الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120131 / تحميل: 6173
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

و الإيجاد بالإنزال للإشارة إلى علوّ مبدئه.

و قيل: المراد بالإنزال الإسكان و الإقرار من قولهم: نزل في مكان كذا أي حطّ رحله فيه و أنزلته فيه أي حططت رحله فيه هذا.

و هو معنى غير معهود في كلامه تعالى مع كثرة وروده فيه، و لعلّ الباعث لهم على اختيار هذا المعنى تعديته في الآية بلفظة( في ) إذ قال:( أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) لكنّه عناية كلاميّة لوحظ فيها تعلّق السكينة بالقلوب تعلّق الاستقرار فيها كما لوحظ تعلّقها تعلّق الوقوع عليها من علوّ في قوله الآتي:( فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) الآية و قوله:( فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) الآية.

و المراد بزيادة الإيمان اشتداده فإنّ الإيمان بشي‏ء هو العلم به مع الالتزام بحيث يترتّب عليه آثاره العمليّة، و من المعلوم أنّ كلّاً من العلم و الالتزام المذكورين ممّا يشتدّ و يضعف فالإيمان الّذي هو العلم المتلبّس بالالتزام يشتدّ و يضعف..

فمعنى الآية: الله الّذي أوجد الثبات و الاطمئنان الّذي هو لازم مرتبة من مراتب الروح في قلوب المؤمنين ليشتدّ به الإيمان الّذي كان لهم قبل نزول السكينة فيصير أكمل ممّا كان قبله.

( كلام في الإيمان و ازدياده‏)

الإيمان بالشي‏ء ليس مجرّد العلم الحاصل به كما يستفاد من أمثال قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) سورة محمّد: ٢٥، و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) سورة محمّد: ٣٢، و قوله:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: ١٤، و قوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) الجاثية: ٢٣، فالآيات - كما ترى - تثبت الارتداد و الكفر و الجحود و الضلال مع العلم.

فمجرّد العلم بالشي‏ء و الجزم بكونه حقّاً لا يكفي في حصول الإيمان و اتّصاف

٢٨١

من حصل له به، بل لا بدّ من الالتزام بمقتضاه و عقد القلب على مؤدّاه بحيث يترتّب عليه آثاره العمليّة و لو في الجملة، فالّذي حصل له العلم بأنّ الله تعالى إله لا إله غيره فالتزم بمقتضاه و هو عبوديّته و عبادته وحده كان مؤمناً و لو علم به و لم يلتزم فلم يأت بشي‏ء من الأعمال المظهرة للعبوديّة كان عالماً و ليس بمؤمن.

و من هنا يظهر بطلان ما قيل: إنّ الإيمان هو مجرّد العلم و التصديق و ذلك لما مرّ أنّ العلم ربّما يجامع الكفر.

و من هنا يظهر أيضاً بطلان ما قيل: إنّ الإيمان هو العمل، و ذلك لأنّ العمل يجامع النفاق فالمنافق له عمل و ربّما كان ممّن ظهر له الحقّ ظهوراً علميّاً و لا إيمان له على أيّ حال.

و إذ كان الإيمان هو العلم بالشي‏ء مع الالتزام به بحيث يترتّب عليه آثاره العمليّة، و كلّ من العلم و الالتزام ممّا يزداد و ينقص و يشتدّ و يضعف كان الإيمان المؤلّف منهما قابلاً للزيادة و النقيصة و الشدّة و الضعف فاختلاف المراتب و تفاوت الدرجات من الضروريّات الّتي لا يشكّ فيها قطّ.

هذا ما ذهب إليه الأكثر و هو الحقّ و يدلّ عليه من النقل قوله تعالى:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) و غيره من الآيات، و ما ورد من أحاديث أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام الدالّة على أنّ الإيمان ذو مراتب.

و ذهب جمع منهم أبوحنيفة و إمام الحرمين و غيرهما إلى أنّ الإيمان لا يزيد و لا ينقص، و احتجّوا عليه بأنّ الإيمان اسم للتصديق البالغ حدّ الجزم و القطع و هو ممّا لا يتصوّر فيه الزيادة و النقصان فالمصدّق إذا ضمّ إلى تصديقه الطاعات أو ضمّ إليه المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغيّر أصلاً.

و أوّلوا ما دلّ من الآيات على قبوله الزيادة و النقصان بأنّ الإيمان عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدّد الأمثال فهو بحسب انطباقه على الزمان بأمثاله المتجدّدة يزيد و ينقص كوقوعه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلاً على التوالي من غير فترة متخلّلة و في غيره بفترات

٢٨٢

قليلة أو كثيرة فالمراد بزيادة الإيمان توالي أجزاء الإيمان من غير فترة أصلاً أو بفترات قليلة.

و أيضاً للإيمان كثرة بكثرة ما يؤمن به، و شرائع الدين لمّا كانت تنزّل تدريجاً و المؤمنون يؤمنون بما ينزّل منها و كان يزيد عدد الأحكام حيناً بعد حين كان إيمانهم أيضاً يزيد تدريجاً، و بالجملة المراد بزيادة الإيمان كثرته عدداً.

و هو بيّن الضعف، أمّا الحجّة ففيها أوّلاً: أنّ قولهم: الإيمان اسم للتصديق الجازم ممنوع بل هو اسم للتصديق الجازم الّذي معه الالتزام كما تقدّم بيانه اللّهمّ إلّا أن يكون مرادهم بالتصديق العلم مع الالتزام.

و ثانياً: أنّ قولهم: إنّ هذا التصديق لا يختلف بالزيادة و النقصان دعوى بلا دليل بل مصادرة على المطلوب و بناؤه على كون الإيمان عرضاً و بقاء الأعراض على نحو تجدّد الأمثال لا ينفعهم شيئاً فإنّ من الإيمان ما لا تحرّكه العواصف و منه ما يزول بأدنى سبب يعترض و أوهن شبهة تطرأ، و هذا ممّا لا يعلّل بتجدّد الأمثال و قلّة الفترات و كثرتها بل لا بدّ من استناده إلى قوّة الإيمان و ضعفه سواء قلنا بتجدّد الأمثال أم لا.

مضافاً إلى بطلان تجدّد الأمثال على ما بين في محلّه.

و قولهم: إنّ المصدّق إذا ضمّ إليه الطاعات أو ضمّ إليه المعاصي لم يتغيّر حاله أصلاً ممنوع فقوّة الإيمان بمزاولة الطاعات و ضعفها بارتكاب المعاصي ممّا لا ينبغي الارتياب فيه، و قوّة الأثر و ضعفه كاشفة عن قوّة مبدإ الأثر و ضعفه، قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فاطر: ١٠، و قال:( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) الروم: ١٠.

و أمّا ما ذكروه من التأويل فأوّل التأويلين يوجب كون من لم يستكمل الإيمان و هو الّذي في قلبه فترات خالية من أجزاء الإيمان على ما ذكروه مؤمناً و كافراً حقيقة و هذا ممّا لا يساعده و لا يشعر به شي‏ء من كلامه تعالى.

٢٨٣

و أمّا قوله تعالى:( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) يوسف: ١٠٦، فهو إلى الدلالة على كون الإيمان ممّا يزيد و ينقص أقرب منه إلى الدلالة على نفيه فإنّ مدلوله أنّهم مؤمنون في حال أنّهم مشركون فإيمانهم إيمان بالنسبة إلى الشرك المحض و شرك بالنسبة إلى الإيمان المحض، و هذا معنى قبول الإيمان للزيادة و النقصان.

و ثاني التأويلين يفيد أنّ الزيادة في الإيمان و كثرته إنّما هي بكثرة ما تعلّق به و هو الأحكام و الشرائع المنزلة من عندالله فهي صفة للإيمان بحال متعلّقه و السبب في اتّصافه بها هو متعلّقه، و لو كان هذه الزيادة هي المرادة من قوله:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) كان الأنسب أن تجعل زيادة الإيمان في الآية غاية لتشريع الأحكام الكثيرة و إنزالها لا لإنزال السكينة في قلوب المؤمنين هذا.

و حمل بعضهم زيادة الإيمان في الآية على زيادة أثره و هو النور المشرق منه على القلب.

و فيه أنّ زيادة الأثر و قوّته فرع زيادة المؤثّر و قوّته فلا معنى لاختصاص أحد الأمرين المتساويين من جميع الجهات بأثر يزيد على أثر الآخر.

و ذكر بعضهم أنّ الإيمان الّذي هو مدخول مع في قوله:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) الإيمان الفطريّ و الإيمان المذكور قبله هو الإيمان الاستدلاليّ، و المعنى: ليزدادوا إيماناً استدلاليّاً على إيمانهم الفطريّ.

و فيه أنّه دعوى من غير دليل يدلّ عليه. على أنّ الإيمان الفطريّ أيضاً استدلاليّ فمتعلّق العلم و الإيمان على أيّ حال أمر نظريّ لا بديهيّ.

و قال بعضهم كالإمام الرازيّ: إنّ النزاع في قبول الإيمان للزيادة و النقص و عدم قبوله نزاع لفظيّ فمراد النافين عدم قبول أصل الإيمان و هو التصديق ذلك و هو كذلك لعدم قبوله الزيادة و النقصان، و مراد المثبتين قبول ما به كمال الإيمان و هو الأعمال للزيادة و النقصان و هو كذلك بلا شكّ.

٢٨٤

و فيه أوّلاً: أنّ فيه خلطاً بين التصديق و الإيمان فالإيمان تصديق مع الالتزام و ليس مجرّد التصديق فقط كما تقدّم بيانه.

و ثانياً: أنّ نسبة نفي الزيادة في أصل الإيمان إلى المثبتين غير صحيحة فهم إنّما يثبتون الزيادة في أصل الإيمان، و يرون أنّ كلّا من العلم و الالتزام المؤلّف منهما الإيمان يقبل القوّة و الضعف.

و ثالثاً: أنّ إدخال الأعمال في محلّ النزاع غير صحيح لأنّ النزاع في شي‏ء غير النزاع في أثره الّذي به كماله و لا نزاع لأحد في أنّ الأعمال و الطاعات تقبل العدّ و تقلّ و تكثر بحسب تكرّر الواحد.

و قوله:( وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الجند هو الجمع الغليظ من الناس إذا جمعهم غرض يعملون لأجله و لذا اُطلق على العسكر المجتمعين على إجراء ما يأمر به أميرهم، و السياق يشهد أنّ المراد بجنود السماوات و الأرض الأسباب الموجودة في العالم ممّا يرى و لا يرى من الخلق فهي وسائط متخلّلة بينه تعالى و بين ما يريده من شي‏ء تطيعه و لا تعصاه.

و إيراد الجملة أعني قوله:( وَ لِلَّهِ جُنُودُ ) إلخ، بعد قوله:( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) إلخ، للدلالة على أنّ له جميع الأسباب و العلل الّتي في الوجود فله أن يبلغ إلى ما يشاء بما يشاء و لا يغلبه شي‏ء في ذلك، و قد نسبت إلى زيادة إيمان المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم.

و قوله:( وَ كانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) أي منيعاً جانبه لا يغلبه شي‏ء متقناً في فعله لا يفعل إلّا ما تقتضيه حكمته و الجملة بيان تعليليّ لقوله:( وَ لِلَّهِ جُنُودُ ) إلخ، كما أنّه بيان تعليليّ لقوله:( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) إلخ، كأنّه قيل: أنزل السكينة لكذا و له ذلك لأنّ له جميع الجنود و الأسباب لأنّه العزيز على الإطلاق و الحكيم على الإطلاق.

٢٨٥

قوله تعالى: ( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) إلى آخر الآية، تعليل آخر لقوله:( أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) على المعنى كما أنّ قوله:( لِيَزْدادُوا إِيماناً ) تعليل له بحسب اللفظ كأنّه قيل: خصّ المؤمنين بإنزال السكينة و حرّم على غيرهم ذلك ليزداد إيمان هؤلاء مع إيمانهم و حقيقة ذلك أن يدخل هؤلاء الجنّة و يعذّب اُولئك فيكون قوله:( ليدخل ) بدلاً أو عطف بيان من قوله:( لِيَزْدادُوا ) إلخ.

و في متعلّق لام( لِيُدْخِلَ ) إلخ، أقوال اُخر كالقول بتعلّقها بقوله:( فَتَحْنا ) أو قوله:( لِيَزْدادُوا ) أو بجميع ما تقدّم إلى غير ذلك ممّا لا جدوى لإيراده.

و ضمّ المؤمنات إلى المؤمنين في الآية لدفع توهّم اختصاص الجنّة و تكفير السيّئات بالذكور لوقوع الآية في سياق الكلام في الجهاد، و الجهاد و الفتح واقعان على أيديهم فصرّح باسم المؤمنات لدفع التوهّم كما قيل.

و ضمير( خالِدِينَ ) و( يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) للمؤمنين و المؤمنات جميعاً على التغليب.

و قوله:( وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً ) بيان لكون ذلك سعادة حقيقيّة لا ريب فيها لكونه عندالله كذلك و هو يقول الحقّ.

قوله تعالى: ( وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ ) إلى آخر الآية معطوف على قوله:( لِيُدْخِلَ ) بالمعنى الّذي تقدّم، و تقديم المنافقين و المنافقات على المشركين و المشركات في الآية لكونهم أضرّ على المسلمين من أهل الشرك و لأنّ عذاب أهل النفاق أشدّ قال تعالى:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) .

و قوله:( الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ ) السوء بالفتح فالسكون مصدر بمعنى القبح و السوء بالضمّ اسم مصدر، و ظنّ السوء هو ظنّهم أنّ الله لا ينصر رسوله و قيل: المراد بظنّ السوء ما يعمّ ذلك و سائر ظنونهم السيّئة من الشرك و الكفر.

و قوله:( عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ) دعاء عليهم أو قضاء عليهم أي ليستضرّوا بدائرة السوء الّتي تدور لتصيب من تصيب من الهلاك و العذاب.

٢٨٦

و قوله:( وَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ) معطوف على قوله:( عَلَيْهِمْ دائِرَةُ ) إلخ، و قوله:( وَ ساءَتْ مَصِيراً ) بيان مساءة مصيرهم، كما أنّ قوله:( وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً ) بيان لحسن مصير أهل الإيمان.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) تقدّم معناه، و الظاهر أنّه بيان تعليليّ للآيتين أعني قوله:( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ - إلى قوله -وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ) على حذو ما كان مثله فيما تقدّم بياناً تعليليّاً لقوله:( أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) إلخ.

و قيل: إنّ مضمونه متعلّق بالآية الأخيرة فهو تهديد لهم أنّهم في قبضة قدرته فينتقم منهم، و الوجه الأوّل أظهر.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) : حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان سبب نزول هذه الآية و هذا الفتح العظيم أنّ الله جلّ و عزّ أمر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم- أن يدخل المسجد الحرام و يطوف و يحلّق مع المحلّقين فأخبر أصحابه و أمرهم بالخروج فخرجوا.

فلمّا نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة و ساقوا البدن و ساق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستّة و ستّين بدنة و أحرموا من ذي الحليفة ملبيّن بالعمرة و قد ساق من ساق منهم الهدي معرّات مجلّلات.

فلمّا بلغ قريشاً بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا يستقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان يعارضه على الجبال فلمّا كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذّن بلال فصلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالناس فقال خالد بن الوليد: لو كنّا حملنا عليهم و هم في الصلاة لأصبناهم لأنّهم لا يقطعون صلاتهم و لكن تجي‏ء الآن لهم صلاة اُخرى أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم، فنزل جبرئيل

٢٨٧

على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصلاة الخوف في قوله عزّوجلّ:( وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) الآية.

قال: فلمّا كان في اليوم الثاني نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديبيّة، و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستنفر الأعراب في طريقه فلم يتّبعه أحد و يقولون: أ يطمع محمّد و أصحابه أن يدخلوا الحرم و قد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم، إنّه لا يرجع محمّد و أصحابه إلى المدينة أبداً. الحديث.

و في المجمع: قال ابن عبّاس: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج يريد مكّة فلمّا بلغ الحديبيّة وقفت ناقته فزجرها فلم تنزجر و بركت الناقة فقال أصحابه: خلأت الناقة، فقال: ما هذا لها عادة و لكن حبسها حابس الفيل.

و دعا عمر بن الخطّاب ليرسله إلى أهل مكّة ليأذنوا له بأن يدخل مكّة و يحلّ من عمرته و ينحر هديه فقال: يا رسول الله ما لي بها حميم و إنّي أخاف قريشاً لشدّة عداوتي إيّاها و لكن أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي عثمان بن عفّان فقال: صدقت.

فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عثمان فأرسله إلى أبي سفيان و أشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب و إنّما جاء زائراً لهذا البيت معظّماً لحرمته، فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمين أنّ عثمان قد قتل. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا نبرح حتّى نناجز القوم، و دعا الناس إلى البيعة فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشجرة و استند إليها و بايع الناس على أن يقاتلوا المشركين و لا يفرّوا. قال عبدالله بن مغفّل: كنت قائماً على رأس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك اليوم و بيدي غصن من السمرة أذبّ عنه و هو يبايع الناس فلم يبايعهم على الموت و إنّما بايعهم على أن لا يفرّوا.

و روى الزهري و عروة بن الزبير و المسوّر بن مخرمة قالوا: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة في بضع عشرة مائة من أصحابه حتّى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهدي و أشعره و أحرم بالعمرة و بعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش.

٢٨٨

و سار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعيّ فقال: إنّي تركت كعب بن لؤيّ و عامر بن لؤيّ قد جمعوا لك الأحابيش و جمعوا جموعاً و هم قاتلوك أو مقاتلوك و صادّوك عن البيت فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : روحوا فراحوا حتّى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين.

فسار حتّى إذا كان بالثنيّة بركت راحلته فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما خلأت القصواء و لكن حبسها حابس الفيل. ثمّ قال: و الله لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها ثمّ زجرها فوثبت به.

قال: فعدل حتّى نزل بأقصى الحديبيّة على ثمد قليل الماء إنّما يتبرّضه الناس تبرّضاً فشكوا إليه العطش فانتزع سهماً من كنانته ثمّ أمرهم أن يجعلوه في الماء فوالله ما زال يجيش لهم بالريّ حتّى صدروا عنه.

فبينا هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعيّ في نفر من خزاعة و كانوا عيبة نصح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل تهامة فقال: إنّي تركت كعب بن لؤيّ و عامر بن لؤيّ و معهم العوذ المطافيل و هم مقاتلوك و صادّوك عن البيت فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّا لم نجئ لقتال أحد- و إنّا جئنا معتمرين، و إنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب و أضرّت بهم فإن شاؤا ماددتهم مدّة و يخلّوا بيني و بين الناس، و إن شاؤا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا و إلّا فقد جمّوا و إن أبوا فوالّذي نفسي بيده لاُقاتلنّهم على أمري هذا حتّى تنفرد سالفتي أو لينفذ الله تعالى أمره، فقال بديل: ساُبلّغهم ما تقول.

فانطلق حتّى أتى قريشاً فقال: إنّا قد جئناكم من عند هذا الرجل و إنّه يقول: كذا و كذا فقام عروة بن مسعود الثقفيّ فقال: إنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها و دعوني آته فقالوا: ائته فأتاه فجعل يكلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحواً من قوله لبديل.

فقال عروة عند ذلك: أي محمّد أ رأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ و إن تكن الاُخرى فوالله إنّي لأرى وجوهاً و أرى أشاباً

٢٨٩

من الناس خلقاء أن يفرّوا و يدعوك فقال له أبوبكر: امصص بظر اللّات أ نحن نفرّ عنه و ندعه؟ فقال: من ذا؟ قال: أبوبكر. قال: أمّا و الّذي نفسي بيده لو لا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.

قال: و جعل يكلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كلّما كلّمه أخذ بلحيته و المغيرة بن شعبة قائم على رأس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و معه السيف و عليه المغفر فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب يده بنعل السيف و قال: أخّر يدك عن لحية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن لا ترجع إليك، فقال: من هذا؟ قال المغيرة بن شعبة. قال: أي غُدَر أ و لست أسعى في غدرتك.

قال: و كان المغيرة صحب قوماً في الجاهليّة فقتلهم و أخذ أموالهم. ثمّ جاء فأسلم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا الإسلام فقد قبلنا، و أمّا المال فإنّه مال غدر لا حاجة لنا فيه.

ثمّ إنّ عروة جعل يرمق أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابتدروا أمره، و إذا توضّأ ثاروا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر تعظيماً له.

قال: فرجع عروة إلى أصحابه و قال: أي قوم و الله لقد وفدت على الملوك و وفدت على قيصر و كسرى و النجاشيّ و الله إن رأيت ملكاً قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد إذا أمرهم ابتدروا أمره، و إذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر تعظيماً له، و أنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته فلمّا أشرف عليهم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا فلان و هو من قوم يعظّمون البدن فابعثوها فبعثت له و استقبله القوم يلبون فلمّا رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت.

فقام رجل يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته فلمّا أشرف عليهم قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا مكرز و هو رجل فاجر فجعل يكلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبينما

٢٩٠

هو يكلّمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد سهل عليكم أمركم فقال: اكتب بيننا و بينك كتاباً.

فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: أمّا الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟ و لكن اكتب باسمك اللّهمّ فقال المسلمون: و الله لا نكتب إلّا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب باسمك اللّهمّ هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله فقال سهيل: لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت و لا قاتلناك و لكن اكتب محمّد بن عبدالله فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لرسول الله و إن كذّبتموني ثمّ قال لعليّ امح رسول الله فقال: يا رسول الله إنّ يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوّة فأخذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمحاه.

ثمّ قال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبدالله و سهيل بن عمرو و اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهنّ الناس و يكفّ بعضهم عن بعض و على أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّاً أو معتمراً أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه و ماله، و من قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام فهو آمن على دمه و ماله، و أنّ بيننا(١) عيبة مكفوفة، و أنّه لا إسلال و لا إغلال، و أنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد و عهده دخل فيه، و من أحبّ أن يدخل في عقد قريش و عهده دخل فيه.

فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمّد و عهده، و تواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش و عهدهم.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على أن تخلّوا بيننا و بين البيت فنطوف فقال سهيل: و الله ما تتحدّث العرب أنّا اُخذنا ضغطة و لكن ذلك من العام المقبل. فكتب فقال سهيل: على أنّه لا يأتيك منّا رجل و إن كان على دينك إلّا رددته إلينا و من جاءنا ممّن معك لم نردّه عليك فقال المسلمون: سبحان الله كيف يردّ إلى المشركين و قد جاء

____________________

(١) أي يكون بيننا صدر نقي من الغل و الخداع.

٢٩١

مسلماً؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من جاءهم منّا فأبعده الله، و من جاءنا منهم رددناه إليهم- فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً.

فقال سهيل: و على أنّك ترجع عنّا عامك هذا فلا تدخل علينا مكّة فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً و لا تدخلها بالسلاح إلّا السيوف في القراب(١) و سلاح الراكب، و على أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه لا تقدّمه علينا فقال: نحن نسوق و أنتم تردّون.

فبينا هم كذلك إذ جاء أبوجندل بن سهيل بن عمرو يرسف(٢) في قيوده و قد خرج من أسفل مكّة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل: هذا يا محمّد أوّل ما اُقاضيك عليه أن تردّه فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّا لم نقض بالكتاب بعد. قال: و الله إذا لا اُصالحك على شي‏ء أبداً فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأجره لي فقال: ما أنا بمجيره لك قال: بلى فافعل، قال ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجرناه، قال أبو جندل بن سهيل: معاشر المسلمين اُردّ إلى المشركين و قد جئت مسلماً أ لا ترون ما قد لقيت؟ - و كان قد عذّب عذاباً شديداً -.

فقال عمر بن الخطّاب: و الله ما شككت مذ أسلمت إلّا يومئذ فأتيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: أ لست نبيّ الله؟ فقال: بلى. قلت: أ لسنا على الحقّ و عدوّنا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنيّة في ديننا إذاً؟ قال: إنّي رسول الله و لست أعصيه و هو ناصري قلت: أ و لست كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت و نطوف حقّاً؟ قال: بلى أ فأخبرتك أن نأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنّك تأتيه و تطوف به فنحر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدنة فدعا بحالقه فحلق شعره ثمّ جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ ) الآية.

قال محمّد بن إسحاق بن يسار: و حدّثني بريدة بن سفيان عن محمّد بن كعب: أنّ

____________________

(١) القراب: جمع قربة بمعنى الغمد.

(٢) رسف رسفا: إذا مشى مشي المقيد.

٢٩٢

كاتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الصلح كان عليّ بن أبي طالب فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب( هذا ما صالح عليه محمّد بن عبدالله سهيل بن عمرو) فجعل عليّ يتلكّأ و يأبى أن يكتب إلّا محمّد رسول الله فقال رسول الله: فإنّ لك مثلها تعطيها و أنت مضطهد، فكتب ما قالوا.

ثمّ رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة فجاءه أبوبصير رجل من قريش و هو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الّذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجاً به حتّى بلغاً ذا الحليفة فنزلاً يأكلان من تمر لهم قال أبوبصير لأحد الرجلين: و إنّي لأرى سيفك جيداً جدّاً فاستلّه فقال: أجل إنّه لجيّد و جرّبت به ثمّ جرّبت فقال أبوبصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتّى برد و فرّ الآخر حتّى بلغ المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعراً، فلمّا انتهى إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قتل و الله صاحبي و إنّي لمقتول.

قال: فجاء أبوبصير فقال: يا رسول الله قد أوفى الله ذمّتك و رددتني إليهم ثمّ أنجاني الله منهم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويل اُمّه مسعر حرب لو كان له أحد، فلمّا سمع ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم فخرج حتّى أتى سيف البحر.

و انفلت منهم أبوجندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلّا لحق بأبي بصير حتّى اجتمعت عليه عصابة. قال: فوالله لا يسمعون بعير لقريش قد خرجت إلى الشام إلّا اعترضوا لها فقتلوهم و أخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تناشده الله و الرحم لمّا أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم فأتوه.

و في تفسير القمّيّ، في حديث طويل أوردنا صدره في أوّل البحث قال: و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه - بعد ما كتب الكتاب -: انحروا بدنكم و احلقوا رؤسكم فامتنعوا و قالوا: كيف ننحر و نحلق و لم نطف بالبيت و لم نسع بين الصفا و المروة فاغتمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و شكا ذلك إلى اُمّ سلمة فقالت: يا رسول الله انحر أنت و احلق فنحر رسول الله و حلق فنحر القوم على حيث يقين و شكّ و ارتياب.

٢٩٣

أقول: و هو مرويّ في روايات اُخر من طرق الشيعة و أهل السنّة. و هذا الّذي رواه الطبرسيّ مأخوذ مع تلخيص ما عمّا رواه البخاريّ و أبوداود و النسائيّ عن مروان و المسوّر.

و في الدرّ المنثور، أخرج البيهقيّ عن عروة قال: أقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبيّة راجعاً فقال رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت و صدّ هدينا و عكف رسول الله بالحديبيّة و ردّ رجلين من المسلمين خرجاً.

فبلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول رجال من أصحابه: إنّ هذا ليس بفتح فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بئس الكلام. هذا أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم و يسألوكم القضيّة و يرغبون إليكم في الإياب و قد كرهوا منكم ما كرهوا، و قد أظفركم الله عليهم و ردّكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح.

أ نسيتم يوم اُحد إذ تصعدون و لا تلوون على أحد و أنا أدعوكم في اُخراكم؟ أ نسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤكم من فوقكم و من أسفل منكم و إذ زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر و تظنّون بالله الظنوناً؟.

قال المسلمون: صدق الله و رسوله هو أعظم الفتوح و الله يا نبيّ الله ما فكّرنا فيما فكّرت فيه و لأنت أعلم بالله و بالاُمور منّا فأنزل الله سورة الفتح.

أقول: و الأحاديث في قصّة الحديبيّة كثيرة و ما أوردناه طرف منها.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده إلى عمر بن يزيد بيّاع السابريّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام قول الله في كتابه:( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ ) قال: ما كان له ذنب و لا همّ بذنب و لكنّ الله حمله ذنوب شيعته ثمّ غفر لها.

و في العيون، في مجلس الرضا مع المأمون بإسناده إلى ابن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضاعليه‌السلام فقال المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، - إلى أن قال - قال: فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ:( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ ) .

قال الرضاعليه‌السلام : لم يكن أحد عند مشركي مكّة أعظم ذنباً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٩٤

لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة و ستّين صنماً فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم و عظم، و قالوا أ جعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشي‏ء عجاب، و انطلق الملاُ منهم أن امشوا و اصبروا على آلهتكم إنّ هذا لشي‏ء يراد ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إنّ هذا إلا اختلاق فلمّا فتح الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة قال: يا محمّد إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر عند مشركي مكّة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدّم و ما تأخّر لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم، و خرج بعضهم عن مكّة، و من بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد إذا دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم. فقال المأمون: لله درّك يا أباالحسن.

و في تفسير العيّاشيّ، عن منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) حتّى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام.

أقول: و هذا المعنى مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً، و الحديث لا يخلو من شي‏ء لأنّه مبنيّ على كون المراد بالذنب في الآية هو المعصية المنافية للعصمة.

و في الكافي، بإسناده إلى جميل قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: الإيمان قال عزّ من قائل:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) .

أقول: ظاهر الرواية أنّهعليه‌السلام أخذ قوله تعالى في الآية:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) تفسيراً للسكينة، و في معنى الرواية روايات اُخري.

و فيه، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له: أيّها العالم أخبرني أيّ الأعمال أفضل عندالله؟ قال: ما لا يقبل الله شيئاً إلّا به. قلت: و ما هو؟ قال: الإيمان بالله الّذي لا إله إلّا هو أعلى الأعمال درجة و أشرفها منزلة و أسناها حظّاً.

قال: قلت: أ لا تخبرني عن الإيمان أ قول هو و عمل أم قول بلا عمل؟ قال: الإيمان عمل كلّه و القول بعض ذلك العمل بفرض من الله بيّن في كتابه واضح نوره ثابتة

٢٩٥

حجّته يشهد له به الكتاب و يدعوه إليه. قال: قلت: صف لي جعلت فداك حتّى أفهمه قال: الإيمان حالات و درجات و صفات و منازل فمنه التامّ المنتهي تمامه و منه الناقص المبين نقصانه و منه الراجح الزائد رجحانه.

قلت: إنّ الإيمان ليتمّ و ينقص و يزيد؟ قال: نعم. قلت: كيف ذلك؟ قال: لأنّ الله تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم و قسّمه عليها و فرّقه فيها فليس من جوارحه جارحة إلّا و قد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به اُختها فمن لقي الله عزّوجلّ حافظاً لجوارحه موفياً كلّ جارحة من جوارحه ما فرض الله عزّوجلّ عليها لقي الله مستكملاً لإيمانه و هو من أهل الجنّة، و من خان في شي‏ء منها أو تعدّى ما أمر الله عزّوجلّ فيها لقي الله عزّوجلّ ناقص الإيمان.

قلت: و قد فهمت نقصان الإيمان و تمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عزّوجلّ:( وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ) و قال:( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً ) .

و لو كان كلّه واحداً لا زيادة فيه و لا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر و لاستوت النعم فيه، و لاستوى الناس و بطل التفضيل و لكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّة، و بالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عندالله، و بالنقصان دخل المفرّطون النار.

٢٩٦

( سورة الفتح الآيات ٨ - ١٠)

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٨ ) لِّتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٩ ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ  فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ  وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٠ )

( بيان‏)

فصل ثان من آيات السورة يعرّف سبحانه فيه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعريف إكبار و إعظام بأنّه أرسله شاهداً و مبشّراً و نذيراً طاعته طاعة الله و بيعته بيعة الله، و قد كان الفصل الأوّل امتناناً منه تعالى على نبيّه بالفتح و المغفرة و إتمام النعمة و الهداية و النصر و على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم و إدخال الجنّة و وعيد المشركين و المنافقين بالغضب و اللعن و النار.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) المراد بشهادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهادته على الأعمال من إيمان و كفر و عمل صالح أو طالح، و قد تكرّر في كلامه تعالى ذكر شهادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تقدّم استيفاء الكلام في معنى هذه الشهادة، و هي شهادة حمل في الدنيا، و أداء في الآخرة.

و كونه مبشّراً تبشيره لمن آمن و اتّقى بالقرب من الله و جزيل ثوابه، و كونه نذيراً إنذاره و تخويفه لمن كفر و تولّى بأليم عذابه.

قوله تعالى: ( لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) القراءة المشهورة بتاء الخطاب في الأفعال الأربعة، و قرأ ابن كثير و أبوعمرو بياء الغيبة في الجميع و قراءتهما أرجح بالنظر إلى السياق.

٢٩٧

و كيف كان فاللام في( لِتُؤْمِنُوا ) للتعليل أي أرسلناك كذا و كذا لتؤمنوا بالله و رسوله.

و التعزير - على ما قيل - النصر و التوقير التعظيم كما قال تعالى:( ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ) نوح: ١٣، و الظاهر أنّ الضمائر في( تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ ) جميعاً لله تعالى و المعنى: إنّا أرسلناك كذا و كذا ليؤمنوا بالله و رسوله و ينصروه تعالى بأيديهم و ألسنتهم و يعظّموه و يسبّحوه - و هو الصلاة - بكرة و أصيلاً أي غداة و عشيّاً.

و قيل: الضميران في( تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ ) للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( تُسَبِّحُوهُ ) لله تعالى و يوهنه لزوم اختلاف الضمائر المتّسقة.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) إلى آخر الآية. البيعة نوع من الميثاق ببذل الطاعة قال في المفردات: و بايع السلطان إذا تضمّن بذل الطاعة له بما رضخ له انتهى، و الكلمة مأخوذة من البيع بمعناه المعروف فقد كان من دأبهم أنّهم إذا أرادوا إنجاز البيع أعطى البائع يده للمشتري فكأنّهم كانوا يمثّلون بذلك نقل الملك بنقل التصرّفات الّتي يتحقّق معظمها باليد إلى المشتري بالتصفيق، و بذلك سمّي التصفيق عند بذل الطاعة بيعة و مبايعة، و حقيقة معناه إعطاء المبايع يده للسلطان مثلاً ليعمل به ما يشاء.

فقوله:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) تنزيل بيعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزلة بيعته تعالى بدعوى أنّها هي فما يواجهونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من بذل الطاعة لا يواجهون به إلّا الله سبحانه لأنّ طاعته طاعة الله ثمّ قرّره زيادة تقرير و تأكيد بقوله:( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) حيث جعل يدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يد الله كما جعل رميهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رمى نفسه في قوله:( وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللهَ رَمى) الأنفال: ١٧.

و في نسبة ما لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الشأن إلى نفسه تعالى آيات كثيرة كقوله تعالى:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) النساء: ٨٠، و قوله:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) الأنعام: ٣٣، و قوله:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ )

٢٩٨

آل عمران: ١٢٨.

و قوله:( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ ) النكث نقض العهد و البيعة، و الجملة تفريع على قوله:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) و المعنى: فإذا كان بيعتك بيعة الله فالناكث الناقض لها ناقض لبيعة الله و لا يتضرّر بذلك إلّا نفسه كما لا ينتفع بالإيفاء إلّا نفسه لأنّ الله غنيّ عن العالمين.

و قوله:( وَ مَنْ أَوْفى‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) وعد جميل على حفظ العهد و الإيفاء به.

و الآية لا تخلو من إيماء إلى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عند البيعة يضع يده على أيديهم فكانت يده على أيديهم لا بالعكس.

و للمفسّرين في قوله:( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) أقوال اُخر.

فقيل: إنّه من الاستعارة التخييليّة و الاستعارة بالكناية جي‏ء به لتأكيد ما تقدّمه و تقرير أنّ مبايعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمبايعة الله من غير تفاوت فخيّل أنّه سبحانه كأحد المبايعين من الناس فاُثبتت له يد تقع فوق أيدي المبايعين للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكان يد الرسول و فيه أنّه غير مناسب لساحة قدسه تعالى أن يخيّل على وجه هو منزّه عنه.

و قيل: المراد باليد القوّة و النصرة أي قوّة الله و نصرته فوق قوّتهم و نصرتهم أي ثق بنصرة الله لا بنصرتهم.

و فيه أنّ المقام مقام إعظام بيعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنّ مبايعتهم له مبايعة لله، و الوثوق بالله و نصرته و إن كان حسناً في كلّ حال لكنّه أجنبيّ عن المقام.

و قيل: المراد باليد العطيّة و النعمة أي نعمة الله عليهم بالثواب أو بتوفيقهم لمبايعتك فوق نعمتهم عليك بالمبايعة، و قيل: نعمته عليهم بالهداية أعظم من نعمتهم عليك بالطاعة إلى غير ذلك من الوجوه الّتي أوردوها و لا طائل تحتها.

٢٩٩

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن عديّ و ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبدالله قال: لمّا نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية( وَ تُعَزِّرُوهُ ) قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه: ما ذاك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: لتنصروه.

و في العيون، بإسناده عن عبدالسلام بن صالح الهرويّ قال: قلت لعليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام : يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الّذي يرويه أهل الحديث: أنّ المؤمنين يزورون ربّهم من منازلهم في الجنّة؟ فقال: يا أبا الصلت إنّ الله تعالى فضّل نبيّه محمّداً على جميع خلقه من النبيّين و الملائكة، و جعل طاعته طاعته، و مبايعته مبايعته، و زيارته في الدنيا و الآخرة زيارته، فقال عزّوجلّ:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) و قال:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) و قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله.

و درجته في الجنّة أعلى الدرجات، و من زاره في درجته في الجنّة من منزله فقد زار الله تبارك و تعالى.

و في إرشاد المفيد، في حديث بيعة الرضاعليه‌السلام قال: و جلس المأمون و وضع للرضاعليه‌السلام وسادتين عظيمتين حتّى لحق بمجلسه و فرشه، و أجلس الرضاعليه‌السلام في الحضرة و عليه عمامة و سيف. ثمّ أمر ابنه العبّاس بن المأمون أن يبايع له في أوّل الناس فرفع الرضاعليه‌السلام يده فتلقّى بها وجهه و ببطنها وجوههم- فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة فقال الرضاعليه‌السلام : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا كان يبايع فبايعه الناس و يده فوق أيديهم.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

الآيات

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) )

التّفسير

بما ذا رموا موسىعليه‌السلام واتّهموه؟

بعد البحوث التي مرّت في الآيات السابقة حول وجوب احترام مقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وترك كلّ ما يؤذيه والابتعاد عنه ، فقد وجّهت هذه الآيات الخطاب للمؤمنين ، وقالت :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً ) .

إنّ إختيار موسىعليه‌السلام من جميع الأنبياء الذين طالما أوذوا ، بسبب أنّ المؤذين من بني إسرائيل قد آذوه أكثر من أي نبي آخر ، إضافة إلى أنّ بعض أنواع الأذى التي رآها كانت تشبه أذى المنافقين لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهناك بحث بين المفسّرين في المراد من إيذاء موسىعليه‌السلام هنا؟ ولماذا ذكره

٣٦١

القرآن بشكل مبهم؟ وقد ذكروا احتمالات عديدة في تفسير الآية ، ومن جملتها :

١ ـ إنّ موسى وهارونعليهما‌السلام قد ذهبا إلى جبل ـ طبق رواية ـ وودّع هارون الحياة ، فأشاع المرجفون من بني إسرائيل أنّ موسىعليه‌السلام قد تسبّب في موته ، فأبان الله سبحانه حقيقة الأمر ، وأسقط ما في يد المرجفين.

٢ ـ كما أوردنا مفصّلا في ذيل الآيات الأخيرة من سورة القصص ، فإنّ قارون المحتال أراد أن يتملّص من قانون الزكاة ، ولا يؤدّي حقوق الضعفاء والفقراء ، فعمد إلى بغيّ واتّفق معها على أن تقوم بين الناس وتتّهم موسىعليه‌السلام بأنّه زنى بها ، إلّا أنّ هذه الخطّة قد فشلت بلطف الله سبحانه ، بل وشهدت تلك المرأة بطهارة موسىعليه‌السلام وعفته ، وبما أراده منها قارون.

٣ ـ إنّ جماعة من الأعداء اتّهموا موسىعليه‌السلام بالسحر والجنون والافتراء على الله ، ولكن الله تعالى برّأه منها بالمعجزات الباهرات.

٤ ـ إنّ جماعة من جهّال بني إسرائيل قد اتّهموه بأنّ فيه بعض العيوب الجسمية كالبرص وغيره ، لأنّه كان إذا أراد أن يغتسل ويستحمّ لا يتعرّى أمام أحد مطلقا ، فأراد أن يغتسل يوما بمنأى عن الناس ، فوضع ثيابه على حجر هناك ، فتدحرج الحجر بثيابه ، فرأى بنو إسرائيل جسمه ، فوجدوه مبرّأ من العيوب.

٥ ـ كان المعذرون من بني إسرائيل أحد عوامل إيذاء موسىعليه‌السلام ، فقد كانوا يطلبون تارة أن يريهم اللهعزوجل «جهرة» ، واخرى يقولون : إنّ نوعا واحدا من الطعام ـ وهو «المنّ والسلوى» ـ لا يناسبنا ، وثالثة يقولون : إنّنا غير مستعدّين للدخول إلى بيت المقدس ومحاربة «العمالقة». اذهب أنت وربّك فقاتلا ، وافتحاه لنا لندخله بعد ذلك!

الّا أنّ الأقرب لمعنى الآية ، هو أنّها بصدد بيان حكم كلّي عام جامع ، لأنّ بني إسرائيل قد آذوا موسىعليه‌السلام من جوانب متعدّدة ذلك الأذى الذي لم يكن يختلف عن أذى بعض أهل المدينة (لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ) كإشاعة بعض الأكاذيب واتّهام زوج النّبي

٣٦٢

بتهم باطلة ، وقد مرّ تفصيلها في تفسير سورة النور ـ ذيل الآيات ١١ ـ ٢٠ ـ والاعتراضات التي اعترضوا بها على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في زواجه بزينب ، وأنواع الأذى والمضايقات التي كانوا يضايقونه بها في بيته ، أو مناداته بأسلوب خال من الأدب والأخلاق ، وغير ذلك.

وأمّا الاتّهام بالسحر والجنون وأمثال ذلك ، أو العيوب البدنية ، فإنّها وإن اتّهم موسى بها ، إلّا أنّها لا تتناسب مع( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) بالنسبة لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لم يتّهم المؤمنون موسىعليه‌السلام ولا نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله بالسحر والجنون. وكذلك الاتّهام بالعيوب البدنية ، فإنّه على فرض كونه قد حدث بالنسبة لموسىعليه‌السلام ، وأنّ الله تعالى قد برّأه ، فليس له مصداق أو حادثة تؤيّده في تاريخ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى أيّة حال ، فيمكن أن يستفاد من هذه الآية أنّ من كان عند الله وجيها وذا منزلة ، فإنّ الله سبحانه يدافع عنه في مقابل من يؤذيه ويتّهمه بالأباطيل ، فكن طاهرا وعفيفا ، واحفظ وجاهتك عند الله ، فإنّه تعالى سيظهر عفّتك وطهارتك للناس ، حتّى وإن سعى الأشقياء والمسيؤون إلى اتّهامك وتحطيم منزلتك وتشويه سمعتك بين الناس.

وقد قرأنا نظير هذا المعنى في قصّة «يوسف» الصدّيق الطاهر ، وكيف برّأه الله سبحانه من تهمة امرأة عزيز مصر الكبيرة والخطيرة.

وكذلك في شأن «مريم» بنت عمران أمّ عيسىعليه‌السلام ، حيث شهد وليدها الرضيع بطهارتها وعفّتها ، وقطع بذلك ألسن المتربّصين بها من بني إسرائيل ، والذين كانوا يسعون لاتّهامها وتلويث سمعتها.

والجدير بالذكر أنّ هذا الخطاب لم يكن مختّصا بالمؤمنين في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل من الممكن أن تشمل الآية حتّى أولئك الذين سيولدون بعده ويقومون بعمل يؤذون روحه الطاهرة به ، فيحتقرون دينه ويستصغرون شأنه ، وينسون مواريثه ، ولذلك

جاء في بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام : «يا أيّها الذين آمنوا لا

٣٦٣

تؤذوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في علي والأئمّة صلوات الله عليهم ...»(١) .

وآخر كلام في تفسير هذه الآية هو : أنّه بعد ملاحظة أحوال الأنبياء العظام الذين لم يكونوا بمأمن من جراحات ألسن الجاهلين والمنافقين ، يجب أن لا نتوقّع أن لا يبتلى المؤمنون والطاهرون بمثل هؤلاء الأفراد ، فإنّ الإمام الصادقعليه‌السلام يقول : «إنّ رضى الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط ..» ثمّ يضيف الإمام في نهاية هذا الحديث : «ألم ينسبوا إلى موسى أنّه عنين وآذوه حتّى برّأه الله ممّا قالوا ، وكان عند الله وجيها»(٢) .

قولوا الحقّ لتصلح أعمالكم :

بعد البحوث السابقة حول ناشري الإشاعات والذين يؤذون النّبي ، تصدر الآية التالية أمرا هو في الحقيقة علاج لهذا المرض الاجتماعي الخطير ، فتقول :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) .

«القول السديد» من مادّة (سد) أي المحكم المنيع الذي لا يعتريه الخلل ، والموافق للحقّ والواقع ، ويعني القول الذي يقف كالسدّ المنيع أمام أمواج الفساد والباطل. وإذا ما فسّره بعض المفسّرين بالصواب ، والبعض الآخر بكونه خالصا من الكذب واللغو وخاليا منه ، أو تساوي الظاهر والباطن ووحدتهما ، أو الصلاح والرشاد ، وأمثال ذلك ، فإنّها في الواقع تفاسير ترجع إلى المعنى الجامع أعلاه.

ثمّ تبيّن الآية التالية نتيجة القول السديد ، فتقول :( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) .

إنّ التقوى في الواقع هي دعامة إصلاح اللسان وأساسه ، ومنبع قول الحقّ ، والقول الحقّ أحد العوامل المؤثّرة في إصلاح الأعمال ، وإصلاح الأعمال سبب

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٣٠٨.

(٢) نور الثقلين ، المجلّد ٤ ، ص ٣٠٩.

٣٦٤

مغفرة الذنوب ، وذلك لـ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) .(١)

يقول علماء الأخلاق : إنّ اللسان أكثر أعضاء البدن بركة ، وأكثر الوسائل تأثيرا في الطاعة والهداية والصلاح ، وهو في الوقت نفسه يعدّ أخطر أعضاء البدن وأكثرها معصية وذنبا ، حتّى أنّ ما يقرب من الثلاثين كبيرة تصدر من هذا العضو الصغير(٢) .

وفي حديث عن النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه»(٣) .

ومن الرائع جدّا ما ورد في حديث آخر عن الإمام السجّادعليه‌السلام : «إنّ لسان ابن آدم يشرف كلّ يوم على جوارحه فيقول : كيف أصبحتم؟ فيقولون : بخير إن تركتنا. ويقولون : الله الله فينا ، ويناشدونه ويقولون : إنّما نثاب بك ونعاقب بك»(٤) .

هناك روايات كثيرة في هذا الباب تحكي جميعا عن الأهميّة الفائقة للّسان ودوره في إصلاح الأخلاق وتهذيب النفوس الإنسانية ، ولذلك نقرأ في حديث : «ما جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا المنبر قطّ إلّا تلا هذه الآية :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

__________________

(١) سورة هود ، الآية ١١٤.

(٢) عد الغزالي في إحياء العلوم عشرين كبيرة أو معصية تصدر عن اللسان ، وهي : ١ ـ الكذب ٢ ـ الغيبة ٣ ـ النميمة ٤ ـ النفاق في الكلام ، أي كون الإنسان ذا لسانين ووجهين ٥ ـ المدح في غير موضعه ٦ ـ بذاءة الكلام ٧ ـ الغناء والأشعار غير المرضية ٨ ـ الإفراط في المزاح ٩ ـ السخرية والاستهزاء ١٠ ـ إفشاء أسرار الآخرين ١١ ـ الوعد الكاذب ١٢ ـ اللعن في غير موضعه ١٣ ـ التخاصم والنزاع ١٤ ـ الجدال والمراء ١٥ ـ البحث في امور الباطل ١٦ ـ الثرثرة ١٧ ـ البحث في الأمور التي لا تعني الإنسان ١٨ ـ وصف مجالس الشراب والقمار والمعصية ١٩ ـ السؤال عن المسائل الخارجة عن إدراك الإنسان والبحث فيها ٢٠ ـ التصنع والتكلف في الكلام. ونزيد عليها عشرة مواضيع مهمة اخرى ، وهي : ١ ـ الاتهام ٢ ـ شهادة الزور ٣ ـ إشاعة الفحشاء ، ونشر الإشاعات التي لا أساس لها ٤ ـ مدح الإنسان نفسه ٥ ـ الإصرار في غير محله ٦ ـ الغلظة والخشونة في الكلام ٧ ـ الأذى باللسان ٨ ـ ذم من لا يستحق الذم ٩ ـ كفران النعمة اللسان ١٠ ـ الإعلام الباطل.

(٣) بحار الأنوار ، المجلد ٧١ ، صفحة ٧٨.

(٤) بحار الأنوار ، المجلد ٧١ ، صفحة ٢٧٨.

٣٦٥

اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) (١).

ثمّ تضيف الآية في النهاية :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) وأي فوز وظفر أسمى من أن تكون أعمال الإنسان صالحة ، وذنوبه مغفورة ، وهو عند الله من المبيضة وجوههم الذينرضي‌الله‌عنهم ؟!

* * *

__________________

(١) الدرّ المنثور ، طبقا لنقل تفسير الميزان ، الجزء ١٦ ، صفحة ٣٧٦.

٣٦٦

الآيتان

( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٣) )

التّفسير

حمل الأمانة الإلهية أعظم افتخارات البشر :

تكمل هاتان الآيتان ـ اللتان هما آخر آيات سورة الأحزاب ـ المسائل المهمّة التي وردت في هذه السورة في مجالات الإيمان ، والعمل الصالح ، والجهاد ، والإيثار ، والعفّة والأدب والأخلاق ، وتبيّن كيف أنّ الإنسان يحتل موقعا ساميا جدّا بحيث يستطيع أن يكون حامل رسالة الله العظيمة ، وكيف أنّه إذا ما جهل قيمه الحياتية والوجودية سيظلم نفسه غاية الظلم ، وينحدر إلى أسفل سافلين!

تبيّن الآية أوّلا أعظم امتيازات الإنسان وأهمّها في كلّ عالم الخلقة ، فتقول :( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ

٣٦٧

مِنْها ) .

ممّا لا شكّ فيه أنّ إباءها تحمل المسؤولية وامتناعها عن ذلك لم يكن استكبارا منها ، كما كان ذلك من الشيطان ، حيث تقول الآية (٢٤) من سورة البقرة :( أَبى وَاسْتَكْبَرَ ) ، بل إنّ إياءها كان مقترنا بالإشفاق ، أي الخوف الممتزج بالتوجّه والخضوع.

إلّا أنّ الإنسان ، اعجوبة عالم الخلقة ، قد تقدّم( وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) .

لقد تحدّث كبار مفسّري الإسلام حول هذه الآية كثيرا ، وسعوا كثيرا من أجل الوصول إلى حقيقة معنى «الأمانة» ، وأبدوا وجهات نظر مختلفة ، نختار أفضلها بتقصّي القرائن الموجودة في طيّات الآية.

ويجب التأكيد في هذه الآية العميقة المحتوى على خمس موارد :

١ ـ ما هو المراد من الأمانة؟

٢ ـ ما معنى عرضها على السماوات والأرض والجبال؟

٣ ـ لماذا وكيف أبت هذه الموجودات حمل هذه الأمانة؟

٤ ـ كيف حمل الإنسان ثقل الأمانة هذا؟

٥ ـ لماذا وكيف كان ظلوما جهولا؟

لقد ذكرت تفاسير مختلفة للأمانة ومن جملتها :

أنّ المراد من الأمانة : هي الولاية الإلهية ، وكمال صفة العبودية ، والذي يحصل عن طريق المعرفة والعمل الصالح.

أنّ المراد : صفة الإختيار والحرية والإرادة التي تميّز الإنسان عن سائر الموجودات.

أنّ المراد : العقل الذي هو ملاك التكليف ، ومناط الثواب والعقاب.

أنّ المراد : أعضاء جسم الإنسان ، فالعين أمانة الله ، ويجب الحفاظ عليها وعدم

٣٦٨

استعمالها في طريق المعصية ، والاذن واليد والرجل واللسان كلّها أمانات يجب حفظها.

أنّ المراد : الأمانات التي يأخذها الناس بعضهم من بعض ، والوفاء بالعهود.

أنّ المراد : معرفة الله سبحانه.

أنّ المراد : الواجبات والتكاليف الإلهيّة كالصلاة والصوم والحجّ.

لكن يتّضح من خلال أدنى دقّة أن هذه التفاسير لا تتناقض مع بعضها ، بل يمكن إدغام بعضها في البعض الآخر ، فبعضها أخذت جانبا من الموضوع ، وبعضها الآخر كلّه.

ومن أجل الحصول على جواب جامع كاف ، يجب أن نلقي نظرة على الإنسان لنرى أي شيء يمتلكه وتفتقده السماوات والأرضون والجبال؟

إنّ الإنسان موجود له استعدادات وقابليات يستطيع من خلال استغلالها أن يكون أتمّ مصداق لخليفة الله ، ويستطيع أن يصل إلى قمّة العظمة والشرف باكتساب المعرفة وتهذيب النفس وتحصيل الكمالات ، وأن يسمو حتّى على الملائكة.

إنّ هذا الاستعداد المقترن بالحرية والإرادة والإختيار يعني أنّ الإنسان يطوي هذا الطريق بإرادته وإختياره ، ويبدأ فيه من الصفر ويسير إلى ما لا نهاية.

إنّ السماء والأرض والجبال تمتلك نوعا من المعرفة الإلهية ، وهي تذكر الله سبحانه وتسبّحه ، وتخضع لعظمته وتخشع لها وتسجد ، إلّا أنّ كلّ ذلك ذاتي وتكويني وإجباري ، ولذلك ليس فيه تكامل ورقي ، والموجود الوحيد الذي لا ينتهي منحني صعوده ونزوله ، وهو قادر على ارتقاء قمّة التكامل بصورة لا تعرف الحدود ، ويقوم بكلّ هذه الأعمال بإرادته وإختياره ، هو الإنسان ، وهذه هي «الأمانة الإلهيّة» التي امتنعت من حملها كلّ الموجودات ، وحملها الإنسان! ولذلك نرى الآية التالية قسّمت البشر إلى ثلاث فئات : «المؤمنين» و «الكفّار» و

٣٦٩

«المنافقين».

بناء على هذا يجب القول في عبارة مختصرة أنّ الأمانة الإلهية هي قابلية التكامل غير المحدودة والممتزجة بالإرادة والإختيار ، والوصول إلى مقام الإنسان الكامل ، وعبودية الله الخاصّة وتقبّل ولاية الله.

لكن لماذا عبّر عن هذا الأمر بالأمانة ، مع أنّ كلّ وجودنا وكلّ ما لدينا أمانة الله؟

لقد عبّر بهذا التعبير لأهميّة امتياز البشر العظيم هذا ، وإلّا فإنّ بقية المواهب أمانات الله أيضا ، غير أنّ أهميّتها تقلّ أمام هذا الامتياز.

ويمكن أن نعبّر هنا عن هذه الأمانة بتعبير آخر ونقول : إنّها التعهّد والالتزام وقبول المسؤولية.

بناء على هذا فإنّ أولئك الذين فسّروا الأمانة بصفة الإختيار والحرية في الإرادة ، قد أشاروا إلى جانب من هذه الأمانة العظمى ، كما أنّ أولئك الذين فسّروها بالعقل ، أو أعضاء البدن ، أو أمانات الناس لدى بعضهم البعض ، أو الفرائض والواجبات ، أو التكاليف بصورة عامّة ، قد أشار كلّ منهم إلى غصن من أغصان هذه الشجرة العظيمة المثمرة ، واقتطف منها ثمرة.

لكن ما هو المراد من عرض هذه الأمانة على السموات والأرض؟

هل المراد : أنّ الله سبحانه قد منح هذه الموجودات شيئا من العقل والشعور ثمّ عرض عليها حمل هذه الأمانة؟

أو أنّ المراد من العرض هو المقارنة؟ أي أنّها عند ما قارنت حجم هذه الأمانة مع ما لديها من القابليات والاستعدادات أعلنت عدم لياقتها واستعدادها عن تحمّل هذه الأمانة العظيمة.

طبعا ، يبدو أنّ المعنى الثّاني هو الأنسب ، وبهذا فإنّ السماوات والأرض والجبال قد صرخت جميعا بأنّا لا طاقة لنا بحمل هذه الأمانة.

٣٧٠

ومن هنا يتّضح جواب السؤال الثالث أيضا ، بأنّ هذه الموجودات لما ذا وكيف رفضت وأبت حمل هذه الأمانة العظمى ، وأظهرت إشفاقها من ذلك؟

ومن هنا تتّضح كيفية حمل الإنسان لهذه الأمانة الإلهية ، لأنّ الإنسان كان قد خلق بشكل يستطيع معه تحمّل المسؤولية والقيام بها ، وأن يتقبّل ولاية الله ، ويسير في طريق العبودية والكمال ويتّجه نحو المعبود الدائم ، وأن يطوي هذا الطريق بقدمه وإرادته ، وبالاستعانة بربّه.

أمّا ما ورد في روايات عديدة وردت عن أهل البيتعليهم‌السلام من تفسير هذه الأمانة بقبول ولاية أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وولده ، فمن أجل أنّ ولاية الأنبياء والأئمّة نور ساطع من تلك الولاية الإلهية الكليّة ، والوصول إلى مقام العبودية ، وطي طريق التكامل لا يمكن أن يتمّ من دون قبول ولاية أولياء الله.

جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه سئل عن تفسير آية عرض الأمانة ، فقال : «الأمانة الولاية ، من ادّعاها بغير حقّ كفر»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال عند ما سئل عن تفسير هذه الآية : «الأمانة الولاية ، والإنسان هو أبو الشرور المنافق»(٢) .

والمسألة الاخرى التي يلزم ذكرها هنا ، هي أنّنا قلنا في ذيل الآية (١٧٢) من سورة الأعراف فيما يتعلّق بعالم الذرّ بأن أخذ ميثاق الله على التوحيد كان عن طريق الفطرة ، واستعداد وطبيعة الآدمي ، وإنّ عالم الذرّ هو عالم الاستعداد والفطرة.

وفي مورد قبول الأمانة الإلهيّة يجب القول بأنّ هذا القبول لم يكن قبول اتّفاق وعقد ، بل كان قبولا تكوينيا حسب عالم الاستعداد.

السؤال الوحيد الذي يبقى هو مسألة كون الإنسان «ظلوما جهولا» ، فهل أنّ

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلّد ٣ ، صفحة ٣٤١ ذيل الآية مورد البحث.

(٢) المصدر السابق.

٣٧١

وصف الإنسان بهاتين الصفتين ـ وظاهرهما ذمّه وتوبيخه ـ كان نتيجة قبوله لهذه الأمانة؟

من المسلّم أنّ النفي هو جواب هذا السؤال ، لأنّ قبول هذه الأمانة أعظم فخر وميزة للإنسان ، فكيف يمكن أن يذمّ على قبوله مثل هذا المقام السامي؟

أم أنّ هذا الوصف بسبب نسيان غالب البشر وظلمهم أنفسهم ، وعدم العلم بقدر الإنسان ومنزلته وبسبب الفعل الذي بدأ منذ ابتداء نسل آدم من قبل قابيل وأتباعه ، ولا يزال إلى اليوم.

إنّ الإنسان الذي ينادى من العرش ، وبني آدم الذين وضع على رؤوسهم تاج (كرّمنا بني آدم) والبشر الذين هم وكلاء الله في الأرض بمقتضى قوله سبحانه :( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) والإنسان الذي كان معلّما للملائكة وسجدت له ، كم يجب أن يكون ظلوما جهولا لينسى كلّ هذه القيم السامية الرفيعة ، ويجعل نفسه أسيرة هذه الدنيا ، وتابعا لهذا التراب ، ويكون في مصاف الشياطين ، فينحدر إلى أسفل سافلين؟!

أجل إنّ قبول هذا الخطّ المنحرف ـ والذي كان ولا يزال له أتباع وسالكون كثيرون جدّا ـ خير دليل على كون الإنسان ظلوما جهولا ، ولذلك نرى أنّه حتّى آدم نفسه ، والذي كان رأس السلسلة ومتمتّعا بالعصمة ، يعترف بأنّه قد ظلم نفسه( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) .(١)

لقد كان «ترك الأولى» الذي صدر منه ناشئا في الحقيقة عن نسيان جزء من عظمة هذه الأمانة الكبرى!

وعلى أي حال ، فيجب الاعتراف بأنّ الإنسان الضعيف والصغير في الظاهر ، هو اعجوبة علم الخلقة ، حيث استطاع أن يتحمّل أعباء الأمانة التي عجزت السماوات

__________________

(١) الأعراف ، ٢٣.

٣٧٢

والأرضون عن حملها إذا لم ينس مقامه ومنزلته(١) .

وتبيّن الآية التالية علّة عرض هذه الأمانة على الإنسان ، وبيان حقيقة أنّ أفراد البشر قد انقسموا بعد حمل هذه الأمانة إلى ثلاث فئات : المنافقين والمشركين والمؤمنين ، فتقول :( لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

يوجد هناك احتمالان في معنى «اللام» في( لِيُعَذِّبَ ) :

الأوّل : أنّها «لام الغاية» التي تذكر لبيان عاقبة الشيء ونهايته ، وبناء على هذا يكون معنى الآية : كانت عاقبة حمل هذه الأمانة أن سلك جماعة طريق النفاق ، وجماعة سبيل الشرك ، وهؤلاء سيبتلون بعذاب الله لخيانتهم أمانته ، وجماعة هم أهل الإيمان الذين ستشملهم رحمته لأدائهم هذه الأمانة والقيام بواجباتهم.

والثاني : أنّها «لام العلّة» ، فتكون هناك جملة مقدرة ، وعلى هذا يكون تفسير الآية : كان الهدف من عرض الأمانة أن يوضع كلّ البشر في بوتقة الاختبار ، ليظهر كلّ إنسان باطنه فيرى من الثواب والعقاب ما يستحقّه.

وهنا امور ينبغي الالتفات إليها :

١ ـ إنّ سبب تقديم أهل النفاق على المشركين هو أنّ المنافق يتظاهر بأنّه أمين في حين أنّه خائن ، إلّا أنّ خيانة المشرك ظاهرة مكشوفة ، ولذلك فإنّ المنافق يستحقّ حظّا أكبر من العذاب.

٢ ـ يمكن أن يكون سبب تقديم هاتين الفئتين على المؤمنين هو أنّ الآية

__________________

(١) اتّضح ممّا قلناه في تفسير الآية أن لا حاجة مطلقا إلى أن نقدر شيئا في الآية ، كما قال ذلك جمع من المفسّرين ، ففسّروا الآية بأنّ المراد من عرض أمانة الله على السماء والأرض والجبال هو عرضها على أهلها ، أي الملائكة! ولذلك قالوا بأنّ أولئك الذين أبوا أن يحملوها قد أدّوها ، وأولئك الذين حملوها خانوها. إنّ هذا التّفسير ليس مخالفا لظاهر الآية من ناحية الاحتياج إلى التقدير وحسب ، بل يمكن أن يناقش ويورد على اعتقاده بأنّ على الملائكة نوع تكليف ، وأنّها حاملة لجزء من هذه الأمانة. وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فإنّ تفسير أهل الجبال بالملائكة لا يخلو من غرابة ، دقّقوا ذلك.

٣٧٣

السابقة قد ختمت بـ( ظَلُوماً جَهُولاً ) وهاتان الصفتان تناسبان المنافق والمشرك ، فالمنافق ظالم ، والمشرك جهول.

٣ ـ لقد وردت كلمة (الله) مرّة واحدة في شأن المنافقين والمشركين ، ومرّة في شأن المؤمنين ، وذلك لأنّ مصير الفئتين الاوّليين واحد ، وحساب المؤمنين يختلف عنهما.

٤ ـ يمكن أن يكون التعبير بالتوبة بدل الجزاء والثواب في شأن المؤمنين بسبب أنّ أكثر خوف المؤمنين من الذنوب والمعاصي التي تصدر عنهم أحيانا ، ولذا فإنّ الآية تطمئنهم وتمنحهم السكينة بأنّ ذنوبهم ستغفر.

أو لأنّ توبة الله على عباده تعني رجوعه عليهم بالرحمة ، ونعلم أنّ كلّ الهبات والعطايا والمكافآت قد أخفيت في كلمة «الرحمة».

٥ ـ إنّ وصف الله بالغفور والرحيم ربّما كان في مقابل الظلوم والجهول. أو لمناسبته ذكر التوبة بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات.

الآن وقد بلغنا نهاية سورة الأحزاب بفضل الله سبحانه ، نرى لزاما ذكر هذه المسألة ، وهي : أنّ انسجام بداية هذه السورة مع نهايتها يستحقّ الدقّة والانتباه ، لأنّ هذه السورة ـ سورة الأحزاب ـ قد بدأت بخطاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره بتقوى الله ، ونهيه عن طاعة الكافرين والمنافقين ، والتأكيد على كون الله عليما حكيما ، وانتهت بذكر أعظم مسألة في حياة البشر ، أي حمل أمانة الله. ثمّ بتقسيم البشر إلى ثلاث فئات : المنافقين ، والكافرين ، والمؤمنين ، والتأكيد على كون الله غفورا رحيما.

وبين هذين البحثين طرحت بحوثا كثيرة حول هذه الفئات الثلاثة ، وأسلوب تعاملهم مع هذه الأمانة الإلهية ، وكلّ هذه البحوث يكمل بعضها بعضا ، ويوضّح بعضها بعضا.

اللهمّ اجعلنا ممّن قبلوا أمانتك بإخلاص ، وحملوها بعشق ولذّة ، وقاموا

٣٧٤

بواجباتهم تجاهها.

اللهمّ اجعلنا من المؤمنين الذين وسعتهم رحمتك ، لا من المنافقين والمشركين الذين استحقّوا العذاب لكونهم ظلومين جهولين.

اللهمّ انزل غضبك وسخطك على أحزاب الكفر التي اتّحدت مرّة اخرى ، واحتّلت مدينة الإسلام في عصرنا الحاضر ، واهدم قصورهم على رؤوسهم. اللهمّ وهب لنا من الثبات والاستقامة ما نقف به كالجبل لندافع عن مدينة الإسلام ونحرسها في هذه اللحظات الحسّاسة.

آمين يا ربّ العالمين.

* * *

نهاية سورة الأحزاب

٣٧٥
٣٧٦

سورة

سبأ

مكيّة

وعدد آياتها أربع وخمسون آية

٣٧٧
٣٧٨

«سورة سبأ»

محتوى سورة سبأ :

سمّيت السورة بهذا الاسم (سبأ) لذكرها قصّة قوم سبأ ، وهي من السور المكيّة ، التي تشتمل عادة على بحوث المعارف الإسلامية واصول الإعتقادات ، خصوصا «المبدأ» و «المعاد» و «النبوّة». فأغلب بحوثها تحوم حول تلكم الموضوعات ، لحاجة المسلمين لبلورة امور العقيدة في مكّة ، وإعدادهم للانتقال إلى فروع الدين ، وتشكيل الحكومة ، وتطبيق كافّة البرامج الإسلامية.

وبشكل إجمالي يمكن القول بأنّ محتوى هذه السورة يندرج في خمسة مواضيع :

١ ـ «التوحيد» ، وبعض الآثار الدالّة عليه في عالم الوجود ، وبعض صفات الله المقدّسة كالوحدانية ، والربوبية ، والالوهية.

٢ ـ قضيّة المعاد التي نالت النصيب الأوفى من العرض في هذه السورة ، باستعراضها ضمن بحوث منوّعة ومن زوايا مختلفة.

٣ ـ نبوّة الأنبياء السابقين وبالأخص رسول الإسلام الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله والردّ على تخرصات أعدائه حوله ، وذكر جانب من معجزات من سبقه من الأنبياء.

٤ ـ التعرّض لذكر بعض النعم الإلهية العظيمة ، ومصير الشاكرين والجاحدين من خلال استعراض جانب من حياة النّبي سليمانعليه‌السلام وحياة قوم سبأ.

٥ ـ الدعوة إلى التفكّر والتأمّل والإيمان والعمل الصالح ، وبيان تأثير هذه

٣٧٩

العوامل في سعادة وموفقية البشر.

وعلى كلّ حال ، فانّها تشكّل برنامجا تربويا شاملا لتربية الباحثين عن الحقّ.

فضيلة هذه السورة :

يلاحظ في الروايات تعبيرات ملفتة حول أهميّة هذه السورة وأهميّة قراءتها. من جملتها ما ورد في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قرأ سورة سبأ لم يبق نبيّ ولا رسول إلّا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ الحمدين جميعا ، سبأ وفاطر ، في ليلة لم يزل ليلته في حفظ الله تعالى وكلاءته ، فإن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه ، واعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه»(٢) .

ونذكّر ـ كما في بداية كلّ سورة ـ بأنّ من الطبيعي أنّ هذا الثواب العظيم لا يكون نصيب من يكتفي من قراءته بلقلقة اللسان وحسب ، بل يجب أن تكون القراءة مقدّمة للتفكير الذي يكون بدوره باعثا على العمل الصالح.

فإنّ من يقرأ هذه السورة مثلا ، سيعلم بأنّ الدمار الذي حلّ بقوم سبأ وجعل من مصرعهم عبرة للعالمين ، ومصيرهم مضربا للأمثال ، إنّما كان لكفرانهم النعم الإلهية الوافرة.

ومن يطّلع على ذلك فسيؤدّي شكر النعمة بطريقة عملية. والشاكر بنعمة الله سيكون في حفظه وأمانه تعالى.

وقد ذكرنا شرحا أوفى حول هذا الموضوع في أوّل تفسيرنا لسورة النور.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، بداية سورة سبأ ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٧٥.

(٢) المصدر السابق.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429