الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120146 / تحميل: 6174
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

الإعراض عن كتاب الله و العمل بما فيه و العود إلى الشرك و رفض الدين.

و المعنى: فهل يتوقّع منكم أن أعرضتم عن كتاب الله و العمل بما فيه و منه الجهاد في سبيل الله أن تفسدوا في الأرض و تقطّعوا أرحامكم بسفك الدماء و نهب الأموال و هتك الأعراض تكالباً على جيفة الدنيا أي إن تولّيتم كان المتوقّع منكم ذلك.

و قد ظهر بذلك أنّ الآية في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة:( لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) و لذا صدّر بالفاء.

و قيل: المراد بالتولّي التصدّي للحكم و الولاية، و المعنى: هل يتوقّع منكم إن جُعلتم ولاة أن تفسدوا في الأرض و تقطّعوا أرحامكم بسفك الدماء الحرام و أخذ الرشاء و الجور في الحكم هذا، و هو معنى بعيد عن السياق.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى‏ أَبْصارَهُمْ ) الإشارة إلى المفسدين في الأرض المقطّعين للأرحام و قد وصفهم الله بأنّه لعنهم فأصمّهم و أذهب بسمعهم فلا يسمعون القول الحقّ و أعمى أبصارهم فلا يرون الرأي الحقّ فإنّها لا تعمي الأبصار و لكن تعمي القلوب الّتي في الصدور.

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها ) الاستفهام للتوبيخ و ضمير الجمع راجع إلى المذكورين في الآية السابقة، و تنكير( قُلُوبٍ ) كما قيل للدلالة على أنّ المراد قلوب هؤلاء و أمثالهم.

قال في مجمع البيان: و في هذا دلالة على بطلان قول من قال: لا يجوز تفسير شي‏ء من ظاهر القرآن إلّا بخبر و سمع. انتهى.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى‏ لَهُمْ ) الارتداد على الأدبار الرجوع إلى الاستدبار بعد الاستقبال و هو استعارة اُريد بها الترك بعد الأخذ، و التسويل تزيين ما تحرض النفس عليه و تصوير القبيح لها في صورة الحسن، و المراد بالإملاء الإمداد أو تطويل الآمال.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ

٢٦١

الْأَمْرِ وَ اللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ) الإشارة بذلك إلى تسويل الشيطان و إملائه و بالجملة تسلّطه عليهم، و المراد( لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ ) هم الّذين كفروا كما تقدّم في قوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ) الآية: ٩ من السورة.

و قوله:( سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ) مقول قولهم و وعد منهم للكفّار بالطاعة و هو كما يلوح من تقييد الطاعة ببعض الأمر على نحو الإجمال كلام من لا يقدر على التظاهر بطاعة من يريد طاعته في جميع الاُمور لكونه على خطر من التظاهر بالطاعة المطلقة فيسرّ إلى من يعدّه أنّه سيطيعه في بعض الأمر و فيما تيسّر له ذلك ثمّ يكتم ذلك و يقعد متربّصاً للدوائر.

و يستفاد من ذلك أنّ هؤلاء كانوا قوماً من المنافقين أسرّوا إلى الكفّار ما حكاه تعالى عنهم و وعدهم الطاعة لهم مهما تيسّر لهم ذلك، و يؤيّد ذلك قوله تعالى بعد:( وَ اللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ) .

و اختلفوا في هؤلاء من هم؟ فقيل: هم اليهود قالوا للمنافقين: إن أعلنتم الكفر نصرناكم، و قيل: هم اليهود أو اليهود و المنافقون قالوا ذلك للمشركين. و يرد على الوجهين جميعاً أنّ موضوع الكلام في الآية المرتدّون بعد إيمانهم و اليهود لم يؤمنوا حتّى يرتدّوا.

و قيل: هم المنافقون وعدوا اليهود النصر كما قال تعالى:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ) الحشر: ١١.

و فيه أنّ الآية تقبل الانطباق على ذلك كما تقبل الانطباق على اليهود في وعدهم النصر للمشركين على تكلّف في صدق الارتداد على كفرهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبيّن رسالته لهم لكن لا دليل من طريق لفظ الآية على ذلك فلعلّهم قوم من المنافقين غيرهم.

قوله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ )

٢٦٢

متفرّع على ما قبله، و المعنى: هذا حالهم اليوم يرتدّون بعد تبيّن الهدى لهم فيفعلون ما يشاؤن فكيف حالهم إذا توفّتهم الملائكة و هم يضربون وجوههم و أدبارهم.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) الظاهر أنّ المراد بما أسخط الله أهواء النفس و تسويلات الشيطان المستتبعة للمعاصي و الذنوب الموبقة كما قال تعالى:( وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) ، و قال:( الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى‏ لَهُمْ ) .

و السخط و الرضا من صفاته تعالى الفعليّة و المراد بهما العقاب و الثواب.

و الإشارة في قوله:( ذلِكَ ) إلى ما ذكر في الآية السابقة من عذاب الملائكة لهم عند توفّيهم أي سبب عقابهم أنّ أعمالهم حابطة لاتّباعهم ما أسخط الله و كراهتهم رضوانه، و إذ لا عمل لهم صالحاً يشقون بالعذاب.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ ) قال الراغب: الضغن - بكسر الضاد - و الضغن - بضمّها - الحقد الشديد و جمعه أضغان انتهى. و المراد بالّذين في قلوبهم مرض الضعفاء الإيمان و لعلّهم الّذين آمنوا أوّلاً على ضعف في إيمانهم ثمّ مالوا إلى النفاق و ارتدّوا بعد الإيمان، فالتدبّر الدقيق في تاريخ صدر الإسلام يوضح أنّ قوماً ممّن آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا على هذه الصفة كما أنّ قوماً منهم آخرين كانوا منافقين من أوّل يوم آمنوا إلى آخر عمرهم، و على هذا فعدّهم من المؤمنين فيما تقدّم بملاحظة بادئ أمرهم.

و المعنى: بل ظنّ هؤلاء المنافقون الّذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله و لن يظهر أحقادهم للدين و أهله.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ ) السيماء العلامة، و المعنى: و لو نشاء لأريناك اُولئك المرضى القلوب فلعرفتهم بعلامتهم الّتي أعلمناهم بها.

و قوله:( وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) قال الراغب: اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه: إمّا بإزالة الإعراب أو التصحيف و هو المذموم، و ذلك أكثر

٢٦٣

استعمالاً، و أمّا بإزالته عن التصريح و صرفه إلى تعريض و فحوى، و هو محمود عند أكثر الاُدباء من حيث البلاغة. انتهى.

فالمعنى: و لتعرفنّهم من جنس قولهم بما يشتمل عليه من الكناية و التعريض، و في جعل لحن القول ظرفاً للمعرفة نوع من العناية المجازيّة.

و قوله:( وَ اللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ ) أي يعلم حقائقها و أنّها من أي القصود و النيّات صدرت فيجازي المؤمنين بصالح أعمالهم و غيرهم بغيرها، ففيه وعد للمؤمنين و وعيد لغيرهم.

قوله تعالى: ( وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ) البلاء و الابتلاء الامتحان و الاختبار، و الآية بيان علّة كتابة القتال على المؤمنين، و هو الاختبار الإلهيّ ليمتاز به المجاهدون في سبيل الله الصابرون على مشاقّ التكاليف الإلهيّة.

و قوله:( وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ) كأنّ المراد بالأخبار الأعمال من حيث إنّها تصدر عن العاملين فيكون إخباراً لهم يخبر بها عنهم، و اختبار الأعمال يمتاز به صالحها من طالحها كما أنّ اختبار النفوس يمتاز به النفوس الصالحة الخيّرة و قد تقدّم فيما تقدّم أنّ المراد بالعلم الحاصل له تعالى من امتحان عباده هو ظهور حال العباد بذلك، و بنظر أدقّ هو علم فعليّ له تعالى خارج عن الذات.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى‏ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ‏ ) المراد بهؤلاء رؤساء الضلال من كفّار مكّة و من يلحق بهم لأنّهم الّذين صدّوا عن سبيل الله و شاقّوا الرسول و عادوه أشدّ المعاداة بعد ما تبيّن لهم الهدى.

و قوله:( لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً ) لأنّ كيد الإنسان و مكره لا يرجع إلّا إلى نفسه و لا يضرّ إلّا إيّاه و قوله:( وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ ) أي مساعيهم لهدم أساس الدين و ما عملوه لإطفاء نور الله، و قيل: المراد إحباط أعمالهم و إبطالها فلا يثابون في الآخرة

٢٦٤

على شي‏ء من أعمالهم، و المعنى الأوّل أنسب للسياق لأنّ فيه تحريض المؤمنين و تشجيعهم على قتال المشركين و تطييب نفوسهم أنّهم هم الغالبون كما تفيده الآيات التالية.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) إلخ عن الأصبغ بن نباتة عن عليّعليه‌السلام قال: إنّا كنّا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا و من يعيه فإذا خرجنا قالوا: ما ذا قال آنفاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بعثت أنا و الساعة كهاتين، و أشار بالسبّابة و الوسطى.

أقول: و روي هذا اللفظ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطرق اُخرى عن أبي هريرة و سهل بن مسعود.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و البخاريّ و مسلم و ابن ماجة و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال: ما المسؤل عنها بأعلم من السائل و لكن ساُحدّثك عن أشراطها.

إذا ولدت الأمة ربّتها فذاك من أشراطها، و إذا كانت الحفاة العراة رعاء الشاء رؤس الناس فذاك من أشراطها، و إذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذاك من أشراطها.

و في العلل، بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث طويل يقول فيه لعبد الله بن سلام و قد سأله عن مسائل: أمّا أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.

أقول: و لعلّ المراد به غير ظاهرة، و الأخبار في أشراط الساعة من طرق الشيعة و أهل السنّة فوق حدّ الإحصاء، و قد مرّت في آخر الجزء الخامس من الكتاب رواية سلمان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و رواية حمران عن الصادقعليه‌السلام و هما روايتان جامعتان في الباب.

٢٦٥

و في المجمع، قد صحّ الحديث بالإسناد عن حذيفة بن اليمان قال: كنت رجلاً ذرب اللسان على أهلي فقلت: يا رسول الله إنّي لأخشى أن يدخلني لساني النار فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأين أنت من الاستغفار؟ إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن أبي شيبة و مسلم و أبوداود و النسائيّ و ابن حبّان و ابن مردويه عن الأغرّ المزنيّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه ليغان على قلبي، و إنّي لأستغفر الله كلّ يوم مائة مرّة.

و فيه في قوله تعالى:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) الآية: أخرج البيهقيّ عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الرحم معلّقة بالعرش لها لسان ذلق تقول: اللّهمّ صلّ من وصلني، و اقطع من قطعني.

أقول: و الروايات فيها و في صلتها و قطعها كثيرة، و قد مرّ شطر منها في تفسير أوّل سورة النساء.

و في المجمع في قوله تعالى:( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) الآية أ فلا يتدبّرون القرآن فيقضوا ما عليهم من الحقّ: عن أبي عبدالله و أبي الحسنعليهما‌السلام .

و في التوحيد، بإسناده إلى محمّد بن عمارة قال: سألت الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام فقلت له: يا ابن رسول الله أخبرني عن الله عزّوجلّ هل له رضىً و سخط؟ قال: نعم- و ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين و لكن غضب الله عقابه و رضاه ثوابه.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) الآية عن أبي سعيد الخدريّ قال: لحن القول بغضهم عليّ بن أبي طالب. قال: كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببغضهم عليّ بن أبي طالب.

قال في المجمع: و روي مثل ذلك عن جابر بن عبدالله الأنصاري.

و قال: و عن عبادة بن الصامت قال: كنّا نبور أولادنا بحبّ عليّ بن أبي طالب فإذا رأينا أحدهم لا يحبّه علمنا أنّه لغير رشدة.

٢٦٦

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا ببغض عليّ بن أبي طالب.

و في أمالي الطوسيّ، بإسناده إلى عليّعليه‌السلام أنّه قال: قلت أربعاً أنزل الله تعالى تصديقي بها في كتابه، قلت: المرء مخبوّء تحت لسانه فإذا تكلّم ظهر، فأنزل الله:( وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) .

٢٦٧

( سورة محمّد الآيات ٣٣ - ٣٨)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ( ٣٣ ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ( ٣٤ ) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ( ٣٥ ) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ  وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ( ٣٦ ) إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ( ٣٧ ) هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ  وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ  وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ  وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ( ٣٨ )

( بيان‏)

لمّا وصف حال الكفّار و أضاف إليه وصف حال الّذين في قلوبهم مرض و تثاقلهم في أمر القتال و حال من ارتدّ منهم بعد، رجع يحذّر المؤمنين أن يكونوا أمثالهم فيفاوضوا المشركين و يميلوا إليهم فيتّبعوا ما أسخط الله و يكرهوا رضوانه فيبطل أعمالهم بالحبط، و في الآيات موعظة لهم بالترغيب و الترهيب و التطميع و التخويف، و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) الآية و إن كانت في نفسها مستقلّة في مدلولها مطلقة في معناها حتّى استدلّ

٢٦٨

الفقهاء بقوله فيها:( وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) على حرمة إبطال الصلاة بعد الشروع فيها لكنّها من حيث وقوعها في سياق الآيات السابقة المتعرّضة لأمر القتال، و كذا الآيات اللاحقة الجارية على السياق و خاصّة ما في ظاهر قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ، من التعليل و ما في قوله:( فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ) إلخ، من التفريع، و بالجملة الآية بالنظر إلى سياقها تدلّ على إيجاب طاعة الله سبحانه فيما أنزل من الكتاب و شرّع من الحكم و إيجاب طاعة الرسول فيما بلّغ عن الله سبحانه، و فيما يُصدر من الأمر من حيث ولايته على المؤمنين في المجتمع الدينيّ، و على تحذير المؤمنين من إبطال أعمالهم بفعل ما يوجب حبط أعمالهم كما ابتلي به اُولئك الضعفاء الإيمان المائلون إلى النفاق الّذين انجرّ أمر بعضهم أن ارتدّوا بعد ما تبيّن لهم الهدى.

فالمراد بحسب المورد من طاعة الله طاعته فيما شرّع و أنزل من حكم القتال، و من طاعة الرسول طاعته فيما بلّغ منه و فيما أمر به منه و من مقدّماته بما له من الولاية فيه و بإبطال الأعمال التخلّف عن حكم القتال كما تخلّف المنافقون و أهل الردّة.

و قيل: المراد بإبطال الأعمال إحباطها بمنّهم على الله و رسوله بإيمانهم كما في قوله تعالى:( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) و قيل: إبطالها بالرياء و السمعة، و قيل: بالعجب، و قيل: بالكفر و النفاق، و قيل: المراد إبطال الصدقات بالمنّ و الأذى كما قال:( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى‏ ) البقرة: ٢٦٤، و قيل: إبطالها بالمعاصي، و قيل: بخصوص الكبائر.

و يرد على هذه الأقوال جميعاً أنّ كلّ واحد منها على تقدير صحّته و تسليمه مصداق من مصاديق الآية مع الغضّ من وقوعها في السياق الّذي تقدّمت الإشارة إليه، و أمّا من حيث وقوعها في السياق فلا تشمل إلّا القتال كما مرّ.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ‏ ) ظاهر السياق أنّه تعليل لمضمون الآية السابقة فيفيد أنّكم لو لم تطيعوا الله و رسوله و أبطلتم أعمالكم باتّباع ما أسخط الله و كراهة رضوانه أدّاكم ذلك إلى اللحوق بأهل الكفر و الصدّ و لا مغفرة لهم بعد موتهم كذلك أبداً.

٢٦٩

و المراد بالصدّ عن سبيل الله الإعراض عن الإيمان أو منع الناس أن يؤمنوا.

قوله تعالى: ( فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ ) تفريع على ما تقدّم، و قوله:( فَلا تَهِنُوا ) من الوهن بمعنى الضعف و الفتور، و قوله:( وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ) معطوف على( تَهِنُوا ) واقع في حيّز النهي أي و لا تدعوا إلى السلم، و السلم- بفتح السين- الصلح، و قوله:( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) جملة حاليّة أي لا تفعلوا الصلح، و قوله:( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) جملة حاليّة أي لا تفعلوا ذلك و الحال أنّكم الغالبون، و المراد بالعلوّ الغلبة و هي استعارة مشهورة.

و قوله:( وَ اللهُ مَعَكُمْ ) معطوف على( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) يبيّن سبب علوّهم و يعلّله فالمراد بمعيّته تعالى لهم معيّة النصر دون المعيّة القيّوميّة الّتي يشير إليها قوله تعالى:( وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) الحديد: ٤.

و قوله:( وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ ) قال في المجمع: يقال: وتره يتره وتراً إذا نقصه و منه الحديث(١) فكأنّه وتر أهله و ماله، و أصله القطع و منه الترة القطع بالقتل و منه الوتر المنقطع بانفراده عن غيره. انتهى.

فالمعنى: لن ينقصكم أعمالكم أي يوفّي أجرها تامّاً كاملاً، و قيل: المعنى: لن يضيع أعمالكم، و قيل: لن يظلمكم، و المعاني متقاربة.

و معنى الآية: إذا كانت سبيل عدم طاعة الله و رسوله و إبطال أعمالكم هذه السبيل و كان مؤدّياً إلى الحرمان من مغفرة الله أبداً فلا تضعفوا و لا تفتروا في أمر القتال و لا تدعوا المشركين إلى الصلح و ترك القتال و الحال أنكم أنتم الغالبون و الله ناصركم عليهم و لن ينقصكم شيئاً من اُجوركم بل يوفّيكموها تامّة كاملة.

و في الآية وعد المؤمنين بالغلبة و الظفر إن أطاعوا الله و رسوله فهي كقوله:( وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) آل عمران: ١٣٩.

قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ

____________________

(١) و هو ما عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: ( من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله و ماله ) عن الجوامع.

٢٧٠

وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) ترغيب لهم في الآخرة و تزهيد لهم عن الدنيا ببيان حقيقتها و هي أنّها لعب و لهو - و قد مرّ معنى كونها لعباً و لهواً -.

و قوله:( وَ إِنْ تُؤْمِنُوا ) إلخ، أي أن تؤمنوا و تتّقوا بطاعته و طاعة رسوله يؤتكم اُجوركم و لا يسألكم أموالكم بإزاء ما أعطاكم و ظاهر السياق أنّ المراد بالأموال جميع أموالهم و يؤيّده أيضاً الآية التالية.

قوله تعالى: ( إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ ) الإحفاء الإجهاد و تحميل المشقّة، و المراد بالبخل - كما قيل - الكفّ عن الإعطاء، و الأضغان الأحقاد.

و المعنى: إن يسألكم جميع أموالكم فيجهدكم بطلب كلّها كففتم عن الإعطاء لحبّكم لها و يخرج أحقاد قلوبكم فضللتم.

قوله تعالى: ( ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ) إلى آخر الآية بمنزلة الاستشهاد في بيان الآية السابقة كأنّه قيل: إنّه إن يسأل الجميع فيحفكم تبخلوا و يشهد بذلك أنّكم أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله - و هو بعض أموالكم - فبعضكم يبخل فيظهر به أنّه لو سأل الجميع جميعكم بخلتم.

و قوله:( وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ) أي يمنع الخير عن نفسه فإنّ الله لا يسأل ما لهم لينتفع هو به بل لينتفع به المنفقون فيما فيه خير دنياهم و آخرتهم فامتناعهم عن إنفاقه امتناع منهم عن خير أنفسهم، و إليه يشير قوله بعده:( وَ اللهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ ) و القصران للقلب أي الله هو الغنيّ دونكم و أنتم الفقراء دون الله.

و قوله:( وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ) قيل: عطف على قوله:( وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا ) و المعنى: إن تؤمنوا و تتّقوا يؤتكم اُجوركم و إن تتولّوا و تعرضوا يستبدل قوماً غيركم بأن يوفّقهم للإيمان دونكم ثمّ لا يكونوا أمثالكم بل يؤمنون و يتّقون و ينفقون في سبيل الله.

٢٧١

( بحث روائي‏)

في ثواب الأعمال، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قال: سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنّة، و من قال: الحمدلله غرس الله له بها شجرة في الجنّة، و من قال: لا إله إلّا الله غرس الله له بها شجرة في الجنّة، و من قال: الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنّة.

فقال رجل من قريش: يا رسول الله إنّ شجرنا في الجنّة لكثير. قال: نعم و لكن إيّاكم أن ترسلوا عليها ناراً فتحرقوها، و ذلك أنّ الله عزّوجلّ يقول:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) .

و في تفسير القمّيّ:( وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ) قال: هي منسوخة بقوله:( فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللهُ مَعَكُمْ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و عبد بن حميد و الترمذيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الأوسط و البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله هذه الآية:( وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ) فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الّذين إن تولّينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منكب سلمان ثمّ قال: هذا و قومه، و الّذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريّا لتناوله رجال من فارس.

أقول: و روي بطرق اُخر عن أبي هريرة: مثله. و كذا عن ابن مردويه عن جابر: مثله.

و في المجمع، و روى أبوبصير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال:( إِنْ تَتَوَلَّوْا ) يا معشر العرب( يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ) يعني الموالي.

و فيه، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قد والله أبدل خيراً منهم الموالي.

٢٧٢

( سورة الفتح مدنيّة و هي تسع و عشرون آية)

( سورة الفتح الآيات ١ - ٧)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ( ١ ) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( ٢ ) وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا ( ٣ ) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ  وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ٤ ) لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ  وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا ( ٥ ) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ  عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ  وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ  وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( ٦ ) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٧ )

( بيان‏)

مضامين آيات السورة بفصولها المختلفة ظاهرة الانطباق على قصّة صلح الحديبيّة الواقعة في السنة السادسة من الهجرة و ما وقع حولها من الوقائع كقصّة تخلّف الأعراب و صدّ المشركين، و بيعة الشجرة على ما تفصّله الآثار و سيجي‏ء شطر منها في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

٢٧٣

فغرض السورة بيان ما امتنّ الله تعالى على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما رزقه من الفتح المبين في هذه السفرة، و على المؤمنين ممّن معه، و مدحهم البالغ، و الوعد الجميل للّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات، و السورة مدنيّة.

قوله تعالى: ( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) كلام واقع موقع الامتنان، و تأكيد الجملة بإنّ و نسبة الفتح إلى نون العظمة و توصيفه بالمبين كلّ ذلك للاعتناء بشأن الفتح الّذي يمتنّ به.

و المراد بهذا الفتح على ما تؤيّده قرائن الكلام هو ما رزق الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الفتح في صلح الحديبيّة.

و ذلك أنّ ما سيأتي في آيات السورة من الامتنان على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين، و مدحهم و الرضا عن بيعتهم و وعدهم الجميل في الدنيا بمغانم عاجلة و آجلة و في الآخرة بالجنّة و ذمّ المخلّفين من الأعراب إذ استنفرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يخرجوا معه، و ذمّ المشركين في صدّهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من معه، و ذمّ المنافقين، و تصديقه تعالى رؤيا نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قوله:( فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) - و كاد يكون صريحاً - كلّ ذلك معان مرتبطة بخروجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة للحجّ و انتهاء ذلك إلى صلح الحديبيّة.

و أمّا كون هذا الصلح فتحاً مبيناً رزقه الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظاهر بالتدبّر في لحن آيات السورة في هذه القصّة فقد كان خروج النبيّ و المؤمنين إلى هذه البغية خروجاً على خطر عظيم لا يرجى معه رجوعهم إلى المدينة عادة كما يشير إليه قوله تعالى:( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى‏ أَهْلِيهِمْ أَبَداً ) و المشركون من صناديد قريش و من يتبعهم على ما لهم من الشوكة و القوّة و العداوة مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين لم يتوسّط بينهم منذ سنين إلّا السيف و لم يجمعهم جامع غير معركة القتال كغزوة بدر و اُحد و الأحزاب، و لم يخرج مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا شرذمة قليلون - ألف و أربعمائة - لا قدر لهم عند جموع المشركين و هم في عقر دارهم.

لكنّ الله سبحانه قلّب الأمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين على المشركين فرضوا بما لم

٢٧٤

يكن مطموعاً فيه متوقّعاً منهم فسألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصالحهم على ترك القتال عشر سنين، و على تأمين كلّ من القبيلين أتباع الآخر و من لحق به، و على أن يرجع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة عامّة هذا ثمّ يقدم إلى مكّة العامّ القابل فيخلّوا له المسجد و الكعبة ثلاثة أيّام.

و هذا من أوضح الفتح رزقه الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كان من أمسّ الأسباب بفتح مكّة سنة ثمان من الهجرة فقد آمن جمع كثير من المشركين في السنتين بين الصلح و فتح مكّة، و فتح في أوائل سنة سبع خيبر و ما والاه و قوي به المسلمون و اتّسع الإسلام اتّساعاً بيّناً و كثر جمعهم و انتشر صيتهم و أشغلوا بلاداً كثيرة، و خرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفتح مكّة في عشرة آلاف أو في اثني عشر ألفاً، و قد كان خرج إلى حديبيّة في ألف و أربعمائة على ما تفصّله الآثار.

و قيل: المراد بالفتح فتح مكّة فالمراد بقوله:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ ) إنّا قضينا لك فتح مكّة، و فيه أنّ القرائن لا تساعده.

و قيل: المراد به فتح خيبر، و معناه - على تقدير نزول السورة عند مرجع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبيّة إلى المدينة - إنا قضينا لك فتح خيبر، و حال هذا القول أيضاً كسابقه.

و قيل: المراد به الفتح المعنويّ و هو الظفر على الأعداء بالحجج البيّنة و المعجزات الباهرة الّتي غلب بها كلمة الحقّ على الباطل و ظهر الإسلام على الدين كلّه، و هذا الوجه و إن كان في نفسه لا بأس به لكن سياق الآيات لا يلائمه.

قوله تعالى: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَ يَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) اللّام في قوله:( لِيَغْفِرَ ) للتعليل على ما هو ظاهر اللفظ فظاهره أنّ الغرض من هذا الفتح المبين هو مغفرة ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر، و من المعلوم أن لا رابطة بين الفتح و بين مغفرة الذنب و لا معنى معقولاً لتعليله بالمغفرة.

و قول بعضهم فراراً عن الإشكال: إنّ اللام المكسورة في( لِيَغْفِرَ ) لام القسم

٢٧٥

و الأصل ليغفرنّ حذفت نون التوكيد و بقي ما قبلها مفتوحاً للدلالة على المحذوف غلط لا شاهد عليه من الاستعمال.

و كذا قول بعض آخر فراراً عن الإشكال:( إنّ العلّة هو مجموع المغفرة و ما عطف عليه من إتمام النعمة و الهداية و النصر العزيز من حيث المجموع فلا ينافي عدم كون البعض أي مغفرة الذنب في نفسه علّة للفتح) كلام سخيف لا يغني طائلاً فإنّ مغفرة الذنب لا هي علّة أو جزء علّة للفتح و لا مرتبطة نوع ارتباط بما عطف عليها حتّى يوجّه دخولها في ضمن علله فلا مصحّح لذكرها وحدها و لا مع العلل و في ضمنها.

و بالجملة هذا الإشكال نعم الشاهد على أن ليس المراد بالذنب في الآية هو الذنب المعروف و هو مخالفة التكليف المولويّ، و لا المراد بالمغفرة معناها المعروف و هو ترك العقاب على المخالفة المذكورة فالذنب في اللغة على ما يستفاد من موارد استعمالاته هو العمل الّذي له تبعة سيّئة كيفما كان، و المغفرة هي الستر على الشي‏ء، و أمّا المعنيان المذكوران المتبادران من لفظي الذنب و المغفرة إلى أذهاننا اليوم أعني مخالفة الأمر المولويّ المستتبع للعقاب و ترك العقاب عليها فإنّما لزماهما بحسب عرف المتشرّعين.

و قيام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعوة و نهضته على الكفر و الوثنيّة فيما تقدّم على الهجرة و إدامته ذلك و ما وقع له من الحروب و المغازي مع الكفّار و المشركين فيما تأخّر عن الهجرة كان عملاً منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذا تبعة سيّئة عند الكفّار و المشركين و ما كانوا ليغفروا له ذلك ما كانت لهم شوكة و مقدرة، و ما كانوا لينسوا زهوق ملّتهم و انهدام سنّتهم و طريقتهم، و لا ثارات من قتل من صناديدهم دون أن يشفوا غليل صدورهم بالانتقام منه و إمحاء اسمه و إعفاء رسمه غير أنّ الله سبحانه رزقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الفتح و هو فتح مكّة أو فتح الحديبيّة المنتهي إلى فتح مكّة فذهب بشوكتهم و أخمد نارهم فستر بذلك عليه ما كان لهم عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الذنب و آمنه منهم.

فالمراد بالذنب - و الله أعلم - التبعة السيّئة الّتي لدعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الكفّار و المشركين و هو ذنب لهم عليه كما في قول موسى لربّه:( وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) الشعراء: ١٤، و ما تقدّم من ذنبه هو ما كان منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة قبل الهجرة، و

٢٧٦

ما تأخّر من ذنبه هو ما كان منه بعد الهجرة، و مغفرته تعالى لذنبه هي سترة عليه بإبطال تبعته بإذهاب شوكتهم و هدم بنيتهم، و يؤيّد ذلك ما يتلوه من قوله:( وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ - إلى أن قال -وَ يَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) .

و للمفسّرين في الآية مذاهب مختلفة اُخر:

فمن ذلك: أنّ المراد بذنبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما صدر عنه من المعصية، و المراد بما تقدّم منه. و ما تأخّر ما صدر عنه قبل النبوّة و بعدها، و قيل: ما صدر قبل الفتح و ما صدر بعده.

و فيه أنّه مبنيّ على جواز صدور المعصية عن الأنبياءعليهم‌السلام و هو خلاف ما يقطع به الكتاب و السنّة و العقل من عصمتهمعليهم‌السلام و قد تقدّم البحث عنه في الجزء الثاني من الكتاب و غيره.

على أنّ إشكال عدم الارتباط بين الفتح و المغفرة على حاله.

و من ذلك: أنّ المراد بمغفرة ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر مغفرة ما وقع من معصيته و ما لم يقع بمعنى الوعد بمغفرة ما سيقع منه إذا وقع لئلّا يرد الإشكال بأنّ مغفرة ما لم يتحقّق من المعصية لا معنى له.

و فيه مضافاً إلى ورود ما ورد على سابقه عليه أنّ مغفرة ما سيقع من المعصية قبل وقوعه تلازم ارتفاع التكاليف عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عامّة، و يدفعه نصّ كلامه تعالى في آيات كثيرة كقوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) الزمر: ٢، و قوله:( وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) الزمر: ١٢، إلى غير ذلك من الآيات الّتي تأبى بسياقها التخصيص.

على أنّ من الذنوب و المعاصي مثل الشرك بالله و افتراء الكذب على الله و الاستهزاء بآيات الله و الإفساد في الأرض و هتك المحارم، و إطلاق مغفرة الذنوب يشملها و لا معنى لأن يبعث الله عبداً من عباده فيأمره أن يقيم دينه على ساق و يصلح به الأرض فإذا فتح له و نصره و أظهره على ما يريد يجيز له مخالفة ما أمره و هدم ما بناه و إفساد ما أصلحه بمغفرة كلّ مخالفة و معصية منه و العفو عن كلّ ما تقوّله و افتراه على الله، و

٢٧٧

فعله تبليغ كقوله، و قد قال تعالى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) الحاقّة: ٤٦.

و من ذلك: قول بعضهم: إنّ المراد بمغفرة ما تقدّم من ذنبه مغفرة ما تقدّم من ذنب أبويه آدم و حوّاءعليهما‌السلام ببركتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المراد بمغفرة ما تأخّر منه مغفرة ذنوب اُمّته بدعائه.

و فيه ورود ما ورد على ما تقدّم عليه.

و من ذلك: أنّ الكلام في معنى التقدير و إن كان في سياق التحقيق و المعنى: ليغفر لك الله قديم ذنبك و حديثه لو كان لك ذنب.

و فيه أنّه أخذ بخلاف الظاهر من غير دليل.

و من ذلك: أنّ القول خارج مخرج التعظيم و حسن الخطاب و المعنى: غفر الله لك كما في قوله تعالى:( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) التوبة: ٤٣.

و فيه أنّ العادة جرت في هذا النوع من الخطاب أن يورد بلفظ الدعاء. كما قيل.

و من ذلك: أنّ المراد بالذنب في حقّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك الأولى و هو مخالفة الأوامر الإرشاديّة دون التمرّد عن امتثال التكاليف المولويّة، و الأنبياء على ما هم عليه من درجات القرب يؤاخذون على ترك ما هو أولى كما يؤاخذ غيرهم على المعاصي المعروفة كما قيل: حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

و من ذلك: ما ارتضاه جمع من أصحابنا من أنّ المراد بمغفرة ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر مغفرة ما تقدّم من ذنوب اُمّته و ما تأخّر منها بشفاعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لا ضير في إضافة ذنوب اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه للاتّصال و السبب بينه و بين اُمّته.

و هذا الوجه و الوجه السابق عليه سليمان عن عامّة الإشكالات لكن إشكال عدم الارتباط بين الفتح و المغفرة على حاله.

و من ذلك: ما عن علم الهدى رحمه الله أنّ الذنب مصدر، و المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل و المفعول معاً فيكون هنا مضافاً إلى المفعول، و المراد ما تقدّم من ذنبهم

٢٧٨

إليك في منعهم إيّاك من مكّة و صدّهم لك عن المسجد الحرام، و يكون معنى المغفرة على هذا الإزالة و النسخ لأحكام أعدائه من المشركين أي يزيل الله تعالى ذلك عنك و يستر عليك تلك الوصمة بما يفتح لك من مكّة فتدخلها فيما بعد.

و هذا الوجه قريب المأخذ ممّا قدّمنا من الوجه، و لا بأس به لو لم يكن فيه بعض المخالفة لظاهر الآية.

و في قوله:( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ) إلخ، بعد قوله:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ ) التفات من التكلّم إلى الغيبة و لعلّ الوجه فيه أنّ محصّل السورة امتنانه تعالى على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين بما رزق من الفتح و إنزال السكينة و النصر و سائر ما وعدهم فيها فناسب أن يكون السياق الجاري في السورة سياق الغيبة و يذكر تعالى فيها باسمه و ينسب إليه النصر بما يعبده نبيّه و المؤمنون وحده قبال ما لا يعبده المشركون و إنّما يعبدون آلهة من دونه طمعاً في نصرهم و لا ينصرونهم.

و أمّا سياق التكلّم مع الغير المشعر بالعظمة في الآية الاُولى فلمناسبته ذكر الفتح فيها و يجري الكلام في قوله تعالى الآتي:( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ) الآية.

و قوله:( وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) قيل: أي يتمّها عليك في الدنيا بإظهارك على عدوّك و إعلاء أمرك و تمكين دينك، و في الآخرة برفع درجتك، و قيل: أي يتمّها عليك بفتح خيبر و مكّة و الطائف.

و قوله:( وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) قيل: أي و يثبّتك على صراط يؤدّي بسالكه إلى الجنّة، و قيل: أي و يهديك إلى مستقيم الصراط في تبليغ الأحكام و إجراء الحدود.

و قوله:( وَ يَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) قيل: النصر العزيز هو ما يمتنع به من كلّ جبّار عنيد و عات مريد، و قد فعل بنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك إذ جعل دينه أعزّ الأديان و سلطانه أعظم السلطان، و قيل: المراد بالنصر العزيز ما هو نادر الوجود قليل النظير أو عديمه و نصره تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك كما يظهر بقياس حاله في أوّل بعثته إلى حاله في آخر أيّام دعوته.

٢٧٩

و التدبّر في سياق الآيتين بالبناء على ما تقدّم من معنى قوله:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ ) يعطي أن يكون المراد بقوله:( وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) هو تمهيده تعالى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتمام الكلمة و تصفيته الجوّ لنصره نصراً عزيزاً بعد رفع الموانع بمغفرة ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر.

و بقوله:( وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) هدايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تصفية الجوّ له إلى الطريق الموصل إلى الغاية الّذي سلكه بعد الرجوع من الحديبية من فتح خيبر و بسط سلطة الدين في أقطار الجزيرة حتّى انتهى إلى فتح مكّة و الطائف.

و بقوله:( وَ يَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) نصره لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذاك النصر الظاهر الباهر الّذي قلمّا يوجد - أو لا يوجد - له نظير إذ فتح له مكّة و الطائف و انبسط الإسلام في أرض الجزيرة و انقلع الشرك و ذلّ اليهود و خضع له نصارى الجزيرة و المجوس القاطنون بها، و أكمل تعالى للناس دينهم و أتمّ عليهم نعمته و رضي لهم الإسلام ديناً.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) إلخ، الظاهر أنّ المراد بالسكينة سكون النفس و ثباتها و اطمئنانها إلى ما آمنت به، و لذا علل إنزالها فيها بقوله:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) و قد تقدّم البحث عن السكينة في ذيل قوله تعالى:( أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) البقرة: ٢٤٨ في الجزء الثاني من الكتاب و ذكرنا هناك أنّها تنطبق على روح الإيمان المذكور في قوله تعالى:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢.

و قيل: السكينة هي الرحمة، و قيل: العقل، و قيل: الوقار و العصمة لله و لرسوله، و قيل: الميل إلى ما جاء به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: ملك يسكن قلب المؤمن، و قيل: شي‏ء له رأس كرأس الهرّة، و هذه الأقاويل لا دليل على شي‏ء منها.

و المراد بإنزال السكينة في قلوبهم إيجادها فيها بعد عدمها فكثيراً مّا يعبّر في القرآن عن الخلق و الإيجاد بالإنزال كقوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: ٦، و قوله:( وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) الحديد: ٢٥، و قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١. و إنّما عبّر عن الخلق

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

قوله تعالى: ( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) استثناء من المفعول المحذوف لقوله السابق:( فَذَكِّرْ ) و التقدير فذكّر الناس إلّا من تولّى منهم عن التذكرة و كفر إذ تذكرته لغو لا فائدة فيها، و معلوم أنّ التولّي و الكفر إنّما يكون بعد التذكرة فالمنفيّ بالاستثناء هو التذكرة بعد التذكرة كأنّه قيل: ذكّرهم و أدم التذكرة إلّا لمن ذكّرته فتولّى عنها و كفر، فليس عليك إدامة تذكرته بل أعرض عنه فيعذّبه الله العذاب الأكبر.

فقوله:( فَذَكِّرْ - إلى أن قال -إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) في معنى قوله:( فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى‏ - إلى أن قال -وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) الأعلى: 12 و قد تقدّم بيانه.

و قيل: الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) في قوله:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) و المعنى لست عليهم بمتسلّط إلّا على من تولّى منهم عن التذكرة و أقام على الكفر فسيُسلّطك الله عليه و يأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله.

و قيل: الاستثناء منقطع و المعنى لست عليهم بمتسلّط لكنّ من تولّى و كفر منهم يعذّبه الله العذاب الأكبر، و ما قدّمناه من الوجه أرجح و أقرب.

قوله تعالى: ( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) هو عذاب جهنّم فالآية كما تقدّم محاذية لقوله في سورة الأعلى( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) الإياب الرجوع و( إِلَيْنا ) خبر إنّ و إنّما قدّم للتأكيد و لرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه و الآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة.

٤٠١

( بحث روائي‏)

في المجمع، و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الآية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

أقول: و رواه في ثواب الأعمال، مسنداً و لفظه: كلّ ناصب و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الغاية( عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً ) .

و فيه، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الضريع شي‏ء في النار يشبه الشوك أمرّ من الصبر و أنتن من الجيفة و أشدّ حرّاً من النار سمّاه الله الضريع.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً ) قال: الهزل و الكذب.

و فيه،: في قوله تعالى:( لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) قال: بحافظ و لا كاتب عليهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن جرير و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منيّ دماءهم و أموالهم إلّا بحقّها و حسابهم على الله ثمّ قرأ( فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) .

أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير( عَلَيْهِمْ ) و هو ظاهر.

و فيه، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ ) يريد من لم يتّعظ و لم يصدّقك و جحد ربوبيّتي و كفر نعمتي( فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ ) يريد الغليظ الشديد الدائم( إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ) يريد مصيرهم( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ) يريد جزاءهم.

و في النهج: و سئلعليه‌السلام : كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم و لا يرونه؟ قال: كما يرزقهم و لا يرونه.

٤٠٢

و فيه، قال الصادقعليه‌السلام : كلّ اُمّة يحاسبها إمام زمانها، و يعرف الأئمّة أولياءهم و أعداءهم بسيماهم و هو قوله:( وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ‏ ) الحديث.

أقول: قد تقدّم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الأعراف، و روي هذا المعنى في البصائر، عن الصادقعليه‌السلام مسنداً و في الكافي، عن الباقر و الكاظمعليهما‌السلام و في الفقيه، عن الهاديعليه‌السلام في الزيارة الجامعة.

٤٠٣

( سورة الفجر مكّيّة و هي ثلاثون آية)

( سورة الفجر الآيات 1 - 30)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ ( 1 ) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ( 2 ) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ( 3 ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( 4 ) هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ( 5 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ( 6 ) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ( 7 ) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ( 8 ) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ( 9 ) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ( 10 ) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ( 11 ) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ( 12 ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ( 13 ) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( 14 ) فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ( 15 ) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( 16 ) كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( 17 ) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( 18 ) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا ( 19 ) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ( 20 ) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ( 21 ) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ( 22 ) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ( 23 ) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ( 24 ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( 25 ) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( 26 ) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ( 27 ) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ( 28 ) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ( 29 ) وَادْخُلِي جَنَّتِي ( 30 )

٤٠٤

( بيان‏)

في السورة ذمّ التعلّق بالدنيا المتعقّب للطغيان و الكفران و إيعاد أهله بأشدّ عذاب الله في الدنيا و الآخرة فتبيّن أنّ الإنسان لقصور نظره و سوء فكره يرى أنّ ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله و أنّ ما يتلبّس به من الفقر و العدم من هوانه فيطغى و يفسد في الأرض إذا وجد و يكفر إذا فقد و قد اشتبه عليه الأمر فما يصيبه من القدرة و الثروة و من الفقر و ضيق المعاش امتحان و ابتلاء إلهيّ ليظهر به ما ذا يقدّم من دنياه لاُخراه.

فليس الأمر على ما يتوهّمه الإنسان و يقوله بل الأمر كما سيتذكره إذا وقع الحساب و حضر العذاب أنّ ما أصابه من فقر أو غنى أو قوّة أو ضعف كان امتحاناً إلهيّاً و كان يمكنه أن يقدّم من يومه لغده فلم يفعل و آثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلّا النفس المطمئنّة إلى ربّها المسلمة لأمره الّتي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات و لا يطغيه الوجدان و لا يكفره الفقدان.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْفَجْرِ وَ لَيالٍ عَشْرٍ وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الفجر الصبح و الشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضمّ الشي‏ء إلى مثله و يقال للمشفوع شفع. انتهى. و سري الليل مضيّه و إدباره، و الحجر العقل فقوله:( وَ الْفَجْرِ ) إقسام بالصبح و كذا الحال فيما عطف عليه من ليال و الشفع و الوتر و اللّيل.

و لعلّ ظاهر قوله:( وَ الْفَجْرِ ) أنّ المراد به مطلق الفجر و لا يبعد أيضاً أن يراد به فجر يوم النحر و هو عاشر ذي الحجّة.

و قيل: المراد فجر ذي الحجّة، و قيل: فجر المحرّم أوّل السنة و قيل: فجر يوم الجمعة، و قيل فجر ليلة جمع، و قيل: المراد به صلاة الفجر، و قيل: النهار كلّه

٤٠٥

و قيل: فجر العيون من الصخور و غيرها و هي وجوه رديّة.

و قوله:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) لعلّ المراد بها الليالي العشر من أوّل ذي الحجّة إلى عاشرها و التنكير للتفخيم.

و قيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، و قيل: الليالي العشر من أوّله، و قيل الليالي العشر من أوّل المحرّم، و قيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر.

و قوله( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) يقبل الانطباق على يوم التروية و يوم عرفة و هو الأنسب على تقدير أن يراد بالفجر و ليال عشر فجر ذي الحجّة و العشر الأوّل من لياليها.

و قيل: المراد صلاتاً الشفع و الوتر في آخر الليل، و قيل: مطلق الصلاة فمنها شفع و منها وتر، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة، و قيل: الشفع جميع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) النبأ: 8 و الوتر هو الله تعالى، و على هذه الأقوال روايات ستوافيك في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قيل: المراد الزوج و الفرد من العدد، و في الإقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، و قيل: الشفع و الوتر جميع المخلوقات لأنّ الأشياء إمّا زوج و إمّا فرد، و قيل: الوتر آدم شفع بزوجته، و قيل: الشفع الأيّام و الليالي و الوتر اليوم الّذي لا ليل بعده و هو يوم القيامة، و قيل: الشفع الصفا و المروة و الوتر البيت الحرام، و قيل: الشفع أيّام عاد و الوتر لياليها، و قيل: الشفع أبواب الجنّة و هي ثمانية و الوتر أبواب جهنّم و هي سبعة إلى غير ذلك و هي كثيرة أنّهاها بعضهم إلى ستّة و ثلاثين قولاً و لا يخلو أكثرها من تحكّم.

و قوله:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) أي يمضي فهو كقوله:( وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ) المدّثر: 33 و ظاهره أنّ اللّام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، و قيل: المراد به ليلة المزدلفة و هي ليلة النحر الّتي يسري فيها الحاجّ من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثمّ يغدوا منها إلى منى و هو كما ترى و خاصّة على القول بكون المراد بليال

٤٠٦

عشر هو الليالي العشر الأوائل منها.

و قوله:( هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من القسم، و الاستفهام للتقرير، و المعنى أنّ في ذلك الّذي قدّمناه قسماً كافياً لمن له عقل يفقه به القول و يميّز الحقّ من الباطل، و إذا أقسم الله سبحانه بأمر - و لا يقسم إلّا بما له شرف و منزلة - كان من القول الحقّ المؤكّد الّذي لا ريب في صدقه.

و جواب الأقسام المذكورة محذوف يدلّ عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان و الكفران في الدنيا و الآخرة و ثواب النفوس المطمئنّة، و أنّ إنعامه تعالى على من أنعم عليه و إمساكه عنه فيمن أمسك إنّما هو ابتلاء و امتحان.

و حذف الجواب و الإشارة إليه على طريق التكنية أوقع و آكد في باب الإنذار و التبشير.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ) هم عاد الاُولى قوم هود تكرّرت قصّتهم في القرآن الكريم و اُشير إلى أنّهم كانوا بالأحقاف، و قد قدّمنا ما يتحصّل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود.

قوله تعالى: ( إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ) العماد و جمعه عمد ما يعتمد عليه الأبنية، و ظاهر الآيتين أنّ إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية و عمد ممدّدة، و قد انقطعت أخبار القوم عهدهم و انمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئنّ إليها النفس إلّا ما قصّة القرآن الكريم من إجمال قصّتهم أنّهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالأحقاف و كانوا ذوي بسطة في الخلق اُولي قوّة و بطش شديد، و كان لهم تقدّم و رقي في المدنيّة و الحضارة لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنّات و نخيل و زروع و مقام كريم و قد تقدّمت القصّة.

و قيل: المراد بإرم قوم عاد - و هو في الأصل اسم أبيهم سمّوا باسم أبيهم كما يقال: قريش و يراد به القرشيّون و يطلق إسرائيل و يراد به بنو إسرائيل - و المراد بكونهم ذات عماد كونهم اُولي قوّة و سطوة.

٤٠٧

و المعنى: أ لم تر كيف فعل ربّك بقوم عاد الّذين هم قوم إرم ذوو القوّة و الشدّة الّذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم و القوّة و البطش في البلاد أو في أقطار الأرض و لا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ.

و أبعد منه ما قيل: إنّ المراد بكونهم ذات العماد أنّهم كانوا أهل عمد سيّارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم.

و من الأساطير قصّة جنّة إرم المشهورة المرويّة عن وهب بن منبّه و كعب الأحبار.

قوله تعالى: ( وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ ) الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتاً فهو في معنى قوله:( وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) الشعراء: 149.

قوله تعالى: ( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) هو فرعون موسى، و سمّي ذا الأوتاد - على ما في بعض الروايات - لأنّه كان إذا أراد أن يعذّب رجلاً بسطه على الأرض و وتد يديه و رجليه بأربعة أوتاد في الأرض و ربّما بسطه على خشب و فعل به ذلك، و يؤيّده ما حكاه الله من قوله يهدّد السحرة إذ آمنوا بموسى:( وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) طه: 71 فإنّهم كانوا يوتّدون يدي المصلوب و رجليه على خشبة الصليب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ) صفة للمذكورين من عاد و ثمود و فرعون، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ) صبّ الماء معروف و صبّ سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، و تنكير عذاب للتفخيم.

و المعنى فأنزل ربّك على كلّ من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم و إكثارهم الفساد عذاباً شديداً متتابعاً متوالياً لا يوصف.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) المرصاد المكان الّذي يرصد منه و يرقب و كونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيليّة شبّه فيها حفظه تعالى لأعمال عباده بمن

٤٠٨

يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمرّ به و هو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتّى إذا طغوا و أكثروا الفساد أخذهم بأشدّ العذاب.

و في الآية تعليل ما تقدّم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين و في قوله:( رَبَّكَ ) بإضافة الربّ إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أنّ سنّة العذاب جارية في اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما جرت عليه في الاُمم الماضين.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) متفرّع على ما قبله، فيه تفصيل حال الإنسان إذا اُوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنّه قيل: إنّ الإنسان تحت رقوب إلهيّ يرصده ربّه هل يصلح أو يفسد؟ و يبتليه و يمتحنه فيما آتاه من نعمة أو حرمة هذا هو الأمر في نفسه و أمّا الإنسان فإنّه إذا أنعم الله عليه بنعمة حسب أنّ ذلك إكرام إلهيّ له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى و يكثر الفساد، و إذا أمسك و قدر عليه رزقه حسب أنّه إهانة إلهيّة فيكفر و يجزع.

فقوله:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ ) المراد به النوع بحسب الطبع الأوّليّ فاللّام للجنس دون الاستغراق.

و قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) أي امتحنه و اختبره، و العامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا إلخ و قيل: العامل فيه( فَيَقُولُ ) .

و قوله:( فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) تفسير للابتلاء، و المراد بالإكرام و التنعيم الصوريّان و إن شئت فقل: الإكرام و التنعيم حدوثاً لا بقاء أي إنّه تعالى أكرمه و آتاه النعمة ليشكره و يعبده لكنّه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب.

و قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) أي جعلني على كرامة منه بالنعم الّتي آتانيها و إن شئت فقل: القدرة و الجدة الموهوبتان إكرام و تنعيم حدوثاً و بقاء فلي أن أفعل ما أشاء.

و الجملة أعني قوله:( فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ) حكاية ما يراه الإنسان بحسب الطبع، و قول الإنسان:( رَبِّي أَكْرَمَنِ ) الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه

٤٠٩

- و لا يقول به الوثنيّة و المنكرون للصانع - مبنيّ على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى و إن استنكف عنه لساناً، و أيضاً لرعاية المقابلة مع قوله:( إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ) .

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ ) أي و أمّا إذا ما امتحنه و اختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربّي أذلّني و استخفّ بي.

و يظهر من مجموع الآيتين أوّلاً حيث كرّر الابتلاء و أثبته في صورتي التنعيم و الإمساك عنه أنّ إيتاء النعم و الإمساك عنه جميعاً من الابتلاء و الامتحان الإلهيّ كما قال:( وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً ) الأنبياء: 35 لا كما يراه الإنسان.

و ثانياً أنّ إيتاء النعم بما أنّه فضل و رحمة إكرام إن لم يبدّلها الإنسان نقما على نفسه.

و ثالثاً أنّ الآيتين معاً تفيدان أنّ الإنسان يرى سعادته في الحياة هي التنعّم في الدنيا بنعم الله تعالى و هو الكرامة عنده و الحرمان منه شقاء عنده و الحال أنّ الكرامة هي في التقرّب إليه تعالى بالإيمان و العمل الصالح سواء في ذلك الغنى و الفقر و أي وجدان و فقدان فإنّما ذلك بلاء و امتحان.

و لهم في معنى الآيتين وجوه اُخر تركنا التعرّض لها لقلّة الجدوى.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) ردع لقولهم: إنّ الكرامة هي في الغنى و التنعّم، و في الفقر و الفقدان هوان و مذلّة، و المعنى ليس كما تقولون و إنّما إيتاؤه تعالى النعمة و إمساكه عنه كلّ ذلك ابتلاء و امتحان يختبر به حال الإنسان من حيث عبوديّته.

و في قوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) إلخ إضراب يؤكّد الردع بذكر بعض التنعّم الّذي لا يجامع الكرامة البتّة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه و منعه منه و عدم التحريض على إطعام المسكين حبّاً للمال فالفطرة الإنسانيّة لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه.

و في الإضراب مضافاً إلى أصل الردع تقريع و لتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.

٤١٠

فقوله:( بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ) عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الأولاد من الإرث - و تركه صفر الكفّ بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيّده الآية التالية( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ ) إلخ.

و قوله:( وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) أصله و لا تتحاضّون، و هو تحريض بعضهم بعضاً على التصدّق على المساكين المعدمين، و منشأه حبّ المال كما في الآية الآتية( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ) اللمّ أكل الإنسان نصيب نفسه و غيره و أكله ما يجده من دون أن يميّز الطيّب من الخبيث، و الآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ) الجمّ الكثير العظيم، و الآية تفسّر عدم تحاضّهم على طعام المسكين كما تقدّم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) الدكّ هو الدقّ الشديد، و المراد بالظرف حضور يوم القيامة.

ردع ثان عمّا يقوله الإنسان في حالي الغنى و الفقر، و قوله:( إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ ) إلخ في مقام التعليل للردع، و محصّل المعنى ليس كما يقوله الإنسان فإنّه سيتذكّر إذا قامت القيامة إنّ الحياة الدنيا و ما فيها من الغنى و الفقر و أضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء و امتحاناً من الله تعالى يميّز به السعيد من الشقيّ و يهيّئ الإنسان فيها ما يعيش به في الآخرة و قد التبس عليه الأمر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها و لم يقدّم لحياته الآخرة شيئاً فيتمنّى عند ذلك و يقول: يا ليتني قدّمت لحياتي و لن يصرف التمنّي عنه شيئاً من العذاب.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المتشابه الّذي يحكمه قوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) الشورى: 11 و ما ورد في آيات القيامة من خواصّ اليوم كتقطّع الأسباب و ارتفاع الحجب عنهم و ظهور أنّ الله هو الحقّ المبين.

٤١١

و إلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أنّ المراد بمجيئه تعالى مجي‏ء أمره قال تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار: 19، و يؤيّد هذا الوجه بعض التأييد قوله تعالى( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ ) البقرة: 210 إذا انضمّ إلى قوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) النحل: 33 و عليه فهناك مضاف محذوف و التقدير جاء أمر ربّك أو نسبة المجي‏ء إليه تعالى من المجاز العقليّ.

و الكلام في نسبة المجي‏ء إلى الملائكة و كونهم صفّا صفّا كما مرّ.

قوله تعالى: ( وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجي‏ء بجهنّم إبرازها لهم كما في قوله تعالى:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ ) النازعات: 36 و قوله:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ ) الشعراء: 91، و قوله:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ) أي يتذكّر أجلى التذكّر أنّ ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شرّ كان من ابتلاء الله و امتحانه و أنّه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق.

و قوله:( وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي و من أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإنّ الذكرى إنّما تنفع فيما أمكنه أن يتدارك ما فرّط فيه بتوبة و عمل صالح و اليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع و العمل.

قوله تعالى: ( يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) أي لحياتي هذه و هي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقيّة و هي الحياة الآخرة على ما نبّه تعالى عليه بقوله:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: 64.

و المراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة و ما في الآية تمنّ يتمنّاه الإنسان عند ما يتذكّر يوم القيامة و يشاهد أنّه لا ينفعه.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ) ضميراً عذابه

٤١٢

و وثاقه لله تعالى و المعنى فيومئذ لا يعذّب عذاب الله أحد من الخلق و لا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي إنّ عذابه و وثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق و وثاقهم، تشديد في الوعيد.

و قرئ( لا يُعَذِّبُ ) بفتح الذال و( وَ لا يُوثِقُ ) بفتح الثاء بالبناء للمفعول و ضميراً عذابه و وثاقه على هذا للإنسان و المعنى لا يعذّب أحد يومئذ مثل عذاب الإنسان و لا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه.

قوله تعالى: ( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ) الّذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الأوصاف و عيّن لها من حسن المنقلب و بين الإنسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلّق بالدنيا و الطغيان و الفساد و الكفران، و ما اُوعد من سوء المصير هو أنّ النفس المطمئنّة هي الّتي تسكن إلى ربّها و ترضى بما رضي به فترى نفسها عبداً لا يملك لنفسه شيئاً من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ و يرى الدنيا دار مجاز و ما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أيّ نفع و ضرّ ابتلاء و امتحاناً إلهيّاً فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان و إكثار الفساد و العلوّ و الاستكبار، و لا يوقعه الفقر و الفقدان في الكفر و ترك الشكر بل هو في مستقرّ من العبوديّة لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط.

قوله تعالى: ( ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ) خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنّة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنّة الخلد و ليس خطاباً واقعاً بعد الحساب كما ذكره بعضهم.

و توصيفها بالراضية لأنّ اطمئنانها إلى ربّها يستلزم رضاها بما قدّر و قضى تكويناً أو حكم به تشريعاً فلا تسخطها سانحة و لا تزيغها معصية، و إذا رضي العبد من ربّه رضي الربّ منه إذ لا يسخطه تعالى إلّا خروج العبد من زيّ العبوديّة فإذا لزم طريق العبوديّة استوجب ذلك رضى ربّه و لذا عقّب قوله( راضِيَةً ) بقوله:( مَرْضِيَّةً ) .

قوله تعالى: ( فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تفريع على قوله:( ارْجِعِي

٤١٣

إِلى‏ رَبِّكِ ) و فيه دلالة على أنّ صاحب النفس المطمئنّة في زمرة عباد الله حائز مقام العبوديّة.

و ذلك أنّه لمّا اطمأنّ إلى ربّه انقطع عن دعوى الاستقلال و رضي بما هو الحقّ من ربّه فرأى ذاته و صفاته و أفعاله ملكاً طلقاً لربّه فلم يرد فيما قدّر و قضى و لا فيما أمر و نهي إلّا ما أراده ربّه، و هذا ظهور العبوديّة التامّة في العبد ففي قوله:( فَادْخُلِي فِي عِبادِي ) تقرير لمقام عبوديّتها.

و في قوله:( وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) تعيين لمستقرّها، و في إضافة الجنّة إلى ضمير التكلّم تشريف خاصّ، و لا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى و تقدّس إلّا في هذه الآية.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) ، و قيل: الشفع الخلق لأنّه قال:( وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ) و الوتر الله تعالى: عن عطيّة العوفيّ و أبي صالح و ابن عبّاس و مجاهد و هي رواية أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع و الوتر الصلاة منها شفع و منها وتر: و هي رواية عن ابن حصين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: الشفع يوم النحر و الوتر يوم عرفة: عن ابن عبّاس و عكرمة و الضحّاك، و هي رواية جابر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الوجه فيه أنّ يوم النحر يشفّع بيوم نفر بعده و يتفرّد يوم عرفة بالموقف، و قيل: الشفع يوم التروية و الوتر يوم عرفة: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مرويّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طرق أهل السنّة و يمكن الجمع بينها بأنّ المراد مطلق الشفع و الوتر و الروايات من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق.

و في تفسير القمّيّ:( وَ لَيالٍ عَشْرٍ ) قال: عشر ذي الحجّة( وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ ) قال: الشفع ركعتان و الوتر ركعة، و في حديث: الشفع الحسن و الحسين و الوتر أمير

٤١٤

المؤمنينعليهم‌السلام ( وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ ) قال: هي ليلة جمع.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( لِذِي حِجْرٍ ) يقول: لذي عقل.

و في العلل، بإسناده إلى أبان الأحمر قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ ) لأيّ شي‏ء سمّي ذا الأوتاد؟ فقال: لأنّه كان إذا عذّب رجلاً بسطه على الأرض على وجهه و مدّ يديه و رجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الأرض. و ربّما بسطه على خشب منبسط فوتّد رجليه و يديه بأربعة أوتاد ثمّ تركه على حاله حتّى يموت فسمّاه الله عزّوجلّ فرعون ذا الأوتاد.

و في المجمع: في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) وروي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال: إنّ معناه أنّ ربّك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم.

أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيليّة.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد.

و عن الغوالي، عن الصادقعليه‌السلام في حديث في تفسير قوله تعالى:( وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) إنّما ظنّ بمعنى استيقن أنّ الله تعالى لن يضيّق عليه رزقه أ لا تسمع قول الله تعالى:( وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) أي ضيّق عليه.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) قال: هي الزلزلة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل تدرون ما تفسير هذه الآية( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ - إلى قوله -وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ) قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنّم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لو لا أنّ الله حبسها لأحرقت السماوات و الأرض.

أقول: و هو مرويّ أيضاً عن أبي سعيد و ابن مسعود و من طرق الشيعة في أمالي

٤١٥

الشيخ، بإسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد بإسناده عن عليّ بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضاعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ) فقال: إنّ الله سبحانه لا يوصف بالمجي‏ء و الذهاب تعالى عن الانتقال إنّما يعني بذلك و جاء أمر ربّك.

و في الكافي، بإسناده عن سدير الصيرفيّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا و الله إنّه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا وليّ الله لا تجزع فوالّذي بعث محمّداً لأنّي أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر.

قال: و يمثّل له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة من ذرّيّتهمعليهم‌السلام فيقال له: هذا رسول الله و أميرالمؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّةعليهم‌السلام رفقاؤك.

قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: يا أيّتها النفس المطمئنّة إلى محمّد و أهل بيته ارجعي إلى ربّك راضية بالولاية مرضيّة بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمّداً و أهل بيته و ادخلي جنّتي فما من شي‏ء أحبّ إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي.

أقول: و روى هذا المعنى القمّيّ في تفسيره و البرقيّ في المحاسن.

٤١٦

( سورة البلد مكّيّة و هي عشرون آية)

( سورة البلد الآيات 1 - 20)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 1 ) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ( 2 ) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ( 3 ) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( 4 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( 5 ) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ( 6 ) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( 7 ) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ( 8 ) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ( 9 ) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( 10 ) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( 11 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( 12 ) فَكُّ رَقَبَةٍ ( 13 ) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ( 14 ) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ( 15 ) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ( 16 ) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( 17 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ( 19 ) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ( 20 )

( بيان‏)

تذكر السورة أنّ خلقة الإنسان مبنيّة على التعب و المشقّة فلا تجد شأناً من شؤن الحياة إلّا مقروناً بمرارة الكدّ و التعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب و المشقّة و لا سعادة له خالصة من الشقاء و المشأمة إلّا في الدار الآخرة عند الله.

فليتحمّل ثقل التكاليف الإلهيّة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و ليجدّ في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم و الفقر و المرض و أضرابها حتّى يكون

٤١٧

من أصحاب الميمنة و إلّا فآخرته كاُولاه و هو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.

و سياق آيات السورة، يشبه السياق المكّيّ فيؤيّد به كون السورة مكّيّة و قد ادّعى بعضهم عليه الإجماع، و قيل: السورة مدنيّة و السياق لا يساعد عليه، و قيل: مدنيّة إلّا أربع آيات من أوّلها و سيأتي في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) ذكروا أنّ المراد بهذا البلد مكّة و تؤيّده مكّيّة سياق السورة و قوله:( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) خاصّة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيمعليه‌السلام على ما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) حال من هذا البلد، و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( بِهذَا الْبَلَدِ ) للدلالة على عظم شأنه و الاعتناء بأمره و هو البلد الحرام، و الحلّ مصدر كالحلول بمعنى الإقامة و الاستقرار في مكان و المصدر بمعنى الفاعل.

و المعنى اُقسم بهذا البلد و الحال أنك حالٌ به مقيم فيه و في ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها و كونها مولده و مقامه.

و قيل: الجملة معترضة بين القسم و المقسم به و المراد بالحلّ المستحلّ الّذي لا حرمة له قال في الكشاف: و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و من المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرّمون أن يقتلوا بها صيداً و يعضدوا(1) بها شجرة و يستحلّون إخراجك و قتلك، و فيه تثبيت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعث على‏ احتمال ما كان يكابد من أهل مكّة و تعجيب من حالهم في عداوته انتهى.

ثمّ قال: أو سلّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقسم ببلده أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد و اعترض بأن وعده فتح مكّة تتميماً للتسلية و التنفيس عنه فقال:( وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ ) يعني و أنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر إلى آخر ما قال، و محصّله تفسير الحلّ بمعنى المحلّ ضدّ المحرم، و المعنى و سنحلّ لك يوم فتح مكّة حيناً فنقاتل و تقتل فيه من شئت.

____________________

(1) عضد الشجرة: قطعها و نثر ورقها للإبل. و شرحبيل راوي الحديث.

٤١٨

قوله تعالى: ( وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ ) لزوم نوع من التناسب و الارتباط بين القسم و المقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد و ما ولد من بينه و بين البلد المقسم به نسبة ظاهرة و ينطبق على إبراهيم و ولده إسماعيلعليهما‌السلام و هما السببان الأصليّان لبناء بلدة مكّة و البانيان للبيت الحرام قال تعالى:( وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ ) البقرة: 127 و إبراهيمعليه‌السلام هو الّذي سأل الله أن يجعل مكّة بلداً آمنا قال تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) إبراهيم: 35. و تنكير( والِدٍ ) للتعظيم و التفخيم، و التعبير بقوله( وَ ما وَلَدَ ) دون أن يقال: و من ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحاً كما في قوله:( وَ اللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ) آل عمران: 36.

و المعنى و اُقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم و ما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره و هو إسماعيل ابنه و هما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الإقسام بمكّة المشرّفة و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو حلّ فيها و بإبراهيم و إسماعيل اللّذين بنياها.

و قيل: المراد بالوالد إبراهيم و بما ولد جميع أولاده من العرب.

و فيه أنّ من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إبراهيمعليه‌السلام و بين أمثال أبي لهب و أبي جهل و غيرهم من أئمّة الكفر فيقسم بهم جميعاً في سياق، و قد تبرّأ إبراهيمعليه‌السلام ممّن لم يتّبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله:( وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إبراهيم: 36.

فعلى من يفسّر ما ولد بأولاد إبراهيم أن يخصّهم بالمسلمين من ذرّيّته كما في دعاء إبراهيم و إسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله:( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا ) البقرة: 128.

و قيل: المراد بوالد و ما ولد، آدمعليه‌السلام و ذرّيّته جميعاً بتقريب أنّ المقسم عليه بهذه الأقسام خلق الإنسان في كبد و قد سنّ الله في خلق هذا النوع و إبقاء وجوده سنّة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنّة و هو الوالد و ما ولد على أنّ الإنسان في كدّ و تعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت.

٤١٩

و هذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكّة و بين والد و كلّ مولود في الجمع بينهما في الأقسام.

و قيل: المراد بهما آدم و الصالحون من ذرّيّته، و كأنّ الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة و المفسدين من الكفّار و الفسّاق.

و قيل: المراد بهما كلّ والد و كلّ مولود و قيل: من يلد و من لا يلد منهم بأخذ( ما ) في( ما وَلَدَ ) نافية لا موصولة.

و قيل: المراد بوالد هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بما ولد اُمّته لأنّه بمنزلة الأب لاُمّته و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ ) الكبد الكدّ و التعب، و الجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الإنسان و إحاطة الكدّ و التعب به في جميع شؤن حياته ممّا لا يخفى على ذي لبّ فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلّا خالصة في طيبها محضة في هنائها و لا ينال شيئاً منها إلّا مشوبة بما ينغّص العيش مقرونة بمقاساة و مكابدة مضافاً إلى ما يصيبه من نوائب الدهر و يفاجئه من طوارق الحدثان.

قوله تعالى: ( أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) بمنزلة النتيجة لحجّة الآية السابقة تقريرها أنّ الإنسان لمّا كانت خلقته مبنيّة على كبد مظروفة له لا ينال قطّ شيئاً ممّا يريد إلّا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدّر له من الأمر و الّذي يغلبه في إرادته و يقهره على التلبّس بما قدّر له و هو الله سبحانه يقدر عليه من كلّ جهة فله أن يتصرّف فيه بما شاء و يأخذه إذا أراد.

فليس للإنسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله و يستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالإنفاق في سبيله فيستكثره و يمتنّ به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء و سمعة عملاً لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالاً لبدا.

قوله تعالى: ( يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً ) اللبد الكثير، سياق الآية و ما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الإسلام أو مال إليه

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429