الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 114966
تحميل: 5403


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114966 / تحميل: 5403
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و الإيجاد بالإنزال للإشارة إلى علوّ مبدئه.

و قيل: المراد بالإنزال الإسكان و الإقرار من قولهم: نزل في مكان كذا أي حطّ رحله فيه و أنزلته فيه أي حططت رحله فيه هذا.

و هو معنى غير معهود في كلامه تعالى مع كثرة وروده فيه، و لعلّ الباعث لهم على اختيار هذا المعنى تعديته في الآية بلفظة( في ) إذ قال:( أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) لكنّه عناية كلاميّة لوحظ فيها تعلّق السكينة بالقلوب تعلّق الاستقرار فيها كما لوحظ تعلّقها تعلّق الوقوع عليها من علوّ في قوله الآتي:( فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) الآية و قوله:( فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) الآية.

و المراد بزيادة الإيمان اشتداده فإنّ الإيمان بشي‏ء هو العلم به مع الالتزام بحيث يترتّب عليه آثاره العمليّة، و من المعلوم أنّ كلّاً من العلم و الالتزام المذكورين ممّا يشتدّ و يضعف فالإيمان الّذي هو العلم المتلبّس بالالتزام يشتدّ و يضعف..

فمعنى الآية: الله الّذي أوجد الثبات و الاطمئنان الّذي هو لازم مرتبة من مراتب الروح في قلوب المؤمنين ليشتدّ به الإيمان الّذي كان لهم قبل نزول السكينة فيصير أكمل ممّا كان قبله.

( كلام في الإيمان و ازدياده‏)

الإيمان بالشي‏ء ليس مجرّد العلم الحاصل به كما يستفاد من أمثال قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ) سورة محمّد: 25، و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) سورة محمّد: 32، و قوله:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: 14، و قوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) الجاثية: 23، فالآيات - كما ترى - تثبت الارتداد و الكفر و الجحود و الضلال مع العلم.

فمجرّد العلم بالشي‏ء و الجزم بكونه حقّاً لا يكفي في حصول الإيمان و اتّصاف

٢٨١

من حصل له به، بل لا بدّ من الالتزام بمقتضاه و عقد القلب على مؤدّاه بحيث يترتّب عليه آثاره العمليّة و لو في الجملة، فالّذي حصل له العلم بأنّ الله تعالى إله لا إله غيره فالتزم بمقتضاه و هو عبوديّته و عبادته وحده كان مؤمناً و لو علم به و لم يلتزم فلم يأت بشي‏ء من الأعمال المظهرة للعبوديّة كان عالماً و ليس بمؤمن.

و من هنا يظهر بطلان ما قيل: إنّ الإيمان هو مجرّد العلم و التصديق و ذلك لما مرّ أنّ العلم ربّما يجامع الكفر.

و من هنا يظهر أيضاً بطلان ما قيل: إنّ الإيمان هو العمل، و ذلك لأنّ العمل يجامع النفاق فالمنافق له عمل و ربّما كان ممّن ظهر له الحقّ ظهوراً علميّاً و لا إيمان له على أيّ حال.

و إذ كان الإيمان هو العلم بالشي‏ء مع الالتزام به بحيث يترتّب عليه آثاره العمليّة، و كلّ من العلم و الالتزام ممّا يزداد و ينقص و يشتدّ و يضعف كان الإيمان المؤلّف منهما قابلاً للزيادة و النقيصة و الشدّة و الضعف فاختلاف المراتب و تفاوت الدرجات من الضروريّات الّتي لا يشكّ فيها قطّ.

هذا ما ذهب إليه الأكثر و هو الحقّ و يدلّ عليه من النقل قوله تعالى:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) و غيره من الآيات، و ما ورد من أحاديث أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام الدالّة على أنّ الإيمان ذو مراتب.

و ذهب جمع منهم أبوحنيفة و إمام الحرمين و غيرهما إلى أنّ الإيمان لا يزيد و لا ينقص، و احتجّوا عليه بأنّ الإيمان اسم للتصديق البالغ حدّ الجزم و القطع و هو ممّا لا يتصوّر فيه الزيادة و النقصان فالمصدّق إذا ضمّ إلى تصديقه الطاعات أو ضمّ إليه المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغيّر أصلاً.

و أوّلوا ما دلّ من الآيات على قبوله الزيادة و النقصان بأنّ الإيمان عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدّد الأمثال فهو بحسب انطباقه على الزمان بأمثاله المتجدّدة يزيد و ينقص كوقوعه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلاً على التوالي من غير فترة متخلّلة و في غيره بفترات

٢٨٢

قليلة أو كثيرة فالمراد بزيادة الإيمان توالي أجزاء الإيمان من غير فترة أصلاً أو بفترات قليلة.

و أيضاً للإيمان كثرة بكثرة ما يؤمن به، و شرائع الدين لمّا كانت تنزّل تدريجاً و المؤمنون يؤمنون بما ينزّل منها و كان يزيد عدد الأحكام حيناً بعد حين كان إيمانهم أيضاً يزيد تدريجاً، و بالجملة المراد بزيادة الإيمان كثرته عدداً.

و هو بيّن الضعف، أمّا الحجّة ففيها أوّلاً: أنّ قولهم: الإيمان اسم للتصديق الجازم ممنوع بل هو اسم للتصديق الجازم الّذي معه الالتزام كما تقدّم بيانه اللّهمّ إلّا أن يكون مرادهم بالتصديق العلم مع الالتزام.

و ثانياً: أنّ قولهم: إنّ هذا التصديق لا يختلف بالزيادة و النقصان دعوى بلا دليل بل مصادرة على المطلوب و بناؤه على كون الإيمان عرضاً و بقاء الأعراض على نحو تجدّد الأمثال لا ينفعهم شيئاً فإنّ من الإيمان ما لا تحرّكه العواصف و منه ما يزول بأدنى سبب يعترض و أوهن شبهة تطرأ، و هذا ممّا لا يعلّل بتجدّد الأمثال و قلّة الفترات و كثرتها بل لا بدّ من استناده إلى قوّة الإيمان و ضعفه سواء قلنا بتجدّد الأمثال أم لا.

مضافاً إلى بطلان تجدّد الأمثال على ما بين في محلّه.

و قولهم: إنّ المصدّق إذا ضمّ إليه الطاعات أو ضمّ إليه المعاصي لم يتغيّر حاله أصلاً ممنوع فقوّة الإيمان بمزاولة الطاعات و ضعفها بارتكاب المعاصي ممّا لا ينبغي الارتياب فيه، و قوّة الأثر و ضعفه كاشفة عن قوّة مبدإ الأثر و ضعفه، قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) فاطر: 10، و قال:( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) الروم: 10.

و أمّا ما ذكروه من التأويل فأوّل التأويلين يوجب كون من لم يستكمل الإيمان و هو الّذي في قلبه فترات خالية من أجزاء الإيمان على ما ذكروه مؤمناً و كافراً حقيقة و هذا ممّا لا يساعده و لا يشعر به شي‏ء من كلامه تعالى.

٢٨٣

و أمّا قوله تعالى:( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) يوسف: 106، فهو إلى الدلالة على كون الإيمان ممّا يزيد و ينقص أقرب منه إلى الدلالة على نفيه فإنّ مدلوله أنّهم مؤمنون في حال أنّهم مشركون فإيمانهم إيمان بالنسبة إلى الشرك المحض و شرك بالنسبة إلى الإيمان المحض، و هذا معنى قبول الإيمان للزيادة و النقصان.

و ثاني التأويلين يفيد أنّ الزيادة في الإيمان و كثرته إنّما هي بكثرة ما تعلّق به و هو الأحكام و الشرائع المنزلة من عندالله فهي صفة للإيمان بحال متعلّقه و السبب في اتّصافه بها هو متعلّقه، و لو كان هذه الزيادة هي المرادة من قوله:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) كان الأنسب أن تجعل زيادة الإيمان في الآية غاية لتشريع الأحكام الكثيرة و إنزالها لا لإنزال السكينة في قلوب المؤمنين هذا.

و حمل بعضهم زيادة الإيمان في الآية على زيادة أثره و هو النور المشرق منه على القلب.

و فيه أنّ زيادة الأثر و قوّته فرع زيادة المؤثّر و قوّته فلا معنى لاختصاص أحد الأمرين المتساويين من جميع الجهات بأثر يزيد على أثر الآخر.

و ذكر بعضهم أنّ الإيمان الّذي هو مدخول مع في قوله:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) الإيمان الفطريّ و الإيمان المذكور قبله هو الإيمان الاستدلاليّ، و المعنى: ليزدادوا إيماناً استدلاليّاً على إيمانهم الفطريّ.

و فيه أنّه دعوى من غير دليل يدلّ عليه. على أنّ الإيمان الفطريّ أيضاً استدلاليّ فمتعلّق العلم و الإيمان على أيّ حال أمر نظريّ لا بديهيّ.

و قال بعضهم كالإمام الرازيّ: إنّ النزاع في قبول الإيمان للزيادة و النقص و عدم قبوله نزاع لفظيّ فمراد النافين عدم قبول أصل الإيمان و هو التصديق ذلك و هو كذلك لعدم قبوله الزيادة و النقصان، و مراد المثبتين قبول ما به كمال الإيمان و هو الأعمال للزيادة و النقصان و هو كذلك بلا شكّ.

٢٨٤

و فيه أوّلاً: أنّ فيه خلطاً بين التصديق و الإيمان فالإيمان تصديق مع الالتزام و ليس مجرّد التصديق فقط كما تقدّم بيانه.

و ثانياً: أنّ نسبة نفي الزيادة في أصل الإيمان إلى المثبتين غير صحيحة فهم إنّما يثبتون الزيادة في أصل الإيمان، و يرون أنّ كلّا من العلم و الالتزام المؤلّف منهما الإيمان يقبل القوّة و الضعف.

و ثالثاً: أنّ إدخال الأعمال في محلّ النزاع غير صحيح لأنّ النزاع في شي‏ء غير النزاع في أثره الّذي به كماله و لا نزاع لأحد في أنّ الأعمال و الطاعات تقبل العدّ و تقلّ و تكثر بحسب تكرّر الواحد.

و قوله:( وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الجند هو الجمع الغليظ من الناس إذا جمعهم غرض يعملون لأجله و لذا اُطلق على العسكر المجتمعين على إجراء ما يأمر به أميرهم، و السياق يشهد أنّ المراد بجنود السماوات و الأرض الأسباب الموجودة في العالم ممّا يرى و لا يرى من الخلق فهي وسائط متخلّلة بينه تعالى و بين ما يريده من شي‏ء تطيعه و لا تعصاه.

و إيراد الجملة أعني قوله:( وَ لِلَّهِ جُنُودُ ) إلخ، بعد قوله:( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) إلخ، للدلالة على أنّ له جميع الأسباب و العلل الّتي في الوجود فله أن يبلغ إلى ما يشاء بما يشاء و لا يغلبه شي‏ء في ذلك، و قد نسبت إلى زيادة إيمان المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم.

و قوله:( وَ كانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) أي منيعاً جانبه لا يغلبه شي‏ء متقناً في فعله لا يفعل إلّا ما تقتضيه حكمته و الجملة بيان تعليليّ لقوله:( وَ لِلَّهِ جُنُودُ ) إلخ، كما أنّه بيان تعليليّ لقوله:( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) إلخ، كأنّه قيل: أنزل السكينة لكذا و له ذلك لأنّ له جميع الجنود و الأسباب لأنّه العزيز على الإطلاق و الحكيم على الإطلاق.

٢٨٥

قوله تعالى: ( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) إلى آخر الآية، تعليل آخر لقوله:( أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) على المعنى كما أنّ قوله:( لِيَزْدادُوا إِيماناً ) تعليل له بحسب اللفظ كأنّه قيل: خصّ المؤمنين بإنزال السكينة و حرّم على غيرهم ذلك ليزداد إيمان هؤلاء مع إيمانهم و حقيقة ذلك أن يدخل هؤلاء الجنّة و يعذّب اُولئك فيكون قوله:( ليدخل ) بدلاً أو عطف بيان من قوله:( لِيَزْدادُوا ) إلخ.

و في متعلّق لام( لِيُدْخِلَ ) إلخ، أقوال اُخر كالقول بتعلّقها بقوله:( فَتَحْنا ) أو قوله:( لِيَزْدادُوا ) أو بجميع ما تقدّم إلى غير ذلك ممّا لا جدوى لإيراده.

و ضمّ المؤمنات إلى المؤمنين في الآية لدفع توهّم اختصاص الجنّة و تكفير السيّئات بالذكور لوقوع الآية في سياق الكلام في الجهاد، و الجهاد و الفتح واقعان على أيديهم فصرّح باسم المؤمنات لدفع التوهّم كما قيل.

و ضمير( خالِدِينَ ) و( يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) للمؤمنين و المؤمنات جميعاً على التغليب.

و قوله:( وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً ) بيان لكون ذلك سعادة حقيقيّة لا ريب فيها لكونه عندالله كذلك و هو يقول الحقّ.

قوله تعالى: ( وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ ) إلى آخر الآية معطوف على قوله:( لِيُدْخِلَ ) بالمعنى الّذي تقدّم، و تقديم المنافقين و المنافقات على المشركين و المشركات في الآية لكونهم أضرّ على المسلمين من أهل الشرك و لأنّ عذاب أهل النفاق أشدّ قال تعالى:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) .

و قوله:( الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ ) السوء بالفتح فالسكون مصدر بمعنى القبح و السوء بالضمّ اسم مصدر، و ظنّ السوء هو ظنّهم أنّ الله لا ينصر رسوله و قيل: المراد بظنّ السوء ما يعمّ ذلك و سائر ظنونهم السيّئة من الشرك و الكفر.

و قوله:( عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ) دعاء عليهم أو قضاء عليهم أي ليستضرّوا بدائرة السوء الّتي تدور لتصيب من تصيب من الهلاك و العذاب.

٢٨٦

و قوله:( وَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ) معطوف على قوله:( عَلَيْهِمْ دائِرَةُ ) إلخ، و قوله:( وَ ساءَتْ مَصِيراً ) بيان مساءة مصيرهم، كما أنّ قوله:( وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً ) بيان لحسن مصير أهل الإيمان.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) تقدّم معناه، و الظاهر أنّه بيان تعليليّ للآيتين أعني قوله:( لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ - إلى قوله -وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ) على حذو ما كان مثله فيما تقدّم بياناً تعليليّاً لقوله:( أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) إلخ.

و قيل: إنّ مضمونه متعلّق بالآية الأخيرة فهو تهديد لهم أنّهم في قبضة قدرته فينتقم منهم، و الوجه الأوّل أظهر.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) : حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان سبب نزول هذه الآية و هذا الفتح العظيم أنّ الله جلّ و عزّ أمر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم- أن يدخل المسجد الحرام و يطوف و يحلّق مع المحلّقين فأخبر أصحابه و أمرهم بالخروج فخرجوا.

فلمّا نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة و ساقوا البدن و ساق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستّة و ستّين بدنة و أحرموا من ذي الحليفة ملبيّن بالعمرة و قد ساق من ساق منهم الهدي معرّات مجلّلات.

فلمّا بلغ قريشاً بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا يستقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان يعارضه على الجبال فلمّا كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر فأذّن بلال فصلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالناس فقال خالد بن الوليد: لو كنّا حملنا عليهم و هم في الصلاة لأصبناهم لأنّهم لا يقطعون صلاتهم و لكن تجي‏ء الآن لهم صلاة اُخرى أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم، فنزل جبرئيل

٢٨٧

على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصلاة الخوف في قوله عزّوجلّ:( وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) الآية.

قال: فلمّا كان في اليوم الثاني نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديبيّة، و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستنفر الأعراب في طريقه فلم يتّبعه أحد و يقولون: أ يطمع محمّد و أصحابه أن يدخلوا الحرم و قد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم، إنّه لا يرجع محمّد و أصحابه إلى المدينة أبداً. الحديث.

و في المجمع: قال ابن عبّاس: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج يريد مكّة فلمّا بلغ الحديبيّة وقفت ناقته فزجرها فلم تنزجر و بركت الناقة فقال أصحابه: خلأت الناقة، فقال: ما هذا لها عادة و لكن حبسها حابس الفيل.

و دعا عمر بن الخطّاب ليرسله إلى أهل مكّة ليأذنوا له بأن يدخل مكّة و يحلّ من عمرته و ينحر هديه فقال: يا رسول الله ما لي بها حميم و إنّي أخاف قريشاً لشدّة عداوتي إيّاها و لكن أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي عثمان بن عفّان فقال: صدقت.

فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عثمان فأرسله إلى أبي سفيان و أشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب و إنّما جاء زائراً لهذا البيت معظّماً لحرمته، فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمين أنّ عثمان قد قتل. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا نبرح حتّى نناجز القوم، و دعا الناس إلى البيعة فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشجرة و استند إليها و بايع الناس على أن يقاتلوا المشركين و لا يفرّوا. قال عبدالله بن مغفّل: كنت قائماً على رأس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك اليوم و بيدي غصن من السمرة أذبّ عنه و هو يبايع الناس فلم يبايعهم على الموت و إنّما بايعهم على أن لا يفرّوا.

و روى الزهري و عروة بن الزبير و المسوّر بن مخرمة قالوا: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة في بضع عشرة مائة من أصحابه حتّى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهدي و أشعره و أحرم بالعمرة و بعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش.

٢٨٨

و سار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى إذا كان بغدير الأشطاط قريباً من عسفان أتاه عينه الخزاعيّ فقال: إنّي تركت كعب بن لؤيّ و عامر بن لؤيّ قد جمعوا لك الأحابيش و جمعوا جموعاً و هم قاتلوك أو مقاتلوك و صادّوك عن البيت فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : روحوا فراحوا حتّى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين.

فسار حتّى إذا كان بالثنيّة بركت راحلته فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما خلأت القصواء و لكن حبسها حابس الفيل. ثمّ قال: و الله لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها ثمّ زجرها فوثبت به.

قال: فعدل حتّى نزل بأقصى الحديبيّة على ثمد قليل الماء إنّما يتبرّضه الناس تبرّضاً فشكوا إليه العطش فانتزع سهماً من كنانته ثمّ أمرهم أن يجعلوه في الماء فوالله ما زال يجيش لهم بالريّ حتّى صدروا عنه.

فبينا هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعيّ في نفر من خزاعة و كانوا عيبة نصح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل تهامة فقال: إنّي تركت كعب بن لؤيّ و عامر بن لؤيّ و معهم العوذ المطافيل و هم مقاتلوك و صادّوك عن البيت فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّا لم نجئ لقتال أحد- و إنّا جئنا معتمرين، و إنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب و أضرّت بهم فإن شاؤا ماددتهم مدّة و يخلّوا بيني و بين الناس، و إن شاؤا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا و إلّا فقد جمّوا و إن أبوا فوالّذي نفسي بيده لاُقاتلنّهم على أمري هذا حتّى تنفرد سالفتي أو لينفذ الله تعالى أمره، فقال بديل: ساُبلّغهم ما تقول.

فانطلق حتّى أتى قريشاً فقال: إنّا قد جئناكم من عند هذا الرجل و إنّه يقول: كذا و كذا فقام عروة بن مسعود الثقفيّ فقال: إنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها و دعوني آته فقالوا: ائته فأتاه فجعل يكلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحواً من قوله لبديل.

فقال عروة عند ذلك: أي محمّد أ رأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ و إن تكن الاُخرى فوالله إنّي لأرى وجوهاً و أرى أشاباً

٢٨٩

من الناس خلقاء أن يفرّوا و يدعوك فقال له أبوبكر: امصص بظر اللّات أ نحن نفرّ عنه و ندعه؟ فقال: من ذا؟ قال: أبوبكر. قال: أمّا و الّذي نفسي بيده لو لا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.

قال: و جعل يكلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كلّما كلّمه أخذ بلحيته و المغيرة بن شعبة قائم على رأس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و معه السيف و عليه المغفر فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب يده بنعل السيف و قال: أخّر يدك عن لحية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن لا ترجع إليك، فقال: من هذا؟ قال المغيرة بن شعبة. قال: أي غُدَر أ و لست أسعى في غدرتك.

قال: و كان المغيرة صحب قوماً في الجاهليّة فقتلهم و أخذ أموالهم. ثمّ جاء فأسلم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا الإسلام فقد قبلنا، و أمّا المال فإنّه مال غدر لا حاجة لنا فيه.

ثمّ إنّ عروة جعل يرمق أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابتدروا أمره، و إذا توضّأ ثاروا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر تعظيماً له.

قال: فرجع عروة إلى أصحابه و قال: أي قوم و الله لقد وفدت على الملوك و وفدت على قيصر و كسرى و النجاشيّ و الله إن رأيت ملكاً قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد إذا أمرهم ابتدروا أمره، و إذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر تعظيماً له، و أنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فقالوا: ائته فلمّا أشرف عليهم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا فلان و هو من قوم يعظّمون البدن فابعثوها فبعثت له و استقبله القوم يلبون فلمّا رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت.

فقام رجل يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته فقالوا: ائته فلمّا أشرف عليهم قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا مكرز و هو رجل فاجر فجعل يكلّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبينما

٢٩٠

هو يكلّمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد سهل عليكم أمركم فقال: اكتب بيننا و بينك كتاباً.

فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: أمّا الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟ و لكن اكتب باسمك اللّهمّ فقال المسلمون: و الله لا نكتب إلّا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب باسمك اللّهمّ هذا ما قاضى عليه محمّد رسول الله فقال سهيل: لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت و لا قاتلناك و لكن اكتب محمّد بن عبدالله فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لرسول الله و إن كذّبتموني ثمّ قال لعليّ امح رسول الله فقال: يا رسول الله إنّ يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوّة فأخذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمحاه.

ثمّ قال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبدالله و سهيل بن عمرو و اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهنّ الناس و يكفّ بعضهم عن بعض و على أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّاً أو معتمراً أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه و ماله، و من قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام فهو آمن على دمه و ماله، و أنّ بيننا(1) عيبة مكفوفة، و أنّه لا إسلال و لا إغلال، و أنّه من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد و عهده دخل فيه، و من أحبّ أن يدخل في عقد قريش و عهده دخل فيه.

فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمّد و عهده، و تواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش و عهدهم.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على أن تخلّوا بيننا و بين البيت فنطوف فقال سهيل: و الله ما تتحدّث العرب أنّا اُخذنا ضغطة و لكن ذلك من العام المقبل. فكتب فقال سهيل: على أنّه لا يأتيك منّا رجل و إن كان على دينك إلّا رددته إلينا و من جاءنا ممّن معك لم نردّه عليك فقال المسلمون: سبحان الله كيف يردّ إلى المشركين و قد جاء

____________________

(1) أي يكون بيننا صدر نقي من الغل و الخداع.

٢٩١

مسلماً؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من جاءهم منّا فأبعده الله، و من جاءنا منهم رددناه إليهم- فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً.

فقال سهيل: و على أنّك ترجع عنّا عامك هذا فلا تدخل علينا مكّة فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثاً و لا تدخلها بالسلاح إلّا السيوف في القراب(1) و سلاح الراكب، و على أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه لا تقدّمه علينا فقال: نحن نسوق و أنتم تردّون.

فبينا هم كذلك إذ جاء أبوجندل بن سهيل بن عمرو يرسف(2) في قيوده و قد خرج من أسفل مكّة حتّى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل: هذا يا محمّد أوّل ما اُقاضيك عليه أن تردّه فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّا لم نقض بالكتاب بعد. قال: و الله إذا لا اُصالحك على شي‏ء أبداً فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأجره لي فقال: ما أنا بمجيره لك قال: بلى فافعل، قال ما أنا بفاعل. قال مكرز: بلى قد أجرناه، قال أبو جندل بن سهيل: معاشر المسلمين اُردّ إلى المشركين و قد جئت مسلماً أ لا ترون ما قد لقيت؟ - و كان قد عذّب عذاباً شديداً -.

فقال عمر بن الخطّاب: و الله ما شككت مذ أسلمت إلّا يومئذ فأتيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: أ لست نبيّ الله؟ فقال: بلى. قلت: أ لسنا على الحقّ و عدوّنا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنيّة في ديننا إذاً؟ قال: إنّي رسول الله و لست أعصيه و هو ناصري قلت: أ و لست كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت و نطوف حقّاً؟ قال: بلى أ فأخبرتك أن نأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنّك تأتيه و تطوف به فنحر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدنة فدعا بحالقه فحلق شعره ثمّ جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ ) الآية.

قال محمّد بن إسحاق بن يسار: و حدّثني بريدة بن سفيان عن محمّد بن كعب: أنّ

____________________

(1) القراب: جمع قربة بمعنى الغمد.

(2) رسف رسفا: إذا مشى مشي المقيد.

٢٩٢

كاتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الصلح كان عليّ بن أبي طالب فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب( هذا ما صالح عليه محمّد بن عبدالله سهيل بن عمرو) فجعل عليّ يتلكّأ و يأبى أن يكتب إلّا محمّد رسول الله فقال رسول الله: فإنّ لك مثلها تعطيها و أنت مضطهد، فكتب ما قالوا.

ثمّ رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة فجاءه أبوبصير رجل من قريش و هو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الّذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجاً به حتّى بلغاً ذا الحليفة فنزلاً يأكلان من تمر لهم قال أبوبصير لأحد الرجلين: و إنّي لأرى سيفك جيداً جدّاً فاستلّه فقال: أجل إنّه لجيّد و جرّبت به ثمّ جرّبت فقال أبوبصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه به حتّى برد و فرّ الآخر حتّى بلغ المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعراً، فلمّا انتهى إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قتل و الله صاحبي و إنّي لمقتول.

قال: فجاء أبوبصير فقال: يا رسول الله قد أوفى الله ذمّتك و رددتني إليهم ثمّ أنجاني الله منهم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ويل اُمّه مسعر حرب لو كان له أحد، فلمّا سمع ذلك عرف أنّه سيردّه إليهم فخرج حتّى أتى سيف البحر.

و انفلت منهم أبوجندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلّا لحق بأبي بصير حتّى اجتمعت عليه عصابة. قال: فوالله لا يسمعون بعير لقريش قد خرجت إلى الشام إلّا اعترضوا لها فقتلوهم و أخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تناشده الله و الرحم لمّا أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم فأتوه.

و في تفسير القمّيّ، في حديث طويل أوردنا صدره في أوّل البحث قال: و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه - بعد ما كتب الكتاب -: انحروا بدنكم و احلقوا رؤسكم فامتنعوا و قالوا: كيف ننحر و نحلق و لم نطف بالبيت و لم نسع بين الصفا و المروة فاغتمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و شكا ذلك إلى اُمّ سلمة فقالت: يا رسول الله انحر أنت و احلق فنحر رسول الله و حلق فنحر القوم على حيث يقين و شكّ و ارتياب.

٢٩٣

أقول: و هو مرويّ في روايات اُخر من طرق الشيعة و أهل السنّة. و هذا الّذي رواه الطبرسيّ مأخوذ مع تلخيص ما عمّا رواه البخاريّ و أبوداود و النسائيّ عن مروان و المسوّر.

و في الدرّ المنثور، أخرج البيهقيّ عن عروة قال: أقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبيّة راجعاً فقال رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت و صدّ هدينا و عكف رسول الله بالحديبيّة و ردّ رجلين من المسلمين خرجاً.

فبلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول رجال من أصحابه: إنّ هذا ليس بفتح فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بئس الكلام. هذا أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم و يسألوكم القضيّة و يرغبون إليكم في الإياب و قد كرهوا منكم ما كرهوا، و قد أظفركم الله عليهم و ردّكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح.

أ نسيتم يوم اُحد إذ تصعدون و لا تلوون على أحد و أنا أدعوكم في اُخراكم؟ أ نسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤكم من فوقكم و من أسفل منكم و إذ زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر و تظنّون بالله الظنوناً؟.

قال المسلمون: صدق الله و رسوله هو أعظم الفتوح و الله يا نبيّ الله ما فكّرنا فيما فكّرت فيه و لأنت أعلم بالله و بالاُمور منّا فأنزل الله سورة الفتح.

أقول: و الأحاديث في قصّة الحديبيّة كثيرة و ما أوردناه طرف منها.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده إلى عمر بن يزيد بيّاع السابريّ قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام قول الله في كتابه:( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ ) قال: ما كان له ذنب و لا همّ بذنب و لكنّ الله حمله ذنوب شيعته ثمّ غفر لها.

و في العيون، في مجلس الرضا مع المأمون بإسناده إلى ابن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضاعليه‌السلام فقال المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، - إلى أن قال - قال: فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ:( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ ) .

قال الرضاعليه‌السلام : لم يكن أحد عند مشركي مكّة أعظم ذنباً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٩٤

لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة و ستّين صنماً فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم و عظم، و قالوا أ جعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشي‏ء عجاب، و انطلق الملاُ منهم أن امشوا و اصبروا على آلهتكم إنّ هذا لشي‏ء يراد ما سمعنا بهذا في الملّة الآخرة إنّ هذا إلا اختلاق فلمّا فتح الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة قال: يا محمّد إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر عند مشركي مكّة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدّم و ما تأخّر لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم، و خرج بعضهم عن مكّة، و من بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد إذا دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم. فقال المأمون: لله درّك يا أباالحسن.

و في تفسير العيّاشيّ، عن منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) حتّى نزلت سورة الفتح فلم يعد إلى ذلك الكلام.

أقول: و هذا المعنى مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً، و الحديث لا يخلو من شي‏ء لأنّه مبنيّ على كون المراد بالذنب في الآية هو المعصية المنافية للعصمة.

و في الكافي، بإسناده إلى جميل قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: الإيمان قال عزّ من قائل:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) .

أقول: ظاهر الرواية أنّهعليه‌السلام أخذ قوله تعالى في الآية:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) تفسيراً للسكينة، و في معنى الرواية روايات اُخري.

و فيه، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له: أيّها العالم أخبرني أيّ الأعمال أفضل عندالله؟ قال: ما لا يقبل الله شيئاً إلّا به. قلت: و ما هو؟ قال: الإيمان بالله الّذي لا إله إلّا هو أعلى الأعمال درجة و أشرفها منزلة و أسناها حظّاً.

قال: قلت: أ لا تخبرني عن الإيمان أ قول هو و عمل أم قول بلا عمل؟ قال: الإيمان عمل كلّه و القول بعض ذلك العمل بفرض من الله بيّن في كتابه واضح نوره ثابتة

٢٩٥

حجّته يشهد له به الكتاب و يدعوه إليه. قال: قلت: صف لي جعلت فداك حتّى أفهمه قال: الإيمان حالات و درجات و صفات و منازل فمنه التامّ المنتهي تمامه و منه الناقص المبين نقصانه و منه الراجح الزائد رجحانه.

قلت: إنّ الإيمان ليتمّ و ينقص و يزيد؟ قال: نعم. قلت: كيف ذلك؟ قال: لأنّ الله تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم و قسّمه عليها و فرّقه فيها فليس من جوارحه جارحة إلّا و قد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به اُختها فمن لقي الله عزّوجلّ حافظاً لجوارحه موفياً كلّ جارحة من جوارحه ما فرض الله عزّوجلّ عليها لقي الله مستكملاً لإيمانه و هو من أهل الجنّة، و من خان في شي‏ء منها أو تعدّى ما أمر الله عزّوجلّ فيها لقي الله عزّوجلّ ناقص الإيمان.

قلت: و قد فهمت نقصان الإيمان و تمامه فمن أين جاءت زيادته؟ فقال: قول الله عزّوجلّ:( وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ) و قال:( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً ) .

و لو كان كلّه واحداً لا زيادة فيه و لا نقصان لم يكن لأحد منهم فضل على الآخر و لاستوت النعم فيه، و لاستوى الناس و بطل التفضيل و لكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنّة، و بالزيادة في الإيمان تفاضل المؤمنون بالدرجات عندالله، و بالنقصان دخل المفرّطون النار.

٢٩٦

( سورة الفتح الآيات 8 - 10)

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( 8 ) لِّتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( 9 ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ  فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ  وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( 10 )

( بيان‏)

فصل ثان من آيات السورة يعرّف سبحانه فيه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعريف إكبار و إعظام بأنّه أرسله شاهداً و مبشّراً و نذيراً طاعته طاعة الله و بيعته بيعة الله، و قد كان الفصل الأوّل امتناناً منه تعالى على نبيّه بالفتح و المغفرة و إتمام النعمة و الهداية و النصر و على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم و إدخال الجنّة و وعيد المشركين و المنافقين بالغضب و اللعن و النار.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) المراد بشهادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهادته على الأعمال من إيمان و كفر و عمل صالح أو طالح، و قد تكرّر في كلامه تعالى ذكر شهادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تقدّم استيفاء الكلام في معنى هذه الشهادة، و هي شهادة حمل في الدنيا، و أداء في الآخرة.

و كونه مبشّراً تبشيره لمن آمن و اتّقى بالقرب من الله و جزيل ثوابه، و كونه نذيراً إنذاره و تخويفه لمن كفر و تولّى بأليم عذابه.

قوله تعالى: ( لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) القراءة المشهورة بتاء الخطاب في الأفعال الأربعة، و قرأ ابن كثير و أبوعمرو بياء الغيبة في الجميع و قراءتهما أرجح بالنظر إلى السياق.

٢٩٧

و كيف كان فاللام في( لِتُؤْمِنُوا ) للتعليل أي أرسلناك كذا و كذا لتؤمنوا بالله و رسوله.

و التعزير - على ما قيل - النصر و التوقير التعظيم كما قال تعالى:( ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ) نوح: 13، و الظاهر أنّ الضمائر في( تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ ) جميعاً لله تعالى و المعنى: إنّا أرسلناك كذا و كذا ليؤمنوا بالله و رسوله و ينصروه تعالى بأيديهم و ألسنتهم و يعظّموه و يسبّحوه - و هو الصلاة - بكرة و أصيلاً أي غداة و عشيّاً.

و قيل: الضميران في( تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ ) للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( تُسَبِّحُوهُ ) لله تعالى و يوهنه لزوم اختلاف الضمائر المتّسقة.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) إلى آخر الآية. البيعة نوع من الميثاق ببذل الطاعة قال في المفردات: و بايع السلطان إذا تضمّن بذل الطاعة له بما رضخ له انتهى، و الكلمة مأخوذة من البيع بمعناه المعروف فقد كان من دأبهم أنّهم إذا أرادوا إنجاز البيع أعطى البائع يده للمشتري فكأنّهم كانوا يمثّلون بذلك نقل الملك بنقل التصرّفات الّتي يتحقّق معظمها باليد إلى المشتري بالتصفيق، و بذلك سمّي التصفيق عند بذل الطاعة بيعة و مبايعة، و حقيقة معناه إعطاء المبايع يده للسلطان مثلاً ليعمل به ما يشاء.

فقوله:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) تنزيل بيعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزلة بيعته تعالى بدعوى أنّها هي فما يواجهونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من بذل الطاعة لا يواجهون به إلّا الله سبحانه لأنّ طاعته طاعة الله ثمّ قرّره زيادة تقرير و تأكيد بقوله:( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) حيث جعل يدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يد الله كما جعل رميهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رمى نفسه في قوله:( وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللهَ رَمى) الأنفال: 17.

و في نسبة ما لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الشأن إلى نفسه تعالى آيات كثيرة كقوله تعالى:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) النساء: 80، و قوله:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) الأنعام: 33، و قوله:( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ )

٢٩٨

آل عمران: 128.

و قوله:( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ ) النكث نقض العهد و البيعة، و الجملة تفريع على قوله:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) و المعنى: فإذا كان بيعتك بيعة الله فالناكث الناقض لها ناقض لبيعة الله و لا يتضرّر بذلك إلّا نفسه كما لا ينتفع بالإيفاء إلّا نفسه لأنّ الله غنيّ عن العالمين.

و قوله:( وَ مَنْ أَوْفى‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) وعد جميل على حفظ العهد و الإيفاء به.

و الآية لا تخلو من إيماء إلى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عند البيعة يضع يده على أيديهم فكانت يده على أيديهم لا بالعكس.

و للمفسّرين في قوله:( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) أقوال اُخر.

فقيل: إنّه من الاستعارة التخييليّة و الاستعارة بالكناية جي‏ء به لتأكيد ما تقدّمه و تقرير أنّ مبايعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمبايعة الله من غير تفاوت فخيّل أنّه سبحانه كأحد المبايعين من الناس فاُثبتت له يد تقع فوق أيدي المبايعين للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكان يد الرسول و فيه أنّه غير مناسب لساحة قدسه تعالى أن يخيّل على وجه هو منزّه عنه.

و قيل: المراد باليد القوّة و النصرة أي قوّة الله و نصرته فوق قوّتهم و نصرتهم أي ثق بنصرة الله لا بنصرتهم.

و فيه أنّ المقام مقام إعظام بيعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنّ مبايعتهم له مبايعة لله، و الوثوق بالله و نصرته و إن كان حسناً في كلّ حال لكنّه أجنبيّ عن المقام.

و قيل: المراد باليد العطيّة و النعمة أي نعمة الله عليهم بالثواب أو بتوفيقهم لمبايعتك فوق نعمتهم عليك بالمبايعة، و قيل: نعمته عليهم بالهداية أعظم من نعمتهم عليك بالطاعة إلى غير ذلك من الوجوه الّتي أوردوها و لا طائل تحتها.

٢٩٩

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن عديّ و ابن مردويه و الخطيب و ابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبدالله قال: لمّا نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية( وَ تُعَزِّرُوهُ ) قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه: ما ذاك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: لتنصروه.

و في العيون، بإسناده عن عبدالسلام بن صالح الهرويّ قال: قلت لعليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام : يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الّذي يرويه أهل الحديث: أنّ المؤمنين يزورون ربّهم من منازلهم في الجنّة؟ فقال: يا أبا الصلت إنّ الله تعالى فضّل نبيّه محمّداً على جميع خلقه من النبيّين و الملائكة، و جعل طاعته طاعته، و مبايعته مبايعته، و زيارته في الدنيا و الآخرة زيارته، فقال عزّوجلّ:( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ) و قال:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) و قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله.

و درجته في الجنّة أعلى الدرجات، و من زاره في درجته في الجنّة من منزله فقد زار الله تبارك و تعالى.

و في إرشاد المفيد، في حديث بيعة الرضاعليه‌السلام قال: و جلس المأمون و وضع للرضاعليه‌السلام وسادتين عظيمتين حتّى لحق بمجلسه و فرشه، و أجلس الرضاعليه‌السلام في الحضرة و عليه عمامة و سيف. ثمّ أمر ابنه العبّاس بن المأمون أن يبايع له في أوّل الناس فرفع الرضاعليه‌السلام يده فتلقّى بها وجهه و ببطنها وجوههم- فقال له المأمون: ابسط يدك للبيعة فقال الرضاعليه‌السلام : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا كان يبايع فبايعه الناس و يده فوق أيديهم.

٣٠٠