا ظهور بطلانه قال تعالى:( وَ اللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) الأحزاب: ٤ فالحكم المنسوخ حقّ دائماً غير أنّه خاصّ بطائفة خاصّة في زمن خاصّ يجب عليهم أن يؤمنوا به و يعملوا به و يجب على غيرهم أن يؤمنوا به فحسب من غير عمل و هذا معنى إقامته و عدم التفرّق فيه.

فتبيّن أنّ الأمر بإقامة الدين و عدم التفرّق فيه في قوله:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) مطلق شامل لجميع الناس في جميع الأزمان.

و بذلك يظهر فساد قول جمع إنّ الأمر بالإقامة و عدم التفرّق إنّما يشمل الأحكام المشتركة بين الشرائع دون المختصّة فإنّها أحكام متفاوتة مختلفة باختلاف الاُمم من حيث أحوالها و مصالحها.

و ذلك أنّه لا موجب لتقييد إطلاق قوله:( أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) و لو كان كما يقولون كان الأمر بالإقامة مختصّاً باُصول الدين الثلاثة: التوحيد و النبوّة و المعاد، و أمّا غيرها من الأحكام الفرعيّة فلا يكاد يوجد هناك حكم واحد مشترك فيه في جميع خصوصيّاته بين جميع الشرائع و هذا ممّا يأباه قطعاً سياق قوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ ) إلخ، و مثل قوله:( وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ) المؤمنون: ٥٣ و قوله:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) آل عمران: ١٩.

و قوله:( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) المراد بقوله:( ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) دين التوحيد الّذي كان يدعو إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أصل التوحيد فحسب على ما تشهد به الآية التالية، و المراد بكبره على المشركين تحرّجهم من قبوله.

و قوله:( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) الاجتباء هو الجمع

٢٩

و الاجتلاب، و مقتضى اتّساق الضمائر أن يكون ضمير( إِلَيْهِ ) الثاني و الثالث راجعاً إلى ما يرجع إليه الأوّل و المعنى الله يجمع و يجتلب إلى دين التوحيد - و هو ما تدعوهم إليه - من يشاء من عباده و يهدي إليه من يرجع إليه فيكون مجموع قوله:( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ ) في معنى قوله:( هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) الحجّ: ٧٨.

و قيل: الضميران لله تعالى، و لا بأس به لكن ما تقدّم هو الأنسب، و على أيّ حال قوله:( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ ) إلى آخر الآية موضوع موضع الاستغناء عن إيمان المشركين المستكبرين للإيمان نظير قوله تعالى:( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ ) حم السجدة: ٣٨.

و قيل: المراد بما تدعوهم إليه ما تدعوهم إلى الإيمان به و هو الرسالة أي إنّ رسالتك كبرت عليهم، و قوله:( اللهُ يَجْتَبِي ) إلخ في معنى قوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) الأنعام: ١٢٤ و هو خلاف الظاهر.

قوله تعالى: ( وَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) إلى آخر الآية ضمير( تَفَرَّقُوا ) للناس المفهوم من السياق، و البغي الظلم أو الحسد، و تقييده بقوله:( بَيْنَهُمْ ) للدلالة على تداوله، و المعنى و ما تفرّق الناس الّذين شرعت لهم الشريعة باختلافهم و تركهم الاتّفاق إلّا حال كون تفرقهم آخذاً - أو ناشئاً - من بعد ما جاءهم العلم بما هو الحقّ ظلماً أو حسداً تداولوه بينهم.

و هذا هو الاختلاف في الدين المؤدّي إلى الانشعابات و التحزّبات الّذي ينسبه الله سبحانه في مواضع من كلامه إلى البغي، و أمّا الاختلاف المؤدّي إلى نزول الشريعة و هو الاختلاف في شؤن الحياة و التفرّق في اُمور المعاش فهو أمر عائد إلى اختلاف طبائع الناس في مقاصدهم و هو الذريعة إلى نزول الوحي و تشريع الشرع لرفعه كما يشير إليه قوله:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ ) البقرة: ٢١٣ كما تقدّم في تفسير الآية.

و قوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) المراد

٣٠

بالكلمة مثل قوله: حين إهباط آدمعليه‌السلام إلى الأرض:( وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ ) البقرة: ٣٦.

و المعنى: و لو لا أنّ الله قضى فيهم الاستقرار و التمتّع في الأرض إلى أجل سمّاه و عيّنه لقضي بينهم إثر تفرّقهم في دينه و انحرافهم عن سبيله فأهلكهم باستدعاء من هذا الذنب العظيم.

و قول القائل: إنّ الله قد قضى و أهلك كما يقصّه في قصص نوح و هود و صالحعليهم‌السلام و قد قال تعالى:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) يونس: ٤٧.

مدفوع بأنّ ما قصّه تعالى من القضاء و الإهلاك إنّما هو في اُمم الأنبياء في زمانهم من المكذّبين بين الرادّين عليهم و ما نحن فيه من قوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) الآية في اُممهم بعدهم و هو واضح من السياق.

و قوله:( وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) ضمير( مِنْ بَعْدِهِمْ ) لاُولئك الّذين تفرّقوا من بعد علم بغياً بينهم و هم الأسلاف، و الّذين اُورثوا الكتاب من بعدهم أخلافهم فمفاد الآية أنّ البادئين بالاختلاف المؤسّسين للتفرقة كانوا على علم من الحقّ و إنّما أبدعوا ما أبدعوا، بغيا بينهم، و أخلافهم الّذين اُورثوا الكتاب من بعدهم في شكّ مريب - موقع في الريب - منه.

و ما أوردناه في معنى الآية هو الّذي يعطيه السياق، و لهم في تفسيرها أقاويل كثيرة لا جدوى في إسقاطها فليرجع في الوقوف عليها إلى كتبهم.

قوله تعالى: ( فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) إلى آخر الآية. تفريع على ما ذكر من شرع دين واحد لجميع الأنبياء و اُممهم ثمّ انقسام اُممهم إلى أسلاف اختلفوا في الدين عن علم بغياً، و إلى أخلاف شاكّين مرتابين فيما اُورثوه من الكتاب أي فلأجل أنّه شرع لكم جميع ما شرع لمن قبلكم فادع و لأجل ما ذكر من تفرّق بعضهم بغياً و ارتياب آخرين فاستقم كما اُمرت و لا تتّبع أهواءهم.

و اللّام في قوله:( فَلِذلِكَ ) للتعليل، و قيل: اللّام بمعنى إلى أي إلى ما شرع

٣١

لكم من الدين فادع و استقم كما اُمرت، و الاستقامة - كما ذكره الراغب - لزوم المنهاج المستقيم، و قوله:( وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) كالمفسّر له.

و قوله:( وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ ) تسوية بين الكتب السماويّة من حيث تصديقها و الإيمان بها و هي الكتب المنزلة من عند الله المشتملة على الشرائع.

و قوله:( وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) قيل: اللّام زائدة للتأكيد نظير قوله:( وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) الأنعام: ٧١، و المعنى: و اُمرت أن أعدل بينكم أي اُسوّي بينكم فلا اُقدّم قويّاً على ضعيف و لا غنيّاً على فقير و لا كبيراً على صغير، و لا اُفضّل أبيض على أسود و لا عربيّاً على عجميّ و لا هاشميّاً أو قرشيّاً على غيره فالدعوة متوجّهة إلى الجميع، و النّاس قبال الشرع الإلهي سواء.

فقوله:( آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ ) تسوية بين الكتب المنزلة من حيث الإيمان بها، و قوله:( وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) تسوية بين الناس من حيث الدعوة و توجّه ما جاء به من الشرع.

و قيل: اللّام في( لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) للتعليل، و المعنى: و اُمرت بما اُمرت لأجل أن أعدل بينكم، و كذا قيل: المراد بالعدل العدل في الحكم، و قيل: العدل في القضاء بينكم، و قيل غير ذلك، و هذه معان بعيدة لا يساعد عليها السياق.

و قوله:( اللهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ ) إلخ، في مقام التعليل لما ذكر من التسوية بين الكتب و الشرائع في الإيمان بها و بين الناس في دعوتهم و شمول الأحكام لهم، و لذا جي‏ء في الكلام بالفصل من غير عطف.

فقوله:( اللهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ ) يشير إلى أنّ ربّ الكلّ هو الله الواحد تعالى فليس لهم أرباب كثيرون حتّى يلحق كلّ بربّه و يتفاضلوا بالأرباب و يقتصر كلّ منهم بالإيمان بشريعة ربّه بل الله هو ربّ الجميع و هم جميعاً عباده المملوكون له المدبّرون بأمره و الشرائع المنزلة على الأنبياء من عنده فلا موجب للإيمان ببعضها دون بعض كما يؤمن اليهود بشريعة موسى دون من بعده و كذا النصارى بشريعة عيسى دون محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل الواجب الإيمان بكلّ كتاب نازل من عنده لأنّها جميعاً من عنده.

٣٢

و قوله:( لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ ) يشير إلى أنّ الأعمال و إن اختلفت من حيث كونها حسنة أو سيّئة و من حيث الجزاء ثواباً أو عقاباً إلّا أنّها لا تتعدّى عاملها فلكلّ امرئ ما عمل فلا ينتفع أحد بعمل آخر و لا يتضرّر بعمل غيره فليس له أن يقدّم امرأ للانتفاع بعمله أو يؤخّر امرأ للتضرّر بعمله نعم في الأعمال تفاضل تختلف به درجات العاملين لكنّ ذلك إلى الله فيما يحاسب به عباده لا إلى الناس - النبيّ فمن دونه - الّذين هم جميعاً عباد مملوكون لا يملك منهم نفس من نفس شيئاً، و هذا هو الّذي ذكره تعالى في محاورة نوحعليه‌السلام قومه:( قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى‏ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ) الشعراء: ١١٣، و كذا قوله يخاطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الأنعام: ٥٢.

و قوله:( لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ ) لعلّ المراد أنّه لا حجّة تدلّ على تقدّم بعض على بعض تكون فيما بيننا يقيمها بعض على بعض يثبت بها تقدّمه عليه.

و يمكن أن يكون نفي الحجّة كناية عن نفي لازمها و هو الخصومة أي لا خصومة بيننا بتفاوت الدرجات لأنّ ربّنا واحد و نحن في أنّنا جميعاً عباده واحد و لكلّ نفس ما عملت فلا حجّة في البين أي لا خصومة حتّى تتّخذ لها حجّة.

و من هنا يظهر أن لا وجه لقول بعضهم في تفسير الجملة: أي لا احتجاج و لا خصومة لأنّ الحقّ قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة و لا للمخالفة محمل سوى المكابرة و العناد انتهى. إذ الكلام مسوق لبيان ما اُمر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفسه و في اُمّته من سنّة التسوية لا لإثبات شي‏ء من اُصول المعارف حتّى تحمل الحجّة على ما حملها عليه.

و قوله:( اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا ) المراد بضمير التكلّم فيه مجموع المتكلّم و المخاطب في الجمل السابقة، و المراد بالجمع جمعه تعالى إيّاهم يوم القيامة للحساب و الجزاء على ما قيل.

٣٣

و غير بعيد أن يراد بالجمع جمعه تعالى بينهم في الربوبيّة فهو ربّ الجميع و الجميع عباده فيكون قوله:( اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا ) تأكيداً لقوله السابق:( اللهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ )

و توطئة و تمهيداً لقوله:( وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) و يكون مفاد الجملتين أنّ الله هو مبدؤنا لأنّه ربّنا جميعاً و إليه منتهانا لأنّه إليه المصير فلا موجد لما بيننا إلّا هو عزّ اسمه.

و كان مقتضى الظاهر في التعليل أن يقال: الله ربّي و ربّكم لي عملي و لكم أعمالكم لا حجّة بيني و بينكم على محاذاة قوله:( آمَنْتُ ) ( وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ ) لكن عدل عن المتكلّم وحده إلى المتكلّم مع الغير لدلالة قوله السابق:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ) إلخ، و قوله:( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) أنّ هناك قوماً يؤمنون بما آمن به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يلبّون دعوته و يتّبعون شريعته.

فالمراد بالمتكلّم مع الغير في( رَبُّنا ) و( لَنا أَعْمالُنا ) و( بَيْنَنا ) هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنون به، و بالمخاطبين في قوله:( وَ رَبُّكُمْ ) و( أَعْمالُكُمْ ) و( بَيْنَكُمُ ) سائر الناس من أهل الكتاب و المشركين، و الآية على وزان قوله تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: ٦٤.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) الحجّة هي القول الّذي يقصد به إثبات شي‏ء أو إبطاله من الحجّ بمعنى القصد، و الدحض البطلان و الزوال.

و المعنى: - على ما قيل - و الّذين يحاجّون في الله أي يحتجّون على نفي ربوبيّته أو على إبطال دينه من بعد ما استجاب النّاس له و دخلوا في دينه لظهور الحجّة و وضوح المحجّة حجّتهم باطلة زائلة عند ربّهم و عليهم غضب منه تعالى و لهم عذاب شديد.

و الظاهر أنّ المراد بالاستجابة له ما هو حقّ الاستجابة و هو التلقّي بالقبول عن علم لا يداخله شكّ تضطرّ إليه الفطرة الإنسانيّة السليمة فإنّ الدين بما فيه من المعارف فطريّ تصدّقه و تستجيب له الفطرة الحيّة قال تعالى:( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ

٣٤

يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى‏ يَبْعَثُهُمُ اللهُ ) الأنعام: ٣٦، و قال:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: ٨، و قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) الروم: ٣٠.

و محصّل الآية: على هذا أنّ الّذين يحاجّون فيه تعالى أو في دينه بعد استجابة الفطرة السليمة له أو بعد استجابة الناس بفطرتهم السليمة له حجّتهم باطلة زائلة عند ربّهم و عليهم غضب منه و لهم عذاب شديد لا يقادر قدره.

و يؤيّد هذا الوجه بعض التأييد سياق الآيات السابقة حيث تذكر أنّ الله شرع ديناً و وصّى به أنبياءه و اجتبى إليه من شاء من عباده فالمحاجّة في أنّ لله ديناً يستعبد به عباده داحضة و من الممكن حينئذ أن يكون قوله:( اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ ) في مقام التعليل و حجّة مدحضة لحجّتهم فتدبّر فيه.

و قيل: ضمير( اللهِ ) للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المستجيب أهل الكتاب، و استجابتهم له اعترافهم بورود أوصافه و نعوته في كتبهم و المراد أنّ محاجّتهم في الله بعد اعترافهم له بما اعترفوا حجّتهم باطلة عند ربّهم.

و قيل: الضمير لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المستجيب هو الله تعالى حيث استجاب دعاءه على صناديد قريش فقتلهم يوم بدر، و دعاءه على أهل مكّة فابتلاهم بالقحط و السنة، و دعاءه على المستضعفين حتّى خلّصهم الله من يد قريش إلى غير ذلك من معجزاته، و المعنيان بعيدان من السياق.

( بحث روائي‏)

في روح المعاني في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ ) الآية: عن ابن عبّاس و مجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همّت بردّ الناس عن الإسلام و إضلالهم فقالوا: كتابنا قبل كتابكم و نبيّنا قبل نبيّكم فديننا أفضل من دينكم و في رواية بدل( فديننا) إلخ فنحن أولى بالله منكم.

٣٥

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لمّا نزلت( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الْفَتْحُ ) قال المشركون بمكّة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجاً فاخرجوا من بين أظهرنا فعلام تقيمون بين أظهرنا فنزلت:( وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ ) الآية.

أقول: مضمون الآية لا ينطبق على الرواية إذ لا محاجّة في القصّة، و كذا الخبر السابق لا يفي بتوجيه قوله:( مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ ) .

٣٦

( سورة الشورى الآيات ١٧ - ٢٦)

اللهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ  وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ( ١٧ ) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا  وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ  أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ( ١٨ ) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ  وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ( ١٩ ) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ  وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ( ٢٠ ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ  وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ  وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ٢١ ) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ  وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ  لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ  ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( ٢٢ ) ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ  قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ  وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا  إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ( ٢٣ ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا  فَإِن يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ  وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ  إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ٢٤ ) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ( ٢٥ ) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ  وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ( ٢٦ )

٣٧

( بيان‏)

فصل رابع من الآيات يعرّف الوحي الإلهيّ بأنّ الدين النازل به كتاب مكتوب على الناس و ميزان يوزن به أعمالهم فيجزون بذلك يوم القيامة، و الجزاء الحسن من الرزق ثمّ يستطرد الكلام في ما يستقبلهم يوم القيامة من الثواب و العقاب، و فيها آية المودّة في القربى و ما يلحق بذلك.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ ) إلخ، كان مفتتح الفصول السابقة في سياق الفعل إخباراً عن الوحي و غرضه و آثاره( كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ) ( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ) و قد غيّر السياق في مفتتح هذا الفصل فجيي‏ء بالجملة الاسميّة المتضمّنة لتوصيفه تعالى بإنزال الكتاب و الميزان( اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ ) إلخ، و لازمه تعريف الوحي بنزول الكتاب و الميزان به.

و لعلّ الوجه فيه ما تقدّم في الآية السابقة من ذكر المحاجّة في الله( وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ ) فاستدعى ذلك تعريفه تعالى للمحاجّين فيه بأنّه الّذي أنزل الكتاب بالحقّ و الميزان، و لازمه تعريف الوحي بأثره كما عرفت.

و كيف كان فالمراد بالكتاب هو الوحي المشتمل على الشريعة و الدين الحاكم في المجتمع البشري، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) الآية البقرة: ٢١٣ أنّ هذا المعنى هو المراد بالكتاب في الكتاب، و كون إنزاله بالحقّ نزوله مصاحباً للحقّ لا يخالطه اختلاف شيطانيّ و لا نفسانيّ.

و الميزان ما يوزن و يقدّر به الأشياء، و المراد به بقرينة ذيل الآية و الآيات التالية هو الدين المشتمل عليه الكتاب حيث يوزن به العقائد و الأعمال فتحاسب عليه و يجزي بحسبه الجزاء يوم القيامة فالميزان هو الدين باُصوله و فروعه، و يؤيّده قوله تعالى:( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ ) الحديد: ٢٥، على ما هو ظاهر قوله:( مَعَهُمُ ) .

و قيل: المراد به العدل و سمّي العدل ميزاناً لأنّ الميزان آلة الإنصاف و التسوية

٣٨

بين الناس و العدل كذلك و اُيّد بسبق ذكر العدل في قوله:( وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) .

و فيه أنّه لا شاهد يشهد عليه من اللفظ، و قد تقدّم أنّ المراد بالعدل في( لِأَعْدِلَ ) هو التسوية بين الناس في التبليغ و في جريان الحكم دون عدل الحاكم و القاضي.

و قيل: المراد به الميزان المعروف المقدّر للأثقال. و هو كما ترى.

و قيل: المراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يمكن إرجاعه إلى ما قدّمناه من الوجه لأنّ النبيّ مصداق كامل و مثل أعلى للدين باُصوله و فروعه و لكلّ فرد من اُمّته من الزنة الدينية قدر ما يشابهه و يماثله لكن لا يلائم هذا الوجه ما تقدّم نقله آنفاً من آية سورة الحديد كثير ملاءمة.

و قوله:( وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ) لمّا كان الميزان المشعر بالحساب و الجزاء يومئ إلى البعث و القيامة انتقل إلى الكلام فيه و إنذارهم بما سيستقبلهم فيه من الأهوال و التبشير بما اُعدّ فيه للصالحين.

و الادراء الاعلام، و المراد بالساعة - على ما قيل - إتيانها و لذا جي‏ء بالخبر مذكّراً، و المعنى: ما الّذي يعلمك لعلّ إتيان الساعة قريب و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعنوان أنّه سامع فيشمل كلّ من له أن يسمع و يعمّ الإنذار و التخويف.

قوله تعالى: ( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها ) إلخ المراد استعجالهم استعجال سخريّة و استهزاء و قد تكرّر في القرآن نقل قولهم:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

و الإشفاق نوع من الخوف، قال الراغب: الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأنّ المشفق يحبّ المشفق عليه و يخاف ما يلحقه، قال تعالى:( وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) فإذا عدّي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدّي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال تعالى:( إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) ( مُشْفِقُونَ مِنْها ) انتهى.

و قوله:( أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) المماراة الإصرار على الجدال، و المراد إلحاحهم على إنكارها بالجدال، و إنّما كانوا في ضلال بعيد لأنّهم أخطؤا طريق الحياة الّتي أصابتها أهمّ ما يتصوّر للإنسان فتوهّموها حياة مقطوعة فانية

٣٩

انكبّوا فيها على شهوات الدنيا و إنّما هي حياة خالدة باقية يجب عليهم أن يتزوّدوا من دنياهم لاُخراهم لكنّهم ضلّوا عن سبيل الرشد فوقعوا في سبيل الغيّ.

قوله تعالى: ( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) في معنى اللطف شي‏ء من الرفق و سهولة الفعل و شي‏ء من الدقّة في ما يقع عليه الفعل فإذا تمّ الرفق و الدقّة و كان الفاعل يفعل برفق و سهولة و يقع فعله على الاُمور الدقيقة كان لطيفاً كالهواء النافذ في منافذ الأجسام برفق و سهولة المماسّ لدقائق أجزائها الباطنة. و إذا اُلقيت الخصوصيّات المادّيّة عن هذا المعنى صحّ أن يتّصف به الله سبحانه فإنّه تعالى ينال دقائق الاُمور بإحاطته و علمه و يفعل فيها ما يشاء برفق فهو لطيف.

و قد رتّب الرزق في الآية على كونه تعالى لطيفاً بعباده قويّاً عزيزاً دلالة على أنّه تعالى بلطفه لا يغيب عنه أحد ممّن يشاء أن يرزق و لا يعصيه و بقوّته عليه لا يعجز عنه و بعزّته لا يمنعه مانع عنه.

و المراد بالرزق ما يعمّ موهبة الدين الّذي يتلبّس بها من يشاء من عباده على ما يشهد به الآية التالية، و لذا اُلحق القول فيه بقوله:( اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ ) .

قوله تعالى: ( مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) إلخ، الحرث الزرع و المراد به نتيجة الأعمال الّتي يؤتاها الإنسان في الآخرة على سبيل الاستعارة كأنّ الأعمال الصالحة بذور و ما تنتجه في الآخرة حرث.

و المراد بالزيادة له في حرثه تكثير ثوابه و مضاعفته، قال تعالى:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) الأنعام: ١٦٠، و قال:( وَ اللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) البقرة: ٢٦١.

و قوله:( وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) أي و من كان يريد النتائج الدنيويّة بأن يعمل للدنيا و يريد نتيجة ما عمله فيها دون الآخرة نؤته من الدنيا و ما له في الآخرة نصيب، و في التعبير بإرادة الحرث إشارة إلى اشتراط العمل لما يريده من الدنيا و الآخرة كما قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) النجم: ٣٩.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429