الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120112 / تحميل: 6173
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

هكذا تُبدي التوراة عَداءه تعالى مع بني الإنسان!

هذا والقرآن يحثّ الأُمَم على الاجتماع دون التفرّق، وعلى التعارف بعضهم مع بعضهم؛ ليتعاونوا في الحياة دون التباغض والتباعد والاختلاف:

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ) (1) .

( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (2) .

الإنسان سرّ الخليقة

الإنسان - كما وصفه القرآن - صفوة الخليقة وفلذتها، وسرّها الكامن في سلسلة الوجود.

لا تجد وصفاً عن الإنسان وافياً ببيان حقيقته الذاتيّة الّتي جَبَله الله عليها - في جميع مناحيها وأبعادها المترامية - في سوى القرآن، يصفه بأجمل صفات وأفضل نُعوت، لم يَنعم بها أيّ مخلوق سواه، ومِن ثَمّ فقد حَظي بعناية الله الخاصّة، وحُبي بكرامته منذ بدء الوجود.

ولنُشِر إلى فهرسة تلكمُ الصفات والميزات، التي أهّلته لمثل هذه العناية والحِبَاء:

1 - خلقه الله بيديه: ( مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (3) .

2 - نفخ فيه من روحه: ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (4) .

3 - أودعه أمانته: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ) (5) .

4 - علّمه الأسماء كلّها: ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا... ) (6) .

5 - أسجد له ملائكته: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا... ) (7) .

____________________

(1) الحجرات 49: 13.

(2) الأنفال 8: 46.

(3) ص 38: 75.

(4) الحجر 15: 29، وص 38: 72، وفي سورة السجدة 32: 9: ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) .

(5) الأحزاب 33: 72.

(6) البقرة 2: 31.

(7) البقرة 2: 34.

٢١

6 - منحه الخلافة في الأرض: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) (1) .

7 - سخّر له ما في السّماوات والأرض جميعاً: ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) .

ومِن ثَمّ بارك نفسه في هذا الخلق الممتاز: ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (3) .

ميزات سبع حظي بها الإنسان في أصل وجوده، فكان المخلوق المفضّل الكريم، وإليك بعض التوضيح:

مِيزات الإنسان الفطريّة

امتاز الإنسان في ذات وجوده بميزات لم يحظَ بها غيره من سائر الخلق:

فقد شرّفه الله بأن خلقه بيديه: ( مَا مَنَعَكَ - خطاباً لإبليس - أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (4) والله خالق كلّ شيء، فلا بدّ أنْ تكون هناك خصوصيّة في خلق هذا الإنسان تستحقّ هذا التّنويه هي: خصوصيّة العناية الربّانيّة بهذا الكائن، وإبداعه نفخةً - من روح الله - دلالةً على هذه العناية.

قال العلاّمة الطباطبائي: نسبة خلقه إلى اليد تشريف بالاختصاص كما قال: ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) (5) وتثنية اليد كناية عن الاهتمام البالغ بخلقه وصنعه؛ ذلك أنّ الإنسان إذا اهتمّ بصُنع شيء استعمل يديه معاً عناية به (6) .

وهكذا نفخة الروح الإلهيّة فيه كناية عن جانب اختصاص هذا الإنسان - في أصل فطرته - بالملأ الأعلى، حتّى ولو كان متّخذاً - في جانب جسده - من عناصر تربطه بالأرض، فهو في ذاته عنصر سماوي قبل أن يكون أرضيّاً.

ولقد خلق الإنسان من عناصر هذه الأرض، ثُمّ من النفخة العلويّة التي فرّقت بينه

____________________

(1) البقرة 2: 30.

(2) الجاثية 45: 13.

(3) المؤمنون 23: 14.

(4) ص 38: 75.

(5) الحجر 15: 29.

(6) تفسير الميزان، ج 17، ص239.

٢٢

وبين سائر الأحياء، ومنحته خصائصه الإنسانيّة الكبرى، وأَوّلها القدرة على الارتقاء في سُلَّم المدارك العُليا الخاصّة بعالم الإنسان.

هذه النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى، وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقّي عنه ولتجاوز النطاق المادّي الذي تتعامل فيه العضلات والحواسّ، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول، والتي تمنحه ذلك السرّ الخفيّ الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواسّ، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصوّرات غير المحدودة في بعض الأحيان (1) .

وبذلك استحقّ إيداعه أمانة الله التي هي ودائع ربّانية لها صبغة ملكوتيّة رفيعة، أُودعت هذا الإنسان دون غيره من سائر المخلوق، وتتلخّص هذه الودائع في قدرات هائلة يملكها الإنسان في جبلّته الأُولى، والتي أهّلته للاستيلاء على طاقات كامنة في طبيعة الوجود وتسخيرها حيث يشاء.

إنّها القدرة على الإرادة والتصميم، القدرة على التفكير والتدبير، القدرة على الإبداع والتكوين، القدرة على الاكتشاف والتسخير، إنّها الجرأة على حمل هذا العبء الخطير، قال سيّد قطب: إنّها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة، هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله، وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى وهو يُسجِد الملائكة لآدم، وأعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) (2) .

فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عُرضت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أنْ يحملنّها وأشفقنّ منها (3) .

إنّها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، الكبير القُوى، القويّ العزم.

ومِن ثَمّ كان ظلوماً لنفسه؛ حيث لم ينهض بأداء هذه الأمانة كما حملها، جهولاً لطاقاته هذه الهائلة المودعة في وجوده وهو بعد لا يعرفها.

____________________

(1) من إفادات سيد قطب، راجع: في ظِلال القرآن، ج 14، ص 17، المجلد 5، ص203.

(2) الإسراء 17: 70.

(3) في ظِلال القرآن، ج22، ص47، المجلد 6، ص 618.

٢٣

وهكذا علّمه الأسماء: القدرة على معرفة الأشياء بذواتها وخاصيّاتها وآثارها الطبيعيّة العاملة في تطوير الحياة، والتي وقعت رهن إرادة الإنسان ليُسخّرها في مآربه حيث يشاء، وبذلك يتقدّم العلم بحشده وجموعه في سبيل عمارة الأرض وازدهار معالمها، حيث أراده الله من هذا الإنسان ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) (1) .

وبذلك أصبح هذا الإنسان - بهذه الميزات - خليفة الله في الأرض، (2) حيث يتصرّف فيها وِفق إرادته وطاقاته المـُودعة فيه، ويعمل في عمارة الأرض وتطوير الحياة.

وإسجاد الملائكة له في عَرْصَة الوجود، كناية عن إخضاع القوى النورانيّة برمّتها للإنسان، تعمل وِفق إرادته الخاصّة من غير ما تخلّف، في مقابلة القوى الظلمانيّة (إبليس وجنوده) تعمل في معاكسة مصالحه، إلاّ مَن عَصَمه الله من شرور الشياطين ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) (3) .

كما وأنّ تسخير ما في السماوات وما في الأرض جميعاً، (4) كناية عن إخضاع القوى الطبيعيّة - المودعة في أجواء السماوات والأرض - لهذا الإنسان، تعمل فور إرادته بلا فتور ولا قصور، ومعنى تسخيرها له: أنّ الإنسان فُطر على إمكان تسخيرها.

فسبحانه من خالقٍ عظيم، إذ خَلَق خَلقاً بهذه العظمة والاقتدار الفائق على كلّ مخلوق!

هذه دراستنا عن الإنسان على صفحات مُشرقة من القرآن الكريم، فيا ترى أين يوجد مثل هذه العظمة والتبجيل لمخلوقٍ هو في هندامه صغير وفي طاقاته كبير، كبرياءً ملأ الآفاق!

أتزعم أنّك جسمٌ صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

فتبارك الله أحسن الخالقين بخلقه أحسن المخلوقين!

____________________

(1) هود 11: 61.

(2) راجع: البقرة 2: 30.

(3) الإسراء 17: 65.

(4) راجع: الجاثية 45: 13.

٢٤

خلقتُ الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي!

حديث قدسيّ معروف (1) خطاباً مع بني آدم، حيث كانوا هم الغاية من الخليقة، كما كانت الذات المقدّسة هي الغاية من خلقة الإنسان، فكما وأنّ الأشياء برمّتها - علواً وسفلاً - سخّرها الله لهذا الإنسان ولتكون في قبضته فتَتَجلّى فيها مقدرته الهائلة، كذلك خُلق الإنسان؛ ليكون مظهراً تامّاً لكامل قدرته تعالى في الخلق والإبداع.

ما من مخلوق - صغيراً أو كبيرً - إلاّ وهو مظهر لتجلّي جانب من سِمات الصانع الحكيم (وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد) أمّا الإنسان فكان المرآة الصقيلة التي تتجلّى فيها جميع صفات الجمال والجلال.

فإذا سئلت: ما هي الغاية من خلق ما في السماوات وما في الأرض جميعاً؟

قلت - حسب وصف القرآن -: هو الإنسان ذاته مُستودَع أمانات الله وليكون خليفته في الأرض!

وإذا سئلت: ما هي الغاية من خلقة الإنسان ذاته؟

قلت: هو الله الصانع الحكيم؛ حيث الإنسان بقدرته على الخلق والإبداع أصبح مظهراً تامّاً لكامل الأسماء والصفات، فكان وجه الله الأكمل وعين الله الأتمّ.

فكان الإنسان غاية الخليقة، وكان الله الغاية من خلق الإنسان، فالله هو غاية الغايات وبذلك ورد: (كنتُ كنزاً مخفيّاً فأحببت أن أُعرف، فخلقت الخلق لكي أُعرف) (2) .

حيث الإفاضة - وهي تجلّي الذات المقدّسة - كانت بالخلق والإبداع ومظهره الأتمّ هو الإنسان.

الحفاظ على كرامة الأنبياء

يمتاز القرآن بالحفاظ على كرامة الأنبياء، بينما التوراة تحطّ من كرامتهم.

____________________

(1) راجع: علم اليقين للفيض الكاشاني، ج 1، ص 381.

(2) حديث قُدسي معروف، راجع: البحار، ج84، ص 199، وهامش عوالي اللآلئ، ج 1، ص 55، وكتاب كشف الخفاء للعجاوني، ج 2، ص 132.

٢٥

لم يأتِ ذِكر نبيّ من الأنبياء في القرآن إلاّ وقد أحاط بهم هالةً من التبجيل والإكرام، كما ونزّهَهم عن الأدناس على وجه الإطلاق.

خُذ مثلاً سورة الصافّات جاء فيها ذكر أنبياءٍ عِظام مُرفَقاً بعظيم الاحترام.

( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) وينتهي إلى قوله : ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشـَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ... ) (2) .

( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (3) .

( وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) إلى قوله: ( وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) (4) وهكذا كلّما يُمرّ ذِكرُ نبيّ تَصحبه لمـّة مِن الإجلال والتكريم.

وأمّا التوراة فلا تمرّ فيها بقصّةٍ من قصص الأنبياء إلاّ وملؤها الإهانة والتحقير، وربّما بلغ إلى حدّ الابتذال والتعبير ممّا لا يليق بشأن عباد الله المخلصين، هذا نوح شيخ الأنبياء تصفه التوراة: رجلاً سكّيراً مستهتراً لا يرعوي شناعةَ حال ولا فضاعة بال.

تقول عنه التوراة: إنّه بعد ما نَزل من السفينة هو ومَن معه، غرس كَرماً وصنع خمراً وشربها، حتّى إذا سكر وتعرّى داخل خبائه إذ دخل عليه ابنه الصغير حام فرأى أباه

____________________

(1) الصافات: 75 - 81.

(2) الصافات: 83 - 113.

(3) الصافات: 114 - 122.

(4) الصافات : 123 - 132.

٢٦

مكشوفاً عورته، فاستحى ورجع ليُخبر إخوته بذلك، ولمـّا صحا نوح وعَلِم بفضيع أمره دعا على ابنه هذا، ولعنه هو وذرّيته في الآخرين. فكان مِن أثر دعائه عليه أن كانت ذرّيته عبيداً لذرّية أخويه سام ويافث أبد الآبدين! (1) .

يا لها من مهزلة نسجتها ذهنيّة الحاقدين على أهل الدين، فما شأن التوراة وثَبتُ هكذا سفاسف حمقانيّة تمسّ بكرامة شيخ الأنبياء؟!

وهذا إبراهيم خليل الرحمان وأبو الأنبياء وصاحب الشريعة الحنيفة والتي أورثها الأنبياء من بعده، نَجده في التوراة رجلاً أرضيّاً يُتاجر بزوجه الحسناء (سارة) ليَفتدي بها لا لشيءٍ؛ إلاّ ليَحظى بالحياة الدنيا على غِرار سائر المـُرابين، يفعلون الفُجور للحصول على القليل من حطام الدنيا الدنيّة! (2) .

وما هي إلاّ فِرية فاضحة يُكذّبها تأريخ حياة إبراهيم (عليه السلام):

كانت سارة عندما صَحِبت زوجها إبراهيم في سفره إلى أرض مصر قد طَعنت في السنّ من السبعينيّات، وكان الدهر قد وَسَم على وجهها آثار الكُهولة والهرم، ولم يَعهد من عادة الملوك الجبابرة وأصحاب الترف والبذخ أن يطمعوا في هكذا نساء عجوزات!

كان إبراهيم عندما غادر (حاران) موطن أبيه (تارَح) قاصداً بلاد كنعان قد بلغ الخامسة والسبعين من عمره، واجتاز أرض (شكيم) ليبني هناك مَذبحاً (معبداً)، وارتحل إلى الجبل: شرقي (بيت إيل)، وهكذا تَداوم في رحلته يجوب البلاد ويبني مذابح، إلى أنْ حدث جَدْبٌ عمَّ البلاد، فانحدر إلى أرض مصر لينتجع هناك.

ولم يأتِ في التوراة مدّة هذا التَجوال والرحلات، لكن جاء فيها: أنّ سارة لمـّا وَهبت جاريتها (هاجر) لإبراهيم كان قد مضى من مغادرتهم أرض مصر عشر سنين (3) ، فحبلت هاجر وولدت إسماعيل بعد ما انقضى مِن عُمر إبراهيم ستٌ وثمانون عاماً (4) ، فكان إبراهيم عند مَقدمه مصر قد تجاوز الستّ والسبعين، وبما أنّ سارة كانت أصغر من إبراهيم

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9/18 - 24.

(2) المصدر: 12/11 - 20.

(3) المصدر: 16/3.

(4) المصدر: 16/16.

٢٧

بعشر سنين فقد كانت عند قدومها مصر قد ناهزت الستّ والستين وهو سنّ العجائز! (1) .

إبراهيم، لم يَكذب قطّ!

جاء في أحاديث العامّة برواية أبي هريرة - وهي أشبه بالإسرائيليّات - (أنّ إبراهيم (عليه السلام) كَذَب ثلاث كِذبات: ثنتين في ذات الله: قوله: ( إِنِّي سَقِيمٌ ) (2) وقوله: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (3) ، والثالثة بشأن سارة: أنّها أُخته) (4)

وفي حديث الشفاعة برواية أبي هريرة أيضاً: (أنّ أهل الموقف يأتون الأنبياء واحداً بعد واحد يستشفعون منهم، حتّى يأتوا إبراهيم فيأبى معتذراً: إنّي كذبت ثلاث كذبات ولستُ هناكم) (5) .

وقد وصفت لجنة مشايخ الأزهر هذه الروايات بالصِحاح، وعارضت الأستاذ عبد الوهاب النجّار استنكاره لهذه المفتريات (6) .

قلت: وحاشا إبراهيم الخليل - الداعي إلى الحنيفيّة البيضاء - أنْ ينطق بكذب، وإنّما كُذِبَ عليه بلا ريب، والرواية عامّية الإسناد لا اعتداد بها في هكذا مجالات.

ولقد أجاد الإمام الرازي حيث قال: فلأنْ يُضاف الكَذِب إلى رواة هذا الخبر أَولى من أنْ يُضاف إلى الأنبياء، وأخذ في تأويل الموارد الثلاثة، وأضافَ قائلاً: وإذا أمكن حَمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكَذِب إلى الأنبياء فحينئذٍ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلاّ زنديق (7) .

أمّا قوله: ( إِنّي سَقِيمٌ ) فلعلّه أراد وهن حالته الجسديّة ممّا كان يرى قومه على عَمَه الغباء، وقد أحسّ ألماً شديداً انتاب قلبه المرهف تجاه تلكمُ الجهالات العارمة.

وأمّا قوله ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) فقولة قالها مستهزئاً بهم

____________________

(1) المصدر: 17/17.

(2) الصافّات 37: 89.

(3) الأنبياء 21: 63.

(4) صحيح ا لبخاري، ج4، ص171 و ج7، ص7: وصحيح مسلم، ج7، ص98: ومسند أحمد، ج2، ص403 - 404.

(5) جامع الترمذي، ج4، ص623 وج5، ص321.

(6) راجع: هامش قصص الأنبياء للنجّار، ص86.

(7) التفسير الكبير، ج22، ص185 وج26، ص148.

٢٨

مستخفّاً عقليّتهم الكاسدة.

والكَذِب لا يكون إلاّ لغرض التمويه، أمّا إذا كان السامعون عارفين بواقع الأمر، وأنّ إبراهيم لم يقصد الحقيقة وإنّما أراد التسفيه من عقولهم محضاً فهذا لا يُعدّ كَذِباً؛ لأنّ الكَذِب إخبار في ظاهر غير مطابق للواقع، وهذا إنشاء لمحض التسفيه والهزء بهم، والإنشاء لا يَحتمل الصدق والكَذِب فتدبّر.

وأمّا الثالثة - بشأن سارة أنّها أُخته - فحديث خُرافة يا أُمّ عمرو!

قصّة الطوفان في التوراة

جاءت قصّة الطوفان في سِفر التكوين (1) بصورة تفصيليّة، تشبه أن تكون أساطيريّة، وفيها ما ترفضه العقول وتأباه واقعيّة الحياة، فضلاً عن منافاتها لأُصول الحكمة المهيمنة على مظاهر الوجود.

جاء فيه: أنّ قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض، فغضب اللّهُ عليهم وأنذرهم على لسان نوح بعذاب الاستئصال بإرسال الطوفان العارم، فلم يعبأوا بذلك وظلّوا يعبثون ويَعثون في البلاد.

ولمـّا بلغ نوح من العمر ستمِئة سنة أمره الله بصنع الفلك (في 300 ذراع طولاً و50 ذراعاً عرضاً و30 في الارتفاع).

فجاء الطوفان، وجُعلت ينابيع الأرض تتفجّر، والسماء تمطر بغزارة أربعين صباحاً، والماء يرتفع شيئاً فشيئاً على وجه الأرض كلّها، حتّى بلغ قِمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض، وارتفع على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعاً؛ وبذلك هلك الحرث والنسل، ومات كلّ ذي حياة على وجه الأرض من الدوابّ والبهائم والدبّابات والزحّافات، وحتّى الطير في السماء.

ودام الطوفان مئة وخمسين صباحاً، يحوم نوح بأهله وذويه وما حمله معه في الفلك على وجه الماء، حتّى أخذ الماء ينحطّ ويغور فاستقرّت

____________________

(1) سِفر التكوين، إصحاح 9 - 6.

٢٩

سفينته على جبل (آرارات) بأرمينيّة، فنزلوا من السفينة وعاش نوح بعد ذلك ثلاثمئة وخمسين عاماً، فكان كلّ أيّام نوح تسعمِئة وخمسين سنة، على ما جاء في الإصحاح التاسع عدد 28.

وكان الذي حمله نوح معه في السفينة - غير أهله وذويه - أزواجاً (ذكراً وأُنثى) من كلّ أنواع الحيوانات؛ لئلاّ ينقرض نسلها وتبيد من الوجود (من جميع البهائم والطيور ذكراً وأُنثى، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض) (1) .

وهذا يعنى: أنّ جميع الأحياء هلكوا على أثر الغَرَق (فما كلّ ذي جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش، وكلّ الزحّافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس، كلّ ما في أنفه نسمة روح الحياة فيما في اليابسة مات) (2) ؛ وذلك أنّ الماء غمر وجه الأرض كلّها، وطغى على أعالي الجبال الشامخة في كلّ أكناف الأرض (وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض، فتغطّت جميعُ الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع فتغطّت كلّ الجبال) (3) .

حادث الطوفان في القرآن

وحاشا القرآن أنْ يساير التوراة (المـُتداولة) في سرد أقاصيص أسطوريّة واهية، وإنّما هي الواقعيّة ينتقيها ويَنبذ الأوهام الخرافيّة والتي أحدقت بها على أثر طول العهد.

وإليك الحادث على ما جاء في سورة هود:

( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ (4) قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ

____________________

(1) المصدر: 7/4.

(2) المصدر: 7/21.

(3) المصدر: 7/19.

(4) كلمة أعجميّة وتطلق في كلام العرب على مفجر المياه، جاء في القاموس: التنّور كل ّمفجر الماء.

٣٠

مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ (1) وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (2) .

مواضع عِبر أغفلتها التوراة

جاءت القصّة في التوراة كسائر الأحداث التاريخيّة القديمة مشوّهةً في خِضمٍّ من خرافات بائدة، ومن غير أن تتأكّد على مواضع العِبر منها، بل وأغفلتها في الأكثر، أمّا القرآن؛ فبما أنّه كتاب هداية وعِبر نراهُ يقتطف من أحداث التأريخ عِبرها، ويَجتني من شجرة حياة الإنسان السالفة يانع ثمرها، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شغفٍ وهناء.

وقد أغفلت التوراة جانب زوجة نوح وابنه اللذَينِ شَملهما العذاب بسوء اختيارهما، إنّها عِبرةٌ كبرى، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية والصلاح؟ وينجرف بسوء اختياره مع تيّار الضلالة والفساد، وفي النهاية الدمار والهلاك!!

ذكر السيّد ابن طاووس: أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة وأخرى غبيّة، فركبت الصالحة مع أبنائها السفينة، وهلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين (3) .

قال اللّه تعالى عنها وعن زوج لوط: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (4) .

____________________

(1) قال أبو مسلم الإصبهاني: الجودي كلّ جبلٍ وأرضٍ صلبة.

(2) هود 11: 40 - 48.

(3) راجع: سعد السعود لابن طاووس، ص239، وبحار الأنوار، ج11، 342.

(4) التحريم 66: 10.

٣١

وكانت خيانَتُهما هي المـُسايرة مع الكافرين، ونبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب.

وابن نوح يقول عنه تعالى: إنّه ليس من أهله، لا يصلح للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم (أهل نوح)؛ لأنّه عملٌ غير صالح، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة، ومن ثَمَّ فإنّه كان يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح وأهله.

وهذا أيضاً من أعظم العِبر، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قِمم الهداية والتوفيق لينخرط مع البائسين الحيارى لا يهتدون سبيلاً؟!

أمّا وكيف ابتغى نوح نجاة ابنه هذا وهو يعلم ما به من غَواية الضلال؟ فهذا يعود إلى حنان الأُبوّة ورحمة العُطوفة التي كان يحملها نوح (عليه السلام) لا سيّما مع ما وعده الله بنجاة أهله، فلعلّه شملته العناية الربّانيّة وأصبح من المرحومين ومِن ثَمّ جاءته الإجابة باليأس، وأنّه لا يصلح أن يكون أهلاً له وكان محتّماً عليه أن يمسي من المرجومين.

هل عمّ الطوفان وجه الأرض؟

صريح التوراة أنّ الطوفان عمّ وجه الأرض، وأهلك الحرث والنسل وحتّى الطير في السماء.

وليس في القرآن دلالةٌ ولا إشارةٌ إلى ذلك، بل على العكس أدلّ، وأنّ الطوفان إنّما عمّ المنطقة التي كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها.

جاء في سورة الأعراف: ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) إلى قوله ( فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ ) (1) .

فالذين كان يخاف عليهم عذاب يومٍ عظيم ممّن كذّبوه وكانوا قوماً عمين، كانوا هم المغرقين.

____________________

(1) الأعراف 7: 59 - 64.

٣٢

ولا دلالة فيها على غرق آخرين من أقوامٍ لو كانوا مُبعثرين عائشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم تبلغهم دعوة نوح، ولم يكن مرسلاً إليهم.

هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات والدبّابات المنتشرة في وجه الأرض، وكذا الطير في الهواء، ممّا لا شأن لها ورسالات الأنبياء، ولا وجه لأنْ يعمّها العذاب، وهو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان.

الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ! ولا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته: غمر الماء وجه الأرض كلها وارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات وعلاهنّ بخمس عشرة ذراعاً (سبعة أمتار)!

نقض فرضية الشمول

يقول (ولتر) - الكاتب الناقد الفرنسي (1694 - 1778 م) بصدد تسخيف أُسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة -: كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أنْ تضمّ اثنا عشر بحراً، كلّ في سعة البحر الأطلانتي المحيط، بعضها فوق بعض ليكون الأعلى في حجم أكبر بأربع وعشرين ضعفاً، وهكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر شامخات الجبال!

ويزيد - مستخفّاً عقليّة مسطّر هذه الأساطير وناقماً على الذين اعتنقوها باعتبارها وحياً من السماء (وحاشاه) -: يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز، حيث لا مثيل لها في خرق نواميس الكون!!.

ويقول آخر: إنّ المحاسبات العلميّة الدقيقة تُعطينا: أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً وهطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأنْ تغمر وتعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سانتي مترات، فكيف بجبال شامخات؟!

يقول الدكتور (شفا): لو كانت السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً - كما هو نصّ التوراة - لما كاد أنْ يغمر هضبة ما بين النهرين - على صغرها - فكيف بغمر وجه الأرض

٣٣

وأنْ يعلو قمم الجبال؟! وجبل (آرارات) يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره، فكيف بسائر الجبال الشامخة؟! (1) .

الطوفان ظاهرة طبيعيّة حيث أرادها الله

نعم، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعيّة وعلى ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه.

كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة، كان وجه الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة، وسيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب والوديان والمناطق المنخفضة من سطح الأرض.

وكان طوفان نوح إحدى تلكم الظواهر الكونيّة حدثت بإذن الله ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) (2) ، فانحدرت سيول هائلة على سفوح الجبال، وتفجّر ينابيع الأرض المـُشبعة بالأمطار، وهكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح وسدّ عليهم طرق النجاة، وحتّى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لولا أنْ جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مَهوى الهلاك، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.

وفي تواريخ الأُمم ما يُسجّل حدوث طوفانات هائلة جرفت بقسط من الحياة؛ ولعلّه لتراكم الفساد والشرّ في تلكم البقاع، فمِن قدماء الفرس: أنّ طوفاناً هائلاً غمّ أرض العراق إلى حدود كردستان، وهكذا رُوي عن قدماء اليونان، والهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه الجزيرة الهنديّة، ويُروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين والبرازيل والمكسيك وغيرهم، ويُروى عن الكلدانييّن - وهم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم -:

أنّ المياه طغت على البلاد وجرفت بالحرث والنسل. فقد نقل عنهم (برهوشع) و

____________________

(1) راجع: ما كتبه الدكتور شجاع الدين شفا في كتابه (تولّدي ديكر)، ص 285 منتقداً قصّة الطوفان على ما وردت في الكتب الدينيّة.

(2) القمر 54: 11 و 12.

٣٤

(يوسيفوس): أنّ (زيزستروس) رأى في الحُلم بعد موت أبيه (أوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتُغرق الناس كلّهم - ممّن كان يعيش هناك طبعاً - فأُمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو وذووه ففعل، وقد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان والاستئصال.

وقد عَثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر (آشور بانيبال) من نحو (660) سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك، ومِن ثَمّ فهي أقدم من كتابة سِفر التكوين (يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل).

ويروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده (أفلاطون) وهو: أنّ كَهَنة مصر قالوا للحكيم اليوناني (سولون) أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً، فهلك الناس - ممّن عمروا البلاد في المنطقة - وانمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار والمعارف.

وأورد (مانيتيون) خبر طوفان حدث بعد (هرمس) الأَوّل - الذي كان بعد (ميناس) الأَوّل -، وهو أقدم من تأريخ التوراة أيضاً (1) .

وهكذا جاء خبر الطوفان في (اُوستا) كتاب المجوس (2) .

وجاء في كتاب (تأريخ الأدب الهندي) الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنيّة الهنديّة، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي (مخطوط) ص 42 و 43، في الباب الخامس، وعنوانه (برهمانا وأوبانبشاء):

وممّا يلفت النظر في (ساتا بانا برهمانا) قصّة الطوفان، التي بُيّنت في ضمن الضحايا، والقصّة وإنْ اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن والتوراة، وإن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهنديّة مع الساميّة، توجب الاهتمام..

ففي هذه القصّة البرهمانيّة يقوم (مانو) بدور نبيّ الله نوح (عليه السلام) في القرآن وفي

____________________

(1) راجع: تفسير المنار لمـُحمّد عبده، ج 12، ص 105.

(2) في ترجمتها الفرنسيّة. راجع: الميزان للطباطبائي، ح 10، ص 267.

٣٥

التوراة، و (مانو) اسم نال التقديس والاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيّين، فهو: ابن الله، ومصدر جميع الناس وجدّهم الأسطوري.

وخلاصة القصّة: أنّه بينما كان (مانو) يغسل يديه إذ جاءت في يده سَمكة، وممّا اندهش به (مانو) أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك، ووَعَدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المـُحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات؛ وعلى ذلك حَفَظ (مانو) السمكة في (المرتبان)، فلمـّا كَبُرت السمكة أخبرت (مانو) عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان، ثمّ أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة، ويدخل فيها عند طغيان الماء، قائلةً: أنا أُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة، والسمكة كبُرت أكثر من سعة (المرتبان)؛ لذلك ألقاها (مانو) في البحر. ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة، عامت السمكة إليه، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة، فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط (مانو) السفينة بشجرة، وعندما تراجع الماء وخفّ بقي (مانو) بوحدته (1) .

فذلكة الكلام: إنّ فيما أنبأت به الأُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة، داهمت الحياة البشريّة الأُولى وكان فيها الهلاك والدمار ومنها حادث الطوفان في كرّات ومرّات، ليُشْرف بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً، ولو لم يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول، شأن سائر القصص البائدة حِيكت حولها مخاريف، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس، ولا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أنْ يهاجم حياة الإنسان، ويواجهه بالنكبات في الأيام الأُولى بكثرة، ولا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ وآخر.

وربما كان من أعظمها وأشملها طوفان نوح، عمّ المنطقة ودمّر وأباد، هذا شيء لا مساغ لإنكاره، بعد كونه طبيعيّاً وأخبر به الصادق الأمين.

____________________

(1) راجع: قصص الأنبياء للنجّار، ص 46 - 47.

٣٦

أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة ونقلتها التوراة على عِلاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه وننبذه، كما نبذه القرآن واستخلص الحادث صافياً جليّاً، الأمر الذي اختصّ به القرآن وكان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ) (1) .

أي لا تعلمها بهذا الخلوص والجلاء، أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوام جاهلون بحقيقة الأمر.

لا شاهد على شمول الطوفان

لا شكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مَجالاً لاحتمال شمول الطوفان، ولا سيّما بذلك الارتفاع الهائل! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً.

بقي ظاهر النصّ (التعابير الواردة في القرآن الكريم) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك، فضلاً عن قرائن أخرى:

قال الشيخ مُحمّد عبده: وأمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرّخي الأُمم.

أمّا أهل الكتاب وعلماء الأمّة الإسلاميّة فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال؛ لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليلٌ على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض (2) .

وقال السيّد الطباطبائي: الحقّ، أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر أغرقوا جميعاً...

ومن شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى - حكايةً عن نوح - ( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى

____________________

(1) هود 11: 49.

(2) تفسير المنار، ج 12، ص1 08.

٣٧

الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (1) وقوله: ( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) (2) وقوله: ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (3) .

قال: ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأنْ يَحمل من كلٍّ زوجين اثنين، (4) ومن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة - أرض العراق كما هو معروف - لم تكن حاجة إلى ذلك (5) ؛ نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك.

آثار جيولوجيّة

لكن وجود الفسايل وبقايا متحجّرة لحيوانات مائيّة وهكذا آثار الردم المـُشاهد في أعالي بعض الجبال لا يَصلح شاهداً لصعود الماء إليها؛ إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار ووجود هذه البقايا صعود الماء أيّاماً معدودة ولفترة قصيرة، بل ومن المحتمل القريب أنّها من بقايا رسوبيّة كانت يوماً ما تحت البحر وعلى ضفافه، غير أنّ التغيّرات الجيولوجيّة والتمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل وغيرها هي التي أوجبت تغيّراً في وجه الأرض، فمنها ما ارتفع بعدما كان مغموراً، أو انغمر بعد ما كان عالياً، وهكذا تعرجّات حدثت على الأرض ولا سيّما في الفترات الأُولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض.

قال الشيخ محمّد عبده: إنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة المتحجّرة في قُلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان؛ بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال وغيرها من اليابسة في الماء. فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها (6) .

____________________

(1) نوح 71: 26.

(2) هود 11: 43.

(3) الصافّات 37: 77.

(4) راجع: سورة هود 11: 40 والمؤمنون 23: 27.

(5) راجع: تفسير الميزان، ج 10، ص 272 و 274 ووافقه على ذلك الدكتور مُحمّد الصادقي في تفسيره الفرقان، ج 12، ص 316 - 317.

(6) تفسير المنار، ج 12، ص 108.

٣٨

( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرضِ) (1) .

أخذوا من هذه الآية دليلاً على عموم الطوفان وشموله لوجه الأرض كلّها.

قال الشيخ محمّد عبده: ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكُرة كلّها، فإنّ المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أنْ تُذكر الأَرض ويراد بها أرضهم ووطنهم، كقوله تعالى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى وهارون: ( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) (2) يعني أرض مصر، وقوله: ( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) (3) فالمراد بها مكّة، وقوله: ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) (4) والمراد ديار فلسطين، والشواهد على ذلك كثيرة.

قال: وظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد المـُوروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه - (وهو في أوّليات حياة البشر) - وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان، ولم يبقَ بعده فيها غير ذرّيته، وهذا يقتضي أنْ يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سَهلها وجبالها لا في الأرض كلّها، إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة؛ لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها.

فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض (الجيولوجيّة) يقولون: إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة، ثُمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج (5) .

وبذلك ظهر عدم دلالة الآية ( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) (6) على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض، بعد فرض محدوديّة نطاق النسل البشري آنذاك (في عهدٍ بعيد جدّاً) وعدم الانتشار في أقطار الأرض، ولا نُسلّم بما حدّدته التوراة من التأريخ القريب ولا مستند لها.

( لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)

شاهد آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان.

قال تعالى: ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ

____________________

(1) نوح 71: 26،

(2) يونس 10: 87.

(3) الإسراء 17: 76.

(4) الإسراء 17: 4.

(5) تفسير المنار، ج 12، ص 106.

(6) الصافّات 37: 77.

٣٩

ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ) (1) .

في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان:

1 - التعبير بالموج الهائل كالجبال، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خِضَمّ الماء المتراكم.

2 - محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يَعصمه من الماء، ولكنّ نوحاً أنذره أنْ لا عاصم اليوم، ومعنى ذلك: أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً ولا يَذر موضعاً يأوي إليه، وهكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين.

لكن لا شكّ أنّ هضبةً كبيرةً واسعةَ الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه، واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب، وفاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول ويصول في ساحتها، وربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار، وفي مثل هذا الخِضمّ من الماء الهائم - والذي في عرضة الطوفان - وهبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية وعاتية تلوي على كلٍّ شيء.

ولابدّ أنّ ابن نوح كان واقفاً على مرتفع من الأرض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء، وحينما كلّمه أبوه - وهو راكبٌ في السفينة - لمْ يعبأ بنُصح أبيه، وأنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال، لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المـُنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغَرق، وبالفعل نزلت به النازلة وحال بينه وبين أبيه الموج فكان من الهالكين.

وليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قِمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض.

وهكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان (هضبة ما بين النهرين) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً، ممّا لا يمكن غشيانه قُلَل جبال رفيعة كقُلّةِ آرارات من سلسلة جبال جودي (2) .

____________________

(1) هود 11: 42 و 43.

(2) معجم لغات القرآن للعلاّمة أبي الحسن الشعراني (ملحق تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 11، ص 144).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

( سورة الفتح الآيات ١١ - ١٧)

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا  يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ  قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا  بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١١ ) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ( ١٢ ) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( ١٣ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ  وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( ١٤ ) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ  يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ  قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ  فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا  بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٥ ) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ  فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا  وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦ ) لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ  وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ  وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٧ )

٣٠١

( بيان‏)

فصل ثالث من الآيات متعرّض لحال الأعراب الّذين قعدوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفره الحديبيّة و لم ينفروا إذا استنفرهم و هم على ما قيل أعراب حول المدينة من قبائل جهينة و مزينة و غفار و أشجع و أسلم و دئل فتخلّفوا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يصاحبوه قائلين: إنّ محمّداً و من معه يذهبون إلى قوم غزوهم بالأمس في عقر دارهم فقتلوهم قتلاً ذريعاً، و إنّهم لن يرجعوا من هذه السفرة و لن ينقلبوا إلى ديارهم و أهليهم أبداً.

فأخبر الله سبحانه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآيات أنّهم سيلقونك و يعتلّون في قعودهم باشتغالهم بالأموال و الأهلين و يسألونك أن تستغفر الله لهم، و كذّبهم الله فيما قالوا و ذكر أنّ السبب في قعودهم غير ذلك و هو ظنّهم السوء، و أخبر أنّهم سيسألونك اللحوق و ليس لهم ذلك غير أنّهم سيدعون إلى قتال قوم آخرين فإن أطاعوا كان لهم الأجر الجزيل و إن تولّوا فأليم العذاب.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ) إلى آخر الآية، قال في المجمع: المخلّف هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد، و هو مشتقّ من الخلف و ضدّه المقدّم. انتهى. و الأعراب - و على ما قالوا - الجماعة من عرب البادية و لا يطلق على عرب الحاضرة، و هو اسم جمع لا مفرد له من لفظه.

و قوله:( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ) إخبار عمّا سيأتي من قولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و في اللفظ دلالة مّا على نزول الآيات في رجوعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبيّة إلى المدينة و لمّا يردها.

و قوله:( شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ) أي كان الشاغل المانع لنا عن صحابتك و الخروج معك هو أموالنا و أهلونا حيث لم يكن هنا من يقوم بأمرنا فخفنا

٣٠٢

ضيعتها فلزمناها فاستغفر لنا الله تعالى يغفر لنا تخلّفنا عنك، و في سؤال الاستغفار دليل على أنّهم كانوا يرون التخلّف ذنباً فتعلّقهم بأنّه شغلتهم الأموال و الأهلون ليس اعتذاراً للتبريّ عن الذنب بل ذكراً للسبب الموقع في الذنب.

و قوله:( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) تكذيب لهم في جميع ما أخبروا به و سألوه فلا أنّ الشاغل لهم هو شغل الأموال و الأهلين، و لا أنّهم يهتمّون باستغفارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و إنّما سألوه ليكون ذلك جنّة يصرفون بها العتاب و التوبيخ عن أنفسهم.

و قوله:( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً ) جواب حلّيّ عمّا اعتذروا به من شغل الأموال و الأهلين محصّله أنّ الله سبحانه له الخلق و الأمر و هو المالك المدبّر لكلّ شي‏ء لا ربّ سواه فلا ضرّ و لا نفع إلّا بإرادته و مشيّته فلا يملك أحد منه تعالى شيئاً حتّى يقهره على ترك الضرّ أو فعل الخير إن أراد الضرّ أو على ترك الخير إن أراد ما لا يريده هذا القاهر من الخير، و إذا كان كذلك فانصرافكم عن الخروج مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصرةً للدين و اشتغالكم بما اعتللتم به من حفظ الأموال و الأهلين لا يغني من الله شيئاً لا يدفع الضرّ إن أراد الله بكم ضرّاً و لا يعين على جلب الخير و لا يعجّله إن أراد بكم خيراً.

فقوله:( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ ) إلخ، جواب عن تعلّلهم بالشغل على تقدير تسليم صدقهم فيه، ملخّصه أنّ تعلّقكم في دفع الضرّ و جلب الخير بظاهر الأسباب و منها تدبيركم و القعود بذلك عن مشروع دينيّ لا يغنيكم شيئاً في ضرّ أو نفع بل الأمر تابع لما أراده الله سبحانه فالآية في معنى قوله تعالى:( قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا ) .

و التمسّك بالأسباب و عدم إلغائها و إن كان مشروعاً مأموراً به لكنّه فيما لا يعارض ما هو أهمّ منها كالدفاع عن الحقّ و إن كان فيه بعض المكاره المحتملة اللّهمّ إلّا إذا تعقّب خطراً قطعيّاً لا أثر معه للدفاع و السعي.

و قوله:( بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) تعريض لهم فيه إشارة إلى كذبهم في قولهم:( شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا ) .

٣٠٣

قوله تعالى: ( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى‏ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ) إلخ، بيان لما يشير إليه قوله:( بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) من كذبهم في اعتذارهم، و المعنى: ما تخلّفتم عن الخروج بسبب اشتغالكم بالأموال و الأهلين بل ظننتم أنّ الرسول و المؤمنين لن يرجعوا إلى أهليهم أبداً و أنّ الخارجين سيقتلون بأيدي قريش بما لهم من الجموع و البأس الشديد و الشوكة و القدرة و لذلك تخلّفتم.

و قوله:( وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ) أي زيّن الشيطان ذلك الظنّ في قلوبكم فأخذتم بما يقتضيه ذلك الظنّ المزيّن و هو أن تتخلّفوا و لا تخرجوا حذراً من أن تهلكوا و تبيدوا.

و قوله:( وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً ) البور - على ما قيل - مصدر بمعنى الفساد أو الهلاك اُريد به معنى الفاعل أي كنتم قوماً فاسدين أو هالكين.

قيل: المراد بظنّ السوء ظنّهم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون إلى أهليهم أبداً و لا يبعد أن يكون المراد به ظنّهم أنّ الله لا ينصر رسوله و لا يظهر دينه كما مرّ في قوله في الآية السادسة من السورة:( الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ ) بل هو أظهر.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً ) الجمع في هذه الآيات بين الإيمان بالله و رسوله للدلالة على أنّ الكفر بالرسول بعدم طاعته كفر بالله، و في الآية لحن تهديد.

و قوله:( فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً ) كان مقتضى الظاهر أن يقال: أعتدنا لهم فوضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى علّة الحكم بتعليقه على المشتقّ، و المعنى: أعتدنا و هيّأنا لهم لكفرهم سعيراً أي ناراً مسعّرة مشتعلة، و تنكير سعيراً للتهويل.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) معنى الآية ظاهر و فيها تأييد لما تقدّم، و في تذييل الملك المطلق بالاسمين: الغفور الرحيم إشارة إلى سبق الرحمة الغضب و حثّ على الاستغفار و الاسترحام.

٣٠٤

قوله تعالى: ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ ) إلى آخر الآية إخبار عن أنّ المؤمنين سيغزون غزوة فيرزقون الفتح و يصيبون مغانم و يسألهم المخلّفون أن يتركوهم يتّبعونهم طمعاً في الغنيمة، و تلك غزوة خيبر اجتاز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنون إليه ففتحوه و أخذوا الغنائم و خصّها الله تعالى بمن كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفره الحديبيّة لم يشرك معهم غيرهم.

و المعنى: أنّكم ستنطلقون إلى غزوة فيها مغانم تأخذونها فيقول هؤلاء المخلّفون: اتركونا نتّبعكم.

و قوله:( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ ) قيل: المراد به وعده تعالى أهل الحديبيّة أن يخصّهم بغنائم خيبر بعد فتحه كما سيجي‏ء من قوله:( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) الآية، و يشير إليه في هذه الآية بقوله:( إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ) .

و قوله:( قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ ) أمر منه تعالى للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمنعهم عن اتّباعهم استناداً إلى قوله تعالى من قبل أن يسألوهم الاتّباع.

و قوله:( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا ) أي سيقول المخلّفون بعد ما منعوا عمّا سألوه من الاتّباع:( بَلْ تَحْسُدُونَنا ) و قوله:( بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) جواب عن قولهم:( بَلْ تَحْسُدُونَنا ) لم يوجّه الخطاب إليهم أنفسهم لأنّ المدّعي أنّهم لا يفقهون الحديث و لذلك وجّه الخطاب بالجواب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال:( بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) .

و ذلك أنّ قولهم:( بَلْ تَحْسُدُونَنا ) إضراب عن قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم بأمر الله:( لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ ) فمعنى قولهم: إنّ منعنا من الاتّباع ليس عن أمر من قبل الله بل إنّما تمنعنا أنت و من معك من المؤمنين أهل الحديبيّة أن نشارككم في الغنائم و تريدون أن تختصّ بكم.

و هذا كلام لا يواجه به مؤمن له عقل و تمييز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعصوم الّذي لا يرد و لا يصدر في شأن إلّا بأمر من الله اللّهمّ إلّا أن يكون من بساطة العقل و بلادة

٣٠٥

الفهم فهذا القول الّذي واجهوا به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هم مدّعون للإيمان و الإسلام أدّل دليل على ضعف تعقّلهم و قلّة فقههم.

و من هنا يظهر أنّ المراد بعدم فقههم إلّا قليلاً بساطة عقلهم و ضعف فقههم للقول لا أنّهم يفقهون بعض القول و لا يفقهون بعضه و هو الكثير و لا أنّ بعضهم يفقه القول و جلّهم لا يفقهونه كما فسّره به بعضهم.

قوله تعالى: ( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) إلخ، اختلفوا في هذا القوم من هم؟ فقيل: المراد به هوازن، و قيل: ثقيف، و قيل: هوازن و ثقيف، و قيل: هم الروم في غزاة مؤتة و تبوك، و قيل: هم أهل الردّة قاتلهم أبوبكر بعد الرحلة، و قيل: هم الفارس، و قيل: أعراب الفارس و أكرادهم.

و ظاهر قوله:( سَتُدْعَوْنَ ) أنّهم بعض الأقوام الّذين قاتلهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد فتح خيبر من هوازن و ثقيف و الروم في مؤتة، و قوله تعالى سابقاً:( قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا ) ناظر إلى نفي اتّباعهم في غزوة خيبر على ما يفيده السياق.

و قوله:( تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) استئناف يدلّ على التنويع أي إمّا تقاتلون أو يسلمون أي أنّهم مشركون لا تقبل منهم جزية كما تقبل من أهل الكتاب بل إمّا أن يقاتلوا أو يسلموا.

و لا يصحّ أخذ( تُقاتِلُونَهُمْ ) صفة لقوم لأنّهم يدعون إلى قتال القوم لا إلى قتال قوم يقاتلونهم، و كذا لا يصحّ أخذ حالاً من نائب فاعل( سَتُدْعَوْنَ ) لأنّهم يدعون إلى قتال القوم لا أنّهم يدعون إليهم حال قتالهم، كذا قيل.

ثمّ تمّم سبحانه الكلام بالوعد و الوعيد على الطاعة و المعصية فقال:( فَإِنْ تُطِيعُوا ) أي بالخروج إليهم( يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا ) أي بالمعصية و عدم الخروج( كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) و لم تخرجوا في سفره الحديبيّة( يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ) أي في الدنيا كما هو ظاهر المقام أو في الدنيا و الآخرة معاً.

٣٠٦

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى‏ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) رفع للحكم بوجوب الجهاد عن ذوي العاهة الّذين يشقّ عليهم الجهاد برفع لازمه و هو الحرج.

ثمّ تمّم الآية أيضاً بإعادة نظير ذيل الآية السابقة فقال:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً ) .

٣٠٧

( سورة الفتح الآيات ١٨ - ٢٨)

لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ( ١٨ ) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا  وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٩ ) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( ٢٠ ) وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا  وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( ٢١ ) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ٢٢ ) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ  وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ  وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٢٤ ) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ  وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ  لِّيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ  لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ٢٥ ) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ

٣٠٨

عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا  وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٢٦ ) لَّقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ  لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ  فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ( ٢٧ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ  وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا ( ٢٨ )

( بيان‏)

فصل رابع من الآيات يذكر تعالى فيه المؤمنين ممّن كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خروجه إلى الحديبيّة فيذكر رضاه عنهم إذ بايعوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة ثمّ يمتنّ عليهم بإنزال السكينة و إثابة فتح قريب و مغانم كثيرة يأخذونها.

و يخبرهم - و هو بشرى - أنّ المشركين لو قاتلوهم لانهزموا و ولّوا الأدبار و أنّ الرؤيا الّتي رآها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رؤيا صادقة سيدخلون المسجد الحرام آمنين محلّقين رؤسهم لا يخافون فإنّه تعالى أرسل رسوله بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون.

قوله تعالى: ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) الرضا هيئة تطرأ على النفس من تلقّي ما يلائمها و تقبله من غير دفع، و يقابله السخط، و إذا نسب إلى الله سبحانه كان المراد الإثابة و الجزاء الحسن دون الهيئة الطارئة و الصفة العارضة الحادثة لاستحالة ذلك عليه تعالى: فرضاه سبحانه من صفات الفعل لا من صفات الذات.

٣٠٩

و الرضا - كما قيل - يستعمل متعدّيا إلى المفعول بنفسه و متعديا بعن و متعدّيا بالباء فإذا عدّي بنفسه جاز دخوله على الذات نحو: رضيت زيدا، و على المعنى نحو: رضيت أمارة زيد، قال تعالى:( وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) المائدة: ٣، و إذا عدّي بعن دخل على الذات كقوله:( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ) البينة: ٨، و إذا عدّي بالباء دخل على المعنى كقوله تعالى:( أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ) .

و لمّا كان الرضا المنسوب إليه تعالى صفة فعل له بمعنى الإثابة و الجزاء، و الجزاء إنّما يكون بإزاء العمل دون الذات ففيما نسب من رضاه تعالى إلى الذات و عدّي بعن كما في الآية( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) نوع عناية استدعى عدّ الرضا و هو متعلّق بالعمل متعلّقاً بالذات و هو أخذ بيعتهم الّتي هي متعلّقة الرضا ظرفاً للرضى فلم يسع إلّا أن يكون الرضا متعلّقاً بهم أنفسهم.

فقوله:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) إخبار عن إثابته تعالى لهم بإزاء بيعتهم لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة.

و قد كانت البيعة يوم الحديبيّة تحت شجرة سمرة بها بايعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من معه من المؤمنين و قد ظهر به أنّ الظرف في قوله:( إِذْ يُبايِعُونَكَ ) متعلّق بقوله:( لَقَدْ رَضِيَ ) و اللّام للقسم.

قوله تعالى: ( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) تفريع على قوله:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ ) إلخ، و المراد بما في قلوبهم حسن النيّة و صدقها في مبايعتهم فإنّ العمل إنّما يكون مرضيّاً عندالله لا بصورته و هيئته بل بصدق النيّة و إخلاصها.

فالمعنى: فعلم ما في قلوبهم من صدق النيّة و إخلاصها في مبايعتهم لك.

و قيل: المراد بما في قلوبهم الإيمان و صحّته و حبّ الدين و الحرص عليه، و قيل: الهمّ و الأنفة من لين الجانب للمشركين و صلحهم. و السياق لا يساعد على شي‏ء من هذين الوجهين كما لا يخفى.

فإن قلت: المراد بما في قلوبهم ليس مطلق ما فيها بل نيّتهم الصادقة المخلصة

٣١٠

في المبايعة كما ذكر، و علمه تعالى بنيّتهم الموصوفة بالصدق و الإخلاص سبب يتفرّع عليه رضاه تعالى عنهم لا مسبّب متفرّع على الرضا، و لازم ذلك تفريع الرضا على العلم بأن يقال: لقد علم ما في قلوبهم فرضي عنهم لا تفريع العلم على الرضا كما في الآية.

قلت: كما أنّ للمسبّب تفرّعاً على السبب من حيث التحقّق و الوجود كذلك للسبب - سواء كان تامّاً أو ناقصاً - تفرّع على المسبّب من حيث الانكشاف و الظهور، و الرضا كما تقدّم صفة فعل له تعالى منتزع عن مجموع علمه تعالى بالعمل الصالح و ما يثيب به و يجزي صاحب العمل، و الّذي انتزع عنه الرضا في المقام هو مجموع علمه تعالى بما في قلوبهم و إنزاله السكينة عليهم و إثابتهم فتحاً قريباً و مغانم كثيرة يأخذونها.

فقوله:( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) إلخ، تفرّع على قوله:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) للدلالة على حقيقة هذا الرضا و الكشف عن مجموع الاُمور الّتي بتحقّقها يتحقّق معنى الرضا.

ثمّ قوله:( فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) متفرّع على قوله:( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ ) و كذا ما عطف عليه من قوله:( وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) إلخ.

و المراد بالفتح القريب فتح خيبر على ما يفيده السياق و كذا المراد بمغانم كثيرة يأخذونها، غنائم خيبر، و قيل: المراد بالفتح القريب فتح مكّة، و السياق لا يساعد عليه.

و قوله:( وَ كانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) أي غالباً فيما أراد متقناً لفعله غير مجازف فيه.

قوله تعالى: ( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) إلخ، المراد بهذه المغانم الكثيرة المغانم الّتي سيأخذها المؤمنون بعد الرجوع من الحديبيّة أعمّ من مغانم خيبر و غيرها فتكون الإشارة بقوله:( فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) إلى المغانم المذكورة في الآية السابقة و هي مغانم خيبر نزّلت منزلة الحاضرة لاقتراب وقوعها.

هذا على تقدير نزول الآية مع الآيات السابقة، و أمّا على ما قيل: إنّ الآية نزلت بعد فتح خيبر فأمر الإشارة في قوله:( فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) ظاهر لكنّ المعروف نزول السورة

٣١١

بتمامها في مرجع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبيّة بينها و بين المدينة.

و قيل: الإشارة بهذه إلى البيعة الّتي بايعوها تحت الشجرة و هو كما ترى.

و قوله:( وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ) قيل: المراد بالناس قبيلتا أسد و غطفان هموا بعد مسير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيبر أن يغيروا على أموال المسلمين و عيالهم بالمدينة فقذف الله في قلوبهم الرعب و كفّ أيديهم.

و قيل: المراد مالك بن عوف و عيينة بن حصين مع بني أسد و غطفان جاؤا لنصرة يهود خيبر فقذف الله في قلوبهم الرعب فرجعوا، و قيل: المراد بالناس أهل مكّة و من والاها حيث لم يقاتلوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و رضوا بالصلح.

و قوله:( وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) عطف على مقدّر أي وعدهم الله بهذه الإثابة إثابة الفتح و الغنائم الكثيرة المعجّلة و المؤجّلة لمصالح كذا و كذا و لتكون آية للمؤمنين أي علامة و أمارة تدلّهم على أنّهم على الحقّ و أنّ ربّهم صادق في وعده و نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق في إنبائه.

و قد اشتملت السورة على عدّة من أنباء الغيب فيها هدى للمتّقين كقوله:( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا ) إلخ، و قوله:( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ ) إلخ، و قوله:( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ ) إلخ، و ما في هذه الآيات من وعد الفتح و المغانم، و قوله بعد:( وَ أُخْرى‏ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها ) إلخ، و قوله بعد:( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا ) إلخ.

و قوله:( وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) عطف على( لِتَكُونَ ) أي و ليهديكم صراطاً مستقيماً و هو الطريق الموصل إلى إعلاء كلمة الحقّ و بسط الدين، و قيل: هو الثقة بالله و التوكّل عليه في كلّ ما تأتون و تذرون، و ما ذكرناه أوفق للسياق.

قوله تعالى: ( وَ أُخْرى‏ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَ كانَ اللهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً ) أي و غنائم اُخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها إحاطة قدرة و كان الله على كلّ شي‏ء قديراً.

فقوله:( أُخْرى) مبتدأ و( لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها ) صفته و قوله:( قَدْ أَحاطَ اللهُ

٣١٢

بِها ) خبره الثاني و خبره الأوّل محذوف، و تقدير الكلام: و ثمّت غنائم اُخرى قد أحاط الله بها.

و قيل: قوله:( أُخْرى) في موضع نصب بالعطف على قوله:( هذِهِ ) و التقدير: و عجّل لكم غنائم اُخرى، و قيل: في موضع نصب بفعل محذوف، و التقدير: و قضى غنائم اُخرى، و قيل: في موضع جرّ بتقدير ربّ و التقدير: و ربّ غنائم اُخرى و هذه وجوه لا يخلو شي‏ء منها من وهن.

و المراد بالاُخرى في الآية - على ما قيل - غنائم هوازن، و قيل: المراد غنائم فارس و الروم، و قيل: المراد فتح مكّة و الموصوف محذوف، و التقدير: و قرية اُخرى لم تقدروا عليها أي على فتحها، و أوّل الوجوه أقربها.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) خبر آخر ينبّئهم الله سبحانه ضعف الكفّار عن قتال المؤمنين بأنفسهم و أن ليس لهم وليّ يتولّى أمرهم و لا نصير ينصرهم، و يتخلّص في أنّهم لا يقوون في أنفسهم على قتالكم و لا نصير لهم من الأعراب ينصرهم، و هذا في نفسه بشرى للمؤمنين.

قوله تعالى: ( سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا ) ( سُنَّةَ اللهِ ) مفعول مطلق لفعل مقدّر أي سنّ سنّة الله أي هذه سنّة قديمة له سبحانه أن يظهر أنبياءه و المؤمنين بهم إذا صدقوا في إيمانهم و أخلصوا نيّاتهم على أعدائهم من الّذين كفروا( وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا ) كما قال تعالى:( كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي ) المجادلة: ٢١. و لم يصب المسلمون في شي‏ء من غزواتهم إلّا بما خالفوا الله و رسوله بعض المخالفة.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ‏ ) إلخ، الظاهر أنّ المراد بكفّ أيدي كلّ من الطائفتين عن الاُخرى ما وقع من الصلح بين الفئتين بالحديبيّة و هي بطن مكّة لقربها منها و اتّصالها بها حتّى قيل إنّ بعض أراضيها من الحرم و ذلك أنّ كلّاً من الفئتين كانت أعدى عدوّ للاُخرى و قد اهتمّت قريش بجمع المجموع من أنفسهم و من الأحابيش، و بايع

٣١٣

المؤمنون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يقاتلوا، و عزم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يناجز القوم، و قد أظفر الله النبيّ و الّذين آمنوا على الكفّار حيث دخلوا أرضهم و ركزوا أقدامهم في عقر دارهم فلم يكن ليتوهّم بينهم إلّا القتال لكنّ الله سبحانه كفّ أيدي الكفّار عن المؤمنين و أيدي المؤمنين عن الكفّار بعد إظفار المؤمنين عليهم و كان الله بما يعملون بصيراً.

قوله تعالى: ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) العكوف على أمر هو الإقامة عليه، و المعكوف - كما في المجمع - الممنوع من الذهاب إلى جهة بالإقامة في مكانه، و منه الاعتكاف و هو الإقامة في المسجد للعبادة.

و المعنى: المشركون مشركوا مكّة هم الّذين كفروا و منعوكم عن المسجد الحرام و منعوا الهدي - الّذي سقتموه - حال كونه محبوساً من أن يبلغ محلّه أي الموضع الّذي ينحر أو يذبح فيه و هو مكّة الّتي ينحر أو يذبح فيها هدي العمرة كما أنّ هدي الحجّ ينحر أو يذبح في منى، و قد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من معه من المؤمنين محرمين للعمرة ساقوا هديا لذلك.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) الوطء الدوس، و المعرّة المكروه، و قوله:( أَنْ تَطَؤُهُمْ ) بدل اشتمال من مدخول لو لا، و جواب لو لا محذوف، و التقدير: ما كفّ أيديكم عنهم.

و المعنى: و لو لا أن تدوسوا رجالاً مؤمنين و نساء مؤمنات بمكّة و أنتم جاهلون بهم لا تعلمون فتصيبكم من قتلهم و إهلاكهم مكروه لما كفّ الله أيديكم عنهم.

و قوله:( لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ ) اللّام متعلّق بمحذوف، و التقدير: و لكن كفّ أيديكم عنهم ليدخل في رحمته اُولئك المؤمنين و المؤمنات غير المتميّزين بسلامتهم من القتل و إيّاكم بحفظكم من أصابه المعرّة.

و قيل: المعنى: ليدخل في رحمته من أسلم من الكفّار بعد الصلح.

٣١٤

و قوله:( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) التزيّل التفرّق و ضمير( تَزَيَّلُوا ) لجميع من تقدّم ذكره من المؤمنين و الكفّار من أهل مكّة أي لو تفرّقوا بأن يمتاز المؤمنون من الكفّار لعذّبنا الّذين كفروا من أهل مكّة عذاباً أليما لكن لم نعذّبهم لحرمة من اختلط بهم من المؤمنين.

قوله تعالى: ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ) إلى آخر الآية قال الراغب: و عبّر عن القوّة الغضبيّة إذا ثارت و كثرت بالحميّة فيقال: حميت على فلان أي غضبت عليه قال تعالى:( حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ) و عن ذلك أستعير قولهم: حميت المكان حمى انتهى.

و الظرف في قوله:( إِذْ جَعَلَ ) متعلّق بقوله سابقاً:( وَ صَدُّوكُمْ ) و قيل: متعلق بقوله:( لَعَذَّبْنَا ) و قيل: متعلّق باُذكر المقدّر، و الجعل بمعنى الإلقاء و( الَّذِينَ كَفَرُوا ) فاعله و الحميّة مفعوله و( حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ) بيان للحميّة و الجاهليّة وصف موضوع في موضع الموصوف و التقدير الملّة الجاهليّة.

و لو كان( جَعَلَ ) بمعنى صيّر كان مفعوله الثاني مقدّراً و التقدير إذ جعل الّذين كفروا الحميّة راسخة في قلوبهم و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) للدلالة على سبب الحكم.

و معنى الآية: هم الّذين كفروا و صدّوكم إذ ألقوا في قلوبهم الحميّة حميّة الملّة الجاهليّة.

و قوله:( فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) تفريع على قوله:( جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) و يفيد نوعاً من المقابلة كأنّه قيل: جعلوا في قلوبهم الحميّة فقابله الله سبحانه بإنزال السكينة على رسوله و على المؤمنين فاطمأنّت قلوبهم و لم يستخفّهم الطيش و أظهروا السكينة و الوقار من غير أن يستفزّهم الجهالة.

و قوله:( وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ ) أي جعلها معهم لا تنفكّ عنهم، و هي على ما اختاره جمهور المفسّرين كلمة التوحيد و قيل: المراد الثبات على العهد و الوفاء به و قيل: المراد بها السكينة و قيل: قولهم: بلى في عالم الذرّ، و هو أسخف الأقوال.

٣١٥

و لا يبعد أن يراد بها روح الإيمان الّتي تأمر بالتقوى كما قال تعالى:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢، و قد أطلق الله الكلمة على الروح في قوله:( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ ) النساء: ١٧١.

و قوله:( وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها ) أمّا كونهم أحقّ بها فلتمام استعدادهم لتلقّي هذه العطيّة الإلهيّة بما عملوا من الصالحات فهم أحقّ بها من غيرهم، و أمّا كونهم أهلها فلأنّهم مختصّون بها لا توجد في غيرهم و أهل الشي‏ء خاصّته.

و قيل: المراد و كانوا أحقّ بالسكينة و أهلها، و قيل: إنّ في الكلام تقديماً و تأخيراً و الأصل و كانوا أهلها و أحقّ بها و هو كما ترى.

و قوله:( وَ كانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً ) تذييل لقوله:( وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها ) أو لجميع ما تقدّم، و المعنى على الوجهين ظاهر.

قوله تعالى: ( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ) إلخ، قيل: إنّ صدق و كذب مخفّفين يتعدّيان إلى مفعولين يقال: صدقت زيداً الحديث و كذبته الحديث، و إلى المفعول الثاني بفي يقال: صدقته في الحديث و كذبته فيه، و مثقّلين يتعدّيان إلى مفعول واحد يقال: صدّقته في حديثه و كذّبته في حديثه.

و اللّام في( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ ) للقسم، و قوله:( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) جواب القسم.

و قوله:( بِالْحَقِّ ) حال من الرؤيا و الباء فيه للملابسة، و التعليق بالمشيّة في قوله:( إِنْ شاءَ اللهُ ) لتعليم العباد و المعنى: اُقسم لقد صدق الله رسوله في الرؤيا الّتي أراه لتدخلنّ أيّها المؤمنون المسجد الحرام إن شاء الله حال كونكم آمنين من شرّ المشركين محلّقين رؤسكم و مقصّرين لا تخافون المشركين.

و قوله:( فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) ( ذلِكَ ) إشارة إلى ما تقدّم من دخولهم المسجد الحرام آمنين، و المراد بقوله:( مِنْ دُونِ ذلِكَ ) أقرب من ذلك و المعنى: فعلم تعالى من المصلحة في دخولكم المسجد الحرام آمنين ما جهلتموه

٣١٦

و لم تعلموه، و لذلك جعل قبل دخولكم كذلك فتحاً قريباً ليتيسّر لكم الدخول كذلك.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالفتح القريب في هذه الآية فتح الحديبيّة فهو الّذي سوّى للمؤمنين الطريق لدخول المسجد الحرام آمنين و يسّر لهم ذلك و لو لا ذلك لم يمكن لهم الدخول فيه إلّا بالقتال و سفك الدماء و لا عمرة مع ذلك لكن صلح الحديبيّة و ما اشترط من شرط أمكنهم من دخول المسجد معتمرين في العام القابل.

و من هنا تعرف أن قول بعضهم: إنّ المراد بالفتح القريب في الآية فتح خيبر بعيد من السياق، و أمّا القول بأنّه فتح مكّة فأبعد.

و سياق الآية يعطي أنّ المراد بها إزالة الريب عن بعض من كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ المؤمنين كانوا يزعمون من رؤيا رآها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دخولهم المسجد آمنين محلّقين رؤسهم و مقصّرين، أنّهم سيدخلونه كذلك في عامهم ذلك فلمّا خرجوا قاصدين مكّة معتمرين فاعترضهم المشركون بالحديبيّة و صدّوهم عن المسجد الحرام ارتاب بعضهم في الرؤيا فأزال الله ريبهم بما في الآية.

و محصّله: أنّ الرؤيا حقّة أراها الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد صدق تعالى في ذلك، و ستدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤسكم و مقصّرين لا تخافون، لكنّه تعالى اُخره و قدّم عليه هذا الفتح و هو صلح الحديبيّة ليتيسّر لكم دخوله لعلمه تعالى بأنّه لا يمكن لكم دخوله آمنين محلّقين رؤسكم و مقصّرين لا تخافون إلّا بهذا الطريق.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) إلخ، تقدّم تفسيره في سورة التوبة الآية ٣٣، و قوله:( وَ كَفى‏ بِاللهِ شَهِيداً ) أي شاهداً على صدق نبوّته و الوعد أنّ دينه سيظهر على الدين كلّه أو على أنّ رؤياه صادقة، فالجملة تذييل ناظر إلى نفس الآية أو الآية السابقة.

٣١٧

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) الآية: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس، فثرنا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تحت شجرة سمرة فبايعناه فذلك قول الله تعالى:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) فبايع لعثمان إحدى يديه على الاُخرى فقال الناس هنيئا لابن عفان يطوف بالبيت و نحن ههنا. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو مكث كذا و كذا سنة- ما طاف حتّى أطوف.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و مسلم و ابن مردويه عن مغفل بن يسار قال: لقد رأيتني يوم الشجرة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبايع الناس و أنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه و نحن أربع عشرة مائة و لم نبايعه على الموت- و لكن بايعناه على أن لا نفرّ.

أقول: كون المؤمنين يومئذ أربع عشرة مائة مرويّ في روايات اُخرى، و في بعض الروايات ألف و ثلاثمائة و في بعضها إلى ألف و ثمان مائة، و كذا كون البيعة على أن لا يفرّوا و في بعضها على الموت.

و فيه، أخرج أحمد عن جابر و مسلم عن اُمّ بشر عنه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا يدخل النار أحد ممّن بايع تحت الشجرة.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) قال: إنّما اُنزلت السكينة على من علم منه الوفاء.

أقول: و الرواية تخصّص ما تقدّم عليها و يدلّ عليه قوله تعالى فيما تقدّم:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) فاشترط في الأجر - و يلازمه الاشتراط في الرضا - الوفاء و عدم النكث، و قد أورد القميّ هذا المعنى في تفسيره و كأنّه رواية.

٣١٨

و في الدرّ المنثور، أيضاً: في قوله تعالى:( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) الآية: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاريّ و مسلم و النسائيّ و ابن جرير و الطبرانيّ و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل عن سهل بن حنيف أنّه قال يوم صفّين: اتّهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبيّة نرجئ الصلح الّذي كان بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين المشركين و لو نرى قتالاً لقاتلنا.

فجاء عمر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله أ لسنا على الحقّ و هم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أ ليس قتلانا في الجنّة و قتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنيّة في ديننا؟ و نرجع و لمّا يحكم الله بيننا و بينهم؟ قال: يا ابن الخطّاب إنّي رسول الله و لن يضيّعني الله أبداً.

فرجع متغيّظاً فلم يصبر حتّى جاء أبابكر فقال: يا أبابكر أ لسنا على الحقّ و هم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أ ليس قتلانا في الجنّة و قتلاهم في النار؟ قال: بلى قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: يا ابن الخطّاب إنّه رسول الله و لن يضيّعه الله أبداً فنزلت سورة الفتح فأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عمر فأقرأه إيّاها فقال: يا رسول الله أ و فتح هو؟ قال: نعم.

و في كمال الدين، بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) قال: لو أخرج الله ما في أصلاب المؤمنين من الكافرين و ما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذّبنا الّذين كفروا.

أقول: و هذا المعنى مرويّ في روايات اُخر.

و بإسناده عن جميل قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قوله تعالى:( وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ ) قال: هو الإيمان.

و في الدرّ المنثور، أخرج الترمذيّ و عبدالله بن أحمد في زوائد المسند و ابن جرير و الدارقطنيّ في الإفراد و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن اُبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ ) قال: لا إله إلّا الله.

٣١٩

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً بطرق اُخرى عن عليّ و سلمة بن الأكوع و أبي هريرة، و روي أيضاً من طرق الشيعة كما في العلل، بإسناده عن الحسن بن عبدالله عن آبائه عن جدّه الحسن بن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في حديث يفسّر فيه( سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر ) قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و قوله: لا إله إلّا الله يعني وحدانيته لا يقبل الله الأعمال إلّا بها، و هي كلمة التقوى- يثقل الله بها الموازين يوم القيامة.

و في المجمع، في قصّة فتح خيبر قال: و لمّا قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة من الحديبيّة مكث بها عشرين ليلة ثمّ خرج منها غادياً إلى خيبر.

ذكر ابن إسحاق بإسناده إلى أبي مروان الأسلميّ عن أبيه عن جدّه قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيبر حتّى إذا كنا قريباً منها و أشرفنا عليها قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قفوا فوقف الناس فقال اللّهمّ ربّ السماوات السبع و ما أظللن و ربّ الأرضين السبع و ما أقللن و ربّ الشياطين و ما أضللن إنّا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها و نعوذ بك من شرّ هذه القرية و شرّ أهلها و شرّ ما فيها. أقدموا بسم الله.

و عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: أ لا تسمعنا من هنيهاتك و كان عامر رجلاً شاعراً فجعل يقول:

لا همّ لو لا أنت ما حجينا

و لا تصدّقنا و لا صلّينا

فاغفر فداء لك ما اقتنينا

و ثبّت الأقدام إن لاقينا

و أنزلن سكينة علينا

إنّا إذا صيح بنا أتينا

و بالصياح عولوا علينا

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من هذا السائق؟ قالوا: عامر. قال: يرحمه الله. قال عمر و هو على جمل له وجيب(١) : يا رسول الله لو لا أمتعتنا به، و ذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(١) وجب البعير أعيى، و وجب برك و ضرب بنفسه الأرض.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429