الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120158 / تحميل: 6179
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

و الإيجاد بالإنزال للإشارة إلى علوّ مبدئه.

و قيل: المراد بالإنزال الإسكان و الإقرار من قولهم: نزل في مكان كذا أي حطّ رحله فيه و أنزلته فيه أي حططت رحله فيه هذا.

و هو معنى غير معهود في كلامه تعالى مع كثرة وروده فيه، و لعلّ الباعث لهم على اختيار هذا المعنى تعديته في الآية بلفظة( في ) إذ قال:( أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) لكنّه عناية كلاميّة لوحظ فيها تعلّق السكينة بالقلوب تعلّق الاستقرار فيها كما لوحظ تعلّقها تعلّق الوقوع عليها من علوّ في قوله الآتي:( فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) الآية و قوله:( فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) الآية.

و المراد بزيادة الإيمان اشتداده فإنّ الإيمان بشي‏ء هو العلم به مع الالتزام بحيث يترتّب عليه آثاره العمليّة، و من المعلوم أنّ كلّاً من العلم و الالتزام المذكورين ممّا يشتدّ و يضعف فالإيمان الّذي هو العلم المتلبّس بالالتزام يشتدّ و يضعف..

فمعنى الآية: الله الّذي أوجد الثبات و الاطمئنان الّذي هو لازم مرتبة من مراتب الروح في قلوب المؤمنين ليشتدّ به الإيمان الّذي كان لهم قبل نزول السكينة فيصير أكمل ممّا كان قبله.

( كلام في الإيمان و ازدياده‏)

الإيمان بالشي‏ء ليس مجرّد العلم الحاصل به كما يستفاد من أمثال قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) سورة محمّد: ٢٥، و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) سورة محمّد: ٣٢، و قوله:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: ١٤، و قوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) الجاثية: ٢٣، فالآيات - كما ترى - تثبت الارتداد و الكفر و الجحود و الضلال مع العلم.

فمجرّد العلم بالشي‏ء و الجزم بكونه حقّاً لا يكفي في حصول الإيمان و اتّصاف

٢٨١

من حصل له به، بل لا بدّ من الالتزام بمقتضاه و عقد القلب على مؤدّاه بحيث يترتّب عليه آثاره العمليّة و لو في الجملة، فالّذي حصل له العلم بأنّ الله تعالى إله لا إله غيره فالتزم بمقتضاه و هو عبوديّته و عبادته وحده كان مؤمناً و لو علم به و لم يلتزم فلم يأت بشي‏ء من الأعمال المظهرة للعبوديّة كان عالماً و ليس بمؤمن.

و من هنا يظهر بطلان ما قيل: إنّ الإيمان هو مجرّد العلم و التصديق و ذلك لما مرّ أنّ العلم ربّما يجامع الكفر.

و من هنا يظهر أيضاً بطلان ما قيل: إنّ الإيمان هو العمل، و ذلك لأنّ العمل يجامع النفاق فالمنافق له عمل و ربّما كان ممّن ظهر له الحقّ ظهوراً علميّاً و لا إيمان له على أيّ حال.

و إذ كان الإيمان هو العلم بالشي‏ء مع الالتزام به بحيث يترتّب عليه آثاره العمليّة، و كلّ من العلم و الالتزام ممّا يزداد و ينقص و يشتدّ و يضعف كان الإيمان المؤلّف منهما قابلاً للزيادة و النقيصة و الشدّة و الضعف فاختلاف المراتب و تفاوت الدرجات من الضروريّات الّتي لا يشكّ فيها قطّ.

هذا ما ذهب إليه الأكثر و هو الحقّ و يدلّ عليه من النقل قوله تعالى:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) و غيره من الآيات، و ما ورد من أحاديث أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام الدالّة على أنّ الإيمان ذو مراتب.

و ذهب جمع منهم أبوحنيفة و إمام الحرمين و غيرهما إلى أنّ الإيمان لا يزيد و لا ينقص، و احتجّوا عليه بأنّ الإيمان اسم للتصديق البالغ حدّ الجزم و القطع و هو ممّا لا يتصوّر فيه الزيادة و النقصان فالمصدّق إذا ضمّ إلى تصديقه الطاعات أو ضمّ إليه المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغيّر أصلاً.

و أوّلوا ما دلّ من الآيات على قبوله الزيادة و النقصان بأنّ الإيمان عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدّد الأمثال فهو بحسب انطباقه على الزمان بأمثاله المتجدّدة يزيد و ينقص كوقوعه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلاً على التوالي من غير فترة متخلّلة و في غيره بفترات

٢٨٢

قليلة أو كثيرة فالمراد بزيادة الإيمان توالي أجزاء الإيمان من غير فترة أصلاً أو بفترات قليلة.

و أيضاً للإيمان كثرة بكثرة ما يؤمن به، و شرائع الدين لمّا كانت تنزّل تدريجاً و المؤمنون يؤمنون بما ينزّل منها و كان يزيد عدد الأحكام حيناً بعد حين كان إيمانهم أيضاً يزيد تدريجاً، و بالجملة المراد بزيادة الإيمان كثرته عدداً.

و هو بيّن الضعف، أمّا الحجّة ففيها أوّلاً: أنّ قولهم: الإيمان اسم للتصديق الجازم ممنوع بل هو اسم للتصديق الجازم الّذي معه الالتزام كما تقدّم بيانه اللّهمّ إلّا أن يكون مرادهم بالتصديق العلم مع الالتزام.

و ثانياً: أنّ قولهم: إنّ هذا التصديق لا يختلف بالزيادة و النقصان دعوى بلا دليل بل مصادرة على المطلوب و بناؤه على كون الإيمان عرضاً و بقاء الأعراض على نحو تجدّد الأمثال لا ينفعهم شيئاً فإنّ من الإيمان ما لا تحرّكه العواصف و منه ما يزول بأدنى سبب يعترض و أوهن شبهة تطرأ، و هذا ممّا لا يعلّل بتجدّد الأمثال و قلّة الفترات و كثرتها بل لا بدّ من استناده إلى قوّة الإيمان و ضعفه سواء قلنا بتجدّد الأمثال أم لا.

مضافاً إلى بطلان تجدّد الأمثال على ما بين في محلّه.

و قولهم: إنّ المصدّق إذا ضمّ إليه الطاعات أو ضمّ إليه المعاصي لم يتغيّر حاله أصلاً ممنوع فقوّة الإيمان بمزاولة الطاعات و ضعفها بارتكاب المعاصي ممّا لا ينبغي الارتياب فيه، و قوّة الأثر و ضعفه كاشفة عن قوّة مبدإ الأثر و ضعفه، قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فاطر: ١٠، و قال:( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) الروم: ١٠.

و أمّا ما ذكروه من التأويل فأوّل التأويلين يوجب كون من لم يستكمل الإيمان و هو الّذي في قلبه فترات خالية من أجزاء الإيمان على ما ذكروه مؤمناً و كافراً حقيقة و هذا ممّا لا يساعده و لا يشعر به شي‏ء من كلامه تعالى.

٢٨٣

و أمّا قوله تعالى:( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) يوسف: ١٠٦، فهو إلى الدلالة على كون الإيمان ممّا يزيد و ينقص أقرب منه إلى الدلالة على نفيه فإنّ مدلوله أنّهم مؤمنون في حال أنّهم مشركون فإيمانهم إيمان بالنسبة إلى الشرك المحض و شرك بالنسبة إلى الإيمان المحض، و هذا معنى قبول الإيمان للزيادة و النقصان.

و ثاني التأويلين يفيد أنّ الزيادة في الإيمان و كثرته إنّما هي بكثرة ما تعلّق به و هو الأحكام و الشرائع المنزلة من عندالله فهي صفة للإيمان بحال متعلّقه و السبب في اتّصافه بها هو متعلّقه، و لو كان هذه الزيادة هي المرادة من قوله:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) كان الأنسب أن تجعل زيادة الإيمان في الآية غاية لتشريع الأحكام الكثيرة و إنزالها لا لإنزال السكينة في قلوب المؤمنين هذا.

و حمل بعضهم زيادة الإيمان في الآية على زيادة أثره و هو النور المشرق منه على القلب.

و فيه أنّ زيادة الأثر و قوّته فرع زيادة المؤثّر و قوّته فلا معنى لاختصاص أحد الأمرين المتساويين من جميع الجهات بأثر يزيد على أثر الآخر.

و ذكر بعضهم أنّ الإيمان الّذي هو مدخول مع في قوله:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) الإيمان الفطريّ و الإيمان المذكور قبله هو الإيمان الاستدلاليّ، و المعنى: ليزدادوا إيماناً استدلاليّاً على إيمانهم الفطريّ.

و فيه أنّه دعوى من غير دليل يدلّ عليه. على أنّ الإيمان الفطريّ أيضاً استدلاليّ فمتعلّق العلم و الإيمان على أيّ حال أمر نظريّ لا بديهيّ.

و قال بعضهم كالإمام الرازيّ: إنّ النزاع في قبول الإيمان للزيادة و النقص و عدم قبوله نزاع لفظيّ فمراد النافين عدم قبول أصل الإيمان و هو التصديق ذلك و هو كذلك لعدم قبوله الزيادة و النقصان، و مراد المثبتين قبول ما به كمال الإيمان و هو الأعمال للزيادة و النقصان و هو كذلك بلا شكّ.

٢٨٤

و فيه أوّلاً: أنّ فيه خلطاً بين التصديق و الإيمان فالإيمان تصديق مع الالتزام و ليس مجرّد التصديق فقط كما تقدّم بيانه.

و ثانياً: أنّ نسبة نفي الزيادة في أصل الإيمان إلى المثبتين غير صحيحة فهم إنّما يثبتون الزيادة في أصل الإيمان، و يرون أنّ كلّا من العلم و الالتزام المؤلّف منهما الإيمان يقبل القوّة و الضعف.

و ثالثاً: أنّ إدخال الأعمال في محلّ النزاع غير صحيح لأنّ النزاع في شي‏ء غير النزاع في أثره الّذي به كماله و لا نزاع لأحد في أنّ الأعمال و الطاعات تقبل العدّ و تقلّ و تكثر بحسب تكرّر الواحد.

و قوله:( وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الجند هو الجمع الغليظ من الناس إذا جمعهم غرض يعملون لأجله و لذا اُطلق على العسكر المجتمعين على إجراء ما يأمر به أميرهم، و السياق يشهد أنّ المراد بجنود السماوات و الأرض الأسباب الموجودة في العالم ممّا يرى و لا يرى من الخلق فهي وسائط متخلّلة بينه تعالى و بين ما يريده من شي‏ء تطيعه و لا تعصاه.

و إيراد الجملة أعني قوله:( وَ لِلَّهِ جُنُودُ ) إلخ، بعد قوله:( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) إلخ، للدلالة على أنّ له جميع الأسباب و العلل الّتي في الوجود فله أن يبلغ إلى ما يشاء بما يشاء و لا يغلبه شي‏ء في ذلك، و قد نسبت إلى زيادة إيمان المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم.

و قوله:( وَ كانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) أي منيعاً جانبه لا يغلبه شي‏ء متقناً في فعله لا يفعل إلّا ما تقتضيه حكمته و الجملة بيان تعليليّ لقوله:( وَ لِلَّهِ جُنُودُ ) إلخ، كما أنّه بيان تعليليّ لقوله:( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) إلخ، كأنّه قيل: أنزل السكينة لكذا و له ذلك لأنّ له جميع الجنود و الأسباب لأنّه العزيز على الإطلاق و الحكيم على الإطلاق.

٢٨٥

قوله تعالى: ( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) إلى آخر الآية، تعليل آخر لقوله:( أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) على المعنى كما أنّ قوله:( لِيَزْدادُوا إِيماناً ) تعليل له بحسب اللفظ كأنّه قيل: خصّ المؤمنين بإنزال السكينة و حرّم على غيرهم ذلك ليزداد إيمان هؤلاء مع إيمانهم و حقيقة ذلك أن يدخل هؤلاء الجنّة و يعذّب اُولئك فيكون قوله:( ليدخل ) بدلاً أو عطف بيان من قوله:( لِيَزْدادُوا ) إلخ.

و في متعلّق لام( لِيُدْخِلَ ) إلخ، أقوال اُخر كالقول بتعلّقها بقوله:( فَتَحْنا ) أو قوله:( لِيَزْدادُوا ) أو بجميع ما تقدّم إلى غير ذلك ممّا لا جدوى لإيراده.

و ضمّ المؤمنات إلى المؤمنين في الآية لدفع توهّم اختصاص الجنّة و تكفير السيّئات بالذكور لوقوع الآية في سياق الكلام في الجهاد، و الجهاد و الفتح واقعان على أيديهم فصرّح باسم المؤمنات لدفع التوهّم كما قيل.

و ضمير( خالِدِينَ ) و( يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) للمؤمنين و المؤمنات جميعاً على التغليب.

و قوله:( وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً ) بيان لكون ذلك سعادة حقيقيّة لا ريب فيها لكونه عندالله كذلك و هو يقول الحقّ.

قوله تعالى: ( وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ ) إلى آخر الآية معطوف على قوله:( لِيُدْخِلَ ) بالمعنى الّذي تقدّم، و تقديم المنافقين و المنافقات على المشركين و المشركات في الآية لكونهم أضرّ على المسلمين من أهل الشرك و لأنّ عذاب أهل النفاق أشدّ قال تعالى:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) .

و قوله:( الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ ) السوء بالفتح فالسكون مصدر بمعنى القبح و السوء بالضمّ اسم مصدر، و ظنّ السوء هو ظنّهم أنّ الله لا ينصر رسوله و قيل: المراد بظنّ السوء ما يعمّ ذلك و سائر ظنونهم السيّئة من الشرك و الكفر.

و قوله:( عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ) دعاء عليهم أو قضاء عليهم أي ليستضرّوا بدائرة السوء الّتي تدور لتصيب من تصيب من الهلاك و العذاب.

٢٨٦

و قوله:( وَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ) معطوف على قوله:( عَلَيْهِمْ دائِرَةُ ) إلخ، و قوله:( وَ ساءَتْ مَصِيراً ) بيان مساءة مصيرهم، كما أنّ قوله:( وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً ) بيان لحسن مصير أهل الإيمان.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) تقدّم معناه، و الظاهر أنّه بيان تعليليّ للآيتين أعني قوله:( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ - إلى قوله -وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ) على حذو ما كان مثله فيما تقدّم بياناً تعليليّاً لقوله:( أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) إلخ.

و قيل: إنّ مضمونه متعلّق بالآية الأخيرة فهو تهديد لهم أنّهم في قبضة قدرته فينتقم منهم، و الوجه الأوّل أظهر.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) : حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان سبب نزول هذه الآية و هذا الفتح العظيم أنّ الله جلّ و عزّ أمر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم- أن يدخل المسجد الحرام و يطوف و يحلّق مع المحلّقين فأخبر أصحابه و أمرهم بالخروج فخرجوا.

فلمّا نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة و ساقوا البدن و ساق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستّة و ستّين بدنة و أحرموا من ذي الحليفة ملبيّن بالعمرة و قد ساق من ساق منهم الهدي معرّات مجلّلات.

فلمّا بلغ قريشاً بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا يستقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان يعارضه على الجبال فلمّا كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذّن بلال فصلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالناس فقال خالد بن الوليد: لو كنّا حملنا عليهم و هم في الصلاة لأصبناهم لأنّهم لا يقطعون صلاتهم و لكن تجي‏ء الآن لهم صلاة اُخرى أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم، فنزل جبرئيل

٢٨٧

على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصلاة الخوف في قوله عزّوجلّ:( وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) الآية.

قال: فلمّا كان في اليوم الثاني نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديبيّة، و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستنفر الأعراب في طريقه فلم يتّبعه أحد و يقولون: أ يطمع محمّد و أصحابه أن يدخلوا الحرم و قد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم، إنّه لا يرجع محمّد و أصحابه إلى المدينة أبداً. الحديث.

و في المجمع: قال ابن عبّاس: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج يريد مكّة فلمّا بلغ الحديبيّة وقفت ناقته فزجرها فلم تنزجر و بركت الناقة فقال أصحابه: خلأت الناقة، فقال: ما هذا لها عادة و لكن حبسها حابس الفيل.

و دعا عمر بن الخطّاب ليرسله إلى أهل مكّة ليأذنوا له بأن يدخل مكّة و يحلّ من عمرته و ينحر هديه فقال: يا رسول الله ما لي بها حميم و إنّي أخاف قريشاً لشدّة عداوتي إيّاها و لكن أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي عثمان بن عفّان فقال: صدقت.

فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عثمان فأرسله إلى أبي سفيان و أشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب و إنّما جاء زائراً لهذا البيت معظّماً لحرمته، فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمين أنّ عثمان قد قتل. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا نبرح حتّى نناجز القوم، و دعا الناس إلى البيعة فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشجرة و استند إليها و بايع الناس على أن يقاتلوا المشركين و لا يفرّوا. قال عبدالله بن مغفّل: كنت قائماً على رأس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك اليوم و بيدي غصن من السمرة أذبّ عنه و هو يبايع الناس فلم يبايعهم على الموت و إنّما بايعهم على أن لا يفرّوا.

و روى الزهري و عروة بن الزبير و المسوّر بن مخرمة قالوا: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة في بضع عشرة مائة من أصحابه حتّى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهدي و أشعره و أحرم بالعمرة و بعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش.

٢٨٨

و سار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعيّ فقال: إنّي تركت كعب بن لؤيّ و عامر بن لؤيّ قد جمعوا لك الأحابيش و جمعوا جموعاً و هم قاتلوك أو مقاتلوك و صادّوك عن البيت فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : روحوا فراحوا حتّى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين.

فسار حتّى إذا كان بالثنيّة بركت راحلته فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما خلأت القصواء و لكن حبسها حابس الفيل. ثمّ قال: و الله لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها ثمّ زجرها فوثبت به.

قال: فعدل حتّى نزل بأقصى الحديبيّة على ثمد قليل الماء إنّما يتبرّضه الناس تبرّضاً فشكوا إليه العطش فانتزع سهماً من كنانته ثمّ أمرهم أن يجعلوه في الماء فوالله ما زال يجيش لهم بالريّ حتّى صدروا عنه.

فبينا هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعيّ في نفر من خزاعة و كانوا عيبة نصح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل تهامة فقال: إنّي تركت كعب بن لؤيّ و عامر بن لؤيّ و معهم العوذ المطافيل و هم مقاتلوك و صادّوك عن البيت فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّا لم نجئ لقتال أحد- و إنّا جئنا معتمرين، و إنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب و أضرّت بهم فإن شاؤا ماددتهم مدّة و يخلّوا بيني و بين الناس، و إن شاؤا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا و إلّا فقد جمّوا و إن أبوا فوالّذي نفسي بيده لاُقاتلنّهم على أمري هذا حتّى تنفرد سالفتي أو لينفذ الله تعالى أمره، فقال بديل: ساُبلّغهم ما تقول.

فانطلق حتّى أتى قريشاً فقال: إنّا قد جئناكم من عند هذا الرجل و إنّه يقول: كذا و كذا فقام عروة بن مسعود الثقفيّ فقال: إنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها و دعوني آته فقالوا: ائته فأتاه فجعل يكلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحواً من قوله لبديل.

فقال عروة عند ذلك: أي محمّد أ رأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ و إن تكن الاُخرى فوالله إنّي لأرى وجوهاً و أرى أشاباً

٢٨٩

من الناس خلقاء أن يفرّوا و يدعوك فقال له أبوبكر: امصص بظر اللّات أ نحن نفرّ عنه و ندعه؟ فقال: من ذا؟ قال: أبوبكر. قال: أمّا و الّذي نفسي بيده لو لا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.

قال: و جعل يكلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كلّما كلّمه أخذ بلحيته و المغيرة بن شعبة قائم على رأس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و معه السيف و عليه المغفر فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب يده بنعل السيف و قال: أخّر يدك عن لحية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن لا ترجع إليك، فقال: من هذا؟ قال المغيرة بن شعبة. قال: أي غُدَر أ و لست أسعى في غدرتك.

قال: و كان المغيرة صحب قوماً في الجاهليّة فقتلهم و أخذ أموالهم. ثمّ جاء فأسلم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا الإسلام فقد قبلنا، و أمّا المال فإنّه مال غدر لا حاجة لنا فيه.

ثمّ إنّ عروة جعل يرمق أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابتدروا أمره، و إذا توضّأ ثاروا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر تعظيماً له.

قال: فرجع عروة إلى أصحابه و قال: أي قوم و الله لقد وفدت على الملوك و وفدت على قيصر و كسرى و النجاشيّ و الله إن رأيت ملكاً قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد إذا أمرهم ابتدروا أمره، و إذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر تعظيماً له، و أنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته فلمّا أشرف عليهم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا فلان و هو من قوم يعظّمون البدن فابعثوها فبعثت له و استقبله القوم يلبون فلمّا رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت.

فقام رجل يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته فلمّا أشرف عليهم قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا مكرز و هو رجل فاجر فجعل يكلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبينما

٢٩٠

هو يكلّمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد سهل عليكم أمركم فقال: اكتب بيننا و بينك كتاباً.

فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: أمّا الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟ و لكن اكتب باسمك اللّهمّ فقال المسلمون: و الله لا نكتب إلّا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب باسمك اللّهمّ هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله فقال سهيل: لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت و لا قاتلناك و لكن اكتب محمّد بن عبدالله فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لرسول الله و إن كذّبتموني ثمّ قال لعليّ امح رسول الله فقال: يا رسول الله إنّ يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوّة فأخذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمحاه.

ثمّ قال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبدالله و سهيل بن عمرو و اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهنّ الناس و يكفّ بعضهم عن بعض و على أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّاً أو معتمراً أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه و ماله، و من قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام فهو آمن على دمه و ماله، و أنّ بيننا(١) عيبة مكفوفة، و أنّه لا إسلال و لا إغلال، و أنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد و عهده دخل فيه، و من أحبّ أن يدخل في عقد قريش و عهده دخل فيه.

فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمّد و عهده، و تواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش و عهدهم.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على أن تخلّوا بيننا و بين البيت فنطوف فقال سهيل: و الله ما تتحدّث العرب أنّا اُخذنا ضغطة و لكن ذلك من العام المقبل. فكتب فقال سهيل: على أنّه لا يأتيك منّا رجل و إن كان على دينك إلّا رددته إلينا و من جاءنا ممّن معك لم نردّه عليك فقال المسلمون: سبحان الله كيف يردّ إلى المشركين و قد جاء

____________________

(١) أي يكون بيننا صدر نقي من الغل و الخداع.

٢٩١

مسلماً؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من جاءهم منّا فأبعده الله، و من جاءنا منهم رددناه إليهم- فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً.

فقال سهيل: و على أنّك ترجع عنّا عامك هذا فلا تدخل علينا مكّة فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً و لا تدخلها بالسلاح إلّا السيوف في القراب(١) و سلاح الراكب، و على أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه لا تقدّمه علينا فقال: نحن نسوق و أنتم تردّون.

فبينا هم كذلك إذ جاء أبوجندل بن سهيل بن عمرو يرسف(٢) في قيوده و قد خرج من أسفل مكّة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل: هذا يا محمّد أوّل ما اُقاضيك عليه أن تردّه فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّا لم نقض بالكتاب بعد. قال: و الله إذا لا اُصالحك على شي‏ء أبداً فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأجره لي فقال: ما أنا بمجيره لك قال: بلى فافعل، قال ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجرناه، قال أبو جندل بن سهيل: معاشر المسلمين اُردّ إلى المشركين و قد جئت مسلماً أ لا ترون ما قد لقيت؟ - و كان قد عذّب عذاباً شديداً -.

فقال عمر بن الخطّاب: و الله ما شككت مذ أسلمت إلّا يومئذ فأتيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: أ لست نبيّ الله؟ فقال: بلى. قلت: أ لسنا على الحقّ و عدوّنا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنيّة في ديننا إذاً؟ قال: إنّي رسول الله و لست أعصيه و هو ناصري قلت: أ و لست كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت و نطوف حقّاً؟ قال: بلى أ فأخبرتك أن نأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنّك تأتيه و تطوف به فنحر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدنة فدعا بحالقه فحلق شعره ثمّ جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ ) الآية.

قال محمّد بن إسحاق بن يسار: و حدّثني بريدة بن سفيان عن محمّد بن كعب: أنّ

____________________

(١) القراب: جمع قربة بمعنى الغمد.

(٢) رسف رسفا: إذا مشى مشي المقيد.

٢٩٢

كاتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الصلح كان عليّ بن أبي طالب فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب( هذا ما صالح عليه محمّد بن عبدالله سهيل بن عمرو) فجعل عليّ يتلكّأ و يأبى أن يكتب إلّا محمّد رسول الله فقال رسول الله: فإنّ لك مثلها تعطيها و أنت مضطهد، فكتب ما قالوا.

ثمّ رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة فجاءه أبوبصير رجل من قريش و هو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الّذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجاً به حتّى بلغاً ذا الحليفة فنزلاً يأكلان من تمر لهم قال أبوبصير لأحد الرجلين: و إنّي لأرى سيفك جيداً جدّاً فاستلّه فقال: أجل إنّه لجيّد و جرّبت به ثمّ جرّبت فقال أبوبصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتّى برد و فرّ الآخر حتّى بلغ المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعراً، فلمّا انتهى إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قتل و الله صاحبي و إنّي لمقتول.

قال: فجاء أبوبصير فقال: يا رسول الله قد أوفى الله ذمّتك و رددتني إليهم ثمّ أنجاني الله منهم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويل اُمّه مسعر حرب لو كان له أحد، فلمّا سمع ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم فخرج حتّى أتى سيف البحر.

و انفلت منهم أبوجندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلّا لحق بأبي بصير حتّى اجتمعت عليه عصابة. قال: فوالله لا يسمعون بعير لقريش قد خرجت إلى الشام إلّا اعترضوا لها فقتلوهم و أخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تناشده الله و الرحم لمّا أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم فأتوه.

و في تفسير القمّيّ، في حديث طويل أوردنا صدره في أوّل البحث قال: و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه - بعد ما كتب الكتاب -: انحروا بدنكم و احلقوا رؤسكم فامتنعوا و قالوا: كيف ننحر و نحلق و لم نطف بالبيت و لم نسع بين الصفا و المروة فاغتمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و شكا ذلك إلى اُمّ سلمة فقالت: يا رسول الله انحر أنت و احلق فنحر رسول الله و حلق فنحر القوم على حيث يقين و شكّ و ارتياب.

٢٩٣

أقول: و هو مرويّ في روايات اُخر من طرق الشيعة و أهل السنّة. و هذا الّذي رواه الطبرسيّ مأخوذ مع تلخيص ما عمّا رواه البخاريّ و أبوداود و النسائيّ عن مروان و المسوّر.

و في الدرّ المنثور، أخرج البيهقيّ عن عروة قال: أقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبيّة راجعاً فقال رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت و صدّ هدينا و عكف رسول الله بالحديبيّة و ردّ رجلين من المسلمين خرجاً.

فبلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول رجال من أصحابه: إنّ هذا ليس بفتح فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بئس الكلام. هذا أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم و يسألوكم القضيّة و يرغبون إليكم في الإياب و قد كرهوا منكم ما كرهوا، و قد أظفركم الله عليهم و ردّكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح.

أ نسيتم يوم اُحد إذ تصعدون و لا تلوون على أحد و أنا أدعوكم في اُخراكم؟ أ نسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤكم من فوقكم و من أسفل منكم و إذ زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر و تظنّون بالله الظنوناً؟.

قال المسلمون: صدق الله و رسوله هو أعظم الفتوح و الله يا نبيّ الله ما فكّرنا فيما فكّرت فيه و لأنت أعلم بالله و بالاُمور منّا فأنزل الله سورة الفتح.

أقول: و الأحاديث في قصّة الحديبيّة كثيرة و ما أوردناه طرف منها.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده إلى عمر بن يزيد بيّاع السابريّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام قول الله في كتابه:( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ ) قال: ما كان له ذنب و لا همّ بذنب و لكنّ الله حمله ذنوب شيعته ثمّ غفر لها.

و في العيون، في مجلس الرضا مع المأمون بإسناده إلى ابن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضاعليه‌السلام فقال المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، - إلى أن قال - قال: فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ:( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ ) .

قال الرضاعليه‌السلام : لم يكن أحد عند مشركي مكّة أعظم ذنباً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٩٤

لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة و ستّين صنماً فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم و عظم، و قالوا أ جعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشي‏ء عجاب، و انطلق الملاُ منهم أن امشوا و اصبروا على آلهتكم إنّ هذا لشي‏ء يراد ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إنّ هذا إلا اختلاق فلمّا فتح الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة قال: يا محمّد إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر عند مشركي مكّة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدّم و ما تأخّر لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم، و خرج بعضهم عن مكّة، و من بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد إذا دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم. فقال المأمون: لله درّك يا أباالحسن.

و في تفسير العيّاشيّ، عن منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) حتّى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام.

أقول: و هذا المعنى مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً، و الحديث لا يخلو من شي‏ء لأنّه مبنيّ على كون المراد بالذنب في الآية هو المعصية المنافية للعصمة.

و في الكافي، بإسناده إلى جميل قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: الإيمان قال عزّ من قائل:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) .

أقول: ظاهر الرواية أنّهعليه‌السلام أخذ قوله تعالى في الآية:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) تفسيراً للسكينة، و في معنى الرواية روايات اُخري.

و فيه، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له: أيّها العالم أخبرني أيّ الأعمال أفضل عندالله؟ قال: ما لا يقبل الله شيئاً إلّا به. قلت: و ما هو؟ قال: الإيمان بالله الّذي لا إله إلّا هو أعلى الأعمال درجة و أشرفها منزلة و أسناها حظّاً.

قال: قلت: أ لا تخبرني عن الإيمان أ قول هو و عمل أم قول بلا عمل؟ قال: الإيمان عمل كلّه و القول بعض ذلك العمل بفرض من الله بيّن في كتابه واضح نوره ثابتة

٢٩٥

حجّته يشهد له به الكتاب و يدعوه إليه. قال: قلت: صف لي جعلت فداك حتّى أفهمه قال: الإيمان حالات و درجات و صفات و منازل فمنه التامّ المنتهي تمامه و منه الناقص المبين نقصانه و منه الراجح الزائد رجحانه.

قلت: إنّ الإيمان ليتمّ و ينقص و يزيد؟ قال: نعم. قلت: كيف ذلك؟ قال: لأنّ الله تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم و قسّمه عليها و فرّقه فيها فليس من جوارحه جارحة إلّا و قد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به اُختها فمن لقي الله عزّوجلّ حافظاً لجوارحه موفياً كلّ جارحة من جوارحه ما فرض الله عزّوجلّ عليها لقي الله مستكملاً لإيمانه و هو من أهل الجنّة، و من خان في شي‏ء منها أو تعدّى ما أمر الله عزّوجلّ فيها لقي الله عزّوجلّ ناقص الإيمان.

قلت: و قد فهمت نقصان الإيمان و تمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عزّوجلّ:( وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ) و قال:( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً ) .

و لو كان كلّه واحداً لا زيادة فيه و لا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر و لاستوت النعم فيه، و لاستوى الناس و بطل التفضيل و لكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّة، و بالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عندالله، و بالنقصان دخل المفرّطون النار.

٢٩٦

( سورة الفتح الآيات ٨ - ١٠)

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٨ ) لِّتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٩ ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ  فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ  وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٠ )

( بيان‏)

فصل ثان من آيات السورة يعرّف سبحانه فيه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعريف إكبار و إعظام بأنّه أرسله شاهداً و مبشّراً و نذيراً طاعته طاعة الله و بيعته بيعة الله، و قد كان الفصل الأوّل امتناناً منه تعالى على نبيّه بالفتح و المغفرة و إتمام النعمة و الهداية و النصر و على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم و إدخال الجنّة و وعيد المشركين و المنافقين بالغضب و اللعن و النار.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) المراد بشهادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهادته على الأعمال من إيمان و كفر و عمل صالح أو طالح، و قد تكرّر في كلامه تعالى ذكر شهادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تقدّم استيفاء الكلام في معنى هذه الشهادة، و هي شهادة حمل في الدنيا، و أداء في الآخرة.

و كونه مبشّراً تبشيره لمن آمن و اتّقى بالقرب من الله و جزيل ثوابه، و كونه نذيراً إنذاره و تخويفه لمن كفر و تولّى بأليم عذابه.

قوله تعالى: ( لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) القراءة المشهورة بتاء الخطاب في الأفعال الأربعة، و قرأ ابن كثير و أبوعمرو بياء الغيبة في الجميع و قراءتهما أرجح بالنظر إلى السياق.

٢٩٧

و كيف كان فاللام في( لِتُؤْمِنُوا ) للتعليل أي أرسلناك كذا و كذا لتؤمنوا بالله و رسوله.

و التعزير - على ما قيل - النصر و التوقير التعظيم كما قال تعالى:( ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ) نوح: ١٣، و الظاهر أنّ الضمائر في( تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ ) جميعاً لله تعالى و المعنى: إنّا أرسلناك كذا و كذا ليؤمنوا بالله و رسوله و ينصروه تعالى بأيديهم و ألسنتهم و يعظّموه و يسبّحوه - و هو الصلاة - بكرة و أصيلاً أي غداة و عشيّاً.

و قيل: الضميران في( تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ ) للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( تُسَبِّحُوهُ ) لله تعالى و يوهنه لزوم اختلاف الضمائر المتّسقة.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) إلى آخر الآية. البيعة نوع من الميثاق ببذل الطاعة قال في المفردات: و بايع السلطان إذا تضمّن بذل الطاعة له بما رضخ له انتهى، و الكلمة مأخوذة من البيع بمعناه المعروف فقد كان من دأبهم أنّهم إذا أرادوا إنجاز البيع أعطى البائع يده للمشتري فكأنّهم كانوا يمثّلون بذلك نقل الملك بنقل التصرّفات الّتي يتحقّق معظمها باليد إلى المشتري بالتصفيق، و بذلك سمّي التصفيق عند بذل الطاعة بيعة و مبايعة، و حقيقة معناه إعطاء المبايع يده للسلطان مثلاً ليعمل به ما يشاء.

فقوله:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) تنزيل بيعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزلة بيعته تعالى بدعوى أنّها هي فما يواجهونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من بذل الطاعة لا يواجهون به إلّا الله سبحانه لأنّ طاعته طاعة الله ثمّ قرّره زيادة تقرير و تأكيد بقوله:( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) حيث جعل يدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يد الله كما جعل رميهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رمى نفسه في قوله:( وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللهَ رَمى) الأنفال: ١٧.

و في نسبة ما لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الشأن إلى نفسه تعالى آيات كثيرة كقوله تعالى:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) النساء: ٨٠، و قوله:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) الأنعام: ٣٣، و قوله:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ )

٢٩٨

آل عمران: ١٢٨.

و قوله:( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ ) النكث نقض العهد و البيعة، و الجملة تفريع على قوله:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) و المعنى: فإذا كان بيعتك بيعة الله فالناكث الناقض لها ناقض لبيعة الله و لا يتضرّر بذلك إلّا نفسه كما لا ينتفع بالإيفاء إلّا نفسه لأنّ الله غنيّ عن العالمين.

و قوله:( وَ مَنْ أَوْفى‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) وعد جميل على حفظ العهد و الإيفاء به.

و الآية لا تخلو من إيماء إلى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عند البيعة يضع يده على أيديهم فكانت يده على أيديهم لا بالعكس.

و للمفسّرين في قوله:( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) أقوال اُخر.

فقيل: إنّه من الاستعارة التخييليّة و الاستعارة بالكناية جي‏ء به لتأكيد ما تقدّمه و تقرير أنّ مبايعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمبايعة الله من غير تفاوت فخيّل أنّه سبحانه كأحد المبايعين من الناس فاُثبتت له يد تقع فوق أيدي المبايعين للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكان يد الرسول و فيه أنّه غير مناسب لساحة قدسه تعالى أن يخيّل على وجه هو منزّه عنه.

و قيل: المراد باليد القوّة و النصرة أي قوّة الله و نصرته فوق قوّتهم و نصرتهم أي ثق بنصرة الله لا بنصرتهم.

و فيه أنّ المقام مقام إعظام بيعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنّ مبايعتهم له مبايعة لله، و الوثوق بالله و نصرته و إن كان حسناً في كلّ حال لكنّه أجنبيّ عن المقام.

و قيل: المراد باليد العطيّة و النعمة أي نعمة الله عليهم بالثواب أو بتوفيقهم لمبايعتك فوق نعمتهم عليك بالمبايعة، و قيل: نعمته عليهم بالهداية أعظم من نعمتهم عليك بالطاعة إلى غير ذلك من الوجوه الّتي أوردوها و لا طائل تحتها.

٢٩٩

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن عديّ و ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبدالله قال: لمّا نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية( وَ تُعَزِّرُوهُ ) قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه: ما ذاك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: لتنصروه.

و في العيون، بإسناده عن عبدالسلام بن صالح الهرويّ قال: قلت لعليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام : يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الّذي يرويه أهل الحديث: أنّ المؤمنين يزورون ربّهم من منازلهم في الجنّة؟ فقال: يا أبا الصلت إنّ الله تعالى فضّل نبيّه محمّداً على جميع خلقه من النبيّين و الملائكة، و جعل طاعته طاعته، و مبايعته مبايعته، و زيارته في الدنيا و الآخرة زيارته، فقال عزّوجلّ:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) و قال:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) و قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله.

و درجته في الجنّة أعلى الدرجات، و من زاره في درجته في الجنّة من منزله فقد زار الله تبارك و تعالى.

و في إرشاد المفيد، في حديث بيعة الرضاعليه‌السلام قال: و جلس المأمون و وضع للرضاعليه‌السلام وسادتين عظيمتين حتّى لحق بمجلسه و فرشه، و أجلس الرضاعليه‌السلام في الحضرة و عليه عمامة و سيف. ثمّ أمر ابنه العبّاس بن المأمون أن يبايع له في أوّل الناس فرفع الرضاعليه‌السلام يده فتلقّى بها وجهه و ببطنها وجوههم- فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة فقال الرضاعليه‌السلام : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا كان يبايع فبايعه الناس و يده فوق أيديهم.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429